مجتمع يثرب |
|
1ـ مجتمع يثرب قبل الإسلام. كان مجتمع يثرب قبل الإسلام مجتمعاً أمياً ساذجاً ونعنى الوصف اللغوي الاصطلاحي ، ولم تكن فيه مجالات ثقافية أو فنية تثرى الوجدان أو تصقله –باستثناء دائرة الشعر وهي ضيقة ومحدودة – كمجتمع مصر القديمة إذ كان الناس فيه مشغولين بأمور متنوعة منها : النشاط الديني البالغ التعقيد في المعابد وساحاتها وفنون العمارة والنحت والتصوير وإقامة التماثيل والمسلات واللوحات الجدارية ، وفي العلوم وأبرزها : الطب والرياضة والعلوم التطبيقية ، هذا بخلاف حرف المعيشة : الزراعة والتجارة والصناعة ؛ أو كمجتمع اليونان القديمة حيث كانت الصفوة مشغولة بالمحاورات الفلسفية والرياضات ، والعامة تنصرف إلي مشاهدة المسرحيات والاحتفاليات والمهرجانات والمسابقات الرياضية المتنوعة . في المجتمع الأمي الساذج كمجتمع يثرب قبل إعلان محمد لرسالته ؛ تشغل العلاقة بين الرجل والمرأة مساحة واسعة لدى أفراده ؛ خاصة مع حرارة الطقس وطلاقته وامتيازه بقدر من الجفاف مما يساعد على فزورة هذا الضرب من النزوع لدى الجنسين.
وليس من قبيل المصادفة أن نجد لهذا النشاط كثيراً من المترادفات يلوكونها ويتداولونها بكثرة تشعرك بأنهم يجدون لذة ومتعة وهم يرددونها بينهم منها على سبيل المثال : المباضعة ، الملامسة ؛ المضاجعة ؛ المقارفة ؛ المباطنة ؛ المعاسفة ؛ المجامعة ؛ المراودة ؛ المباشرة ؛ المخاذنة ؛ المناكحة والمواقعة وهذه الكلمات أساسها الفعل الرباعي فاعل مفاعلة وهو يعني اشتراك طرفين في الإتيان بالعمل مثل : المحاربة والمقاتلة والمصارعة..الخ.
بخلاف مصادر أخرى مثل : الرفث واللمس والإتيان والركوب والاعتلاء والامتطاء والوطء وهذه جذرها ثلاثي : ركب ؛ لمس ؛ وطأ ؛ أتي..الخ. وهذه الأخيرة تركز على دور الرجل وإبرازه فهو الذي يرفث ويلمس ويأتي ويركب ويعتلي ويمتطي ويطأ زهي أنسب لذلك المجتمع الذكوري. ومن المعلوم أن اللغة هي التعبير الأمثل عن حالة المجتمع التي تنبثق منه رقياً وانحطاطاً وهي أبلغ دلالة وأفصح إبانة من الملابس والمباني والمساكن ووسائل الانتقال. فعندما تحمل لغة عشرات الكلمات الدالة على الفعل الذي يمارس بين الرجل والمرأة فهذا يقطع بأنه ( =الفعل ) يحتل بؤرة اهتمام ذكور وإناث ذلك المجتمع الذي أفرز تلك اللغة. كان ذلك إذن هو المستوى الحضاري لـ " المجتمع اليثربي " وكان ذلك أيضاً هو مركز انشغال بالـ اليثاربة رجالاً ونسوة في الربع الأول من القرن السابع الميلادي.
