مجادلة الأنبا جرجي الراهب السمعاني مع ثلاثة شيوخ من فقهاء المسلمين

توطئة

مقدمة المؤلف

المجادلة

 

عودة للرئيسية

توطئة

 

من سمات كنيسة المسيح الظاهرة أن تدعو جميع الناس في كل عصر ومصر إلى دين الله بحسب البيان وجميل الإحسان عملا بأمره له المجد بشّروا بالإنجيل في الخليقة كلها.  ولا تظن أيها القارئ النجيب أن نور الإنجيل انحجب أو غاب عن الشرق في القرون المتوسطة بظلم أو بظلام.  فإن دين المسيح لم يستطع أن يحجبه الإسلام بحجته الكبرى التي هي الجهاد وقتال من لا يدين به.  ولم يقطع سيفه كل لسان ولم يكسر أقلام ضعاف الرهبان الذين هم أخص دعاة النصرانية الموصوفون بجند الكنيسة.  ومن هؤلاء الشجعان الذين أرهفوا القلم وأحسنوا البيان الأنبا أو الأب جرجي أحد رهبان دير القديس سمعان الذي موقعه في جبل سمعان في ولاية حلب الذي كان من أعظم وأشهر ديارات البطركية الأنطاكية.  وقد خرج منه كثيرون من البطاركة والمطارنة والكهنة المشهورين بالعلم والفضل.  وقد بحثنا كثيرا عن تاريخ هذا الأب الفاضل العالم فلم نجد له ذكرا في كتب التاريخ إلا ما أخبرنا عنه تلميذه ورفيقه كاتب هذه المجادلة.  وكذلك لم نقدر أن نقف على شيء من أحوال مناظريه إلا ما أخبرنا به الكاتب المذكور.

 

وأما الأمير المشمّر الذي جرت بحضرته هذه المجادلة فقد أفادنا كاتبها عنه أمورا لم يذكرها مؤرخي العرب من المسلمين الذين كتبوا تاريخ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وتاريخ أولاده السبعة عشر الذين تقاسموا ملكه بعد موته.  وقليل منهم ذكروه باسمه المشمّر مع لقبه الظافر.  ويظهر أنه كان من أتباع أخيه الملك الظاهر غياث الذين غازي صاحب مدينة حلب أصغر أولاد صلاح الدين.  ومن ثم كلن الأمير المشمّر أقل شأنا من أخيه الملك الظاهر الذي مات في حلب ودفن في قلعتها سنة 617 للهجرة التي توافق سنة 1216 مسيحية عندما جرت هذه المجادلة.  ولعلّه كان تابعا لأخيه المذكور.

 

ولا يخفى على من له إلمام بتاريخ الشرق لذلك العهد أن شوكة الإسلام انكسرت وضعفت قوة أصحابه في الحروب الصليبية التي كانت تقع حينئذ في أنحاء شتى من هذه البلاد وإن كان قد استرجع شيئا منها الملك الناصر المعروف بصلاح الدين بانتصاراته العظيمة عليهم إذ جمع قوة الإسلام بوحدة سلطانه بعد أن كانت من قبل متفرقة ومقسّمة.  ولكن بعد موته سنة 1198 ضعفت قوة الإسلام بانقسام مملكته بين أخوته وأولاده وأعدائه.  ومن ثم عاد إلى الصليبيين عزهم السابق بانتصاراتهم على أعدائهم في أنحاء شتى من هذه البلاد واستعاد النصارى الروم بسبب ذلك شيئا من حريتهم في أمر دينهم دين الصليب والصليبيين.  فلا بدع إذا وقعت حينئذ هذه المناظرة الدينيّة بحضرة الملك الظافر ابن صلاح الدين بين أئمة الإسلام وراهب مسكين من دير مار سمعان من المملكة الحلبية.  ولا بد أن ما أظهره الأمير المشمّر من الرفق واللطف مع الأنبا جرجي ولا سيما قوله له سرا بأن والدته على دينه نصرانية من الروم جرأه كثيرا على بيان ما أراد مع ناظريه بغير تقصير ولا وجل في هذه المحاورة اللطيفة الشائقة.

 

والغرض من نشر هذه المجادلة الحرص على ما فيها من الفوائد الجمة لإيضاح الإيمان المسيحي وبيان صحته وهداية من يروم الهدى به. وقد اختصت بأربعة أمور خلت منها كتب كثيرة مما كتب في هذا الباب قديما وحديثا: الأول منها مراعاة آداب المناظرة بين المتجادلين وخلوها من المعايرة والمهاترة.  والثاني سلامة عقيدة كل فريق من المتناظرين في دينه فإن الراهب جرجي كما يظهر من كلامه واسمه كان من الروم الملكيين كاثوليكي المعتقد وليس في كلامه وصمة فساد أو إلحاد.  وبهذا يكون لهذه المناظرة مزية وفضل على كل ما نشر من هذا القبيل في مطبعة النيل بأقلام البروتستنط.  وكذلك كان مناظروه من عدول المسلمين وأيمة السنّة في الإسلام.  والثالث سلامة لغتها العربية وصحتها فإنها كتبت بلسان عربي مبين خالصة من كل لكنة وهجنة.  وليس كلام أئمة الإسلام فيها أنقى ولا أبلغ من كلام الراهب السمعاني وهو ليس دونهم بأحكام القرآن وحفظ آياته بكل ضبط مع ما في كلام المتناظرين من قوة الحجة وحسن البيان.  والرابع إيضاح أخصّ وأهمّ عقائد الدين المسيحي الإيضاح الوافي الشافي خاصة سر الفداء والصليب والثالوث والتوحيد بنصوص الوحي والأمثال المناسبة لذلك. وكفى بهذه الأغراض الشريفة غاية للناشر وللقارئ النجيب.

 

ولم ننشرها إلا بعد أن قابلناها على عدة نسخ قديمة وجدناها في مكتبة الأمّة في باريس وغيرها من مكاتب الشرق وهي كثيرة تعدّ بالعشرات، وأقدمها وأصحها كتبت بخط جميل سنة 1539 عن نسخة قديمة لا نعلم تاريخها.  فقد حررنا طبعتنا هذه بكل ضبط وتدقيق بحيث لم نثبت في المطبوعة إلا ما كان في كل هذه المخطوطات أو في بعضها بدون أن نكلف نفسنا إثبات الفرق بين هذه النسخ هنا كما اعتاد العلماء أن يفعلوا في طبع الكتب القديمة بيانا للنسخ التي كانت عمدتهم ليراجعها أهل النقد في محلها.  لأن جل قصدنا في نشر هذه المحاورة خدمة أخواننا الآباء المرسلين وتلاميذهم الذين يرومون هدايتهم وكشف حجاب أسرار ديانتنا المسيحية بكل بساطة لا لأجل غاية علمية محضة أو جدلية.  والله من وراء النيات وهو حسبنا وعليه الاتكال.