حارة النصارى

وبالتأكيد لم يكن الطلاق هو نهاية المشكلات في هذه الأسرة المنكوبة بنكبة عائلها …………………

……… فبعد أن وقع الطلاق لم يلتزم عبد الرازق بنفقة أولاده …… وتضاعفت مشكلات الزوجة والأبناء …… ولما كانت زينب امراءة جميلة وفى أوائل عقدها الثالث فسرعان ما أصبحت مطمع الكثير من رجال الحارة …… وعرض عليها الكثير من رجال القرية الزواج بها فرفضت …… لكى لا تعيد ما فعله زوجها وتصبح امراءة ثانية مع رجل يحيا في بيته ووسط أسرته … ولكى تستطيع الاضطلاع بتربية أولادها … ولكن كانت الشكوك تطاردها كلما خرجت للعمل هنا أو هناك …… وسرت هذه الشكوك بسرعة النيران حتى خاف السادة المسلمين من أن تصبح زينب وسمة عار في جبينهم أمام مسيحي الحارة …… فعرضوا عليها أن تلزم دارها لقاء مبلغا من المال سيقام بجمعه لهذا الغرض الأمر الذى اعتبرته إهانة لكرامتها ..وما كان منها إلا أن وقفت على باب دارها وهى تقول :

ـ أنا أشرف م الشرف نفسه ومش هامد ايدى لحد طول ما أنا فيا نفس وهاشتغل وهاشقى على ولادى وأعلى ما فى خيلكم اركبوه … هوه ايه لا بترحموا ولا بتخلوا رحمة ربنا تنزل .

ولم يجب عليها أحد من الحارة …… هب كعادته دائما المعلم فوزى وعرض على زينب أن تساعده في محله حيث كانت زينب على قدر م الذكاء الفطرى علاوة على أنها ملمة بالقراءة والكتابة ووعدها براتب مجزى ووافقت على الفور إذ أن هذا العمل افضل من الخبيز ودخول بيوت الناس الأمر الذى يدفع لخروج الإشاعات عنها من فترة لأخرى …… ولكن اعترض طريقها كبار رجال الحارة … لكنها لم تستسلم لضغوطهم .

ـ عاوزينى ما أشتغلش عند المسيحى هاتولى انتوا شغل يامسلمين ولاهوه احنا بتوع كلام وبس … ماله المعلم فوزى …… صحيح هوه مسيحى بس راجل ونعم الرجالة بيضربه المثل في أدبه وأمانته وولاده ماش الله واحد دكتور والتانى مهندس ( مازالوا طلبة ولكن جرت العادة على دعوتهم بألقابهم منذ دخولهم الكلية ) ……

وبدأت تشعر بكيانها …… وتستشعر أن لها حقوق غافلة عنها في زحام أحداثها "فرفعت" قضية نفقة بأثر رجعى لعام ونصف العام ولم يقدر زوجها على دفع شئ وأقام هو الأخر قضية ضم للأولاد الولدان والبنت ……… !!

وعلمت زينب بذلك فجن جنونها ولم تستطع عمل شئ أخر ولكنها قررت مساومته فطلب عبد الرازق منها التخلى عن القضية "النفقة" في مقابل التنازل عن قضية الضم فرفضت فأخذ الأولاد وتعهد للمحكمة بجدولة ما عليه من التزامات النفقة .

وعلمنا بعد ذلك أنه تورط في تجارة المخدرات وبدأ يستخدم أولاده في هذه التجارة مقابل الإنفاق عليهم ……… وتحت اصرار زوجته الثانية على إعادة الأولاد الى زوجته الأولى ولأنها لم تعد قادرة على خدمتهم ولا على رؤيتهم التى دائما تذكرها بأنها امراءة ثانية … وخيرته ما بين طلاقها أو إرجاعهم لزوجته فما كان منه إلا أن أعادهم الى أمهم … ولكن سبق السيف العزل فقد أدمن الولدين المخدرات ونجت البنت صفاء من براثن والدها وزوجة الأب وقضى الولدين ما تبقى من عمرهم نزلاء في السجون وهنا يسدل الستار على هذه العائلة لتعود المشاكل مرة أخرى ولكن في ثوب جديد …… فخطيئة الأب ترفض أن ترحل إلا بوداع الام لكل أبنائها .

فبعد مرور السنين تكبر الصغيرة صفاء لتصبح فتاة جميلة وسرعان ما خرجت للعمل لمساعدة والدتها ويوما بعد اليوم استطاعت الحارة بأسرها أن ترى الفتاة وقد ارتفعت بطنها معلنة عن خطأ أخلاقى تحمل به … !!

