العروس العاملة
مقدمة سفر نشيد الأنشاد | نشيد الأنشاد 1 | نشيد الأنشاد 2 | نشيد الأنشاد 3 | نشيد الأنشاد 4 | نشيد الأنشاد 5 | نشيد الأنشاد 6 | نشيد الأنشاد 7 | نشيد الأنشاد 8 | ملخص عام
شهادة العالم له
عدم الانشغال بالخدمة على حساب العريس
حبها لعريسها يشعل حبها لاخوتها
حوار ختامييقول القديس أمبروسيوس أنه لما تأكدت الألفة بين العروس ومحبوبها أخذت تفاوضه في أمر أهلها، وأوصته بأختها الصغيرة[177]، التي تمثل البشرية غير المؤمنة. وفي نفس الوقت التهب حنين العروس لحياة الوحدة أو الاتحاد الأعمق مع عريسها، وكأن ختام المناجاة أو نشيد الأناشيد هو دخول المؤمن إلى خدمة الآخرين مع التهاب القلب بالانطلاق نحو الفردوس. إنهما إشتياقان وقد ظهرا متعارضان لكنهما في الحقيقة متكاملان ومتلازمان. يحيا المؤمن بقلب محترق من أجل كل نفس لم تتعرف على خلاصها، وفي نفس الوقت لا ينحرف قلبها عن شوقه للانطلاق ليكون مع المسيح وجها لوجه.
في بدء النشيد بدأت العروس بالإلحاح في الدخول إلى حياة الشركة معه، تود أن تختلي به أكثر فأكثر في البرية، وأخرى في الحديقة، وثالثة في الحقل والقرى، ورابعة في بيت أمها لتسقيه من خمر حبها كما أرواها هو بحبه الأبدي، لهذا تُناجيه قائلة:
"لَيْتَكَ كَأَخٍ لِيّ الرَّاضِعِ ثَدْيَيْ أُمِّي،
فَأَجِدَكَ فِي الْخَارِجِ، وَأُقَبِّلَكَ، وَلاَ يُخْزُونَنِي.
وَأَقُودُكَ وَأَدْخُلُ بِكَ بَيْتَ أُمِّي، وحجرة من حبلت بيّ[178]،
وَأنتَ[179] تُعَلِّمُنِي[180]،
فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلاَفِ رُمَّانِي" [١-٢].
إن كان هذا الأصحاح في جوهره حديث عن الخدمة، فإن أساس الخدمة وأساسها تمتع الخادم أولًا بعريس الكنيسة، حتى متى ألتقي بأخوته يشتمّون فيه رائحة "الحياة" ويتقبلون العضوية في الكنيسة جسد المسيح الحيّ.
في هذا الحديث أيضًا نلاحظ الآتي:
1. أنها تود أن تقبّله كأخ لها، الراضع ثدييّ أمها... فإنه بحسب التقاليد الشرقية القديمة ما كان يليق ممارسة القبلات علانية حتى بين الرجل وزوجته، ولا يستثنى من هذا إلاَّ الأقرباء من الدرجات الأولى كالوالدين والأخوة. لهذا تُريده كأخ لها الراضع ثدييّ أمها، فتأخذه بين ذراعيها، وتظهر معه علانية، وتقبله في حضرة البشرية كلها ولا يلومها أحد.
2. لعل سرّ دعوتها له برجاء "ليتك كأخ ليّ..." إنما تعلن عن شهوة كنيسة العهد القديم التي كانت تنظر إلى الله كمن هو في الخارج، إذ تقول "أجدك في الخارج"، تطلب إليه أن ينزل إلى جنس البشر ولا يبقى منعزلًا، بل يصير أخًا بكرًا باشتراكه معنا في طبيعتنا وحلوله في وسطنا، فنستطيع أن نتعرف عليه، ونقبله بقبلات العبادة العلنية، وندخل به إلى حياتنا الداخلية.
3. وهو أيضًا حديث كنيسة العهد الجديد التي أدركت في نضوح حبها أن السيد المسيح الأخ البكر -وهو ربها وسيدها وعريسها- يُقبله المؤمنون بقبلات العبادة الحية، ويدخلون به إلى بيت أمهم -أورشليم السماوية- ليعيشوا معه وجهًا لوجه في أحضانه الأبدية.
