التالي

بحث رابع

النظم فى القرآن

فى الكتاب الأول ، رأينا " أساليب نظم القرآن وفنونه " ، وعلمنا ان السور المكية المسجعة أو الموزونة أو المقفاة خمس وستون، وأن السور المكية غير الموزونة وغير المسجعة ست وعشرون؛ لكن خواتم آياتها مركزة، لا تخلو من رنة موزونة فى أواخر آياتها، بقطع النظر عن التقفية والوزن والروى؛ وهذا ما يُسمى فى فنون الأدب " المرسل " الذى لا يتقيد بقافية ولا وزن. وظهر أكثره فى آخر العهد بمكة.

والنظم فى القرآن المدنى يترسّل أكثر فأكثر، مع ذلك يأتى بنظم رائع يسمّى " التسميط " ، وهو الاتيان فى الآية بفواصل غير الفاصلة المتواترة فى السورة.

______________________________________

(1) نظم القرآن والكتاب: اعجاز القرآن، ص 157

__________________________

وهذه بعض أمثلة من نظم القرآن:

أولاً: السورة الأولى: العلق

1)

" إقرأ باسم ربك الذى خلق

إقرأ، وربك الأكرم

خلق الإنسان من علق

الذى علّم بالقلم

علم الانسان ما لم يعلم

2)

كلاّ! إن الانسان ليطغى

أن رآه استغنى

إن الى ربك الرجعى

3)

أرأيت الذى ينهى

أرأيت إن كان على الهدى

أرأيت إن كذّب وتولى

عبداً اذا صلّى

أو أمر بالتقوى

ألم يعلم بأن الله يرى

4)

كلاّ، لئن لم ينتهِ لنسفعنْ بالناصية

فليدعُ ناديه!

ناصية كاذبة خاطئة

سندع الزبانية

كلا: لا تطعه، واسجد واقترب

تعليق: فى هذه السورة وردت كل أنواع النظم التى نجدها فى الزبور، وأنواع النظم الكتابى: من خمس فواصل متوازية الى ثلاث فست فخمس. واختلاف النظم يدل على انها مجموعة متفرقات.

ثانياً: السورة الثالثة: المزمّل

1)

" يا أيها المزمّل، قم الليل إلا قليلاً

أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً

نصفه أو انقص منه قليلاً

إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلا

2)

إن ناشئة الليل هى أشد وَطْأ وأقوم قيلا

واذكر اسم ربك وتبتّل اليه تبتيلا

إن لك فى النهار سبحاً طويلا

رب المشرق والمغرب، لا إله إلاّ هو، فاتخذه كيلا

3)

واصبرْ على ما يقولون

وذرْنى والمكذبين

واهجرهم هجراً جميلا

أولى النعمة ومَهّلْهم قليلا

4)

ان لدينا أنكالاً وجحيما

يوم ترجف الأرض والجبال

وطعاماً ذا غصّة وعذابا أليما

وكانت الجبال كئيباً مهيلاا

 

5)

 

إنا أرسلنا اليكم رسولا شاهداً عليكم

فعصى فرعون الرسولَ

 

كما أرسلنا الى فرعون رسلا

فأخذناه أخذاً وبيلاَ

6)

 

فكيف تتّقون إن كفرتم

السماء منفطر به

إن هذه تذكرة

 

يوماً بجعل الولدان شيبا

كان وعده مفعولاَ

فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا.

تعليق: هنا يستقيم النظم على اسلوب واحد، لكن اختلاف الوزن يجعل السورة مجموعة متفرقات جمعت بينها وحدة الفاصلة. وختمت السورة ببيت واحد كما فى الزبور أحيانا. لذلك كانت الآية (20) من سورة المزمل مقحمة دخيلة عليها من زمن آخر لاختلاف نظمها عن سائر المجموعة فى السورة.

ثالثاً: من سورة " مريم"

يذكر أولاً قصة مولد يحيى (1 – 15)، ثم قصة مريم ومولد عيسى (16 – 33) وكلاهما بروى واحد، مع خاتمة مردّدة (15 و 33).

واذكر فى الكتاب مريم

فاتخذت من دونهم حجابا

اذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا

فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً

 

قالت: انى اعوذ بالرحمن

قال: انما انا رسول ربك

 

منك، إن كنت تقياً!

لأهب لك غلاماً زكيّا!

