التالي

بحث ثان

"العلم" و "أولو العلم" في اصطلاح القرآن

إن القرآن يأخذ اسم "العلم" وفعل "علم" ومشتقاتهما ، أحيانا بحسب حرف اللغة ؛ ولكن أحيانا بحسب اصطلاح خاص يتّضح من القرائن . وهذا الاصطلاح الخاص هو الذي غفل عنه القوم في صلة "العلم" والذي يعلمون بالقرآن ؛ وبنوا عليه نظريات لا أساس لها في القرآن .

إن الاصطلاح " أولي العلم " مرادف لأهل الكتاب الذين كانوا يسمّون المشركين الذين لا كتاب لهم ، وليس عندهم " العلم " المنزل : "الذين لا يعلمون" ، فهم أهل الجهل والجاهلية ، لا بالعلم المعروف والمعارف البشرية ، بل بالعلم المنزل في الكتاب .

في خطاب بولس الرسول في جامعة أثينا يقول : "ولقد أغضى الله عن أزمنة الجاهلية وها هو الآن ينذر جميع الناس ، في كل مكان ، أن يتوبوا ؛ لأنه قد حدّد يوما سيدين فيه المسكونه بالعدل ، بذلك الإنسان الذي عيّنه ، مقدّما للجميع ضمانة بإقامته من بين الأموات" (سفر الاعمال 30:17 – 31) .

وانتقل تعبير " الجاهلية " الى القرآن ومنه إلى الأدب العربي : "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" (آل عمران 154) ؛ "أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" (المائدة 50) ؛ "وقرْنَ في بيونكن ، ولا تبرّجْن تبرّج الجاهلية الأولى " (الاحزاب 33) ؛ "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" (الفتح 26) . فهو يقرن الكفر بالجاهلية . ويقابل بين أهل الكتاب "الذين يعلمون" ، والمشركين "الذين لا يعلمون " : "وقالت اليهود : ليست النصارى على شئ ! وقالت النصارى : ليست اليهود على شئ ! وهم يتلون الكتاب ، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ... وقال الذين لا يعلمون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ؟ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم : تشابهت قلوبهم" ! (البقرة 113 و118) . فالنص صريح بأن "الذين لا يعلمون" كناية عن المشركين ؛ وبالعكس "فالذين يعلمون" أو "أولو العلم" كناية عن أهل الكتاب ، كما جاء في

الآية : " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (الزمر 9) . وهو اصطلاح قرآني للمقابلة بين أهل الكتاب "الذين يعلمون" والمشركين "الذين لا يعلمون" .

والقرآن يستشهد "بالذين يعلمون" ، ويستعلي على المشركين بهؤلاء "العلماء" بكتاب الله ، كما في قوله : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (فاطر 28) أي " مَن عنده علم الكتاب " (الرعد 43) .

هل كان في الحجاز قبل الاسلام علماء بالطبيعيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وسائر العلوم الطبيعية ، حتى يخاطبهم القرآن ويستشهد بهم ، ويستعلي بهم ، ويكون معهم "أمة واحدة" في الدعوة القرآنية ؟

إن " الذين أوتوا العلم " في اصطلاحه المتواتر كناية عن أهل الكتاب ، كما في قوله : "قل : آمنوا به أو لا تؤمنوا ؛ إن الذين أوتوا العلم من قبله ، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سُجّدًا" (الاسراء 107) . فالعلم على الاطلاق ، العلم المنزل ، هو عند أهل الكتاب ؛ ومعهم في القرآن ، الذي "هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49) . لذلك "يرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد" (سبأ 6) . فالقرآن يستشهد بطائفة قائمة على صحة تنزيل القرآن ودعوته .

والقرآن يقسم أولي العلم الى طائفتين : اليهود أولي العلم الظالمين ، والنصارى من بني اسرائيل أولي العلم المقسطين أو المحسنين . وقد تأتي صفتهم صراحة أو ضمنا في القرائن اللفظية أو المعنوية . والتقسيم والصفة ظاهران في قوله : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن – إلاّ الذين ظلموا منهم " (العنكبوت 46) .

قبل الانجيل ، "الذين أوتوا العلم" هم أهل الكتاب على العموم : "إن قارون كان من قوم موسى ... وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم ثواب الله خير" (القصص 76 و80) . وظلوا بعد الانجيل حتى القرآن كذلك على العموم ، كما في قوله بحق اليهود : "ومنهم من يستمع اليك حتى إذا خرجوا من عندك ، قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا" (محمد 16) . ولكن تعبير "أولي العلم" يخصّه بالنصارى من بني اسرائيل الذين هم "أمة واحدة" مع محمد . إنه يميّزهم ، في خطاب القاء الشيطان في الوحي ، من "الذين في قلوبهم مرض (المنافقين) والقاسية قلوبهم (المشركين) ، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (اليهود) . وليعلم

الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ، فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا (جماعة محمد من العرب) الى صراط مستقيم" (الحج 53 – 54) . فهؤلاء "الذين أوتوا العلم" ، النصارى من بني اسرائيل ، هم الذين يشهدون للقرآن ، ويستشهد بهم النبي على الدوام : "وقال الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا ومَن عنده علم الكتاب " (الرعد 43) . وشهادتهم تدوم الى يوم الدين : "ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقّون فيهم ؟ قال الذين أوتوا العلم : إنّ الخزي اليوم والسوء على الكافرين" (النحل 27) . فتعبير "الذين أوتوا العلم" أو "أولي العلم" عند الثناء والاستشهاد ، هو مخصوص بالنصارى من بني اسرائيل .

