المزمور المئة والتاسع عشر

(118)

غنى كلمة الله ولذتها

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج

إلي أبي الحبيب

المتنيح القمص بيشوي كامل

أهديك هذا التفسير، فقد تحولت حياتك المملوءة آلامًا إلي مزمورٍ مفرحٍ، وصارت كتابًا مقدسًا عمليًا مفتوحًا أمامنا.

الله الذي أعانك يعيننا.

القمص تادرس يعقوب ملطي

عيد نياحة القمص بيشوي كامل

السابع عشر 21 مارس 1996م.

 ملاحظة:

كثير من أقوال العلامة أوريجينوس ويوسابيوس القيصري والقديس البابا أثناسيوس الرسولي وأبوليناريوس التي لم نشرْ إلي مصدرها مترجمة عن Source Chriétienne .

 

- مقدمة

 

- كلمتك دائمة في السموات [89 -96].

- تطويب الطاعة بقلبٍ غير منقسمٍ [1 -8].

 

- كلماتك حلوة في حلقي [97 -104].

- الوصية... كنز خفي [9 -16].

 

- مصباح لرجلي كلامك [105 -112].

- الوصية... عزاء في الغربة [17 -24].

 

- عضدني حسب قولك [113 -120].

- إحيني ككلمتك [25 -32].

 

- لا تسلمني إلي الذين يظلمونني [121 -128].

- اهدني في سبيل وصاياك [33 -40].

 

- عجيبة هي شهاداتك [129 -136].

- الشهادة لكلمة الله [41 -48].

 

- عادلة هي شهادتك إلي الأبد [137 -144].

- كلامك عزّاني في مذلتي [49 -56].

 

- قريب أنت يارب [145 -152].

- ترضيت وجهك بكل قلبي [57 -64].

 

- بعيد هو الخلاص عن الخطاة [153 -160].

- خير لي أنك أذللتني [65- 72]

 

- سلام عظيم للذين يحبون اسمك [161 -168].

- أحكامك عادلة [73 -80].

 

- علمني، أعني، ابحث عني! [169 -176].

- رجاء وسط الظلمة [81 -88].

 

 

غنى كلمة الله ولذتها

مزمور كلمة الله

هذا المزمور هو أطول أصحاح في الكتاب المقدس، يبدو أن لا علاقة له بأية مناسبة خاصة بالكنيسة اليهودية أو الأمة اليهودية1، إنما يمجّد وصية الله، ويكشف عن كرامتها وسموها ونفعها؛ كما يعلن عن التلذذ بناموس الرب، ويشهد عن سمات الكتاب المقدس من جوانب متعددة، وذلك في شكل صلاة. قراءة هذا المزمور تكشف عن مفهوم داود النبي لكلمة الله، التي كانت مركز تفكيره واهتمامه وحبه، ولهجه ليلاً ونهارًا.

في كل المزمور يوجد فقط عددان (122، 132) لا يتحدثان عن كلمة الله.

يقسم البعض سفر المزامير إلي خمسة أقسام تقابل أسفار موسى الخمسة، وقد جاء هذا المزمور في القسم الخامس الذي يقابل سفر التثنية وهو سفر الوصايا أو سفر "الكلمة الإلهية".

يقول J. R. Church2: [يقع هذا المزمور في الكتاب (القسم) الخامس من سفر المزامير، وهو يطابق الكتاب الخامس لأسفار موسى، أي "التثنية". لعلك تتذكر العنوان العبرى للتثنية وهو "دابار Dabar" (يعني "كلمة") "مأخوذ عن تث 1:1 "هذا هو الكلام ".[

يقسم المرتل البشرية إلي صنفين:Sermon 7:1.

أ. الأتقياء، وهم الذين يرتبطون بكلمة الله، ليدركوا أرادة الله ويتمموها. إنهم يصلون بغيرة طالبين النمو في الحكمة الإلهية والتمتع بالفهم كعطية إلهية، كما يثابرون على طلب نعمة الله لكي تسندهم على ممارسة الوصية لعلهم يبلغون حياة الكمال. هؤلاء يختبرون الحياة المطوَّبة بالرغم من مقاومة الأشرار لهم، وتتحول كلمة الله بالنسبة لهم إلي تسبحة مفرحة تحمل عذوبة خاصة.

حياة هؤلاء الأتقياء بما تحمله من قدسية ونقاوة مع استنارة وحكمة تكشف.

عن صدق كلمة الله وقوتها. إنها شهادة حية وكتاب مقروء من الجميع، يترجم كلمة الله في حياة المؤمن التي ترفعه من مجدٍ إلي مجدٍ حتى تدخل به إلي كمال المستقبل المجيد.

ب. الأشرار، وهم الذين يرفضون كلمة الله ويقاومونها، كما يقاومون من يتمسك بها، لكن خططهم تنتهي حتمًا بالفشل وينهزمون.

تسبحة التسابيح!

يتطلع آباء الكنيسة إلي سفر المزامير بكونه قلب الكتاب المقدس، يقدم لنا كلمة الله بلغة التسبيح والفرح حتى في أحلك اللحظات! ويترجم لنا السفر الشركة الحقيقية مع الله بلغة السمائيين وسط الواقع المرّ الذي يعيشه المؤمن.

هذا المزمور هو أنشودة النفس التي تتمتع بكلمة الله وتختبر فاعلىتها في حياتها اليومية، وبه تستعد لملاقاة العريس السماوي. لهذا يحتل المزمور مركز الصدارة في صلاة نصف الليل حيث تتجه الصلوات نحو مجيء العريس... وكأن الكنيسة تجد في هذا المزمور عزاءها بعد إجهاد اليوم كله وتعب الليل، فتتغنى للعريس "كلمة الله" الذي يأتي إليها ليحملها معه إلي شركة أمجاده.

يقول القديس أغسطينوس: [هذا المزمور عميق جدًا، لا أستطيع الوصول إلي عمقه. ومع هذا فهو لا يحتاج إلي مفسرٍ، لكنه يحتاج إلي من يقرأه ومن يسمعه.]

يقول Venn: [هذا هو المزمور الذي غالبًا ما كنت ألجأ إليه حين كنت لا أجد في قلبي روحًا للصلاة، بعد مدة تلتهب النار فيّ وأستطيع أن أصلي1.]

يتحدث هذا المزمور عن الشريعة الإلهية كسندٍ للمؤمن في غربته، فيرى فيها:

1. سرّ تعزيته وسط آلام البرية [16، 47، 103].

2. سرّ تسبيحه وتهليل نفسه [54].

3. سرّ غناه الداخلي [72].

4. قائدة النفس ومرشدة لها وسط مضايقات الأعداء [16، 61، 62].

5. سرّ حياته [25].

6. سرّ الاستنارة [105، 135].

7. أخيرًا تقدم له الوصية في روحها وأعماقها شخص المخلص، كلمة الله المتجسد، لذا يقول المرتل: "لكل كمال رأيت حدًا، أما وصاياك فواسعة جدًا" [96].

v     تحمل الوصية في داخلها السيد المسيح؛ من يدخل إلي أعماقها ويعيشها بالروح يلتقي بالكلمة الإلهي نفسه.

القديس مرقس الناسك

سمات هذا المزمور

1. مدرسة صلاة: يعتبر هذا المزمور مدرسة صلاة نموذجية، تكشف عن حياة الصلاة من خلال الواقع الحيّ الذي عاشه المرتل، القائل: "أما أنا فصلاة" مز4:109. يمكننا من خلال هذا المزمور أن نكتشف كيف مارس المرتل الصلاة.

أ. لا يفصل المرتل بين ناموس الرب الروحي أو وصيته أو كلمته وبين عبادته، خاصة الصلاة. فإن كان المزمور في جوهره هو تمجيد للوصية الإلهية إلا أنه قطعة صلاة رائعة. وكأن غاية الوصية هو دخولنا إلي الاتحاد مع الله القريب منا، بل والساكن فينا، نحاوره ويحاورنا، نناجيه ويناجينا، كما أن غاية الصلاة هو التمتع بطوباوية الطاعة الكاملة للوصية، حيث بالصلاة نطلب أن ينعم الله علىنا بمشيئته عاملة فينا.

ب. في هذا المزمور نكتشف "وحدة الإنسان"، فلا يعرف المرتل ثنائية في حياته، إنما يشترك الجسد مع النفس، ويتناغم القلب مع الفم واللسان. فمن جهة يحرص المرتل على صلاة القلب الكاملة، إذ يقول:

"من كل قلبي طلبتك، فلا تبعدني عن وصاياك" 10.

"أخفيت أقوالك في قلبي" 11.

"فهمني فأبحث عن ناموسك، واحفظه بكل قلبي..."

"أمل قلبي إلي شهاداتك" 34،36.

"ترضيت وجهك بكل قلبي" 58.

"ليصر قلبي بلا عيب في عدلك، لكي لا أخزى" 80.

"صرخت من كل قلبي فاستجب لي" 145.

ومن جهة أخرى لا يتجاهل المرتل صلاة الفم واللسان ليشترك الجسد مع القلب:

 "تفيض شفتاي السبح إذا ما علمتنى حقوقك،

ينطق لساني بأقوالك... " 171.

هكذا يرى المرتل في كل كيانه قيثارة متنوعة الأوتار تقدم سيمفونية حب عملية خلال حياة الصلاة والطاعة يشترك فيها الجسد مع النفس!

ج. مع كل نسمة من نسمات حياته يرفع المرتل قلبه للصلاة، فيتقدس كل زمان عمره بعمل الله فيه، لذا نراه يصلي كل حين [20]، طول النهار [97]، سبع مرات في النهار [164]، وفي الليل [55]، كما في نصف الليل [62]، وفي السحر [148]، وفي الصباح [147].

 د. يناجى المرتل الثالوث القدوس، فيتحدث عن الآب [90،73] والابن [176] والروح القدس [131].

يمكننا تلخيص موضوع صلاة المرتل هنا في الآتي:

v     لكي يكشف له الله عن وصاياه.

v     لكي يعطيه فهمًا لإدراك أعماق الوصية.

v     لكي يتمتع بالنعمة الإلهية فيجد عذوبة في الوصية الصعبة فيشتاق إليها.

v     لكي يمارس الوصية الإلهية وينمو فيها.

 2. هذا المزمور أساسًا هو مزمور تعلىمي أو إرشادي، وفي نفس الوقت هو تسبحة وصلاة، إذ يصعب فصل التعليم الروحي عن العبادة. ويعلق القديس يوحنا الذهبى الفم على هذا المزمور، قائلاً: [دعْ الفم يرنم والعقل يتهذب، فإن هذا ليس بالأمر القليل. فإننا ما أن نعلم اللسان التسبيح حتى تخجل النفس من أن تسلك طريقًا مضادًا لما تسَّبح به1.]

يقول القديس جيروم: [المزمور 118 (119) أبجدي في تكوينه، أخلاقي في سماته، ويحوي إرشادات لحياتنا2.]

3. يتطلع البعض إليه كمزمورٍ ليتورجي، يخص العبادة العامة.

4. يرى العلامة أوريجينوس أن استخدام المزمور للحروف الأبجدية كلها في بداية المقاطع بالترتيب يشير إلي احتوائه "اللاهوت الأدبي كله"، كما يقول: [على حسب معرفتي لا يوجد أي موضع آخر تناول موضوع "اللاهوت الأدبي" بإسهاب كما تناوله هذا المزمور.]

ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن هذا المزمور يكشف لنا عن منهج حياة القديسين في جوانبها الثلاثة: الحرب الروحية، النعمة الإلهية، التمتع بالأمجاد الأبدية، إذ يقول:

[يصف المرتل في هذا المزمور منهج حياة القديسين:

v     المحاربات والآلام والتجارب والهجمات الشيطانية وتسلل آلاف الأفكار والشِباك والفخاخ.

v     لكنه أيضًا يصف كل ما يسمح بالنصرة والغلبة: الناموس والتعلىم والصبر والعون القادم من العلى.

v     وأخيرًا يصف ما يحل بعد المتاعب من المكافآت والأكاليل.]

5. السمة المميزة لهذا المزمور هي الاقتناع العميق بأن حفظ وصايا الله لا يقوم على الجهد البشرى، إنما يحتاج إلي نعمة الله التي تهب الأرادة المقدسة والقدرة على تنفيذها كما تعطى لأولاد الله عذوبة لا يُنطق بها في التمتع بكلمته، لهذا تحقق هذا المزمور بطريقة عجيبة خلال نعمة الله التي وُهبت لنا في العهد الجديد لكي تنقش الوصية في قلوبنا (إر 31:31 -33).

الوصية ليست مجرد إرشادات مسجلة في كتاب أو نسمعها خلال كلمة وعظ، وإنما هي عطية الروح القدس القادر وحده أن يسجلها في أعماقنا، فنختبرها كروحٍ وحياةٍ، ونتلمس فاعلىتها في أعماقنا.

الوصية في حقيقتها هي خبرة "الحياة المقامة"، لذلك كثيرًا ما يردد المرتل العبارة: "حسب قولك فأحيا"... هذه هبة روح الله الذي يعطينا شركة مع المسيح القائم من الأموات، لنقول: "أقامنا معه" أف 6:2، أي يهبنا الحياة المقامة الجديدة.

6 . يناسب هذا المزمور جميع المؤمنين في كل العصور، فهو يمثل صرخة النفس المتعطشه لله كي تعمل كلمته فيها، وتحميها من تجارب العدو الذي يحاربها من الداخل كما من الخارج. غير أن كثيرين يرون أنه مزمور يلائم بالأكثر الشباب الذين يسألون الرب الاستنارة الداخلية والقوة للعمل والجهاد بنعمته الغنية تحت قيادة كلمته العذبة.

7. يرى البعض أن الناموس أو كلمة الله هنا تحتل مكانة الله نفسه، وفي الحقيقة ابتداء من الآية 4 فصاعدًا ماعدا الآية 115 فإن كل آية هي مناجاة أو صلاة مقدمة لله1، باستخدام أنواع عديدة من التوسل. إننا نمجد الناموس الإلهي، لأنه يعبر عن الله نفسه ويعلن عن أرادته للإنسان، هذا ولا يمكن فصل "كلمة الله" عنه بكونه أقنوم إلهي وهو واحد مع الآب والروح القدس في ذات جوهر الطبيعة الإلهية.

ما يؤكده المرتل هنا هو أنه بقدر ما نقترب من الكلمة الإلهية نقترب من الله نفسه، وبقدر ما نحيا فيها نحيا مع الله.

8. يحمل المزمور طابعًا تأمليًا، حيث تظهر مشاعر المرتل وظروفه في شكل صلوات وتعجبات!

9. يقول كلارك: [كثير من القدامى، خاصة الآباء اليونان، يعتبرونه ملخصًا لحياة داود، حيث يعبَّر فيه عن كل الحالات التي مرّ بها، بما تشمله من محاكمات واضطهادات ومساعدات وتشجيعات تلقاها. ويرى الآباء اللاتين في المزمور أنه يشمل كل مبادئ السلوك الخاصة بالإنجيل، وأنه يحكم سلوك الإنسان في كل موقف من مواقف الحياة2.]

يرى البعض أن داود لم يكتب هذا المزمور في ظرف معين واحدٍ، وإنما كان أشبه بمذكرات يومية3، بدأها في شبابه واستمر فيها حتى شيخوخته. كل المؤمنين مدعوون للتأمل فيه لكي يجد كل واحدٍ نفسه فيه مرة ومرات، متأملاً في قيمة كلمة الله الثمينة وعذوبتها ومجدها.

احتفظ داود بمذكراته هذه مبرزًا أن كلمة الله هي موضوع سنده ولهجه وعذوبته منذ شبابه حتى شيخوخته، وها هو يقدمها لنا كي نقبل كلمة الله بكونه "الأول والآخر، البداية والنهاية" في كل حياتنا (رؤ 8:1).

10. يرى البعض أن السيد المسيح هو المتحدث في هذا المزمور. يقول J. R.Church: [يشير هذا المزمور بروح النبوة إلي ربنا يسوع المسيح الذي قُدم في إنجيل يوحنا انه "كلمة الله"]. كما يقول أيضًا: [يوجد سبب آخر يجعلني أحسب المزمور 119 يشير بروح النبوة إلي يسوع المسيح. فهناك ثمان آيات لكل من الإثنين والعشرين مقطعًا (استيخون Stanza) التي لهذا المزمور، وأن رقم 8 هو الرقم الأوحد "للبداية الجديدة" (اليوم الأول من الأسبوع)، مشيرًا إلي أنه لا يوجد آخر سوى يسوع المسيح، فإن اسم "يسوع" في اليونانية يعادل رقم 888 وذلك مقابل رقم ضد المسيح 666 المذكور في رؤيا 18:13.1] ويقول Arno C. Gaebelein [إن رقم 8 هنا يشير إلي "الحياة من الموت"، فإن السيد المسيح لم يقم في اليوم السابع بل في الثامن، هذا يقدم لنا مفتاح السفر.2]

ويرى العلامة أوريجينوس أن استخدام رقم 8 هنا له معناه الخاص، فإنه إذ يحوى المزمور 22 مقطعًا، وكل مقطع يبدأ بحرف من الأبجدية العبرية بالترتيب لكونه يضم كل اللاهوت الأدبي، فإن استخدام الحرف ثمان مرات يعني الدخول إلي كمال النقاوة والمعرفة، لأن النجاسة استمرت لمدة سبعة أيام حيث حُسب العالم أغلفًا، إلي أن جاء السيد المسيح وأختتن في اليوم الثامن فتمتعنا فيه بالطهارة والنقاوة .هذه الطهارة تحققت بعمل قيامة السيد المسيح، إذ قام في اليوم الثامن أو الأول من الأسبوع الجديد. يقول العلامة أوريجينوس [لقد تطهرنا جميعًا دون استثناء في ختان السيد المسيح، نحن الذين دُفنا وقُمنا معه كقول الرسول بولس (رو 4:6).]

يلاحظ أن هذا المزمور أبجدي يضم 22 استيخونًا (مقطعًا) حسب عدد حروف الأبجدية العبرية، كل استيخون يحوي 8 عبارات تبدأ كلها بحرفٍ واحدٍ، وقد جاءت الحروف مرتبة ترتيبًا هجائيًا بالعبرية.

واضع المزمور

يرى بعض الدارسين الحديثين أن هذا المزمور من وضع عزرا الكاتب الذي اهتم بتجميع أسفار العهد القديم بعد السبي، فسجل هذا المزمور ليعبر عن فاعلىة كلمة الله في حياة المؤمنين. غير أن التقليد اليهودى وأيضًا المسيحي ينسب المزمور لداود النبي، وقد نادى كثير من المفسرين المحدثين بذات الرأي.

الكلمات الإرشادية (مفتاح السفر)3

يستخدم هذا المزمور مرادفات متعددة "للإعلأن الإلهي" تصف كلمة الرب؛ يرى البعض أنها ثمانية، بينما يضيف إليها البعض المرادفين "طريق الرب، وحق الرب". وهي ليست مرادفات حرفية لغوية مجردة، إنما تشير إلي خصائص معينة لكلمة الله، توضح سموها وكمالاتها المتعددة.

1. الشريعة (الناموس أو التوراة torah): الكلمة العبرية (توراة) تعنى بالأكثر أسفار موسى الخمسة؛ وقد تكررت هذه الكلمة 25 مرة، وردت في كل استيخون (قطعة) فيما عدا الاستيخون "ب". المعنى الحرفي لكلمة "التوراة" هو "التعلىم"، أي التعلىم الذي استلمه موسى على جبل سيناء. وقد ترجمها اليهود الهيلينيون "أصحاب الفكر اليوناني، "نوموس"، أي "الناموس"1.

جاءت الكلمة مشتقة من فعل معناه "يوجه"، "يقود"، "يهدف"، "يصَّوب إلي قدام". هكذا تُدعى كلمة الله "شريعة الرب" أو "ناموسه"، لأنها توجهنا أو تقودنا إلي التعرف على أرادة الله المقدسة، لكي تربطنا بالحياة المطوّبة (مز 1:1) وتهبنا سلام الله وحقه الإلهي خلال الطاعة له.

يلزمنا الخضوع لناموسه بكونه ملكنا الذي يقود حياتنا بقانون مملكته؛ لكنه في هذا لا يطلب لنفسه سلطانًا علينا بل يعلن أرادته لكي نحملها فينا لبنياننا وتقديسنا.

يحدثنا هذا المزمور عن حالة التطويب التي يعيش فيها الساكنون في شريعة الرب، فمن هم هؤلاء السالكون في ناموس الرب إلا الذين يتَّحدون بالسيد المسيح الرأس، الذي وحده بلا عيب، وقادر أن يهب جسده الطاعة لناموسه، لا على مستوى الحرف القاتل بل الروح الذي يبني؟! والطاعة لشريعة الرب هنا لا تعني التنفيذ الحرفي لطقوسها، إنما تتميمها في المسيح يسوع بعمل الروح القدس فينا، الذي هو روح المسيح. فلا يستطيع إنسان بذاته أن يتمم شريعة الرب أو ناموسه، لذلك صار الكل في حاجة إلي عمل السيد المسيح الذي تممه من أجل الذين هم تحت اللعنة، لأنه مكتوب: ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" غلا 10:3.

v     ها أنتم ترون كيف يبرهن أن الذين يلتصقون بالناموس هم تحت اللعنة، إذ يستحيل علىهم أن يتمموه (غلا 10:3، 11)، ثم كيف جاء الإيمان يحمل قوة التبرير هذه... استبدل المسيح هذه اللعنة بلعنة أخرى: "ملعون كل من عُلق على خشبة"... لم يأخذ المسيح لعنة عدم التقوى بل اللعنة الأخرى، لكي ينتزع اللعنة عن الآخرين. "على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" إش 9:53. إذ بموته خلص الأموات من الموت، هكذا بحمله اللعنة في نفسه خلصهم منها2.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     لم يُعطَ الناموس لشفاء الضعفاء، وإنما للكشف عن ضعفهم وإظهاره (غلا 19:3)... لقد تسلموا الناموس الذي لم يستطيعوا أن يتمموه. لقد عرفوا داءهم، والتمسوا عون الطبيب، مشتاقين أن يبرأوا إذ عرفوا أنهم في كربٍ، الأمر الذي ما كانوا يعرفونه لولا عدم قدرتهم على تتميم الناموس الذي تسلموه.3

القديس أغسطينوس

 2. الشهادات (إيدوث edoth): وتعنى شهادة الله عن أرادته أو الكشف عنها لكي يسلك المؤمن حسبها. ويرى بعض الآباء أنها تعني الشهادة الإلهية عن الحب الحقيقي نحو الإنسان والذي تحقق في كماله عندما شهد السيد المسيح الشهادة الحسنة أمام بيلاطس بنطس، مسلمًا حياته مبذولة من أجل الإنسان. وتتحقق الشهادات بقبولنا هذا الحب وتجاوبنا معه بالحب، فنشهد عنه بتقديم حياتنا ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله (رو 1:12).

يُدعى الكتاب المقدس "شهادة (عهد) الله"، إذ يحوى شهادة عن فكر الله وأرادته، كما يحوى شهادة عن وعود الله لشعبه وتحقيقها خلال الصليب. هنا أيضًا إشارة إلي تابوت الشهادة أو تابوت العهد. فمن لا يحفظ وصايا الله لا يُحسب حافظًا لعهده معه بل كاسرًا له.

3. الفرائض أو الأوامر (Piqqudim): وردت 21 مرة في هذا المزمور، في كل الاستيخونات ماعدا ثلاث منها، كما وردت ثلاث مرات في أماكن أخرى في الكتاب المقدس، وهي تفيد الالتزام بواجب معين.

يرى البعض أن الكلمة العبرية مشتقة من كلمة معناها "تعهد أمر ما في يدٍ أمينة موضع ثقة"، أي أن يعهد إلي الإنسان بأمورٍ إلهية تخصه، كي يمارسها كمسئولٍ ومُلتزمٍ، وذلك بدافع من ضميره الداخلي وأمانته.

يرى آخرون أن الكلمة مشتقة من كلمة معناها "يلاحظ"، "يهتم بشئ ما"، "يصغي"، "يُقدِّر الأمر"، لأن غاية الفرائض الإلهية هي رعاية طريق الإنسان بواسطة الله الذي يهتم به ويصغي إليه بكونه موضع تقديره. وفي نفس الوقت تعلن الوصايا عن واجبنا وتوجهنا لنحيا ونسلك كما يليق بتقدير الله لنا.

4. الحِكَمْ (chuqqim): تكررت في كل الاستخونات ما عدا أربع. جاءت في المؤنث في آية 16، 19 مرة في الآيات 5 - 171.

الكلمة مشتقة من فعل معناه "ينحت" أو "ينقش" بكونها حِكَمْ لها أهميتها الكُبرى، تُنحت كعلامات في الطريق نتبعها، وأي انحراف عنها يؤدي بحياتنا إلي الضلال والتيه والهلاك.

السيد المسيح هو الحكمة الحقيقية الذي ينقش صليبه في قلوبنا كعلامة للطريق الملوكي، وهو يهبنا روحه القدوس الذي لا ينقش وصايا أو حِكَمْ على ألواح حجرية بل ينحتها في قلوبنا، قادرة أن ترفعنا إلي الحياة السماوية كما بجناحي حمامة.

5. الوصايا mitsvot: وردت 22 مرة في هذا المزمور، ذُكرت في جميع الاستيخونات ماعدا ثلاث. والكلمة تحمل معنى السلطان، فقد عهد الله بها إلينا بكونه صاحب سلطان لنطيعها، نعرف ما نقبله وما نرفضه.

يقدمها الله لنا كوديعة، علامة تقديره لنا، فنرد حبه لنا بطاعتنا له، أي نرد الحب بالحب.

6. الأحكام misphatim: وردت هنا 23 مرة، في كل الاستيخونات ماعدا في اثنين. تعنى واجبًا يُوضع على عاتق الإنسان بحكم إلهي أو بقرار من الله.

جاءت الكلمة عن فعل معناه "يحكم" أو "يدين" أو "يقرر"؛ فالأحكام تعنى قرارات إلهية شرعية يلزم الكل بالخضوع لها، وهي تحكم كل تصرفات الإنسان من جهة أفكاره وأحاسيسه ومشاعره وعواطفه وعلاقاته بجسده وبإخوته وبالخليقة كما بالله، إنها تنظم حياته لا خلال شرائع حرفية وإنما خلال الفكر الروحي الإلهي.

دُعيت أحكام، لأنه يجب أن تكون دستورنا في الحكم على كل الأمور الخفية والظاهرة، وبموجبها أيضًا يديننا الله.

7، 8. الكلمة والأقوال: في العبرية يوجد تمييز واضح بين الاصطلاحين (dabar و imrah). جاءت "الكلمة" 24 مرة في المزمور، في كل الاستيخونات ماعدا ثلاث؛ و"الأقوال" 19 مرة، في كل الاستيخونات ماعدا أربع.

يدعى الكتاب المقدس كلمة الله أو أقواله، تصدر عن فمه، ويعلنها لنا. والكلمة تعنى إعلأن الله عن فكره؛ والسيد المسيح هو الكلمة السرمدي الواحد مع الله في جوهره ومساوٍ له، هو عقله الناطق أو نطقه العاقل. شتان ما بين كلمة الله وكلمة الإنسان، فالله كلمته ليست خارجة ومنفصلة عنه، أما كلمة الإنسان وأقواله فتخرج عنه وتتلاشى.

يقول القديس أكليمنضس الإسكندري: [يقول كلمة الله: "أنا هو الحق" يو 6:14. إذن الكلمة يتأملها العقل1.]

v     الابن، بكونه الكلمة، يعلن عن أرادة أبيه...

الكلمات المنطوق بها (كحرفٍ) ليس لها فاعلىة مباشرة في ذاتها، إنما كلمة الله وحدها التي ليست بمنطوق بها ولها مفهوم داخلي، كما يدعونها، تعمل بفاعلىة، وهي حيّة ولها قوة الإبراء. "لأن كلمة الله حية وفعّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلي مفرق النفس والروح والمفاصل والمِخاخ" عب 12:4...

لا تطلب إذن مقارنته بالكلمة الخارجة من الفم.

v     يا للغباء، يتكلمون كمن لا يعرفون الفرق بين الكلمة المنطوق بها والكلمة الإلهي، السرمدي، المولود من الآب، أقول إنه مولود وليس فقط منطوقًا به، الذي ليس فيه ربط لمقاطع بل كمال اللاهوت الأزلي والحياة التي بلا نهاية.

v     نعم، من ينظر إلي الابن يرى الآب في الصورة (يو9:14 -10). لاحظ أية صورة يُقال عنها. إنها الحق والبرّ وقوة الله؛ ليست خرساء، لأنه الكلمة ليست جامدة لأنه الحكمة، ليست باطلة، لأنه القوة...، ليست ميتة لأنه القيامة2.

القديس إمبروسيوس

9. الطريق dereh: وردت هذه الكلمة 13 مرة في هذا المزمور، وهي تعني القاعدة التي تقوم علىها عناية الله وأيضًا طاعتنا.

كلمة الله تُدعى "الطريق"، إذ يقدمها لنا كي نسلك فيها كما بسلّمٍ ملوكي، فنبلغ ملكوت السموات. هذا الطريق هو كلمة الله المتجسد نفسه الذي يعلمنا ويدربنا ويحملنا بروحه القدوس إلي حضن الآب، واهبًا إيانا برَّه لكي نشاركه مجد ميراثه.

v     "أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلي الآب إلا بي" يو 6:14...

إن كنت أنا الطريق، فإنكم لا تحتاجون إلي أحد يمسك بأيديكم...

إنه يقول: "إن كنت أنا هو السلطة الوحيدة التي تُحضر إلي الآب، أنتم بالتأكيد تأتون إليه، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بطريق آخر3.

القديس يوحنا ذهبي الفم

10. الحق أو الأمانة Orach: وردت الكلمة العبرية خمس مرات [30،75،86،90،138]. يُدعى كلمة الله المتجسد "الحق"، هذا الذي له وحده القوة والسلطة أن يحطم أباطيل الشيطان والجهالة، ويملك على حياتنا الداخلية، معلنًا عن ذاته وعن أسراره بكونه الحق السرمدي، واهبًا إيانا المعرفة كعطية إلهية.

v     هذا الحق أظهره المسيح لنا في إنجيله، قائلاً: "أنا هو الحق" يو 6:14. لذلك إن كنا في المسيح، ولنا المسيح فينا، إن كنا نسكن في الحق ويسكن الحق فينا، لنتمسك بهذه الأمور التي هي حق4.

الشهيد كبريانوس

ويمكننا أن نلخص الكلمات الإرشادية للإعلان الإلهي في الآتي:

                        1. الشريعة: التي تقودنا وتوجهنا للتعرف على الأرادة الإلهية، لكننا سقطنا تحت لعنة العصيان حتى جاء من يحررنا من اللعنة.

                        2. الشهادات: التي تشهد عن أرادة الله وتكشف عن حبه الباذل المُعلن خلال الصليب.

                        3. الفرائض: حيث يتعهد المؤمن بالسلوك بأمانة فيما عُهد به إليه.

                        4. الحِكَمْ: وهي علامات إلهية على أرض القلب، يثبتها الله.

                        5. الوصايا: حيث يأمرنا الله صاحب السلطان فنطيع.

                        6. الأحكام: فإن كلمة الله تحكم كل تصرفات الإنسان في داخله وفي سلوكه مع إخوته ومع الخليقة كلها كما مع الله.

                        7. الكلمة: حيث نتمتع بالأقنوم الإلهي، الكلمة الإلهي.

                        8. الأقوال: تدخل بنا إلي القول الإلهي الذي يفوق الفاظ بشرية.

                        9. الطريق: كلمة الله هو طريق ملوكي يدخل بنا إلي حضن الآب.

                        10. الحق أو الأمانة: نتمتع بالحق الإلهي، فلا نعيش في جهالة.

المزمور 119(118) وبلوغ الكمال

يرى القديس جيروم أنه بعد المزمور 119 يأتي في الترتيب مباشرة مزامير الصعود الخمسة عشرة (120-134)، حيث يصعد المؤمن السبع درجات التي للدار الخارجية والثمان درجات التي للهيكل، وكأنه بترنم هذا المزمور يدخل الإنسان إلي المقادس الإلهية1.

يمكننا القول أن كلمة الله التي هي موضوع تسبحة هذا المزمور تهيئ النفس البشرية هكذا:

                        *     تصعد بعمل الروح القدس لتنعم بالارتفاع فوق كل ضيق زمني وكل مقاومة للحق (مز 120).

                        *     ترفع العينين الداخليتين إلي الجبال المقدسة لتجد الرب حافظها (مز121).

                        *     تسكن مع الرب في بيته السماوي (122) حيث تنعم بأورشليم العلىا وقد فُتحت أبوابها أمامها...

عندئذ بحق تترنم بتسبحة النصرة الأبدية: "لولا أن الرب كان معنا لابتلعونا ونحن أحياء... عبرت نفوسنا السيل... "الفخ انكسر ونحن نجونا" (مز122). "إن الرب قد عظم الصنيع معهم، عظم الرب الصنيع معنا فصرنا فرحين" (مز124).

هذا هو عمل الكلمة الإلهية في حياتنا التي تهبنا عربون الكمال السماوي والمجد الأبدي.

مركز التوراة عند اليهود

1. التوراة في عرف الربيين موجودة قبل خلقة العالم. أصل الأسفار الخمسة مثل كل ما هو سماوي تتكون من نارٍ كُتبت بحروف سوداء نارية على أرض نارية بيضاء2.

2. التوراة في حضن الله: [عندما يكون الله جالسًا على عرش مجده تكون التوراة في حضنه].

3. التوراة هي ابنة الله.

4.التوراة هي حياة العالم، من يفصل نفسه عن التوراة يموت فورًا1، إذ تفنيه النار ويسقط في الجحيم2.

5. جاء في المدراش في التعلىق على سفر المزامير: [الحق هو التوراة].

6. ترفع التوراةالإنسان إلي ما فوق الزمنيات: [اعتاد هلليل أن يقول: "يجب أن تتعلم أن من ينتفع بكلمات الناموس يسحب حياته من العالم3].

7. التوراة هي حكمة الله نفسها، كان لها مشورة مع الله في أمر الخلقة. وهي أول إعلأن إلهي كشف عن الله نفسه4.

8. تضيء التوراة إلي الأبد5.

9. تعطي التوراة مجدًا لدارسها: "الأممي الذي يدرس التوراة يصير عظيمًا كرئيس الكهنة"6.

سمات كلمة الله

1. لذيذة [14،16]: لا تعطى مجرد لذة فكرية، إنما لذة الفرح بالحياة المطوّبة، والتعرف على أرادة الله والتمتع بها.

2. غنية: هي ميراث المؤمن [111]؛ أثمن من الذهب والحجارة الكريمة [127] والغنائم الوافرة [162].

3. محبوبة، تدخل في ودٍّ معنا [48].

4. مهوبة [161].

5. ثابتة في السموات إلي الأبد [89].

6. تهب الطوباوية [1]، والرحابة أو اتساع القلب [45]، والتحرر من الآلام [133]، والاستنارة [130]، والحياة [93]، والسلام [165]، والفرح العظيم [162]، وتستدرّ مراحم الله وخلاصه [41]... لذا فهي أساس الرجاء [43].

الإطار العام

                        1. تطويب الطاعة بقلبٍ غير منقسمٍ [1 -8].

                        2. الوصية... كنز خفي [9 -16].

                        3. الوصية... عزاء في الغربة [17 -24].

                        4. إحيني ككلمتك [25 -32].

                        5. اهدني في سبيل وصاياك [33 -40].

                        6. الشهادة لكلمة الله [41 -48].

                        7. كلامك عزّاني في مذلتي [49 -56].

                        8. ترضيت وجهك بكل قلبي [57 -64].

                        9. خير لي أنك أذللتني حتى أتعلم حقوقك [65 -72].

                        10. أحكامك عادلة [73 -80].

                        11. رجاء وسط الظلمة [81 -88].

                        12. كلمتك دائمة في السموات [89 -96].

                        13. كلماتك حلوة في حلقي [97 -104].

                        14. مصباح لرجلي كلامك [105 -112].

                        15. اعضدني حسب قولك [113 -120].

                        16. لا تسلمني إلي الذين يظلمونني [121 -128].

                        17. عجيبة هي شهاداتك [129 -136].

                        18. عادلة هي شهادتك إلي الأبد [137 -144].

                        19. قريب أنت يارب [145 -152].

                        20. بعيد هو الخلاص عن الخطاة [153 -160].

                        21. سلام عظيم للذين يحبون اسمك [161 -168].

                        22. علمني، أعني، ابحث عني! [169 -176].

V  V  V


 

من وحي المزمور 119

لأقترب إلي كلمتك فأقترب إليك!

v     كلمتك الإلهية تعلن لي عن عظمة حبك.

 تكشف لي عن أرادتك الإلهية،

 وتسندني لأتممها،فأصير أيقونة حية لك.

 تدفعني مع كل نسمة من نسمات حياتي نحو الكمال،

 فتصير حياتي بكل جهادها تسبحة نصرة عذبة!

 تحولني إلي إنجيل مقروء من الجميع،

 يشهد لصدق كلمتك، ويُعلن عن قوتها.

v     من هم الأشرار إلا رافضوا كلمتك؟!

 ليقاوموها في شخصي المسكين والضعيف،

 فإنهم حتمًا يفشلون،

 أما أنا فأنعم بقوة كلمتك!

v     في نصف الليل أسبح بهذا المزمور(119)،

 فهو أغنية الكنيسة المترقبة مجيء عريسها، الساهرة بروح الفرح والتهليل.

 أسبح كلمة الله التي تملأ نفسي بتعزيات الروح في رحلة غربتي!

 تحول هموم العالم ومتاعبه إلي تسبحة مفرحة!

 تطرد محبة العالم عن أعماقي ليصير كلمة الله ذهبي وكنزي!

 تقود فكري وعواطفي وأحاسيسي كعمود نورٍ وسط البرية.

 تهب الحياة لقلبي الذي صار قبرًا قائمًا.

 تنير ذهني بالأسرار الإلهية، وتبدد ظلمة الجهالة التي حاصرتني.

 تقدم لي فوق الكل كلمة الله المتجسد مخلصًا وصديقًا شخصيًا!

v     يبقى هذا المزمور مدرسة للصلاة خلالها أناجيك يا إلهي.

 أتتلمذ فيها كل أيام حياتي،

 أتعلم الصلاة الداخلية من كل قلبي،

 ويشترك فمي ولساني وكل كياني معًا،

 كقيثارة يضرب علىها روحك القدوس سيمفونية حب رائعة!

 أطلب منك أن تكشف لي عن وصيتك الإلهية،

 تعطيني فهمًا فأدخل أعماق جديدة لكلمتك،

 نعمتك تهبني الأرادة الصالحة والقدرة فأتمم وصيتك وأنمو فيها.

v     لأقترب يا إلهي إلي كلمتك، فأقترب إليك!

 ولأحيا في وصيتك، فأحيا فيك وبك!

 أراك أيها المسيح كلمة الله مختفيًا وراء حروف المزمور!

 أريد أن أتعرف عليك، وألتقي بك، وأراك يا سرّ حبي كله!

v     ماذا أرى في كلمتك يا إلهي؟

 إنها ناموسك الذي كسرته فسقطت تحت لعنته،

 وجاء مسيحك يحمل اللعنة عني!

 دخل دائرة اللعنة لا بكسر ناموسك بل برفعه على خشبة.

 حملني من دائرة اللعنة ودخل بي إلي أحضانك الإلهية!

 إنها شهاداتك، التي تشهد عن حبك الباذل،

 هب لي أن أشهد ببذل دمي، فأرد الحب بالحب!

 إنها الفرائض التي تُسلم إليّ كما إلي أيدٍ أمينة.

 إنها الحكم أو الحكمة، تشبه علامات تضعها في الطريق،

 فلا انحرف يمينًا ولا يسارًا عن الطريق الملوكي،

 حتى أدخل إلي السموات عينها!

 إنها الوصايا التي التزم بها كابن يخضع لوصايا أبيه.

 إنها الأحكام التي تحكم حركات نفسي الخفية وسلوكي الظاهر،

 تقدم لي دستورًا ينظم علاقتي بك يا إلهي، كما بالسمائيين والأرضيين.

 إنها الكلمة الإلهية ليست الفاظاً وحروفاً، بل هي روح وحياة لي!

 إنها أقوالك، لا كأقوالي التي تخرج من فمي فتتضمحل،

 لكنها هي واحد معك،

 أقتنيها فأقتنيك!

 إنها الطريق الملوكي، الذي يدخل بي إلي أحضانك.

 إنها الحق الذي يبدد جهالاتي وينزع عني أباطيل إبليس.

v     بماذا أمدح كلمتك يا سيدي؟!

 هي حلوة، أشهي من العسل والشهد،

 كنز يفوق الذهب وكل اللآلئ الثمينة،

 مهوبة، تسمر خوفك المقدس في لحمي،

 مُحًبة، تدخل بي إلي أحشائك الملتهبة حباً لي.

 ثابتة إلي الأبد، تنقلني إلي سمواتك.

 مطوَّبة، تقدم لي رحابة قلب واتساع الذهن،

 وتحررني من كل هوى.

 نور لرجلي، تقودني إليك أيها الساكن في نور لا يُدنى منه.

 مشبعة لنفسي، تهبني الحياة الجديدة مع الفرح العظيم والسلام الفائق.

 نعم! كلمتك تفتح لي أبواب الرجاء،

 وتدخل بي إلي شركة أمجادك السماوية!

<<


 

 

1- أ

 

تطويب الطاعة بقلبٍ غير منقسمٍ

[1 - 8]

 إن كانت الموعظة على الجبل وهي قلب العهد الجديد بدأت بالتطويب فإن سفر المزامير وهو قلب العهد القديم قد بدأ أيضًا بالتطويب (مز1:1)، وها هو المزمور 119، قلب سفر المزامير، أي قلب القلب يبدأ بالتطويب.

يبدأ "مزمور التوراة" هذا، أو "مزمور الوصية" بالتطويب، لأن الوصية تدخل بالإنسان إلي الحياة التي بلا عيب، فيحفظ المؤمن الحق ويصنع البرّ في كل حين (مز 3:106)، يتقي الرب (مز 1:112)، ويسلك في طرقه (مز 1:128؛ أم 32:8؛ لو 28:11). إنه يدخل إلي الحياة المطوّبة، أي يعود إلي الحياة الفردوسية التي فقدها الإنسان الأول بعصيانه للوصية. غاية الوصية الدخول إلي ملكوت الفرح، فيتهيأ المؤمن للعرس الأبدي السماوي، إذ قيل: "طوبى للذين يصنعون وصاياه لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة، ويدخلون من الأبواب إلي المدينة" رؤ 14:22. إنهم يعودون لا إلي جنة عدن حيث شجرة معرفة الخير والشر، وحيث الشيطان والحية يخدعان، وإنما إلي أورشليم العلىا حيث السيد المسيح نفسه شجرة الحياة يشبعهم ويمجدهم.

الأن كيف ننعم بتطويب الطاعة هذا؟

                        1. الطاعة بالمسيح طريقنا الملوكي 1.

                        2. طاعة سلوك عملي1.

                        3. طاعة بالدراسة والفحص 2.

                        4. طاعة بكل القلب 3.

                        5. طاعة المثابرة 4 -5.

                        6. طاعة لكل الوصايا 6.

                        7. طاعة بفرح 7.

                        8. طاعة وسط الآلام 8.

 1. طاعة بالمسيح "طريقنا الملوكي"

"طوباهم الذين بلا عيب في الطريق" [1].

إن كان واضع هذا المزمور هو داود النبي أو غيره من رجال الله القديسين، فهل كان يشعر باستحقاقه للتطويب الإلهي بكونه بلا عيب في الطريق؟

ليس من أحد - في العهد القديم أو العهد الجديد - بلا خطية أو بلا عيب إلا السيد المسيح، حمل الله الذي بلا عيب (1 بط 19:1)... لهذا يمكننا القول بان من أراد أن يتمتع بالتطويب لزمه أن يحمل سمات سيده القدوس، أي أن يصير مقدسًا بالتصاقه بالرب، الذي وحده يقول: "أنتم طاهرون" (يو 10:13)، لأن دمه يطهر من كل دنس (1 يو 7:1)، هو كفارة عن خطايانا (1 يو 2:2).

التطويب ليس سعادة أو فرحًا مجردًا، وإنما هو تمتع بالشركة مع الله، فيه يشعر الإنسان المؤمن بأن الله هو بره وفرحه وسعادته، يرى في داخله قانون الله أو وصيته هي قانونه الطبيعي، فتطابق حياته مشيئة الله، وتفيض أعماقة بالقداسة كنبعٍ طبيعي! هذا هو سرّ تهليل النفس المتحدة بالله خلال السيد المسيح الكلمة الإلهي بالروح القدس!

بينما يئن العالم في بؤس إذ يشعر بالاحتىاج وعدم الشبع، إذ بشعب الله الحقيقي يفرح ويتهلل متنعمًا بعربون الحياة المطوّبة السماوية.

بقوله "الذين بلا عيب في الطريق" [1]، يقصد حفظ طريق الوصية الإلهية، بالمعنى الإيجابي والسلبي معًا. فالإنسان المطوّب هو ذاك الذي يتمم الوصية بعمل الخير والامتناع عن الشر.

يقول ربنا يسوع المسيح: "أنا هو الطريق" يو 6:14؛ فيه نبلغ طريق الملك (عد 17:20)، الطريق الواحد (غلا 14:5)، وهو طريق حي (عب 19:10)، طريق المحبة (1كو 31:12)، والقداسة (إش 8:35)، والبرّ (2بط 21:2)، والحياة (مت 14:7) والحق (2بط 2:2)، والخلاص (أع 17:16)، والكمال (مت 48:4؛ 21:19).

2. طاعة سلوك عملي

إن كان مسيحنا هو الطريق الملوكي الذي به وفيه نطوّب، يليق بنا أن نسير فيه، فتصير الطاعة سلوكًا عمليًا. لذا يقول المرتل:

"السالكون في ناموس الرب" [1].

يربط المرتل المعرفة بالحياة العملية، فالوصية ليست مجالاً للمعرفة العقلأنية الجافة بل هي ممارسة حية عملية. لذا بدأ المزمور الخاص بالكلمة بالكشف عن الحياة التي بلا عيب والسلوك العملي بالوصية.

يقول الأب نسطوريوس في مناظرات يوحنا كاسيان:

v     لم يقل (المرتل) في المحل الأول "طوبى للذين يطلبون شهاداته" ثم يضيف: "طوبى للذين بلا عيب في الطريق"، لكنه يبدأ بالقول: "طوبى للذين بلا عيب في الطريق"، موضحًا بجلاء أنه ما من إنسان يأتي بلياقة ليطلب شهادات الله ما لم يسلك أولاً بلا عيبٍ في طريق المسيح بحياته العملية. لذلك فالذين ذكرتهم أنت لا يملكون هذه المعرفة التي لا ينالها الدنسون، هذه التي يتحدث عنها الرسول الطوباوي: "يا تيموثاوس احفظ الوديعة (المسلمة لك)، معرضًا عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات المعرفة الكاذبة الاسم"1

الأب نسطوريوس

الحياة المطوّبة التي يعلنها المرتل هنا، والتي يشتهيها كل مؤمنٍ حقيقي هي مكافأة تقدم لنا عن الإيمان الحي العملي.

v     يحمل الإيمان (وعدًا) بالحياة الأبدية، لأنه أساس صالح. وتحمل الأعمال الصالحة أيضًا ذات (الوعد)، لأن البار يُمتحن بكلماته وأعماله...

البرّ والمعرفة يجعلان الإنسان مطوَّبًا، وقد لاحظنا فعلاً أن طوباوية الحياة الأبدية هي مكافأة الأعمال الصالحة1.

