. وبما أننا قد تناولنا خبر المقامات ، فهنا نتكلم عن الكهنة ، والكهانة .والكهان هم وسطاء بينهم وبين الآلهة ، فهم المطلعون على الأسرار ، وهم العالمون بالغيب وهم الذين اختصوا بالمعرفة بين سائر الناس . يقضون بالأمر ، ويزينون للناس أعمالهم أو ينهونهم عنها ويخاطبون أرواح الأشجار والأحجار ، وينطقون باسم الأوثان والأصنام التي كثيراً ما كانوا سدنتها وحفظتها . ولا غرو إذا ما نظر إلى الكهنة نظرة ملؤها الإكبار والتقدير والاحترام ، وربما نظرة التعظيم والتقديس على أنهم آلهة أو أنصاف آلهة ، خصوصاً إذا ما راحوا يستنطقون الأرواح ويستلهمون الحكمة والوحى ثم يزجونه كلاماً مرصوفاً مسجعاً ذا فواصل صوتية متشابهة متناغمة تبعث على الإعجاب والدهشة والرهبة : ومن ألوان هذا السجع الديني ، جاء في وصف ( ربيعة بن ربيعة) ليوم النشور، بقوله . " يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، يسعد فيه المحسنون ، ويشقى فيه المسيئون" . وهو ذات الرجل الذي يقسم بصدق قوله :" والشفق والغسق ، والفلق إذا اتسق ، إن ما أنباءك به لحق ".أما ( شق بن صعب ) فيصف ذات اليوم بقوله :"يوم تجزى فيه الولايات ، يدعى فيه من السماء بدعوات ، يسمع منها الأحياء والأموات ، ويجمع فيه الناس للميقات ، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات " . ويقسم ( أبن صعب ) لسائله بأنه يقول الحق :"ورب السماء والأرض ، وما بينهما من رفع وخفض ، أن ما أنبئك به لحق، ما فيه أمض" والكاهن هو الذي يشرف على الاحتفالات الدينية وينظم الطوافات الاستعراضية ، ويشهد تقديم القرابين للآلهة الأصنام . هذا فضلاً عن استشارة القوم له في بعض الأمور الخاصة والعامة ، ورجوعهم إليه في الأحداث الجسام والأمور العظام . ففي المنافرات والمنازعات كان الكاهن يحكم فيؤخذ برأيه وينصاع الجميع إلى حكمه . ولقد ذكروا أن أمية بن عبد شمس ، وكان حسد عمه هاشماً على ماله ، فدعا هاشماً إلى المنافرة فرضى هذا الأخير مكرهاً على أن يتحاكما إلى الكاهن الخزاعى . وكان ذلك ، فغلب الكاهن هاشماً على أمية ، مصدراً قراره سجعاً يقول:" والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر ، وما اهتدى بعلم مسافر ، من منجد وغائر ، قد سبق هاشم أمية إلى المفاخر". أما هاشم فأخذ إبل أمية فنحرها وأطعمها من حضره ، وأما أمية فخرج إلى بلاد الشام فأقام بها عشر سنين تنفيذاً لحكم الكاهن .[ جواد على : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 4: 71] . . ولما كان الكاهن هو صاحب الرؤية النافذة والروح الشفافة القادرة على الامتزاج بروح الملاك والجني والهاتف ، فإنه جمع إلى صفة الكهان صفة السيادة بل الربوبية كما هو الحال مع زهير بن جذيمة " رب " بنى عيسى ، وكان تابعه من الجن ، ومع زهير بن جناب " سيد " كلب [ الأغاني 1.: 38 ] على أنه ربما كانت كلمة " رب " مأخوذة من " رب البيت " الذي هو الأساس رب القبة أ ى صاحب القبة التي كانت تضم في داخلها الإله المعبود - وكان من الكهان المعدودين سواد بن مقارب ، والمأمون الحارثى كاهن بنى الحارث بن كعب وعزى بن سلمة ، وعوف بن ربيعة كاهن بنى أسد .....الخ . - ومن الكاهنات الزرقاء ابنة زهير ، وفاطمة الخثعمية بمكة ، وكاهنة ذي الخلصة ، وقطبة كاهنة الحجر في خيبر ، وهى التي جاءها عبد المطلب جد محمد ليأخذ مشورتها في مسألة النذر المتعلق بذبح ولده عبد الله [ ابن الأثير : الكامل في التاريخ 2: 3 ] . ومنهن أيضاً امراءة من سهم يقال إن صاحبها جاءها ذات ليلة فأنقبض تحتها وقال :" أدر . يوم عقر ونحر " . ثم إنه جاءها صانية فقال :" شعوب شعوب ، تصرع فيه كعب لجوب ". ويقولون إن قريشاً لم تستطع فك رموز هذا السجع حتى كانت وقعة بدر ووقعة أحد بالشعب [ جواد على : المفصل في تاريخ العرب 4: 71 ] * ونقترح لمن يريد الاستزادة الرجوع إلى كتاب . [ الشرك الجاهلي وآلهة العرب المعبودة قبل الإسلام / الدكتور يحي شامي ] . وبالإضافة إلى جميع هذه الآلهة أعتقد العرب بإله خالق الكون ، هذا الإله هو الله . وليس من شك في أن العرب كانوا أول الأمر يؤدون الشعائر الدينية إلى تلك الآلهة التي كانت أقرب إليهم من الله ، رب العالمين العظيم ، حتى ظهر الإسلام في مكة ، أخذ الله يحتل شيئاً فشيئاً محل هبل ، الإله القمري القديم ، كرب للكعبة . لهذا السبب لم يتردد أحد الشعراء المسيحيين في الحيرة ، وهو " عدى بن زيد " في أن يدعوه بعد المسيح شاهداً على قسم . وكان يعتبر بصورة خاصة ولى الضيوف الغرباء ، وإن قدمت واجبات الفرد نحو قريبه على واجباته نحوه ( أي نحو الله ) . والبدوي يعتبر القضاء المحتوم إرادة الله الثابتة التي لا مبدل لها
|
|