وقد يقترن التعبير بصفة تميّزهم عن اليهود ، أولي العلم الذين "اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، بغيًا بينهم" – بالمسيح ثم بمحمد . فهم أهل العلم والايمان : "وقال الذين أوتوا العلم والايمان (للمجرمين) : لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث ، فهذا يوم البعث ، ولكنّكم كنتم لا تعلمون" (الروم 56) . وهم الراسخون في العلم : "لكن الراسخون في العلم منهم (من أهل الكتاب) والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل اليك وما أُنزل من قبلك" (النساء 162) . وهؤلاء "الراسخون في العلم" يؤمنون بالقرآن ، ويؤمنون بالمتشابه فيه كما بالمحكم : " والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7) . فهو يضع في منزلة واحدة ، كأمة واحدة ، "الذين آمنوا" من العرب ، "والذين أوتوا العلم" كقوله : " يرفع الله الذين آمنوا منكم ، والذين أوتوا العلم ، درجات " (المجادلة 11) ؛ لاحظ التمييز والعطف والجمع ، فهم أمة واحدة (الانبياء 92 ؛ المؤمنون 52) .

وهم خصوصا أولو العلم المقسطون الذين يشهدون مع الله والملائكة – والقرآن يدعو بشهادتهم – أن الدين عند الله الاسلام : "شهد الله أنه لا إله إلا هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط – لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم – أن الدين عند الله الاسلام . وما اختلف الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغيا بينهم" (آل عمران 18 – 19) . لذلك فاليهود الذين كانوا "يقتلون النبيّين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط : فبشرهم بعذاب أليم" (21) .

وهذا هو القول الفصل ، في هذا الفصل : إن "أولي العلم قائما بالقسط" هم النصارى من بني اسرائيل . وهم يدعون الى الاسلام قبل محمد (الحج 78) ، والقرآن يدعو

بدعوتهم الى الاسلام ، ويشهد بشهادتهم "أن الدين عند الله الاسلام" . هذا هو "علم" القرآن كله.

والنتيجة الثانية أن " العلم " في القرآن هو العلم المنزل على الاطلاق ، والعلم "النصراني" على التخصيص الذي جاء به المسيح في الانجيل ، فاختلف فيه اليهود من أهل الكتاب : " وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم " (19:3 ؛ 14:42 ؛ 17:45) . وهذا "العلم" الانجيلي "النصراني" هو الذي وصل الى محمد في القرآن : "بعد الذي جاءَك من العلم" (البقرة 120) ، "من بعد ما جاءَك من العلم" (البقرة 145 ؛ آل عمران 61) ، "بعد ما جاءَك من العلم" (الرعد 37) .

وبعلم الانجيل ، وهدى الكتاب يجادل القرآن المشركين : "ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20 ؛ الحج 8) . أما محمد فهو يجادل في الله بعلم وهدى الكتاب المنير ، ويتحداهم بالكتاب والعلم المنزل : "قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض ، أم لهم شرك في السماوات ؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو إثارة من العلم ، إن كنتم صادقين" (الاحقاف 4) . فالعلم الحق هو العلم المنزل في الإنجيل ، وينادي به النصارى من بني اسرائيل .

وهكذا ، ففي اصطلاح القرآن ، إن "العلم" الذي ينادي به هو علم الكتاب ، "ومَن عنده علم الكتاب " (الرعد 43) . فليس القرآن اذن معجزة في علم المعارف البشرية . وليست هي من مقاصد القرآن . إنهم يقولون بمعجزة لا أساس لها في القرآن .

والاعجاز في "العلم" الذي يتحدّى به القرآن هو الاعجاز في "علم الكتاب" الذي هو مع "مَن عنده علم الكتاب" (الرعد 43) ، مع "الراسخين في العلم" (آل عمران 7 ؛ النساء 162) مع "الذين أوتوا العلم من قبله " (الاسراء 107) ، مع "الذين أوتوا العلم والايمان" (الروم 56) ؛ يقول : "فبهداهم اقتدِ" (الأنعام 90) ، "وأُمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" معهم . (النمل 91 – 92) .

إن الإعجاز في العلم هو إعجاز "علم الكتاب" .

التالي