الخضوع ومشيئة الله

تمهيد

الفصل الأول: تعريف الخضوع

الفصل الثاني: مجالات الخضوع

الفصل الثالث: حتمية الخضوع

الفصل الرابع: دوافع الخضوع

الفصل الخامس: أسلوب الخضوع

الفصل السادس: حدود الخضوع

الفصل السابع: تأمين الخضوع

الفصل الثامن: ثمار الخضوع

الفصل التاسع: خطورة عدم الخضوع

الفصل العاشر: اعتراضات والرد عليها

خاتمة

حمل هذا الكتاب

عودة للصفحة الرئيسية

الفصـل الثالث حتمية الخضوع



لماذا يتحتم على المؤمن أن يمارس الخضوع للسلطات البشرية؟ 

الواقع أنه يجب على المؤمن أن يخضع للسلطة لعدة أمور جوهرية منها:



1-الخضوع للسلطة البشرية وصية إلهية واجبة التنفيذ: 

سبق أن ذكرت بعض الآيات التي توضح ذلك وأذكر منها:

أ – يقول معلمنا بولس الرسول "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأن ليس سلطان إلا من الله" (رو1:13). في قوله (لتخضع) أمر واجب التنفيذ.

ب- ومعلمنا بطرس الرسول يقول "فاخضعوا لكل ترتيب بشرى من اجل الرب" (1بط13:2)


فطالما أن الخضوع هو أمر إلهي فليس على المؤمن إلا أن يطيع وينفذ ذلك، أي أنه لا يوجد خيار، فإما الطاعة، وإما كسر الوصية. 



2-السلطات البشرية هي من ترتيب الله شخصياً:

نعم كل السلطات البشرية هي من ترتيب الله إذ يقول الكتاب "والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله" (رو1:13). 

بل يقول بأسلوب في منتهى الحزم والتشدد "ليس سلطان إلا من الله" (رو1:13) 



وبهذا يكون واضحاً أمام كل إنسان أن كل شخص في سلطة قد وضعه الله بنفسه. من أجل ذلك يتحتم على المؤمن الخضوع لكل سلطة بشرية وإلا سيكون مقاوماً لترتيب الله كما أكد معلمنا بولس الرسول قائلا: "حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله. (رو13:2).



3- الخضوع لهذه السلطات هو خضوع لله نفسه:

الواقع أن الله هو صاحب السلطان المطلق كما يقول الكتاب "سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول" (دا14:7) ولكنه حمَّل أشخاصاً معينين مسئوليات متنوعة لتنفيذ خطته وتحقيق أهدافه، وفوض لهم سلطات تكفل سير العمل بحسب فكره الإلهي. وهذا ما قصده الرب يسوع في مثله القائل "كأنما إنسان مسافر ترك بيته وأعطى عبيده السلطان ولكل واحد عمله.) (مر34:13)

ولهذا قال بولس الرسول "فإنـى وإن افتخرت شيئاً أكثر بسلطاننا الذي أعطانا إياه الرب لبنيانكم لا لهدمكم لا أخجل". (2كو8:10)

إذن فطالما أن الله هو الذي أعطى التفويض بهذه السلطات فهي من سلطانه هو وهي تعبر عنه شخصيا، لذلك فالخضوع لهذه السلطات المفوضة خضوع للسلطة الأساسية المطلقة أي خضوع لله نفسه. 



4-الخضوع للسلطات منطلق إيماني امتدحه السيد المسيح: 

عندما جاء قائد المائة للرب يسوع طالباً شفاء عبده قال للمسيح "أنا أيضا إنسان مرتب تحت سلطان" (لو8:7) ومن هذا المنطلق الإيماني بالخضوع للسلطات طلب من الرب يسوع أن يقول كلمة فيبرأ غلامه. فما كان من السيد المسيح إلا أن شهد له قائلا "لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا" (لو9:7).

فقد امتدح الرب يسوع المسيح هذا الرجل على إيمانه والبرهان الذي أورده بأنه خاضع لسلطة عليا ومنها يستمد هو نفسه سلطته فيستطيع أن يأمر فيطاع. 



5-الخضوع للسلطات برهان الأيمان الحقيقي: 

المؤمن الحقيقي هو الذي يثبت في الإيمان إلى النهاية، عاملاً بوصايا الرب متحفظاً من الخطايا التي تودي إلى الدينونة. إذن فهو يتحفظ من خطية التمرد على السلطات التي يرتبها الرب وإلا وقع في الدينونة إذ يقول الكتاب "حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة" (رو2:13). 


6-الخضوع للسلطات دليل النضوج الروحي: 

النضوج الروحي هو موت الإنسان عن ذاته وعن مشيئته وإرادته، ليعيش الرب يسوع المسيح فيه كقول معلمنا بولس الرسول "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل20:2).



فتصبح مشيئة الله هي السائدة على حياته ولسان حاله يقول "لتكن لا إرادتـي بل إرادتك" (لو42:22).



وحيث أن الله ينفذ إرادته من خلال السلطات التي فوضها كما يقول الكتاب عن صاحب السلطة "لأنه خادم الله للصلاح" (رو4:13) إذن فالخضوع لهذه السلطات هو الخضوع لمشيئة الله فيهم وهذا يستلزم بالضرورة الموت عن المشيئة الذاتية وهذا هو النضوج الروحي. 