وبدأت الإشاعات تملاء الحارة كلها فالقرية عن تورط ابن المعلم فوزى في علاقة آثمة بالبنت … وحضرت الشرطة للتحقيق في الواقعة ولكن زينب أنكرت وكانت المفاجأة عندما هبت الفتاة معلنة الحقيقة بالاعتراف والإفصاح عن صاحب الجريمة الذى لم يكن ابن المعلم فوزى ………

………………… الى هنا لم أفق إلا على صوت المؤذن يعلن موعد آذان العصر وقد استقر القطار الذى أقله على المحطة قبل الأخيرة في رحلتى الى قريتي …

كان صوت المؤذن أقرب في مسامعي إلى صوت عم " عبد الباسط " ( شيخ جامع الفتح ) الذي كان على مشارف قريتنا وبالتحديد بالقرب من حارتنا . لقد بنى هذا المسجد خصيصاً بالقرب من قريتنا التي حرمت من المساجد لعهد قارب الخمسون عاماً كما يحكي أكابر رجالات البلدة ولكنه بني الآن ملاصقاً لهذا البناء الجديد الذي جاء زائراً ثقيلاً على صدور أهالينا " الكنيسة " …

وقد علقت على هذا المسجد مكبرات الصوت من جميع اتجاهاته لبعث الصخب والضوضاء على ذلك التأثير الموسيقي الذي ينبعث من نوافذ الكنيسة وإخماد ما قد ينبعث منها من أصوات ……

ولم يكن الجديد الذي دخل قريتنا هو هذا المبنى ( الكنيسة ) بل كذلك كنت قد طالعت لأول مرة ذلك الرجل المتشح بالسواد ذو اللحية الكثيفة والعمامة السوداء وخشن الثياب … !!

وكانت تتم كل ليلة عدة دروس دينية في المسجد يقوم بها " عم عبد الباسط " … لم أكن قادر على الاستماع إليه في كثير من الأحيان إذ أن الله قد حباه بمجموعة من الأحرف الساقطة من نطقه .. الأمر الذي دفع الجميع لمخاطبة العمدة وعضو مجلس الشعب … فتطور الأمر إلى إرسال وزارة الأوقاف عدد من الشيوخ للاضطلاع بخطبة الجمعة مناوبة مع " عم عبد الباسط " وكذلك للاستعانة بهم في بعض من هذه الدروس التي تلقى يومياً من بعد صلاة العصر وتستمر حتى آذان المغرب ثم بعد المغرب درسين حتى آذان العشاء .. وينتهي هنا اليوم …

ولا أنسى هنا أن أضيف أن هذا المتنفس الذي قد تفتق به ذهن القائمين على العملية الدينية قد كان بمثابة السهام الحربية الشريفة التي تنطلق في صدور من نبغي بهالة القداسة .

وفي ظل هذا الانتشار الديني كما ابتغاه أصحاب فكرة إنشائه انتقلت المشاكل الاجتماعية في منازل أهل الحارة من المسلمين إلى المسيحيين وبالتحديد في منزل كمال السباك . كان رجلاً على خلق طيب ولكنه كان مدمن للخمر وكانت زوجته تتغيب كثيراً عن المنزل غاضبة لأيام ثم تعود ولكن لم نكن ندري ماذا كان يدور بداخله … ربما كانت المشكلة هذه المرة أعمق بكثير من كل ما سبق بينهم في رحلة العمر .. الأمر الذي استدعى فيه قس القرية لحل مشكلة بمنزل أحد المسيحيين في سابقة هي الأولى من نوعها .

لم يكن من عادة المسلمين التدخل في مثل هذه الظروف الصعبة المتصاعدة في منازل المسيحيين ولكنهم كانوا يراقبون عن كثب وعن قرب وأحياناً يرسلون الأطفال لاستجلاب الأخبار المفصلة ولكن في مثل هذه الحالة فالأمور واضحة ومسموعة وبينة …

كانت زوجة كمال كثيرة الشكوى منه منذ سنوات وفي بعض المرات كانت تغادر المنزل بضعة أيام وتعود إليه بعد تدخل رجال الدين لكن الوضع لم يتغير فمازال زوجها كما هو لم يتغير ولذا قررت عدم الاستمرار معه … وفشلت محاولات القس الزائر وبعد مضي ما يقرب من ساعتين شاهدنا زوجة كمال تحمل حقيبتها في يدها وتغادر المنزل في هدوء وخلفها ولديها .