 

قالت: أنى يكون لى غلامُ

قال: كذلك؟ قال ربك: هو على هين

 

ولم يمسسنى بشر ولم أك بغياً؟

ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضيّا!

 

فحملته فانتبذت به مكانا قصيا

قالت: يا ليتنى مِتُ قبل هذا

 

فأجأها المخاض الى جذع النخلة

وكنت نسياً مَنْسياً!

فناداها من تحتها: ألاّ تحزنى

وهزّى اليك بجذع النخلة

فكلى واشربى وقرّى عيناً

فقولى: إنى نذرت للرحمن صوماً

فأتت به قومها تحملُه. قالوا:

يا أخت هارون، ما كان أبو

فأشارت اليه. قالوا: كيف نكلّمُ

قال: إنى عبد الله

وجعلنى مباركاً أينما كنتُ، وأوصانى

وبرأ بوالدتى

والسلام علىّ، يوم ولدتُ

قد جعل ربك تحتك سريّا

تساقط عليك رطباً جنياً

فإمّا ترين من البشر أحداً

فلن أكلّم اليوم إنسيّا !

يا مريم لقد جئت شيئاً فريّا!

كِ امرأ سوءٍ، وما كانت امك بغيّا!

مَن كان فى المهد صبيّا؟

آتانى الكتاب وجعلنى نبياً

بالزكاة والصلاة ما دمتُ حياً

ولم يجعلنى جبّاراً شقيّا!

ويوم أموتُ ، ويوم أبعث حياً

تعليق: هذا مثال من نظم القرآن فى قصصه. فترى انه يأتى بأسلوب النظم الأرامى الذى وجده فى الذكر عند أهل الذكر. وهو النظم رباعيات تصير فى العربية ثنائيات. وهذا النظم على وزن واحد، وروى واحد يجعل الآيات (مريم 34 – 40) دخيلة على السورة من زمن آخر لاختلاف النظم والفاصلة.

رابعاً: من سورة "البقرة".

فذلكة: أقام على تنزيل سورة البقرة ونظمها أكثر من سنة ونصف حتى موقعة بدر. هذا، ماعدا الدخيل عليها من أزمنة أخرى حتى آخر القرآن نزولاً كما فى آيات الربا والدين. جمع بينها وحدة النظم ووحدة الروى، وهى تمثل الأسلوب الذى انتهى اليه بالمدينة، فى فن التسميط.

_____________________________

(1) لاحظ فى هذه الرباعية الثنائية فن التسميط فيها، حيث ترد الفواصل الثلاث بالتخفيف والتنوين، على خلاف الفاصلة الخاتمة التى تأتى بالفتح والتشديد.

_________________________________________

أولاً: فصل فى المؤمنين والكافرين والمنافقين (1 - 20).

1)

آلم. ذلك الكتاب، لا ريب

الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون

والذين يؤمنون ، بما أُنزل اليك

اولئك على هدى من ربهم

فيه، هدى للمتقين

الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون

وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون

واولئك هم المفلحون!

2)

إن الذين كفروا سواءُ عليهم

ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم

أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، لا يؤمنون

وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم!

3)

 

ومن الناس مَن يقول: آمنّا

يُخادعون الله والذين آمنوا

فى قلوبهم مرضُ

ولهم عذاب أليم

واذا قيل لهم: لا تفسدوا

ألا إنهم هم المفسدون

واذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس!

 

بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين

وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون!

فزادهم الله مرضاً

بما كانوا يكذبون

فى الأرض، قالوا: انما نحن مصلحون!

ولكن لا يشعرون !

أنؤمن كما آمن السفهاءُ؟

قالوا:

 

ألا إنهم هم السفهاءُ

واذا لقوا الذين آمنوا قالوا:

الى شياطينهم، قالوا:

الله يستهزئ بهم ويمدهم

اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى

ولكن لا يعلمون!

آمنا، واذا خلوا

إنّا معكم، انما نحن مستهزئون!

فى طغيانهم يعمهون!

فما ربحت تجارتهم، وما كانوا مهتدين!

ثانياً: فصل فى الدعوة للتوحيد برهانه من الخلق ومن أنفسهم، ومن قصص آدم (21 – 39)

1)

يا أيها الناس، اعبدوا ربكم

والذين من قبلكم

الذى جعل لكم الأرض فراشاً

فأخرج به من الثمرات رزقًا

الذى خلقكم

لعلكم تتقون!

والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً

لكم، فلا تجعلوا لله انداداً ، وأنتم تعلمون!

 

2)

 

كيف تكفرون بالله وكنتم

ثم يميتكم ، ثم يحييكم

هو الذى خلق لكم ما

فسوّاهن سبع سما

 

أمواتا فأحياكم

ثم اليه تُرجعون!

فى الأرض جميعاً، ثم استوى الى السماء

واتٍ، وهو بكل شىء عليم!

 

3)

واذ قال ربك للملائكة

إنى جاعل فى الأرض خليفة

قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء

ونحن نسبّح بحمدك ، ونقدس لك ، قال: انى اعلم مالا تعلمون!

ثالثاً: الخطاب الأول لليهود (40 - 46)

يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى

واوفوا بعهدى أوف

وآمنوا بما أنزلت مصدقاً

ولا تشتروا بآياتى ثمناً

ولا تلبسوا الحق بالباطل

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة

التى أنعمت عليكم

بعهدكم ، وإياى فارهبون

لما معكم ولا تكونوا أول كافر به

قليلا، وإياى فاتّقون

وتكتموا الحق وأنتم تعلمون

واركعوا مع الراكعين

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم،

واستعينوا بالصبر والصلاة

الذين يظنون أنهم ملاقو

وأنتم تتلون الكتاب أفلا تفعلون؟

وانها لكبيرة، إلا على الخاشعين

ربهم وأنهم اليه راجعون

________________________

(1) لذلك نعتبر الآيات (23 – 28 ) فى التحدى بسورة من مثله دخيلة على السياق تقطعه وتقطعه وتقطع وحدة التأليف. فمطلع الخطاب " يا أيها الناس" (21 ) والتحدى بسورة من مثله هو للمشركين. كما أن التحدى بمثل البعوضة (26) هو للفاسقين من أهل الكتاب اى لليهود، وخطابهم يبدأ فى الآية (40).

______________________________________

خامساً: من سورة "المائدة"

سورة المائدة جدال مع اليهود، من زمن سورة آل عمران؛ فهو ليس فى مكانه. وجدال مع وفد نجران المسيحى - لا النصرانى - وهو من عام الوفود فى هذه الفترة. ويتخلل ذلك بعض التشريعات من هذه الفترة.

نأخذ مثالاً للنظم فى آخر عهد القرآن محاسبة الرسل فى يوم الدين (109 – 119) لقد فصلوا ما بين المطلع (109) وبين مشهد المحاسبة (116 – 119) بفصل فى قصص عيسى مع اليهود والحواريين (110 – 111) ينتهى بإعلان إيمان الحواريين (111)؛ وبفصل فى قصة المائدة (112 – 115) ينتهى بتحذير الحواريين من الكفر بعيسى (115). والخاتمة المختلفة فى المشهدين تجعلهما مقحمين على السياق؛ مع ما فى فاصلتهما وفاصلة مشهد يوم الدين (109 و116) من فارق فى الروى يشهد بالجمع المتنافر بياناً؛ وإن انسجم موضوعاً، بجعل تذكير عيسى بمعجزات الله فى حقة، ومعجزة المائدة، كمقدّمتين لاستجوابه فى يوم الدين. لكن العبرة بالنظم واختلاف الروى الذى يجعل الجمع متنافراً لذلك نرد المطلع (109) الى مشهد المحاسبة (116 – 119).

يوم يجمع الله الرسلَ

قالوا: لا علم لنا!

وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم

اتخذونى وأمى

قال: سبحانك! ما يكون لى

إن كنتُ قلته فقد علمته

فيقول: ماذا أُجبتم؟

إنك انت علام الغيوب

أأنت قلت للناس:

إلهين من دون الله؟

ان أقول ما ليس بحق

تعلم ما فى نفسى ، ولا أعلم ما فى نفسك

إنك انت علاّم الغيوب!

ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتنى به

وكنتُ عليم شهيداً ما دمت فيهم

 

إن تعذبهم فإنهم

عبادك وان تغفر لهم

فإنك انت العزيز الحكيم

قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم

لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار

خالدين فيها أبداً! رضى الله عنهم

ورضوا عنه: ذلك الفوز العظيم!

ان اعبدوا الله ربى وربكم

 

فلمّا توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم

وأنت على كل شىء شهيد

التالي