القديس إمبروسيوس

v     يليق بنا أن نتطلع إلي وصايا الله عندما تُقرأ، أو عندما تستدعيها الذاكرة وذلك كمن يتطلع في مرآة كقول الرسول يعقوب. مثل هذا الإنسان يريد أن ينظر إلي وصايا الله كما في مرآة ولا يرتبك، لأنه يختار لا أن يكون سامعًا للوصايا فحسب بل وعاملاً بها. لهذا يرغب في أن تتجه طرقه نحو حفظ قوانين الله. كيف تُوجه إلا بنعمة الله؟ وإلا فإنه لا يجد في شريعة الله مصدر فرحٍ بل مصدر ارتباكٍ، إن اختار أن ينظر إلي الوصايا ولا يعمل بها.

القديس أغسطينوس

v     الأن الطريق غير قابل للخطأ، أعني يسوع المسيح؛ إذ يقول: "أنا هو الطريق والحياة". هذا الطريق يقود إلي الآب، إذ يقول "ليس أحد يأتي إلي الآب إلا بي" يو 6:14.2

القديس أغناطيوس الأنطاكي

3. طاعة بالدراسة والفحص

"طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته" [2].

إن كان السيد المسيح هو الطريق الملوكي الذي يسلكه الذين بلا عيب فيدخلون إلي حضن الآب بروح الطاعة التي للمسيح الذبيح، فإنه هو أيضًا "الشاهد الأمين" (رؤ...) الذي اعترف الاعتراف الحسن أمام بيلاطس بنطس، وشهد للحب الإلهي ببذل دمه بسرور (عب13:13) من أجل البشرية.

يليق بنا كأعضاء جسد المسيح أن نطلب شهاداته ونفحصها، فمن جهتنا ليس لنا ما نقدمه، إنما نأخذ مما له من شهادات حق لنقدمها باسمه، قائلين: "حفظت وصاياك وشهاداتك" [168]. مادمنا نعيش في هذا العالم نجلس عند قدمي كلمة الله المتجسد نتتلمذ على يديه ونتدرب على الشركة معه بروحه القدوس.

بالمسيح يسوع الشهيد الأعظم نُحسب شهداء، إذ نشهد عن إنجيله بقبولنا الألم بفرح.

لا نعجب إن كان قد بدأ المرتل بتطويب السالكين في الطريق الملوكي بلا عيب، يلي ذلك تطويبه الذين يفحصون عن شهاداته، فكما أن الوصية الإلهية تدخل بنا إلي الحياة التي بلا عيب، فإن الحياة التي بلا عيب بدورها تدخل بنا إلي فهمٍ جديدٍ. واستنارة لمعرفة الوصية. لهذا يوصينا القديس البابا أثناسيوس الرسولي، قائلاً: [بالإضافة إلي الدراسة والتمتع بالمعرفة الحقيقية للكتب المقدسة، فإن كمال الحياة ونقاوة النفس والتشبه بالمسيح في الفضيلة أمور مطلوبة... فمن يريد أن يفهم ذهن الكُتَّاب المُقدسين يلزمه أولاً أن يغتسل ويتطهر بالحياة المقدسة ويقتدي بالقديسين أنفسهم بسلوكه مثلهم3.]

4. طاعة بكل القلب

يُنسب التطويب إلي البسطاء الذين يطلبون الله دون سواه من كل القلب. فالبساطة عكس التعقيد. القلب البسيط يحمل اتجاهًا واحدًا، ويسير في طريق واحدٍ، وله غاية واحدة هي حب الله؛ أما القلب المعقد فيعرج بين طريق وآخر، بين محبة الله ومحبة العالم.

"ومن كل قلوبهم يطلبونه" [2].

القلب هو البصيرة الداخلية التي بها يمكننا معاينة الله خلال التوبة، لأننا فقدنا تمتعنا برؤيته بسبب خطايانا التي أفسدت بصيرتنا الداخلية.

الإنسان الذي يتقدس في المسيح يسوع "الطريق الملوكي"، ينشغل فكره بشهاداته وقلبه بطلبه، بمعنى آخر تتقدس كل إمكانياته العقلية والعاطفية. يفحص الفكر عن شهادات الرب مشتاقًا أن يموت معه كل يوم، ويطلبه بالقلب ليتحد معه ويسكن معه أبديًا. يطلبه من كل قلبه الملتهب بنار الحب الإلهي، فلا يكون لآخر موضع معه في القلب.

يطلب المؤمن الرب من كل قلبه، فلا يعرف التعريج بين الفرقتين، إذ لا يستطيع العالم بكل إغرءاته، والخطية بكل لذتها، وإبليس بكل حيله وخداعاته أن يتسللوا إليه.

إن كان المؤمنون يطلبون الرب من كل قلوبهم، إذ يختبرون عذوبة السيد المسيح "طريقهم" الأوحد، فإن غير المؤمنين (اليهود) إذ يرفضونه إنما يجحدون النبوات عنه، هذه التي هي "طرقه" التي قدمها إليهم عبر العصور. يقول المرتل: "لأن صانعي الإثم لم يهووا أن يسلكوا في سبله (طرقه)" [3].

يميز أنثيموس أسقف أورشليم بين السيد المسيح "الطريق"، والأنبياء "طرق الرب" قائلاً: [وأما النبي فقال في السطر الأول "الطريق" بصيغة المفرد، وأما في السطر الثالث فقال "طرقًا" بصيغة الجمع. فالطرق الكثيرة هي تعاليم الأنبياء والرسل والمعلمين الذين يرشدون الناس إلي الاستقامة. وأما الطريق الواحد فهو ربنا يسوع المسيح القائل: "أنا هو الطريق والحق"، لأنه يوصل الذين يتبعونه إلي أبيه.]

لم يقل المرتل "لأن صانعي الإثم لم يسلكوا في سبله" وإنما قال "لم يهووا"، فإن المؤمنين الحقيقيين يطلبون الرب ويهوونه بكل قلبهم، بكونه موضع حبهم وشوقهم ولذتهم، أما الأشرار فلا يطيقون الرب ولا يقبلون بره أو قداسته. طاعة الأبرار تنبع عن لذة داخلية وحنين لله نفسه، وعصيان الأشرار ينبع عن جفاف القلب وبروده من نحو الله.

5. طاعة المثابرة

إذ يفتتح المرتل هذا المزمور بإعلأن الطوبى لمن يلتقي بالسيد المسيح بكونه "الطريق" [1]، بدء الطريق ونهايته، إذ هو "الألف والياء، البداية والنهاية" رؤ 8:1، يسأل أن يدعوه الله للتمتع بهذا الطريق والثبوت فيه باستقامة، قائلاً:

"فياليت طرقي تستقيم إلي حفظ حقوقك" [5]

لا يكفينا أن نُدعى إلي الطريق فنناله، وإنما نصرخ إلي الله أن يبقينا فيه فتستقيم طرقنا باتحادنا مع الطريق الحق الذي وحده بلا عيب ولا انحراف. الرب هو البكر الذي يبدأ معنا، وهو الذي يرافقنا حتى ننجز رسالتنا بروح الجهاد المستمر والمثابرة بالرب.

تؤكد كلمات المرتل أن الله لم يقدم لنا وصيته وهو يعلم أن حفظها مستحيل كما يظن البعض1.

v     للرب الباكورة (بدء العمل) والأنجازات (تكملته). فلكي أبدأ السير في الطريق يلزم أن أُدعى، لأنه: "من الرب خطوات الرجل، أما الإنسان فكيف يفهم طريقه؟" أم 24:20. ولكي لا انحرف عن الطرق المستقيمة وحتى لا أسلك في طريق معوج أقول بأسلوب التمني: "فيا ليت طرقي تستقيم إلي حفظ حقوقك". فإنني لا أحفظ حقوقك ما لم تكن طرقي تحت إرشادك وتدبيرك.

العلامة أوريجينوس

مثابرتنا لا تعني إلا جهادنا المستمر بعمل النعمة فينا، لذا نصرخ دومًا مع المرتل، قائلين: "فياليت طرقي تستقيم إلي حفظ حقوقك" [5]. لأنه بدون نعمته نتعثر في الطريق فننحرف. وكما يقول أحد الآباء [ إذ توجد عوائق عديدة تقاوم الفضيلة، تُحسب كأنها موانع تعوق مسيرة الإنسان، لهذا يترجى (المرتل) إزالتها. بهذا يصير الطريق ممهدًا، كما جاء في كلمة الرب: "أعدوا وهيئوا طريق شعبي، ارفعوا عن شعبي حجر المعثرة" (إش 14:57؛ 10:62). كمثال كان حجر العثرة بالنسبة لداود النبي والملك هو اشتهاء امرأة والرؤية التعيسة لها (2 صم 2:11)، وبالنسبة لعيسو اشتهاء طبق عدس (تك34:25)، وبالنسبة لشاول حب الغنى والثروة (1مل20). الرب هو الذي يمهد الطريق نازعًا كل هذه العوائق، فيعين عاشق الجمال بسحب جموحه في الشهوة وجذبه إلي السماء.]

ويقول القديس أغسطينوس: [لن تتم هذه الأمور التي أمر بها الله إلاَّ كعطية من مقدم الوصايا وبمعونته، لأنه باطلاً نسألها إن كنا نقدر أن نتممها دون معونة نعمته1].

كل الذين يبتغون الغنى أو الشهوة لا يكفون عن السهر مع العمل ليلاً ونهارًا والبحث عن كل طريق لتحقيق أهدافهم، فبالأولى الذين يطلبون الله ويبتغون السكنى الأبدية معه أن يثابروا في حفظ وصاياه، وأن يكون جهادهم هو مادة صلواتهم الدائمة. كلما دخلوا إلي الطريق اشتاقوا إلي أعماق جديدة حتى ينسوا ما هو وراء ويمتدوا إلي ما هو قدام، يطلبون عمل نعمة الله التي تسندهم حتى النفس الأخير. بهذا تتناغم حياتهم مع صلواتهم، وينسجم جهادهم مع فيض نعمة الله المجانية.

6. طاعة لكل الوصايا

في مثابرتنا لحفظ الوصايا باستقامة قلب نقبل ناموس المسيح كله، فلا نعرف أنصاف الحلول. نقبل الحياة الجديدة فيه بناموسها السماوي الروحي، نتفهم أسرار العهدين القديم والجديد وشرائعهما، لا على مستوي الحرف القاتل، وإنما على مستوى الروح الذي يبني. بهذا نقول: "حينئذ لا أخزى إذا ما تطلعت على جميع وصاياك" [6].

v     مادمنا نقول ان الأنبياء هم الطرق، فعندما نقرأ الشرائع والنواميس والأنبياء نكون قد سلكنا باستقامة في الطريق بالرب، فنفهم طرقه وندركها، حينئذ لا نخزى أبدًا، إذ تصير هي طرقنا فنحفظ جميع وصايا الله.

العلامة أوريجينوس

v     من يحفظ وصية ويترك غيرها يكون قد غدر بجميع الوصايا، إذ يهين الله الذي أوصى بها وربطها بعضها ببعض. فإن الذي قال لا تزنِ قال أيضًا لا تسرق، فإن سرقت تصير مدينًا للشريعة كلها، ولكن من يحرص على جميع الوصايا لا يخزى في يوم الدينونة الرهيبة.

أنثيموس أسقف أورشليم

إن كان العصيان للوصية قد دفع بأبوينا إلي الخزي، إذ يقول آدم: "سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت" تك 10:3، فإن طاعة السيد المسيح على الصليب قد نزعت عن المؤمنين اللعنة وأزالت الخزي وفتحت أبواب الفردوس حتى للص التائب! من يعصى الوصية يدخل إلي العار والخزي، ومن يبغى الطاعة الكاملة لا الجزئية للوصايا يجني ثمر المجد، ويرتدي ثوب العرس، ويترنم بفرح قائلاً: "حينئذ لا أخزى إذا ما تطلعت على جميع وصاياك" [6]... فالوصية هي ارتباط بالكلمة الإلهي الذي يهبه بهاءً ومجدًا أمام الآب وملائكته وقديسيه، ويهبه مهابة وسلطانًا ليدوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو.

7. طاعة بفرح وتسبيح

"أشكرك يا رب باستقامة قلبي

إذ عرفت أحكام عدلك" [7].

إذ يقدس السيد المسيح "الطريق" طرقنا يهبنا "استقامة القلب"، عندئذ يفيض القلب شكرًا وتسبيحًا لله. وكأن استقامة الطرق أو نقاوة القلب لا تنزع عنا الخزي فحسب [6]، وإنما تهبنا حياة الفرح الداخلي الذي يُترجم بالشكر والتسبيح. بغير هذه الاستقامة لن نستطيع أن نشارك السمائيين تسابيحهم مهما رددنا من تسابيح أو ترانيم في مخدعنا أو في الكنيسة...

v     الذي لم يستقم قلبه بعد، إنما يوجد فيه انحراف، لن يشكر (يحمد) الله ولا يقبل الرب اعترافه.

العلامة أوريجينوس

يعترف المرتل لله من أجل عمله في حياته حيث يهبه استقامة القلب ويقدم له معرفة أحكامه، فيشكره ويحمده.

v     هنا لا نجد اعترافًا عن خطايا، بل حمدًا، وذلك كما يقول (السيد المسيح) نفسه الذي ليس فيه خطية: "اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض" مت 25:11. حقًا إذ صارت طرقي مستقيمة أعترف لك، لأنك أنت الذي جعلتها هكذا، وهذا حمد لك لا لي...

القديس أغسطينوس

تتهلل نفس المرتل إذ "عرف" أحكام عدل الله، وكأن "المعرفة الروحية" التي يتمتع بها المؤمن كهبة إلهية، والتي تدخل به إلي استقامة القلب وتقديس الروح، تهب فرحًا بينما المعرفة العقلية البشرية فتزيد الغم. يقول الجامعة: "لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا" جا18:1. شتان ما بين الحكمة البشرية والحكمة الإلهية، أو بين المعرفة الإنسانية والمعرفة الروحية! المعرفة البشرية تكشف الضعف ولا تهب إمكانية اصلاحه، أما المعرفة الإلهية فتفضح ضعفنا لتستر علىه بغنى النعمة ... فنصير "تامين وكاملين، غير ناقصين في شيء" يع4:1. إذ يشكر المرتل الله من أجل ما وهبه من معرفة جديدة إنما يفتح الباب لينال معرفة أعمق وأعظم، لأنه كما يقول مار إسحق السرياني إنه ليست عطية بلا زيادة إلا التي بلا شكر. على أي الأحوال نلاحظ خلال هذا المزمور أن المرتل يطلب المزيد من المعرفة والعلم الإلهي. بهذا يؤكد لنا أننا مادمنا على الأرض يليق بنا أن نلتحق بمدرسة السيد المسيح ونجلس عند قدميه كي نتتلمذ له1.

8. طاعة وسط الآلام

"حقوقك أحفظ،

فلا ترفضني إلي الغاية (النهاية)" [8].

لكي نتمتع بالتطويب يليق بنا إذ نتعرف على السيد المسيح طريق البر الإلهي، نمسك به، ونقبل عمله فينا، ونخضع لأرادته، فنطيع الوصية بالسلوك والكلام والقلب، نطيعها في شموليتها فلا نقبل منها جانبًا دون آخر، نقبلها تحت كل الظروف. هذا الأمر تمتع به المرتل خلال استقامة قلبه الذي دفعه إلي حفظ حقوق الله، أو كما يقول العلامة أوريجينوس: [إنني سوف لا أمارس أمرًا ما يخالف مقاصد أحكامك.]

هنا يتحدث المرتل بلغة الثقة والعزيمة الهادئة "حقوقك أحفظ"؛ بعدما تحول من الصلاة والطلبة إلي الفرح والتسبيح من أجل غنى نعمة الله وعمله فيه... ولئلا تتحول الثقة إلي كبرياء ذاتي أو افتخار بشري كما فعل معلمنا بطرس الرسول حين قال: "لو اضطررت ان أموت لن أنكرك" مت35:26، يقول المرتل: "لا ترفضني (تتركني) إلي النهاية". كأنه يقول في هدوء "حقوقك أحفظ" لأني أتمتع بنعمتك المجانية، فلا تتخلى عني حتى نهاية جهادي.

هذه هي نية المرتل، وهذا هو تعهده في المسيح يسوع، لكنه إذ يخشى الضعف أمام تجربة ما أو خطية ما يسأل الله ألا يرفضه أو يتركه إلي الغاية أو إلي النهاية.

v     قوتي محدودة عندما اجتاز تجربة ما، فلا تتركني إلي النهاية. "ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" 1كو13:10. إنه لا يتركنا إلي "النهاية". يقول للذين تركوه: "أنتم تركتموني وأنا أيضًا تركتكم" 2أي5:12. أما بالنسبة لنا فنطلب ألا نكون مرفوضين، بل نكون في يده لا يتركنا أبدًا "إلي الغاية". إن حدث إن تركنا، فلنستغيث من جديد بالمسيح يسوع.

العلامة أوريجينوس

v     يحدث أحيانا أن أُترك بعضًا من الوقت لكي أُمتحن في تجربة ما. فإذا ما احتملت المصاعب في كرامة، أخرج من التجربة منتفعًا. نعم، إن أتيت حالاً لتعينني، وبلغت إلي نهاية الصراع بطريقة حسنة أنال الأكليل.

إذ أعدائي مصارعون مفزعون، "لا تتركني إلي الغاية"، حتى لا انهزم.

العلامة أوريجينوس

v     "لحقوقك أحفظ، فلا تخذلني إلي الغاية"، أي ان المحن العالمية تمنعني عن حفظ حقوقك؛ لكنك لا تتركني أُمتحن فوق طاقتي لأني ضعيف.

أنثيموس أسقف أورشليم

يشبه القديس يوحنا ذهبي الفم الله بمربية مملوءة حنانًا، أو بأمٍ تربي طفلها الصغير، فإنها تضع يديها تحت يديه وهي تعلمه المشي. فجأة تسحب يديها فيسقط الطفل ويرفع عينيه متطلعًا إلي أمه في عتاب. تعود الأم فتحمله وتقبِّله، لكنها تكرر الأمر مرة ومرات حتى يتعلم المشي. هكذا يفعل الله المربي لنفوسنا فإنه كمن يتركنا إلي لحظات وقت التجارب حتى نختبر الألم وننمو وننضج روحيًا. إنه يسحب يديه من تحت أيدينا، لكن عينيه تترفقان بنا، وهم يهتم بكل حياتنا. لذا نصرخ إليه: "لا ترفضني إلي الغاية (النهاية)".

 في اختصار نقول إن تطويب الطاعة يقوم على الآتي:

1. طاعة في المسيح الطريق الملوكي [1]، نسلكه بإخلاص مع دراسة مستمرة للنمو في الشركة معه.

2. طاعة عملية سلوكية [1].

3. طاعة كاملة: يبحث عنها العقل، ويطلبها القلب [2،3].

4. طاعة الجهاد المستمر [4،5]، في كل الوصايا وليست جزئية [6].

5. طاعة تبدأ بالبحث مع الصلاة والطلبة، وتنتهي بالفرح والتسبيح [7].

6. طاعة الثقة في عمل النعمة [8].

7. طاعة بفرحٍ وتسبيحٍ وسط الآلام [8].


 

من وحي المزمور 119 (ا)

هب لي الحياة المطوبة أيها الابن المطيع!

v     "طوبى للذين بلا عيب في الطريق".

 من منا بلا عيب إلا أنت أيها الطريق الحق؟!

هب لي أن أتحد بك، فأُحسب مطوبًا.

بدونك أحسب عاصياً وكاسراً للناموس،

وبك أتمتع بروح الطاعة وتكميل الناموس،

فقد جئت ابنا مطيعًا حتى الموت، موت الصليب!

وحدك لم تكسر الناموس بل أكملته بالطاعة!

لأتحد بك فأدخل إلي أحضان أبيك وأتمتع بطوباوية فريدة!

v     وأنت واضع الناموس سُررت أن تخضع له بالطاعة؛

هب لي فيك السرور بالسلوك به،

فأتنقى وأتطهر وأفهم بالأكثر وصاياك.

تُرى هل أحفظ وصاياك فأتمتع بعطية فهمها؟!

أم تهبني فهمها، فأُسر بحفظها وأثابر لعلى أبلغ كمالها؟!

إني محتاج إليك فأنت تعطيني المسرة بها،

تهبني الطاعة مع المثابرة في التنفيذ!

وتهبني الأرادة المقدسة والفهم الفائق!!

اتحادي بك أيها الابن المطيع يهبني هذا كله!

v     هب لي أيها الابن الوحيد روح الطاعة،

 هب لي الأرادة المقدسة والقلب المستقيم،

 فأفرح بكل وصايك وأسلك فيها مهما كانت تكلفتها.

لا أعرف أنصاف الحلول بل أطلب جميع وصاياك!

تتحول حياتي إلي شركة تسبيح وحمد مع السمائيين!

v     لا يتركني العدو المصارع أن أتهلل بطاعتي لك،

يمرر حياتي بالآلام،

فلا تتركني إلي النهاية يا مخلصي العجيب،

حول حياتي إلي سلسلة نصرات لا تنقطع.

ليكن صراعي لنموي لا لتحطيمي.

أنمو فيك وأتهلل بك أيها الابن المطيع.

<<


 

2 - ب

 

الوصية كنز مخفي

[9-16]

بدأ المرتل تسبحته الخاصة بالوصية بالتطويب ليعلن أن الله ليس بالآمر الناهي، إنما هو محب البشر الذي يطلب لهم الحياة المطوبة أو الحياة الفردوسية المفرحة أو شركة المجد الأبدي.

في القطعة الثانية أو الاستيخون الثاني يتحدث المرتل مع الشاب بكونه الكنز الذي يفرح به الله ليقدم له وصيته كنزًا مخفيًا.

1. بماذا يقوم الشاب طريقه؟9.

2. الوصية تقدس قلب الشاب10 - 11.

3. الوصية وحياة التسبيح 12.

4. الوصية وشهادة الشاب لها 13.

5. الوصية غنى الشاب 14.

6. الوصية وحياة الهذيذ 16.

1. بماذا يقوم الشاب طريقه؟

خلق الله الإنسان لا ليذله أو يسيطر علىه، وإنما ليمجده بالكرامة والسلطان (مز 5:9)، وها هو يقدم له وصيته كنزًا مخفيًا ليقيم منه "ابنة الملك" التي مجدها من الداخل (مز13:45).

الأن إذ يكشف عن الوصية ككنزٍ مخفيٍ يوجه حديثه إلي الشاب، حتى يتفهم الإنسان أن الوصية ليست أمرًا ثانويًا تقدم للطفل البسيط الذي لا يفكر كثيرًا أو للشيخ الذي حطمه الزمن، وإنما يقدمها للشاب الذي يتطلع إلي مستقبله بنظرة تفاؤلية في طموحٍ. فإن كان الشاب طموحًا نحو مجدٍ أو غنى أو علمٍ فليتلامس أولاً مع وصية الرب القادرة أن تقدس أعماقه وتسنده في جهاده الزمني دون انحرافٍ. وصية الرب هي قانون الشباب، قادرة أن تهبهم روح الطهارة والعفة.

ذاك الذي صار إنسانا لأجلنا مرّ بمرحلة الشباب لكي يقدم لكل شاب حياته الطاهرة عاملة فيه، مكرسًا حياة الشباب لحساب ملكوته.

v     ربما كان هذا نصيحة عن السن الذي فيه بالأكثر نهتم بتصحيح مسارنا، وذلك كما كُتب في موضع آخر: "يا ابني اجمع تعليمًا منذ شبابك لكي تجد الحكمة عندما يشيب شعرك".

القديس أغسطينوس

تقديم الكتاب المقدس الوصية للشاب أولاً إنما هو تكريم له وإعلأن عن تقدير الله لحياته وقدراته.

الأن، من هو هذا الشاب الذي يحتاج إلي تقويم طريقه بحفظه أقوال الله [9]؟

أ. كل الشباب بوجه عام، ففي هذا السن ينتقل الإنسان من مرحلة الطفولة البسيطة إلي المراهقة المجاهدة، خاصة مع أفكار الجسد؛ لذا يحتاج إلي كلمة الله التي تكشف له عن قدسية جسده، وتعلىة عواطفه وإضرام مواهبه دون تطرف أو انحراف. يقول العلامة أوريجينوس: [هذه الأقوال الإلهية التي بُذرت في الكتاب الإلهي، إن حُفظت لا تترك الإنسان يسير في طريق منحرف... يقول إرميا: "جيد للرجل أن يحمل النير في صباه" مرا 27:3. فإن من يحمل النير بعدما يعبر صباه أي بعدما يرتكب الخطايا؛ أي لم يسلك في الصلاح حالاً... مثل هذا يلزمه أن يسلك بتدقيق، لمحو الخطايا السابقة (بالتوبة). أما من يحمل النير منذ صباه، أي يكتسب الصلاح فورًا، إذ لا تجتذبه ثقل الخطايا، لا يُقال له: "ما لم تجمعه في صباك، كيف تجده في شيخوختك؟]

لنبدأ حياتنا مع الرب منذ صبانا دون تأجيل فنجمع بروح الرب ما يسندنا في شيخوختنا، أي عندما نتعرض لضعف روحي!

ب. يرى العلامة أوريجينوس أن كثيرين من الذين بلغوا سن النضوج لا يزالوا يسلكون كشباب في شهوات بلا ضابط، بينما يُوجد شباب حسب الجسد وهم شيوخ مختبرين ذو حكمة روحية عملية.

ج. من هو هذا الشاب الذي يجب تقويم طريقه بحفظ أقوال الله إلا جماعة الأمم الذين قبلوا "كلمة الله" المتجسد، بينما رفض قادة اليهود الذين نالوا معرفة وشرائع ونبوات كأنهم شيخ، لكنهم رفضوا كلمة الله ولم يحملوا نير صليبه.

v     الشعب الذي كان منتسبًا للأمم في حداثته، وهو الذي كان يسير في طرق معوجة قبل قبوله الإيمان. كيف يمكن لهذا الشعب أن يقوِّم طريقه إلا بحفظه أقوالك، أي كلمات الرب؟!

العلامة أوريجينوس

v     الشاب هو الشعب الأممي الذي آمن بالمسيح، هذا الذي كان سالكًا طريقًا معوجة، لكنه يقومها بحفظه أقوال الله التي أوصى بها تلاميذه كي يعلموها للمؤمنين حين قال لهم: "علموهم حفظ جميع ما أوصيتكم به".

أنثيموس أسقف أورشليم

يقول يوسابيوس القيصري إن كلمة "يقوِّم" جاءت في ترجمة سيماخوس: "ينير". [بماذا ينير الشاب طريقه؟ هنا يعلمنا المرتل أن الشاب وهو مملوء بالدنس والنجاسة يحتاج إلي تطهير (واستنارة)، إذ يتساءل المرتل: "بماذا ينير الشاب طريقه؟ وجاءت الإجابة: بحفظه أقوالك!"]

إن كانت الخطية تفسد القلب أي البصيرة الداخلية، فإننا في حاجة إلي أقوال الرب بكونها النور الذي يبدد الظلمة.

يربط القديس إمبروسيوس بين هذه العبارة [9] وبين قول المرتل: "قلت: إني أحفظ طريقي، وضعت على فمي حافظًا" مز1:39، قائلاً:

[توجد بعض الطرق التي ينبغي أن نتبعها، وطرق أخري يجب أن نتحفظ منها.

يلزمنا أن نتبع طرق الرب، ونتحفظ من طرقنا لئلا تقودنا إلي الخطية.

يمكن للشخص أن يتحفظ إن كان غير مسرعٍ في الكلام. يقول الناموس: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهك..." تث 4:6. لم يقل: "تكلم"، بل "اسمع".

سقطت حواء لأنها قالت للرجل ما لم تسمعه من الرب إلهها. كلمة الرب الأولى تقول لك: "اسمع!"

إن كنت تسمع فإنك تُحفظ من طرقك، وإن سقطت اصلح طرقك سريعًا. لأنه "بماذا يُقوِّم الشاب طريقه إلا بحفظه كلمة الرب؟!" [9]. أول كل شيء كن صامتًا واسمع فلا تسقط بلسانك1.]

القديس إمبروسيوس

إذ يقول المرتل: "لا تبعدني عن وصاياك" [10] يتساءل البعض: هل يبعدنا الله عن وصاياه؟ أو كما يترجمها البعض: "يضلنا" عنها؟

v     نتساءل ما إذا كان الرب هو الذي يجعلنا نضل عن الوصايا الإلهية. قد يفكر البعض هكذا...

يقول النبي: إنني لم أطلبك ظاهريًا وسطحيًا وإنما: "من كل قلبي طلبتك"، لهذا فلتكافئني بأن لا تبعدني (تُضلني) عن وصاياك. لنفحص هذا النص ونحاول أن نوفق بينه وبين القول: "كل من له يُعطى ويزداد، ومن ليس له - حتى وإن ظن أن له - فالذي عنده يؤخذ منه" (مت 29:25). نقول إن الذي يطلب من كل قلبه، يُعطى له بالعون الإلهي ما ينقصه حسب طبيعته البشرية حتى يتمم كل وصايا الرب. أما من لا يطلب الرب بكل قلبه، ممارسًا أعمال الرب بتراخٍ (إر 10:31 )، فسيؤخذ منه ما يظن أنه يعمله كأعمال الله.

حقًا لقد أبعد الله شعب الختان عن وصاياه، محطمًا بذلك الأمور المنظورة التي للوصايا؛ حطم الهيكل وكل ما كان خاصًا بالرب لإتمام العبادة حسب الشريعة التي حفظوها حرفيًا.

العلامة أوريجينوس

يعتمد أبوليناريوس على ترجمة أكيلا: "لا تجعلني أخطىء سهوًا"، فيقول إن المرتل يخشى ألا يفهم وصايا الله جيدًا كما يحدث مع كثيرين خلال نقص الإدراك السليم مما يجعلهم يفهمونها بخلاف ما تعنيه فيسلكون في غير استقامة. وكما يقول الحكيم سليمان: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة ولكن نهايتها يصل إلي أسفل الهاوية" أم 12:14.

2. الوصية تقدس قلب الشاب

ربما كان داود النبي شابًا حين وضع هذا المزمور أو على الأقل الأجزاء الأولى منه. لقد أدرك كشاب حاجته إلي الوصية الإلهية، كي ينير الرب بصيرته فيكتشف أعماقها ويختبر قوتها في حياته. لهذا يصرخ قائلاً:

"من كل قلبي طلبتك،

فلا تبعدني عن وصاياك" [10].

إذ أدرك المرتل إمكانية الوصية في تقديس قلبه، صار يطلب من الله بإخلاص، بكل طاقاته الداخلية ألا يحرمه من وصيته. وفي نفس الوقت كلما تمتع بخبرة الوصية في أعماقه يزداد لهيب قلبه نحو طلب الله. إنها سلسلة حب ناري فيها يمارس الشاب الطلبة الدائمة مع اكتشاف الوصية الإلهية، كل منهما تسند الأخرى.

جيد للمؤمن أن يقرأ الوصية أو ينصت إليها أو يحفظها عن ظهر قلب لكن هذا كله لا يحفظه من الشر مالم يطلبها ويشتهيها من كل قلبه. لهذا نطلب من الله أن يرفع عن قلوبنا البرقع فنلتقي بكلمة الله في أعماقها ونحاورها ونتجاوب معها لخلاصنا.

v     الذي لا يحطم ذهنه وعقله بالعالميات يطلب الله من كل قلبه، أما من ينشغل تارة في طلب الخلاص وأخرى في الشهوات الجسدية وهموم العالم الذميمة، فإنه يلبث في الأخيرة ويصير بعيدًا عن وصايا الله ولا يفهمها.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     بما أن ذكر الله يجعلنا نهرب من الشباك الشيطانية، وحيث إنني كرست لك يا إلهي كل عقلي وكل إدراكي، لذا فأنا لا أستحق أن أمكث خارج وصاياك.

البابا أثناسيوس الرسولي

إذ يسلم الشاب حياته بين يدّي الله يسأله ألا يبعده عن وصاياه، بمعنى انه حتى إن اشتاق في لحظات ضعفه أن يترك الوصية فليصده الله بكل وسيلة، ولو بتأديبات قاسية. بذات الروح يصرخ القديس أغسطينوس في لحظات توبته، قائلاً: "إن قلت لك توبني غدًا، فلتكن توبتي الأن".

هذا هو الحب الحق أن يلقي الشاب بأرادته بين يديْ الله ليوّجهها الله حسب أرادته الصالحة...

لا يقف الأمر عند إعلأن المرتل الشاب اشتياقه ألا يحرمه الله من خبرة الوصية وإدراك أعماق معانيها، وإنما يعترف لله بأنه يتلقف الوصية من يديه ككنزٍ ثمينٍ لا يأتمن أن يودعه إلا في قلبه... يخفيه فيه حتى لا يتسلل إليه عدو ويغتصبه منه. إنه يخفي الوصية في قلبه لكي يلهج فيها لبنيانه الداخلي، ولكي يشهد لها أمام الغير في الوقت المناسب. إنه لا يخفيها في عقله لئلا تضيع من ذاكرته، إنما في قلبه لكي بالحب تتحول إلي عملٍ مبهجٍ. يخفي المرتل الوصية في أعماقه لتقدسه فلا يخطىء إلي الله، إذ يقول:

"أخفيت أقوالك في قلبي،

لكي لا أخطىء إليك" [11].

v     إنه يخطىء في حق الله من يظن أنه مستحق أن يعلن عن الأقوال المخفية التي يجب أن تبقى مخفية عن الأشرار، فلا يخبئها عنهم، كاشفًا عنها لمن لا يجب أن يعرفوها. فإن الخطر لا يقوم على قول الكذب فحسب، وإنما يقوم أيضًا على قول الحقيقة بالكشف عنها لمن لا يجب أن تعلن لهم. "لا تطرحوا درركم قدام الخنازير، ولا تعطوا القدس للكلاب" مت 6:7.

العلامة أوريجينوس

v     من لا يقبل تعاليم الله سطحيًا وظاهريًا كما يخفيها في قلبه حتى يتقوَّم فكره وأيضًا نياته، فيصير خاليًا من الخطية أمام الله الذي يرى الخفيات، فإنه لا يرتكب فقط الزنا بل وكل شهوة شريرة. تطابق هذه الآية الكلمات: "يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك حتى تميل أذنك إلي الحكمة" أم 1:2،2.

القديس ديديموس الضرير

v     إن لم نخفِ أقوال الله في قلبنا مثلما نخفي جوهرة يأتي الشرير ويخطفها (مت19:13).

القديس أثناسيوس الرسولي

v     طلب أولاً العون الإلهي لئلا تُخفي كلمات الله في قلبه بلا ثمر، حيث لا يتبعها أعمال البر. لهذا فإنه بعد قوله هذا أضاف: "مبارك أنت يارب، علمني برك" [12].

لأنني أخفيت كلماتك في قلبي لكي لا أخطئ إليك يا من اعطيتني الناموس، هبني أيضًا بركة نعمتك، حتى بعمل ما هو مستقيم أتعلم ما أوصيت به...

القديس أغسطينوس

يقدم أنثيموس أسقف أورشليم ثلاثة أسباب لإخفاء كلام الله في القلب:

[أ. إنه يخفي كلام الله في قلبه ذاك الذي يحذر من الخطأ؛ ليس فقط في العمل الظاهر وإنما أيضًا في الفكر الخفي. مثل هذا يجتنب ليس فقط الفسق وإنما انحراف شهوته وميلها الخفي...

ب. وأيضًا الذي يخفي في قلبه أسرار الإيمان ولا يبيح بها للكفار، عاملاً بقوله: "لا تطرحوا درركم أمام الخنازير".

ج. كذلك من يخفي أقوال الله في قلبه لئلا تخطفها طيور السماء، أعني بها الشياطين الساقطين من السماء، فلا تسلبها إياها بواسطة الشك والكبرياء أو بفكر شرير...]

يخفي المؤمن وصية الله - كنزه الثمين - في قلبه، أثمن ما في حياته، مركز الحب والحياة، وموضع الأمان، فلا يقدر العدو أن يسطو علىه ليغتصبها منه. نخبىء وصية الله، فلا تقدر خطية ما أن تختفي في القلب أو تتسلل إليه، إذ لا يمكن للظلمة أن تجد لها موضعًا حيث يوجد النور.

ولعل المرتل أخفي الوصية في قلبه كي يتأملها وينشغل بها فتهضمها معدته الروحية. فكما أن الطعام الذي لا يُهضم لا يفيد الجسم بشيء هكذا من يسمع الوصية ولا يتأملها وينشغل بها لا تنتفع بها نفسه.

3. الوصية وحياة التسبيح

 إذ يقتني الشاب الوصية ككنز يستحق إخفاءه في القلب، كي يحمله معه أينما وجد، يبعث في داخله روح التسبيح، قائلاً:

"مبارك أنت يا رب،

فعلمني حقوقك" [12].

v     ذاك الذي طلب الله ملتمسًا هذا بكل قلبه، وأخفي أقواله الإلهية، نجح في الصلاح واستحق أن يشكره، قائلاً: "مبارك أنت يا رب".

أنثيموس أسقف أورشليم

شتان بين تسبيح يصدر عن الفم دون القلب، وآخر ينبع تلقائيًا خلال شبع القلب بالوصية وتهليله بعمل الله فيه، حيث يبارك المؤمن الرب من أجل كلماته السرية الإلهية التي ائتمنه علىها كإعداد للقلب ليصير عرشًا لله وهيكلاً له، يسكن فيه فيفيض علىه دائمًا بأسرار جديدة ومعرفة إلهية.

سرّ التسبيح هو تجلي الكلمة الإلهي في القلب كمعلمٍ يعلمنا حقوقه، ويهبنا تنفيذ وصيته، ويقودنا في حياة الشركة مع الله الآب بروحه القدوس فنشارك السمائيين تسابيحهم.

v     بفمه تفهم كلمته التي يعلنها لنا بإعلانات كثيرة خلال قديسيه وفي العهدين، الأمر الذي لا تكف الكنيسة عن أن تنطق به في كل العصور بشفتيها.

القديس أغسطينوس

4. الوصية وشهادة الشاب لها

إخفاء القلب للوصية ككنزٍ ثمينٍ يبعث روح التسبيح والفرح الداخلي. بهذا الروح ينطلق الشاب للشهادة للوصية أمام الآخرين، إذ يقول:

"بشفتي أخبرت كل أحكام فمك" [13].

كيف أظهر المرتل كل أحكام فم الله بفمه بينما قيل: "أحكامك هي لجة عظيمة" مز 6:36، كما قيل: "ما أبعد أحكام الرب؟!" (رو33:11)

يجيب العلامة أوريجينوس: [لم يقل داود النبي: "بشفتي أظهرت كل أحكامك"، بل قال: "بشفتي أظهرت كل أحكام فمك". فإن عبارة: "أحكام فم الرب" تعني الأحكام التي يمكن التعبير عنها، المنطوقة لكي تُنشر وتُعلن. "فم الرب" هنا هم "الأنبياء"... كما قيل: "فم الرب تكلم" إش20:1؛ هذا يعني كلمات الرب كما ينطق بها أحد المفسرين.]

يقول يوسابيوس القيصري: [أخفيت التعاليم الخفية في قلبي، وأيضًا العلوم والمعارف المستترة، أما هذه الأحكام فأظهرتها للكل، حيث تدركها كل البشرية وتتفهمها، إذ يجب أن يظهر الكل أمام كرسي المسيح (2كو10:5).]

v     إننا نفهم أنه ليس طريق لشهادات الله أكثر سرعة وأعظم أمانًا وأقصر واسمى من المسيح الذي فيه تختفي كل كنوز الحكمة والمعرفة. لهذا يقول إن له بهجة عظيمة في هذا الطريق كما في كل غنى.

هذه هي الشهادات التي بها تنازل ليؤكد لنا أنه هكذا يحبنا...

القديس أغسطينوس

5. الوصية غنى الشاب

 "وفرحت بطريق شهاداتك

 مثل كل غنى" [14].

 كان داود النبي يشتهي أن يبني بيت الرب، وإذ جاءه الوعد أن يقوم ابنه بهذا الدور فتح أبواب خزائنه ليجمع الذهب والفضة وكل ما هو ثمين، لا ليفتخر بالغنى والثروة، وإنما ليعد لابنه كميات وفيرة لبناء الهيكل... كان متهللاً بهذا العمل. لقد حُرم داود من بناء الهيكل على جبل صهيون لكنه فتح خزائن قلبه لغنى الوصايا الإلهية الوفيرة التي تقيم مقدسًا للرب في أعماقه، وتحول حياته بكل ما فيها من متاعب وآلام إلي شهادة حق لله!

v     سبق أن تكلمنا عن "الشهادات" (الاستشهاد). طريق الشهادات يتحقق عندما نسلك "ليس عن حزنٍ أو اضطرارٍ" (2 كو 7:9)، وإنما بفرحٍ كاملٍ كقول داود النبي. وكما جاء في رسالة بولس الرسول إلي أهل كورنثوس: "أشكر إلهي في كل حين من جهتكم على نعمة الله المعطاة لكم في يسوع المسيح، انكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم" 1كو4:1-5. لأن الغنى متنوع لذلك يقول: "إنكم في كل شيء استغنيتم"، بمعنى: في كل فضيلة، بالعمل والتأمل، حيث يطابق العمل الإدراك.

حقًا إن من يحصل على غنى مادي يفرح بسبب هذا الغنى، ليس عندما يكون لديه جزء من الغنى، وإنما يحصل على "كل الغنى"، كل الأصول الثابتة والمتداولة، أي العقارات والنقود. هكذا أيضًا من يرغب في الغنى الروحي يفرح ويبتهج عندما ينال غنى كاملاً، وذلك بفضل تقدمه في شهادات الرب وممارسته للفضائل. كأنه يقول: لتكن شهاداتك هي التي تغنيني عن كل شيء، لتكن هي فرحي وغناي.

العلامة أوريجينوس

6. الوصية وحياة الهذيذ

 إذ يخفي الشاب وصايا الله في قلبه بكونها أسرار الله غير المنطوق بها يدرك أنها كنزه وغناه الروحي. لهذا لا يتوقف عن الهذيذ أو التأمل فيها، إذ يقول:

 "بوصاياك أتكلم (أتأمل)، واتفهم في طرقك،

 بفرائضك ألهج (أتلذذ)، ولا أنسى كلامك" [15-16].

v     نتعلم من هذه الكلمات أنه يستحيل أن نفهم طرق الرب ما لم نفحص وصاياه إلي أعماقها، فنستخدم "التأمل الرمزي "... فقد خرج إسحق يتأمل في الحقل (تك63:24)، ويُذكر أحيانًا عن الأبرار انهم كانوا في تأمل صالح.

 بالتأكيد إذ نقضي وقتًا طويلاً أمام وصايا الله "نفهم طرقه"، هذه الطرق هي الناموس والأنبياء، وهي تؤدي إلي الطريق الملوكي الكامل "المسيح" الذي قال عن نفسه: "أنا هو الطريق" يو6:14.

v     إنني أتلذذ بفرائض الله، لا بكلمات أو عبارات جميلة، وإنما بتحقيقها بعد فهمها، لأنه: ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون" رو13:2. يتلذذون بفرائض الله بأعمالهم. بهذا إذ هم يتلذذون في فرائض الله لا ينسون كلمات الله أبدًا.

العلامة أوريجينوس

إذ يتحدث القديس جيروم عن مرسيلا إلي صديقتها الملتصقة بها Principia يقول:

v     بهجتها في الكتب الإلهية لا تُعقل كانت تتغنى على الدوام قائلة: "خبأت كلامك في قلبي كي لا أخطئ إليك"، وأيضًا الكلمات التي تصف الإنسان الكامل: "في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً" مز2:1. هذا اللهج في الناموس لم تفهمه ككلمات مكتوبة كما يفعل اليهود والفريسيون، بل تفهمه كعملٍ كقول الرسول: "لذلك أن أكلتم أو شربتم وكل ما فعلتم فليكن لمجد الله" 1كو31:10... لقد شعرت بالتأكيد أنه حينما تتمم هذه الوصايا يُسمح لها أن تفهم الكتب المقدسة1.

القديس جيروم

يُلاحظ في هذه الفقرة أن المرتل لا يفصل بين الله ووصيته، عندما يقول: "من كل قلبي طلبتك" يكمل: "فلا تبعدني عن وصاياك". وهذا هو سرّ غنى الوصية أن من يقتنيها إنما يقتني الله نفسه، لهذا نراه يحدث الشباب عن هذا الكنز هكذا:

 1. اقتنِ أيها الشاب الوصية فتقتني الحياة المستنيرة المقدسة، إذ تقتني الله القدوس داخلك [9-11],.

 2. الوصية تطهر القلب فيشتاق بالأكثر نحو الله، والاشتياق لله بكل القلب يدفع الشاب إلي حفظ الوصية [10]، هي سلسلة حب نحو الله ووصيته!

 3. إذ يرتمي الشاب في حضن الله يشعر بتسليم كامل بين يديه، لهذا يسأله: "لا تبعدني عن وصاياك" [10]. كأنه يقول: حتى إن أردت أن انحرف عن وصيتك، احمني من هذا بكل وسيلة، حتى إن بدت لي مُرة.

 4. إن كان قلب الإنسان هو أثمن ما لديه، فإنه يليق به أن يضع كنزه "الوصية الإلهية" فيه! ليُخفي كنز الله في قلب المؤمن الثمين في عيني الله!

 إذ يخفي القلب الوصية يستنير فلا يمكن للخطية أن تحتله أو تتسلل إليه!

 5. أروع ثمار هذا الكنز المخفي هو امتلأء القلب بالبهجة والتسبيح [12]، حيث يسكن كلمة الله نفسه في القلب ليمارس عمله كمعلم [12]، يدرب النفس على حفظ الوصية بفرحٍ، وعلى الشركة مع السمائيين في حياة التسبيح.

 6. ما يتمتع به الشاب خفية بسكنى الوصية فيه يتحول إلي شهادة عملية بالفم والعمل [13]. ما يتعلمه في الخفاء يُنادى به على السطوح (مت27:10).

 7. ينعم الشاب بالوصايا كثروة وفيرة قادرة أن تقيم مقدسًا للرب في داخله.

 8. إذ يدرك الشاب قيمة هذه الخزائن لا تفارقها عيني قلبه، ولا يمكن لأمرٍ ما أن يشغل فكره عنها... إنه يتأملها ويتفهمها [15]، ويلهج فيها نهارًا وليلاً ولا ينساها [16].

 

V  V  V


 

من وحي المزمور 119(ب)

وصيتك هي غناي!

v     مادمت في الجسد فأنا شاب محتاج إلي تقويمٍ مستمرٍ.

 وصيتك تقوّم حياتي وتقدس قلبي،

 وصيتك تشبع كل احتىاجاتي،

 هي غناي وكنزي الثمين!

v     سّيج حول قلبي فلا أطلب غيرك!

 إن انحرف قوِّمه بتأديباتك الأبوية،

 فلا أبتعد عن وصاياك.

v     احفظ قلبي كله في وصيتك،

 وأحفظ وصيتك في قلبي،

 أخبئها فيه لأنها كنزي.

 لقد قبلت وصيتك بعقلي، أريدها في قلبي.

 قد تخونني ذاكرتي فأنسى وصيتك وسط الإغراءات،

 أما قلبي فيخفي وصيتك، ويعشقها تمامًا.

 لا تقدر إغراءات ولا ضيقات أن تسحبها من داخلي!

 أين أحتفظ بوصيتك كي لا يخطفها العدو؟

 قلبي هو خزانة أمينة مادام مصونًا بنعمتك.

 أخبئ وصيتك في قلبي فلا تختبئ معها خطية.

 أخبئها لكي أتاملها بحبي وكل عواطفي،

 أخبئها ولا أقدمها لمن يحتقرها ويستهين بها.