ـ يا خوانا واحدة مش عاوزة جوزها هو بالعافية ؟

يطلقها وخلاص وكل واحد يروح لحاله ويروح يراضي أبونا بقرشين !!

( كانت هذه العبارة منطلقة من فم صالح وهو شخص خفيف الظل سريع البديهة . كان مسلماً ولكنه محبوباً من المسيحيين كما من المسلمين رغم نقده اللاذع للمسيحيين ولكن نقده كان نابع من القلب …

تهكمه طاهر برئ غير مملوء حقد أو كراهية .. لذلك كان كلامه مقبول لدى الجميع مهما كان . قال صالح هذه العبارة عندما كان يجلس مع بعض رجال الحارة المسلمين لدينا بالمنزل والتقط صالح الحديث بعبارته هذه التي رد عليها والدي ) :

ـ طلاق إيه يا صالح هم دول عندهم طلاق زينا … كل ما واحد ولا واحدة تزعل من جوزها تقول طلقني .. ما هيبقى الطلاق زي اللبانة في بق كل واحد .. ما تشوف يا أخي ايه اللي حصل لعبد لرازق من ورا الطلاق اياكش هو بس شريعة ربنا

( شعر صالح بأن الحديث سيتجه إلى الشق الجاد فلم ينسى أن يتبادل الحوار مع والدي مبتدئاً بنكتة عن لشيخ والأسيس ثم تابع )

والله يا حاج هو إن جيت للحق الطلاق ده مصيبة يخرب الدنيا السليمة . واحد يطلق ويروح يتجوز وهي تتجوز وهوه يخلف وهي تخلف وهي عندها عيال منه وهو أصلاً عنده عيال منها ودول يلاقوا أم من غير أب ودول يلاقوا أب من غير أم ولو جدع طلعلي مين فيهم ابن مين ؟

( ضحك الجميع )

ومرت الليلة ككل لياليكِ يا حارة النصارى … كانت الأهداف المرجوة من دروس الجامع قد أتت ثمارها إذ قد جانب مسلمين الحارة جميع محلات البقالة التي يمتلكها المسيحيين ، ليس في الحارة وحدها ولكن امتدت العدوى للقرية بأكملها وليست البقالة فقط بل امتدت تقريباً لكل الحرف التي يعمل بها المسيحيين .

وابتدأت حمى مقاطعة المسيحيين تأخذ منحنى جديد في تطور مطرد إذ قد بدأ الصراع يأخذ لوناً ومذاقاً مختلفاً ولم يكن الاختلاف في الصراع فقط بل أخذ ينبئ عن تجذر الأحقاد في لقلوب فلم تعد مضايقاتهم هي الدافع بل الحقد مرة ودروس المسجد مرة والحضور الاقتصادي لهم في وسط الحارة مرات ومرات . وبدأت مشاورات جديدة في منزلنا للتخطيط والإجهاز على المسيحيين في عقر دارهم … في " لقمة عيشهم " .

ـ اسمع يا حاج إبراهيم بقى إنت عارف إن الأسطى نعيم الترزي واكلها والعة في البلد كلتها مش بس في الحارة وفلوسنا كلها رايحة لجيبه .. وإنت برضوا راسي إن دا ما يرضيش ربنا

ـ طبعاً … طبعاً يا حاج .. بس ايه اللي أنا ممكن أعمله ؟

ـ أنا عرفت إن ابن أختك ترزي شاطر

ـ أيوه يا أبو محمد بس ده في السعودية

ـ ما إحنا عارفين يا حاج إبراهيم . إنت تديلنا العنوان واحنا هنتصرف

ـ حاضر يا حاج حالاً أجيب لكم العنوان … بس انتوا ناويين تعملوا ايه إنشاء الله ؟

ـ هنبعت نجيبه يا سيدي وها نفتح له محل في الحارة جنب المعلم عبده الجزار وهنجيب له أحسن ماكينة خياطة من غير ما يدفع ولا مليم .

