بحث رابع التشريع القرآني دستور أم قانون ؟ التشريع القانوني ابن بيئته ، وابن ساعته ، يرعى ضرورة الحال ، لا مصلحة الاستقبال . والتشريع الدستوري مبادئ عامة تتخطّى ظروف الزمان والمكان ، لكي يكون صالحا لكل زمان ومكان . وواقع الحال في القرآن ، وكتب (أسباب النزول) تشهد أن التشريع القرآني كان ابن بيئته ، وابن ساعته . فهو لا يتخطى ظروف الزمان والمكان ليصلح لكل زمان ومكان . ظل التشريع القرآني ينزل "بجواب كلام العباد وأعمالهم" ، ويتطور بين تبديل ومحو ، واسقاط ونسخ ، حتى فاجأه موت الرسول ولم يكتمل . يقول الاستاذ دروزة(1) : "إن جُلَّ الآيات والفصول التشريعيّة ، إن لم نقل كلها ، قد نزلت إجابة على أسئلة واستفتاءات ، أو بمناسبة حوادث ووقائع وظروف متصلة بالسيرة النبوية ، ومواقف وتصّرفات المسلمين وغير المسلمين في أثنائها : فكانت من جهة حلاًّ لمشاكل ومسائل واقعية ، ومن جهة تشريعا مستمر الحكم والتلقين والمدى . وفي التشريع القرآني بعض التطورات : نعني أن هناك أحكاما أو أوامر ونواهي أبكر من أحكام وأوامر ونواه : وأن من المتأخر ما جاءَ ناسخا أو معدّلا للمتقدم على حسب ما اقتضته الحكمة من مراعاة الظروف أو التطابق معها سلبا وإيجابا ، وتخفيفا وتشديدا وضيقا وسعة" . وتشريع كهذا هو تشريع قانوني ، لا دستوري . لأن التشريع الدستوري ، في مدة عشر سنوات وما دون ، لا ينزل متأخرا عن النبوة والرسالة ، ولا يعتريه نسخ أو تعديل . وهاك مثلا على قيام التشريع الديني في القرآن ، من شِرْعة الصيام . قال دروزة(2) "هناك روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام عاشوراء ، وحضّ على صيامه ، قبل نزول آيات فرض صيام رمضان (البقرة 183 – 187) . ولقد قال بعض العلماء والمفسرين بوجود ناسخ ــــــــــــــــــــــــ (1) سيرة الرسول 306:2 الخ (2) سيرة الرسول 306:2 الخ ومنسوخ في آيات الصوم ، إذاستدلّوا ، من الآية الثانية على أن الصيام فُرض في أوَّل الأمر بصورة عامة ، وبدون تحديد شهر كامل ، مع تخيير المسلمين القادرين عليه بين الصيام والفداء عنه بإطعام مسكين عن كل يوم . ثم أُكّدت الفريضة بالآية (185) ، إذ جعلت كامل شهر رمضان وحتِّم صيامه على غير المريض والمسافر ، ونسخ التخيير بين الصوم والفداء بالنسبة الى القادرين . وفي هذا مظهر من مظاهر التطور . والآية الأخيرة (187) تدل على أن المسلمين وقعوا في شئ من الحرج أو الإثم في صدد قرب نسائهم في ليالي الصوم ؛ وبعض العلماء يقولون إنها ناسخة لأمر كان يعتبره المسلمون واجبا (عدم الجماع ليلة الصوم) فخفّف الله عنهم حينما ظهر الحرج " . أما الحجّ فيقول عنه أيضا دروزة : "إن تشريع الحج (الحج 25 – 35) تشريع مدني (البقرة 158 و189 و196 – 203 ثم آل عمران 96 – 97 ثم المائدة 1 – 2 مع 94 – 97) . وجلّ المناسك والطقوس التي أشارت إليها الآيات وشرعتها – إن لم نقل كلها – قد أُقر على ما كان عليه قبل البعثة ، بعد تهذيبه من المناظر القبيحة وتجريده من شوائب الشرك والوثنية . وفي الآيات صور واقعية وخطوات تطورية . ويُفهم من آية البقرة (198) أن المسلمين تحرّجوا من الاشتغال بالتجارة في أثناء أشهر الحج – وقد كان العرب يقيمون الأسواق التجارية في هذه الأثناء – فأباحت الآية لهم ذلك . ويُفهم من آيات المائدة (94 – 95) أن العرب كانوا يحرّمون صيد البر والبحر في أشهر الحج المحرّمة فأباحت صيد البحر للتخفيف عن الناس . كما أنها جعلت حالة التحريم مقصورة على وقت الإحرام الذي حدّدته السُنة بلبس الثياب غير المخيّطة حين دخول المسلم منطقة الحرم . ويفهم من آيات الحج (25 – 35) أن العرب كانوا يتحرّجون من أكل لحوم قرابينهم فأباحت لأصحابها الأكل منها وإطعام غيرهم وخاصة الفقراء" . تشريع كهذا هو ابن بيئته وابن ساعته ، يخضع لظروف الزمان والمكان ، ولا يتخطاها الى التاريخ والبشرية كلها . وتشريع قانوني ابن ساعته ، وابن بيئته ، ويكون على مقتضى ظروف الزمان والمكان ، قد لا يصلح لكل زمان ومكان في تطور البشرية المستديم . فقوله مثلا : "للذكر مثل حظ الانثيين" في الميراث ؛ وقوله مثلا في مواقيت الصيام "حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" (البقرة 187) ، سيأتي زمن لا تطيق البشرية ذلك ، في عهد المساواة بين الرجل والمرأة ، وفي عهد الساعة التي تحدّد وقت الصوم بدقة أكثر من شريعة الخيط الأبيض أو الأسود . |