وعندما هاجر محمد إلى " يثرب " عاش في حنايا ذلك المجتمع واندمج فيه وحث الذين هاجروا قبله أو معه أو بعده على الاختلاط بأهله ؛ كما رأينا في " المؤاخاة " بين الوافدين الذين سماهم " المهاجرين " واليثاربة الذين سماهم " الأنصار" تطبيقاً لخطته التي أخذ ينفذها بدأب وإحكام شديدين في قطع صلة أتباعه بالفترة السابقة ورميها في مربع النسيان ؛ وصبغ معتنقي دعوته بـ " الصبغة الإسلامية " بما في ذلك أسماء بعضهم أو كثير منهم والأماكن التي كانوا يعيشون فيها أو يمرون بها ؛ ولم يكتف بتغيير اسم اليثاربة " الأوس والخزرج " إلى " الأنصار " بل غير اسم قريتهم من " يثرب " إلى " المدينة " وحذر من استعمال الاسم القديم وفرض جزاء على من يخطئ فينطق به ؛ حتى توارى وأصبح ذكرى عابرة.
ولم يكن محمد ملكاً أو سلطاناً ؛ ولذلك لم يؤثر عنه أنه تعالى على مجتمع يثرب أو نفر منه أو تهكم عليه بل اختلط بالفاعلين فيه من الدرجات كافة وعاشرهم معاشرة كريمة ؛ ومن ثم وبعقربته الفذة أحاط به وبخباياه وعرف على الفور لا على التراخي محط تفكير اليثاربة من الرجال والنسوان ونعني به العلاقة بينهما وأدرك أن الوافدين عليه سيغمرهم طوفانه خاصة وأن المجتمع المكي الذي نشأ فيه غالبيتهم يتشابه إن لم يكن يتماثل حذوك القذة بالقذة -بالمجتمع اليثربي وكان الرباط فيه بين الجنسين أيضاً على الدرجة عينها من التوقد والتوهج . من هنا حاول محمد معالجة هذا النسق الاجتماعي الراسخ بطرق شتى منها : التشجيع على الزواج أو النكاح - وهي تسمية لها مدلولها العميق خاصة قي ذلك المجتمع الذي ابتدعها -تشجيعاً يدعو إلى الدهشة الوفيرة ؛ فهو مرة يقول لطالب الزواج ( ابتغ ولو خاتماً من حديد ) ومرة أخرى يقول ( زوجتك إياها بما معك من قرآن ) وعندما يأتي إليه أحد صحابته يعينه على إتمام نكاحه: ( فيسأله : وكم تصدقت ؟ فقال : مائتي درهم يا رسول الله ؛ قال : سبحان الله ؛ لو كنتم تأخذون من بطن واد ما زدتم ؛ والله عندي ما أعينك به ). وثورة محمد أو غضبه مردها أن ارتفاع المهور يحد من فرص الزواج ( النكاح ) وبالقدر عينه يشجع على العلاقات المنحرفة التي قاومها محمد بكل طريقة. ولهذا نراه يتلو قرأنا غليظاً عقوبة الزنا وتجئ مطابقة لمثيلها في كتاب اليهود المقدس " التوراة " : رجم المحصن وجلد غير المحصن مائة جلدة . وكان للقرآن في نفوس من دخلوا دين محمد رهبة شديدة ولآياته قداسة ما بعدها قداسة ؛ ولذلك سنجد أنه في المشكلات العضال كان فصل الخطاب فيها يأتي عن طريق آيات يقرؤها محمد على الصحابة فما أن يسمعوها حتى يذعنوا لها وللحل الذي حملته على الفور ودون معارضة أو أقل قدر من التمرد ؛ منها كيفية التصرف في اسري معركة بدر الكبرى ( أول معركة حاسمة مع صناديد مكة ) وطريقة توزيع الغنائم فيها بعد أن اختلفوا عليها اختلافاً كبيراً . ولقد حسم القرآن نزاعات متعددة بين أتباع محمد ولولاه لحدثت انشقاقات خطيرة بين صفوفهم مثل : مسألة المواريث وعلى الأخص ميراث المرأة ( أماً وبنتاً وزوجة.. ) ومثل الاصطدام الذي وقع بين الأوس والخزرج حول من تولى كبر حديث الإفك حتى إن اثنين من كبارهم تبادلا عبارات الرمي بالنفاق ( تهمة أشد لعنة من الكفر وأقسى عقوبة فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار كما في القرآن وهناك بعض المشكلات أقل أهمية - وأيضاً - حسمت بالآيات القرآنية مثل سرقة الأبيرق والظهار..