 أخبئها فيه لأحملها معي أينما وجدت؟

v     التصقت وصيتك بقلبي،

 من ينزع عني وصيتك ينزع قلبي ذاته ويحرمنى حياتي.

v     إذ أخفي وصيتك في قلبي أراها كل غناي.

 يلهج فيها قلبي ويتأملها بلا انقطاع.

 أتأملها لا بأفكارٍ وكلماتٍ فحسب،

 وإنما بممارستها والحياة بها وفيها.

 أجد في تحقيقها لذة العشرة معك!

 لارتبط بالوصية فارتبط بك يا غنى نفسي!

<<


 

 

3 - ج

 

الوصية ... عزاء في الغربة

[17-24]

إن كان الشاب يحتاج إلي الوصية الإلهية لتقديس قلبه وأعماقه الداخلية، ينعم بها ككنزٍ يستحق أن يخفيه، فيمتلىء فرحًا وتهليلاً، ويتلذذ بالتأمل فيها والتعرف على أسرارها، والعمل بها، والشهادة أمام الغير، فمن جانب آخر يدرك حقيقة موقفه كغريب ونزيل يجد فيها عزاءه.

الأن ما هي بركات الوصية لنا كغرباء على الأرض؟

1. الوصية حياة17.

 2. الوصية استنارة18.

 3. الوصية رفيق في الغربة  19،20.

 4. الوصية والغلبة على الأشرار21.

 5. الوصية ترفع عنا العار 22.

 6. الوصية ومؤامرات الأشرار 23.

 7. الوصية واللذة الروحية 24.

تحدث قبلاً كشابٍ يبدأ طريق حياته العملية باقتناء الوصية الإلهية التي تشبع اشتياقاته وتحقق أماله بكونها الكنز السماوي؛ الأن إذ بدأ الطريق شعر بالغربة، ليس من يسنده في مواجهة المتاعب إلا الله نفسه بكونه صديقه الشخصي الذي يهبه الحياة ذاتها كمكافأة وكل مقوماتها، ويسنده ضد الشر، وينزع عنه العار.

1. الوصية حياة

لعل المرتل قد حمل مشاعر الابن الراجع إلي أبيه، فقد تطلع من بعيد ليجد الأجراء ينالون أجرتهم في بيت أبيه ويحيون، أما هو فيموت جوعًا (لو 15). لهذا صرخ إلي أبيه طالبًا منه أن يهبه أجرة فيحيا كأجير، واعدًا إياه ألا يعود إلي كسر وصيته الأبوية. إنه في حكم الميت بسبب عصيانه وتركه بيت أبيه، لهذا يصرخ قائلاً:

"كافيء عبدك فأحيا، واحفظ أقوالك" [17].

 لماذا يقول المرتل "كافيء عبدك

كلمة "يكافيء" في العبرية Gamal، وقد جاءت كل عبارات هذا الاستيخون (المقطع) الثمانية تبدأ في العبرية بالحرف "ج gimel".

يقول السيد المسيح: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" رو 63:3. فإننا إذ نلتصق بكلمة الله الثابتة إلي الأبد لا يقدر الموت أن يمسك بنا بل نحيا مع الرب إلي الأبد كمكافأة للبنين. لنطلب أن نُحسب كأجراء، فسيهبنا الله مكافأة البنين.

إذ يرتبط المرتل بالوصية يطلب "الحياة" مكافأة له، إذ بالوصية يدرك قبوله لدى الله، فينعم بالآب أبًا له، وبالكلمة الإلهي أخًا بكرًا ومخلصًا، وبالروح القدس مقدسًا ومعزيًا وقائدًا له. هذه هي الحياة التي يشتهيها المرتل كمكافأة لارتباطه بالوصية خلال النعمة الإلهية.

يقول العلامة أوريجينوس: [قلبنا ليس نقيًا، ولا نملك حرية الحديث مع الله، قائلين في صلواتنا: "كافيء عبدك"، لأنه إن جاء ليكافئنا فسيجازينا على خطايانا.

من كان مثلنا نال رحمة من الله فليقل: "لا تجازينا يا الله حسب خطايانا، ولا مثل آثامنا تكافئنا". أما من له حرية الحديث مع الله بضميرٍ مستريحٍ فيقول: "كافيء عبدك"، لأنه لم يعمل شيئًا يستوجب العقاب. ولئلا يكون حديثه بافتخار ففي حذر لا يقول: "كافيء" فقط وإنما "كافيء عبدك"، أي بكوني عبدك الذي أخدمك.]

ما هي الحياة التي يطلبها المرتل من الله مكافأة له كعبد له؟

v     بقوله: "فأحيا" لا يطلب طول العمر العادي، إذ يطلب حياة مرضية لله، لذلك يقول: "وأحفظ أقوالك"، لأن حفظ أقوال الله وعمل وصاياه هما العمر الحقيقي وعلة الحياة الأبدية.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     كلمة "فأحيا" توحي بحركة حياة في المستقبل. فإنني لست أفكر في الحياة الحالية، إذ يقول "سأحيا"، وهذا يتمشى بالتأكيد مع الحياة الحقيقية.

لنسمع القديس بولس وهو يتحدث عن نفسه وعن أمثاله: "حياتنا مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تضيئون أنتم أيضًا معه في المجد" (راجع كو3:3).

لنفهم "سأحيا" أنها تخص المستقبل، وأيضًا "أخبىء كلامك" سيكون ذلك حقيقة ليست في مرآة ولا في لغز.

العلامة أوريجينوس

v     إنني لا أشعر بأنني أتمم وصاياك بدون مكافأة؛ اعطنا أجر هذا حياة خالدة سعيدة أعيشها وأحفظ أقوالك.

القديس ديديموس الضرير

v     من يقدر أن ينكر أن عطية الحياة هي عمل العظمة الإلهية؟ مكتوب "أحيي عبدك" [17]. إذن يحيي من هو عبد، أي الإنسان، الذي لم تكن له حياة من قبل، بل تسلمها كعطية له1.

القديس إمبروسيوس

2. الوصية استنارة

"اكشف عن عيني، فأتأمل عجائب من ناموسك" [18].

v     دُعي الأنبياء "رائين" (1صم9:9)، لأنهم رأوا هذا الذي لم يره غيرهم.

إبراهيم رأى يومه (المسيح) وتهلل (يو 56:8).

خُتمت السماوات بالنسبة للشعب المتمرد، بينما فُتحت لحزقيال...

الناموس روحي (رو 14:7)، لكن الحاجة إلي إعلأن يعيننا على فهمه، عندما يكشف الله عن وجهه لنراه ونعاين مجده1.

 القديس جيروم

v     ليتنا نحن الذن نريد أن نكون كاملين حسب قياس ضعفنا البشري نظن هذا، أننا لم ننل بعد، ولا أدركنا، ولا صرنا كاملين، وإذ نحن لسنا بعد كاملين... لنصلِ مع داود قائلين: "افتح عيني لأرى عجائب من شريعتك"2.

v     إن كان نبي عظيم كهذا يعترف أنه في ظلمة الجهل، كم بالأكثر تظنون يكون ليل عدم إدراكنا نحن الذين هم رضع وأطفال غير مفطومين يحوط بنا؟!3

 القديس جيروم

v     واجبنا إذن أن نقترب إلي الله ونقول: "افتح عيني فأرى عجائب من ناموسك". هكذا يُعلن لنا عن المسيح4.

القديس كيرلس الإسكندري

إذ يدرك المرتل أن حياته هي مكافأة أو هبة من عند الله، يشعر بالالتزام أن يكرس هذه الحياة لحساب الله، لخدمته ونمو ملكوته.

كلمة اكشف unveil هنا تعني رفع البرقع عن العينين "اكشف عن عيني، فأتأمل عجائب من ناموسك" [18]. لقد وُجد الناموس بين يدي اليهود لكنهم لم يتمتعوا بعجائبه، أي بالسيد المسيح الذي "يدعى اسمه عجيبًا" إش 6:9، لأنه كما يقول عنهم الرسول بولس: "اغلظت أذهانهم، لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باقٍ غير منكشف الذي يبطل في المسيح... ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآة نتغير إلي تلك الصورة عينها من مجدٍ إلي مجدٍ كما من الرب الروح" 2كو14:3، 18. وكأن الرسول يطلب نزع برقع الحرف لنفهم وصايا العهد القديم ورموزه ونبواته، كما يطلب رفع برقع الخطية حتى ندخل في حياتنا الجديدة من مجدٍ إلي مجدٍ ونتأهل لرؤية الله.

بمعنى آخر يطلب المرتل وهو بعد تحت ظلال العهد القديم أن يتمتع بالاستنارة، أي ينزع الرب عن عينيه النظرة الحرفية لكلمات الله، ويهبه حياة دائمة النمو في الروح... بهذا يعاين مجد السيد المسيح، أي "عجائب ناموسه".

الكبرياء الذي حجب أعين اليهود عن إدراك شخص المسيا بالرغم من وضوح النبوات عنه هو أيضًا يُفقد الإنسان المسيحي إدراك قوة الإنجيل في حياته العملية.

v     أظهر النبي أن عينيه كانتا محتجبتين ببرقعٍ، وذلك مثلما يكون في داخلنا شر وفساد بسبب "الشيخوخة" التي للإنسان العتيق (كو9:3). لا يقدر أحد أن ينزع الفساد إلا واحد، وهو كلمة الله، فقد "أرسل كلمته فشفاهم، وخلصهم من فسادهم" مز20:106. جاء كلمة الله وكشف عن العيون، ورفع البرقع: "عندما نرجع إلي الله يُرفع البرقع" 2كو16:3؛ خر34:34.

يعرف النبي أنه إذ تملك الوصية تجعلنا نمارس الأعمال الصالحة، لهذا يحاول أن يعرف بركة الوصية لا بطريقة اليهود (الحرفية) وإنما بقوة وروحانية، لهذا يقول: "اكشف عن عيني، فأتأمل عجائب من ناموسك". وإذ يصير لنا الوجه المكشوف يُعلن مجد المسيح كما في مرآة، ونتحول إلي هذه الصورة، ونتأمل عجائب الله وناموسه.

v     للإنسان الخارجي عينان، وأيضًا للإنسان الداخلي، إذ قيل: "أنر عيني لئلا أنام نوم الموت" مز 13 (12):3...

بحفظ وصايا الرب لا يصير لنا النظر الحاد جسمانيًا، وإنما بحفظ الوصايا الإلهية يصير لنا بصر الذهن الحاد.

ترى عينا إنساننا الداخلي بأكثر كمال: "اكشف عن عيني، فأتأمل عجائب من ناموسك"...

يسوع وحده له أن يكشف عنهما، فيمكننا أن نفهم الكتب المقدسة، ونتأمل ما عُبِّر عنه بطريقة غامضة1.

العلامة أوريجينوس

لنصرخ دومًا ونحن في أرض غربتنا ليهبنا روح الاستنارة، فنرى وصايا الله في أعماقها، وندرك أسرار عمل الثالوث في حياتنا، فترتفع نفوسنا كما بجناحي الروح، وتتلامس مع عربون المجد المُعد لنا؛ عندئذ نقول: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات" أف6:2.

لقد طلب المرتل في غربته عون الله كي يحيا، والأن يطلب الاستنارة، لأنه ماذا ينتفع بحياته إن كان في ظلمة، لا يري فيها فيض نعم الله وإحساناته علىه؟!

يستخدم القديس أغسطينوس هذه العبارة [ع18] ثم يقول: [أنت تعرف عدم مهارتي وضعفاتي! علمني! اشفني!2]

إننا في حاجة إلي عمل الله - المعلم الفريد - القادر أن يُقدم تفاسير للكتاب لا لإشباع الذهن فحسب، وإنما يفتح عن البصيرة الداخلية للتمتع بقوة الكلمة وبهجتها وغناها.

v     ليتنا نسأل ذاك "الذي له مفتاح داود الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح" رؤ7:3، لكي يفتح لنا حجرات الإنجيل فنقول أيضًا مع داود: "افتح عيني فأتأمل عجائب من ناموسك" [18]...

إننا نتوسل إلي الرب لكي يدخل بنا إلي أسراره، ويُحضرنا إلي حجاله، ويسمح لنا أن نقول مع عروس نشيد الأناشيد: "أدخلني الملك إلي حجاله" نش4:1(LXX)

يقول الرسول إن برقعًا قد وُضع على عيني موسى (2كو13:3-17)، وأنا أقول انه ليس فقط يوجد برقع على الناموس، بل وأيضًا على الإنجيل لمن لا يفهمه... إذن لنترك الحرف الذي لليهود، ولنتبع الروح الذي ليسوع، لا بمعنى أننا نحتقر حرف الإنجيل، وإنما كل شيء قد جاء كي يعبُر - كما هو مكتوب - وإنما بالصعود درجات معينة نتسلق إلي الأماكن العلوية3.

القديس جيروم

3. الوصية رفيق في الغربة

"غريب أنا على الأرض،

فلا تخفِ عني وصاياك" [19].

كان داود النبي والملك والمرتل إنسانا له شهرته، وله إمكانياته وخبراته، ومع هذا حسب نفسه غريبًا، محتاجًا إلي وصايا الله لتكون له قائدًا ومرشدًا ورفيقًا ومعزيًا له في غربته.

عمل الوصية الإلهية الأساسي هو تهيئة الإنسان للمواطنة السماوية؛ بها يدرك حقيقة موقفه كغريبٍ ونزيلٍ فينضم إلي رجال الإيمان (عب 13:11-16). وفي نفس الوقت شعوره بالغربة يدفعه إلي الالتصاق بالوصية كي تسنده كل زمان غربته وترفعه إلي الحياة السماوية.

v     من يحب الأرضيات وشهواتها لا يفكر في أن يكون مع المسيح بعد انتقاله، ولا يقدر أن يقول: "غريب أنا على الأرض"، إذ هو مهتم بما للأرض. أما من يقول: "لا تخفِ عني وصاياك" فهو قديس... لذلك يطلب النبي من الله أن يكشف له عظائم وصاياه للحياة السماوية.

العلامة أوريجينوس

v     يحتاج الغرباء على الأرض إلي وصايا الله لكي تحميهم من أعمال الجسد ومحبة العالم.

من يتبع هذه الوصايا تعتاد نفسه عليها، ولا يقدر العالم أن يغلبه.

لكن توجد وصايا كثيرة مكتوبة برموز مثل: "والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من أمتعته شيئًا" (مت 17:24؛ مر15:13؛ لو31:17)؛ "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 22:8)... كل هذه ليست واضحة في المعنى، كذلك الوصايا الخاصة بالذبائح والأعياد والحيوانات الطاهرة والنجسة... لهذا يليق بالغريب على الأرض أن يطلب من الله أن يضيء له وصاياه ولا يخفيها عنه، لكي يتممها ويحبها ويصير بلا لوم.

يوسابيوس القيصري

v     إننا أجراء أو غرباء على الأرض، إذ نجد مدينتنا فوق، حيث ننال هنا العربون، وإذ نبلغ ذلك لا نرحل (عنها).

v     أولئك الذين محادثتهم في السماء، فإنهم إذ يقطنون هنا بمهارة هم في الحقيقة غرباء.

القديس أغسطينوس

المؤمن الحقيقي يرى في وصية الرب رفيقًا له في غربته، أشبه بصديقٍ حميمٍ يسنده في مواجهة الحياة. إنها مصدر تعزية له وسط الآلام، ومصدر لذة روحية، تحول وادي الدموع إلي حياة فردوسية مفرحة، لهذا لا يمارس الوصية عن إكراهٍ بل بلذة.

يقول المرتل:

 "اشتاقت نفسي إلي اشتهاء أحكامك في كل حين" [20]

يقول القديس هيلاري أسقف بواتييه أن المرنم لم يجسر أن يقول بأنه يريد أحكام الله بل يشتاق أن يكون له نقاوة القلب مع الأعمال حتى يتقبل أحكام الله في كل حين.

سبق فطلب المرتل من الله أن يفتح وصاياه له لكي يتمتع بها، كما طلب أن يفتح عينيه الداخليتين لكي يدرك أسرارها ويتمتع بمعرفتها، الأن يطلب منه أن يفتح نفسه لكي تحمل أرادة نارية ملتهبة بالشوق نحو وصايا الرب. هكذا تصير الوصية مفتوحة والبصيرة مفتوحة والأعماق مفتوحة للتمتع بالوصية في لذةٍ روحية.

v     أعني أن نفسي قد تمنت حفظ أحكامك، وأن تصنعها بشهوة لا بضجرٍ ومللٍ، وإنما بإرادة وموالاة دائمًا.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     لماذا لم يقل: "اشتاقت نفسي إلي أحكامك" بل "اشتاقت نفسي إلي اشتهاء"؟ أليس في استطاعتنا اشتهاء أحكام الله؟...

ليس في إمكانية الجميع اشتهاء أحكام الله في كل حين. فإن البعض لا يرتكبون الخطية في وقت ما ويرتكبونها في وقت آخر، هؤلاء عندما يشتهون الأحكام يشتهون المكافأة. أما الإنسان الكامل فهو القادر أن يشتهي الأحكام في كل حين.

العلامة أوريجينوس

v     لا يقل "فرائضك" بل "أحكامك"، لنفهم أن أحكام الله تنجي بحنانه الإلهي. لذلك يرغب النبي في اشتهائها في كل حين، إذ لا يريد أن يتممها عن حزنٍ أو اضطرارٍ، وذلك مثل أولئك الذين يتممونها خوفًا من العقاب؛ بل أن يتممها عن حبٍ ورغبةٍ. بهذا يتحمل بمثابرة ليس فقط الأحكام المريحة بل والمتعبة، سالكًا بكل قوة في كل عملٍ صالحٍ.

القديس ديديموس الضرير

v     بكونه غريبًا على الأرض صلى ألا تُخفي عنه وصايا الله، حيث يتمتع بالحب كأمرٍ فريدٍ أو رئيسيٍ، الآن يُعلن أنه يشتهي أن يكون له الحب من أجل أحكامه. هذه الشهوة تستحق المديح لا الدينونة...

القديس أغسطينوس

v     هكذا هي محبة القديسين في كل الأزمنة، فإنهم لم يتوقفوا قط عن تقديم ذبيحة دائمة للرب بلا عائق، بل كانوا يعطشون على الدوام ويسألون الرب أن يشربوا كما ترنم داود قائلاً: "اشتاقت نفسي إلي اشتهاء أحكامك في كل حين" [20]1.

 القديس أثناسيوس الرسولي

4. الوصية والغلبة على الأشرار

إن كانت الوصية تبعث لذة في النفس، فهي من جانب آخر تعطي قوة على الجهاد ضد خطط المتكبرين الذين حادوا على وصايا الرب، كما تعطي قوة للغلبة على روح الكبرياء الذي يحاربنا كي نحيد عنها.

"انتهرت المتكبرين،

ملاعين الذين حادوا عن وصاياك" [21].

انتهر الله الشيطان المتكبر وطرده من السماء، كما انتهر فرعون وشاول الملك ونبوخذنصر الخ... فهو ينتهر المتكبرين ويقاومهم ( يع6:4؛ 1بط5:5) ويبطل تعظمهم (إش11:13) ويشتتهم بفكر قلوبهم (لو51:1)، ويعطي نعمة للمتواضعين.

v     لا يوجد عائق عن نوال أحكام الله، إلا عدم الرغبة فيها... فإن نورها واضح ومشرق.

القديس أغسطينوس

v     الكبرياء هو سبب الأنحراف عن وصاياك يا رب. لذلك انتهرت (يا رب) المتكبرين، بقولك في إرميا النبي إن الإسرائيليين في كبريائهم قالوا: انصرفنا ولا نعود إليك، ووضعت لعنات في شريعة موسى ليس فقط على الذين يخالفون وصاياك بل وأيضًا للذين يميلون عن استوائها المستقيم.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     يضل المتكبرون عن وصايا الله. فإن عدم إتمام وصايا الله عن ضعف أو جهل شيء، والضلال عن الوصايا خلال الكبرياء شيء آخر...

القديس أغسطينوس

v     متى لا يكون للشرير قوة في معركته معنا؟...

يحاربنا الشرير ليس فقط لكي نفعل الخطية بإصرار...، وإنما لكي نتكبر ونشعر أننا كاملون. لكن الله يقاوم المستكبرين ويعطي نعمة للمتواضعين (أم34:3؛ يع6:4ح 1بط5:5). لذلك كلما تتضع ترتفع وتجد رحمة عند الله (سيراخ18:3)...

من يحيد عن الوصية لا يتبعها ما دامت وصية الله مستقيمة. "ملاعين الذين حادوا عن وصاياك"، ليس فقط الذين لا يعملون بها، وإنما حتى الذين ينحرفون عنها ولو قليلاً.

العلامة أوريجينوس

مع كل ما يتمتع به المرتل من بركات في طريق غربته بسبب التصاقه بالوصية ينال اتضاعًا صادقًا لكن بغير خوف من الأشرار المتكبرين. ينال روح الوداعة الغالبة، وذلك كسيده الحمل المبذول من أجل البشرية والأسد الخارج من سبط يهوذا في مقاومته لإبليس وكل جنوده.

5. الوصية ترفع عنا العار

"دحرج عني العار والخزي،

 فإني لشهاداتك ابتغيت" [22].

أي عارٍ يريد المرتل من الله أن ينتزعه منه إلا عار الخطية، إذ يجلب الإثم إهانة حقيقية في عيني الله وخزي. فإن الخاطي المصرّ على خطيته يهين ابن الإنسان ويستحي منه، حاسبًا صليبه حرمانًا وعارًا وخزيًا، لهذا فإن ابن الإنسان أيضًا يستحي منه (لو26:9)، أما المؤمن التقي الحقيقي فيقول مع الرسول: "لست أستحي بإنجيل المسيح" رو16:1، كما يقول مع المرتل: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخزَ" مز46:119. من أجل هذا يطلب المرتل أن ينزع الله عنه الخجل والعار لكي يشهد لإنجيله حتى أمام مقاوميه، بإيمانه الحق وتوبته الصادقة ونموه الروحي.

يرى المرتل أن الأشرار قد وضعوا علىه حجرًا ضخمًا، كأنهم حسبوه قبرًا يجب إغلاقه بحجر، وها هو يشعر بالعجز التام على دحرجة هذا الحجر، طالبا التدخل الإلهي.

v     تستوجب الخطايا العار والخزي، ففي يوم الدينونة يقوم الخطاة إلي الخزي والعار الأبدي (دا 2:12)...

يوجد نوعان من العار: فمن جهة "اختار الله أدنياء العالم والمزدرى" 1كو 28:1، ومن جهة أخرى: "فاعل الشر مرذول أمامه (الرب)" مز4:15.

إني أبغض "الإهانة" التي يهينني بها البشر في جهل، فإنهم يهينون من يستحق الكرامة لا من يستحق الإهانة...

إنني أقول: "دحرج عني العار والخزي فإني لشهاداتك ابتغيت" [22]. لا تحسبني مستحقًا العار والخزى لأنني حفظت شهاداتك التي قيل عنها: "طوباهم الذين يحفظون شهاداتك" [2].

العلامة أوريجينوس

v     إذ يوجد من يجلب على العار والخزي لأنني حفظت وصاياك، "دحرج" أيها الرب "عني العار" (الذي يجلبه على الأشرار).

كيف يُنزع هذا العار وهذا الخزي؟ عندما يأتون إلي معرفة الحق، هؤلاء الذين يهينونني ويعيرونني ويعتبرونني كلا شيء، فإنهم هم أيضًا سيحفظون وصاياك معي.

القديس ديديموس الضرير

v     في وقت الاضطهاد يغطيني الكفرة بالعار ويخزونني، حينئذ أطلب الحماية حتى يبطل العار الذي يوجهونه إليّ.

القديس أثناسيوس الرسولى

لعل طلبة المرتل هنا إنما تشير إلي دور الآب في قيامة السيد المسيح فقد دحرج الأشرار الحجر على قبر المخلص وطلبوا من بيلاطس حراسته وختمه حتى يطمئنوا أنه لن يقوم. حسبوا أنهم قد دحرجوا علىه عارًا وخزيًا مع أنه لم يرتكب شيئًا إنما اشتهي شهادات الآب، أي الشهادة لحبه الفائق نحو البشرية ببذل ذاته عنهم.

إذ دخل الشعب أرض الموعد أُقيمت الخيمة في "الجلجال" وتعني "دحرجة" وقال الرب ليشوع: "اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر" يش9:5. هكذا ترافقنا الوصية حتى تخرج بنا من عبودية إبليس (فرعون مصر) وتدخل بنا في استحقاقات الدم إلي أرض الموعد، أي إلي الحياة الجديدة المقامة في المسيح يسوع.

يتطلع داود النبى إلي الكلمة الإلهي (الوصية) الذي يدحرج عنا العار، ولا يبالي بمؤامرات الأشرار الظاهرة والخفية التي تعمل على دحرجة العار علىه... إن الجلوس مع الكلمة الإلهي أعظم من الأنشغال بمؤامرات الأشرار.

v     تدعى الشهادات في اليونانية "مارتيريا"، وتستخدم نفس الكلمة الأن في اللاتينية، حيث أن هؤلاء الذين من أجل شهادتهم للمسيح قد انسحقوا بآلام كثيرة، ويصارعون حتى الموت من أجل الحق، يدعون باليونانية شهداء Martyrs... لذلك عندما تسمعون هذا التعبير الذي صار شائعًا ومبهجًا لنحسب كلمات (المرتل) هنا كما لو كانت: "دحرج عني العار والخزي، لأني ابتغيت أن استشهد من أجلك". عندما ينطق جسد المسيح هكذا فهل يُحسب ذلك عقوبة عندما ينتهره الأشرار والمتكبرون ويجعلونه في خزي، إن كان بهذه الوسائل ينال الأكليل؟.

اُنظروا فإن الاستشهاد باسم المسيح... ليس فقط عارًا بل هو زينة عظيمة، ليس فقط في عيني الرب بل حتى في أعين البشر: "كريم هو موت قديسيه". أُنظروا فإن شهداءه ليس فقط لا يُحتقرون بل ينالون كرامات عظيمة.

القديس أغسطينوس

6. الوصية ومؤامرات الأشرار

"جلس الرؤساء وتقاولوا على،

أما عبدك فكان يهتم بحقوقك" [23].

 يرى البعض في جلوس الرؤساء هنا مطابقًا لما حدث قبل السبي البابلي حيث جلس النبلاء والمشيرون مع ملوك بابل وتحدثوا بالشر على اليهود لإثارتهم ضدهم1.

 إنها صورة واقعية تتكرر في كل الأجيال حيث يجلس العظماء للإثارة ضد الأتقياء بلا سبب حقيقي. إنها مقاومة للحق الإلهي نفسه في أشخاص الأتقياء.

لقد تحقق هذا مرة ومرات في حياة المرتل داود، فقد جلس شاول الملك وحوله مشيروه يتقاولون علىه ويخططون لقتله، وتكرر الأمر مع ابنه المتمرد أبشالوم ومعه مشيره أخيتوفل... ولم يكن داود قد أساء إليهم في شيء، إنما دحرجوا علىه العار والخزي لعلة واحدة هي عدم قدرتهم على قبول اهتمامه بحقوق الله.

في هذا كان داود النبى رمزًا للسيد المسيح الذي تقاول علىه الرؤساء أو القيادات الدينية مع المدنية ودحرجوا على قبره حجرًا ليبقى في خزيٍ وعارٍ، أما هو فكان يهتم بحقوق الآب، أي تحقيق عدالته وحبه لخلاصنا بتقديم ذاته ذبيحة!؟

ما تحقق في موت السيد المسيح ودفنه إنما يتم كل يوم في حياة الكنيسة التي هي جسده. لهذا يصرخ المؤمن طالبًا من الله أن يدحرج عنه حجر العار ليهبه الحياة المقامة في المسيح يسوع... لأن ما حلّ به من ضيق إنما هو من تخطيطات الأشرار ومشوراتهم.

v     يحمل هذا النص معنى أعمق وهو أن رؤساء هذا العالم (1كو6:2) يسلطون أنظارهم على الأبرار، كما كُتب عن المسيح: "قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه" مز2:2. نعم، هذا هو ما أستطيع أن أقوله أن رؤساء هذا العالم قد اجتمعوا، هؤلاء الذين لهم حكمة هذا الدهر (1كو6:2) يجلسون ويسلطون أعينهم على الأبرار كي ينصبوا لهم الشباك.

ليتكلم هؤلاء الرؤساء أيا كانوا، فإن البار لا يفعل شيئًا سوى التحدث بفرائض الرب؛ هذه الفرائض التي ينطق بها البار ليست كلمات بشرية!

العلامة أوريجينوس

v     يعاتبونني تارة عن أخطاء ماضية عارضة وأخرى يهينونني إذ يحسبونني كلا شيء، كمن هو بلا أدنى اعتبار. لكنني أنا جالس على انفراد وتتجه روحي نحو الكلمات الإلهية... كانت فرائضك هي مشوراتي.

يوسابيوس القيصرى

v     تذكر أنه ليس بين أحكام الله ما هو أصعب وما هو مستحق بالأكثر الإعجاب من أن يلتزم الإنسان بمحبة أعدائه.

القديس أغسطينوس

7. الوصية واللذة الروحية

"لأن شهاداتك هي درسي،

وحقوقك هي مشورتي" [24].

كأن المرتل يقول وإن كان الأشرار أصحاب السلطان الزمني قد اجتمعوا على ليدخلوا بي إلي قبر العار والخزي ويختموا علىه كي لا أقوم، إلا أنني لا أبالي بمشوراتهم ولا بتصرفاتهم، إذ انشغل بأمرٍ واحدٍ هو دراسة شهاداتك والتلذذ بوصاياك. فإن "شهاداتك هي درسي وحقوقك هي مشورتي" أو كما جاء في ترجمة أكيلا: "شهاداتك هي لذتي مثل أهل مشورتي" أو ترجمة سيماخوس: "لكن بالأكثر شهاداتك هي سبب سروري، كالإنسان القريب من قلبي". كأنه يقول: ليهاجمني كل الأشرار بكل فكرهم وقدراتهم ولتبقى وصيتك هي الصديق الأوحد القريب جدًا إلي قلبي، بل في داخلي، هي مصدر قوتي ونصرتي ولذتي وشبعي!

v     يغتاب رؤساء هذا العالم عبيد الله ويتقاولون علىهم، أما هم فلا يبالون، بل يهتمون بدراسة حقوق الله، مواظبين علىها.

أنثيموس أسقف أورشليم

إذ أدرك المرتل أنه في أرض الغربة طلب من الرب:

1. أن يحسبه ولو كأجيرٍ ليهبه أجرة فيعيش، إذ أوشك أن يموت جوعًا بين الخنازير، وقد وعده ألا يعود بعد إلي عصيان وصيته [17].

2. لا يكفيه في غربته أن يعيش وإنما يحتاج إلي استنارة [18]، فيعاين عجائب الله، فإنه ماذا ينتفع بكنوز ثمينة وثروات طائلة وهو لا يقدر على معاينة ما هو حوله أو ما في داخله؟!

3. تكشف الوصية للمؤمن عن حقيقة موقفه أنه غريب على الأرض [19]، وتذكره بهذا التغرب حتى يطلب المواطنة في السماء، وترافقه في غربته فلا يشعر بالعزلة، وتسنده في طريقه، وترفعه إلي السماء! إنها رفيق عجيب يدخل أعماق القلب ليلازمه كل الطريق بلا توقف، يلهبه بالشوق نحو المجد الأبدي [20]

4. تهب الوصية الغريب شبعًا داخليًا وسندًا في جهاده، كما تعطيه قوة على مقاومة الشر دون تخوف من الأشرار المتكبرين. تهبه روح الوداعة فيصير كسيده الحمل الوديع المبذول لأجل الآخرين وأيضًا كأسدٍ يقاوم الشر ويحطمه [21].

5. ترافقنا الوصية في غربتنا حتى تدخل بنا كما إلي الجلجال (دحرجة)، إلي أرض الموعد، أو إلي الحياة الجديدة، فتدحرج عنا عار الخطية.

6. التصاقه بالوصية في أرض غربته تشغله عن مؤامرات الأشرار الذين يبذلون كل الجهد ليدحرجوا علىه العار والخزي [23].

7. عوض مقابلة مؤامرات الأشرار وخططهم بالمؤامرات ينشغل المرتل بدراسة كلمة الله وطلب المشورة الإلهية [24].


 

من وحي المزمور 119(ج)

 وصيتك هي سندي في غربتي

v     في غربتي كثيرًا ما أتحسس أعماقي فلا أجد حياة.

 هب لي وصيتك، فأتمتع بحياتك في داخلي.

 أتمتع بالعمر الحقيقي، إذ تختفي أنت في أعماقي.

v     وصيتك تهبني حدة النظر،

 لا نظر البصيرة الخارجية، بل بصيرة القلب،

 وأسراره مُعلنه في داخلي،

 فأرى مخلصي متجليًا في أعماقي، والسماء ليست ببعيدة عني.

 تنزع عني برقع الحرف فأرى ملكوتك بقوة الروح.

 لتفتح عن عينيَّ فأتمتع برؤية أسرارك!

 لتفتح أمامي حجرات كتابك المقدس، فأدخل واستريح واستقر فيه.

 هناك أَنعمُ بك في حجالك أيها العريس السماوي!

 لتفتح نفسي بالحب ،فتشتهي وصيتك على الدوام، وترتفع إلي سمواتك!

v     غريب أنا على الأرض،

 وصيتك هي رفيقي ومعزيَّ وقائدي.

 تكشف لي عن مواطنتي السماوية فأنهض مسرعًا نحوها.

v     وصيتك غريبة عن المتكبرين،

 هب لي الاتضاع فالتصق بها في غربتي،

 ولا أسقط في اللعنة مع الحائدين عنها.

v     يعيرني المتكبرون ويتهمونني بالخزي،

 لأقبل العار والخزي من أجل وصيتك،

 ولا أسقط تحت عار الأنحراف عنها،

 ولا يليق بي خزي الكاسرين لها،

 وضع الأشرار حجرًا ضخمًا علىّ كما على فم قبرٍ.

 دحرج هذا العار عني،

 واعلن قوة قيامتك وبهجتها فيّ!

 اكشف لهم عن الحق، فيعرفون وصيتك!

 عوض إهانتي يكرمونك فيّ أيها الفائق في مجده!

v     ليقف المتكبرون ضدي من أجل شهاداتك،

 فإنني أشتهي أن استشهد من أجلك.

 تتحول مضايقاتهم لي إلي أكليل مجد أشتهيه!

 وتصير تعييرات الأشرار لك عند الصليب خلاصًا لنا،

 فهب لنا أن تحول تعييراتهم لنا إلي تمجيد لك فينا!

 وصيتك هي مجدي في غربتي حتى في وسط ضيقتي!

<<

 


 

4 - د

 

أحيني ككلمتك

[25-32]

في القطعة السابقة أدرك المرتل حاجته إلي الوصية الإلهية وسط غربته في هذا العالم، كي تحفظه من الخطايا خاصة الكبرياء، وتسنده من الأشرار الذين لا يطلبون أقل من حياته، يريدون أن يدخلوا به إلي القبر، ويدحرجون على فمه حجر العار والخزي، بلا سبب حقيقي سوى ارتباطه بالوصية. وقد وجد المرتل في عزلته هذه الوصية عزاءه وسلواه؛ هي الصديق الحقيقي الذي يسنده ضد الشر والأشرار تحول تعييراتهم إلي أمجاد. الأن إذ دخل إلي القبر يصرخ إلي الله طالبًا ألا يحرمه من كلماته الواهبة الحياة (يو 63:6).

1. الوصية والحياة المُقامة  25.

2. الوصية والاعتراف المفرح 26،27.

3. الوصية والتحرر من الحزن القاتل 28.

4. الوصية والتحرر من روح الكذب 29-31.

5. الوصية والقلب المتسع  32.

1. الوصية والحياة المُقامة

لقد تآمر الرؤساء الروحيون في الشر، أي الشياطين، على المرتل داود، ونصبوا له الشباك فسقط في خطية تلو خطية، لكنه إذ أدرك أن الذبيحة التي يُسر بها الله هي القلب المنكسر والمنسحق (مز 19:51) انحنى بانسحاق حتى التراب، قائلاً: "فإن نفسنا قد اتضعت حتى التراب، ولصقت في الأرض بطوننا" مز25:44. عرف المرتل أنه لا خلاص لنفسه بجهاده الذاتي، إنما يحتاج إلي "كلمة الله" ونعمته لكي يُنتشل من تراب القبر وتتمتع نفسه بالحياة المُقامة، لهذا يقول:

"لصقت بالتراب نفسي، فأحيني ككلمتك" [25].

كلمة الله هي حياة تتفاعل مع نفس الإنسان فيحيا بالله، خلالها يتمتع المؤمن باتحاد سري مع الله مصدر حياته.

يطبق البعض هذه العبارة على شخص رب المجد يسوع في لحظات آلامه، حيث حمل خطايانا وقبل أن يدخل إلي الموت لحسابنا، قائلاً: "نفسي حزينة حتى الموت". ويرى البعض أن المتحدث هنا هو داود النبي حيث اضطربت نفسه فيه، فجلس على الأرض، وغطى نفسه بالتراب كعادة بعض الشرقيين قديمًا، كما فعل أيوب (أي20:1) وأصدقاؤه وقت الضيق. إذ قيل: "ورفعوا أعينهم من بعيد ولم يعرفوه فرفعوا أصواتهم وبكوا ومزقوا كل واحدٍ جبته وذروا ترابًا فوق رؤوسهم نحو السماء" (أي12:2).

ربما شعر المرتل أنه قد التفَّت حوله حبال الخطاة، واشتدت به التجربة جدًا وأن خطيته هي السبب، أحدرته كما إلي التراب، وكأنه يردد كلمات الرسول بولس: "ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟!" رو24:7. فكشفت ضيقته الخارجية عن ضعفاته الداخلية. ولعل صرخة المرتل هنا هي من أجل الضيقتين معًا، ضيقة الضعف الداخلي مع الضيقة الخارجية.

يعترف المرتل قائلاً: إن نفسه لم تعد بعد ملتصقة بالرب كما كانت قبلاً. إذ وجد نفسه ساقطًا في الخطية ،التصقت نفسه بالتراب بفعل الخطية. لقد دمرت الخطية مكانتها وحطمت علوها الطبيعي.

حقًا أن كل نفسٍ خاطئة تكون "ملتصقة بالتراب". (لذا قيل) "وراء الرب إلهك تسير، وتلتصق به" تث4:13؛ 13:6؛ 30:10؛ هذا ما قيل في الشريعة.

يرى المرتل نفسه وقد انحدرت نحو القبر لتلتصق بالتراب فتصير مأكلاً للحية القديمة، إبليس، إذ قيل: "على بطنكِ تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك" تك14:3، لذلك صرخ إلي الكلمة الإلهية لكي يحمله بروحه القدوس من القبر، وينفض عنه التراب، ويهبه الحياة الجديدة المرتفعة نحو السماويات، فلا تقدر الحية أن تقتنصه وتبتلعه!

من يقدر أن ينفض عنا الالتصاق بتراب هذا العالم إلا كلمة الله واهب الحياة والحرية؟! لقد وعد الله: "أنا أميت وأحيي" (تث 39:32). ويقول السيد المسيح: "أنا قد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو 10:10).

التمتع بهذه الحياة المقامة تحتاج إلي صراحة ووضوح وانفتاح من جانبنا، فبقدر ما ينفتح قلبنا على كلمة الله ونعترف بطرقنا المنحدرة إلي الهاوية يفتح الله عن بصيرتنا فننعم بأسراره وعجائبه معنا.

v     إن كنا نتطلع إلي العالم كبيتٍ واحدٍ عظيم، فإننا نرى السماوات تمثل القبو، والأرض تمثل الممر. إنه يريد أن ينقذنا من الأمور الأرضية، لنقول مع الرسول: "مواطنتنا هي في السماء". فالالتصاق بالأرضيات هو موت للنفس، عكس الحياة التي يصلي من أجلها قائلاً: "أحيني"!

 القديس أغسطينوس

يروي لنا ثيؤدورت كيف استخدم الإمبراطور ثيؤدوسيوس هذه العبارة عندما أصدر قانونًا كان الكثيرون ضحية له، وجاء إلي الأسقف إمبروسيوس يقدم التوبة. فقد أخبر الأسقف إمبروسيوس روفينيوس أنه قد عزم على منع الإمبراطور ثيؤدوسيوس من الدخول إلي المقدسات ولو كلّفه الأمر تسليم حياته للموت، وكان الإمبراطور قد تحرك بالفعل...

 إذ أبلغ روفينيوس رسالة الأسقف إمبروسيوس قال الإمبراطور: "ساذهب وأقبل العار الذي استحقه..." وإذ التقى بالأسقف قال: "إنني لا انتهك القوانين الموضوعة، ولا اطلب أن أعبر إلي المقدسات، لكنني اطلب منك الحِل، واضعًا في اعتبارك مراحم ربنا جميعًا، ولا تغلق أمامي باب سيدنا المفتوح لكل التائبين. طلب الأسقف منه تأجيل القانون ثلاثين يومًا حتى يُدرس الأمر جيدًا، ولا يسقط ضحايا بلا ذنب، وإذ نفذ الإمبراطور يقول ثيؤدريت: [الأن جاء الإمبراطور الأمين بجسارة إلي داخل الهيكل المقدس، لكنه لم يُصل لإلهه واقفًا، ولا حتى راكعًا، بل كان منبطحًا على الأرض وهو ينطق بصرخات داود: "التصقت نفسي بالتراب فأحييني حسب كلمتك"1.

2. الوصية والاعتراف المفرح

مارس داود النبي الاعتراف بِشقَّيه كعادته: اعترافه بخطيته أو بضعفه الشديد حتى بلوغه تراب القبر، واعترافه بعمل نعمة الله الواهبة الخلاص العجيب.

في سرّ التوبة والاعتراف نعلن عن موتنا بخطايانا وقيامتنا بعمل الله العجيب، أو بمعنى آخر سلوكنا في طريقنا الذاتي هو انطراح في تراب القبر، وقبولنا طريق الرب هو تمتع بعجائبه. لهذا يعترف داود النبي، وقد فتح أعماق قلبه أمام الله، قائلاً:

"أخبرت بطرقي فاستجب لي،

علمني حقوقك،

وطريق عدلك فهمني،

فأتلو عجائبك" [26،27].

يقدم المرتل قضيته بكاملها أمام الله، فهو وحده القادر إن يسمع لشكواه ويستجيب، ويحول حياته إلي عجائب. ربما يقصد بالعجائب هنا تقبله تعزيات إلهية لا يُنطق بها، وتعزيات سماوية لا يُعبر عنها؛ هذه التي تحول حياته كما إلي أعجوبة... حيث تتجدد حياته باستمرار.

يقدم المرتل كل تفاصيل أموره أمام الله لكي يتعرف على أرادته الإلهية.

v     من يسلك بمشيئات جسده في طريق شهواته فذاك يمشي حسب طرق إرادته، وأما من يتجنب المعاصي فهو يمشي طريقًا مؤدية إلي الله، فيستجيب له الرب عند طلبه المغفرة، ويهديه إلي عدله، ويعلمه بره، ويفهمه طريق وصاياه، ويجعله مفكرًا بعجائبه.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     عندما نسلك حسب شهوات جسدنا وحسب أفكارنا (أف 3:2)، فإننا نسلك حسب طرقنا. وبالعكس عندما ننفصل عن الخطية، ونكرس أنفسنا للرب طالبين منه أن ينقينا، وأن نسلك في طرقه (تث12:10)، عندئذ لا نسلك قط في طرقنا الخاصة، بل نسير في طرق الرب، ونتقدم فيها.

يوجد ذات الفكر في الكلمات: "قلت اعترف لك بذنبي" مز 5:32. بهذا أوضح طرقي (الخاصة)، معترفًا إنني مذنب إليك (أم 17:18)، لهذا سمعتني وقبلت توبتي. أتوسل إليك أيضًا أن تكون سيدًا تحكم فيّ بأحكامك، لأنه لا يستطيع أحد أن يتممها بدقة إلا أنت يا رب هذه الأحكام وسيدها.

العلامة أوريجينوس

v     "أوضحتُ (أخبرت) طرقك"، أي الطرق التي تقود إليك، الطرق التي تقود إلي الفضائل. لقد أوضحتها يا سيد بأعمالي، وبالنية المملوءة غيرة، والأعمال التي تتناسب مع هذه النية وهذا المقصد. "فسمعتني"، وأقول للذي سمعني: "علمني حقوقك".

القديس ديديموس الضرير

v     جاء في بعض النسخ "طرقك"، لكن النص الأصح اليوناني جاء "طرقي"، أي طرقي الشريرة.

يبدو لي أنه يقول هكذا: أعترف بخطاياي، وأنت تسمع لي حيث تغفرها لي.

هكذا علمني أن أعمل، وليس فقط أن أعرف ما ينبغي أن أعمله. فكما يُقال عن الرب إنه لا يعرف خطية، ويفهم من ذلك أنه لا يفعل خطية، هكذا يليق بالحق أن يقال أن من يفعل البر يعرف البر. هذه هي صلاة من هو ينمو في تقدم.

القديس أغسطينوس

إذ نرفض طرقنا الذاتية ونقبل مسيحنا "الطريق" الملوكي ننال عطية المعرفة أو الفهم، التي تنمو دائمًا بطلبنا إياها وبحفظنا إياها أو سلوكنا فيها. وكأنه بقول المرتل: "وطريق عدلك فهمني، فأتلو (احفظ) وصاياك" [27] يعلن عن حاجتنا إلي الطلبة المستمرة لنوال الفهم وإلي تقدير الموهبة بحفظ الوصية أو ممارستها عمليًا. لأن ممارستها يحمل شهادة لها أمام الغير كما يعطينا فرصة للنمو فيها.

إذ تمتع الرسول بولس بالفهم تحدث عن البر والدينونة العتيدة، لا حديث الفلسفة النظري، وإنما حديث الخبرة الحية، لذلك ارتعب أمامه الوالي (أع25:24). هذا ويترجم أكيلا كلمة "أتأمل" "احفظ" أما سيماخوس فيترجمها "أقص" أو "أتلو".

v     لنفهم هذا النص هكذا: "تعلموا فعل الخير" إش17:1، بعد تعلم الوصايا، فإن هذا يليق بمن أدرك طرقها، أي أن العمل بالوصية يتلاحم مع فهم مقاصدها.

القديس ديديموس الضرير

v     أستطيع إدراك "طريق" أسرار وصاياك، إذ نلت منك "الفهم"، وذلك لكي أسلك هذا الطريق واتمتع بفهم "العجائب". بهذا أخبر بوصاياك وأتحدث عنها خلال حفظي مقاصدها.

العلامة أوريجينوس

3. الوصية والتحرر من الحزن القاتل

"نعست نفسي من الحزن،

فثبتني في أقوالك" [28].

إن كانت الوصية تسند الإنسان حتى في لحظات ضعفه، فيعترف بخطاياه ويخبر بنعمة الله الواهبة برَّ المسيح العجيب، فإنها تسند النفس في لحظات نعاسها أو فتورها أو رخاوتها أو حزنها لكي تتيقظ وتتشجع وتقوى على الجهاد، وقد جاءت كلمتا "نعست نفسي" بترجمات متباينة.

لعله قد عانى المرتل من حالة إحباط شديدة في فترة معينة، لهذا صرخ إلي الله ليهبه الرجاء المفرح لمواعيده الإلهية وأقواله.

v     يعلم (المرتل) أننا لا نستطيع أن نطرد روح "الحزن" إلا عن طريق التأمل في التعاليم الإلهية، لهذا يجب أن نكون يقظين كما قال: "اسهروا وصلوا" مت41:26.