عندها إنصرف عم إبراهيم خارجاً ثم سرعان ما أرسل العنوان لوالدي الذي كلف أحد أبناء الحارة بكتابة رسالة عاجلة بنفس المضمون وبعد خمسة عشر يوماً جاء الرد بموافقة الأسطى عبد السلام على عرض الحارة وحدد موعداً أقصاه شهراً للحضور ومنذ ذلك الوقت بدأ الإعداد للافتتاح المرتقب يتم على قدم وساق وبلا توقف وقد تكاتف جميع مسلمي الحارة حينئذ للمساعدة في خروج هذا العمل للنور حتى المعلم عبده الجزار المعروف بالجشع والذي رفض قبل ذلك الكثير من العروض التي كانت تنهال عليه للتنازل عن ملحق محله بأعلى الأسعار طمعاً في أسعار أعلى تنازل عنه اليوم مقابل ما يقل عن ربع ما كان يعرض عليه للتنازل عنه في السابق … وقال " كويس إن الواحد يعمل حاجة لله "

وفي أقل من خمسة عشر يوماً تم تجهيز المحل وشراء أحدث ماكينة خياطة ووضعت على المحل لافتة عنوانها " خياطة التوحيد " .

وعاد " الأسطى المنتظر " حسب الموعد الذي حدده وجاء ليتسلم المحل في احتفالية صاخبة لم تخلو من الإثارة والاستفزاز .

وانهالت على المحل الطلبات الكثيفة لدرجة اعتقد فيها أن الأسطى المنتظر لو كان الطلب عليه هكذا في السابق لما فكر في الانتقال إلى السعودية مطلقاً . وكان مبغى جميع سكان الحارة عندما يريدون ثياب جديدة هو " خياطة التوحيد " … وللحقيقة كان هناك بعض زبائن للأسطى نعيم مترددين في تركه نظراً لمهارته الفائقة ودقة مواعيده وكانوا من أغنى الزبائن بل من أغنى أغنياء الناس في البلدة ويمثلون مصدراً مهماً لدخل الأسطى نعيم ولكنهم تعرضوا لضغوط شديدة كانت مفادها الامتناع عن الذهاب للأسطى نعيم والاتجاه المباشر للأسطى الموحد !!!

ولم يتسرب الركود إلى محل نعيم بل إن الركود قد داهم " دكانه " وذهب كالطبيعي يشكو حاله هذا لرجالات الحارة طالباً منهم التدخل وكانت هذه الشكوى مشفوعة بعروض تخفيض للأسعار في مصنعيته ولكن دون جدوى وحرمت الحارة لفترات طويلة من أحد أفراد اللوحة التي كانت ترسم يومياً في ساعة العصر عندما يعود جميع أصحاب المحلات المسلمين والمسيحيين إلى منازلهم من السوق حاملين معهم ما قد اختاروه لأولادهم من فاكهة وخلافه فلم يظهر بهذا الكادر الأسطى نعيم من بعد ذلك اليوم أبداً .

وعندما أحس أفراد الحارة بأن خطتهم نجحت وأتت ثمارها ، أحضروا الأسطى نعيم الذي بدأت علامات المرض ترتسم على وجهه فليس ما يعانيه الأسطى نعيم هو قلة الأموال فقط ولكن إحساسه أنه مهمل بل ومضطهد ، كان السبب الرئيسي في إبراز كل ملامح الهرم التي أخذت في طريقها إلى كل تجاعيد وجهه ورقبته . عرضوا عليه أن يبيع محله لهم لكنه رفض بشدة بل عرض عليهم تكوين ما يشبه الشركة بينه وبين الأسطى عبد السلام هو بخبرته وهم بإمكانياتهم وبهذا سيساهمون في حل المشكلة إن كانوا حقاً يبتغون حلها وجاء الرد عليه بالرفض وأصروا على طلبهم ببيع المحل وما كان منه إلا أنه رفض وأصر على التمسك بذكرياته التي كان يحيكها منذ الصبا مع كل قطعة ملابس كانت تخرج من بين يديه … وقرر الأسطى نعيم أن يظل كما هو بل أيقن أنه لابد من المحافظة على تلك الذكريات التي لم يبقى سواها . ولكن لم يطل إصرار الأسطى نعيم طويلاً .. فالفقر لا يعطي مساحات لأن تفكر أو تتشبث فالفقر والعوز هو سهم الانهيار الذي يخترق جدار عمرك فيصيب عمق قلب ذكرياتك وآنيتك ويمتد إلى نظرة عينيك في غدك . هكذا بدأ نعيم يعي … وبعد أن ضاقت به عينيه وضاقت به الدنيا جاء إلى والدي !

ـ يعني يرضيك كده يا حاج أولادي يموتوا من الجوع .. ده يرضي ربنا يا حاج ؟

ـ طب وأنا هأعملك ايه بس يا نعيم ؟ أروح أقول للناس خيطوا عند نعيم بالعافية ؟ ترزي وابن الحارة وإيده أحسن من إيدك وسعره حلو .