4. أما قولها "أنت تعلمني"... فهو كشف بطبيعة المسيحي الحقيقي والخادم الأمين، فإن كانت النفس تلتقي بعريسها وتقبله وتعيش معه في بيت أمها -الكنيسة أو أورشليم السماوية- وهناك تسقيه من خمر بهجتها الممزوجة من عصير رمانها، لكنها تبقى في أتضاع تُريد أن تتعلم... إنها في حاجة إليه ليعلمها أسراره السماوية، حتى في الأبدية حين تبقى في أحضانه تراه على الدوام جديدًا في عينيها... وكأنها من لحظة إلى أخرى -إن صح هذا التعبير إذ لا يوجد في الأبدية لحظات أو زمن- تتعلم شيئًا جديدًا عن أسراره الإلهية.
الخادم الحقيقي يبقى على الدوام في الكنيسة -بيت أمه- عند قدمي المخلص يطلب أن يتعلم، حتى إن دُعي "معلمًا" أو "أبًا" لكثيرين! في هذا يقول القديس أمبروسيوس[181]: [إننيّ أرغب الجهاد في التعلم حتى أكون قادرًا على التعليم. لأنه يوجد سيد واحد (الله) الذي وحده لا يتعلم ما يعلمه للجميع. أما البشر فعليهم أن يتعلموا قبل أن يعلموا ويتقبلوا من الله معلمهم ما يعلمون به الآخرين]. كما يقول القديس إيرونيموس: [إن الفكر الذي يتوق إلى التعلم يستحق المديح ولو لم يوجد له معلم[182]].
5. التعلم في الكنيسة -بيت الأم- ليس مجرد معرفة عقلية أو حفظ تعاليم عن ظهر قلب، لكنه في جوهره دخول إلى ممارسة "الحياة مع المسيح" لذلك تقول العروس: " فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ عصير رُمَّانِي"... هذا هو ما أتعلمه أن أرد حبك بالحب.
6. حين يدخل الإنسان الكنيسة في صحبة الرب، وهنا يجلس عند قدمي المخلص يتعلم، يُقدم الإنسان خمرًا ممزوجة بعصير الرمان... ماذا يعني هذا؟ رأينا الخمر كرمز الحياة الفرح والبهجة... فالكنيسة هي البيت المفرح الذي يستقبل الخطاة التائبين فيعطيهم الرب فرحًا داخليًا وبهجة لا تقدر الأحداث الزمنية أن تنزعها. أما الرمان فيُشير إلى حياة الجهاد، فشجر الرمان مملوء أشواكًا، وغلافه مرّ، وفي داخله بذور كثيرة، لكن عصيره يحمل نكهة جميلة وطعمًا لذيذًا. فالفرح في المسيحية يمتزج بالأتعاب والجهاد الروحي حتى النهاية.
أخيرًا تؤكد العروس اتحادها بعريسها وتعلقها به فتردد ما سبق أن قالته قبلًا:
"شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي، وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي.
أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بأيائل (قوى) الحقل،
أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ" [٣-٤].
إنها ذات الكلمات التي نطقت بها حين أعلنت أنها "مجروحة حبًا"، وقد سبق لنا شرحها[183].
لعلها أرادت هنا أن تؤكد أنها وإن قدمت كل حياتها للخدمة، لكنها في هذا لا توقف شركتها معه وانشغالها به... بل تؤكد أنها لن تسمح بشيء أو أحد أن يعوق اتحادها به، فالخدمة الحية لا تُلهي الخادم عن مسيحه بل بالحق تدخل به إلى أعماق أكثر في الحياة معه.
شهادة العالم له:
إذ يتطلع العالم إلى الكنيسة التي هي جسد المسيح والشاهدة له أمامه، يقول لها:
"مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ، كلها بيضاء[184]، مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا (قريبها)؟!" [٥].
سبق أن نطقت بنات أورشليم بكلمات مشابهة (٣: ٦) حين رأين التغير العجيب في حياة المؤمنين، وقد أعطتهن المعمودية بياضًا سماويًا وتمتعن باتكال حق على الحبيب القادر أن يرتفع بهم من برية هذا العالم ويدخل بهم إلى سمواته، والآن يدهش العالم خلال شهادة العروس العاملة أمامهم... أنها لا تدهش لمجرد كثرة العمل بل بالحري للثمر الذي في حياتها، فإن ظهور الخادم بثياب المعمودية البيضاء هو خير شهادة للعريس...