البابا أثناسيوس الرسولي

v     "نعست نفسي من الحزن"، "قطرت نفسي من الحزن"

تقول الترجمتان الخامسة والسادسة: "قطرت نفسي بقطرات" ويترجمها سيماخوس: "سالت نفسي بقطرات"... فهو يريد القول بأنه إذ تكون النفس في حالة حزن وأسى وألم تفقد يقظتها، وتسقط في النعاس المُنهي عنه في القول: "لا تعطي عينيك نومًا، ولأجفانك نعاسًا" أم4:6. أما من يأخذ بالنص الذي يشهد له أغلب المترجمين: "سالت نفسي بقطرات من الحزن" فيؤكد أن نفس الصديق هي منيعة وشديدة الاحتمال، لا تسمح أن تسيل منها قطرة، أما نفس الشرير فتختلف تمامًا عن نفس الصديق، إذ لا تقدر أن تخفي بداخلها كلمة الرب التي نثقفها بها. يمكننا القول بأنها تسيل "بقطرات". توجد هذه الفكرة أيضًا في سفر الأمثال: "يا ابني، لا تسيل جانبًا؛ لا تبرح هذه من عينيك" أم21:3. وفي رسالة بولس الرسول إلي العبرانيين: "يجب أن ننتبه أكثر إلي ما سمعنا لئلا نُسأل جانبًا" عب1:2. من جهة أخرى يصلي قائلاً: "أقمني حسب كلامك"، أي اجعلني راسخًا، ثابتًا في أقوالك وأن أكون غير مزعزع ولا متغير بأية وسيلة.

العلامة أوريجينوس

v     بما أن النعاس هو بدء النوم، أي فتور في الحواس وتراخي لها، لذا استخدمه النبي تشبيهًا لبدء الخطية ..

أنثيموس أسقف أورشليم

v     ماذا يعني "نعست"؟ إلا أنه قد يرد الرجاء الذي يود أن يبلغ إليه.

القديس أغسطينوس

v     في تعبير يثير الإعجاب يوجز داود كل مضار ذلك المرض في عبارة واحدة: "نعست نفسي من الحزن"، أي من النكبة. حقًا لا يقول ان جسده بل نفسه قد نعست، لأنه في الحقيقة النفس التي تُجرح بثقل الهوى تنام وسط التأمل في الفضائل1.

القديس يوحنا كاسيان

v     من يحب الحق ولا يتفوه قط بكلمة كذب يمكنه القول: "اخترت طريق الحق"، ومن يضع أحكام الرب أمام عينيه ويتذكرها في كل كلماته يقول: "أحكامك لم أنسَ".

يوسابيوس القيصري

v     الاسترخاء هو بداية النوم، هكذا نقول عن النفس عندما تبدأ أن تخطئ بأنها قد استرخت. كما لو كانت النفس قد انجذبت إلي نعاس الخطية، وعلىها أن تقوم وتستيقظ بتذكرها الصلاح.

يوسابيوس القيصري

4. الوصية والتحرر من روح الكذب

إن كانت الوصية تسند النفس الخائرة التي استسلمت للنعاس أو صارت تسيل كما بقطرات، فمن جانب آخر تحفظها من روح الكذب الذي هو روح إبليس، وتهبها روح الحق الذي هو روح المسيح، فلا تخزى.

"طريق الكذب ابعد عني،

وبشريعتك ارحمني" [29].

v     كان في استطاعته أن يقول: "ابعدني عن طريق الكذب". لم يقل هذا بل قال: "طريق الكذب ابعد عني"، لأن هذا الطريق هو في داخلي، هو كائن فيّ.

حقًا كلما كنا أشرارًا يكون "طريق الكذب" في داخلنا. يلزمنا أن نبذل كل الجهد حتى نترك هذا الطريق خارج نفوسنا، طالبين على وجه الخصوص معونة الرب. عندئذ يمكننا القول: عندما تبعده عنا "بشريعتك ارحمني"، طالبين رحمة الله بالشريعة التي وهبنا إياها. وذلك كما نقول لطبيب: لتعمل حسبما يستلزم الفن الخاص بالطب الذي يقودني إلي الصحة ويهبني الشفاء، سواء باستخدام المشرط أو الكي أو أية وسيلة مؤلمة يتطلبها الطب وقوانينه (تشريعاته)...

مادام طريق الكذب لم يُبعد عنا بعد لن نحصل على رحمة الله حسب شريعته.

العلامة أوريجينوس

v     من يبتعد عن طريق الكذب ويقترب من "شريعة" الله بإرادته، يكون كمن يريد أن تكون عوارضه سليمة تمامًا ومؤيدة بالرب. هذه هي الشريعة التي تقود إلي إتمام كل الخيرات.

من يبغض الجهل تصير فيه رغبة مضادة لذلك الطريق وهو العلم. من يعجز بنفسه أن يبتعد عن الجهل فليستند على الإيمان (الحق)، طالبًا من معلمه: أبعدني عن الجهل، وبعلمك وشريعتك ارحمني.

القديس ديديموس الضرير

لقد تكررت كلمة "الكذب" ثمان مرات، وهي سمة الحياة الخاطئة.

لا يكفي الجانب السلبي وهو انتزاع طريق الكذب أي إبليس ومملكته من القلب، إنما يلزم الجانب الإيجابي وهو التمتع بالسيد المسيح حيث مملكته: "طريق الحق" وفي بعض الترجمات: "طريق الإيمان".

"اخترت طريق الحق (الإيمان)

وأحكامك لم أنسَ" [30].

كلمة "حق emunah" جاءت مشتقة من aman، تعني "يثبت، لا يتغير، يستقر، يثق، يؤمن". فالناموس الإلهي مستقر وثابت وأكيد ومدبر كل الأمور وذلك بسلطان الله الذي لا يكذب ولا يخدع1.

v     ينطق بهذا من يحتقر الأمور المنظورة أي الأمور الزمنية الزائلة، ويتطلع إلي غير المنظورات كأمورٍ أبدية (2كو18:4)؛ فلا يتكلم إلا عنها، وإليها يريد أن يذهب. فإن "طريق الحق" ليس بالطريق الذي يختاره من ينشغل هنا على الأرض بالغنى والمجد الأرضي.

من يختار أن يسلك في "طريق الحق" بالمعنى الذي فسرناه، لا ينسى أحكام الله ولا مكافأته.

العلامة أوريجينوس

اختياره طريق الحق وتذكره الدائم لأحكام الرب يثبته في شهادات الرب.

إن كانت الوصية تدفعنا إلي الصراحة مع أنفسنا، فنعترف بطرقنا ونتوب عن خطايانا، فإنها تكشف عن نعمة الله العجيبة التي تحول ضعفنا إلي قوة، وانشغالنا بالتراب إلي التأمل في الإلهيات. بهذا تنتشلنا الوصية من الخطية المحطمة للنفس بالغم وتحررنا من الحزن القاتل، وكأنها تقيمنا من حالة النوم والرخاوة إلي بهجة العمل في ملكوت الله.

"لصقت بشهاداتك يا رب،

فلا تخزني" [31].

إذ سبق فصرخ المرتل يشكو نفسه، قائلاً: "لصقت بالتراب نفسي" [25] طالبًا من الله أن يقيمه من تراب القبر، ويهبه الحياة المقامة. الأن يطلب الالتصاق بشهادات الرب لكي يثبت في هذه الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع.

v     من يتحد بالكلمات المُسلمة من أجل شهادة السماء والأرض (لله)، ولا يبتعد عنها قط تصير له ثقة أنه مهما ارتكب من تصرفات تستوجب الخزي (بسبب ضعفه البشري) يطلب من الله المغفرة، قائلاً: "يا رب لا تخزني". مثل هذا يستحق أن يسمع الله قائلاً له: "أنظر، قد محوت كغيمٍ ذنوبك، وكسحابةٍ خطاياك” إش22:44. إنه لن يمتلئ خزيًا، لأن الكلمة الإلهية (الفضيلة) الحالة في نفس الإنسان الذي أخطأ تمحو كل الخطايا السابقة تمامًا، وتمنحها الغفران من الخطايا. يحل العدل عوض الظلم، والزهد والعفة عوض النجاسة، والشجاعة عوض الجبن، والتعقل عوض الجنون، وبهذا يتحقق غفران الخطايا الذي من أجلها جاء ابن الله لكي يهبنا إياها.

العلامة أوريجينوس

5. الوصية والقلب المتسع

إن كانت الخطية تحدر النفس إلي تراب القبر [25]، فتصير النفس كما في نعاسٍ دائم [28]، تسلك في طريق الظلم والموت [29]، ويحل بها الخزي والعار [31]، فإن عمل الكلمة الإلهي هي الإقامة من تراب القبر، وتقديم المعرفة السمائية وتحقيق عجائب إلهية، فتحيا النفس في طريق الحق بالإيمان وتنتقص من العار، وتتسع بالحب لله وخليقته السماوية وأيضًا الأرضية. إنه يدخل بها إلي الطريق الضيق بقلبٍ متسعٍ، على عكس الخطية التي تدخل بنا إلي الطريق الرحب المتسع بقلب ضيق.

"في طريق وصاياك سعيت (جريت)

عندما وسعت قلبي" [32].

v     إن طريق وصايا الله ضيقة، وأما قلب من يجري فيها فرحب ومتسع، لأنه مسكن الآب والابن والروح القدس، يسلكها جاريًا بقلب متسع... وأما طريق مساوئ الأشرار فمتسعة وقلوبهم ضيقة، لأنه لا موضع لله فيها.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     الطريق الذي يؤدي إلي الحياة ضيق وكرب (مت 14:7)، وأما القلب الذي يطوف فيه بجولة حسنة، أي في طريق وصايا الله، فمتسع ورحب بالكلمة الإلهية، وهو مقدس ويرى الله.

وعلى العكس الطريق "الواسع والرحب يقود إلي الهلاك" (مت 13:7). أما القلب (الذي يسلكه) فضيق، لا يقبل أن يقيم فيه منزلاً للآب والابن (يو 23:14)، بل يتجاهل الله بسبب جهالته. هذا الإنسان يجعل قلبه ضيقًا بسبب قساوته.

لنتأمل أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على لوحي قلبنا (أم 4:3؛ 3:7؛ 20:22)، معلنًا بأن "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها" (أم 20:1). بقوله "الخارج" لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي يوسعها الله...

العلامة أوريجينوس

v     يليق بقلوبنا أن تتسع وتنفتح قدر الإمكان حتى لا تضيق علىهم في حدود الجبن الضيقة وتمتلئ بطاقة الغضب الهادر، فنصير عاجزين عن نوال ما يدعوه النبي "الطريق الرحب" لوصية الله في قلوبنا الضيقة، أو أن نقول مع النبي: "في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي"1.

الأب يوسف

v     ما كان يمكنني أن أجري (في طريق وصاياك) لو لم توسع قلبي... أتستطيع أن تفعل ذلك بنفسك؟ يجيب: "لا أستطيع" إنه ليس خلال إرادتي الذاتية كما لو كانت ليست في حاجة إلي معونتك، بل لأنك وسعت قلبي.

توسيع القلب هو بهجة ننالها في برٍ. هذه عطية الله، أثرها أننا لا نتضايق من وصاياه خلال الخوف من العقوبة، بل يتسع القلب خلال الحب والبهجة التي لنا في البرّ.

القديس أغسطينوس

الوصية واهبة الحياة

إذ يشعر المرتل أن الخطية قد نزلت به ليلتصق بالتراب في قبرٍ مظلمٍ، يطلب الوصية الإلهية ليلتصق بالمخلص كلمة الله واهب الحياة.

1. يستنجد المرتل بالوصية لكي تُرفع نفسه من التراب [25] حتى لا تبتلعه الحية (تك 14:3).

2. التوبة والاعتراف هما الطريق الآمن بقبول عمل الكلمة واهب الحياة [26]. إذ نتحدث مع الله في صراحة عن ضعفاتنا يحدثنا بصراحة عن عجائبه وأسراره، بانفتاح قلبنا نكشف ما لدينا، وبانفتاح قلبه يكشف لنا ما لديه من جهتنا.

3. يرافق التوبة حزن لكنه يهب سلامًا داخليًا وفرحًا بالرب، أما الخطية فتحطم النفس بالغم الداخلي واليأس... فالوصية الإلهية تنزع عنا الحزن القاتل وتحررنا منه.

4. بالوصية نتحرر من روح الكذب أو طريق الكذب الذي ثبت جذوره فينا، ليحتل طريق الحق موضعه [29،30]، نتحرر من عبودية إبليس لنقبل ملكوت المسيح.

5. بالوصية تتحرر النفس من الالتصاق بالتراب لتلتصق بشهادات الرب [31].

6. بالوصية نقبل الطريق الضيق باتساع قلبٍ عوض قبولنا بالخطية الطريق الرحب بقلب ضيق.


 

من وحي المزمور 119(د)

 وصيتك هي حياتي!

v     دخلت بي خطيتي إلي القبر وهناك دفنتني،

كلمتك ترفعني من التراب، وتهبني الحياة الخالدة.

بوصيتك اكتشف موتي واعترف به.

وبها أدرك ما يجب أن أعمله، وتهبني قوة للعمل،

وبها أعترف بقوة قيامتك يا واهب الحياة!

v     فقدت حياتي إذ حلّ بي حالة إحباط، نعست نفسي من شدة الحزن.

من يقدر أن يهبني الحياة إلا الرجاء المفرح الذي تبعثه وصيتك؟!

استرخت نفسي ونامت نوم الخطية،

لتيقظها وصيتك وتقمها بالبهجة يا أيها القيامة!

v     حطمني الكذب، طريق الباطل والجهالة،

لتقترب مني شريعتك، طريق الحق والمعرفة.

من يرتبط بطريق الباطل يصير باطلاً،

 ومن يلتصق بطريق الحق يحيا بالحق إلي الأبد!

v     بالخطية صارت نفسي قبرًا ضيقًا،

بوصيتك المتسعة تتسع نفسي بالحب لتسع الكل!

طريق الخطية واسع، لكنه يهب قلبي ضيقًا بالآخرين،

وطريق وصاياك ضيق، يهب نفسي اتساعًا للجميع.

<<


 

5 - هـ

 

اهدني في سبيل وصاياك

[33-40]

كلمة الله الواهبة الحياة المُقامة بعد موت الخطية هي القائد الحقيقي للقلب. فالكلمة الإلهي وحده قادر أن يدخل إلي أعماق النفس، يهبها الاتساع والرحابة وسط ضيق هذا العالم، ويقودها في طريق الحب عوض الظلم، والحق عوض الباطل، ومخافة الرب عوض خوف الناس، ومجد برّ المسيح عوض عار الخطية، وعذوبة أحكام الله عوض ملذات الزمنيات.

يقود الكلمة الإلهي النفس الداخلية ويوجه كل طاقاتها، لكن المؤمن لا يقف في سلبية، إنما يتجاوب مع عمل الكلمة فيتبعه ويهواه ويتجاوب معه.

1. الرب واضع الناموس33.

2. الرب واهب الفهم34.

3. الرب هادي النفس35.

4. يخرجها من طريق الظلم 36.

5. ينير العينين بالأبديات37.

6. يهبها المخافة الإلهية38.

7. ينزع عنها عار الخطية39.

8. يهبها عذوبة الروح40.

1. الرب واضع الناموس

"ضع لي يا رب ناموسًا في طريق حقوقك،

فأتبعه كل حين" [33].

لماذا يطلب المرتل من الرب أن يضع له ناموسًا في طريق حقوقه؟ أما تكفي الشريعة التي بين يديه التي سلمها الرب لموسى النبي؟ إنه يقدم صلاة لكي يتسلم الله قيادة حياته، قيادة شخصية، قادرة أن تهب النفس حرية الحركة وتقدم لها عذوبة في تنفيذ الوصية.

أ. لقد سلم الرب البشرية ناموسه خلال كنيسته سواء في العهد القديم أو العهد الجديد، لكن تبقى هناك حاجة أن يتمتع كل عضو بناموس الله بصفته الشخصية، كرسالة تمس حياته دون انفصاله عن الجماعة، لهذا يقول المرتل: "ضع لي". كأنه يقول: "لتخصني يا رب بناموسك عاملاً فيّ أنا شخصيًا".

ب. لعل المرتل كان يتطلع إلي ناموس المسيح، ناموس العهد الجديد، بكونه ناموس الحرية القادر أن يطهر الداخل، ويحقق الحياة المُقامة للإنسان الداخلي.

ج. لا يعني بكلمة "ضع" هنا أن يُشرِّع قوانين جديدة وإنما يدخل بوصيته عاملة في حياته، فيصير ناموس الرب بالنسبة له قانون حياته الداخلية الطبيعي والعذب. بمعنى آخر تصير الوصية ليست أمرًا ونهيًا إنما عطية ووعدًا حينما يضع الرب ناموسه بنفسه في النفس إنما يهبها القوة على الحياة به. لهذا يقول المرتل: "اتبعه كل حين"، إذ يصير الناموس الإلهي قانون حياته، فلا تنحرف حياته قط عنه!

v     يعلمنا (المرتل) أن طريق الحق يحتاج أن يضعه الله ويفحصه (يتأمله) الناس.

يطلبه لا لمدة قصيرة بل "كل حين"، كل أيام حياته...

أنثيموس أسقف أورشليم

v     للذين يؤمنون بالمسيح ويكونون تحت قيادته طرق كثيرة يلزمهم أن يسلكوها قبل الدخول إلي الأرض المقدسة، فإنهم بعد أن يخرجوا من مصر ويعبروا كل هذه المراحل الواردة في الكتاب المقدس يستريحون. "هذه رحلات بني إسرائيل... حسب قول الرب" (عد 1:33، 2). من الذي نظَّم السبل التي يجب أن يسلكها بنو إسرائيل في هذه المراحل؟ من إلاَّ الله؟ لقد نظمها بعمود النار والسحابة المضيئة...

الأن، تأمل فإن نفس الشيء يحدث روحيًا في مسيرتك، إذا خرجت من مصر، وكنت قادرًا أن تتبع المخلص يسوع (يشوع) الذي يدخل بك إلي الأرض.

يبدو أن موسى (الناموس) هو القائد لكن كان يشوع متواجدًا بجانبه دون أن يقود علأنية. انتظر لكي يقود موسى إلي اللحظة التي فيها يكمل زمانه، عندئذ يأتي ملء الزمان (غل 4:4) ويقود يسوع... يتسلم يسوع تعلىم الشعب ويقدم وصاياه علنًا. إذن فلنسلك فيها ونصلي قائلين: "ضع لي يا رب ناموسًا، في طريق حقوقك، فاتبعه كل حين" [33]. إنني أسعى (اتبعه) مادام يوجد "طريق الحقوق". إنه ليس بالطريق السهل، ولا يحتاج إلي يومين أو ثلاثة أيام أو حتى عشرة أيام، إنما في الواقع إلي كل أيام الحياة لعلى أجد طريق حقوقه. وبنفس الكيفية أحتاج أن أجد "طريق الشهادة": "فرحت بطريق شهاداتك مثل كل غنى" [14]؛ كما يوجد "طريق الوصايا": "في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي" [32]. كل هذه الطرق هي في أصلها طريق واحد، وهو ذاك الذي يقول: "أنا هو الطريق" (يو 6:14). لنسلك إذن في كل هذه الطرق حتى نبلغ غايتها وهو "المسيح".

العلامة أوريجينوس

v     ماذا يعني "كل حين"؟...

هل تعني كل حين، "مادمنا نحيا هنا"، حيث ننمو في النعمة على الدوام، أم بعد هذه الحياة فمن كان قد عاش في حياة فاضلة يصير كاملاً هناك؟...

v     هنا يُفحص ناموس الله مادمنا نتقدم فيه، ذلك بتعرفنا علىه وبحبنا له، أما هناك فننال كماله لمتعتنا، لا لامتحاننا.

هناك لا نطلب أن نبحث عن وجه الله، إذ نراه وجهًا لوجه.

هنا يُبحث عنه لكي نتمسك به، أما هناك فلا نجاهد لئلا نفقده.

القديس أغسطينوس

كثيرون يقومون بدور التعلىم والهداية، لكن واحدًا يقدر أن يدخل أعماق القلب ويقدم له ناموس الحب ويهبه إمكانية العمل، لهذا صرخ إليه المرتل طالبًا أن يقوم بهذا الدور فيتبعه قلبه في طاعة كاملة.

يتعامل المعلم مع تلاميذه لا على مستوى الأمر والنهي، وإنما على مستوى الحب والتقدير... يطلب الطاعة لوصيته وفي نفس الوقت يعطي فهمًا حتى نقبل الوصية بفرحٍ، عالمين بركاتها وفاعلىتها في حياتنا.

2. الرب واهب الفهم

إن كان الرب هو نفسه الطريق، يدخل بنا إليه، ويثبت فينا كي نتبعه كل أيام حياتنا بلا تراخٍ، فإننا نحتاج إليه ونحن فيه أن يهبنا "الفهم" لنلهج في الوصية ونتأملها ونفحصها نهارًا وليلاً بفكر مستنير وقلب متسع بالحب.

"فهمني (اعطني الحكمة) فافحص ناموسك،

واحفظه بكل قلبي" [34].

يهبنا الرب نفسه الفهم لندرك أسراره، والقدرة لنحفظه في قلوبنا بلا انحراف. كأنه يقول مع أليهو: "هوذا الله يتعإلي بقدرته، من مثله معلمًا؟!" أي 22:36. وفي نفس الوقت يعد المرتل بأنه سيكون تلميذًا أمينًا لمعلمه الإلهي إذ يحفظ ناموسه بكل قلبه ولا ينقسم بين تلمذته لمعلمه وحبه للعالم، بل يكرس كل طاقات قلبه لله.

v     اعطني الحكمة حتى أستطيع أن اختبر شريعتك عمليًا بانتباه لائق بها، وهكذا يمكنني أن أستلم من هذه الشريعة الممارسة العملية.

اعطني الفهم الذي يخص العمل والتأمل، بهذا أستطيع أن "أحفظها بكل قلبي"، واقترب إليها دون ترددٍ.

إن كان يلزم الحكمة لفهم الشريعة، فأية حكمة يلزم أن يهبها الرب للمرتل حتى يكتشف فيها غايتها وهدفها؟

العلامة أوريجينوس

v     لكي نعرف ناموس أعماق الله، والأسرار المختبئة فيه يلزمنا أن يكون الرب معلمًا. يلزمنا أن نتجه نحو الرب ونطلب منه: "اعطني الحكمة فأفحص ناموسك"، وأن نعده في نفس الوقت: "وأحفظه بكل قلبي".

يوسابيوس القيصري

كثيرًا ما كان يلجأ العلامة أوريجينوس إلي الشعب لكي يشتركوا معه في الصلاة فيهبه معلمه السماوي روح الفهم، بروحه القدوس واهب الاستنارة.

v     بخصوص هذا السؤال، إذا ما استجاب الرب صلواتكم فوهبني الفهم، وإن كنا على الأقل مستحقين لقبول معنى الرب، عندئذ سأتحدث معكم بكلمات قليلة...1

العلامة أوريجينوس

v     الرب هو الروح. يلزمنا أن نصلي إليه ليرفع عنا برقع الحرف ويزهر لنا بهاء روحه2.

العلامة أوريجينوس

ربما يمكن للإنسان أن يحفظ الناموس في شكله الحرفي أو الظاهري، لكن الله وحده القادر أن يغير القلب ليحفظ الناموس بالروح في الأعماق بكمال حبه.

3. الرب هادي النفس

"اهدني إلي سبيل وصاياك

فإني إياها هويت" [35].

لا تكتفي النفس بالتمتع بالفهم الإلهي لفحص ناموس الرب ولا بالقوة لحفظه بكل القلب [34] إنما تحتاج أن يمسك الله بيدها ويقودها بنفسه إلي سبيله الذي تُسر به هي. إنه لا يقودها بغير أرادتها، لكنه يقودها كطلبها ومسرتها. لعله كان يصلي إلي الله لكي يريد وأن يعمل الصلاح. وكما يقول الرسول بولس: "الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" في 13:2.

v     هذا يعني أنه يريد الشريعة والطريق، إذ يوجد "سبيل الوصايا"... سبيل السلوك، هذا الذي سلكه كثير من الأبرار قبلنا، لكن مالم نأخذ الرب مرشدًا لنا لا نستطيع أن نسلك حسب وصاياه. يلزمنا أن نقتدي بالمسيح (أف1:5؛ 1تس6:1) وأن نحمل صليبنا ونتبعه (مت 38:10؛24:16).

العلامة أوريجينوس

v     رغبتي لا حول لها ولا قوة مالم أنت بنفسك تسير بي حيثما أرغب. هذا بالتأكيد هو السبيل، أي سبيل وصايا الله الذي سبق فقال عنه أنه جرى فيه عندما وسَّع الرب قلبه. هذا دعاه "سبيلاً"، لأن الطريق ضيق الذي يؤدي إلي الحياة؛ ومادام ضيقًا لا يستطيع أن يجري فيه إلا بقلب متسع...

القديس أغسطينوس

لقد صرخ الرسول بولس: "لأن الأرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد" رو18:7. كأنه يقول: لقد جعلتني مشتاق إلي طريقك، أريد أن أدخله وأتحرك فيه، احملني بنفسك فيه وامسك بيدي لأن إمكانياتي عاجزة عن تحقيق حتى ما أريده من صلاح.

يعلن المرتل رغبته الصادقة في الحياة المقدسة، واستعداده للعمل، لكنه لا يقدر أن يبدأ الطريق ولا أن يسلك فيه بدون نعمة الله، ليقول مع الرسول: "الله هو العامل فينا"، "لكي نريد ونعمل من أجل مسرته".

4. الرب يخرجنا من طريق الظلم والطمع

"أمل قلبي إلي شهاداتك لا إلي الظلم (الطمع)" [36].

إن كان المرتل قد سبق فأعلن انه إنما يهوى سبيل أو طريق الرب [35] لكنه لا يأتي بنفسه أو قلبه، طالبًا من هاديه الإلهي أو مرشده، ليس فقط أن يمسك به وإنما أن يلهب قلبه حبًا، مجتذبًا إياه إلي شهاداته، حتى قبول الموت شهادة لبرّ الله ووصاياه، حافظًا إياه من محبة الأباطيل والزمنيات والطمع والظلم.

v     بقوله "أمل قلبي إلي شهاداتك" [36] وأردد عيني عن النظر إلي الباطل، يعلمنا اجتناب السوء والتمسك بالخير. نعم، إن هذا في سلطاننا واقتدارنا، لكننا في حاجة إلي معونة الله ومؤازرته. بهذا المعنى يقول ربنا: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 5:15).

أنثيموس أسقف أورشليم

v     ينسب القديسون كل شيء إلي الرب. فلنتعلم أننا لا نستطيع أن نصنع شيئًا بدون الرب؛ يقول الرب: "إن لم تثبتوا فيّ لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (راجع يو6:15،5).

ربما يعترض أحد على ذلك، قائلاً: إذ أنسب كل شيء للرب، فماذا يخصني أنا؟ لنفحص في كل موضع ما يخصنا حتى لا يمتزج مع ما يأتي من قبل الرب.

يقول: "ضع لي يا رب ناموسًا في طريق حقوقك" [33]. ما يخصنا نحن "أطلبه في كل حين" [33].

مرة أخرى أطلب من الله: "اعطني حكمة فأفحص ناموسك" [34].

مرة ثالثة أطلب: "اهدني في سبيل وصاياك" [35]، ماذا يخصني؟ يشير إلي ما يخصني بالكلمات: "فإني إياها هويت" [35]...

لنطلب ما يأتينا من الله لكي نحصل عليه، ولنعده أيضًا بما يعتمد علىنا نحن، ولا نتخلى عن وعدنا، حتى لا ننقض الميثاق الذي يربطنا بالرب.

هذا ما يقوله المرتل "أمل قلبي إلي شهاداتك لا إلي الطمع" [36]، عالمًا بأن الطمع هو رذيلة ذات نفوذ قوي تؤله مكاسب الأشرار، وقد دعاها الرسول: "عبادة الأوثان" كو3:5.

هذا ونتعلم من هذه العبارة أن الطمع لا يتفق مع شهادات الرب.

العلامة أوريجينوس

يقول أبوليناريوس [إذ يتمسك قلب الإنسان بقوة الشر منذ حداثته (تك 12:8) يحتاج إلي الرب كي يحول قلبه إلي البرّ، بمعنى أن الرب يوجه قوة عزمنا بالطريقة التي بها ينظم الأحداث وذلك بعمل الروح القدس (فينا).]

v     إن كان قلبنا لا يميل إلي الطمع فإننا نخاف الله وحده لأجل الله، فيكون هو وحده مكافأتنا عن خدمتنا له. لنحبه لأجل ذاته، لنحبه في داخلنا، ونحبه في أقربائنا الذين نحبهم كأنفسنا، سواء كان لهم الله أو من أجل أن يكون لهم الله...

v     "أملْ قلبي إلي شهاداتك لا إلي الطمع"، لأن قلبنا وأفكارنا ليست تحت سلطاننا. عندما تُصاب بالعمى فجأة تجعل الذهن والروح في ارتباك وتقودهما في موضع آخر غير ما تقصده أنت، تدعوهما إلي العالميات وتدخل بهما إلي الزمنيات وتحضرهما إلي الملذات وتمزجهما بالإغراءات. في نفس الوقت الذي فيه نستعد لنرفع عقولنا إلي فوق تقتحمنا الأفكار الباطلة وننطرح بالأكثر نحو الأمور الأرضية1.

 القديس أغسطينوس

v     إنني سأتكلم بما هو نافع، فاقتطف كلمات النبي: "أمل قلبي إلي شهاداتك لا إلي الطمع" [36]، فإن نعمة الكلمة نافعة لا تثير فينا محبة المال2.

القديس إمبروسيوس

5. الرب ينير العينين بالأبديات

"أردد عيني لئلا تعاينا باطلاً،

وفي طريقك أحيني" [37].

يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي: [اعطيت لنا العيون لكي نري خالقنا في المخلوقات]، لا أن نركز أنظارنا على الأمور الزمنية الباطلة. لأن تركيز أعيننا على الأمور الزمنية المؤقتة تسحب القلوب إليها، فتحبها وترتبط بها، بهذا تتغرب عن الله والإلهيات. لهذا يصرخ المرتل كي يهبه الله بعنايته أن يسحب عينيه بعيدًا عن الزمنيات، وذلك بعمل نعمته الإلهية. إنه لا يغمض أعيننا عن رؤيتها لكنه يهبها أن تعبر علىها سريعًا ولا تركز علىها.

v     الباطل هو جنون المناظر (الخادعة)، هو التأمل فيما لا يليق، تخيل الفكر الفاسد والمشوش. عرّفه بولس الرسول بوضوح عندما قال: "ببُطل ذهنهم، إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله" أف17:4،18 .

لنلاحظ ما يدعى بالذهن الباطل، فإنه إذ ينال الإنسان الذكاء والفطنة فإنه عوض استخدام هذا الذكاء في التأمل في الحق يسلمه لإبليس الذي يقيده... هذا إذًا ما يصلي من أجله المرتل، قائلاً: "أردد عيني لئلا تعاينا باطلاً"، فإن هذا أيضًا هو نعمة من قبل الرب أن يحدث تحول في ذهنه... ويحيا في طريق (الرب)... لأنه هو نفسه الطريق وهو الحياة، إذ يقول المخلص: "أنا هو الطريق والحياة" يو6:14.

العلامة أوريجينوس

v     كل من يصرف وجهه عن الباطل يحيا في طريق الاستقامة الذي هو ربنا القائل: "أنا هو الطريق والحياة"...

من يلفت نظره ناحية (الزمنيات) يسلك طريق الموت، ويغترب عن حياة الله كقول السليح (بولس)، ويصيبه ما أصاب امرأة لوط التي التفتت إلي الخلف نحو الباطل. أما من يرد عينيه لئلا تعاينا الأباطيل فيحيا في طريق الله ويسلم من الموت كما سلم لوط.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     الباطل والحق يناقضان بعضهما البعض مباشرة. شهوات هذا العالم باطلة، وأما المسيح الذي يحررنا من العالم فهو الحق. هو الطريق أيضًا الذي فيه يرغب هذا الإنسان أن يحيا، لأنه هو أيضًا الحياة. كلماته هي: "أنا هو الطريق والحق والحياة".

القديس أغسطينوس

v     ما هو هذا الباطل، مالم يكن هو التكريس للغنى والجري وراء الملذات العالمية؟ هذا ما أكده سليمان القائل: "باطل الأباطيل، الكل باطل" جا2:1.1

الأب فاليريان

v     الآن أيها الاخوة الأحباء، قد استعدنا في المسيح عيون القلب التي فقدناها في آدم. لنقدم الشكر لذاك الذي تنازل لينيرنا فنراه دون استحقاقات من جانبنا. لنجاهد بكل طاقاتنا وقوتنا فبمساعدته نفتح عيوننا على الخير ونغلقها على الشر، حسبما طلب النبي من الرب حيث قال: "أردد عيني لئلا تعاينا باطلاً"2.

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     ثم تقول "وكل أباطيلك"؛ والأن كل أباطيل الشيطان هي جنون المسارح وسباق الخيل والصيد وكل أمثال هذا الباطل؛ يطلب القديس من الله أن ينقذه منها فيقول: "حول عيني" عن النظر إلي الباطل" [37]1.

القديس كيرلس الأورشليمي

لنسلم حواسنا في يديْ معلمنا الإلهي كما نسلمه قلوبنا، فخلال النظر سقط آدم في العصيان وفسد قلبه بالباطل، لهذا يصرخ المرتل طالبًا تقديس عينيه حتى لا تعاينا الباطل، فيتسلل إلي القلب.

6. الرب يهبنا المخافة الإلهية

"ثبت قولك لعبدك في داخل خوفك" [38].

إذ تتحول بصيرتنا الداخلية عن الأباطيل إلي الطريق الحق أو إلي الرب "الطريق والحياة"، نطلب من الله أن يثبتنا فيه وفي مواعيده بتثبيت مخافته فينا، لا مخافة العبيد المذنبين والمضطربين، وإنما خوف الابناء الذين يخشون جرح مشاعر أبيهم.

v     لا تتأسس كلمة الله في أولئك الذين ينزعونها عنهم ويعملون بما يناقضها، إنما تتأسس بواسطة الذين يثبتونها فيهم.

القديس أغسطينوس

v     أريد أن يكون لي خوف مناسب مؤسس على العقل والإدراك... فلا يكون لنا خوف دون إدراك، ولا إدراك دون خوف.

العلامة أوريجينوس

يقول القديس إمبروسيوس أنه يمكن بناء بيت الحكمة فقط إن تأسس خوف الله بعمق في النفس.

7. الرب ينزع عني عار الخطية

"وانزع عني العار الذي ظننته،

فإن أحكامك حلوة" [39].

سبق لنا الحديث عن نوعين من العار: عار الخطية الذي يلحق بنا أمام الله، وعار الصليب الذي يلحق بنا أمام الناس. الأول يعطي غمًا والثاني يبعث في النفس حلاوة! هنا يطلب المرتل أن ينزع عنه عار الخطية، لا تعييرات الناس الباطلة! هذا العار يفقده سلامه مع الله، كما يعثر الآخرين، فيجدفون على الله بسببه. أما نزع العار فيتحقق بإحلال عذوبة الوصية الإلهية في القلب عوض لذة الخطية.

v     إذ ارتكب النبي الخطية بكونه إنسانا رأي العار يصاحبه أمام المحاكمة الإلهية بعد القيامة، لهذا يتجه نحو الرب مقدمًا هذه الطلبة...

بقوله هذا لا يريد القول: "انزع عارك". حقًا عندما احتمل العار بسبب المسيح (عب 26:11) لا يُحسب هذا عاري بل هو عار المسيح، لكنني عندما أعاني من العار بسبب خطاياي ولا أرجع، يلزمني القول: "انزع عاري الذي ظننته، فإن أحكامك حلوة".

العلامة أوريجينوس

v     إنني واثق أنك تنزع الخزي الذي أخشاه، فإنني متأكد أن أحكامك تزخر بالصلاح والحب للإنسان.

القديس ديديموس الضرير

يقول المرتل: "أحكامك حلوة"، فإن كلمة الله مشبعة للنفس، هي غذاء مشبع وحلو لها. لهذا يعاتب العلامة أوريجينوس الشعب الفاتر في سماعه للكلمة، قائلاً:

[الكنيسة تئن وتحزن عندما تحضرون إلي الاجتماع لتسمعوا كلمة الله. تذهبون إلي الكنيسة بصعوبة حتى في أيام الأعياد، وحتى في حضوركم هذا لا توجد رغبة في سماع الكلمة...

لقد عهد إليّ الرب تقديم نصيب الطعام لأهل بيته، أي خدمة الكلمة، في الوقت المعين... ولكن كيف يمكنني فعل ذلك؟

أين ومتى أجد وقتًا لتصغوا إليَّ؟

تقضون النصيب الأكبر من وقتكم، تقريبًا كل وقتكم في الأمور العالمية غير الروحية، في الأسواق والمتاجر... لا يوجد من يهتم بكلمة الله، بالكاد نجد أحدًا يهتم بها...

ولماذا أشتكي غير الحاضرين؟ فحتى الذين هم حاضرون، أنتم لا تصغون1.]

العلامة أوريجينوس

8. الرب يهبنا عذوبة الروح

"هأنذا قد اشتهيت وصاياك،

وبعدلك أحيني" [40].

لم يقف الأمر عند حبه للوصية بل التهاب الحب في القلب ليصير شهوة مقدسة للتعرف علىها وممارستها وتعلىمها.

v     يقول: إنني إذ اشتهيت وصاياك، فلهذا أحيني حسب عدلك، وكافئني، لا لأني أكملت وصاياك، وإنما لأنني اشتعلت بحب وصاياك...

حيث أن عدل (برّ) الآب هو الابن، فإن من يريد أن يحيا في الابن يلزمه أن ينطق بهذه الكلمات: "فيه مُعلن بر الله بإيمان لإيمان" رو17:1.

العلامة أوريجينوس

v     عدل الله كقول السليح بولس هو ربنا يسوع المسيح، لهذا من يحفظ وصايا الله باشتهاء يجد حياة أبدية بواسطة مخلصنا يسوع المسيح.

أنثيموس أسقف أورشليم

الله القائد والمعلم والهادي

1. الله الذي خلق القلب وحده قادر أن يدخل فيه، ويقدم له ناموسه، ويقوده في طريقه الملوكي [33]، هو قادر أن يهبه الطاعة والأرادة الصالحة، حتى يبلغ النهاية.

2. يهبنا الفهم [34] فندرك أسرار الوصية ونتجاوب معها بتعقلٍ ووعيٍ، بفرحٍ وبهجة قلبٍ.

3. الله وحده يمسك بالقلب ويهديه ويقوده بنفسه إلي سبله التي يُسر المؤمن بها، فهو الذي يهب الأرادة الصالحة كما يعطي العمل الصالح لكن ليس في تراخٍ منا أو تهاون [35].

4. الله يقودنا في طريق العدل والحب لا الظلم والطمع [36].

5. الله هو مقدس حواسنا خاصة العينين [37]، فالعين المقدسة تحفظ القلب أيضًا مقدسًا، والعين المتهاونة تتسلل خلالها محبة الأباطيل.

6. الله واهب المخافة رأس كل حكمة حقة [38].

7. الله يعطي عذوبة للنفس في قبولها أحكام الله حتى إن عيرّها الكل!

V V V


 

من وحي المزمور 119 (هـ)

 من مثلك معلماً يا كلمة الله ؟!

v     قدمت أيها المعلم الإلهي ناموسك لكل شعبك،

فلتقمه بنفسك في أعماقي،

فأدرك أنه رسالة شخصية موجهة إلي!

 لتكن أنت قائدي ومهذب نفسي في تنفيذ ناموسك،

تظللني كسحابة في النهار،

وتضيء على نارًا في الليل.

v     يوجد معلمون كثيرون ومرشدون بلا حصر،

لكن من يقدر أن يدخل إلي قلبي سواك يا كلمة الله؟

من يستطيع أن يحوّل الوصية إلي عمل إلا أنت؟!

من يهب قلبي فهمًا فيفحص ناموسك نهارًا وليلاً غيرك؟

من مثلك معلمًا يا كلمة الله؟!

v     لأصلي من أجل كل كارز بالكلمة ليهبه المعلم السماوي فهمًا،

وليصلي كل كارز للمعلم السماوي ليهب شعبه فهمًا.

كلمة الله هو معلم الكارز ومهذب السامعين.

يعطي للكارز كلمة الحق، وللسامع عذوبة الاستماع.

v     إمكانياتي ضعيفة تمامًا عاجزة عن تنفيذ وصيتك.

أنت معلمي السماوي،

تعمل فيَّ أن أريد وأن أعمل لأجل مسرتك.

تمسك بيميني فتبعث فيّ شهوة أحكامك،

وتوسع قلبي فأتمم وصاياك.

v     الطمع يقتلني، ومحبة العالم تهلك نفسي.

أمل قلبي إلي شهاداتك،

فاستشهد وأموت عن العالم،

لأصلب معك لأحيا بك يا معلمي الصالح.

v     أنر عينيّ فلا تركزان على الزمينات الباطلة،

بل تتأملأن صليبك وتبتهجان بقيامتك.

افتح عينيّ لا على الشر كما حدث لأبوينا الاولين، بل على معاينة خلاصك.

حوَّل ذهني عن العالم إلي ملكوتك.

فلا أنظر إلي الوراء وأصير كامرأة لوط عمود ملح.

حقاً باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح.

 

V V V

<<


 

6 - و

 

الشهادة لكلمة الله

[41-48]

وجد المرتل في الرب نفسه القائد والمرشد، يغرس في داخله ناموس العهد الجديد [33]، ويهبه حكمة وفهمًا [34]، وقوة لحفظه بكل القلب [34]، يميل قلبه إليه لا إلي محبة العالم [36]، ويفتح بصيرته على الحق عوض الباطل [37]، ويهبه المخافة الإلهية، وينزع عنه عار الخطية [38].

الأن ما هي استجابة المرتل لهذا المعلم الإلهي؟ إنه يختبر الخلاص الإلهي النابع عن مراحم الله ونعمته المجانية، لا الصادر عن بره الذاتي، وحمل الشهادة الحقة لإنجيل المسيح حتى أمام معيريه ومضايقيه. يشهد بفمه الذي لا ينطق إلا بالحق، وبحياته كلها حيث يحفظ ناموس الرب في كل حين. يشهد بسعة قلبه وحبه للجميع جنبًا إلي جنب مع شجاعته للشهادة حتى أمام الجميع. وفي هذا كله يرفع يديه على الدوام نحو الوصية التي دخل معها في حالة ودّ، أي صارت له صديقًا حميمًا تسنده في حياته الروحية وتعينه على الشهادة للحق الإنجيلي.

1. الخلاص والشهادة 41.

2. الشهادة والمعيرون 42.

3. الشهادة والثبات في الحق 43.

4. الشهادة وحفظ الوصية 44.

5. الشهادة والحب 45.

6. الشهادة والشجاعة 46.

7. الشهادة والصداقة مع الوصية 47،48.

1. الخلاص والشهادة

تقوم شهادة المؤمن لعمل الله على تمتعه الشخصي بخلاصه العجيب القائم على حب الله الباذل ومراحمه اللأنهائية. لهذا يبدأ تسبحته هنا الخاصة بالشهادة بطلب الرحمة أو التمتع بالمسيا المخلص. لقد اختبر المرتل مراحم الله الجديدة كل صباح، لكنه كان يترقب بشوقٍ مجيء ابن داود الذي يعلن المراحم الإلهية اللأنهائية خلال عمل الصليب، لذا يناجي الله قائلاً:

"ولتأتِ على رحمتك يا رب،

وخلاصك كقولك" [41].

ليس هناك من أمان للإنسان أكثر من اتضاعه أمام الله العلى طالبًا مراحمه الإلهية ليتمتع بالخلاص الأبدي. هذا الخلاص الذي يهبه الرجاء في غفران خطاياه الماضية، ويقين في مساندة الله في الحاضر ليسلك في الطريق الملوكي، ويتمتع بعربون المجد الأبدي، مع قوة لمقاومة الشر.

v     بعد أن ذكر "رحمتك" أضاف على الفور "خلاصك". فإنه إذ تشملني رحمتك أتمتع بعد ذلك بالخلاص.

تعبير "رحمة الرب" في حقيقته يعني "الخلاص الذي يعطيه".

كان المرتل محقًا إذ لم يبدأ في صلاته بطلب الخلاص الذي يهبه الرب ويلي ذلك رحمته، وإنما أخذ الموقف المضاد.

إن كنت قد خلصت فذلك حسب رحمة الرب لا حسب أعمالي الذاتية.

العلامة أوريجينوس

v     يليق بنا أن نتساءل إن كان من الممكن أن يعود هذا كله على كلمة الله المرسل "المسيح"، لأنه هو رحمة الرب وخلاصه. لهذا يلزمنا أن نطلب في الصلاة أن تأتينا رحمة الرب، وخلاصه الذي بحسب رحمته، وهكذا إذ تشملنا الرحمة نخلص.

إننا نجيب على الذين سبقوا فعيّرونا بأننا كنا أناسًا محرومين من رحمة الرب وخلاصه.

القديس ديديموس الضرير(؟)

v     تُقال الرحمة والخلاص عن ربنا يسوع المسيح الذي لأجل وفرة رحمته تجسد لكي يصنع خلاصًا لجنس البشر.

لما أُوحي إلي النبي بأنه سيأتي ابن الله متجسدًا لأجل خلاص العالم صار كما من قِبَلْ الطبيعة البشرية يلتمس ذلك بصيغة التمني، قائلاً: "لتأتِ على رحمتك يا رب وخلاصك كما قلت لأنبيائك".

أنثيموس أسقف أورشليم

v     عما يصلي هنا سوى أنه خلال المراحم المملوءة حبًا لذاك الذي قدم الوصايا يمكنه أن يتمم الوصايا التي يشتهيها؟

القديس أغسطينوس

الأن وقد جاء كلمة الله المتجسد وأعلن الرحمة في كمالها، مقدمًا لنا الخلاص المجاني، هل لنا أن نردد ذات الطلبة: "لتأتِ على رحمتك...

لقد جاء السيد المسيح إلي العالم مرة لتقديم الخلاص للعالم كله، وهو يأتي دائمًا ليحل في قلوب مؤمنيه، معلنًا ذاته مخلصًا لكل مؤمنٍ. لهذا يؤكد المرتل "لتأتِ على رحمتك"، فأنا بصفتي الشخصية محتاج إلي رحمتك وإلي التمتع بخلاصك عاملاً فيَّ.

مع كل صباح يكون للمخلص دوره الشخصي في حياة المؤمن، حتى ليحسب في كل يوم كأنه يتعرف علىه للمرة الأولى...

لكي يشهد المرتل لعمل الله لخلاصي يحتاج إلي الله لا كمعلمٍ وقائدٍ فقط [33-40]، إنما يطلبه كمخلصٍ شخصيٍ له، وذلك من قبيل المراحم الإلهية. لقد شعر المرتل بالجهل فطلب من الله معلمه الفهم والقيادة لأعماقه، وإذ شعر بالخطية يطلب منه المراحم والخلاص المجاني، لا عن استحقاقه الذاتي وإنما حسب قوله، أي حسب وعوده الإلهية التي نطق بها الأنبياء.

تمتعه بالمراحم والخلاص يثير عدو الخير علىه لهذا يسأل أيضًا قوة للشهادة في هذا الجو الرهيب.