ـ ( قاطعه نعيم ) عموماً يا حاج إنت عارف كويس إنتم عملتم كده ليه فيَ وعلى العموم أنا جاي لك النهارده ابلغك إني مستعد أنفذ أي حاجة عايزني أعملها . يعني الدكان لو عايزين تشتروه هأبيعهلكم .

ـ لا يا سطى ! إحنا خلاص مش عاوزين الدكان ولا عاوزين منك حاجة

ـ بس أنا عاوز يا حاج

ـ عاوز إيه يا اسطي ؟

ـ يعني هتعمل يا حاج اللي أنا عاوزه ؟

ـ لو هاقدر

ـ أنا عايز أشتغل مع الأسطى عبد السلام حتى ولو صبي

ـ لا أنا عارف الأسطى عبد السلام مش هيرضى يشغل حد مسيحي عنده

ـ ليه ؟ وإيه اللي دخل الدين في الشغل بس يا حاج ؟

ـ لا لا لا يا أسطى ، الدين عندنا إحنا بيدخل في كل حاجة

ـ هو مش القرآن بيقول " لكم دينكم ولي ديني "

ـ لا .. مالكش دعوة بالقرآن وم الآخر يا نعيم لو عايز يبقالك أكل عيش في الحارة دي .. اسلم .

وكانت هذه الجملة بمثابة البوابة التي دخلت منها جميع فيروسات الاضطهاد الديني المعلن بجرأة بداية من أعيننا وحتى مداهمتها لمنازل المسيحية من الداخل .

امتلك أهل الحارة زمام الأمور وليس مع نعيم فقط ولكن بالقدر الذي مكن والدي بعد كل هذا التحرش بالمسيحيين لديه القدرة على المجاهرة بأسلمة المسيحيين أظن أنه أمر يدفعك إلى فهم ديناميكية الاضطهاد .

أكمل والدي حواره مع نعيم بعد سكوت نعيم الغير معلوم .

ـ إنت لما هتسلم هتكسب .. وهتضرب عصفورين بحجر .. زباينك هترجعلك وكمان هتدخل الجنة لأن ربنا بيقول في كتابه " إن الدين عند الله الإسلام " وكمان بيقول " في كتابه " فإن تابوا وآمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " ولما تسلم هتبقى إيه مش الأسطى نعيم بس ، لأ هتبقى أخونا ليك اللي لينا وعليك اللي علينا .. فكر .. فكر يا نعيم على مهلك وإنت حر .

وانصرف الأسطى نعيم من دون إبداء لأي رأي بل من دون أن يهمس حتى بكلمة .

ومضى وقت طويل دون عودة الأسطى نعيم بقرار .. والشئ اللافت فعلاً للنظر هو أن ما يحدث كان على مسمع ومرأى جميع مسيحيي الحارة الذين لم يتحرك لهم ساكن . الأمر الذي ينبئ عن أن جميع الأفعال التي كانوا يقومون بها مع المسلمين في السابق من وقوف بجانب ذوي الاحتياجات أو ظهورهم في الشدائد كان محاولة لصنع مبرر للتواجد الشرعي بالحارة . فلم ينهض أحد لمساعدة نعيم أو وضع حد لما كان يتعرض له من مهازل … حتى جاء اليوم الذي طار فيه هذا الخبر الذي أصم جميع الآذان المسيحية عندما جاء الأسطى نعيم طالباً إشهار إسلامه .

ويومها خيمت على جميع السكان المسيحية سحابات الصمت السوداء بل والانكسار الذي صاحب هذا الإعلان المباغت من الأسطى نعيم فهم لم يتوقعوا مطلقاً أن يفعلها وكأنه في موقف اختيار !!

وجاء الاثنين الأسود على سكان حارة النصارى - النصارى - في شهر ربيع الأول في هذا الحدث الجلل السنوي المولد النبوي .

وفي خضم الأعداد لهذا الحدث جاء الأسطى نعيم طالباً إشهار إسلامه الأمر الذي تم بأسرع من سرعة كالبروق التي توالت على نصارانا بل قبل إتمام المراسيم القانونية أسرعوا بأن أحضروا له جواداً أبيض إمتطاه الفاتح الأعظم وقد زين بالأعلام الخضراء وكتب عليها " عبارة التوحيد " لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وطاف الأسطى نعيم كل أرجاء القرية وكانت تصاحبه المزامير والطبول التي تدق بصخب ويطول الوقوف أمام جميع المنازل المسيحية بالقرية أجمعها .