يعلق القديس أغسطينوس على هذا النص قائلًا[185]: [إنها لم تكن من البداية بيضاء، إنما صارت بيضاء فيما بعد، لأنه "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج" (إش ١: 18)]. كما يقول[186]: [من هذه الطالعة بيضاء في بهاء النور وليس بلون باطل؟!]. ويقول القديس أمبروسيوس[187]: [لقد كانت قبلًا سوداء، فكيف صارت بيضاء فجأة (خلال المعمودية)؟!].
ويعلل القديس أغسطينوس سرّ استمرار بياضها هكذا[188]: [الآن هذه التي صارت بيضاء تسلك حسنًا، لأنها مستمرة في الاتكاء على ذاك الذي جعلها بيضاء. فإن يسوع نفسه هذا الذي تستند عليه فيجعلها بيضاء يقول لتلاميذه: "بدونيّ لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو ١٥: ٥)].
ولعل هذه الدهشة لم تصب العالم فحسب، بل اجتاحت السمائيين أنفسهم إذ يرون ما يصل إليه الإنسان البشري خلال اتحاده بالسيد المسيح في جرن المعمودية، أي يرونه في ميلاده الجديد يحمل إمكانية الصعود نحو السمويات بثياب بيض. وكما وصف القديس كيرلس الأورشليمي الإنسان في المعمودية قائلًا[189]: [ترقص الملائكة حولك وهم يقولون من هذه الطالعة بيضاء في ملابسها مستندة على قريبها؟! لأن النفس التي كانت قبلًا عبدة تبناها سيدها وجعلها قريبة له]. كما يردد السمائيون القول التالي:
"تَحْتَ شَجَرَةِ التُّفَّاحِ شَوَّقْتُكَ (رفعتك)[190]،
هُنَاكَ ولدتك أُمُّكَ،
هُنَاكَ وضعتك وَالِدَتُكَ" [٥].
هذا هو سرّ صعودها من البرية كلها بيضاء مستندة على حبيبها، أنها قد وضعتها أمها وأنجبتها والدتها تحت شجرة التفاح.
لقد رأينا قبلًا أن "شجرة التفاح" تُشير إلى التجسد الإلهي، إذ ظهر الرب "كشجرة التفاح بين شجر الوعر" (٢: ٣). فخلال التجسد الإلهي أمكن للكنيسة الأم أن تنجب أولادًا لله في المعمودية، قادرين على الارتفاع نحو السمويات بالإله المتجسد... هذه هي الولادة الجديدة، وهذه هي فاعليتها في حياة المؤمنين.
هنا ربط بين التجسد الإلهي وولادتنا الروحية، فالسيد وُلد جسديًا لكي نولد نحن روحيًا. وهذا هو سرّ الاحتفال بعيدي الميلاد والعماد (الغطاس) في يوم واحد في الكنيسة الأولى...، إذ يرتبط العيدان معًا في ذهن الكنيسة.
عدم الانشغال بالخدمة على حساب العريس:
تؤكد العروس العاملة التصاقها بعريسها وسط انشغالها بخدمة القريب قائلة:
"اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ (ختم) عَلَى قَلْبِكَ،
كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ،
لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ،
الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالجحيم (كالقبرِ)[191].
لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ، لَظَى الرَّبِّ.
مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ،
وَالأنهار لاَ تَغْمُرُهَا.
إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا" [٦-٧].
إن كانت النفس قد تمتعت خلال المعمودية بالميلاد الجديد تحت شجرة التفاح، وفي سرّ الميرون ختمت بختم الروح القدس، فصارت في ملكية العريس، تحمل ختمه وسماته، فإنها تعتز بهذا الختم الذي صار لها في كل جوانب حياتها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). هذه الحياة تشعل لهيب حبها نحوه فتسأله لا أن يقبلها بين ذراعيه أو يأخذها في أحضانه الأبدية، بل تشتهي أن تلتصق به كالختم على قلبه وساعديه، لا يفصلها حتى الموت عنه.!
إنها تطلب أن تكون ختمًا على قلب العريس، فهي لا تطلب أن يكون لها مجرد موضع في قلبه بل تحتل القلب كله، وكأن الله لا ينشغل إلاَّ بها. تُريد لا أن يكون أسمها منقوشًا على قلبه، بل هي بكل حياتها مختومة عليه، فلا يقدر أحد أن يقترب أو يمحو أسمها من أمام وجه الله.