7- الخضوع للسلطات هو أحد طرق معرفة مشيئة الله: 

يقول الكتاب "اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله" (عب7:13) ويكمل الحديث بخصوص المرشدين في نفس الإصحاح قائلا "أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعظون حسابا لكي يفعلوا ذلك بفرح غير أنين لأن هذا غير نافع لكم" (عب17:13) فقد أعطى الله المرشدين الروحيين تفويضاً أن يتكلموا بكلمة الله ساهرين على النفوس مقدرين مسئوليتهم كأنهم سوف يعطون حساباً، فالخضوع والطاعة لهم تعطى الفرصة للمؤمن أن يتعرف على مشيئة الله. 



8- الخضوع للسلطات هو أحد الطرق التي يستخدمها الله لصقل المؤمن: 

فالكتاب المقدس يقول "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين. فأي ابن لا يؤدبه أبوه. ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول (أي أبناء غير شرعيين) لا بنون. ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم أفلا نخضع بالأولى جداً لأبى الأرواح (أي الله) فنحيا، لأن أولئك (أي آباؤنا) أدبونا أياماً قليلة حسب استحسانهم وأما هذا (أي الله) فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته، ولكن كل تأديب في الحاضر لا يرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام" (عب5:12ـ10). 



فالله يستخدم سلطة الأبوين لتأديب وتهذيب الأبناء وتربيتهم لهذا نراه يوصيهم بذلك قائلاً "أدب ابنك لأن فيه رجاء" (أم18:19) ويقول أيضاً "الجهالة مرتبطة بقلب الولد. بعصا التأديب تبعدها عنه" (أم15:22) 



وعلى هذا القياس نري الرب يتعامل مع المؤمنين بتسليط عصا السلاطين لصقلهم فيقول "أنا أكون له أبا وهو يكون لي إبناً. إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بـنى آدم)" (صم14:7)



بل لقد استخدم الله ملوكا وثنيين وفوضهم السلطة لتأديب شعبه وصقلهم والأمثلة عديدة نقرأ منها عن استخدام الرب لملك الكلدانيين ليقوم بمهمة تأديب بني إسرائيل إذ يقول الكتاب "فأرسل الرب اله آبائهم إليهم عن يد رسله مبكراً ومرسلاً لأنه شفق على شعبه وعلى مسكنه فكانوا يهزؤون برسل الله ورذلوا كلامه وتهاونوا بأنبيائه حتى ثار غضب الرب على شعبه حتى لم يكن شفاء فأصعد عليهم ملك الكلدانين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم ولم يشفق على فتى أو عذراء ولا على شيخ أو أشيب بل دفع الجميع ليده … وأحرقوا بيت الله وهدموا سور أورشليم وأحرقوا جميع قصورها بالنار وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة" (2أخ36: 15ـ19)



عجيب أن يسمح الرب بكل ذلك بالقتل والسبي حتى إحراق بيته!! نعم لأجل تأديب شعبه وصقل حياتهم. من أجل هذا قال الحكيم "اسمع المشورة واقبل التأديب لكي تكون حكيماً في آخرتك" (أم20:19) 



هذه هي بعض الأسباب الجوهرية التي تحتم على المؤمن الخضوع للسلطات البشرية على أنها مفوضة من الله لتنفيذ خططه وتحقيق مقاصده.



من أقوال الآباء القديسين

عن حتمية الخضوع



(1) من أقوال القديس غريغوريوس السينائى: 

[من المستحيل على أي ناسك أن يتعلم بنفسه فن الفضيلة، ولو أن البعض يستخدمون تجربتهم الخاصة كمعلم. لأن كلا منهم يتصرف وفق ميله بدلاً من اتباع نصيحة هؤلاء الذين نجحوا، هذا التصرف يؤدى إلى الغرور والاعتزاز بالنفس حيث "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل لأنه مهما عمل ذاك فهذا يفعله الابن كذلك" (يو19:5) والروح القدس "لا يتكلم من نفسه" (يو13:16) فمن الذي يستطيع أن يفكر أنه وصل إلى ذروة الفضيلة وليس بحاجة إلى مشير وسط هذه الأسرار؟ مثل هذا الإنسان في ادعائه يبدوا أنه أكثر حمقاً وأقل صلاحاً. وبناء على ذلك يجب أن نصغي إلى هؤلاء الذين جربوا بأنفسهم آلام وأعمال الفضيلة النشطة، ومارسوها تحت إشرافهم وهى: الصوم الانقطاعى والتقشف، والصلاة المستمرة، والاتضاع غير المصطنع، وانسحاق القلب الدائم]. (القديس غريغوريوس السينائى) 



(2) من أقوال القديس كاليستوس: 

[كأولاد النور، وورثة الله وشركاء في ارث المسيح، حسب الوعد الإلهي، يجب أن نتعلم من الله نفسه (يو45:6) ويجب أن يكون العهد الجديد منقوشاً في قلوبنا بدرجة تفوق الوصف، وبحروف اكثر ضياء من اللهب، ويتسلط الروح القدس الحق الكريم علينا. 



لكننا من جهة، منذ طفولتنا ضللنا عن الصلاح وملنا نحو الشر، ومن جهة أخرى تعلمنا من غواية بليعام الجبار وعداوته غير المائتة أن نبتعد عن حفظ وصايا الله التي تخلص النفس، حتى تدفع هنا وهناك في تيارات تحطم النفس. وفضلاً عن ذلك مما يدعو إلى الرثاء والأسى، أنها تغرينا على التفكير والتصرف ضد ذواتنا إذ يقول الكتاب "هل من فاهم طالب الرب" (مز2:14) هكذا انحرفنا جميعاً عن طريق الحق وأصبحنا دنسين شهوانيين مجردين من النعمة ولذلك نحن في أشد الحاجة إلى أن يساعد بعضنا البعض كي ما يرشد كل منا الآخر نحو الصلاح].

(كاليستوس) [نفس المرجع السابق ص 196].