التالي

بحث أول

هل من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للقرآن ؟

يصف القرآن عهد العرب قبله "بالجاهلية" (154:3 ؛ 50:5 ؛ 33:33 ؛ 26:48) . وهو تعبير نصراني يطلقونه على البلاد والشعوب التي لم يصلها نور الكتا ب والانجيل كما قال بولس الرسول في ندوة أثينا : "لقد اغضى الله عن أزمنة الجاهلية ، وها هو الآن ينذر جميع الناس ، في كل مكان أن يتوبوا" (سفر الاعمال 30:17) .

فجاهلية العرب لم تكن جهلا بالثقافة والأدب ، بل جهلا بالدين والتوحيد الخالص . وفي التوحيد كانت دعوة أهل الكتاب ، من يهودية ومسيحية ، قد عمت أطراف الجزيرة ، حتى تغلغلت الى الحجاز ، فحولته من الوثنية الى الشرك أي عبادة الله الواحد الأحد مع شريك من خلقه . وقد أمسى شركهم ظاهريا بشهادة القرآن : "ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى" (المز 3) . ونتيجة الدعوة الكتابية أن "عبادة أهل مكة هي عبادة محمد ، وتوحيدهم توحيد اسلامي ، أو توحيد قريب من التوحيد الاسلامي"(1) . فليس في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية من معجزة . يكفي شهادة على ذلك حديث ورقة بن نوفل ، قس مكة ، واستاذ محمد مدة خمسة عشر عاما قبل مبعثه ؛ وكان يدعو في مكة الى نصرانيته بترجمة الانجيل من حرفه العبراني الى العربية ، بحضور محمد ، زوج خديجة ، ابنة عمه ، في بيتها . وما كانت الدعوة القرآنية إلا "تفصيل الكتاب" للعرب (يونس 37) . غفلوا عن دراسته : "أن تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وإن كنّا عن دراستهم لغافلين" (الانعام 156) ؛ فدرسه محمد ليفصله لهم : "وكذلك نصرّف الآيات ! وليقولوا : درست ! – ولنبيّنه لقوم يعلمون" (الانعام 105) . فسكوته عن الرد على تهمة الدرس ، وعدوله الى بيان حكمته ، دليل على صحة الدرس والتدريس . ولذلك تتواتر الشهادات القرآنية ان الدعوة القرآنية إنما كانت "ليعلمهم الكتاب والحكمة" أى التوراة والانجيل (151:2 و129 ؛ 164:3 ؛ 2:62) .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الدكتور جواد علي : تاريخ العرب قبل الاسلام 424:5 و 428

فدين الكتاب ، دين ابراهيم وموسى وعيسى ، هو الدين الذي يشرعه القرآن للعرب : " شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" (الشورى 13) . ودين موسى وعيسى دينا واحدا هو دين النصرانية الاسرائيلية التي تقيم التوراة والانجيل معا ، كما يدعو القرآن (المائدة 68) ؛ وكما يردّد : "لا نفرّق بين أحد من رسله ، ونحن له مسلمون" (136:2 و285 ؛ 84:3 ؛ 150:4) .

فالاسلام هو محور الدعوة القرآنية . وهذا الاسلام كان قائما في الحجاز ، بمكة والمدينة ، قبل القرآن ؛ وذلك بنص القرآن القاطع : "هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا" القرآن (الحج 78) . فقد "شهد الله أنه لا إله إلاّ هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط – لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم – أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . وفي اصطلاح القرآن ، أولو العلم هم أهل الكتاب ؛ والقائمون منهم بالقسط هم النصارى من دون اليهود الظالمين لكفرهم بالمسيح ثم لمحمد . ويسميهم أيضا الراسخين في العلم ، ويميّزهم عن المؤمنين من العرب بمحمد ودعوته ، وعن اليهود بقوله : "فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم ... لكن الراسخون في العلم منهم ، والمؤمنون ، يؤمنون بما أنزل اليك" (النساء 106 – 162) – وهؤلاء النصارى الراسخون في العلم هم الذين يؤمنون بمتشابه القرآن مثل محكمه : "والراسخون في العلم يقولون : آمنا به كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7) . فالدعوة للاسلام هي دعوة النصارى الراسخين في العلم المنزل القائمين بالقسط في الايمان بالمسيح والانجيل ، وبمحمد والقرآن لأن دعوته من دعوتهم . فكان الاسلام القرآني قائما في مكة والحجاز قبل الدعوة القرآنية . وما الدعوة القرآنية سوى انتصار له لظهوره على اليهودية هناك : "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : من أنصاري الى الله ، قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بين اسرائيل وكفرت طائفة : فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين " (الصف 14) . فانتصرت النصرانية الاسرائيلية على اليهودية بفضل الدعوة القرآنية . فما الإسلام في القرآن سوى النصرانية الإسرائيلية التي تشهد مع الله وملائكته "أن الدين عند الله الاسلام" . والقرآن يشهد بشهادتهم .

فليس من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية . بل هي امتداد للدعوة النصرانية الاسرائيلية القائمة في مكة والحجاز ، وذلك بشهادة القرآن القاطعة .

التالي