في سفر إشعياء النبي يقول الرب: "هوذا على كفي نقشتك" (٤٩: ١٦)، أما هنا فالعروس تطلب أن تكون خاتمًا على ساعده...
بهذا تستقر العروس في قلب الله "مركز العاطفة والحب" وفي ساعده "مركز العمل"، تستريح إلى الأبد على عرش محبته وعلى كرسي قدرته! هذه هي دالة الكنيسة لدى عريسها.!
أما سرّ هذه الدالة القوية فهو الحب الذي سكبه الرب في قلبنا من نحوه لهذا تقول: "المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالقبر..." وكأنها تقول له: إن الموت هين، لا يقدر أن يفصلني عن حبي لك، والمياه الكثيرة وجميع الأنهار لا تقدر أن تطفئه أو تغمره. وكما يقول الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف... فإنيّ متيقن أنا لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو ٨: ٣٨، ٣٩).
يقول القديس أغسطينوس[192]: [لا تستطيع زوابع العالم أو أمواج التجارب أن تطفئ لهيب الحب. عن هذا قيل: "المحبة قوية كالموت". فكما أن الموت متى حل لا يوجد من يقدر على مقاومته، إذ لا يقدر المولودون للموت أن يصدوا عنف الموت بأي فن من الفنون أو نوع من الأدوية، هكذا لا يقدر العالم أن يقف ضد قوة الحب.
لقد أخذ التشبيه بمثال الموت المضاد، فكما أن الموت عنيف هكذا في التدمير، كذلك الحب قوي في الإنقاذ (الخلاص).
خلال الحب مات كثيرون عن العالم ليحيوا لله].
في سط العالم قدمت العروس لعريسها ما لا يقدر العالم أن يُقاومه، قدمت قلبها لذاك الذي يجد في القلب لذته، فهي لم تقف عند حدود تقديم الخدمة والجهاد والأسهار، بل قدمت أولًا قلبها أي "حبها" كله، والذي تقول عنه: "إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا". وكأنها تردد ما قاله الرسول بولس: "إن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس ليّ محبة فلا أنتفع شيئًا" (١ كو ١٣: ٣).
إنها ليست كالزوجة التي تظن أنها تخدم زوجها حسنًا، فتبذل كل جهدها لخدمة البيت وتسلمه جسدها... لكن قلبها ليس معه! إنها تُقدم القلب أولًا، ومن خلاله لا تقدر أن تمتنع عن خدمته.!
حبها لعريسها يشعل حبها لاخوتها:
عندما قدمت حبها كله للرب أتسع قلبها لاخوتها فقامت تطلب عنهم، قائلة:
"لَنَا أُخْتٌ صَغِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا ثَدْيَانِ.
فَمَاذَا نَصْنَعُ لاُُخْتِنَا فِي يَوْمٍ تُخْطَبُ؟!
إِنْ تَكُنْ سُورًا فَنَبْنِي عَلَيْهَا بُرْجَ فِضَّةٍ،
وَإِنْ تَكُنْ بَابًا فَنَحْصُرُهَا بِأَلْوَاحِ أَرْزٍ.
أَنَا سُورٌ وَثَدْيَيَّ كَبُرْجَيْنِ،
حِينَئِذٍ كُنْتُ فِي أعينهم كَوَاجِدَةٍ سَلاَمَةً" [٨ -١٠].
هذه العبارات البسيطة تحمل دستورًا لحياة الخدمة تتلخص بنوده في النقاط التالية:
1. إدراك مركز غير المؤمنين بالنسبة للكنيسة، أنهم يمثلون "الأخت الصغيرة"، ليست أختها فحسب، بل هي أخت للعريس كما للعروس. خلال هذا المنظر لا تتعامل الكنيسة مع غير المؤمنين، حتى المضايقين لها أو المضادين للحق... وإن كانوا حتى ملحدين، على مستوى المعلم مع التلميذ بل الأخ الأكبر الذي يترفق بالأصغر. قد تخطئ الأخت الصغرى في حق الكبرى، فلتحتملها الثانية لأنها "الكبرى"، ولتعطها عذرًا لأن الصغرى ليس لها ثديان... أي لم تكتشف الحق خلال العهدين.
