بحث تاسع من ميزات التشريع القرآنيللتشريع القرآني ميزات يختص بها ، هي دلائل على مدى اعجازه . 1 – ميزته الأولى : التخفيف في أحكام أهل الكتاب ، وفي أحكام الجاهلية نفسها . بتشريع القرآن "يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم ... يُريد الله أن يخفِّف عنكم ، وخُلق الانسان ضعيفا" (النساء 26 و28) . من ذلك تحليل "الرفث الى النساء ليلة الصيام" (البقرة 187) ، وكان محظورا عند أهل الكتاب . ومن ذلك ، في الصيام ، العِدّة من أيام أُخر لمن كان مريضا أو على سفر ، إذ " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (البقرة 185) ... وقد يأتي التخفيف في أحكام الجاهلية نفسها ، كالتي في مناسك الحج في إباحة التجارة . (البقرة 198) ، أو في ما "استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام" عشرة أيام (البقرة 196) أو قبول جميع المواقف في مناسك الحج تألّفا لأصحابها كالسعي بين الصفا والمروة (البقرة 158) ، أو العفو عن القصاص في القتلى ، " ذلك تخفيف من ربكم " (البقرة 178) . ومبدأ التخفيف في الأحكام قد يطبقه القرآن على محرّماته ، عند الضرورة ، كقوله : "إنما حُرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ... فمن اضطُرّ غير باغ ولا عاد ، فلا إثم عليه " (البقرة 173) . ويطبّقه في الايمان والتوحيد ، بإظهار الشرك عند الحاجة : "من كفر بالله ، بعد إيمانه – إلاّ مَن أُكرِه وقلبه مطمئن بالايمان – ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ، فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم" (النحل 106) فهذا المبدأ يلغي الاستشهاد الحق في سبيل الإيمان . وكان المبدأ الفقهي : الضرورات تبيح المحظورات . وتشريع سمته التخفيف في أحكامه عن أمته ، هل هو من الاعجاز في التشريع لخلق خير أمة أخرجت للناس" ؟ 2 – ميزته الثانية : التسهيل في مداورة الأحكام بفرض التحلة والكفّارة ، أو الفدية . يقول في القسم : "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" (البقرة 224) ؛ "واحفظوا إيمانكم" (المائدة 89) ؛ "ولا تتّخذوا إيمانكم دَخَلاً بينكم ، فتزل قدم بعد ثبوتها ... ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا " (النحل 94 و95) . ثم يقول : " قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم " (التحريم 2) ، وكان ذلك مقدَّمة لتحلة محمد من قسمه الى بعض أزواجه . كذلك : "لا يُؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الايمان ؛ فكفارته : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتُهم ، أو تحرير رقبته ؛ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام – ذلك كفّارة أيمانكم اذا حلفتم – واحفظوا أيمانكم – كذلك يُبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون" (المائدة 89) . وقد شرع الفدية في الصوم : "وعلى الذين يطيقونه فدية : طعام مسكين" (البقرة 184) . قال البيضاوي : "رُخص لهم في ذلك أوّل الأمر ، لمّا أُمروا بالصوم ، فاشتدَّ عليهم لأنهم لم يتعوّدوه ثم نُسخ ... (وهناك قراءات أخرى للآية) ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا ، وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده ، وهم الشيوخ والعجائز ، في الافطار والفدية ، فيكون ثابتا ، وقد أُوّل به القراءة المشهورة أي يصومونه جهدهم وطاقتهم" . والفدية لمن كان مريضا أو على سفر في الصيام لم تُنسخ (البقرة 184 – 185) . كذلك شرع الفدية في الحج بحلق الرأس للمضطرّ (البقرة 196) . ومتى وُضع مبدأ التحلة والكفارة والفدية للتخلّص من أحكام الشريعة ، جازت مداورتها لمن يريد ويهوى . فإذا جاز مداورة الشريعة بمبدأ الكفارة أو الفدية فكيف تصير أخلاق المؤمن ؟ 3 – ميزته الثالثة : رفع الحرج في الدين وشعائره وأحكامه . فكان هذا المبدأ : "وما جعل عليكم في الدين من حرج" (الحج 78) . وطبّقه بالتيمّم بتراب طهور ، بدل الوضوء بالماء (المائدة 6) . وطبّقه حتى في التظاهر بالكفر والشرك عند الضرورة ، "لمن أُكره وقلبه مطمئن بالايمان" (النحل 106) . وكان النبي نفسه "أسوة حسنة" (الأحزاب 21) برفع القرآن الحرج عنه في حدود شريعة الزواج وقيودها . فقد ألغى شريعة التبنّي الجاهلية – وهي عالمية حتى اليوم – وأخذ محمد مطلقة متبنّاه زيد "لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ... ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له" (الاحزاب 37 – 38) . وأحلّ له جميع قريباته ، فوق نسائه ، "وامرأة مؤمنة ، إن وهبت نفسها للنبي ، إن أرد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين : قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت إيمانهم . لكيلا يكون عليك حرج ، وكان الله غفورا رحيما (الاحزاب 50) . ورفع عنه حدود الطلاق والعزل والعدل بين نسائه : "ترجئ مَن تشاء ، وتؤوي اليك مَن تشاء . ومن ابتغيت ممن عزلت ، فلا جُناح عليك" (الاحزاب 51) . وقد وصل رفع الحرج حتى في القرآن نفسه ، فنزل : "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" (طه 1 – 2) ؛ "كتاب أنزل اليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه " (الأعراف 2) . ورفع الحرج عن النبي في تنزيل القرآن يفسّر لنا بعض مظاهره من تبديل أو محو أو نسخ . وقد استخلص الفقهاء من ذلك أن الحرج في الدين وأحكامه والشريعة وأحكامها مرفوع شرعا ، وأن المشقة تجلب التيسير ، وأن الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات . إن التكليف بالشريعة يلازمه الحرج في تطبيقها . ومتى رُفع الحرج ، بتقدير المكلَّف وقدرته ، زالت حرمتها وقدسيّتها ! ومتى كان الحرج في التكليف بالشريعة مرفوعا شرعا ، ومتى كانت الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات ، فعلى الشريعة وأحكامها السلام . 4 – ميزته الرابعة : مبدأ الكَسْب في الإثم والخطيئة والسيئة المبدأ في القرآن : "بلى ، مَن كسب سيئة ، وأحاطت به خطيئته ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة 81) ؛ واتقوا يوما تُرجَعون فيه الى الله ، ثم تُوفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون" (البقرة 281) . ويقول : "ومن يكسب إثما فإنما يكسِبه على نفسه ، وكان الله عليما حكيما" (النساء 111) . مع ذلك فهو يقول : " لا يكلَّف الله نفسا إلاّ وسعها : لها ما كَسَبَت ، وعليها ما اكتسبت" (البقرة 286) . فليس من كسب أو اكتساب في التكليف إلاّ على وُسْع الانسان . وهذا تقدير ذاتي قد يذهب بالتكليف ذاته . يقول أيضا : " وذروا ظاهر الإثم وباطنه : إن الذين يكسبون الإثم ، سيُجزون بما كانوا يقترفون" (الانعام 120) . وبناءً عليه يقول : "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، والله غفور حليم" (البقرة 225) ؛ ويقول "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" (البقرة 284) أي يشرع المحاسبة على الوسوسة . ثم ينسخها بقوله : "لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها" (البقرة 286) . إن باطن الاثم كالوسوسة بالشر إخفاء له نُحاسب عليه ، فكيف لا يكلف الله نفسا إلا وسعها بالكسب العملي الظاهر ؟ ثم "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" (البقرة 225) . كأن اللغو باسم الله العظيم لا كسب فيه للإثم ! لذلك درجت العادة بالقسم باسم الله (بدون كسر الهاء) كأنه لا إثم فيه . ولا تمنع اليمين من الاصلاح بين الناس عن طريق الكذب الظاهر (البقرة 225) ؛ أو عمل ما هو أفضل من الأمور المقسوم عليها "كقوله عليه السلام لابن سمرة : اذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرًا منها فأتِ الذي هو خير ، وكفّر عن يمينك" (البيضاوي) . فالكسب للإثم هو طورا "ظاهر الاثم وباطنه" ؛ وهو طورا "بما كسبت قلوبكم" ؛ وهو طورا مَن "أحاطت به خطيئته" من ظاهرالعمل . فالكسب في الإثم متشابه ، وهذا ممّا يجعل درء حدود الأحكام سهلا . وعلى كل حال ، يصح درء الحدود بالشبهات . وتشريع لا تتضح فيه معالم الشر والاثم والذنب هل هو من الاعجاز في التشريع ؟ 