2. الشهادة والمعيرون

كما أن مراحم الله جديدة في كل صباح (مرا 23:3) كذلك يوجد مقاومون ومعيرون في كل يوم، ويحتاج المؤمن إلي الاختفاء في كلمة الله المصلوب، فهو وحده قادر أن يفحم العدو إبليس ويفسد كل حيله الشريرة. يشعر المرتل أن كلمة الله هي سلاحه ضد العدو، وسرّ قوته، وغناه الذي يتمتع به بالإيمان خلال خبرة الخلاص الذي ينعم به بمراحم الله. يقول المرتل:

"فأجاوب الذين يعيرونني بكلمة،

لأني اتكلت على أقوالك" [42].

v     إذ تأتيني رحمتك وخلاصك حسب قولك، أكون قد خلصت، فيصير لديّ كلام به أجيب على معيِّريّ، مظهرًا لهم أن من ينال هذه العقائد لا يكون بحقٍ في عارٍ.

يتطلع "الغرباء عن الإيمان" إلي هذه العقائد أنها حماقة، لكنني سأثبت لهم أنها مملوءة فطنة وحكمة.

العلامة أوريجينوس

v     إذ أهلتني لنعمة رحمتك وخلاصك أنقض أقوال الذين يعيرون إيماننا ويمزحون لأجل اتكالنا علىك واستنادنا على أقوالك، ونجاوبهم بكلمة، أي ببرهانٍ واضحٍ.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     هؤلاء الذين يحسبون المسيح المصلوب عثرة أو جهالة يعيروننا به، وهم يجهلون أن "الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا" وأن الكلمة الذي هو من البدء كان مع الله، وكان هو الله. ليتك لا ترتعب ولا ترتبك بتعييراتهم.

القديس أغسطينوس

يقدم المؤمن براهينه لا خلال سفسطة الحوار العقيم، وإنما خلال قوة الروح، فإن بهجة خلاصه، وثمر الروح المتكاثر فيه، وشبع نفسه، وتهليل قلبه الخ. أمور لا يقدر الملحدون أن يقاوموها.

إذ اختبر المرتل عذوبة الخلاص أدرك أنه قادر بالرب أن يحطم افتراءات العدو، لكن ما يشغله بالأكثر هو الشهادة الداخلية للمخلص بثباته في الحق إلي النهاية، مطالبًا الله مخلصه ألا ينزع من فمه قول الحق ولا من حياته خبرة الخلاص.

3. الشهادة والثبات في الحق

لئلا يظن الإنسان أنه إذ يختبر مراحم الله مرة يتمتع بالخلاص نهائيًا، لذلك يؤكد ضرورة المثابرة على الثبوت في المسيح، أي الجهاد المستمر متكئًا على النعمة المجانية، لذلك يكمل المرتل طلبته، قائلاً:

"فلا تنزع من فمي قول الحق،

لأني توكلت على (انتظرت) أحكامك" [43].

يطلب من الله أن تستقر كلمته في فمه، فيحمل الحكمة والشجاعة مع القداسة ليشهد بكلمة الله لبنيان إخوته، وتبرير إيمانه الحيّ. إن كان قد اشتهي أن يخفي كلمة الله في قلبه لكي يحبها ويحفظها ويتأملها الأن يرددها بفمه ليكرز بها بلسانه كما بحياته المقدسة.

v     ينطق بهذه العبارة، لأن الذي سبق فتلقى "قول الحق" يتعرض لفقدانها. ينزعها الله من فم من تلقاها متى صار غير مستحقٍ لها.

قيل أيضًا: "لا تهمل الموهبة التي فيك" 1تي14:4. يحدث الإهمال ليس فقط في زرع الموهبة أو عدم تركها تنمو وإنما بجعلها لا تطابق حياته (العملية).

من جهة أخرى يمكن أن نتساءل عما إذا كان قول الحق يُنزع عن الفم فقط دون القلب حتى يتأكد التغير (التوبة) بفضل وجود "قول الحق" في الداخل، هذا الذي تلقاه الإنسان مرة واحدة.

قيل: "وللشرير قال الله: مالك تتحدث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك" مز16:49. إنه لم يقل: "مالك تفكر في فرائضي".

ربما إذا استمر الخاطيء في خطيته على الدوام يُنزع قول الحق من قلبه، إذ يكون قد اظلمَّ، وأُصيب بالعمى عن معرفة الحق...

أيضًا يلزمنا شرح ماذا يعني "النزع إلي الغاية جدًا". النص غامض جدًا، فقد يعني أنه حتى وإن نزعت من فمي قول الحق فلا تنزعه تمامًا بالكلية؛ ربما تعني أن الكلمة التي هي فيّ بالفعل، هذه احفظها في داخلي ولا تنزعها من فمي.

بما إنني "انتظرت أحكامك" ووضعت فيها أمالي، لذلك يزداد رجائي باستمرار، لأن كلمة الحق التي هي في أعماقي، تجعلني انتظر أحكامك.

العلامة أوريجينوس

v     إن حدث يوم ما أنني أجد صعوبة من جهة (تفسير) العناية الإلهية أو ما يشابه ذلك من هذا النوع، ولا أستطيع أن اعطي إجابة تزيل تناقضات هؤلاء الذين أقاموا المشكلة، اعطني بلطفك كلمتك التي تشرح الحق عند افتتاح فمي، فلا تنزع قول الحق من فمي.

ولكي أستطيع أن أتحدث بطريقة أو أخرى من جهة هذه الأمور الصعبة "انتظرت أحكامك"، أي انتظرت كلماتك المتزنة والمختبرة جدًا عند التجربة. هذه الأحكام التي من خلالها تحكم البشر وتمارس عنايتك بهم.

القديس ديديموس الضرير

يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا هو السيد المسيح الذي لن يُنزع من فمه قول الحق، وأيضَا الكنيسة التي هي جسده فإنها تنطق بالحق في هذا العالم وفي العالم الآتي أيضًا، وهكذا يفعل جماعة القديسين كأعضاء في جسد المسيح.

v     هذه الشريعة يجب أن تُفهم كقول الرسول "المحبة هي كمال الناموس". لهذا فهي تُحفظ بواسطة القديسين، الذين لا يُنزع من فمهم قول الحق، أي أنه بواسطة كنيسة المسيح نفسها، ليس فقط في هذا العالم، ولا حتى عند انقضاء الدهر، وإنما في العالم الآتي الذي بلا نهاية.

القديس أغسطينوس

4. الشهادة وحفظ الوصية

من ينتظر أحكام الله، مدركًا عنايته الإلهية حتى في لحظات الضيق، يحفظ الوصية متمسكًا بها عمليًا على الدوام. بهذا تكون شهادته حق وعملية ودائمة. لهذا يقول المرتل:

"واحفظ شريعتك في كل حين إلي الأبد وإلي الدهر" [44].

v     يقول: "احفظ شريعتك"، فهو لا ينفذها حينًا ويتركها حينًا آخر، بل وأكثر من هذا يقول إنني أُنفذها في الحياة الحاضرة والحياة المستقبلة.

القديس أثناسيوس الرسولي

v     هكذا يمكن فعلاً حفظ شريعتك على الدوام، ليس فقط في هذا العالم بل وإلي الأبد أيضًا، حيث أن كلام يسوع لا يزول (مت24:35). على أي الأحوال نحن نحفظ شريعة الله خلال صورة الحقائق (عب1:10)؛ هذه الشريعة التي كانت محفوظة بواسطة اليهود من خلال الظل، والتي يلزمنا أن نحفظها خلال الخيرات العتيدة إلي الأبد.

العلامة أوريجينوس

الشهادة لكلمة الله

لكي يشهد المؤمن الحقيقي لكلمة الله يلزمه الآتي:

1. التمتع الشخصي بكلمة الله الواهبة الخلاص، أو التمتع بالسيد المسيح الذي أعلن المراحم الإلهية خلال عمله الخلاصي الذي سبق فوعد به بالأنبياء [41].

2. مساندته ضد عدو الخير وجنوده بتمتعه ببهجة الخلاص وثمره المفرح، وبقوة الروح [42].

3. استمرارية التمتع بخلاص الله حتى النهاية [34] تسنده في الشهادة لعمل المخلص.

4. تتحقق الشهادة بالبهجة الداخلية بالخلاص، وبالحديث عن عمل الله، وأيضًا باتساع القلب ورحابته [45]، والشجاعة حتى أمام الملوك [41]، متحررًا من كل خوف.

5. بالدخول في صداقة وود مع كلمة الله ورفع ذراعيه إليه للصلاة مع السلوك العملي.

5. الشهادة والحب

إن كانت الوصية أبدية لذا يتممها المؤمن الحقيقي على الدوام، شاهدًا لها أمام نفسه وأمام الغير بسلوكه العملي، فإن هذه الوصية طريقها صعب وضيق لكنها تعطي رحابة القلب واتساعه للجميع، حتى للمضايقين. وكما سبق فرأينا أن طريق الوصية ضيق لكنه يهب القلب اتساعًا وحبًا، أما طريق الشر فمتسع جدًا لكنه يعطي القلب أنانية وضيقًا.

"كنت أسلك في السعة،

لأني لوصاياك ابتغيت" [45].

v     من يحب الله لا يكون متلجلجًا في مواجهة أنواعٍ من الضيقات والأحزان، لا يتضايق لكنه يكون في سعة ورحابة قلب فرحًا، لأن المحبة تتمهل، وتطلب الصلاح.

المحبة لا تحسد ولا تطرد ولا توبخ، ولا تقبح، ولا تطلب حقوقها، ولا تحتد ولا تفتكر بالشر، ولا تُسر بالظلم بل تفرح بالحق، تحتمل كل شيء، تصدق كل شيء، وتترجى كل شيء، وتصبر على كل شيء... لأجل هذا كتب بولس الرسول إلي أهل رومية: "مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين، متحيرين لكن غير يائسين، مُضطهَدين لكن غير متروكين، مطروحين لكن غير هالكين، حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا ..." 2كو 8:4-10.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     يسلك "في رحب" حتى وإن كان متضايقًا، إذ قيل: "في الضيق رحبت لي" مز2:4، كما قيل: "مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين" 2 كو 8:4 ...

يقول بولس الرسول من جهة نفسه: "لستم متضايقين فينا" 2 كو 12:6، وفي اتهامه لأهل كورنثوس يقول: "بل متضايقين في أحشائكم" 2كو 12:6، فإن الشرير يتضيَّق في نفسه بأعماله الشريرة، وعلى العكس منه يقول (المرتل): "اسلك في الرحب"، موضحًا السبب الذي لأجله يسلك في الرحب وهو "لأني لوصاياك ابتغيت".

العلامة أوريجينوس

6. الشهادة والشجاعة

خلال سعة القلب التي يتمتع بها المرتل بالنعمة الإلهية يمارس الوصايا ببهجة قلب، بل ولا يجد حديثًا ممتعًا حتى في حضرة العظماء مثل الشهادة لوصية الرب وعمله الخلاصي، وذلك لنفعه ونفعهم.

بعدما تحدث عن اتساع القلب بالحب حتى في وقت الضيق يعلن المرتل عن شجاعته في الشهادة للوصية أمام الملوك دون خزي؛ فإن الشجاعة دون الحب تصير تهورًا، كما أن الحب يدفع نحو الشهادة للحق بلا خوف. والمثل الحي لهذا هم الثلاثة فتية في أرض السبي الذين وُجه إليهم الاتهام: "لم يجعلوا لك أيها الملك اعتبارًا، آلهتك لا يعبدون، ولتمثال الذهب الذي نصبت لا يسجدون" دا12:3؛ أما هم ففي شجاعة قالوا للملك: "هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلاَّ فليكن معلومًا لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" دا13:8، 19. وكما قال بطرس ويوحنا الرسولأن: "لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا" أع20:4.

"وتكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخز" [46].

في خطاب للقديس إمبروسيوس يوجهه إلي الإمبراطور ثيؤدوسيوس لكي يصغي إليه، قائلاً أنه لا يستطيع أن يصمت وإلا كان هذا فيه خطر على كليهما. فيه أشار أن ثيؤدوسيوس وإن كان خائف الله لكن يلزمه ألا ينحرف...

v     ليس من جانب الإمبراطور أن يرفض حرية الكلمة، ولا للكاهن ألا ينطق بما يفكر فيه. فإنه ليس شيء فيكم أيها الأباطرة معروف عنكم مثل تقديركم للحرية، حتى بالنسبة للخاضعين لكم في طاعة عسكرية.

فإن هذا هو الفارق بين الرؤساء الصالحين والطالحين، أن الصالحين يحبون الحرية، والطالحين يطلبون العبودية.

وليس شيء في الكاهن خطير مثل عدم إعلأنه بحرية عما يفكر فيه من جهة الله وذلك من أجل الناس. فقد كُتب: "أتكلم بشهاداتك أمام الملوك ولا أخجل" [46]. وفي موضع آخر: "يا ابن الإنسان جعلتك رقيبًا لبيت إسرائيل"، لكي "إن رجع البار عن بره وعمل إثمًا... لأنك لم تنذره"، أي لم تخبره لتحفظه في تذكار بره، فإنه يموت "أما دمه فمن يدك أطلب. وإن أنذرت أنت البار وهو لم يخطئ فإنه حياة يحيا لأنه أُنذر، وأنت تكون قد نجيت نفسك" حز17:3،20، 21.1

القديس إمبروسيوس

v     بعد ذلك وجهت حديثًا واضحًا للإمبراطور ثيؤدوسيوس الكلي الرأفة، ولم أتردد في الحديث معه مواجهة... إنه لم يتضايق لأنه عرف أنني لم أفعل ذلك لمصلحتى الخاصة إنما لم أخجل عن أن أتكلم في حضرة الملك ما هو لنفعه ولنفع نفسي [46].1

القديس إمبروسيوس

v     هكذا تكون جسارة من يحمل الصليب. لنتمثل بهذا؛ فإنه وإن كان ليس الوقت زمن حرب، لكنه زمن الشجاعة في الحديث، إذ يقول أحدهم: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك، ولم أخزَ".

إن صرنا وسط وثنيين فلنغلق أفواههم بلا غضب ولا عنف3.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     الجهاد من أجل الحق حتى الموت، دون الخجل من الحديث عنه حتى أمام الملوك.

القديس أغسطينوس

v     علامة محبة الله هي... أن تتكلم بشهاداته قدام الملوك جهرًا وبشجاعة، كما تكلم الرسل والشهداء... لا نخزَ إن كانت أعمالنا وأقوالنا لائقة بملك الملوك المتكلم فينا، وأن نهذ بوصاياه بالمحبة والثقة، لا بضجر أو تهاون.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     من لا يستمد الكلمة لإعلأن البشارة المفرحة بقوة عظيمة يتكلم بخزي، أما من يقول: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخز" ينطق بما يستحق المجد لا الخزي.

العلامة أوريجينوس

v     يمكننا تطبيق هذا النص بحق على من يُساق أمام ولاة وملوك كشاهد لاسم المسيح (مت18:10). كما يمكننا تطبيقه على من يفتح فمه أمام القديسين (الذين هم بالحقيقة ملوك في أرواحهم)، متحدثًا بشهادات الله...

إذ رفض الالتصاق بالتراب وأراد أن يعيش حسب كلمة الرب، أي حسب الكتاب المقدس الإلهي الموحى به، يطلب العون الإلهي لكي يحيا. من يهتدي ينطق بكلمات الرب، فتظهر أعماله وسيرته الصالحة.

العلامة أوريجينوس

v     لقد بلغت آخر درجات الضيق، إذ صرت مطرودًا بواسطة الطغاة، لذلك أطلب أن أخلص حسب وعد الله لنا: "ولا تحيط بكم السيول" 2مل5:22؛ مز5:17.

القديس أثناسيوس الرسولي

7. الشهادة والصداقة مع الوصية

أخيرًا فإن المرتل في شهادته يلجأ إلي الوصية لا كأوامر ونواهٍ وإنما ككائن يتعامل معه، يناجيه، ويرفع ذراعيه إليه (يصلي إليه)، ويدخل معه في ودٍ أو صداقة، إذ يقول:

"هذذت بوصاياك

التي أحببتها جدًا.

ورفعت أذرعي إلي وصاياك

التي وددتها جدًا.

وتلوت في حقوقك" [47،48].

واضح أنه يتحدث عن الوصايا بكونها "كلمة الله" الحيّ، الذي يدخل معه في علاقة حب، يصلي إليه، ويوده.

رفع الذراعين [48] هو طقس قديم وطبيعي يشير إلي التضرع، كما يشير إلي العمل وتنفيذ الوصية بالذراع اليمنى كما بالذراع اليسرى، أي في عبادتنا الروحية وسلوكنا اليومي؛ أو في الفرج والضيق. وكأن المرتل يوجه قلبه نحو الوصايا الإلهية بالصلاة الدائمة مع الجهاد المستمر، وكما يقول في مزمور آخر: "استمع صوت تضرعي إذ استغيث بك وأرفع يديّ إلي محراب قدسك" مز2:28.

v     غاية التلذذ بوصايا الله هو وضعها موضع التنفيذ والعمل...

من يتلذذ بالحق أولاً، قائلاً: "أتلذذ بوصاياك التي أحببتها جدًا"، يقول بعد ذلك: "ورفعت أذرعي إلي وصاياك التي وددتها جدًا". ما أجمل أن نتلذذ بالوصايا ونفهم معانيها ثم نرفع أذرعنا إلي الأعمال التي تتفق مع الوصايا.

لا نتمم عمل الوصايا عن حزنٍ أو اضطرارٍ (2كو 7:9)، وإنما بفرح.

إذ نتلذذ بها وننفذها يلزمنا أن ننطق بها (تث7:6)، لهذا يضيف "وتلوت (أناجي) في حقوقك"، بمعنى أنه من أجل حبي لوصاياك لا أتوقف عن الحديث عنها، وإنني أتلو وأنا متلذذ جدًا بكل ما يمس حقوقك.

العلامة أوريجينوس

 إذ يُعلق القديس أغسطينوس على هاتين العبارتين يقول: [لقد أحب (المرتل) وصايا الله لأنه كان يسير في حرية، أي بالروح القدس، الذي خلاله ينتشر الحب وتتسع قلوب المؤمنين.

لقد أحب بالفكر والعمل.

بالنسبة للفكر يقول: "هذذت"، وبالنسبة للعمل يقول: "رفعت أذرعي"].

v     من يصنع وصايا الله تلتصق بالله نفسه، وأما من يخالفها فتلتصق بالتراب نفسه، وتتمرغ في الأرضيات وتصير ترابية. لذلك جاء في الأصحاح العاشر من سفر التثنية قوله: "الرب إلهك تتقي، إياه تعبد، وبه تلتصق" تث20:10.

أنثيموس أسقف أورشليم

الذي يغتني بعد فقرٍ مدقعٍ لا يمكن ألا أن يتأمل خزائنه، عينا قلبه لا تفارقانها، هكذا يتأمل الشاب وصايا الله التي يخفيها في قلبه، وفي تأمله الدائم يتفهمها يومًا فيومًا بأعماق جديدة، فتصير موضوع لهجه ولذته ليلاً ونهارًا؛ إنه لن ينساها!

بمعنى آخر إذ يكتشف الشاب غناه بالوصية يمارس حياة الهذيذ الدائم التي لا تنفصل عن حياته العملية:

أ. التأمل في الوصية.

 ب. تفهمها بروح الله الساكن فيه.

ج. لهجه فيها بلذة فائقة.

د. الشهادة للوصية بشجاعة دون خوف.

ه. لن ينساها قط، أي لا يمكن لأحدٍ ما أو لشيءٍ ما أن يسحب فكره وذاكرته عنها.

 

 V V V


 

من وحي المزمور 119(و)

بوصيتك أشهد لرحمتك وخلاصك!

v     رأيتك معلمي الصالح تهبني الفهم مع الأرادة المقدسة،

 الأن أراك الرحيم مخلص الخطاة،

 ارحمني وخلصني حسب وعودك الصادقة لي.

v     يقاومني الأشرار الذين لا يطيقون خلاصك.

 لكنني بوصيتك العاملة فيّ أفحمهم.

 لا تنزع عن فمي قول الحق،

 ولا عن حياتي خبرة خلاصك،

v      فأحطم افتراءات العدو بالقول والعمل معًا.

 وصيتك التي أخفيها في قلبي،

 تُعلن الأن بفمي كما بحياتي.

 فما أنطق به يشهد عما أحياه وأسلكه.

v     أشهد بحفظي لوصيتك على الدوام وإلي الأبد،

 إنها دستوري الدائم،

 في الحياة الحاضرة وفي العالم العتيد.

لا أتمسك بها حينًا وأتجاهلها حينًا آخر،

لأن كلامك ثابت غير متغير إلي الأبد.

v     شهادتي لوصيتك لا بالحوار العقلأني،

بل باتساع القلب بالحب للجميع.

إني أسلك في السعة لأحمل الجميع في قلبي،

لأني ابتغيت وصاياك!

v     هب لي أن أشهد بوصاياك بشجاعة أمام العظماء.

ولتمزج شجاعتي بالحب فلا أكون متهورًا.

v     هب لي أن أحب وصاياك،

وأدخل في ودٍ معها.

أرافقها وترافقني.

لا يستطيع أحد أو شيء ما أن يحطم صداقتي معها!

بهذا أشهد لها، شهادة صديقٍ لصديقه الحميم!

 V V V

<<

 


 

7 - ز

 

كلامك عزَّاني في مذلتي

[49- 56]

في القطعة السابقة تحدث المرتل عن شهادته للوصية أو لكلمة الله، بالصلاة والكلمات كما بالعمل، خاصة باتساع قلبه أو حبه لمقاوميه بروح الشجاعة لا الخنوع. وقد ختم حديثه بالكشف عن لذته بالوصية وتمتعه بالصداقة والود الشديد معها. الأن إذ يدرك المرتل أنه غريب على الأرض، وساقط تحت المذلة والضعف فإنه يجد في الوصية الإلهية عزاءه. يجد في كلمة الله موضع استقرار له وسط الضيقات، ويجدها تسابيح لبيت غربته!

1. عزاء وسط الموت 49،50.

2. عزاء وسط الشدائد 51،52.

3. عزاء في الخدمة 53.

4. عزاء في العبادة الخاصة 54-56.

1. عزاء وسط الموت

"أُذكر كلامك لعبدك الذي علىه اتكلتني.

هذا الذي عزاني في مذلتي،

لأن قولك هو أحياني" [49،50].

إن كنت أعيش في عالم الغربة وسط ضيقات شديدة، فإن سرّ تعزيتي هو وعودك التي ترفع المؤمن من المذلة وتهبه الحياة، إذ يفتح له الرب باب الرجاء في الحياة الأبدية.

v     لقد قلت أنك تعطي حافظي وصاياك خلاصًا، وتجازي مخالفيها بعقوبات. ونحن أيضًا نقول أنك يا ربنا قد وعدت أن تكون معنا إلي انقضاء الدهر. وبقولك هذا فديت همتنا واتكالنا. أذكر الأن وعدك لعبدك، وأُوفِ بما قد وعدتنا به. كنت أتعزى بهذا الوعد وقت شدائدي، وقولك أحياني. لأن قول الله إذا حفظه الإنسان وتممه بالعمل تحيا نفسه تلك الحياة الخاصة بالنفس، أعني الحياة الأبدية.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     عندما ذكرت "كلام" الوعد، اعطيتنا أجنحة تسندنا فلا نبالي بالعالم الحاضر، لأنني اشتهيت الأمور السماوية وطلبت الأبديات. لقد جاهدت وقاومت مطالبًا بإصرار كلام هذا الوعد.

العلامة أوريجينوس

v     ما هو "الكلام" الذي يطلب من الله أن "يتذكره" إلا الوعد الذي اعطاهم إياه أنه يكون معهم (مت20:28)، والذي كان بالنسبة لهم تعزية وسط الاضطهادات؟!

القديس أثناسيوس الرسولي

v     ماذا يقصد ب "هذا" (الذي عزاني)؟

إنه الرجاء الذي نشأ فيّ بكلامك. لقد عزاني وشجعني حتى إذا ما حلَّت بي شدة أو خطر أو توقع موت أو مرض أو فقدان رؤوس الأموال أو اضطهاد أو ما يُعتبر ضيقات بأي نوع، يكون رجائي فيك هو "تعزيتي". في اختصار يدعو كل هذه الضيقات: "في مذلتي".

إنه زمن الضيقات والتجارب، حيث مذلة النفس المتروكة والمستسلمة للمجرب لكي تجاهد ضد القوة المضادة، لذلك فإن "قولك هو أحياني". ليس ما يحيي النفس مثل كلام الله، فقدرما يدرك الإنسان كلام الله وتتقبله نفسه تنمو فيه الحياة، يقصد الحياة الصالحة هنا، بعدها يعطي الله الحياة الأبدية.

العلامة أوريجينوس

بدأ المرتل تضرعه إلي الله واهب التعزية بتذكيره بوعوده الإلهية. فإن الله لن ينسى كلمته، لكنه يطلب منا أن نُذكِّره، ففي هذا تجديد لثقتنا فيه، وإيماننا بصدق مواعيده، وتجاوب مع محبته. إننا لا نُذكِّره بخدمتنا ولا بجهادنا ولا ببرنا وإنما بوعوده الصادقة وميثاقه معنا. بهذا الروح صرخ اللص التائب وهو على الصليب: "أُذكرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك". هي صرخة الإنسان الواثق في حب مخلصه والمعترف بعدم استحقاقه الذاتي. وبنفس الروح يصلي داود النبي قائلاً: "والأن أيها الرب ليثبت إلي الأبد الكلام الذي تكلمت به عن عبدك وعن بيته وافعل كما نطقت" أي23:17. وكأنه يقول له: "أنا أعلم أنك أمين في مواعيدك، ولا تنقض كلمتك، فلتعمل فيّ حسب وعودك فإنني مؤمن بها ومتكل علىها. أنت وعدت، وأنا مملوء رجاءً في مواعيدك أنتَ قادر أن تخلص حتى الموت، وها أنا أحيا بكلمتك".

يجد المرتل شبعًا لكل احتىاجاته في محبة الله ووعده الصادق، الذي يقيم من الموت، واهبًا الحياة. خارج الوعد الإلهي يشعر المرتل بالمذلة، إذ يقول: "هذا الذي عزاني في مذلتي"... ليس ما يرفع عني المذلة إلا وعدك الإلهي! ولعله يشير هنا إلي المذلة، لأن الله ينظر إلي المتواضعين ويرفع النفوس المتذللة.

v     إننا نتسلم الرجاء من الله الذي نقول له: "الذي جعلت فيّ رجاء" [49]1.

v     أعني ذاك الرجاء الذي يُعطى للمتواضعين كما يقول الكتاب المقدس: "يقاوم الله المتكبرين ويُعطي نعمة للمتواضعين".

القديس أغسطينوس

2. عزاء وسط الشدائد

إذ كانت الخطية تفقدني الرجاء في الحياة الأبدية، جاء كلمة الله يهبني الحياة الأبدية، لذلك لا أهاب متاعب هذا الزمان الحاضر وضيقاته.

أجد في كلامك تعزيتي، لكن المتكبرين يسخرون بي لأنهم يحسبون رجائي في وعدك واتكالي على قولك وإيماني بك أمورًا خادعة وواهية. إنني أكمل رحلة غربتي ولا أتوقف كمن يسير بقافلته ولايبالي بنباح الكلاب.

"إن المتكبرين تجاوزوا الناموس جدًا إلي الغاية،

وأنا عن ناموسك لا أملْ.

تذكرت أحكامك يا رب منذ الدهر فتعزيت" [51، 52].

v     عندما كان المتكبرون يتجاوزون ناموسك يا رب إلي الغاية، كانوا ليس فقط يأثمون بل ويهزأون بحافظيه، فكنت أنا بالأكثر أعتصم به، متذكرًا أنك منذ القديم تسمح عادة بسقوط (مؤمنيك) في المحن، لكنك تسرع إلي نجاتهم منها، وتمجدهم بالأكثر؛ بهذه الذكرى تعزيت.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     استهزأ المتكبرون بناموسك، بل واستهزأوا به إلي الغاية، أما أنا فلم أملْ عن ناموسك قط. وأنت دبرت حياتي، وحفظت روحي، حتى لا يكون مع قلبي كلام لئيم مختبئ مضاد للشريعة (راجع تث9:15)...

v     لنتأمل أيضًا سلوك البار، فإنه يقول بأنه يتذكر أحكام الله التي هي منذ الدهر وإلي الدهر تظهر لكل واحدٍ فتعزيه، فلا يعود يعرف الحزن ولا القلق، إذ يقول: "إن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" رو18:8.

العلامة أوريجينوس

v      أراد أن يُفهم المتكبرون أنهم مضطهدوا الأتقياء، لذلك أضاف "وأنا عن ناموسك لم أمل"، لأن المضطهدين المتكبرين حاولوا أن يلزموه بذلك.

القديس أغسطينوس

v     يصنع الهراطقة لأنفسهم مجدًا بمخالفتهم للناموس، لكنني لهجت في حفظه كله دون أن أضعف ولو جزئيًا، وفي قبولي له بدون تردد.

القديس ديديموس الضرير

v     تذكرت الأحكام التي اتخذتها قديمًا ضد مضطهدي إسرائيل فتعزيت، إذ عرفت أنني لن أصير متروكًا في الاضطهادات، وأن كل ما يحدث للإنسان إنما هو وفق أحكام الله.

القديس أثناسيوس الرسولي

لم يطلب المرتل إبادة المتكبرين المقاومين له من أجل حفظه وصايا الله، إنما يطلب أن يحفظه الله كي لا ينحرف بسببهم أو يميل عن الطريق الملوكي يمينًا أو يسارًا، بل ينشغل بتعزية الروح له، ويهتم بأحكام الله. كأنه يقول: لا أريد أن أنشغل بالسلبيات، أي بالهجوم الموجه ضدي، وإنما أهتم بالإيجابيات أي بالتأمل في أحكامك والتمتع بتعزياتك. بهذا لا يعطى للأشرار فرصة تحقيق رغبتهم من جهته.

لقد حاول سنبلط وجشم الشريرين أن يشغلا نحميا عن العمل الإيجابي في مجادلات نظرية، وأن يفسدا وقته في الحوار عوض بناء السور، "فأرسل إليهما رسلاً قائلاً: إني أنا عامل عملاً عظيمًا فلا أقدر أن أنزل؛ لماذا يبطل العمل بينما أتركه وأنزل إليكما؟! نح3:6. فأرسلا إليه بمثل هذا الكلام أربع مرات وجاء بهما بمثل هذا الجواب.

ليفعل الأشرار ما يريدون، وليستخدموا كل طرق العنف الظاهر أو التهديدات أو الخداع والكلمات المعسولة. ففي هذا كله يبقى المؤمن في طريقه الملوكي، طريق الوصية لا يحيد عنها. أما سنده في هذا فهو معاملات الله مع أولاده منذ بداية التاريخ البشري: "تذكرت أحكامك يا رب منذ الدهر فتعزيت" [52]. منذ طفولتنا لم يتخلَّ الله عنا، بل ومنذ وُجد الإنسان بقى الله أمينًا في مواعيده ووعوده لشعبه ومؤمنيه، وأيضًا لم يدع عصا الأشرار تستقر على نصيب الصديقين. لقد أغرق الأشرار بالطوفان، وبلبل ألسنة أهل بابل، وأغرق فرعون وجنوده في البحر الأحمر... وباختصار: "الساكن في السموات يضحك بهم، والرب يستهزئ بهم؛ حينئذ يكلمهم بغضبه وبرجزه يرجفهم" مز4:2، 5؛ وأيضًا يقول المرتل: "أسنان الخطاة سحقتها" مز7:3.

التأمل في معاملات الله في العهدين القديم والجديد وفي تاريخ الكنيسة عبر كل الأجيال يعطي تعزيات ليست بقليلة، فلا نخاف من مؤامرات المتكبرين وتهديداتهم.

3. عزاء في الخدمة

أحكام الله ضد المتكبرين المصرّين على اضطهاد خائفي الرب المتمسكين بتنفيذ وصيته تملأ قلب المرتل تعزيات إلهية، لكنه لا يقف موقف الشامت بل موقف الحزين على نفوسهم الساقطة. إنه يئن في كآبة لأنهم يهينون الله مصدر الخلاص ويمجدون إبليس المضل والمهلك كما يحطمون أنفسهم. في كآبته يترجى لعلهم يرجعون بالتوبة إلي الله، لذلك يقول:

"الكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين تركوا عنهم ناموسك" [53].

v     إذا رأي الصديقون إنسانا من ابناء الشريعة يخالفها يغتمون ويكتئبون، لأن ألم عضوٍ واحدٍ يجعل جميع الأعضاء تتألم.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     يوجد بين الخطاة من يخطئ بدون الناموس (رو12:2)، لأنهم لم يعرفوا الناموس، وآخرون يخطئون في الناموس لأنهم إذ يخالفونه يستهينون به. فالكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين تركوا عنهم ناموسك. حقًا إن كان عضو يتألم (بتركه الناموس) فجميع الأعضاء تتألم معه؛ وإن كان عضو واحد يُكرم فجميع الأعضاء تفرح معه" 1كو26:12. إذن يليق بنا أن نتألم من أجل إخوتنا الخطاة لأنهم يخطئون، وأن نتخذ نفس موقف هذا القديس (المرتل).

القديس ديديموس الضرير

v     من يسكب دموعًا ساخنة على أخطاء قريبه يبرأ بحزنه على أخيه1.

القديس باسيليوس الكبير

v     لنبكِ علىهم لا يومًا ولا يومين، بل كل أيام حياتنا2.

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. عزاء في العبادة الخاصة

كلما تطلع المرتل إلي المتكبرين المصرّين على عدم التوبة يمتلئ قلبه حزنًا وكآبة، ليس خوفًا منهم بل علىهم. إنه يشتاق أن يتمتعوا معه بالمجد الداخلي وتعزيات كلمة الله وعذوبتها. وسط هذه الآلام التي تجتاز نفسه الخادمة لكل إنسان، والمشتاقة إلي خلاص الكل. يدرك المرتل أن الدخول إلي أعماق الوصية يرد له فرحه وتهليله وسط شعوره بالغربة. يجد الوصية تتحول إلي تسبحة حب تقوده إلي الفرح الداخلي مع تهليلات القلب وتسابيح الفم.

ربما يقصد بالمزامير هنا رثاءً مملوء رجاءً، كما يقول في المزمور39: "لا تسكت عن دموعي، لأني أنا غريب عندك، نزيل مثل جميع آبائي" مز12:39. على أي الأحوال لم يشعر داود الملك أنه في قصر ملوكي فخم، بل في موضع غربته يترقب رحيله من هذا العالم. هذا الشعور يحول آلامه إلي مزامير.

"حقوقك كانت لي مزامير في موضع غربتي" [54].

v     يُدعى هذا العالم موضع غربة بالنسبة للصديقين، لأنهم يعيشون فيه كغرباء يهتمون برجوعهم إلي الوطن الحقيقي في الآخرة حيث يرتلون حقوق الله.

أنثيموس أسقف أورشليم

يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة ينطق بها المؤمن وهو في أرض الغربة حيث رحل من الفردوس ومن أورشليم العلىا ونزل إلي أريحا فسطا علىه اللصوص وجرحوه. لكن مسيحنا "السامري الصالح" عبر به وقدم له الوصايا الإلهية تسبحة مراحم إلهية تفرح قلبه وهو في بيت غربته. فمع حزنه على الذين يتركون ناموس الله لكن نفسه تتهلل وتترقب يوم المكافأة، حيث تُفصل الحنطة عن الزوان.

يفرح الأشرار بأذية الغير ويتهللون إلي حين، لكن فرحهم يتحول إلي مرارةٍ. أما القديسون فيحزنون لهلاك الأشرار ويترنمون لعمل الله معهم وتحويل الضيق إلي أمجاد.

إن كانت حياتنا الزمنية إن قورنت بالحياة الأبدية تُحسب ليلاً مظلمًا، بسبب ما نعانيه من ضيقات وضعفات وعدم تلاقينا مع الرب - شمس البر - وجهًا لوجه، فإن تذكّرنا لوصية الله ووعوده وأحكامه يبعث فينا البهجة الداخلية، حيث ننعم ببرّ المسيح.

"ذكرت في الليل اسمك يا رب،

وحفظت شريعتك.

هذه كانت مسرة لي،

لأني لحقوقك ابتغيت" [55،56].

بينما كان الكل نائمين بالليل اعتاد داود النبي أن يسهر متذكرًا اسم الرب كسندٍ له وموضوع بهجته.

 إن كان العالم الشرير قد حوَّل حياة داود إلي ليلٍ مظلمٍ خلال الألم لكنه عرف كيف يجتاز هذا الليل بسلام بتمسكه باسم الرب.

بينما ينشغل الأشرار بوضع خطط ومكائد في الظلام، يهتم داود النبي باسم الرب المخلص من كل تجربة.

v     في الواقع نحتاج أن نتذكر تعاليم الله في كل وقت، خاصة عندما تكون الظلمة حولنا والحوائط تسترنا (ابن سيراخ26:23)؛ أي عندما تدخل شهوة دنسة إلي نفوسنا، وتفقدنا صوابنا، عندئذ يلزمنا أن نتذكر تعاليم الله الخاصة بضبط النفس.

من جهة أخرى يلزمنا تقديم تفسير رمزي لما سبق، فنحسب الأوقات المناسبة (أوقات الفرح) نهارًا والضيق ظلمة.

العلامة أوريجينوس

v     الليل هو حالة انحطاط حيث متاعب الفساد. الليل بالنسبة للمتكبرين هو ممارسة الشر بمبالغة. الليل هو الخوف على الأشرار الذين يتركون شريعة الرب. أخيرًا الليل هو بيت الغربة، حتى يأتي الرب وينير خفايا الظلام ويعلن مشورات القلوب ويكون لكل إنسان مدحه من الله. لذلك ففي هذا الليل يليق بالإنسان أن يذكر اسم الرب حتى من يفتخر فليفتخر بالرب.

القديس أغسطينوس

v     لا يكفي لمنفعتكم الروحية أن تنصتوا إلي الدروس الإلهية في الكنيسة بل أيضًا وسط جماعتكم في البيت تشتركون في القراءات المقدسة، لعدة ساعات ليلاً حيث النهار مقصر، حتى أنكم في مخازن قلوبكم تقدرون أن تجمعوا الحنطة الروحية، وتخزنوا جواهر الكتاب المقدس في كنوز نفوسكم. وحينما نأتي أمام المحكمة التي يعقدها الديان الأبدي في اليوم الأخير كما يقول الرسول: "نوجد لابسين لا عراة!"1

الأب قيصريوس أسقف آرل

تعزيات كلمة الله

1. لا تقوم على استحقاقاتنا الذاتية بل على وعود الله وكلمته الواهبة الحياة [49،50]، قائلين مع الرسول: "لأنني عالم بمن آمنت" 2تي12:1، واثقين في قول المخلص: "لا أترككم يتامى" يو18:14.

2. لا نرتبك بمقاومة الأشرار المتكبرين بل في إيجابية نهتم ألا نميل عن أحكام الله يمينًا (بالبر الذاتي) أو يسارًا (بالسقوط في الخطايا)، بل نفكر في تعزيات الله المفرحة [51].

3. لا نحزن على هزء المتكبرين الأشرار بنا، إنما نحزن لإدراكنا مصيرهم وهلاكهم [53]. أما من جهة أنفسنا فنحن ندرك أن سخريتهم تتحول لمجدنا، لهذا تصير أحكامه بالنسبة لنا تسابيح مفرحة، تسندنا في أيام غربتنا [54].

4. إذ صار العالم كليلٍ مظلمٍ بسبب الظلم الذي يبثه الأشرار، فإنه يليق بنا أن نستيقظ ولا ننام كالآخرين، نذكر اسم الرب ونحفظ شريعته [55]. بينما يلهو الأشرار في حفلات صاخبة طوال الليل، يتعزى القديسون بالسهر الروحي والشركة مع الله وحياة التسبيح المستمر.


 

من وحي المزمور 119(ز)

 لتعزيني مواعيدك في كربتي!

v     أذكرك يا إلهي بوعودك

أنك تكون معي إلي انقضاء الدهر.

وعودك هي أجنحة تطير بها نفسي لاستقر في سمواتك،

لا أبالي بالضيقات،

بل واتعزى بالموت،

فانني أشتاق إلي الالتقاء معك.

ماذا يمكن أن يذلني مادمت تحقق وعودك لي؟!

v     تعزياتك تشغلني،

تسندني فلا أشتهي للأعداء شرًا،

وترفعني فوق كل الأحداث.

لا أطلب انتقامًا للخطاة،

بل تئن نفسي لأجل خلاصهم.

أبكيهم لا يومًا ولا أيامًا بل كل أيام حياتي.

v     تعزياتك تؤكد لي غربتي،

فلا استقر تمامًا حتى أجد لي مكانًا في الأحضان الإلهية.

إني جريح في الطريق،

تعال أيها السامري الصالح واحملني على منكبيك،

اعبر بي إلي كنيستك التي هي فندقك.

هناك تهتم بكل احتىاجاتي حتى تجيء في اليوم العظيم.

v     لأذكر اسمك بالليل فتتعزى نفسي،

في الليل يضع الأشرار خططهم للظلم،

وفي الليل أترقب مجيئك يا سرّ تعزيتي.

باسمك القدوس يعبر ليل حياتي لأدخل في نهار بلا ليل،

واتمتع بأورشليم المستنيرة بشمس البرّ بلا غروب!

بينما يلهو المستهترون بحفلاتهم في الليل،

أجد فيه فرصة السهر وترقب مجيئك أيها العريس الأبدى.

<<

 


 

8 - ح

 

نصيبي أنت يا رب

[57- 64]

إن كانت الوصية هي عزاء الآنسان في أرض غربته، فهي من جانب آخر تهيء النفس كعروسٍ تلتقي بعريسها، تتقبله نصيبًا لها، وتقدم حياتها نصيبًا للرب. هنا يختبر المرتل أعماقًا جديدة لغنى نعمة الله التي تربطه به، لا لينال من فيض عطاياه أو يتمتع بنصرات متوالية فحسب، إنما ينال الله نفسه نصيبًا له. فيكون من خاصته، يسمع القول الإلهي: "لا تنال نصيبًا في أرضهم، ولا يكون لك قسم في وسط بني إسرائيل" عد5:16. فيترنم قائلاً: "الرب نصيب قسمتى وكأسي" مز5:16؛ "نصيبي هو الرب قالت نفسي؛ من أجل ذلك أرجوه؛ طيب هو الرب للذين يترجونه، للنفس التي تطلبه" مرا 24:3، 25.

1. بالوصية نتقبل الله نصيبنا 57.

2. بالوصية نعاين عريسنا السماوي58.

3. بالوصية نسلك طريق العريس59.

4. بالوصية نتهيأ للعُرس60،61.

5. بالوصية تُمارس حياة العُرس المفرحة62.

6. بالوصية نمارس حياة العرس الجماعية63.

7. بالوصية ننتظر يوم العريس الديان 64.

1. بالوصية نتقبل الله نصيبنا

غاية وصية الرب أن تقدم لنا الرب عريسًا لنفوسنا، نتحد معه، وننال شركة الطبيعة الإلهية، أي ننعم بسماته فينا، فنتهيأ للعرس الأبدي. سمته الرئيسية هي "الحب"، يقدم ذاته عطية لمحبوبته، يقدم حياته مبذولة كعطاءٍ ثمينٍ أو كعربونٍ للعرس أو كمهرٍ لنا، لذا يقول المرتل:

"حظي (نصيبي) أنت يا رب،

أن أحفظ ناموسك" [57].

v     قال الرب لهرون وللاويين: لا ترثوا من أرضهم شيئًا، ولا يكون لكم نصيب معهم، لأني أنا نصيبكم وميراثكم... (عدد18:23). قيل هذا عن جميع الذين يرفضون الأمور العالمية، ويتركون الأرضيات ولا يشتهونها. هؤلاء حظهم (نصيبهم) هو الرب، وهم يحفظون ناموسه القائل: لا تهتموا بما تأكلون ولا بما تشربون، ولا بما تلبسون.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     الإنسان الذي ترك أمور هذه الحياة، ولم يعد له أي نصيب في الأرض وليس لديه أية شهوة إليها، بل يكتفي بالرب وحده عوضًا عن الكل، مثل هذا يقول: "الرب هو نصيبي". وبالتالي يقول: "أن أحفظ ناموسك"، أي أحفظ الناموس الروحي الذي يقول عنه بولس الرسول: "فإننا نعلم أن الناموس روحي" رو14:7 الخ. فكيف إذًا يستطيع هؤلاء أن يتخذوا الرب نصيبًا لهم ما لم يحفظوا ناموسه؟

  العلامة أوريجينوس

كثيرا ما رأى داود النبي الغنائم وصياح الغالبين كل حسب نصيبه، أما هو فكانت صرخات قلبه أعظم وأقوى لأنه وجد في الرب نفسه ميراثًا له وغنيمة عظيمة، بل خالق الكل. وصار من هو أعظم من كل كنوز العالم ملكًا له وهو أيضًا في ملكيته، الأمر الذي لم يتحقق ما لم يتنقَ قلبه بحفظ الوصية أو الناموس الروحي الذي يكمل بالحب. وقد قال السيد المسيح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" يو23:14.

2. بالوصية نعاين عريسنا السماوي

إن كانت الوصية الإلهية تدفعنا إلى طلب الرب نصيبًا لنا عوض الزمنيات، فإنه إذ يلتهب قلبنا شوقًا إليه نطلب رؤيته بالبصيرة الداخلية، أي بالقلب، حتى ننال رحمة فنراه فيما بعد وجهًا لوجه. وكأن حبنا له يزيد شوقنا إليه فلا نستريح حتى نراه أبديًا!

"توسلت إلى وجهك بكافة قلبي،

إرحمني كقولك" [58].

v     وجه الله الآب هو ابنه كما سبق فقلنا، وذلك كقول الرسول إنه شعاع مجده وصورة أقنومه. إذًا نتوسل نحن المسيحيون إليه، وذلك بكل قلوبنا في طهارة، لأن طاهري القلب يعاينون الله؛ كما نلتمس الرحمة حسب قوله، أي كوعده.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     وجه الله هو رسم جوهره (عب3:1). من يشتهي وجه الله بكل قلبه، فيستطيع أن يتأمله بقلب نقي، ويثبت نظره ه يُرحم كقول الرب. مثل هذا الآنسان يستطيع أن ينطق بالكلمات التي أمامنا.

يا لعظمة ذاك الذي يرى وجه الله. ليعلمك الرب يسوع عظمته، إذ يقول: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" مت8:5.

القديس ديديموس الضرير

v     "ارحمني كقولك" [58]، يلزم أن تأتي الرحمة حسب قوله وليس في مخالفة الناموس... الله نور (إش60:19)، ونار أكلة (تث24:4)؛ هو نور للأبرار، ونار للخطاة.

هكذا إذ يعرف داود النبي أنه ليس أحد طاهرًا من دنس، عاد يطلب الرحمة بعدما أخطأ، يطلبها لا عن خطايا حاضرة بل سابقة، لأن "قول" الرب يعلن المغفرة للخطاة بشرط حدوث تغير كلي في النفس، وعدم إبقاء أي أثر للخطية فيها.

بدون رحمة الله ومعونته لن يقدر أحد أن يعاين وجهه، لأن الله يظهر ذاته لذاك الذي يطلب الرحمة.

 أي الأحوال لم يذكر الكتاب المقدس أن أحدًا رأى الله (يو18:1)، إنما قيل إن الله يتراءى للأبرار.

العلامة أوريجينوس

v     لقد عرف أنه يستحيل عليه في الوقت الحاضر أن يرى ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر  قلب إنسان (1كو9:2). إنه يعرف أن مجد الله غير منظور للأعين الجسدية1.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

هكذا لا يكف المرتل عن التوسل إلى الله لرؤية وجهه، وهو في هذا لا يتكل  بره الذاتي أو قدراته إنما  وعود الله الرحيم، لهذا يصرخ: "ارحمني كقولك". كأنه يقول: يبقى قلبي معذبًا حتى يختبر رحمتك التي وعدتني بها، هذه التي تحملني إلى التمتع بوجهك.

