التالي

بحث ثان

في الضمائر (الإتقان1: 187)

يقول : " وأصل وضع الضمير للاختصار... ولا بد له من مرجع اليه، ويكون ملفوظاً به سابقاً مطابقاً أو متضمنا له نحو (اعدلوا هو أقرب للتقوى) فإنه عائد على العدل المتضمن له (اعدلوا). ويسمى مرجع الضمير".

أولاً: قد يختفي مرجع الضمير فيشتبه المعنى

كما في قوله مراراً : " إنا أنزلناه". فقالوا : اي القرآن لأن الانزال يدل عليه التزاماً. وفاتهم انه قد يكون الكتاب الذي يصدقه ويفصله؛ أو غير ذلك كقوله : " إنا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا : إنا كنا مرسلين " (الدخان 3-5). فهو ضمير الشأن للدلالة على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه بأن يذكر أولاً مبهماُ ثم يفسر : فالمنزل في الليلة المبارك ة هو الأمر بالرسالة، كما تدل عليه الآية المعترضة (4).

وقد يعاد الى شيئين فيشتبه كقوله : " واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة "- فهل يعاد الضمير الى الصلاة، أم الى الاستعانة المفهومة من (استعينوا) ؟. وقد يعود على لفظ المذكور دون معناه نحو " وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمره "؟ عمر من قالوا : عمر المعمر. لكن هل يسمى معمراً اذا نقص من عمره ؟

وقد يعود الى عائدين فيشتبه العائد اليه كقوله : " والله ورسوله أحق أن يرصوه" والأصل أن يرضوهما، ولكن في افراد الضمير التباس .

وقد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين ن حو " يخرج منه م ا اللؤلؤ والمرجان " وانما يخرج من احدهما.

وقد يجيء الضمير متصلاً بشيء وهو لغيره كقوله : " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة " : فهل الضمير لآدم أم لولده كما يظهر؟ أو كقوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء إن تبد لكم تسؤكم... قد سألها قوم من قبلكم " (المائدة 101-102) فهل الضمير في (سألها ) يعود الى الاشياء ع ي نها أم لغيرها كما هو ظاهر ؟

وقد يعود الضمير على ما ليس ما هو له نحو : " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحاها" (النازعات46)، اي ضحى يومها، لا ضحى العشية نفسها لأنه لا ضحى لها.

وقد يعود على غير مشاهد محسوس، والأصل خلافه، نحو : " إذا قضى أمراً فإنما يقول له : كن، فيكون " (آلعمران 47) – فهل يقول للأمرأم لموضوع الأمر ؟ ولماذا عدل عن جزم جواب الأمر، مراعاةً للفاصلة؟.....

ثانياً: الأصل في الضمير عوده الى أقرب مذكور

وعند المضاف والمضاف اليه فالأصل عوده للمضاف لأنه المحدث عنه كقوله : " وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ". فلماذا شذ في قوله : " إلى إله موسى، وإني لأظنه كاذباً"- حيث الضمير يعود الى المضاف اليه كما هو ظاهر. ولذلك اختلفوا في العائد اليه، أهو المضاف أو المضاف اليه، في قوله : " أولحم خنزير، فإنه رجس ". قال السيوطي : " فمنهم من أعاده الى المضاف، ومنهم من أعاده الى المضاف اليه ". وهذا حكم تشريعي لا يصح فيه الابهام : فبحسب الأصل ا ل لغوي يعود الضمير الى المضاف اي الى اللحم، لا الى الخنزير نفسه .

ثالثاً: الأصل أيضاً توافق الضمائر في المرجع حذراً من التشتيت

وجاء قوله : " أن اقذفيه في التابوت، فاقذفيه في اليم " مثيراً للدهشة والهجنة، لأن ظاهر الضمير الأول يعود لموسى، وظاهر الضمير الثاني للتابوت. وأرجعهما الزمخشري ، على خلاف الظاهر، الى موسى." عابه الزمخشري وجعله تنافراً مخرجاً للقرآن عن اعجاز ه فقال :

الضمائر كلهاراجعة لموسى، ورجوع بعضها اليه وبعضها الى التابوت فيه هجنة لما يؤدي اليه لمن تنافر النظم الذي هو أم اعجاز القرآن ".

وتشابه في قوله : " ليؤمنوا بالله ورسوله ويعززوه ويوقروه ويسبحوه". والأصل في الضمير عوده الى أقرب مذكور. ويمنع من ذلك ظاهره. والضمير في "يعززوه" للرسول، وفي " يوقروه ويسبحوه" لله. وهذا مثال صريح على تنافر النظم في البيان .

وهذا مثال آخر : " ولا تستفت فيهم منهم أحداً ". قال السيوطي : " فإن ضمير (فيهم) لأصحاب الكهف؛ وضمير (منهم) لليهود. قاله ثعلب والمبرد ".

وهذا مثال آخر على تنافر الضمائر : " ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم، وضاق بهم ذرعاً " – فالضمير في الثاني يعود الى الرسل أو الى قوم لوط .

وقد يخرج ضمير على سائر الضمائر كقوله : " إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين، إذ هما في الغار، اذ قول لصاحبه : لا تحزن ان الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه (؟) وأيده بجنود لم تروها، وجعل (؟) كلمة الذين كفروا السفلى " (التوبه 40). قال السيوطي : " فيها اثنا عشر ضميراً كلها للنبي ص إلا ضمير (عليه) فلصاحبه كما نقله السهيلي عن الأكثرين "؛ وكما هو الظاهر لأنه موضوع خطاب النبي لصاحبه. وشذ أيضاً عن اجماع الضمائر في اضمار الفاعل بقوله " وجعل كلمة".

تلك بعض الأمثله في تنافر الضمائر في النظم، يتنافر معها النظم الذي هو أم الاعجاز في القرآن .

التالي