5 – ميزته الخامسة : استباحة "اللمم" في الإثم والفواحش من صفات المحسنين ، في القرآن ، استباحة اللمم في الآثام والفواحش : "ولله السماوات وما في الأرض ، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللمم : إن ربك واسع المغفرة" (النجم 31 – 32) . فصغائر الاثم واللمم في الفواحش لا تمنع الحسنى لدى الله . فالمحسنون ، في عرْف القرآن ، هم "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش" (الشورى 37) . والمبدأ في الجزاء : "إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه ، نكفّر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما" (النساء 31) ؛ مع أن كتاب الحساب في يوم الدين لا يترك صغيرة ولا كبيرة : "ووضع الكتاب ، فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ، ويقولون : يا ويلتنا ، ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، ووجدوا ما عملوا حاضرا ، ولا يظلم ربك أحدا" (الكهف 49) ؛ ومع أن "الحسنات يذهبن السيئات" (هود 114) . ومبدأ آخر في الجزاء : إن عباد الرحمان "الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق ، ولا يزنون – ومَن يفعل ذلك يلق آثاما ، يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ، إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحا ، فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات ، وكان الله غفورا رحيما" (الفرقان 68 – 70) . فعباد الرحمان جزاؤهم مضاعف ، وتوبتهم تبدِّل سيئاتهم حسنات . فالخلْق الحسن ، والثواب الحسن ، في اجتناب "كبائر الاثم والفواحش" . أمّا صغائر الآثام ، واللمم في الفواحش ، فلا عبرة له في الجزاء . وتشريع يستبيح صغائر الآثام ، واللمم في الفواحش ، هل هو من الاعجاز في التشريع الديني والخلقي ؟ وهل يعطي "خير أمة أُخرجت للناس" أسوة حسنة للعالمين ؟ 6 – ميزته السادسة : الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له إن الشرك اثم عظيم : "إن الله لا يغفر أن يُشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . ومَن يُشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا" (النساء 48) . وإن الشرك ضلال بعيد : "إن الله لا يغفر أن يُشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومَن يُشرك بالله فقد ضلَّ ضلالا بعيدا" (النساء 116) . وهذا التعليم ينسبه القرآن للمسيح : "وقال المسيح : يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم . إنه مَن يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار" (المائدة 72) . لا شك أن الشرك إثم عظيم وضلال بعيد ومأواه النار . ولكن مَن خُلق مشركا ، وهو قانع من وجدانه أنه على حق ، فهل يكون مصيره النار ؟ ألا يقول : "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أُمّها رسولا فيتلو عليهم آياتنا ! وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون" (القصص 59) ، "ذلك أن لم يكون ربك مهلك القرى بظلم ، وأهلها غافلون" (الانعام 131) فتلك الأشراط الثلاثة للإهلاك تجعل المشرك غير مسؤول عن شركه ، فلا يُحاسب عليه . إن الشرك المسؤول هو الشرك الظالم الذي يعرف نفسه وظلمه . فليس جميع المشركين الغافلين وغير الظالمين ، مأواهم النار ! وليس الشرك الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له . إن صاحب الكبيرة غير التائب لا مغفرة له أيضا ؛ وإن اختلفوا هل هو في النهاية من أهل الجنة أم مِن أهل النار ، أم في منزلة بين المنزلتين . واستنتاجهم من آية الشرك (النساء 48) أنه لا يخلّد في النار مؤمن ، ولا ينجو من النار مشرك ، ليس بمنطق ولا صواب . والقول : "لا يخلّد في النّار مؤمن" هو باب فساد وإفساد للمؤمن . والقول الحق قوله : "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين : مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة 62) . فشرط النجاة من النار ليس الايمان وحده ، بل الايمان المقرون بالعمل الصالح . فإذا كان الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له ، وكان المسلم صاحب الكبيرة لا يُخلّد في النار ، جاز له أن يستبيح أحكام الشريعة كلها : فهل هذا من الاعجاز في التنزيل والتشريع ؟ تلك هي ميزات التشريع القرآني الذاتية . ونتساءَل أين فيها معجزة الشريعة التي يصح بها تحدي العالمين ؟ فهل التخفيف في أحكام أهل الكتاب والجاهلية والقرآن نفسه ؛ هل التسهيل بمداورة أحكام القرآن بالتحلة والكفارة والفدية ؛ وهل رفع الحرج في أحكام الدين والشريعة ؛ وهل حصر الكسب في الإثم والخطيئة والسيئة بالعمل الظاهر من دون المحاسبة على السوء من فكر أو شهوة أو رغبة لم تقترن بعمل ؛ وهل استباحة الصغائر في الآثام واللمم في الفواحش ؛ وهل اقتصار الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له على الشرك وحده من دون سائر الكبائر ، هي كلها من دلائل الاعجاز في التشريع ؟ |