كلمة "ارحمني" هنا تعني وجود إحساس بألم الحرمان الذي لن يزول إلا بمراحم الله، تاركًا لها الوسيلة لتحقيق ذلك. فقد تُعلن مراحم الله خلال طول أناته وترفقه وقد تُعلن خلال تأديباته. فإنه لا تشغلني ما هي الوسيلة، إنما أن أكون في دائرة رحمتك التي تدخل بي إلى نور وجهك.

v     يمكن للمريض أن يقول لطبيبه: "ارحمني كقولك"، أي عالجني حسبما تقرر مهنتك. فإن من يسأل الطلبة يعرف الوسيلة التي بها تُمارس الرحمة.حقا يؤكد الله خلاصنا بالتأديب، ويحل التأديب لأن الله يحب الآنسان.

الأب ثيؤدورت

3. بالوصية نسلك طريق العرس

إذ نراه بالإيمان خلال نقاوة القلب لا نفكر إلا في طريقه الملوكي، فنرد أقدامنا إلى طريق شهاداته، حتى نسرع إليه بلا تراخٍ، ونجعل من شهاداته قانون سيرنا وسلوكنا الذي لا ننحرف عنه.

"تفكرت في طرقك،

رددت قدمي إلى شهاداتك" [59].

يرى البعض أن التشبيه هنا في عبارة "تفكرت في طرقك" مأخوذ عن التطريز حيث يهتم الشخص بالثوب بدقة شديدة من كل جوانبه، فتسير الأبرة في خط مرسوم لها دون انحراف عنه.

v     أعني إنني دائمًا أفتكر في أعمالك، وأرتب سيرتي حسب وصاياك بكونها حق وجيدة للذين يفكرون فيها.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     "تفكرت في طرقي"، هذا هو ما يريد أن يقوله: إنني لم أنطق قط بتهورٍ أو طياشةٍ أو بغير أن أفتكر إن كان يليق أن أتكلم أم أصمت. لم أسلك بطياشةٍ أو بدون تروٍ مفكرًا ما إذا كان سلوكي مناسبًا.

تتكون طرقنا من أفكارٍ وأعمالٍ، وكأنه يود أن يقول: لقد فعلت كل شئ بتحفظٍ، لهذا وأنا أسلك "رددت قدمي إلى شهاداتك"، حتى لا أسلك خارج شهاداتك، بل تكون كل أرادتي ملتصقة بوصاياك.

العلامة أوريجينوس

v     رددتهما عن طرقي الذاتية التي تسرني، حتى تتبعا شهاداتك، وهناك تجدا لهما سبيلاً... هذا بالحري يُنسب إلى نعمة الله، ككلمات الرسول: "الله هو العامل فينا" (في13:2).

القديس أغسطينوس

إذ كاد الابن يموت جوعًا ولم يقدر أن يملأ بطنه من خرنوب الخنازير رجع إلى نفسه (لو17:15) ليدرك غنى أبيه وحبه. فإن المرتل هنا وقد التهب قلبه بالرب نصيبه بدأ يفكر في طرقه [59] لكي يقوم ويذهب إلى بيت عريسه السماوي، بسلوكه في شهادات الرب بلا انحراف.

عجيب هو داود النبي الذي لا يتردد عن أن يراجع نفسه بين الحين والآخر، ليرد قدميه إلى شهادات الرب، فإنه مادام في الجسد يحيا  هذه الأرض يتعرض إلى الآنحراف ولو قليلاً. حقًا امتاز داود النبي بالقلب اليقظ والمتضع، الذي لا يتوقف عن تصحيح موقفه من يومٍ إلى آخر. فالخلاص هو طريق التوبة المستمرة والرجوع إلى النفس تحت قيادة الروح، والتجديد اليومي فتُرد القدمان إلى شهادات الرب.

4.بالوصية تتهيأ للعُرس

الآن وقد دخلت العرس الملوكي تعمل وصيتك فيّ فتهيئني للعرس، تحت كل الظروف، حتى القاسية. إنني أسرع إليك بغير توانٍ، محتملاً كل ألم لملاقاتك، حافظًا وصيتك.

v     جعلت نفسي مستعدًا لاحتمال التجارب التي قد تفاجئني بغتة، وتمنعني عن حفظ وصاياك.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     "تهيأت ولم أتوان عن حفظ وصاياك" [60].

إن كنا منجذبين (للعريس)، وإن كنا متأهبين ومستعدين كما ينبغي فإننا لن نتوانى ولا تعوقنا القوات المضادة التي تحاربنا لكي تمنعنا عن حفظ الوصايا الإلهية. في هذا يقول الرسول: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد؟!" رو35:8.

العلامة أوريجينوس

قدرما أتهيأ للعرس يبذل عدو الخير إبليس كل طاقاته، مستخدمًا كل وسائله ليفسد حياتي في الرب ويحرمني من التمتع بالعرس، لهذا يصرخ المرتل، قائلاً:

"حبال الخطاة التفت ،

ولناموسك ما نسيت" [61].

يقول القديس أغسطينوس أن حبال الخطاة أو أربطتهم هي مقاومة الأعداء، سواء الروحية مثل إبليس وجنوده أو الجسديين مثل ابناء المعصية الذين يعمل فيهم الشيطان، الذين يلفونها حول الأبرار، وهي رباطات قوية وخشنة وهكذا يعاني الأبرار منها وذلك بسماح إلهي.

v     أي أمر يحدث دون توقع يكون خطيرًا، إذ يدفع حتى الشجعان من الناس للاضطراب والآنذار، وأحيانًا أهوال لا تحتمل. لكن إذا ما ذُكرت أنها ستحدث فإن توقعها يخفف وطأة هجومها، وهذا ما اعتقد معنى عبارة "تهيأت ولم أضطرب".

لهذا السبب فإن الكتاب المقدس الموحى به من الله، يقول حقًا للذين يبغون المجد بسلوكهم المقدس "يا بني إن اقتربت لتخدم الرب هيء نفسك للتجربة ووجه قلبك واحتمل" (ابن سيراخ1:2). وهو لا يتحدث ليوجِد في البشر تكاسلاً واستهتارًا... لهذا فإن مخلص الجميع لكي يهيء مسبقًا التلاميذ أخبرهم انه سيتألم  الصليب ويموت جسديًا ما أن يبلغ أورشليم (مز60:120)1.

القديس كيرلس السكندري

v     ما هي هذه الحبال إلا تلك الأفكار الشريرة والقوات الشريرة التي تحارب البار وتحاول إبعاده عن ثباته في الله؟ لكن تصير حبال هؤلاء الذين يلفونها حول البار باطلة مادام يضع البار كل اهتمامه في حفظ الوصايا.

بنفس الطريقة فإن الضيقات التي يسقطها الأشرار  البار تُحسب حبالهم، هذه يحتملها الآنسان البار بشجاعة عندما لا ينسى الناموس الإلهي.

أيضًا الذين يحثونه  الخطية بكلمات مخادعة يلفونها كالحبال، لكنه متى كان حذرًا لا ينسى ناموس الله.

القديس ديديموس الضرير

ليلقي الأشرار بحبالهم حولي، فإنهم لن يستطيعوا أن يمنعوا عني منافذ النجاة، لأن الذي معي أعظم وأقوى من الذين ! مخلصي هو سندي في كل الطريق!

5. بالوصية نمارس حياة العُرس المفرحة

إن كان عدو الخير يبذل كل الجهد ليحول حياتنا الزمنية إلى ليلٍ دامسٍ، باذلاً كل الجهد لتحطيمنا بالأفكار الشريرة وإثارة الشهوات وإلقاء حبال الخطاة علينا، ونصب الشباك في طريقنا، لكننا إذ ننعم ببرّ المسيح يتحول ليلنا إلى شكر وتسبيح وفرح.

"في نصف الليل نهضت

لأشكرك  أحكام برك" [62].

لا يقف الأمر عند الصلاة والتضرع والطلبة، لكن داود النبي يحرص  حياة الشكر وسط ليل الضيقات والمتاعب. إنه لا يشكره لأنه ينجيه من التجارب، وإنما لأجل أحكام بره، إذ يحول التجارب إلى بركاتٍ مقدسة. لا يشكر الله وسط شعبه فحسب في العبادة الجماعية وإنما يشكره قبل النوم، كما يقوم في وسط الليل من نومه - ربما وسط البرد - ليقدم تشكرات نابعة من القلب تكشف عن علاقة شخصية خفية مع الله مخلصه. في نصف الليل خرج موسى من مصر (خر4:11) حيث قُتل أبكار المصريين وخلص موسى وشعبه. وفي نصف الليل سبَّح بولس وسيلا الله في السجن الداخلي (أع25:16). كما يقول داود النبي: "إذا ذكرتك  فراشي، في السَحَر ألهج بك" مز6:36.

قدم لنا القديس جيروم كلمات المرتل هنا كمثال للالتزام بالسهر، قائلاً بأن السيد المسيح أوصانا أن نسهر لكي لا ندخل في تجربة (مت40:26،41) وأنه هو نفسه كان يقضي ليالٍ كاملة في الصلاة (لو12:6)، وكان الرسل يقضون لياليهم في السجن ساهرين يسبحون بالمزامير (أع25:16-38). وقد طالبنا الرسول بولس أن نصلي بلا انقطاع في سهرٍ دائمٍ (كو2:4)، كما تحدث عن نفسه قائلاً: "في أسهار" 2 كو27:11. وقد لام فيجلأنتيوس Vigilantius لأن اسمه يعني "السهر" وهو يرفض تمامًا السهر ويقاومه:

[في هذا بالتأكيد يسلك عكس اسمه...

لينمْ فيجلأنتيوس إن أحب ذلك وربما يغط في نومه، فيهلك بواسطة ذاك الذي أهلك مصر والمصريين. أما نحن فنقول مع داود: "هوذا حارس إسرائيل لا ينعس ولا ينام" مز4:121. هكذا ليأتِ إلينا القدوس الساهر. وإن كان بسبب خطايانا ينام فلنقل له: "قم، لماذا تنام يا رب؟" مز23:44. وعندما تُضرب سفينتنا بالأمواج نوقظه، قائلين: "يا سيد خلصنا، فإننا نهلك" مت25:8؛ لو24:8]1.

v     هذه الحقيقة عينها الخاصة بكون رباطات الخطاة تلتف حول الأبرار هي إحدى أحكام الله البارة، بسببها يقول الرسول بطرس: "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الرب" 1بط4:17. يقول هذا عن الاضطهادات التي تعاني منها الكنيسة عندما تلتف حبال الخطاة حولها. لهذا أظن أن قوله "نصف الليل" يُقصد به الأزمنة الصعبة للمتاعب. لهذا يقول: "نهضت"، وكأن الضيق لم يُحطمه بل أنهضه، حيث ينمو ويقدم اعترافًا أفضل في نفس وقت الضيق؟

القديس أغسطينوس

v     هذا يعلمنا أن نتلو نحن المسيحيون صلاة نصف الليل، لأن العريس المذكور في الآنجيل يأتي إلى العذارى في نصف الليل، ويدخل بهن إلى الخدر السماوي.

يعني القول هنا بأن العمر مثل ليلة مظلمة؛ حيث يأتينا الرب في ساعة لا نعرفها. سبيلنا إذن أن نكون مستيقظين، ننتظر حضوره بمصابيح الطهارة والرحمة، ولا نغفل لئلا نلبث خارج ملكوت الله. لأجل هذا كان الرسولأن بولس وسيلا يصليان في نصف الليل وهما في السجن.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     أراد النبي أن يوضح في كلامه أنه لا يهمل الصلاة الليلية أبدًا، حتى أنه يقوم في منتصف الليل أو من عمق نومه. وإننا نجد في سفر الأعمال أن الرسل كانوا يصنعون هكذا: "ونحو نصف الليل كان بولس وسيلا يصليان ويسبحان الله، والمسجونون يسمعونهما" أع 25:16. لأنه في هذا الوقت بالذات تنشط القوات المضادة، وفيه أيضًا قُتل أبكار المصريين  يد المهلك (خر23:12). و العكس في وقت الظهيرة تنشط القوات المقدسة، فنحو الظهر رفع إبراهيم نظره وإذا به يرى ثلاثة رجال واقفين لديه، استقبلهم كضيوف عنده (تك 1:18-5). ويمكنك أن ترى في الأحداث الواردة هنا رمزًا.

حقًا، متى يمكن أن يتحقق الظهور الإلهي إلا في أوج النهار؟ وفي المفهوم الروحي الذين يقتنون روح المسيح ويشرق عليهم النور الحقيقي هم نهار، أما الذين يسقطون في الشر ويسيطر عليهم الفساد فهم ليل. لهذا فإن النهوض يكون في نصف الليل. بما أن القوات الشريرة تختار نحو نصف الليل بالذات لكي تعمل، لذلك نهضت - بجسدي كما بروحي- لأشكرك  أحكام عدلك.

أقول إن وقت التجارب هو الليل، أما النهار فلا أُجرب فيه ولا أكون فيه في خطر. أيضًا لم استسلم للتجارب في شدتها، وإنما كلمتك التي أيقظت روحي لتشكرك، فأعترف لك بخطاياي أو أحمد نعمتك. فإن هذه الكلمة (اعترف) تُستخدم في الحالتين.

يلزمنا  كل حال أن نشكر أعمال عدل الله، لأن كل شيء إنما يأتي بحكم من الله، سواء في هذه الحياة أو الدهر الآتي. حقًا، إن كل أحكام الله تعبر عن عدله. يليق بنا أن نشكر الله  أحكامه في كل وقت، ليس فقط في النهار، وإنما في الليل أيضًا.

العلامة أوريجينوس

v     من هو صديق لنا أعظم من ذاك الذي بذل جسده لأجلنا؟

منه طلب داود في نصف الليل خبرات (لو5:11-8) ونالها، إذ يقول: "في نصف الليل سبحتك  أحكام عدلك" [62]. نال هذه الخبرات التي صارت غذاءه... لقد طلب منه في الليل... (مز7:6)، ولا يخشى لئلا يوقظه من نومه، إذ عارف أنه دائم السهر والعمل.

ونحن أيضًا فنتذكر ما ورد في الكتب ونهتم بالصلاة ليلاً ونهارًا مع التضرع لغفران الخطايا، لأنه إن كان مثل هذا القديس الذي يقع  عاتقه مسئولية مملكة كان يسبح الرب سبع مرات كل يوم (مز164:119) ودائم الاهتمام بتقدماتٍ في الصباح والمساء، فكم بالأحري ينبغي نا أن نفعل نحن الذين يجب نا أن نطلب كثيرًا من أجل كثرة سقطاتنا بسبب ضعف أجسادنا وأرواحنا حتى لا ينقصنا لبنياننا كسرة خبز تسند قلب الآنسان (مز14:104،15)، وقد أرهقنا الطريق وتبعنا كثيرًا من سبل هذا العالم ومفارق هذه الحياة1.

القديس إمبروسيوس

v     لا تسيطر كم محبة المجد الباطل، كيف يكون ذلك والكل نائمون لا ينظرون إليكم (وأنتم تصلون في نصف الليل)؟

لا يحل بكم الكسل ولا التراخي؛ كيف يحل بكم ونفوسكم مستيقظة في هذه الأمور العظيمة؟!

فبعد مثل هذه الأسهار يحل بكم النوم اللذيذ والاستعلأنات العجيبة.

ليفعل هذا ليس فقط السيدة بل والرجل. ليكن البيت كنيسة تجمع الرجال والنساء2.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     يجب أن يشمل وقت الصلاة الحياة كلها. لكن إذا كانت هناك ثمة حاجة ملحة في فترات معينة لأن نتوقف عن السجود والترنم بالمزامير، فإنه يلزمنا مراعاة الساعات المحددة للصلاة بواسطة القديسين. يقول داود القوي: "في نصف الليل أقوم لأحمدك  أحكام برك". ونجد بولس وسيلا يقتديان به لأنهما سبَّحا الله في السجن في منتصف الليل (أع25:16). ويقول نفس النبي: "مساءً وصباحًا وظهرًا" مز6:5.3

القديس باسيليوس الكبير

v     لا ينبغي أن يتحول النوم لإضعاف الجسد كلية لكن لراحته واسترخائه، وأقول لا ينبغي أن يحل بنا لغرض الاسترخاء (التساهل)، لكن لنستريح من العمل. لهذا يليق بنا أن ننام نومًا يسهل معه استيقاظنا (لو35:12-37)... لأنه لا فائدة من إنسان نائمٍ كمن هو ميت. لهذا ينبغي نا دائمًا أن نستيقظ ليلاً ونبارك الله. لأنه طوبى للذين يطلبونه ومن ثم يصيرون أنفسهم كملائكة، فندعوهم "المراقبين" لكن إنسانا نائمًا لا يساوي شيئًا، فهو لا يعدو أن يكون أكثر من ميت4.

القديس أكليمنضس الإسكندري

يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن حياة القديسين أشبه بعيد لا ينقطع، حياة فرح داخلي، وقد وجد داود النبي في الصلاة الدائمة عيدًا مفرحًا.

v     بمثل هذه الاتجاهات والسلوك كان القديسون بحياتهم يشبهون أناسًا في حالة عيدٍ. وُجد واحد راحته في الصلاة للَّه، كما فعل الطوباوي داود، الذي كان يقوم في منتصف الليل ليفعل هكذا [62]. آخر عُرف بتسابيح الحمد مثل موسى، الذي سبح أغنية الحمد من أجل نصرته  فرعون ورجاله (خر15). آخرون عبدوا بفرحٍ دائمٍ مثل العظيم صوئيل والطوباوي إيليا1.

البابا أثناسيوس الرسولي

6. بالوصية نمارس حياة العرس الجماعية

جيد أن يمارس الآنسان حياة الشكر والتسبيح في نصف الليل في مخدعه، لكنه أينما وجد - سواء في المخدع أم في الكنيسة - فهو عضو حيّ في الجماعة المقدسة. ما يمارسه إنما باسم الجماعة كلها، لأنه شريك مع خائفي الرب وحافظي وصاياه.

"شريك أنا لكافة الذين يخافونك،

وللحافظين وصاياك" [63].

وجد داود النبي لذته في شركة القديسين "خائفي الرب"، إذ يشعر بالآنتماء إليهم. إنه شريك لكافة خائفي الرب: الأغنياء والفقراء، العظماء والعامة، الرجال والنساء، الشيوخ والشباب والأطفال جميعًا. يقول: "القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم" مز3:16. يحدثنا الرسول بولس عن شركة القديسين في الضيق، قائلاً: "من جهة مشهورين بتعييرات وضيقات، ومن جهة صائرين شركاء الذين تُصرف فيهم هكذا" عب33:10.

v     من كان كاملاً وبارًا، يتحد في مشاعره مع كل إخوته في الإيمان، ولا ينفصل عنهم بأية حال من الأحوال... يمكنه أن ينطق بالعبارة التي نفسرها.

يُوجد بعد "الذين يخافونك" "حافظوا وصاياك"، هؤلاء الذين هم أغنياء بالأكثر في الحب لأنهم شركاء في محبة الله.

العلامة أوريجينوس

v     يمكن القول بأن الآنسان الكامل هو "شريك" للمسيح كقول العبارة: "لأننا قد صرنا شركاء المسيح" عب 14:3. لكن المرتل يقول في بداية كلامه: "شريك أنا لكافة الذين يخافونك"، ليس فقط لأجل الذين يخافونك، بل والذين في خوفهم يحفظون الوصايا الإلهية. علامة مخافة الرب هي أن نحفظ وصاياه.

القديس أثناسيوس الرسولي

v     نفهم أيضًا من كلمة "شريك" الصديق الرفيق والشريك، وذلك بالمعنى الذي جاء في سفر الجامعة: "لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه" جا 10:4.

لعله أراد القول: إني صديق وشريك لكل الذين يخافون الله ويحفظون وصاياه لأني أنا أيضًا أخافه وأحفظ وصاياه.

القديس ديديموس الضرير

v     يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا هو السيد المسيح الذي جعلنا إخوة له وأصدقاء وشركاء وأعضاء جسده خلال عمله الخلاصي.

v     إنها تخص الرأس نفسه كما جاء في الرسالة التي وردت في العبرانيين: "لأن المُقدِس والمقدَّسين جميعهم من واحدٍ فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة" عب11:2. لذلك يتحدث يسوع نفسه في هذه النبوة عن أمورٍ تخص أعضاءه ووحدة جسده، كما في إنسان واحدٍ منتشر في كل العالم، وقام بالتتابع خلال العصور، وعن أمورٍ تخص نفسه رأسنا. لهذا إذ صار في صحبة إخوته، الله مع البشرية، غير المائت مع المائت، بهذا سقطت البذرة في الأرض لكي بموتها تأتي بثمرٍ كثيرٍ. تحدَّث بعد ذلك عن هذا الثمر عينه قائلاً: "من رحمتك يارب امتلأت الأرض" [64]... متى يتحقق هذا، إلا عندما يتبرر الخاطي؟ إذ ننموا في معرفة هذه النعمة يقول: "علمني برك" [64].

 القديس أغسطينوس

7. بالوصية ننتظر يوم العريس الديان

أخيرًا وقد تمتع المرتل بالرجاء في دخول طريق العُرس وتهيأ للعرس بحياة الشكر والعبادة بروح الحب الجماعي، يشارك خائفي الرب تسابيحهم وضيقاتهم، ويشاركونه أيضًا بهجته بالرب وأتعابه. يعلن أنه قد اختبر رحمة الله التي ملأت الأرض كلها، رحمته التي تحققت بالكرازة بالصليب، وها هو ينتظر يوم عدله، أي يوم الدينونة العظيم.

"من رحمتك يا رب امتلأت الأرض،

فعلمني عدلك" [64].

تمتلىء السموات بمجد الله، وتمتلىء الأرض برحمته التي يسكبها  الجميع لكن قليلين هم الذين يدركونها ويعرفون أسرارها، لذلك يصرخ: "علمني عدلك".

v     إن قوله "من رحمة الرب امتلأت الأرض"، إنما لأنه يشرق شمسه  الأبرار والأشرار ويمطر  الصالحين والطالحين، وأيضًا لأن تجسد ابنه قد ملأ الأرض من رحمته.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     يعلن عن المستقبل (أي عن العهد الجديد) بالنبوة، قائلاً: "من رحمتك يا رب امتلأت كل الأرض" بأناس يخافونك. هذا لا يتحقق إلا بسبب رحمتك، عندما تقدم نفسك معلمًا للبشرية (بالصليب).

البابا أثناسيوس الرسولي

v     إن اعتبرنا كل الأشرار كافرين، إذ يبررون الظلم في حديثهم (مز72:8)، وإن نظرنا إلى طول أناة الله أمام هذه الشرور الكثيرة جدًا، يشرق شمسه  الأشرار والأبرار، ويمطر  الصالحين والطالحين" مت45:5، نقول: "من رحمتك يا رب امتلأت الأرض فعلمني عدلك"...

الله لا يتردد في تم الذين يطلبونه، فهو الذي يعلم الآنسان المعرفة.

العلامة أوريجينوس

إن كانت الأرض تشير إلى الجسد، فإن المرتل وقد أدرك أنه حتى جسده بكل أحاسيسه وعواطفه وإمكانياته قد تقدس خلال مراحم الله، لهذا فهو يطلب يوم الرب العظيم العادل، الذي يقيم هذا الجسد في المجد مع النفس.

نصيبي هو الرب

 كلمة الرب هو عزاؤنا في طريق غربتنا، فإننا نقبله كعريسٍ يهبنا ذاته:

1. يُسر الرب بالقلب النقي حافظ الوصية، فإليه يأتي وعنده يصنع منزلاً (يو23:14)، ويقدم ذاته للقلب الذي يهب ذاته له. حب متبادل!

2. خلال الملكية المتبادلة بين الله وعروسه - النفس التقية - يلتهب القلب شوقًا إليه فلا يستريح حتى يراه وجهًا لوجه أبديًا [58].

3. لنحفظ أقدامنا في طريق العريس الملوكي، أي في طريق التوبة بالرجوع إلى النفس تحت قيادة الروح ورد الأقدام إلى شهادات الرب [59].

4. يليق بنا أن نسرع في الطريق الملوكي ولا نتوانى [60].

5. لا نبالي بحبال الأشرار التي تحيط بنا لتمنع عنا كل منافذ الخلاص، فإن كلمة الله قادرة  حفظنا وحمايتنا في كل الطريق.

6. طريق العريس مفرح، فإن حوَّله الأشرار إلى ليلٍ دامسٍ، نقوم في نصف الليل ونسبح عريسنا بأنشودة الحب وتهليل الروح [62].

7. طريق العرس جماعي فيه يختبر الآنسان علاقته الشخصية مع عريس نفسه، بكونه عضوًا حيًا في الكنيسة [63].

8. هذا الطريق ليس مستحيلاً، لأن رحمة الله قد ملأت الأرض [64].


 

من وحي المزمور 119(ح)

 نصيبي أنت يا عريس نفسي،

ومعك لا أطلب شيئًا!

v     كل ما هو حولي يشهد لرعاية الله لي وعنايته بي،

 لكن وصيتك تقدم لي ما هو أعظم.

 تقدمك لي عريسُا سماويًا،

أنت نصيبي وحظي، أنت لي وأنا لك.

ماذا أطلب وقد اقتنيت واهب العطايا؟!

v     أطلب أن أرى أيها الآب وجهك،

 أرى كلمتك المتجسد، وجهك وبهاء مجدك.

 لن استريح يا عريس نفسي حتى أراك بعينيْ قلبي.

v     إذ أراك بقلبي أطلب طريقك الملوكي،

أرد قدميّ إلى طريق شهاداتك، الذي رسمته لي.

أسرع في السير ولا أتباطأ حتى أنعم بأحضانك.

في كل خطواتي أتفكر لكي لا انحرف عن طريقك.

مادمت في الجسد لا أتردد عن مراجعة نفسي،

ازن أفكاري وكلماتي وأعمالي بميزان وصاياك.

اعترف كل يوم بضعفاتي وخطاياي لتعمل أنت فيّ.

بهذا أتهيأ ليوم عرسي!

v     لم تخدعني أيها العريس،

سبق فأخبرتني عما يحل بي من الأعداء

بهذا هيأتني لكي لا أضطرب.

 ليلقوا بحبالهم حولي، فأنت أعظم وأقوى منهم!

v     إذ تشتد الضيقات بي جدًا أحسب نفسي في نصف الليل،

أصرخ إليك لا لأطلب انتقامًا،

بل لأشكرك  أحكام عدلك،

لأن هذا هو طريق أكليلي ومجدي!

v     في نصف الليل حين يستريح الكل وينامون،

أجد فرصتي للالتقاء معك يا من لا تنعس ولا تنام!

التقي بك خلال حياة الشكر والتسبيح!

في نصف الليل حيث لا يراني أحد قط،

التقي بك خفية بعيدًا عن كل مجدٍ بشريٍّ باطلٍ!

هب لي أن أتشبه بالملائكة إن أمكن لا أنام.

هب لي أن أكون شريكًا لخائفيك، حافظي وصاياك!

v     إن كان الأشرار قد حولوا حياتي إلى ليلٍ دامسٍ،

ففي نصف الليل أسبحك يا شمس البر.

تتحول حياتي إلى نهارٍ بهيٍّ.

أخيرًا ها أنا أترقب مجيئك،

تعال يا عريس نفسي!

<<

 


 

9 - ط

 

خير لي أنك أذللتني

 [65 - 72]

إن كانت الوصية - في عينيْ المرتل - تهيء المؤمن للعرس السماوي، وتحول كل زمانه - حتى نصف الليل - إلى حياة شكرٍ وتسبيحٍ، فإنه يحتاج إلى يدّ الله المترفقة والمؤدبة في نفس الوقت لكي تدفعه إلى طلب وصاياه. في هذا الاستيخون يرى المرتل تناغمًا بين لطف الله وتأديباته، ففي رعايته الفائقة لأولاده يحول مضايقات الأشرار إلى بنيان نفوس أولاده، ويحسبها تأديبات لنموهم.

1. غاية لطف الله65،66.

2. التأديب الإلهي وحفظ الوصية 67.

3. التأديب والشكر68.

4. بين تأديبات الله وظلم المتكبرين 69-72.

1. غاية لطف الله

"خيرًا صنعت مع عبدك يارب بحسب قولك.

صلاحًا وأدبًا ومعرفة علمني،

فإني قد صدقت وصاياك" [65-66].

كانت إحساسات النبي أن الله يصنع معه خيرًا، حتى إن بدى له كأنه في مرارة. فهو الله صانع الخيرات، يقدم لنا أفضل مما نستحق، يحبنا ويرعانا حتى إن بدت رعايته حازمة، ويخطط دائمًا لخلاصنا ونمونا ومجدنا.

يرى القديس أغسطينوس أن الكلمة اليونانية المترجمة "خيرًا" تعني "عذوبة" أو "حلاوة"، حيث يعطي الرب عذوبة للنفس عند ممارستها للخير وطاعتها للوصية. يمكننا القول أن ما يصنعه الله مع عبده، حتى السماح بالضيقات والمذلة يحمل عذوبة روحية لم يدرك ثمارها وغايتها. لكن بعض المترجمين فضلوا كلمة "خيرًا"، لأن العذوبة يُمكن استخدامها حتى للملذات الجسدية والشهوات الشريرة.

v     أظن أنه لا يُفهم من هذه الكلمات: "تتعامل بعذوبة مع عبدك" سوى: "جعلتني أشعر بلذة فيما هو صالح".

 عندما ابتهج بالصلاح، هذا عطية عظيمة من قبل الله. أما عندما يُمارس العمل الصالح الذي تأمر به الشريعة، خوفًا من العقاب، لا بسبب عذوبة البرّ، أي عندما يخاف الإنسان الله ولا يحبه، فهو يمارس عمل العبيد لا الأحرار (يو35:8؛ 1يو18:4).

القديس أغسطينوس

v     الله إله لطيف وصارم كما يقول الرسول بولس (رو 22:11). اللطف نحو الذين يظلون ثابتين في الإيمان، والصرامة تجاه الذين يبتعدون عن الإيمان.

إذ كان القديس ثابتًا في الإيمان، قال: "خيرًا صنعت مع عبدك". بقوله: "مع عبدك" يريد أن يوضح أن لطف الله وصلاحه لا يتمتع بهما أحد مصادفة، وإنما الذي يخدمه، وبقوله "حسب قولك" يوضح أن لطف الله إنما يقدم للإنسان بهدفٍ وباعثٍ رشيدٍ.

لرغبته في معرفة العلامة الحكيمة والرشيدة لهذا اللطف لا يطلب معلمًا آخر سوى الله الذي يعلمه...

"صلاحًا وأدبًا ومعرفة علمني" [66].

إنه يدعو الفضائل الأدبية (كالتواضع والعفة والقناعة) أدبًا.

ويدعو الفضيلة العقلية معرفة، كقول سليمان الحكيم في سفر الأمثال: "خذوا تأديبي لا الفضة، والمعرفة أكثر من الذهب المختار" أم 10:8.

هكذا ينتفع بمكاسبٍ عملية (أدبًا) وعقلية (معرفة).

العلامة أوريجينوس

v     ترجم سيماخوس "خيرًا صنعت..." "حسنًا صنعت مع عبدك"... ليدرك الإنسان المثقف بالإلهيات العمل الإلهي معه فيعرف أن لطف الرب إنما يأتى على الذين يجعلون الرب أمامهم، فيتأهلون لحمل لقب "عبيد" الرب.

يوسابيوس القيصري

لخص المرتل كل خبرة حياته في العبارة: "خيرًا صنعت مع عبدك" حياته من كل جوانبها الروحية والأسرية وفي العمل حتى الجسدية يتلمس فيها يدّ الله صانع الخيرات، الذي لا يكف عن أن يحوِّل كل شيء حتى مقاومات الأعداء إلى خيرنا، لنقول مع يوسف الحكيم: "أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد به خيرًا" تك20:50.

إذ سبق فرأى في الله عريسًا لنفسه، ونصيبها الأبدى، الآن يراه صانع خيرات معه، يتعامل معه شخصيًا، محولاً شدائده إلى ما هو لخيره، فصارت مراثيه تسابيح مفرحة. مرة أخرى يؤكد أن ما يتحقق إنما يقوم على وعود الله الصادقة: "بحسب قولك صلاحًا وأدبًا ومعرفة علمني، فإني قد صدقت وصاياك" [66].

من جهتنا إن فعلنا كل ما أُمرنا به نقول "إننا عبيد بطالون" لو10:17، أما ما نناله من بركات فهي لأمانة وعود الله السخية.

خشي المرتل لئلا يظن في الله إنه قاسٍ أو عنيف حينما يسمح له بتجربة قاسية، لهذا مع تصديقه وصايا الله ووعوده، يطلب منه ألا يكف عن أن يعلمه: "صلاحًا وأدبًا ومعرفة" [66]. كأنه يقول: أراك وسط ضيقاتي الله الصالح المؤدب واهب المعرفة!

أية معرفة تمتع بها المرتل وسط ضيقاته؟

عرف أن الله صالح، أنقذه من التراخي والكسل والآنحراف بالتأديبات أو دخوله في حالة تذلل. لقد هزته عواصف التجارب لا لتحطمه بل لترده إلى صوابه بحفظ الوصية.

يرى القديس أكليمنضس الإسكندري في هذه العبارة سمو المعرفة بشكل واضح: [سمو المعرفة واضح كما وضعه النبي في الكلمات: "صلاحًا وأدبًا ومعرفة"، حيث يقدمها كما في درجة عالية كأساس يقود إلى الكمال1.]

v     "فلهذا حفظت وصاياك". إذ انهمكت وتأملت بحكمة في الوصايا التي وهبتني إياها آمنت بها حتى حفظتها. امنحنى إذن الحكمة بتعليمي الصلاح والأدب والمعرفة. تتفق هذه الطلبة مع القول: "يا ابني إن رغبت في الحكمة احفظ الوصايا، فيهبها لك الرب" ابن سيراخ 33:1.

القديس ديديموس الضرير

أدرك المرتل أن الفهم هو عطية إلهية، إذ يقول: "عبدك أنا، فهمني" [125]. لهذا لا يكف عن الصراخ إلى الله كي يعلمه ويهبه معرفة متزايدة، كما يقول "صلاحًا وأدبًا ومعرفة علمني" [66].

v     يصلي من أجل هذه الأمور لكي تزداد وتكمل. فإن الذين قالوا "يارب زد إيمإننا "لو5:17 كان لهم إيمان.

مادمنا نعيش في هذا العالم فإن هذه الكلمات تعطينا تقدمًا. لكنه يضيف كلمة "فهمًا" أو كما وردت في أغلب النسخ "أدبًا2 discipline".

الآن فان كلمة "أدبًا" كما جاءت في اليونانية... تُستخدم في الكتاب المقدس حينما يُفهم التعليم من خلال الضيق، وذلك مثل: "الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله" عب 6:12. في أدب الكنيسة يُدعي "أدبًا". تُستخدم هذه الكلمة في اليونانية في الرسالة إلى العبرانيين حيث يقول المترجم (اللاتينى): "ولكن كل تأديب discipline في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن" عب11:12.

لذلك ذاك (المرتل) الذي يتعامل معه الله بعذوبة، بمعنى الذي برحمته يبث فيه البهجة في عمل الصلاح لا يكف عن الصلاة باستمرار حتى تنمو فيه هذه العطية، فتهبه أن يحتقر كل الملذات الأخرى بالمقارنة بها، بل ويكون مستعدًا لاحتمال أي نصيب من الآلام من أجلها. هكذا بطريقة صحية يُضاف التأديب إلى العذوبة. هذا التأديب يلزم ألاَّ يُرغب فيه ويُصلي من أجله لأجل قياس قليل من النعمة والصلاح، أي من الحب المقدس، بل من أجل قياس عظيم هكذا حتى لا ينطفئ بواسطة التأديب...

القديس أغسطينوس

2. التأديب الإلهي وحفظ الوصية

"قبل أن أتواضع (أذلل) أنا تكاسلت،

فلهذا حفظت أنا كلامك" [67].

كثيرون يتذللون أثناء الضيق فيعرفون أنفسهم، ويدركون ضعفهم، ويتضعون أمام الله، ويمارسون عبادته بإخلاص وفي جدية. وربما بغير الضيق ما كانوا يتمتعون بهذا كله. لقد اختبر داود النبي نفسه ذلك، ففي فترات ضيقه كان ملتصقًا جدًا بالله، وكان قلبه أيقونة حية لقلب الله. أما وقد بنى له قصرًا وترك قيادة المعركة لغيره وتمشى على السطح انحرف إلى سلسلة من الخطايا وكاد يهلك لو لم يُرسل له الله ناثان النبي لإيقاظه، ثم لحقته المتاعب والضيقات بلا توقف.

v     يقول إنه بسبب الخطايا التي سبق فارتكبتها يذلني الله بتأديبه، لهذا احتاج أنا الذي سُلمت إلى التأديب إلى التعلم لكي أفهم أن ما لحق بي من مذلة إنما كان لأجل الصلاح والتأديب.

البابا أثناسيوس الرسولى

v     يوجد سببان لحكم الله علىه هكذا، إذ يوقع على البعض عقوبة بسبب أخطائهم، وعلى آخرين لكي يمتحنهم ويعلن استحقاقهم. إذ يعلم المرتل موقفه السيء يعترف إنه قد أخطأ، ومع هذا يقول: "حفظت أنا كلامك". فمع أنني تذللت بسبب ارتكابي الخطية، إلا أنني تخلصت من المذلة لأنني حفظت قولك وأنجزته باستقامة.

القديس ديديموس الضرير

v     يقول أوريجينوس وثاؤدورس: إننا نخطىء بفكرنا قبل سقوطنا في المعصية التامة التي تذلنا وتخضعنا للشيطان، فنتصور الخطية في خيالنا، ونقبلها في ذهننا... بهذا نفتح المجال لدخولها.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     من الصالح لأواني الرحمة أن تشعر أنه بطرح الكبرياء تُحب الطاعة، ويهلك البؤس ولا يعود مرة أخرى.

القديس أغسطينوس

يبدو أن الأوريجانيين قد أساءوا فهم هذه العبارة وغيرها مثل قول المرتل: "اخرج نفسي من الحبس" مز7:142 فقالوا إن النفس أخطأت وضلت لذلك دُفنت في جسد بشري كعقوبة لها1.

3. التأديب والشكر

مادام تأديب الله لنا نابع عن صلاحه وحبه لنا، كي يدفعنا إلى حفظ وصاياه عوض عصيإننا، لهذا نشكره على كل ما يحل بنا، حاسبين تأديباته عطية من قبل عنايته الإلهية. عوض التذمر نقدم شكرًا له، وعوض الاعتراض على أحكامه نطلب أن يعلمنا حكمته.

"صالح أنت يا رب،

فبصلاحك علمني حقوقك" [68].

v     يقول البعض "حلو أنت يا الله" [68] أو "صالح أنت يا الله"، كما سبق لنا معالجة هذه الكلمة، "فبعذوبتك علمني أحكامك". بالحق يرغب أن يمارس برَ الله، إذ يرغب في ذاك الذي يقول له: "حلو أنت يارب".

القديس أغسطينوس

v     بفحصي لذاتي أعرف أنني أخطأت فعلاً، وبإدراكي لصلاحك أعرف أنك صالح وعندك الصلاح، لذلك أطلب أن أتعلم منك حقوقك وأحكامك أنت لا أحكام آخر غيرك.

القديس ديديموس الضرير

يرى يوسابيوس القيصري أن الكلمة اليونانية لا تعنى أن الصلاح مجرد سمة وإنما تمس جوهر الله بكونه هو الصلاح في ذاته. يعرف المرتل ذلك جيدًا، أن الله هو الصلاح، ومع هذا فهو يحتاج إلى الله لكي يرشده بنفسه ويعلمه أحكامه وحقوقه ويتفهم الصلاح.

شتان بين المعرفة العقلية المجردة أن الله صلاح وحب، وبين أن يكشف الله لنا عن صلاحه وحبه ولطفه، فنذوق ونختبر الله عمليًا في حياتنا. الله الكلي الصلاح يُحول نفوسنا الفاسدة إلى شركة طبيعته! هذا ما يبعث فينا روح الشكر والتسبيح لله "الصلاح". بمعنى آخر لسنا نسبحه بأفواهنا ونشكره بألسنتنا، إنما تسبحه قلوبنا وتتغنى به طبيعتنا بشركتها في حياته وتمتعها بخبرة صلاحه فيها!

مع كل معرفة صادقة يمتلىء القلب فرحًا واللسان تسبيحًا، ومع كل جهالة تمتلىء النفس تذمرًا ويضيق القلب جدًا... لهذا لا يخجل المرتل من أن يطلب على الدوام: "علمني".

4. بين تأديبات الله وظلم المتكبرين

تسبح نفوسنا صلاح الله الذي يجدد طبيعتنا بعمل نعمته مستخدمًا اللطف كما الحزم، الحنو كما التأديب. فإن معاملاته معنا غير معاملات الناس، خاصة معاملات المتكبرين معنا. الرب يؤدب خلال أبوته الحانية أما المتكبرون فيبثون روح الظلم.

"كثر على ظلم المتكبرين،

وأنا بكل قلبي أبحث عن وصاياك" [69].

إن كان ظلم المتكبرين قد انهال على المرتل حتى صار ككومة عظيمة، لكن هذا كله لم يفقده البحث عن وصايا الله بكل قلبه، علة هذا خبرته بعذوبة الوصية.

v     يقول: على أي الأحوال إذ يتزايد الظلم لا تبرد فيّ المحبة (مت12:24).

كأنه يقول: الذي فيه عذوبة الله يتعلم برّ الله. فبالنسبة لوصايا ذاك الذي يعيننا بقدر ما تكون عذبة يحب الله ويطلبها، لكي يتممها عندما يتعرف عليها، ويتعلمها بممارسته إياها، فإنها تُفهم بأكثر كمالٍ عندما تُمارس.

القديس أغسطينوس

v     كلما اصطف إنسان بار إلى جانب الله امتلأ فيه سلام الرب، وفي نفس الوقت يكثر ضده المتكبرون كمصارعين أقوياء؛ هؤلاء يبتغون له الشر، سواء كان هؤلاء بشرًا أو قوات شريرة. على أي الأحوال، عندما يحدث هذا لا يمتنع البار عن حفظ وصايا الله بكل قلبه حتى يمكنه أن يفهمها ويتممها. يتحول قلب هؤلاء المتكبرين من اللطف والحنان إلى القساوة. وكما يقول المرتل: "تجبن مثل اللبن قلبهم، وأنا لهجت بناموسك" [70]. قبل الكبرياء كان قلبهم لينًا ووديعًا وصالحًا حتى يمكن مقارنته باللبن الذي يغذّى. لكنهم إذ لبسوا الكبرياء تصلب قلبهم وتقسى، وتحول اللبن إلى "جبن" (في صدرهم). وكما يقول المرتل: "قلبهم السمين قد أغلقوا، بأفواههم قد تكلموا بالكبرياء" مز 10:17. ويقول إشعياء النبي: "غلظ قلب هذا الشعب" إش 10:6.

ربما أراد هذا النص القول بإننا كما نستخدم ثدييْ الأرض كأكثر الأعضاء خصوبة وجمالاً هكذا قلب الحكماء مثل ثديين مملوئين لبنًا يغذى من يرغب فيه. "اللبن العقلي العديم الغش" 1بط 2:2. لكن إذا ما تحول هذا الإنسان إلى الشر يتجبن فيهم ما كان لهم من لبن جيد، لذلك يقول المرتل: "تجبن مثل اللبن قلبهم" [70]. وإذ يحدث هذا لدى المتكبرين يقول البار: "كثر على ظلم المتكبرين، وأنا بكل قلبي أبحث عن وصاياك... وأنا لهجت بناموسك".

العلامة أوريجينوس

v     الذين يظهرون الكبرياء يدبرون ضدي كل أنواع المكائد، ومع هذا لم أنجذب إلى الفساد والطغيان معهم، لأننى اتبعت وصاياك.

الأب ثيؤدوريت

v     كثير من الماكرين الذين سخطوا على وصاياك، والذين يستخدمون كلمات كثيرة ليحطموا وصاياك (في حياة مؤمنيك)، هؤلاء اتعبونى بسبب ظلمهم، مستخدمين كلمات مخادعة، قادرة أن تبعد غير الثابتين في الرب عن وصاياك، لكنني في غيرتي واشتياقي نحو هذه الوصايا بكل قلبي حفظتها. لهذا فإنني إذ تأملت خلال هذه التجربة القاسية جمال وصاياك أدنت جميع الذين يريدون إبادة هذه الوصايا.

القديس ديديموس الضرير

v     يقول لقد بلغت عجرفتهم وكبرياؤهم إلى الحد الذي فيه غلظ قلبهم وتجبن بسبب طابعهم المادي.

 البابا أثناسيوس الرسولي

v     بعدما سقاهم معلموهم "اللبن العقلى العديم الغش" 1 بط 2:2، لم يستطيعوا أن يهضموه، بل تراكم وتخثر وتجبّن فيهم... أما أنا فأتلذذ بشريعتك. أُظهر كل غيرتى حتى أفهمها، لأن حكمتها ليس فقط تبدد الضباب، وإنما تحطم أيضًا غلاظة الطبيعة المادية.

القديس ديديموس الضرير

إن كان الأشرار المتكبرون يبذلون كل الجهد ليحطموا ارتباطي بالوصية، مستخدمين كل خداعٍ وظلمٍ، لكنهم يفقدون اللبن العديم الغش ليتجبّن في صدورهم ويفسد، أما بالنسبة لي فتصرفاتهم تدخل بي إلى المذلة والآنسحاق فأتعلم بالأكثر فرائض الله.

"خير لي إني تذللت لكي أتعلم فرائضك" [71].

ربما كان الأشرار يستهزئون به قائلين إنهم يعيشون في رفاهية، ينجحون في كل طرقهم، أما هو فحياته كلها متاعب وضيقات، مع ذلك كان يحبهم، عالمًا بأن طريق الضيق يدخل به إلى المعرفة الإلهية.

v     إذ يتقبل التجارب القاسية والصعوبات التي اعتاد أن يطلق عليها "تذللاً" يقول هذه الكلمات (خير لي إنى تذللت) التي تعني: "لذلك أُسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح (أنظر 2 كو 10:12)، حتى انني إذ احتمل هذه الآلام أتأهل لتعلم فرائضك. فإنه لن يستطيع أحد أن يعرف فرائضك ما لم يتذلل، محتملاً آلامًا عديدة.

العلامة أوريجينوس

v     هذه الضيقات نافعة للقديسين حتى يمارسوا الاعتدال والاتضاع، فلا ينتفخون بصنعهم المعجزات والآيات الصالحة، لهذا يسمح الله بها لتحقيق هذا الهدف. إننا نسمع داود النبي وبولس يقولأن نفس الشيء. الأول يقول: "خير لي أن أكون في تعبٍ لكي أتعلم فرائضك" [71]، والأخير يقول: "اختطفت إلى السماء الثالثة"، وذهبت إلى الفردوس... "لئلا أفتخر من فرط الإعلأنات أُعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني1" (2كو 2:12، 4، 7).

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     إن كان التأديب للعظماء والصالحين عظيمًا (صالحًا)، كم بالأحرى يكون بالنسبة لنا2؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إذا ما انتاتبنا الضيقات، فلنشكر، فهذا يقربنا لله كما لو كان مدينًا لنا. لكن حينما نشكر ونحن في ترف نكون نحن المدينين ومطالبين بإيفاء الدين... حينما نال حزقيا بركات وتحرر من النكبات ارتفع قلبه عاليًا، وحينما ألمّ به المرض تذلل واتضع فصار قريبًا من الله1.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يختتم المرتل حديثه عن التأديب بتقديره العظيم للشريعة الإلهية أو الوصية التي نتعلمها خلال دخولنا في الضيق والألم، يدعوها "ناموس فمه"، لأن عذوبة الوصية مصدرها أنها حديث شخصي بين الله والمؤمن، يتحدث معه كما لو كان فمًا لفمٍ. يقول المرتل:

"ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" [72].

