التالي

بحث خامس

هل من إعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن ؟

يقول العقاد ، في كتاب المؤتمر الاسلامي (الاسلام وأباطيل خصومه ص 54 – 55) . "فالله ؛ رب العالمين ، ملك يوم الدين ، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية . بل كان هو الأصل الذي يثوب اليه مَن ينحرف عن العقيدة في الإله ، كأكمل ما كانت عليه ، وكأكمل ما ينبغي أن يكون . ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الاسلام مصحّحة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات ، أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية Theology " .

أولا : التوحيد القرآني تنزيه عن الشرك ، لكنه غارق في التشبيه والمتشابه

إن التوحيد القرآني سلبي قائم على التنزيه من الشرك ، كما تعلن الشهادة : لا إله إلاّ الله . وهذا التوحيد السلبي قد جاء أيضا بأسلوب غارق في التشبيه . أجل يعلم : "ليس كمثله شئ" . لكنه في تعابير التوحيد يشبّه الله بالإنسان : "إن ورد في القرآن ممّا يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجئ ، وفوق وتحت وأمام ، وطي وقبض ونفخ – إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءَت من قبيل التقريب لأذهان السامعين"(1) . وهذا التقريب أغرقها في التشبيه حتى جاءَت صورة الله في القرآن كصورة إنسان أكبر من الإنسان .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) دروزة : القرآن المجيد ص 190 – 192

وما عدا عقيدة التوحيد الخالص سلبيا ، فكل تعليم القرآن في صدد الذات الإلهية من المتشابه فيه الذي "ما يعلم تأويله إلاّ الله" : "وكل ما ورد في صدد الذات الإلهية من أسماء وأفعال وصفات أخرى قد توهم مماثلة لأسماء وصفات وأفعال البشر ، إنما جاء كذلك على سبيل التقريب والتشبيه" (1) . وتوحيد غارق في التشبيه ، يأتي ببيان متشابه للعقيدة الإلهية ، أيكون هو الأصل الذي تثوب اليه كل عقيدة في الإله ؟ أتكون هذه العقيدة الإلهية في الاسلام مصححة متممة لعقيدة الله في الكتاب "الإمام" ، وفي "الكتاب المنير" كما يسميهما القرآن ؟

إن توحيد القرآن سلبي يقوم على تنزيه الله عن الشرك ، لا كشف فيه عن غيب الله ، وعن سر الله في ذاته وحياته . فيظل الإله في القرآن ، مع الشهادة له بالتوحيد الخالص ، مجهولا في ذاته ، محجوبا في غيبه . والبحث في ذات الله إشراك . ففي ذاته ، وفي سر حياته ، الله أكبر ، بحسب القرآن ، هو المجهول الأكبر .

ثانيا : حرف التوحيد واحد في التوراة والانجيل والقرآن

هذا هو الاخلاص في التوحيد ، كما يعلنه القرآن : "قل : هو الله أحد ، الله الصمد" لم يلدْ ولم يُولدْ ، ولم يكن له كفوًا أحد" . كلها صفات تنزيه عن الشرك : فالله واحد أحد ، وهو الصمد المتعالي المتجلّي فوق عباده ، لا كفوء له من خلقه ، "وليس كمثله شئ" .

وقوله "لم يلدْ ولم يُولد" لا يدل على امتناع صفة من ذاته ، لذاته ، إنما يدل على استحالة الولادة والاستيلاد من غيره تعالى ، كقوله "ما اتّخذ صاحبة ولا ولدًا" (الجن 3) . فهذه هي فلسفته في استحالة الولد والولادة : "بديع السماوات والأرض ، أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة " (الانعام 101) . فكل ولادة في عرْفه لا تقوم إلاّ على "صاحبة" ! حاشا لله الواحد الأحد ، الله الصمد ! وبما أن البحث في ذات الله إشراك ، فلا ينظر القرآن الى ولادة روحية عقلية نطقية ، يصدر بها نطق الله الذاتي ، من ذاته ، في ذاته ، لذاته . فهذا غيب الله المحجوب .

وفات القوم ان قوله : هو الله أحد" نقل حرفي للتوحيد الكتابي في التوراة والانجيل . ففي التوراة : "اسمع ، يا اسرائيل ، أن يهوه (الله) الهنا هو يهوه أحد" (التثنية 4:6) . وكانت

ــــــــــــــــــــــــ

(1) دروزة : القرآن المجيد ص 197 – 198

شهادتهم مدى الدهر : "يهوه أحد" أي الله أحد ، وترجمها حرفيّا "هو الله أحد" . وسأل السيد المسيح أحد العلماء : "أي وصية هي أولى الوصايا جميعا ؟ فأجاب يسوع : الأولى هي "اسمع يا اسرائيل : إن الله إلهنا هو الله أحد" (مرقس 28:12 – 29) . لقد ردّ عليه بالشهادة التوراتية التي بها يشهدون كل مرة الله ، سبحانه وتعالى .

فحرف التوحيد واحد في التوراة والانجيل والقرآن . فكيف تكون العقيدة الإلهية في القرآن مصحّحة متمّمة لعقيدة الانجيل والتوراة في الله تعالى ؟ والاعجاز للمتبوع للتابع .

ثالثا : إنّ التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى

إن التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب : "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه ! كبر على المشركين ما تدعوهم اليه" (الشورى 13) . نقتصر على هذه الشهادة ، وهي متواترة في القرآن . فكيف تكون صورة الله في القرآن هي الأصل ؟ والقرآن يصرح بعكس ذلك .

رابعا : إسلام القرآن هو إسلام من قبله اسمًا ومعنى

في بعثته لدعوته جاءه الأمر : "وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . فانضم الى المسلمين من قبله ودعا بدعوتهم للاسلام . فإسلامه من اسلامهم لفظا واسما : "هو سماكم المسلمين من قبل (في الكتاب) وفي هذا" القرآن (الحج 78) .

وهذا الاسلام يقوم على عدم التفريق بين موسى وعيسى (البقرة 136 ؛ آل عمران 84) وعلى إقامة التوراة والانجيل معا (المائدة 68) ، على طريقة النصارى من بني اسرائيل الذين يسميهم أولي العلم المقسطين أو القائمين بالقسط أو "الراسخين في العلم" .

واسلامه من اسلامهم معنى وموضوعا : "شهد الله أنه لا إله إلاّ هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ... أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 88 – 89) . فالقرآن يشهد للاسلام بشهادتهم ، ويعتبر شهادتهم من شهادة الله وملائكته . فكيف تكون عقيدته

مصححة متممة لعقيدة "الراسخين في العلم" من أهل الكتاب . فالإعجاز للاسلام المتبوع قبل الاسلام التابع .

فهل من إعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن على الكتاب وأهله ؟

التالي