2. إن سرّ ضعف الصغرى أنها بلا ثديين، فعمل الكبرى تقديم كلمة الله أي العهدين القديم والجديد، لكي تتذوقهما الأخت الصغرى وتحبهما وتقتنيهما كثديين لها. هذا هو عمل الكنيسة الإنجيلي... تُقديم كلمة الله الحية لكل إنسان.
3. ماذا تفعل الكنيسة للأخت الصغرى وقد طلبها العريس كخاطب وها هي بلا ثديين؟! لتعاملها بكل عطف وحب، فلا تعيرها ولا تجرح مشاعرها وإنما تترفق بها وتقدم لها كل إمكانية. فإن كانت الصغرى سورًا تبني عليها برجًا فضيًا، وإن تكن بابًا تُحصرها بألواح الأرز... إنها تسندها بالعمل الإيجابي.
تُقدم الأخت الكبرى نفسها وحياتها للصغرى، فتقول لها إن كنتي في حاجة إلى سور يحوط حولك وبرجين يرتفعان بك... فأنا في خدمتك "أنا سور وثدييّ كبرجين". اقبلي السيد المسيح الذي في داخلي سورًا لك وكتابي المقدس ثديين يشبعانك.
4. لا يقف الأمر عند معالجة ما نقص في حياة الأخت الصغرى التي بلا ثديين، لكن الكبرى تبني عليها برجًا من الفضة وتحوطها بألواح أرز... وكأنها تسند أختها حتى تصير خادمة عاملة في كرم الرب. إن عمل الكنيسة هو الدخول بغير المؤمنين إلى الإيمان ودفعهم إلى الشهادة العملية لكلمة الله أمام الغير... بهذا يصيرون كالبرج الفضي (الفضة تُشير لكلمة الله المصفاة كالفضة، والبرج يُشير للشهادة العلنية).
بهذا تصير الكنيسة في أعين الجميع كواجدة سلامًا حقيقيًا في حياة البشرية.
حوار ختامي:
"كَانَ لِسُلَيْمَانَ كَرْمٌ فِي بَعْلَ هَامُونَ،
دَفَعَ الْكَرْمَ إِلَى نَوَاطِيرَ (حراس)،
كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَدِّي عَنْ ثَمَرِهِ أَلْفًا مِنَ الْفِضَّةِ،
كَرْمِي الَّذِي لِيّ هُوَ أَمَامِي،
الأَلْفُ لَكَ يَا سُلَيْمَانُ وَمِئَتَانِ لِنَوَاطِيرِ الثَّمَرِ.
أَيَّتُهَا الْجَالِسَةُ فِي الْجَنَّاتِ،
الأَصْحَابُ يَسْمَعُونَ صَوْتَكِ، فَأَسْمِعِينِي.
اُهْرُبْ يَا حَبِيبِي وَكُنْ كَالظَّبْيِ أَوْ كَغُفْرِ (صغير) الأَيَائِلِ عَلَى جِبَالِ الأَطْيَابِ" [١١-١٤].
1. إذ تدخل الكنيسة بالعالم إلى عريسها السيد المسيح... تدعو الكل أن يتمتع به، وهنا توضح الكنيسة مبدأ هامًا في الخدمة: إن الكرم إنما هو كرم المسيح، وهو الذي يعمل فيه خلال الكرامين، لذلك تقول: "كَانَ لِسُلَيْمَانَ كَرْمٌ فِي بَعْلَ هَامُونَ". إن الكرم ليس كرمها، بل هو كرم "سليمان الحقيقي"...
في هذا يقول القديس أغسطينوس[193]: [الله يقوم بفلاحتنا نحن كرمه... أما زرعنا فهو العمل الذي في قلوبنا، وهو لا يعمل بأيد بشرية. إنه يقوم بفلاحتنا، كما يصنع الفلاح بحقله. يقول الرب في الإنجيل: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان... أبي الكرام" (يو ١٥: ١، ٥). وماذا يفعل الكرام؟ إنه يقوم بفلاحة حقله. فالله الآب كرام له حقل يقوم بفلاحته وينتظر منه ثمرًا. ويقول الرب يسوع المسيح نفسه أنه: "غرس كرمًا... وسلمه إلى كرامين"، هؤلاء ملتزمون بتقديم الثمار في أوانها].
كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[194] تعليقًا على قول الرسول:["فإننا نحن عاملان مع الله وأنتم فلاحة الله، بناء الله" (١ كو ٣: ٩)... الحقل لا يُنسب لمن يزرع فيه بل لمالكه].
2. كلمة "بعل" تعني "سيد" أو "ملك"، "هامون" تعني "الجموع"[195]. وكأن كرم السيد المسيح، ملك السلام، إنما هو جموع البشرية... يصير ملكًا لهذه الجموع ليدخل بهم إلى سمواته.
3. لقد سلم الرب هذه الكرم لكرامين... "دَفَعَ الْكَرْمَ إِلَى نَوَاطِيرَ" لكنه لا يكف عن أن يعتني بالكرم بنفسه ويهتم به في محبة شديدة، إذ يقول "كرميّ الذي ليّ هو أمامي". يحرسه بنفسه ليلا ونهارًا (إش ٢٧: ١-٣)، لا يبخل عليه بشيء، حتى في عتاب يقول: "احكموا بيني وبين كرمي: ماذا يصنع أيضًا لكرميّ وأنا لم أصنعه له؟!" (إش ٥: ٣-٤).
4. ما هو الثمر الذي يطلبه ملك السلام؟ "كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَدِّي عَنْ ثَمَرِهِ أَلْفًا مِنَ الْفِضَّةِ". هذا ما يطلبه من الكرامين أن يقدم الكل ألوفًا، لأن الألف تُشير إلى السماء والحياة السماوية[196]. فالله لن يقبل من الخدام إلاَّ الثمر الروحي السماوي. هذا هو عمل الكنيسة ورسالة خدام الكلمة... أن يدخلوا بالمخدومين إلى الحياة السماوية.
5. إن كان الثمر يُقدم لحساب السيد المسيح فما هو نصيب الخدام؟ "الأَلْفُ لَكَ يَا سُلَيْمَانُ وَمِئَتَانِ لِنَوَاطِيرِ الثَّمَرِ". وربما قصد بالمئتين أن يكون مئة لرجال العهد القديم ومئة لرجال العهد الجديد، فالثمر كثير يتمتع به كل الخدام في العهدين. لهذا يقول الرسول بولس لشعبه: "يا سروري وإكليلي" (في ٤: ١).
6. إذ تعمل الكنيسة في كرم الرب، ويدرك العاملون أنهم يعملون لحساب السيد المسيح الذي له "الألف" وأيضًا لحساب أنفسهم فلهم "المئتان" يصيرون كمن هم في وسط الجنات. يتحول الباب الضيق والطريق الكرب إلى نير هين وحمل خفيف. يعيشون وهم على الأرض كمن في فراديس مفرحة، لذا يُناجي الرب عروسه قائلًا: "أَيَّتُهَا الْجَالِسَةُ فِي الْجَنَّاتِ، الأَصْحَابُ يَسْمَعُونَ صَوْتَكِ، فَأَسْمِعِينِي". صوت حبك لم يعد مكتومًا، بل يسمعه الذين على الأرض كما يفرح به السمائيون... والآن تعالي إلى لكي أسمع صوتك العملي المفرح، تعالي "رثي الملكوت المعد لكِ منذ إنشاء العالم".
إنها كلمات عريس يفرح قلب عروسه، ويؤكد لها أن ما تصنعه تنال ثماره على مستوى أبدي.
أما هي فتُجيبه بالفرح قائلة: "اُهْرُبْ (اسرع) يَا حَبِيبِي وَكُنْ كَالظَّبْيِ أَوْ كَغُفْرِ (صغير) الأَيَائِلِ عَلَى جِبَالِ الأَطْيَابِ". لقد سبق فرأينا لماذا تُشبه الكنيسة عريسها بالظبي وبأصاغر الآيائل... هنا تستجيب لدعوته قائلة أسرع إليّ وتعالى فإنيّ مشتاقة إليك... إن كنت تدعوني أن ألتقي بك لتسمع صوتي، فأنا أيضًا محتاجة أن ألتقي بك.
ولعل مجيئه مسرعًا على جبل الأطياب يذكرنا بالأطياب التي كُفن بها السيد، فإنه يلتقي معها خلال دفنها معه... إذ تموت معه كل يوم، لكي تحيا معه إلى الأبد.
هذا هو ختام النشيد... وكأنها تُردد ما قالته العروس في سفر أبوغلامسيس (الرؤيا): "آمين. تعال أيها الرب يسوع"!