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: هل كان القديس بطرس فقيرًا حينما لم يكن له ذهب ولا فضة ليعطي المقعد؟

v     هذا يعنى خير لي الناموس الصادر عن فمك؛ الذي هو المسيح. إني أستهين بالقطع الذهبية والفضية المتألقة لكي أتلذذ بناموس فمك وأتنعم به.

يمكننا القول بأن "ناموس الفم" هو ترتيب الكلمات الصادرة عن فم الله: الكلمات الأولى قيلت للمبتدئين، بينما الكلمات التالية قيلت لمن تسلم الأولى حتى يبلغوا الكمال.

العلامة أوريجينوس

v     يقول النبي أنه بالنسبة له خير له شريعة فم الله أكثر من كل شهوات العالم، مشيرًا إلى الشهوات بالقطع الذهبية والفضية المتألقة.

القديس أغسطينوس

v     بالتفسير الرمزى، الفضة تمثل العقل، والذهب يشير إلى الروح، فمع وجود آلاف من القطع الذهبية والفضية التي يستخدمها المجادلون بحكمة العالم في مدارس الفلسفة، إلا أن الذي يعيش الحكمة الإلهية والحق الإلهي يقول: "ناموس فم الرب خير لي". حقًا إن الناموس الصادر عن فم الله هو وحده الذي يمكنه أن يقدم المكسب الحقيقي للذين يتمسكون به.

القديس ديديموس الضرير

ألوف الذهب أو الفضة قد تضيع أو تسرق أو تمثل خطرًا على حياة صاحبها أما ناموس فم الرب فيقدم غِنى ثابتًا إلى الأبد، لا يستطيع أحد أن ينتزعه منا.

بين مضايقات الأشرار وتأديبات الله

قلنا أن الأشرار يلقون بحبالهم على أولاد الله لكي يمنعوا عنهم كل منفذ للخلاص، لكن الله في اهتمامه بأولاده يحول هذه المتاعب إلى بركة لنموهم، يحولها إلى تأديبات إلهية لبنيانهم.

1. ملخص حياة المؤمن كلها هي "خيرًا صنعت مع عبدك" [65]؛ هذا هو حكم القلب النقي الذي يعبّر عن شكره لله في كل الأحوال، واثقًا "أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" رو 28:8.

2. يستخدم الله التأديبات لينزع عنا الكسل ويحثنا على حفظ الوصية [67]، وقد طلب المرتل مع ثقته في صدق أحكام الله أن يعلن الله عن صلاحه كمؤدبٍ وأن يقدم له معرفة وسط الضيقات [66].

3. خلال المعرفة الصادقة الإلهية لا نتذمر بسبب الضيقات بل نشكر الله على رعايته، واثقين في حكمته، قائلين له: "حلو أنت يا رب!" [68].

4. لا تخف من مضايقات المتكبرين، فقد قيل: "كل آلة صُورت ضدكِ لا تنجح، وكل لسان يقوم عليكِ في القضاء تحكمين عليه" إش 17:54.


 

من وحي المزمور 119(ط)

 يدك تترفق بي حتى في تأديبي!

v     في تأديبك لي تقدم لي معرفة بناءة، فأتعرف على صلاحك الفائق،

تستخدم تأديباتي لبنيان نفسي والدخول إلى الكمال!

v     إن كان التأديب نافعًا كدواء للعظيم في الآنبياء،

فكم يكون نافعًا لضعفي؟!

v     بتأديبباتك تكشف عن خطاياي فأتذلل أمامك،

فاعترف بها وأقدم توبة.

بتأديباتك تسندني فأحفظ وصاياك.

v     حلو أنت يا الله وصالح حتى عند تأديبك لي.

تأديباتك لي تبعث فيّ حياة الشكر لا التذمر.

أسبحك لا بلساني فحسب بل وبكل قلبي.

v     إذ أشكرك ياإلهي وقت الضيق تحسبني دائنًا،

فترد الشكر ببركات لا حصر لها .

وإذ أشكرك وقت الترف إنما أرد ما عليّ من دين!

<<

 


 

10 - ي

 

أحكامك عادلة

[73 - 80]

عندما نتحدث عن تأديبات الله لمؤمنيه وأيضًا موقف الأشرار المتكبرين منهم تُثار بعض الأسئلة حول عدالة الله:

أين هي العدالة الإلهية؟ أين هي عنايته بقديسيه؟

لماذا يسمح لأولاده بالضيق؟

أما المرتل فيقدم نفسه وحياته إجابة حية للمتسائلين:

1. إني خليقتك موضع حبك 73

2. إني مثال عملي يجيب على التساؤلات 74

3. لقد وهبتني عدالة أحكامك 75

4. برحمتك تعزيني 76

5. برأفتك تهبني الحياة  77

 6. حطمت افتراءات المتكبرين 78

7. ليجتمع بي خائفوك 79

8. كمِّل عملك معي 80

1. إني خليقتك موضع حبك

"يداك صنعتاني وجبلتاني،

فهمني فأتعلم وصاياك" [73].

في كل الأجيال تثور الأسئلة السابقة حول عدالة الله وعنايته خاصة عندما تحل بالآنسان ضيقات لا ذنب له فيها، أما المرتل فعوض تقديم الأسئلة يُعلن عن حاجته إلى إدراك أسرار أحكام الله والتعرف عليها، لأننا خليقته التي لا تشك قط في عدالة خالقها وحبه اللانهائي ورعايته. فالضيقة لا تدفع المرتل إلى التساؤلات بروح الشك واليأس وإنما بالأحرى إلى طلب كشف حكمة الخالق والآب السماوي له، أي إلى الرغبة في التعلم. إنه واثق أن الله الذي خلقه يهتم به ويدبر أمور حياته. وكما يقول موسى النبي: "أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟!" تث 6:32.

يقول أيوب: "أذكر أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب؟!" (أي 9:10). إن كان الفخاري يعتز بالآناء الخزفي الذي يشكّله من الطين فبالأولى الله الذي أقام آدم من التراب، وقد صوّره على صورته ومثاله، ووهبه عطية العقل والإدراك... أما يقدم له علمًا وفهمًا متزايدًا ليدرك أسرار حكمة الله فيشكر ويسبح؟! يقول الله لإرميا النبي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك" إر 5:1 ليعلن عن مدى اهتمامه به ورعايته... إن كان الله يعرفنا قبل أن نولد، فهو يطلب منا أن نعرفه ونتعرف على سماته وحكمته، فنلتقي معه على مستوى الحب الحق المتبادل والقائم على المعرفة الصادقة الفائقة.

بقوله "يداك" يرى البعض أنه يشير إلى ابن والروح القدس، إذ يقول الله في صيغة الجمع: "نعمل الآنسان على صورتنا كشبهنا" تك 26:1.

v     يُقال إن يديْ الله الآب هما ابن الوحيد والروح القدس، إذ هما (مع الفارق) واردتان عن مصدرٍ واحد ولا تفارقانه أبدًا، ولا ينحل اتحادهما، لكنهما متلاصقتان مع الجسد ومتمايزتان فيما بينهما. كذلك ابن الوحيد والروح القدس صادران عن الآب وحده ومتصلان به وببعضهما في وحدة اللاهوت، ومتمايزان من جهة الأقانيم... لذلك كتب أيوب الصديق في الأصحاح العاشر بإلهام إلهي: "يداك كونتاني وصنعتاني، أفتبيدني؟!" (انظر أي 8:10). لقد استعار داود المغبوط هذا القول من أيوب المطوّب.

أنثيموس أسقف أورشليم

يرى القديس أغسطينوس أن تعبير "يديْ الله" يشير إلى السيد المسيح وحده أو إلى ابن والروح القدس.

v     يدا الله هما قوة الله... لنفهم يديْ الله قوة الله وحكمته، أعُطي اللقبان للمسيح الواحد (1كو 24:1)، حيث يُفهم أيضًا تحت رمز "ذراع الرب" إش 1:53 إذ نقرأ: "لمن اُستعلنت ذراع الرب؟".

أو ليفهموا يديْ الله: ابن والروح القدس؛ حيث أن الروح القدس يعمل مع ابن..."

القديس أغسطينوس

v     أخيرًا ربما يقرر أن أحد القديسين تقبل التقديس من ابن والروح القدس، قائلاً: "يداك صنعتاني وجبلتاني" [73]1.

القديس إمبروسيوس

أما تكراره "صنعتاني" و"جبلتاني" فيرى البعض أنه يشير إلى خلقة الجسد والنفس، وكأن الله خالق الآنسان بكليته يهتم أيضًا بكل احتىاجاته الجسدية والروحية، فإن كان يهتم ببنيان النفس وخلاصها فهو أيضًا يمجد معها الجسد الذي يقوم في يوم الرب العظيم... يهتم به في هذا الزمان الحاضر كما في الدهر الآتي، يهتم حتى بعدد شعور رؤوسنا.

v     تشكَّل هيكل أجسادنا ونفوسنا بيد الفنان الإلهي نفسه2.

القديس قيصريوس أسقف آرل

ويرى البعض في هذا التكرار إشارة إلى خلقة الآنسان وتجديده في مياه المعمودية على صورة خالقه.

مادام الله هو الخالق والمجدد لخلقتنا لذلك لا يشك المؤمن قط في عناية الله به، إنما في دالة البنوة يصرخ:

"فهمني فأتعلم وصاياك" [73].

v     أنت يا رب صنعتني إنسانا فهيمًا. إذن فهمني، وكمِّل ما نقص مني من الفهم.

أنت جبلتني لكي أكون من خاصتك، وهذه الخصوصية لا تصير إلا بعمل وصيتك. لأنك في الابتداء فرضت على وصية واحدة، لكن الآن إذ صارت سقطاتي كثيرة احتاج إلى وصايا كثيرة. لك أن تُفهمني فأتعلمها، حتى إذا ما أفهمتني إياها أتممها. أما الأشرار فيغتمون ويقولون: هذا غير نافع لنا، ومقاوم لأعمالنا ويجعلنا في عار بعصياننا للشريعة".

 أنثيموس أسقف أورشليم

v     "فهمني فأتعلم وصاياك" [73]... عندما علم مخلصنا تلاميذه قال في البشارة بحسب القديس متى الآنجيلي: "كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبهه برجلٍ عاقلٍ" مت 24:7. إذن هل يمكن العمل بهذه الوصايا دون أن أفهمها؟!

العلامة أوريجينوس

يقول أبوليناريوس: [عن هذا الإدراك يقول بولس الرسول أيضًا: "افهم ما أقول، فليعطك الرب فهمًا في كل شيء" 2تي 7:2. هذه الطلبة موجهة إلى الخالق، وهي طلبة منطقية، تعني: تعهد خليقتك، كمِّل الكائن المفكر وهبه التعقل والإدراك والفهم. ذاك الذي أعددته ليحيا في حبك، اجعله يعيش في حبك بمعرفته إرادتك، لأنه منذ البدء احتاج الآنسان إلى التعلم...]

يقول القديس أغسطينوس انه يمكنه أن يقدم لشعبه ما يستمعون إليه من كلمات، أما الفهم فهو عطية إلهية. يقدم الكلمات للآذان، أما الله فيقدم الفهم للقلوب.

v     يتحقق الاستماع بواسطتي، لكن من يقدم الفهم؟

إني أتحدث مع الأذن لكي تستمع، لكن من يتحدث مع قلبك للفهم؟

بلاشك يوجد من ينطق بشيء من الحق يدخل قلبك، فلا يقف الأمر عند ضجيج الكلمات التي تضرب أذنك، بل يوجد شيء من الحق يدخل قلبك. يوجد من يتحدث مع قلبك وأنت لا تراه.

إن كان لكم فهم يا إخوة فالحديث موجه إلى القلب. الفهم هو عطية القلب.

إن كان لكم فهم، من ينطق بهذا في قلوبكم إلا ذاك الذي يُوجه إليه المزمور: "فهمني فأتعلم وصاياك"1؟

القديس أغسطينوس

2. إني مثال عملي يجيب على التساؤلات

تساؤل المرتل داود ينبع عن ثقته في الله خالقه، الذي أقامه كائنًا عاقلاً، ولا يبخل عليه بالكشف عن إرادته الإلهية، واهبًا له المعرفة والفهم. لهذا إذ يتطلع خائفوا الرب إلى داود يجدون فيه مثلاً حيًا للحوار مع الله وسط الآلام فيفرحون ويطمئنون، مشاركين إياه ثقته في الرب.

"الذين يخافونك يبصرونني ويفرحون،

لأني بكلامك وثقت" [74].

علامة الشركة الحقيقية أنه إذ يتعزى عضو في وسط آلامه يفرح معه خائفوا الرب ويتعزون، وما يتمتع به أحدهم يحسبونه عطية للجميع. وكما يقول داود النبي: "يسمع الودعاء فيفرحون، عظموا الرب معي ولنعلِ اسمه معًا" مز 2:34. "الصديقون يكتنفونني لأنك تحسن إليّ" مز 7:142.

v     يبصر أتقياء الله أعمالي الحسنة ببصيرة حسية، وفضائل نفسي ببصيرة عقلية، ويفرحون لثقتي في كلامك.

 أنثيموس أسقف أورشليم

v     يأخذونني قدوة عندما ينظرونني، كيف؟ "بكلامك وثقت"، وينتظرون أن ينالوا ذات المنافع.

 يوسابيوس القيصري

v     ليس كل الذين يرون البار يفرحون، فإنه بالنسبة (للأشرار) حتى التطلع إلى البار يكون ثقيلاً، لأن حياته لا تشبه حياة الآخرين، وسُبله مختلفة عن سبلهم (الحكمة 14:2-15)، لهذا يرون البار في غير نقاوة. وبقدرما يكون التطلع إلى البار ثقيلاً بالنسبة لهم يكون مفرحًا بالنسبة للإنسان التقي.

يمكن أن تفهم كلمة "يبصر" إما بطريقة حسية، وتعني الآنسان الظاهر، وإما بمفهومٍ روحي ويعني نفسه (الآنسان الداخلي)، أي أفكاره وعقله وحكمته؛ بهذا نرى البار فنبتهج به ونفرح بمعرفته.

 العلامة أوريجينوس

v     يمكن أن نفهم ذلك هكذا أن خائفي الرب كاملون، ولا يعوزهم شيء (مز 1:34)، وأبرار... يريدون أن يتقدم الكل ويستفيدون، وهم يبتهجون بكل ما يرضى الله، متشبهين بسكان السماء الذين يفرحون بالتائبين (لو 7:15).

ويمكن أيضًا أن تعني بأن (خائفي الرب) هم أقل تقدمًا، يبصرونني فيفرحون لأني بكلامك وثقت. يرونني أرغب الحياة في اتحاد كامل مع كلامك هذا، لكيما تتفق أفكاري وأفعالي مع تعليمك، وبسبب خوفهم من السقوط تحت طائلة العقاب الخاص بالأشرار والخطاة حسب أحكامك، يمتنعون عن الشر. إنهم يخافونك بطريقة بها يبصرونني فيفرحون، خلال امتناعهم عن الخطية، لا عن حزنٍ أو اضطرارٍ (2كو 7:9)، وإنما بغيرة كي يستعيدوا القوة، لأنهم هم أيضًا يثقون في كلامك.

 القديس ديديموس الضرير

يرى القديس أغسطينوس أن خائفي الرب هنا هم الكنيسة التي هي جسد المسيح، تبصر ذاك الذي وثق في كلام الله فيفرحون... أي يبصرون أعضاء في جسد المسيح فيفرحون من أجل ثقتهم في كلمات الرب. وكأن المؤمنين يرون إخوتهم المشاركين لهم في الإيمان يفرحون بهم من أجل إيمانهم بكلمة الله.

3. لقد وهبتني عدالة أحكامك

"قد علمت يا رب أن أحكامك عادلة،

وبحق أذللتني" [75].

ثقتي في كلامك تثير الأشرار وتفرح خائفيك [74]، أما من جهة نفسي فإنني أدرك عدالة أحكامك وأن ما تسمح به لي من تأديبات أو ضيقات أو ظلم الأشرار إنما عن استحقاق، فأنا خاطيء ومحتاج إلى المذلة كسندٍ لي. إنني خلال المصاعب أتمتع بعونك دون أن أفقد رجائي فيك؛ وخلالها أتدرب على الجهاد الروحي فأتمتع بسلسلة من النصرات. بنعمتك التمس عنايتك وسط الآلام فأثبت بالأكثر فيك.

v     كل ما يحدث هو بحكمة الله. والمؤمن يعتقد بأن "أحكام الله عادلة"، لكنه ما لم يحصل على "علم" فإنه لا يعرفها. أما غير المؤمن، فعلى العكس، ليس فقط ليس لديه هذا الإيمان وإنما يتجنى أيضًا على العناية الإلهية بخصوص هذه الأحكام.

إذن يوجد من يؤمن بها وأيضًا من لا يؤمن بها. من يبلغ إلى حالة أفضل لا يقف عند الإيمان فقط بل و"يعلم"، أي تصير له معرفة أحكام الله وكل ما يحدث للإنسان، فقد قبل النبي هذه المعرفة.

"قد علمت" تختلف عن "قد آمنت" [66]. فإن من يؤمن قد لا تكون له المعرفة بذات القدر. قال يسوع للذين آمنوا به: "إن ثبتم في كلامي فإنكم تعرفون الحق والحق يحرركم" يو 32:8. قال "تعرفون" للذين آمنوا، حيث لا يُعطى الإيمان بالضرورة المعرفة؛ لذلك يميز الرسول بولس بين الإيمان والمعرفة، وبين الإيمان والحكمة، وذلك في قائمة مواهب الروح (1كو 8:12،9).

"قد علمت يا رب أن أحكامك عادلة، وبحق أذللتني"، تعني أذللتني حسب الحق وحسب حكمك.

كثيرًا ما أُلاحظ في كثير من المواضع في الكتاب المقدس، خاصة في المزامير، إن كلمة "أذللتني" تشير إلى "طرحتني في التجارب".

 العلامة أوريجينوس

عجيب هو الله أبونا في محبته لنا، فإنه ليس مثل عالي الكاهن الذي لم يردع ابناءه عندما أخطأوا (1صم 13:3)، إنما يؤدب ومع تأديبه يعطينا "معرفة" و "علمًا" إن سألناه. قد يسبب التأديب مذلة مؤقتة، لكن المعرفة واكتشاف حكمة الله تحول المذلة إلي شكر وفرح وتسبيح مع تعزيات سماوية فائقة.

4. برحمتك تعزيني

بالحق دخل المرتل إلى المذلة [75]، وها هو بالرحمة يتمتع بالتعزية الإلهية [76]. يبدأ بالحق ويليه الرحمة وقد ارتبط الاثنان معًا كقول المرتل "كل سبل الرب رحمة وحق لحافظي عهده وشهاداته" مز 10:25. إنه لم يطلب من الله أن يرفع عنه عصا التأديب، إنما طلب مع ما ناله من معرفة إلهية وسط الضيق ألا يُحرم من رحمة الله التي قدمها وعدًا عامًا لكل البشر، وخاصًا بكل مؤمنٍ، إذ يقول:

"فلتأتِ على رحمتك لتعزيني،

نظير قولك لعبدك" [76]

v     من كان ضعيف الرأي وقليل الإيمان لا يتحقق أن الله يسمح بالمحن والشدائد بحكم عادل فيتضجر، وأما الواثق بالإيمان الكامل يعرف انها تحدث بحقٍ واجب، فيطلب التعزية من رحمته، أي من كلمته أو ابنه الوحيد، الذي جاء ليعزي المحزونين حسبما وعد بلسان إشعياء النبي أنه من قبل ابن تأتي الرأفة التي تحيي دارسي ناموس الله، أعني به المقدس، دراسة عملية.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     تعلم النبي كمناضل أن يحتمل كل ما يصيبه، فلا يطلب في صلواته أن تبعد عنه الآلام التي تحزنه، إنما يطلب في وقت الحزن من الله كلمة تعزية قوية تسمح له أن يحتمل الآلام بفرحٍ كاملٍ وسلامٍ. عندئذ يقول: ارحمني فأختبر التعزية وأجد الشجاعة.

إنه مثل الرسول بولس الذي كان يطلب التعزية عندما جُرب، فكان ينعم بها، لذلك قال: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزية، الذي يعزينا في كل ضيقتنا" 2كو3:1-4. فإنني أستطيع بعد نوالي هذه التعزية أن أعزي من هم في حزنٍ أو ضيقةٍ. طوبى لمن يستطيع القول: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" مز19:94.

العلامة أوريجينوس

v     رحمة الآب هي (بتجسد) ابن، الذي يعزي قلوبنا الساقطة تحت سلطان (طغيان) إبليس... تحنن على عبيدك كما وعدت بالتعزية.

القديس أثناسيوس الرسولي

v     لتأتِ على رحمتك لتعزيني وتشجعني؛ فإن كثيرين إذ ينالون تعزية ينخدعون، حاسبين أنهم نالوها من حكمتهم وبعقلهم، أما أنا فلكي لا أضل مثلهم، فالنسبة لي، أنا عبدك "لتأتِ على رحمتك نظير قولك".

العلامة أوريجينوس

v     حقًا يبدأ هنا أولاً بالحق الذي به نتذلل حتى الموت، وذلك بحكم ذاك الذي أحكامه هي برّ، بينما نتجدد للحياة وذلك بوعد ذاك الذي بركاته هي نعمة من عنده. لهذا يقول: "نظير قولك لعبدك" [76]، أي حسب ما وعدت به عبدك. سواء كان ذلك هو التجديد الذي به صار لنا التبني بين ابناء الله، أو الإيمان والرجاء والمحبة، حيث يُبني الثلاثة فينا، وهي تأتي من مراحم الله؛ مع هذا فإنه في هذه الحياة المملوءة بالعواطف والمتاعب توجد تعزيات البؤساء لا أفراح المطوبين.

القديس أغسطينوس

5. برأفتك تهبني الحياة

"ولتأتني رأفتك فأحيا،

فإن ناموسك هو درسي" [77].

إن كان المرتل ينسب كل تعزية إلى نعمة الله السخية المجانية لا إلى قدراته الفكرية أو إرادته القوية، فإنه يشعر بالدين بحياته كلها لرأفات الله؛ بها يحيا، وبناموسه أو وصيته يتأمل ويدرس ويتلذذ.

v     الطبيعة الآنسانية بكاملها في حاجة إلى "رأفات الله" حقًا، فإنها ما لم تأتِ لا نستطيع أن نحيا الحياة الحقيقية، الحياة المستترة "مع المسيح في الله" كو 3:3.

لنتعلم أيضًا القول: "ناموسك هو درسي"، ولنكرس أنفسنا لدراسة الأسفار المقدسة.

العلامة أوريجينوس

v     في كثير من المواضع الأخرى، وليس هنا فقط، نجد ذكر "رأفات" الله، لهذا يلزمنا أن نتأمل أن ابن الوحيد الجنس والروح القدس الواهبا الحياة هما رأفات الله.

يُدعى الله - حسب تعليم الرسول المملوء حكمة - "أبو الرأفة" 2كو 3:1.

القديس ديديموس الضرير

إذ تقيم مراحم الله ورأفاته المؤمن - وهو في وسط ضيقاته - كما من الموت فيحيا ويلهج في ناموس الرب بلذة، يعكف على دراسته ولا ينشغل بافتراءات المتكبرين، يترك الأشرار في شرهم يسكبون عليه العار والخزي. ينشغل المؤمن بوعود الله اللذيذة الواهبة الحياة ويرتبك الأشرار في خزيهم. يتمتع المؤمن بثمر كلمة الله اللذيذة وينال الأشرار ثمر مخالفة الوصية.

6. حطمت افتراءات المتكبرين

"وليخزَ المتكبرون،

لأنهم خالفوا الشرع على ظلمًا.

وأنا كنت مثابرًا على وصاياك" [78].

أدرك المرتل عدالة أحكام الله، ففي عينيْ نفسه يرى أنه مستحق كل تأديب، لكن خلال مراحم الله ينعم بالتعزيات الإلهية وسط الضيقات، وخلال رأفاته يتمتع بالحياة، إذ ينعم بالشركة مع الآب في ابنه بروحه القدوس. والآن ما هو موقف المتكبرين الذين يفترون على المرتل ويضيقون عليه؟ بينما هم منهمكون في تدبير المؤامرات ونصب الشباك الخفية إذ بالله يخزى خططهم، بينما ينهمك المرتل في الجهاد في تنفيذ الوصية الإلهية بغير ارتباك.

v     إذ أحصل على عونك يخزى الأشرار والبشر أعداء الحق، وبينما هم في عارٍ وخزيٍ إذ بي لا انتفخ بل أناجي بوصاياك.

القديس أثناسيوس الرسولي

v     لا ينطق النبي بهذه الصلاة ضد المتكبرين الذين ظلموه أو افتروا عليه، وإنما لصالحهم. فإنه طالما لا يعي الخاطي خطيته لا يخجل منها، أما إن صار في وعي بها فإنه يشعر بالخجل... لأتعلم أنهم إنما افتروا على زورًا، اما أنا فلا أفعل شيئًا إلا أن أثابر على وصاياك.

العلامة أوريجينوس

v     حينما تسمعون الخطاة يُلعنون في الكتاب المقدس، فلتدركوا أن ذلك يخص المتكبرين كما قلت، أي الذين يدافعون عن خطاياهم. أيضًا كلما سمعتم المساكين يطوّبون لا تحسبون هذا يحدث مع كل المسيحيين، بل فقط مع المسيحيين الودعاء والمتضعين بقلوبهم1.

الأب قيصريوس أسقف آرل

7. ليجتمع بي خائفوك

"وليرجع إليّ الذين يتقونك ويعرفون عجائبك"[79].

يطلب المرتل للمتكبرين الخزي، أي الشعور بالخطية، لتوبتهم؛ كما يدعو خائفي الرب كي يجتمعوا معه في الإيمان فينعموا بتعزيات الله ورأفاته. يرى البعض أن داود النبي نطق بهذه الكلمات ليعلن رغبته في التمتع بصداقة القديسيين، هؤلاء الذين تركوه بعد قتله أوريا الحثي، إذ حسبوا ذلك عارًا، لا يليق بخائفي الرب2. إنه يطلب من الله أن يرجعوا إليه ليعيش بين أتقيائه، فقد رجع هو بكل قلبه إلى الله وصار بلا عيب بهذا يعرف متقوا الرب كيف صارت حياة داود أعجوبة.

v     يريد النبي من متقي الرب أن يتجهوا إليه ويقتربوا منه حتى ينالوا النعمة التي صار هو فيها.

العلامة أوريجينوس

8. كمّل عملك معي

"وليصر قلبي بلا عيب في عدلك،

لكي لا أخزى" [80].

إذ يطلب للمتكبرين التوبة ولخائفي الرب التمتع بذات النعمة التي نالها لا ينسى في النهاية نفسه، طالبًا النمو في الحياة التي بلا عيب، أي البارة. لقد قدم الخطاة أولاً للتمتع بالتوبة ثم المؤمنين للشركة معًا في الحياة الإيمانية الحية، وأخيرًا يطلب من أجل نفسه كي يتوب عن خطاياه، وينمو لعله يبلغ قمة الكمال، فلا يلحقه قلق أو خزي.

v     كيف يمكن لقلب الآنسان أن يصير بلا عيب، أو حسب المترجمين "كاملاً"؟ بفرائضك! وما هي ثمرة ذلك؟ إننا لا نخزى، لأن كل الخطايا تستوجب الخزي.

العلامة أوريجينوس

تساؤلات حول عناية الله

يجيب المرتل على التساؤلات حول عدل الله وعنايته:

1. الآنسان هو خليقة الله موضع حبه، لا يليق به أن يتشكك في صلاح الله وعنايته به. عوض التساؤلات يلزم طلب المعرفة والتعلم [73].

2. أبدع الله في خلقة الآنسان بكل كيانه الجسدي والنفسي والروحي... فهل يهمله بعد الخلقة؟

3. حبك يتطلب حزمك معي وتأديبك لي وإذلالي إلى حين [75].

4. يهب الله مع التأديب "معرفة" لمن يسألها، تحول المذلة إلى تسبيح.

5. يطلب المؤمن مراحم الله بكونها وعدًا شخصيًا له من قبل إلهه [76]، تقيمه كما من الموت إلى الحياة [77].

6. يتهلل قلب المؤمن بعطايا الله ووعوده بينما يخزى الأشرار المتكبرون بمخالفتهم الوصية [78].

7. بينما ينشغل المتكبرون بالمؤامرات يتمتع المؤمن بشركة مع خائفي الرب [79]، ويتنقى قلبه فيصير بلا عيب [80].


 

من وحي المزمور 119(ي)

 أنت خالقي...فهمني عدلك!

v     أنت جابلي، هل للجبلة أن تسألك عن عدلك؟

خلقتني كائنًا عاقلاً،

فهب لي عطية الفهم عوض التساؤلات الكثيرة.

إنني كإنسان أقدم تفاسير وكلمات للآذان،

أما أنت فتهب القلوب فهمًا، فتدرك عدلك!

v     كثيرون يتساءلون عن عدالتك؟

هؤلاء يرونني فرحًا في أحزاني،

لثقتي في مواعيدك وكلماتك،

فيقتدون بي ويطمئنون ويفرحون!

هكذا أنت تعزيني،

فأعزي من هم حولي!

v     ثقتي في وعودك تثير الأشرار وتفرح خائفيك.

لقد تأكدت أن كل المتاعب هي لخيري،

نعمتك أكيدة حتى في أمرّ لحظات حياتي!

أحكامك عادلة، ورعايتك فائقة على الدوام.

أما الأشرار فيتجنون على عنايتك.

v     تسمح لي بالتجارب فأتذلل إلى حين،

لكن مع المذلة تهبني علمًا ومعرفة،

هكذا تحول حكمتك تذللي إلى شكر وتسبيح مع تعزيات سماوية.

لست أطلب رفع عصا التأديب،

بل أطلب أن تقدم لي معرفة وسط الضيق ورحمة مع التأديب!

v     هب للمتكبرين الخزي،

هؤلاء الذين صبوا الظلم عليّ.

لا أطلب نقمة لنفسي،

إنما أطلب أن تفضحهم أمام أعينهم فيرجعون إليك.

أنني اشتهي خلاصهم لا هلاكهم!

v     بالحب اشتهي توبة المتكبرين،

وبالحب أطلب شركة خائفيك!

ليجتمعوا معي، وأنا معهم... فنصير واحدًا فيك!

هب لي نقاوة القلب فأصير بلا عيب!

<<

 

11- ك

 

رجاء وسط الظلمة

[81-88]

بعد أن تحدث المرتل عن التأديبات، مدركًا أحكام الله العادلة، فمن جهته يستحق التأديب على خطاياه، كما تدفعه المذلة إلى الالتجاء إلى كلمة الله ومواعيده، ومن جهة الأشرار المتكبرين فإن عدالة‍ الله تلاحقهم لتوبتهم، فإن أصروا على الاستخفاف بناموس الله يهلكون. الآن، إذ يشعر المؤمن بالمضايقات الشديدة التي تحوط به من كل جانب وكأن الظلمة تكتنفه يمتلىء رجاء حين يشرق عليه المخلص شمس البرّ.

1. صرت كزقٍ في جليد 81-83.

2. هذيان الأشرار وحق الوصية 84-87.

3. كرحمتك أحيني  88.

1. صرت كزقٍ في جليد

يقول المرتل: "صرت مثل زقٍ في جليد" [83]، وحسب النسخة العبرية: "صرت كزقٍ في الدخان". الزق هو وعاء من جلد الحيوانات المدبوغ بعد ذبحها "قربة"، كانت الشعوب القديمة تستخدمها في نقل الماء إلى المنازل، كما في تخزين السوائل مثل الخمور واللبن. كانت هذه الأوعية تُحفظ في جوٍ جافٍ قريبة من حرارة الموقد أو الفرن.

ربما يشّبه المرتل نفسه هنا بالزق الذي يُعلق في الخيمة بينما يشعل صاحب الخيمة النار (الحطب) فيملأ الدخان الخيمة ويصعب على الإنسان أن يرى الزق المعلق لأن لونه اسمر داكن يحمل ذات لون الخيمة. لقد كادت التجارب أن تحطمه إذ حوطته كالدخان، وصار شبه مجهول، مُعلق في خيمة، لا يحمل إلا رائحة الموت (جلد حيوانات ميتة)... وسط هذه المشاعر المرة تتوق نفس المرتل إلى المخلص القادم حسب الوعد الإلهي، فهو وحده يقيم له وزنًا ويهتم بحياته، إذ يقول:

"تاقت نفسي إلى خلاصك،

وعلى كلامك توكلت" [81].

v     من الذي ينطق بهذا إلاَّ الجيل المختار، الكهنوت الملوكي، الأمة المقدسة (1بط9:2)، هؤلاء يتوقون إلى المسيح (المخلص) منذ بدء الجنس البشري حتى نهاية هذا العالم، كل واحدٍ حسب زمانه سواء الذين عاشوا، والذين يعيشون أو سيعيشون؟!...

كان في الأجيال الأولى للكنيسة قديسون جاءوا قبل ميلاد البتول، هؤلاء اشتهوا تحقق تجسده. أما في هذه الأيام حيث صعد (البتول) إلى السماء فيوجد قديسون يتوقون إلى ظهوره ليدين الأحياء والأموات...

"وعلى كلامك ترجوت" [81]، أي على مواعيدك صار لنا الرجاء الذي به ننتظر الأمور التي لا يراها غير المؤمنين.

يفضل البعض ترجمة الكلمة اليونانية هنا "رجوت أعظم"، فإنه بلاشك الرجاء (في مواعيد الله) أعظم من أن يوصف.

القديس أغسطينوس

"كلت عيناي من انتظار أقوالك، قائلتين:

متى تعزيني؟!" [82].

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [مزامير داود تسبب ينابيع دموع تفيض1.]

يرى البعض أن المرتل وقد طال انتظاره وترقبه لمجئ المخلص يعلن شوقه إليه، طالبًا التعزيات الإلهية، وأن يحل كالندى أو كالجليد عليه، فقد صار المرتل كالزق الذي يميت بالتوبة شهوات جسده متقبلاً عمل المخلص فيه كالندى.

يقول القديس أثناسيوس أن المخلص هو ابن الله الذي خلصنا، وإليه تتوق النفس، وعليه يتكل المؤمنون، حتى قال أن أعين الآنبياء قد ذبلت منتظرة حضوره وعزائه. عنه كتب يوحنا الحبيب في الاصحاح الثاني من رسالته الأولى الجامعة: "وإن أخطأ أحد فلنا معزٍ عند الآب يسوع المسيح وهو كفارة لخطايانا". إنه يعزي من ينتظر مواعيده ويتطلع على أقواله الواردة في الأسفار الإلهية.

v     "كلت (ذبلت) عينايْ من انتظار أقوالك: قائلتين: متى تعزيني" [82]... هذا الذبول الطوباوي الذي للعينين الداخلتين المستحق للمديح لا يقوم على ضعف العقل بل على قوة الاشتياق نحو الوعد الإلهي، لهذا يقول "من انتظار أقوالك". بهذا المعنى يمكن لهاتين العينين أن تقولا: "متى تعزيني؟" سواء عندما نصلي أو نتنهد بهذه الغيرة والآنتظار الشغوف.

 القول: "متى تعزيني؟" يكشف عن امتداد المعاناة من الألم. متى يحدث هذا؟ يارب، إلى متى تعاقبني؟ "مز3:6. تتحقق (التعزية) عندما نشعر بلذة السعادة بتأجيل (الألم) أو عندما نشعر بأن الزمن مقصر وسيأتي الله سريعًا للمساعدة. لكن الله يعرف ماذا يفعل ومتى، إذ هو "يرتب كل الأشياء بقياسٍ وعددٍ ووزنٍ" (حك18:11).

 القديس أغسطينوس

"صرت مثل زق في جليد، ولحقوقك لم أنسَ" [83].

v     إذ شُبه تجسد ابن الله بالندى على الجزة (قض37:6)... فإذًا يكون قوله وتعليمه جليدًا. وكل الذين يذعنون لقوله ويقبلون تعليمه يميتون أعضاءهم التي على الأرض كقول الرسول الإلهي، وهي الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذي هو عبادة الأوثان التي من أجلها  يحل غضب الله على ابناء المعصية (كو5:3،6). لكن كل من يميتها ويضمر جسده ويجعله مثل الزق مقدمًا محبة لله الذي مات (من أجله) يستحق أن يقول: "تاقت نفسي إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت"... ولا ينسى أيضًا حقوقه.

أنثيموس أسقف أورشليم

واضح أن المرتل وقد اشتدت به الضيقة كاد أن يدخل إلى اليأس لولا رجاءه في وعود الله بالخلاص، وهنا نلاحظ الآتي:

أ. مع ما بلغه المرتل من حزنٍ شديدٍ وكآبة قلب حتى شبّه نفسه بالزق، إلا أنه بقي أمينًا في ثقته في مواعيد الله: "على كلامك توكلت"، واثقًا في مراحم الله التي تقيم من الموت إلى الحياة [88]، متمسكًا بحفظ شهادات الرب مهما يكن الثمن [88].

ب. أعلن المرتل شوقه إلى خلاص الرب [81]، فإنه لا ينتظر خلاصًا من آخر سواه. سرّ شوقه لا أن ينجو من الضيقة فحسب، وإنما أن يلتقى معه كمخلصٍ ويتعرف على حبه وأحكامه وأسراره.

ج. مهما اسودت الدنيا في عينيه يبقى المرتل منتظرًا خلاص الله، فهو آتٍ حتمًا، لأن الله لا يمكن أن ينقض وعوده أو يخزى الرجاء الذي بعثته كلمته. الخلاص قادم، وعلى المؤمن أن يطلبه ويلح في الطلب علامة ثقته في وعد الله.

د. ليس لنا أن نحدد لله أوقاتًا، إنما تبقى أعيننا تتطلع إليه وتنتظر تحقيقه: "كلّت عيناي من انتظار أقوالك، قائلتين: متى تعزيني؟" [82] قد تكل أعيننا من انتظارها تحقيق مواعيد الله، لكن تبقى قلوبنا مملوءة رجاءً لا تعرف الفشل، فلا تكل. لقد تطلع إبراهيم بعينيْ قلبه وذلك بالإيمان فرأى يوم الرب، أدرك خلاصه العجيب من بعيد (يو56:8).

هـ. الإنسان بكل كيانه ينتظر تعزية الرب برجاءٍ مفرحٍ: الشفتان تنطقان لتعبّرا عما في داخل النفس: "تاقت نفسي إلى خلاصك" [81]، وتكل العينان من ترقبا انتظار الرب، ويصير الإنسان كله كزقٍ في جليد.

تكل العينان بارتفاعهما المستمر في اتضاع نحو السماء تترقبان خلاص الله العجيب. فما يعجز اللسان عن التعبير عنه تعلنه العينان بانسحاقهما ودموعهما، فتنفتح أبواب السماء وتدخل الطلبة إلى العرش الإلهي.

v     حقيقة يريدنا أن نفهم بالزق الجسد المائت، وبالجليد البركة السمائية.

تُربط شهوات الجسد كما بجليد فتصير بطيئة الحركة، بهذا لا ينسحب برّ الله من الذاكرة، حيث تعبر كلمات الرسول: "لا تعطوا الجسد مئونة لأجل شهواته" رو14:13، "أنا لا أنسى بركم"... لأن هوى الشهوة يبرد، فتشرق ذاكرة الحب.

القديس أغسطينوس

v     من يميت أعضاءه ويشعر أنه يسير في عرضٍ باطلٍ (العالم الزائل) لا يكف عن القول: "صرت كزقٍ في الجليد"، كل ما كان فيّ من نقط متسربة للشهوة قد جفَّ فيَّ. وأيضًا "ركبتاي ضعفتا من الصوم، نسيت أن آكل خبزي، بسبب صوت تنهدي التصقت عظامي بجلدي" (مز7:102)1.

القديس جيروم

2. هذيان الأشرار وحق الوصية

 مع اشتياقه نحو المخلص وطول انتظاره لمجيئه وتمتعه بتعزياته يشعر المرتل بالمرارة التي تحل به بسبب مؤامرات الأشرار وافتراءاتهم وخداعاتهم، مقارنًا بين كلماتهم المهلكة وكلمة الله الواهبة الحياة.

"كم هي أيام عبدك؟!

متى تصنع لي حكمًا من الذين يضطهدونني؟!" [84]

v     الذين يضطهدون المؤمنين هم الشياطين، يحاربوننا إما بواسطة الناس أو بدونهم، فيلتمس النبي من الله طالبًا كسر قوتهم وإخضاعهم تحت أقدامنا.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     هذه هي كلمات الشهداء في الرؤيا (10:6،11)، فقد طُلب منهم طول الآناة حتى يتم عدد رفقائهم.

"كم هي أيام عبدك؟" يسأل جسد المسيح بخصوص عدد أيامه، ماذا تكون في هذا العالم. هذا لا يفترض توقف وجود الكنيسة هنا قبل نهاية العالم، أو أنها تنسحب منه...

أظهر بالحقيقة أن الكنيسة تبقى على الأرض إلى يوم الدين عندما يحل الآنتقام بمضطهديها. ولكن إن كان أحد يندهش لماذا قُدم هذا السؤال... فقد سأل التلاميذ سيدهم ذات السؤال، وأجابهم: "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات" (أع7:1).

 القديس أغسطينوس

يستدر المرتل مراحم الله بحديثه عن قصر أيام غربته، فإن حياته الزمنية تفنى سريعًا وها هي أحزان العدو بالأكثر تدمرها، لذا يطلب نجدة الله وسرعة تدخله ليرى عجائبه قبل رحيله. إنه يصرخ طالبًا عدل الله ضد عدو الخير وضد أعماله الشريرة.

"تكلم معي مخالفو الناموس بكلام هذيان

لكن ليس كناموسك يا رب" [85].

يرى القديس أغسطينوس أن الكلمة اليونانية المترجمة "هذيان" يترجمها البعض "الملذات"، بمعنى أن مخالفي الناموس يدخلون في مناقشات تحمل نوعًا من اللذة الفكرية.

v     يضيف: "لكن ليس كناموسك يارب" [85]، لأن ما يبهجني هو الحق لا الكلمات.

 القديس أغسطينوس

v     لكي يضطهدونني يروون لي قصصًا مبهجة، أما أنا ففضلت ناموسك عنها، "لأن كل وصاياك هي حق"، أما مناقشاتهم فتحمل بطلانًا متزايدًا. لهذا يضطهدونني باطلاً، إذ لا يضطهدون فيّ إلاَّ الحق.

إني محتاج إلى عونك كي أجاهد من أجل الحق حتى الموت. هذه هي وصيتك، وهي أيضًا الحق.

 القديس أغسطينوس

يحاول العدو أن يخدعني بكلام هذيان، أيضًا يغويني بالملذات، لكن المرتل يدرك أن لذته الحقيقية هي في ناموس الرب.

v     تطلع أيها الرب إلهي، أين هي لذتي؟ يخبرني الأشرار عن الملذات، لكن ليست هناك لذة مثل ناموسك يارب!1.

 القديس أغسطينوس

v     الهذيان هو أقوال العالم وتعاليم اليهود التي اتخذوها من تقليدات بشرية (تخالف الكتاب المقدس) وتفاسير الهراطقة، وكتب غير المؤمنين، هذه كلها لا نفع منها ولا خلاص مثلما في ناموس الله...

لقد طرد اليهود ربنا يسوع المسيح ورسله القديسين، وطرد غير المؤمنين المسيحيين، لا بسبب سرقة أو فسق أو ظلم أو قتل أو شئ آخر يوجب الموت، وإنما لأجل كلامهم بالحق. هذا عمل ظلم ونفي للحق...

كاد الأشرار أن يفنوا حياتي ويجعلونني مولعًا بالأرضيات، أما أنا فلم أبرح عمل وصاياك.

أنثيموس أسقف أورشليم

"لأن كل وصاياك هي حق.

وبظلم طردوني فأعني" [86].

"عما قليل أفنوني على الأرض.

وأنا فلم أرفض وصاياك" [87].

v     تمت مذبحة عظيمة للشهداء وهم يعترفون بالحق ويشهدون له. وإذ لم يحدث هذا باطلاً يضيف: "أعني، وأما أنا فلم أترك وصاياك".

 القديس أغسطينوس

لقد أدرك المرتل أن طريق الرب مملوء متاعب. يثيره العدو ناكرًا العناية الإلهية لكي يلقيه أرضًا أو يفنيه تمامًا، لكن لم يرفض المرتل وصايا الرب التي تحول اضطهادات الأشرار له إلى أكاليل مجد.

عبارات النبي هذه يرددها كل مؤمن في صلاة نصف الليل، لأنها كلمات تمس الواقع اليومي للإنسان التقي الذي لا يكف العدو عن مقاومته بكل الطرق، سواء كان شابًا أو شيخًا، رجلاً أو امرأة!

3. كرحمتك أحيني

فم الأشرار يخرج هذيانًا غايته قتل نفسي وإهلاكها أبديًا، أما فم الله فيقدم لي شهادات واهبة الحياة. لهذا يقول المرتل:

"نظير رحمتك أحيني،

وأحفظ شهادات فيك" [88].

v     ليس لله البرئ من الحسيات فم، لكن لما تجسد ربنا يسوع المسيح صار له فم ناطق. إذن شهادات فم الله هي أوامر الإنجيل المقدس المنطوق به منه. وأيضا الآنبياء والرسل والمعلمون هم فم الله، لأنهم يتكلمون كلامه بجهاد.

أنثيموس أسقف أورشليم

هكذا يختم المرتل حديثه المملوء مرارة من جهة متاعب الأشرار له بالفرح والرجاء، مختبرًا مراحم الله الواهبة الحياة، ومتذوقًا كلمة الله الحية الثابتة.

سرّ الرجــاء

تحولت حياة المرتل إلى زقٍ، وكادت الضيقات تحطم نفسه، لكن رجاءه في الرب أشرق بالنور في حياته، فتحولت مرثاته المرة إلى تسبحة مفرحة:

1. أنه لن يقبل الخلاص إلا من الله وحده... وقد تاقت نفسه إلى هذا الخلاص الذي ليس فقط ينجيه من الضيق وإنما يكشف له عن حب المخلص وأسراره [81].

2. الخلاص قادم على الأبواب، فإن الله وعد به، وهو يعطيه إن سألناه إياه، وتمسكنا بكلمته، دون أن نحدد له أوقاتًا.

3. يعلن المؤمن عن رجائه في الخلاص بكل كيانه، فاللسان يكشف عن اشتياق النفس، والدموع تنطق بما يعجز اللسان عن النطق به، ويتحول لسان جسده ونفسه إلى صلاة مرتفعة نحو السماء تعلن ثقتها في الله مخلصها.

4. يبذل عدو الخير كل قوته لتحطيم المؤمن وإفنائه تمامًا، أما المؤمن فلا ينحرف عن وصية الرب مطمئنًا أن كل محارباته تتحول إلى أمجاد.

5. لا يتوقف عدو الخير عن السخرية بالمؤمن لتحطيم كل رجاء فيه، ولا تتوقف كلمة الله عن تقديم الحياة له.

V V V


 

من وحي المزمور119(ك)

وعودك تملأ نفسي بالرجاء المفرح

v     إذ تحوط بي التجارب من كل جانب،

أصير كزقٍ من جلد الحيوان الميت في وسط الدخان،

يملأ الدخان الخيمة فأختفي عن الآنظار،

أصير نكرة،

ليس من ينظر إليّ،

ولا من يهتم بي.