الخ. ) نعود لسياق الموضوع فنقول إن محمداً في سبيل علاج جريمة الزنا قرأ قرأنا حمل العقاب الصارم لكل من يقارب تلك العلاقة المحرمة لكل من طرفيها؛ولكنه عاد بعد حين وقال إن الآية التي نصت على رجم الزاني المحصن قد نسخت تلاوتها فحسب ولكن ظل ساري المفعول أي أنها رفعت من المصحف فلم يعد المسلمون يجدونها مكتوبة فيه ولكنه فرض واجب عليهم أن يطبقوه على المخالفين المرتكبين لها بدون هوادة. يقول عمر بن الخطاب ؛ كنا نقرأ في القرآن " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " ثم نسخت قراءتها وبقى حكمها. ولم يكتف محمد بقراءة آيات من القرآن في شأن تحريم العلاقات الفالتة من قيد الزواج أو عقدة النكاح وعقاب من يقدم عليها ؛ بل هو نفسه أصدر أحاديث تبشع تلك العلاقات وتنفر منها بل ومن مقدماتها بداية بالنظرة وكانت لأحاديث محمد قدسية عند من أتبعه على ديانته وإن كانت لا تصل إلى مرتبة قداسة القرآن ؛ إلا أن المسلمين احترموها وبجلوها وأطاعوا ما تأمر به وانتهوا عما تنهي عنه لأن القرآن قرن طاعة الله بطاعة محمد. وكان استعمال محمد لأحاديثه هو كسلاح يفل به شوكة العلاقات الجوانح أوضح ما يكون في معضلة اجتماعية من أعقد المشاكل الاجتماعية التي صادفته في مجتمع يثرب وهي " مشكلة المغيبات " وهن الزوجات اللاتي يشترك أزواجهن في الغزوات والسرايا والبعوث والتجسس وعمليات التصفية الجسدية لبعض الأعداء ولهدم الكعبة وبيوت العبادة والأصنام ..الخ.
فهؤلاء الزوجات وغالبيتهن العظمى شابات كن يتشوقن إلى الوطء والمفاخذة إبان غياب أزواجهن - ولم يكن الإسلام بأحكامه المثالية قد تمكن من بعد النفوس لا في الرجال ولا في النسوان - وفي الوقت نفسه لم يكن رجال يثرب أو شبابها يخرجون للغزو بل يبقى منهم المئات وليس عندهم ما يشغل أوقات الفراغ. وكما قلنا كان هذا الأمر يستغرق كل اهتمامهم ومن ناحية ثالثة كان على محمد أن يضمن للخارج ( في الغزو أو غيره ) تغطية مسكنه وسلامة إنائه حتى يرجع وإلا أحجم الرجال على الانخراط في الغزوات والسرايا والبعوث . خوفاً على بيوتهم وإحجام الرجال عن ذلك أمر بالغ الخطورة لأن الجانب الحربي أو العسكري من الجوانب التي لا غنى عنها لمحمد بأي حال من الأحوال سواء لضمان الأمان للدولة القرشية التي أقامها في يثرب أو لتنفيذ الخطة المرسومة المدروسة وهي السيطرة على شبه الجزيرة العربية كلها وإذعانها لزعامة محمد وقيادته ولعل ذلك تحقق العام التاسع الهجري وهو ما عرف " بعام الوفود ". وسوف نرى عندما نتولى " مشكلة المغيبات " بالدراسة والتوثيق أن أحاديث محمد بشأنها مالت إلى التشديد ومضاعفة العقاب مما يقطع بعمق تلك المشكلة وأنها لم تكن أمراً عارضاً. |