ويرد المشيعون لا إله إلا الله محمد رسول الله في هتاف أقرب إلى هتاف جنودنا في حرب السادس من أكتوبر … الجميع يتشاركون ويتقاسمون الأدوار ، الأطفال يتسابقون في قذف النوافذ الزجاجية بالأحجار بوابل لا ينقطع إلى ما هو أكثر حدة واستفزاز من ذلك والمسيحيون لم يجرؤ أي منهم بالقرية كلها على الخروج وكأنهم أعلنوا الحداد بعد فوات الأوان .

وغاص الأسطى نعيم في نعيم الحياة الجديدة فعاش أحلى وأسعد أيام حياته إذ قد تدافع الناس على طلبات عدة وتكاثرت زبائنه وأعيد طلاء المحل له مرة أخرى وعلقت على جدرانه الآيات القرآنية وتم تغيير اسمه من " نعيم شنودة " إلى " محمد عبد الله " وكان كلما ذهب للمسجد للصلاة يقابل بحفاوة الأبطال واستقبال الفاتحين .

ولم يدم فرح الأسطى نعيم طويلاً ولم تكن فترة سعادته توازي المساحة التي اخترقها بداخله بترك دينه . فبعدما حصلت الحارة منه على ما تريد … بدأ رجال الحارة يعاملونه على أنه مواطن درجة خامسة فكان كلما ذهب يشكو لأحد شيوخ الحارة يطلبون منه الصبر ومحاولة تفهم الموقف .

وبدأ إتجاه محمد نحو الإسلام يفتر .. فلم يعد يراه أحد يذهب للمسجد كما كان ولم يعد يقابل بالحفاوة البالغة كما كان بالسابق .

وكلما مررت من أمام محل محمد عبد الله لا تجد لديه من الإسلام سوى بعض الآيات القرآنية المعلقة في أرجاء المحل وأيضاً هذه البقعة الدماغية السوداء التي تتوسط جبهته تعبيراً عن مداومته للصلاة ، ولكنها لم تشفع له لدى أهل الحارة الذين لم يكونوا على استعداد لمناصرة الدخيل الجديد على ابنهم الأصيل وهكذا إلى هنا أسدل الستار على قضية محمد عبد الله الذي نحل جسده وبدا عليه الشحوب كمن يحمل كل مشاكل العالم وأخذت فكرة الانتحار تداعب الأسطى " نعيم " - أقصد محمد عبد الله - كثيراً كما كان يصرح مراراً بأن حال الانتحار كان أهون عليه مما رآه ولمسته أحاسيسه من مهانة وازدراء .

وبينما أهل القرية عامة والحارة على وجه الخصوص منفكين لا يتحدثون في تجمعاتهم إلا عن قضية الأسطى نعيم حتى بدت تسري في القرية والحارة معاً شائعة مدوية لها أثر النار في الهشيم تقول هذه الشائعة أن شاباً من القرية كان صديقاً لآخر مسيحياً وكان يدرسان معاً في الجامعة ويسكنان معاً في المدينة الجامعية للطلبة وأن ذاك الشاب المسلم قد أصبح مسيحياً .

بقي لنا أن نعرف أن شائعة مثل هذه تحمل في ذاتها احتمالات اليقظة لكل عداوة واضطهاد دفين في كل من الفريقين الذين من كثرة ما اعتدت على رؤية مواقعهم الحربية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تصديق فكرة أزلية هذا العداء .

وبمرور الأيام كانت تلك الشائعة تزداد وتنتشر بقوة … ولكن ما هي قصة هذا الشاب ؟!

هناك في منتصف الحارة تماماً يقع منزلاً من أعرق وأقدم وأجمل وأثرى بيوت الحارة ، هذا المنزل يمتلكه الحاج علي عبد الرحمن وهو من أكبر التجار المعروفين ليس بالقرية ولا بالحارة فقط ولكن في البلدة بأسرها وكان من المقربين للصف الأول من عتاة السياسة وأصحاب مقاليد الأمور في بلدتي .

كان للحاج علي عبد الرحمن ولدان وإبنة صغيرة ، الولد الأكبر وهو عما د والثاني وهو " عبد الرحمن " صاحب شائعة التنصير

حمل هذا الكتاب

الصفحة الرئيسية

 الاولى
الثانية
الثالثة
الرابعة
الخامسة
السادسة
السابعة
الثامنة
التاسعة
العاشرة
الاخيرة

الصفحة الرئيسية