بحث خامس مصادر التشريع الاسلامي 1 – المصدر الأول للتشريع الاسلامي هو القرآن . وكان يجب أن يكون المصدر الوحيد ، لو كان التشريع القرآني كاملا شاملا ، يصلح لكل زمان ومكان ، حتى يصح التحدّي بإعجازه . لكن بما أن التشريع القرآني ناقص ، لا يفي بحاجة الأمة والجماعة في تطورها عبر الزمان والمكان ، أُلجئوا الى التفتيش له عن مصادر أخرى . 2 – فالمصدر الثاني للتشريع الاسلامي ، بعد القرآن ، هو السُنّة الرسولية . وغالى بعض أهل السُنّة بصواب هذا المصدر الثاني فقالوا أحيانا بنسخ القرآن بالسنة . وتشريع في كتاب الله تنسخه سُنّة رسوله ، هل هو من الاعجاز في التشريع ؟ ثم ان السُّنّة مبيّنة في الحديث : فهل الحديث مصدر صحيح موثوق لا شبهة عليه ؟ قال النووي في شرح صحيح مسلم : "قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ، ونزلت عن درجة ما التزماه . وقال ابن خلدون : انني أعتقد صحة سند حديث ، ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن ، وإن وثّقوا رجاله . فرُبّ راوٍ يُوَثّق للاغترار بظاهر حاله ، وهو سئّ الباطن . ولو انتقدت الروايات ، من جهة فحوى متنها ، كما تُنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض" . وأهل المدرسة الحديثة يكادون يشكون في الحديث كله . يقول عبد الله السمّان(1) : "واذا تركنا السيرة الى كتب الحديث ألفينا أنفسنا إزاء مشكلة معقّدة تجعل الباحث في ــــــــــــــــــــــــ (1) محمد الرسول البشر 12 – 13 حيرة لا تنتهي ولا تقف عند حد . ففي عهد النبي لم يُدوّن الحديث (وقد منع من تدوينه) ، ولا في عهد الخلفاء الراشدين ، وذلك خشية أن يختلط الحديث بالقرآن . ولم يكد يتولّى الخليفة الثالث عثمان حتى بدأت تتولّد الخلافات السياسية ، وظهر وضع آلاف الأحاديث ونسبتها الى النبي ، لتكون مؤيدا لحزب سياسي ، أو ناقضا لحزب آخر ، وانتهز اليهود والزنادقة فرصة هذه الخلافات التي تدثّرت بالدماء في معظم الأحايين ، وراحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الاسلام ويُشغلوا العامة عن أصوله ، لتنصرف الى شكلياته . كما تطوّع كثير من السذّج والبسطاء فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب ، ظنّا منهم أن في هذا خدمة للدين ؛ ولو عقلوا لأدركوا أنهم أساؤوا إلى الدين أكبر اساءَة ... ولم يبدإِ التدوين إلاّ في عهد المأمون ؛ وذلك بعد أن اختلط الحديث الصحيح في الحديث الكذب ، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، كما يقول الدار قطني ، أحد جامعي الحديث المعروفين" . لذلك قام الخلاف الأكبر بين السنة والشيعة على صحة الحديث ، وعلى صحة اعتباره مصدرا للتشريع الاسلامي . فقال أهل السنة بأن مصدر التشريع الكتاب والسنة ؛ وقالت الشيعة بأن الكتاب وحده مصدر الشريعة ، وأنكروا السُنّة كمصدر للتشريع . ومصدر مشبوه كالحديث في متنه ، وسنده ، ومصدره ، هل يصح مصدرا للتشريع ؟ وتشريع مبني على مصدر مشبوه ، هل هو من الاعجاز في التشريع ؟ 3 – وتطورت الحياة الاسلامية ، وتطورت معها الحاجة الى مزيد من التشريع لقيام مصالحها . وتلفتوا الى الكتاب والسنة ، فلم يجدوا فيهما كل ما تحتاجه الأمة من تشريع . فلجأوا إلى مصدر ثالث للتشريع الاسلامي : الرأي ، أي اتفاق أهل النظر في المصالح العامة ، دون سواد الأمة ، لأنه اجماع أهل العلم ، في العلم . وعن الاستاذ الأكبر ، محمود شلتوت ، شيخ الجامع الأزهر ، في كتابه (العقيدة والشريعة) ، ينقل ناقده(1) : "ذكر فضيلة الاستاذ الأكبر عند الكلام عن الرأي – كمصدر للتشريع – أن عهد الرسول قد تركّز فيه مصدران للتشريع هما القرآن والسنة ، وكان أصحابه من بعده يرجعون الى القرآن والسنة ؛ فإن لم يجدوا حاجتهم بحثوا مستلهمين روح ــــــــــــــــــــــــ (1) في "نقد وتعريف" به للسيد عبد الله السمان : مجلة الأزهر ، ديسمبر 1959 ص 633الشريعة . وكان أخذ الرأي بطريق الاستشارة مصدرا جديدا ظهر العمل به بعد وفاة الرسول ، في ما لا نص فيه من كتاب أو سُنة ، أو في ما فيه نص محتمل . وترجيح حجّية الرأي في التشريع الى تقرير القرآن مبدأ الشورى ، وأمره بردّ المتنازع فيه إلى أولي الأمر ؛ ثم بعد ذلك ثبوت إقرار النبي لأصحابه الذين كان يبعثهم الى الأقاليم على الاجتهاد والأخذ بالرأي " . وتشريع بحاجة "الى الاجتهاد والأخذ بالرأي" هل هو من الإعجاز في التشريع ؟4 – وهناك مصادر أخرى الجأتهم الحاجة الى استنباطها لإكمال مصادر التشريع الاسلامي . فهل الحاجة المستمرة ، في تطور حياة الجماعة ، الى استنباط مصادر أخرى للتشريع ، غير المصدر المنزل ، دليل على اعجاز التشريع المنزل وكفايته ؟ إن الاعتماد المتواتر على مصادر أخرى ، غير الكتاب ، في مصادر التشريع الاسلامي ، لخير دليل على عدم كفاية التشريع المنزل : فكيف تكون الشريعة القرآنية معجزة للتحدي ؟ |