لكن وعودك الإلهية صادقة، تملأ نفسي رجاء عظيمًا،

وتفتح لي باب الخلاص.

v     إذ تشتد بي الضيقة جدًا تتطلع عيناي إليك وحدك.

لقد طال انتظاري وذبلت عينايْ،

لكن الخلاص قادم حتمًا!

متى تعزيني؟

فإن الرجاء فيك أكيد!

متى ترفع عني التجارب ولو مؤقتًا؟!

أو متى تأتي لتدين العالم وينتهي العالم بآلامه؟!

حقًا إن الوقت مقصر،

ولكل شيءٍ زمان عندك يا ضابط الكل!

v     إذ يعجز لساني عن التعبير،

تنطق عيناي بالدموع والذبول.

صوتها أسرع وأعظم من صوت الفم واللسان!

عيناي تصرخان مع المرتل ومع الشهداء:

كم هي أيام عبدك؟

متى تصنع لي حكمًاضد إبليس وملائكته، الذين يضطهدونني.

لتسرع، فإن العدو يريد تحطيم أيام غربتي القصيرة!

v     يحاول العدو أن يجتذبني إلى كلمات هذيان برَّاقة،

لكن لا أشعر بلذة إلا في ناموسك.

يريد أن يلهب قلبي بمحبة الأرضيات،

لكنني لن أبرح وصاياك!

كلمات العدو جّذابة لكنها مهلكة لنفسي،

أما كلمتك فحازمة، لكنها واهبة الحياة!

v     يحاول العدو أن يحطم كل الرجاء فيّ، ساخرًا بي،

لكنك تحدثني بفمك خلال الآنبياء والرسل،

بل جاء كلمة الله نفسه يحدثني بلغة الحب على الصليب،

فتح لي باب الرجاء المفرح على مصراعيه!

<<

 


 

12 - ل

 

كلمتك دائمة في السموات

[89 - 96]

إذ تحدث عن هذيان الأشرار - الذين يطلبون افناءه على الأرض - كظلمة قاتلة للنفس يقدم لنا كلمة الله الواهبة الحياة، بكونها الكلمة الثابتة في السموات والمتسعة بلا حدود، تعطي النفس استقرارًا داخليًا، وحياة سماوية مع اتساع حب بلا حدود، إنها تناسب كل العصور، كما يمكن أن تمس حياة كل إنسان.

1. كلمة الرب ثابتة سماوية.89.

2. كلمة الرب تناسب كل الأجيال.90.

3. كلمة الرب تناسب كل بشرٍ.91.

4. كلمة الرب تناسبني شخصيًا.92-95.

5. كلمة الرب واسعة جدًا.96.

1. كلمة الرب ثابتة سماوية

كثيرون يظنون أن العالم كله ألعوبة في يد الأشرار، خاصة المتسمين بالعنف، والمستغلين للسلطة. هذا هو سر أنين الأتقياء عبر الأجيال. لكن المرتل يدرك أن كل خطط الأشرار وعنفهم وممارساتهم لن تدوم، فالباطل ينتهي وتبقى كلمة الرب ثابتة أبدية سماوية:

"يا رب كلمتك ثابتة في السماء إلى الأبد" [89].

من يلتصق بالأشرار ينحدر معهم إلى الباطل، لأنه تخرج روحهم فيعودون إلى ترابهم، أما من يلتصق بكلمة الرب فينعم باستقرار داخلي وحياة سماوية مع خلود أبدي.

حين عصى آدم الوصية عزل نفسه عن كلمة الله ففقد بهجته، وحياته الفردوسية، وصارت أرضه تنبت له شوكًا وحسكًا، وسمع الحكم الإلهي: "من تراب وإلى تراب تعود". لكن جاء آدم الثاني، السيد المسيح، كلمة الآب الأبدي، حتى نتحد به، نحمل طاعته (عب5:5)، فنشاركه طبيعته الإلهية، نجلس معه في السمويات (أف 6:2)، وننعم بشركة أمجاده الأبدية.

يرى العلامة أوريجينوس أن كلمة الله تدوم في السماء إلى الأبد، لأن السمائيين يسلكون بنظام دقيق للغاية وضعه كلمة الله، لا ينحرفون عنه. أما بالنسبة للأرض فإن النظام الكوني يخضع لكلمة الله، بينما ينحرف الشرير عما وضعه له الكلمة حيث يمارس الزنا والنجاسة والشهوات الأخرى، فلا يكون لكلمة الله موضع فيه، "لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟!" 2كو 14:6.

من تصير سيرته في السماء، وإن بقي بجسده على الأرض يسكنه كلمة الله.

ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن المرتل يتحدث هنا عن النظام الكوني، خاصة الأفلاك السماوية وخضوعها لكلمة الله بكون الخليقة كلها "عبيده" [96].

رأينا في الفقرات السابقة [81-88] كيف عانى المرتل من كلمات الأشرار الذين لا يطلبون أقل من إفناء حياته على الأرض. لا يروق لهم حرمانه من العرش فحسب بل يتآمرون على قتله. الآن وقد اختبر وسط هذا المرّ إمكانية وعود الله وكلمته تهلل قلبه طربًا بالرب. عرف المرنم الحلو أن يجد وسط تيارات العالم المهلكة صخرة الحق التي يقفز إليها ويحتمي فيها فلا يتزعزع! لتمارس التيارات المهلكة عملها حسبما تريد فإنها لن تقدر أن تحرك صخرة كلمة الله التي يتحصن المرتل فيها. لم تعد تكل عينا المرتل ولا تصرخ شفتاه ولا يصير كزقٍ يتشقق... وإنما يستريح على الصخرة ليضرب بروح الحق على قيثارة نفسه سيمفونية الحب والإيمان والرجاء. ليدرك أنه لن تخور قواه بعد ولا يكل، لأنه عوض الآنشغال بالتيارات التي حوله يتهلل بالملكوت الإلهي الذي في داخله، ويشترك مع السمائيين في تسابيحهم.

وها هو يشهد المرنم الحلو أن ما يختبره لا يخصه وحده، إنما هي خبرة الأجيال كلها في معاملاتها مع الله. هي خبرة كل جماعة المؤمنين في كل عصر، كما هي خبرة شخصية يتذوقها كل مؤمن في حياته الخاصة.

v     إذ التهب بالاشتياق نحو أورشليم السمائية، تطلع إلى أعلى الممالك العلوية وقال: "يارب كلمتك دائمة في السموات إلى الأبد"، أي دائمة بين الملائكة الذين يخدمونك أبديًا في جيوشك بدون توقف.

 القديس أغسطينوس

هذا وكلمة الرب أبدي:

v     تحرك داود ليقول: "يا رب، كلمتك باقية إلى الأبد في السماء" [89]، لأن ما يبقى لا ينتهي وجوده حتى الأبدية1.

القديس إمبروسيوس

v     كلمة الله هو بعينه واحد، وقد كُتب: "كلمة الله ثابتة إلى الأبد" [89]. إنه لم يتغير لا من قبل ولا فيما بعد بل يبقى كما هو دائمًا. فإنه يليق بالله الذي هو واحد أن تكون صورته واحدة، وكلمته واحدة، وحكمته واحدة2.

v     لم يُكتب في الكتاب المقدس "بكرالله" ولا "خليقة الله"، بل "الابن الوحيد"، "الابن" و"الكلمة" و"الحكمة" لتشير إليه في علاقته بالآب3.

البابا أثناسيوس الرسولي

2. كلمة الرب تناسب كل الأجيال

"وإلى جيل فجيل حقك،

أسست الأرض فهي ثابتة" [90].

تعمل كلمة الرب فينا نحن الأرض، فيهبنا الثبات فيه، وهو أساس بنياننا الروحي! يحول أرضنا الجافة التي تنبت شوكًا وحسكًا إلى أرض جديدة، تصير أيقونة السماء.

كلمة الرب تناسب كل العصور، لا تشيخ ولا تقدم، لأن مواعيد الله ثابتة. الكلمة تناسب كل جيل بكونها "حق الله" أو "الحق" الذي لا يتغير. قُدم الحق خلال الظلال والرموز في العهد القديم، وجاء في ملء الزمان مُعلنًا بالتجسد الإلهي، لنتأسس نحن فيه كما على الصخرة، لا يقدر الزمن أن يفسدنا.

v     "وإلى جيل فجيل أمانتك (حقك)"...

لقد نزع الجيل الأول (اليهود رافضوا المسيح) الأمانة (الحق)، قائلاً: "ارفع، ارفع من الأرض مثل هذا" (راجع أع 22:22)، فانتقلت الأمانة من جيل إلى جيل آخر. على هذا الجيل تأسست الأرض، على حجر الزاوية المُلقى كأساس، وقد قاد (هذا) الجيل جميع المخلصين الذين على الأرض، لهذا صارت "الأرض ثابتة"، إذ لها أساس أو قاعدة صلبة لا تتزعزع.

 العلامة أوريجينوس

3. كلمة الرب تناسب كل بشر

كلمة الرب ليست فقط تناسب كل الأجيال، وإنماتناسب كل البشرية في ذات الجيل، أيا كانت جنسياتهم أو ثقافتهم أو جنسهم الخ.

"على ترتيبك يثبت النهار،

لأن كل البرايا عبيد لك" [91].

v     لا يفلت شيء من سلطان الله، إذ يقول الكتاب: "لأن كل الأشياء تتعبد لك" [91]. الكل سواء كخدم لله...

 واحد فقط وحده هو ابنه الوحيد، وواحد هو روحه القدوس، كلاهما مستثنيان. أما الباقي فجميعهم يخدمون الله بالابن الوحيد في الروح القدس.

إذن الله يحكم الكل، وبطول أناته يحتمل حتى المجرمين واللصوص والزناة، محددًا وقتًا معينًا لمجازاة كل أحدٍ. لكن إن أصرَّ من يحذرهم على عدم التوبة من القلب ينالون دينونة عظيمة1

القديس كيرلس الأورشليمي

v     قد أسس الله الأرض، أي الأرضيين الذين آمنوا بالسيد المسيح الإله المتأنس، أسسهم على هذا الحق، أي على نفسه الذي هو "الحق"، مبنيين عليه كما على صخرة ثابتة. وبإشراقه وظهوره على الأرض متجسدًا رتب نهارًا مضيئًا للمؤمنين، لكن ليس مثل النهار الذي تصنعه الشمس الحسية، لأن النهار الحسي يعقبه ليل ويزول. أما النهار الذي رتبه ربنا يسوع المسيح شمس العدل فيثبت ويدوم.

في هذا الدهر تكون إنارته بالرموز والرسوم، أما في الدهر الآتي فيكون جهارًا وعلانية. ويتمتع المؤمنون بنهارٍ أبديٍّ وفرحٍ لا يعقبه ليل، وأما لغير المؤمنين فتكون ليلة أبدية لا نور لها. كافة البشرية خاضعة لسيادة الله.

  أنثيموس أسقف أورشليم

v     اليوم الذي صنعه الحق (مز24:118) منير، لأن الله نفسه قد أناره. هذا اليوم يثبت ويدوم بنفس الأمر (مؤسس على المسيح رأس الزاوية)، لا يتغير، ولا نهاية له...

v     إذ يكون المراد هو الزمن الجديد، النهار المقبل حيث "يكون الرب لك نورًا أبديًا، وإلهك يكون فجر الأبرار" إش 19:60. إذن فالنهار قائم، ولا تغرب شمسك من بعد، أي شمس الظهيرة (عاموس 9:8).

أما على الأرض فليس الكل أبرارًا. لا يوجد نهار دائم ولا ليل دائم.

حينما يتم الفصل بين الأبرار والأشرار حينئذ يكون الليل للأشرار حيث يلقون في "الظلمة الخارجية" مت 12:8. ويكون النهار للأبرار، حيث يدوم النهار، ولا يعقبه ليل. عن هذا النهار على ما أظن يقول: "يثبت النهار، لأن كل البرايا عبيد لك" [91].

 العلامة أوريجينوس

v     "والنهار (اليوم) أيضًا ثابت" [91].

كل هذه الأشياء هي يوم (نهار): "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنبتهج فيه" مز14:118. "لنسلك بأمانة كما في النهار" رو13:13.

"لأن كل الأشياء متعبدة لك" [91]. يقول "كل" على "البعض"، لأن كل ما ينتمي إلى الليل (هو5:4 LXX) لا يتعبد له.

 القديس أغسطينوس

بقوله: "لأن كل البرايا عبيد لك" [91] يؤكد المرتل أنه يليق بكل المخلوقات أن تخضع لكلمة الرب بكونها عبيد الرب. كل الخليقة السماوية والأرضية تخدم الله في النظام الموضوع لها ليحقق أهدافها، فهل يبقى الإنسان وحده ثائرًا ضد الله وعاصيًا خالقه؟ فكيف لا نقبل نحن المؤمنون ناموسه؟! لنخضع لكلمته ونقبل أحكامه ونخدمه بكل قلوبنا فنثبت إلى الأبد!

4. كلمة الرب تناسبني شخصيًا

إن كانت كلمة الرب تناسب كل الأجيال، وتناسب كل بشر، فهي تناسبني أنا شخصيًا. هذه هي مشاعر المرتل الذي مرّ بمرحلة قاسية حيث كاد اليأس أن يحطمه تمامًا، فجاءت كلمة الله ترد له الرجاء، إذًا يقول:

"لو لم تكن شريعتك تلاوتي،

لكنت حينئذ هلكت في مذلتي.

إلى الدهر لا أنسى حقوقك،

لأنك بها أحييتني" [92،93].

في وسط الضيق أتلو كلماتك وأذكر وعودك، فتنكشف لي أحكام عدلك وأحب حقوقك. هي سندي الشخصي وسط آلامي وذلي، عوض اليأس تمتعت ببهجة الرجاء. إنها رفيق ممتع ومعزي للنفس.

حين ينساني الكل، لا أنسى أنا حقوقك، وحقوقك لا تنساني! بالوصية الإلهية يُنتزع عني الشعور بالعزلة وسط متاعبي، وأتمتع بالحياة (لا 5:18).

v     لقد قلت أن وقت التجارب والشدائد يُسمى "مذلة"، فطوبى لمن يُوجد في المذلة ولا يهلك.

مثلاً، إذا دخلت في تجربة الاستشهاد... وكانت شريعة الله هي تأملي على الدوام، وأتمرن عليها، فإنني إذ أبلغ هذه المذلة لا أهلك، مهما كانت (نهاية) تجربة الاستشهاد. ويمكننا أن نقول ذات الشيء عن أية تجربة أخرى.

أيضًا عندما تحاربني الأفكار الشريرة والقوات المعادية أهلك ما لم تكن شريعتك هي عوني...

v     "لو لم تكن شريعتك تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي" [92]... هذه هي شريعة الإيمان، وهو ليس إيمانًا باطلاً، بل العامل بالمحبة (غلا6:5). خلال هذه النعمة يُقتنى (الإيمان) فيجعل الناس شجعانًا في الآلام الزمنية لكي لا يهلكوا في مذلة الأمور الزمنية.

 القديس أغسطينوس

v     حسب قول الرسول: فالناموس إذًا كان مؤدبنا يرشدنا إلى المسيح... من كان له الناموس مرشدًا حتى يبلغ ملء الزمان (غلا4:4)، حينما يتخلص مما هو للطفل ويبطله (1كو 11:13)، مثل هذا ليس بفاسدٍ ولا جاحدٍ.

يقول المرتل: "إلى الدهر لا أنسى حقوقك، لأنك بها أحييتني". سأحفظ ذكرى تعاليمك التي تسلمتها منك، هذه التي تعلمتها هنا على الأرض، وبها انتقلت من الأرض إلى السماء، وصرت ساكنًا مع الملائكة.

 العلامة أوريجينوس

v     برعاية الطبيب يستعيد (المرتل) صحته بعد معاناته من مرض خطير. إنه لا ينسى (وهو في كامل صحته) الدواء الذي أدى به إلى الشفاء. هكذا يحيا المرتل بواسطة حقوقه التي أخذها منه، معلنًا أنه لا ينساها إلى الدهر، مقدمًا السبب وهو أنه بها أحياه الله.

 القديس ديديموس الضرير

v     أنظروا كيف أنه لم يهلك في اتضاعه، لأنه مالم يحييه الله يمكن لإنسان ما أن يقتله ولا يقدر أن يحييه.

 القديس أغسطينوس

يكمل المرتل حديثه مع الله عن خبرته الشخصية مع أعماله الإلهية، قائلاً:

"لك أنا فخلصني،

لأني لحقوقك طلبت.

إياي انتظر الخطاة ليهلكوني،

ولشهادتك فهمت" [94،95].

إذ يدخل المرتل في علاقة شخصية مع الله يقول له "لك أنا"، فلا يقوم خلاصي على أعمال بري ولا جهادي الذاتي، وإنما على عملك الإلهي، إذ تقتنيني لك، أكون نصيبك وأنت نصيبي... خلال هذه الشركة القائمة على الحب الحق اشتهي حقوقك. عندئذ لا أبالي بترقب الأشرار وتخطيطهم لهلاكي، إنما انشغل بالأكثر بالتمتع بالمعرفة والفهم لشهاداتك.

v     إنه كمن يقول: لقد أردت أن أكون أنا لذاتي ففقدت نفسي.

إنه يقول: "لك أنا فخلصني، إذ طلبت برك"، لم أطلب رأيي الذاتي، الذي به كنت أنا لذاتي لا لبرك، والآن فأنا ملكك.

 القديس أغسطينوس

v     من يرتب أعماله وأقواله حسب شريعة الله، ويطلب حقوق الله، يحق له أن يقول "لك أنا فخلصني". بطبيعتي أنا عبدك، وبنعمتك أنا ابنك. حسب عمل وصاياك أنا خادمك، وحسب احتمالي مصادمات الأعداء المنظورين وغير المنظورين أنا جندي لك... فخلصني من الهلاك الذي انتظروا أن يلحقوني به، وذلك لأني لحقوقك طلبت، ولشهادتك عرفت.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     انتظرني الأشرار لكي يسلمونني للموت، أما أنا فكنت منشغلاً بشهاداتك، فاقتنيت الحياة العتيدة من هنا.

 الأب ثيؤدورت

v     إن تأملنا العبارة بدقة نرى أن الهلاك هو البُعد عن الله، فإنه ليس للقوات المعادية مأرب آخر غير هلاكنا. حين ترقبوني لإهلاكي فهمت شهاداتك ولم ابتعد عنها.

 العلامة أوريجينوس

5. كلمة الرب واسعة جدًا

ارتباطي بالوصية على مستوى شخصي يدخل بي إلى كمالٍ لانهائي، فالكلمة الثابتة السماوية تحول القلب إلى سماء لا تعرف حدودًا.

"لكل تمام رأيت منتهي،

أما وصاياك فواسعة جدًا" [96].

لقد قدم لنا النبي خبرته،

فقد رأى جليات الجبار الذي أذل جيشًا باكمله يسقط بضربة مقلاع؛

ورأى الحكيم المشير أخيتوفل يقدم مشورة فاسدة لابشالوم،

وابشالوم القوي والجميل الصورة معلقًا على شجرة ومحتقرًا...

هذه هي كمالات العالم ومجده؛ إنه كالعشب سرعان ما يزول. أما كلمة الرب فباقية إلى الأبد، وكما يقول الرسول بطرس: "كل مجد إنسان كزهر عشبٍ، العشب وزهره سقط؛ وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد" 1بط25:1.

يقول القديس باسيليوس إن وصية محبة الله وقريبنا وعدونا وصية واسعة بلا حدود، لأنها تشمل الكل، فهي تحوى مجموع كل كمالاتنا وهي الاختيار الذي يتوجها.

 

v     الحب هو اتساع الوصية.

 القديس أغسطينوس

v     لكل فضيلة رأيت منتهي:

فالعفة منتهاها ضبط الشهوات،

والعدل منتهاه إعطاء كل أحدٍ حقه...

والرجولية منتهاها الشجاعة والتجاسر على الأهوال.

كل شيء له نهايته، أما الصالحون فنهايتهم ملكوت الله!...

رأيت وصيتك واسعة جدًا؛ وإن كان الطريق المؤدي إلى الخلاص ضيق، لكن وصيتك توسعها للذين يحفظونها، وتجعلهم شجعانًا وأقوياء، ونهايتها فسحة فرحة منيرة.

أنثيموس أسقف أورشليم

كلمة الرب ثابتة وسماوية

1. العالم ليس ألعوبة في يد الأشرار، إنما يضبطه خالقه، أي "الكلمة الإلهي".

2. الكلمة الإلهي يحول أرضنا المنبتة شوكًا وحسكًا، أي جسدنا الشهواني إلى سماء مفرحة، حيث يتقدس الجسد لحساب ملكوت الله.

3. كلمة الرب مقدمة لكل الأجيال، بل ولكل إنسان، ليختبرها المؤمن في علاقة شخصية مع الله.

4. العالم وكل المخلوقات تخضع في ولاء لكلمة الرب... أفلا يليق بنا أن نقبل نحن المؤمنون ناموسه؟!

5. كلمة الرب واهبة الحياة، ولاتساعها لا حدود!

 

V V V


 

من وحي المزمور 119 (ل)

كلمتك تبدد هذيان العدو!

v     يظن عدو الخير أنه صاحب سلطان عليّ،

تارة يهددني وأخرى يحاول أن يغويني بكلام هذيان.

أما أنا فأتمسك بكلمتك التي تبدد هذيانه!

v     كلمتك ثابتة في السموات، يتمتع بها السمائيون،

التصق بها، فأثبت بها إلى الأبد،

وأنعم ببهجتها لأصير سماويًا!

v     وعود إبليس وجنوده باطلة وزمنية،

من يلتصق بها يصير باطلاً!

بسببه قيل لي:

أنت تراب وإلى تراب تعود!

الآن اسمعك تقول لي:

أنت سماء وإلى سماءٍ تعود!

v     تبقى كلمتك عاملة عبر الأجيال.

رفضها اليهود حين صلبوا كلمة الله المتجسد،

وتلقفتها الأمم إذ آمنت بالصليب!

انفتح باب الكلمة أمام كل بشرٍ!

v     أشرق نور الكلمة، شمس البر، على كل البرايا.

فتحول ليلهم إلى نهارٍ ثابت لا يعقبه ليل.

هذا هو النهار (اليوم) الذي صنعه الرب،

لأفرح وابتهج فيه،

كل ما في داخلي يتهلل متعبدًا لك!

<<

 


 

13- م

 

كلماتك حلوة في حلقـــي

[97 - 104]

لما كانت كلمة الرب ثابتة في السمويات، تناسب كل الأجيال وكل العصور وكل الأشخاص، يتمتع بها المؤمن في علاقة شخصية لتدخل به إلى اتساع السماء ورحبها، لذا يجد فيها عذوبة خاصة وحلاوة افضل من العسل.

1. الوصية العذبة وأيضًا تلاوة اسم الله.97.

2. الوصية العذبة والحكمة الأبدية.98-100.

3. الوصية العذبة والجهاد.101-102

4. يا لعذوبة الوصيــة! 103.

5. عذوبة الوصية وكراهية الظلم.104.

1. الوصية العذبة وأيضًا تلاوة اسم الله

إن كانت الوصية عذبة فسرّ عذوبتها هو ارتباطنا بالله واستعذابنا لاسمه المحبوب الذي لا نتوقف عن تلاوته كل نهار حياتنا.

"محبوب هو اسمك يا رب،

فهو طول النهار تلاوتي" [97].

إذ نلتصق بكلمة الرب، شمس البر تتحول حياتنا إلى نهارٍ دائمٍ بلا ليل، فنطرح عنا أعمال الظلمة ونتمتع بتلاوة اسمه القدوس كسلاح النور الذي لا تقدر الظلمة أن تجابهه.

إننا لسنا نوقر الوصية فحسب وإنما نحبها أيضًا، لذا نقبلها في حياتنا لتهبنا الشركة في سمات القدوس. ونحن أيضًا لا نكرم اسم الله فحسب وإنما نحبه ونلهج فيه كل أيام حياتنا بكونه علامة حضرته فينا وحضورنا قدامه، نتمتع دومًا بمعيته.

لم ينشغل داود النبي بعرشه ولا بمشاكله ولا بأموره الأسرية، إنما في كل شيء وتحت كل الظروف ينعم بحضرة الله وينشغل باسمه القدوس العذب ووصيته المبهجة. مع مرور الزمن يزداد بالأكثر تعلقًا بالله ويشتاق إلى أعماق جديدة في شركته معه.

2. الوصية العذبة والحكمة الأبدية

بالتصاقنا بكلمة الله المتجسد تحولت حياتنا إلى نهارٍ دائمٍ، وصار اسمه حلوًا في أفواهنا، أما قادة اليهود فحملوا روح عداوة ضد السيد المسيح وكل خاصته، فاظلمت عيونهم عن معرفة الحق. كان يجب أن يكونوا معلمي المسكونة عن السيد المسيح، لكنهم رفضوه، أما الأمم فقبلته وتمتعت بحكمته الأبدية ونالت استنارة البصيرة. صار اليهود أعداءً للمؤمنين الذين من أصل أممي مع أنه كان يجب أن يكونوا معلمين وشيوخًا.

"علمتني وصاياك أفضل من أعدائي

لأنها ثابتة إلى أبد الأبد.

أكثر من جميع الذين يعلمونني فهمت،

لأن شهاداتك هي درسي.

أكثر من الشيوخ فهمت،

لأني طلبت وصاياك" [98-100].

ربما لم يكن يحمل داود كتابه المقدس في يديه منذ صباه، لكنه حمله في فكره كما في قلبه، فكانت الوصية الإلهية هي سنده وسرّ حكمته حين كان يرعي غنم أبيه في صباه، وهي معلمه حينما دهنه صموئيل النبي ملكًا في الخفاء، وكانت ترافقه كل أيام غربته. ارتبط بمدرسة الوصية في كل مراحل حياته، لهذا كان ينمو في الحكمة والنعمة. أحب الحق الإلهي الذي نقى قلبه وفكره، فصار أكثر من كل الشيوخ فهمًا. ليس في هذا إهانة للشيوخ بل فيه فرحهم ومجدهم، أن يسبقهم تلميذهم في المعرفة. فالمعلم الصالح الحيّ يريد أن يسبقه تلاميذه في كل شيء!

v     "علمتني وصاياك أفضل من أعدائي"...

لأنه بالحقيقة كان "لهم غيرة الله ولكن ليس حسب المعرفة" رو2:10، أما المرتل فكان يفهم وصية الله أكثر من أعدائه، هذا الذي أراد أن يُوجد مع الرسول القائل: "ليس لي بري الذي من الناموس بل الذي بإيمان المسيح، البرّ الذي من الله بالإيمان" في9:3. ليس أن الناموس الذي يقرأه الأعداء ليس من الله، إنما هم لا يفهمونه كما يفهمه هو أكثر من كل أعدائه، مرتبطًا بالحجر (المسيح) الذي تعثروا فيه، "لأن غاية الناموس هي المسيح" رو4:10، لكيما يتبرروا مجانًا بنعمته (رو4:3)، ظانين أنهم يطيعون قانون قوتهم الذاتية. لذلك وإن كانوا يتمسكون بناموس الله إلاَّ أنهم يسعون إلى إقامة برّهم الذاتي. إنهم لا يسلكون كابناء للموعد، يجوعون إلى البرّ ويعطشون إليه (مت6:5) سائلين وطالبين وقارعين الباب (مت11:7)، متوسلين من الآب ليتمتعوا بالبنوة خلال الابن الوحيد... بل يطلبوا المكافأة الزمنية من نفس الوصية (التي خلالها يتمتع المرتل بالبركات الإلهية).

 القديس أغسطينوس

v     "أكثر من جميع الذين يعلمونني فهمت، لأن شهاداتك هي درسي"...

من هو هذا الذي له فهم أكثر من كل معلميه؟

إنني أسأل: من هو هذا الذي يتجاسر ويفضل نفسه عن كل الآنبياء، الذي ليس فقط بالكلام علَّم بسلطانٍ عظيمٍ هكذا الذين عاش معهم، وأيضًا الأجيال المتعاقبة بكتاباتهم؟...

ما قد قيل هنا لا يمكن أن يكون عن شخص سليمان...

إنني أعرفه بوضوح ذاك الذي يفهم أكثر من كل الذين يعلمون، فإنه إذ كان صبيًا في الثانية عشرة من عمره بقي يسوع في أورشليم ووجده والداه بعد ثلاثة أيام (لو 42:2-46). قال الابن: "كما علمني أبي أنطق بهذه الأمور".

من الصعب جدًا أن نفهم هذا عن شخص الكلمة، ما لم ندرك أن الابن المولود من الآب... "أخذ شكل العبد" (في 33:5-36)، فإنه إذ اتخذ هذا الشكل، ظن من هم أكبر منه سنًا أنه يجب أن يتعلم كصبي، لكن ذاك الذي علَّمه الآب له فهم أكثر من كل معلميه، لأنه درس شهادات الله الخاصة به، وهو يفهمها أكثر منهم عندما نطق بالكلمات: "أنتم أرسلتم إلي يوحنا فشهد للحق، وأنا لا أقبل شهادة من إنسان" (يو 33:5، 34).

القديس أغسطينوس

v     "أكثر من الشيوخ فهمت، لأني طلبت وصاياك"... إن كنا مهتمين أن نبحث في الإنجيل عن تعبير "الشيوخ" الذي يفهم (السيد) أكثر منهم، نجد ذلك عندما قال له الكتبة والفريسيون: "لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ؟ فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا" مت 2:15. أنظروا تعدي تقليد الشيوخ الذي اعترض  (المسيح) عليه. لنسمع إجابة هذا الذي هو أحكم من الشيوخ: "وأنتم أيضًا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم؟" مت3:15.

القديس أغسطينوس

v     إننا نفهم نحن المؤمنون وصايا الله أكثر من اليهود، لأن ربنا يسوع المسيح حكَّمنا بروح قدسه لكي نفهم روح الكتاب. هم فهموا ظاهره وجسده... أما نحن المؤمنون فقد تمسكنا بفحواه ومعانيه الروحية التي تدوم لنا إلى الأبد.

دعاهم النبي أعداء، لأنهم يعادوننا ويبغضوننا ويلعوننا، أما نحن فنحبهم، ونصلي من أجل خلاصهم، ونباركهم كما أمرنا الرب.

الذين سبق فدعاهم النبي أعداء يدعوهم أيضًا معلمين، لأنهم أؤتمنوا على أقوال الله قبلنا، وهي شريعته. وكان عندهم موسى والآنبياء. ومن هذه الأسفار الإلهية اتخذنا نحن العلم، وفهمنا أكثر منهم، إذ قبلنا شهادات ربنا يسوع المسيح وندرسها على الدوام.

كان عيسو أكبر من أخيه يعقوب؛ وأما بركة أبيهما إسحق فكانت عتيدة أن تكون للأكبر. ولكن لما طلب منه إسحق طعامًا، خرج إلى البرية ليصطاد ويفترس مثل الوحوش. هكذا كان الإسرائيليون (كشيوخ)  أكبر منا نحن الأمميين؛ وكان مقامهم مقام شيوخ مختبرين. وكانت البركات مُعدة لهم، لأن الشرائع والآنبياء أُعطيت لهم. ولكنهم راموا أن يرضوا الله بسكب دماء حيوانية مثل الوحوش، فعندما خرجوا من بيت أبيهم الله أب كافة البشرية، تزينا نحن بمشورة أمنا الكنيسة المقدسة متجملين بالأسفار الإلهية التي كانت حلتهم وزينتهم، وتوشحنا بجلد الحمل الذي ذُبح لأجلنا، أعني بإيمان ربنا يسوع المسيح، وتقدمنا إلى أبينا ليهدينا، وأخذنا البركة وأوائل البكورية. أما هم فاعتزلوا منها، وصاروا في ويلٍ وأسفٍ وعبوديةٍ للشيطان إلى أن يرجعوا إلى الله بالتوبة والإيمان...

أنثيموس أسقف أورشليم

إذن تهب الوصية معرفة وعلمًا وحكمة، وكما يقول السيد المسيح: "إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم" )يو 17:7(. بالوصية الإلهية نعرف كيف نمارس البساطة كالحمام لكن بحكمة أكثر مما للحيات (مت 16:10).

يقول المرتل: "أكثر من جميع الذين يعلمونني فهمت"، هذا ليس عن تشامخٍ أو كبرياءٍ، إنما هو اعتراف بعمل الله الذي وهب المرتل حكمة وعلمًا أكثر من معلميه. والمعلم الحقيقي الذي يحمل روح الأبوة يشتهي أن يكون تلاميذه أكثر منه علمًا ومعرفة وحكمة، إذ يفرح كل جيل أن يتقدم الجيل الجديد عليه، وإلا فلا نمو للبشرية ولا بنيان لكنيسة الله. هذا هو التقليد الحيّ الذي يتكئ على الماضي ليمارسه خلال خبرة الحاضر وبلغة العصر ليشهد للإيمان الحيّ في حياة نامية ملتهبة بالروح. هذا التقليد يقوم على كلمة الله التي عاشها الرسل وكل الأجيال التالية لتعيشها كنيسة الحاضر وتقدمها حية بلا انحراف للأجيال المقبلة.

3. الوصية العذبة والجهاد

إن كان قد سبق داود معلميه في الحكمة والمعرفة والفهم، فقد زيَّن هذا لا بالكبرياء والتشامخ، بل بالحذر من كل طريق خبيث، حتى يثبت المعرفة بالحياة المقدسة، مؤكدًا رغبته العملية في قبول ناموس الرب ناموسًا له.

إن كان ارتباطنا الشخصي بالله إلهنا وباسمه القدوس يعطينا عذوبة خاصة في ممارستنا لوصيته التي بدورها تهبنا حكمة سماوية وفهمًا أكثر من قادة اليهود الذين رفضوا الإيمان، فمن جانبنا علينا مقابل هذه المتعة والعذوبة مع الفهم والحكمة أن نجاهد في حفظ الوصية والالتزام بناموس الرب:

"من كل طريق خبيث منعت رجلي،

لكي أحفظ كلامك.

عن أحكامك لم أحِدْ،

لأنك وضعت لي ناموسك" [101،102].

إن كنا قد قبلنا كلمة الله المتجسد، نحن الذين كنا قبلاً أممًا، فمن جانبنا نلتزم أن ننسى كل طريق خبيث ومُخادع، لكي نقبل "الطريق" الواحد الجديد!

سرّ عدم حيدان المرتل عن أحكام الله شعوره بأن ناموس الرب وُضع له خصيصًا، كأنه قد شُكل ليناسبه هو شخصيًا، ويهيئه للحياة الجديدة السماوية. لهذا يقول "وضعت لي ناموسًا".

إذ ارتبط المرتل بناموس الرب أو وصيته منع رجليه من كل طريق خبيث كي يتمم مشيئة الله في حياته ويحفظ ناموسه، وكلما منع رجليه عن الطريق الخبيث اكتشف بالأكثر عذوبة أعماق ناموس الله. وكأن الناموس يدفعه إلى الجهاد، والجهاد يسنده في اكتشاف الناموس.

امتناعنا عن الطريق الخبيث ليس بغية مديح الناس، ولا لنوال مكافأة زمنية، وإنما بغية حفظ ناموس الرب، علامة الطاعة الكاملة لله المحبوب لدينا جدًا.

v     لأن هذا الذي هو رأسنا، مخلص الجسد نفسه، لا يمكن أن يُحمل بأية شهوة جسدية في أي طريقٍ شريرٍ، حتى يكون محتاجًا أن يمنع منه قدميه، ومع ذلك يمكنهم (أعضاء جسده) بحرية إرادتهم أن يسلكوا هكذا.

هذا ما نفعله عندما نمنع أقدامنا عن الشهوات الشريرة، الطريق الذي لا يسلكه هو لكي لا نسلك نحن فيه. بهذا نقدر أن نحفظ كلمة الله، إن كنا لا نسير وراء الشهوات الشريرة (ابن سيراخ 30:17). بهذا لا نطلب الشهوات الشريرة بل نقاومها بالروح الذي يشتهي ضد الجسد (غلا 17:5)، فلا تسحبنا وتغوينا وتلقي بنا في الطرق الشريرة.

القديس أغسطينوس

v     "عن أحكامك لم أحِد، لأنك وضعت لي ناموسًا"... يقرر ما جعله يخاف، حتى منع قدميه عن كل طريق شرير...

أنت أعمق من عمقي نفسه، لقد وضعت ناموسًا في قلبي بروحك، كما بأصابعك، فلا أخاف منه كعبدٍ لا يحمل حبًا، بل أحبه بخوفٍ رقيق كابن، وأخاف بحبٍ رقيقٍ.

القديس أغسطينوس

4. يا لعذوبة الوصية!

تتطلب الحياة الجديدة الجدية والاغتصاب، وامتناع المؤمن عن سلوك كل طريق خبيث ليدخل الطريق الضيق، طريق كلمة الرب المصلوب، ليجد مع الضيقة عذوبة فائقة، فيقول:

"إن كلماتك حلوة في حلقي،

أفضل من العسل والشهد في فمي" [103].

لكلمة الله عذوبة خاصة، أحلى من كل فلسفات العالم ومعرفته وحكمته.

شتان بين من يدرس كلمة الله بطريقة عقلانية بشرية جافة، وبين من يأكلها ليغتذي بها، فيجدها طعامًا مشبعًا وحلوًا، أشهي من العسل والشهد. إنها تعطي عذوبة للنفس، فتحول جفاف قلبنا القاسي إلى عذوبة الحب المتسع والمترفق! كأن كلمة الله في عذوبتها تحول المؤمن إلى الحياة العذبة، فيستعذب الآخرون الشركة معه.

v     إذا أكل إنسان حصرمًا تضرست أسنانه وصارت تعاني من فرط الحساسية فلا يقوى على أكل الخبز، هكذا أيضًا إذا ما اقتات إنسان على دنس هذا العالم بإفراط وانغمس في أحاديث النميمة الباطلة فإنه يحتقر ويرفض الدرس الإلهي الحلو حتى إذا ما قَرأه هذا الإنسان لا يستطيع أن يقول مع النبي: "ما أحلي قولك يارب"1.

v     تبقى حلاوة كلمة الله دائمة فينا شريطة أن نرغب في غرسها في الآخرين بتكرارها وترديدها دومًا بحبٍ كاملٍ متدفقٍ2.

  الأب قيصريوس أسقف آرل

v      أحيانًا يكون لعبارات كتابية عذوبة متزايدة في الفم (مز 103:119) كما يكرر المرء عبارة بسيطة في الصلاة عدة مرات دون أن يشبع منها وينتقل منها إلى عبارة أخرى3.

مار اسحق أسقف نينوى

v     الآن تعليم الحكمة المُعلن يشبه العسل، وكالشهد الذي يُضغط عليه من الأسرار الغامضة كما يُفعل بخلايا الشمع بفم المُعلم كمن يمضغه، فيكون حلوًا في فم القلب لا الفم الجسدي.

  القديس أغسطينوس

v     إنه سحر الحق الذي عبَّر عنه المرتل مؤكدًا ذلك عند قوله: "كم هي حلوة كلماتك لحلقي، إنها أحلى من العسل في فمي".

 القديس باسيليوس

v     صارت كلمات الله حلوة لي مثل عسل الشهد، وصرخت من أجل المعرفة، ورفعت صوتي لأجل الحكمة1.

 القديس غريغوريوس النزينزي

v     أيضًا "اذهب إلى النحلة وتعلم منها مقدار نشاطها". تأمل كيف تنتقل بين كل أنواع الزهور المختلفة لتجمع لك عسلها. هكذا لتنتقل أنت بين الكتب المقدسة وتتمسك بخلاص نفسك، وإذ تشبع منها تقول: "وجدت كلامك حلوًا في حلقي، أحلى من العسل والشهد في فمي" [103]2.

 القديس كيرلس الأورشليمي

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه ليس كل نفسٍ تجد عذوبة في كلمة الله، بل النفس السوية غير المريضة، فإن المريض لا يشعر بطعم الطعام وعذوبته3.

v     مع هذا... لا يعرف البعض حتى أنه توجد كتب مقدسة لانهائيًا. لهذا السبب صدقوني ليس شيء سليمًا، ليس من أمرٍ نافعٍ يصدر عنا4.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ يكتب القديس جيروم عن الأرملة Furia تحدث عن دبورة بكونها النحلة التي تجمع من زهور الكتاب المقدس عسل النحل.

[حسنًا دعيت نحلة (دبورة)، لأنها تتغذى على زهور الكتاب، وكانت تُحاط برائحة الروح القدس الذكية، وتجمع معًا في وحدة مع الشفاه النبوي عصير النكتارين الحلو.5]

5. عذوبة الوصية وكراهية الظلم

إذ يختبر المؤمن عذوبة كلمة الله المملؤه حبًا وترفقًا لا يطيق العنف ولا يقبل الظلم.

"من وصاياك تفطنت،

فلهذا أبغضت كل طرق الظلم،

لأنك وضعت لي ناموسًا" [104].

يميز القديس أغسطينوس بين تعبيرين: "أنا فهمت وصاياك" و"من وصاياك فطنت (فهمت)". الأول يكشف عن إدراكه لمعنى الوصايا، أما الثاني فيكشف عن تمتعه بعطية الفهم أو الفطنة أو الحكمة النابعة عن حفظ الوصايا.

v     ينطق جسد المسيح بحق بهذه الكلمات، فإن هؤلاء الذين يحفظون الوصايا ينالون معرفة أكثر للحكمة بسبب حفظهم الوصايا نفسها. يضيف أيضًا "فلهذا أبغضت كل طرق الشر". محبة البرّ تستلزم بُغض كل الظلم. هذا الحب الذي هو أعظم قوة بسبب عذوبة الحكمة العلوية التي توحي به، الحكمة التي تُعطى لمن يطيع الله، وتهب فهمًا من خلال وصاياه.

  القديس أغسطينوس

عذوبة كلمة الله

1. لسنا نوقر الكلمة فحسب بل ونحبها، فتحول أيام غربتنا إلى نهارٍ مبهجٍ [97].

2. بالكلمة الإلهية نتمتع بالحكمة الفائقة، نعيشها كما عاشتها الأجيال السابقة بروح العصر بلا انحراف كي نسلمها وديعة حية للأجيال القادمة [100].

3. تحفظنا الكلمة من الطريق الخبيث، وحفظنا يعطينا فهمًا أعمق للكلمة. تسندنا الكلمة الإلهية في جهادنا، وجهادنا القانوني يكشف عن أعماق الكلمة [101].

4. في جهادنا الروحي نكتشف أن الله وضع لكل مؤمنٍ ناموسه الإلهي، كأنه قد أعده خصيصًا له، مما يعمق علاقته الشخصية بكلمة الله [102].

5. كلمة الله عذبة، تشبع وتقوت، وتعطي النفس حلاوة، فيشتهي الكل أن يلتقي معها ويشاركها عذوبتها في الرب [103].

V V V


 

من وحي المزمور 119 (م)

كلمتك عذبة ومشبعة لنفسي!

v     اسمك حلو ومحبوب، ألهج فيه كل أيام حياتي!

العالم بكل مغرياته وآلامه لن يشغلني عن تلاوته!

v     كلمتك عذبة ومشبعة لنفسي.

تهبني معرفة وعلمًا وحكمة من عندك.

فهمتها أكثر من اليهود الذين كان يلزمهم أن يكرزوا لي بها.

v     ناموسك حلو، وضعته خصيصًا لي،

ودفعت به في قلبي تسجله بروحك القدوس!

بحب التزم به لأتمم إرادتك.

أحفظ وصاياك وأمنع رجلي عن كل طريق خبيث.

v     ناموسك يهبني حبًا لك مملوء مخافة رقيقة، ومخافة ممتزجة بحبٍ رقيقٍ.

ناموسك العذب يدفعني للجهاد بقوة،

لأتمتع بالطاعة لك أيها المحبوب.

v     خضعتَ لناموسك أيها الكلمة المتجسد فأعطيته عذوبة،

أسلك فيه كما سلكت أنت أيها الرأس المقدس!

v     كلمتك يا إلهي أحلى من كل فلسفات العالم ومعرفته وحكمته.

<<

 


 

14- ن

 

مصباح لرجلي كلامك

[105-112]

عذوبة كلمة الله في فم المرتل لا تعني مجرد لذة فكرية، وإنما هي عذوبة خبرة وتمتع بالنور الحقيقي بعدما ألقته الخطية في ظلمة القبر وحكمت عليه بالموت الأبدي. يبعث الله بكلمته كنورٍ يشرق على العالم المظلم بمعرفة الشر، فتدخل إلى قلب المؤمن لتنير أعماقه وتكشف له عن عالم الروح. عوض خبرة الشر وعالم الإثم يتمتع المؤمن بخبرة برّ الله الساكن في نور لا يُدنى منه، فيرتل قائلاً: "بنورك يارب نعاين النور".

يرى القديس كيرلس الكبير أن الإيمان هو السراج، وكلمة الله المتجسد هو النور، إذ يقول: [كلمة الله هو موضوع إيماننا، وهو النور. فالسراج هو الإيمان، إذ كان هو النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آتيًا إلى العالم (يو 9:1)1.]

1. الوصية نور حقيقي105.

2. الوصية دخول في عهد106.

3. الوصية واهبة الحياة107.

4. الوصية واهبة القوة108.

5. الوصية والتسليم109.

6. الوصية تكشف الفخاخ110.

7. الوصية واهبة البهجة111.

8. الوصية والتمتع بالإكليل الأبدي  112.

1. الوصية نور حقيقي

"مصباح لرجلي كلامك،

ونور لسبيلي" [105].

كلمة الله نور مثل المنارة الذهبية المتقدة سرجها بلا انقطاع في هيكل الرب، ومثل عمود النور الذي كان يقود شعب بني إسرائيل في البرية نهارًا. أينما كنا سواء في الهيكل أو في الطريق فإن كلمة الله هي القائد الحقيقي الذي ينير لنا الطريق.

 لماذا يدعوها: "مصباح لرجلي"؟ إنها لا تنير العينين فقط فتنال فهمًا وحكمة، وإنما تنير للقدمين كي يسيرا في الطريق الملوكي، فلا يكفي للمؤمن أن يتعرف عليه خلال الاستنارة الإلهية، إنما أن يسير فيه حتى يبلغ غايته. وكأن غاية الوصية ليس فقط الكشف عن إرادة الله لنا، إنما تبدد من أمامنا ظلمة الطريق الخاطئ، وتكشف لأقدامنا طريق الحق فنتبعه.

إذ يتحدث المرتل في ضعفه لم يقل عن الوصية أنها شمس بل مصباح. ففي هذه المرحلة لا تستطيع عيناه على معاينة الشمس، إنما يكفيها مصباح فينير ويبدد الظلام ويقودها إلى السيد المسيح، شمس البر، كلمة الله المتجسد، وكما يقول القديس بطرس: "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضع مظلمٍ إلى أن ينفجر النهار ويطلع الصبح في قلوبكم" 2 بط 19:1. عندئذ يُقال: "وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم، ولا يكون ليل هناك ولا يحتاجون إلى سراجٍ أو نور شمسٍ، لأن الرب الإله ينير عليهم، وهم سيملكون إلى  أبد الأبدين" رؤ 4:22، 5.

في العهد القديم كان للمنارة الذهبية طقسها الخاص، من جهة سُرجها السبعة ونوع الزيت والفتائل، وكان ديمومة إنارتها أمرًا جوهريًا في حياة هذا الشعب. فقد كان ذلك رمزًا إلى حاجة الطبيعة البشرية إلى الاستنارة الإلهية حتى تُنزع عنها طبيعة الظلمة، وتحمل الشركة مع المسيح النور الحقيقي الذي ينير العالم.

إن كان السيد المسيح هو "الطريق" الذي يقود إنساننا الداخلي إلى حضن الآب، فإنه هو أيضًا النور الذي يكشف لنا هذا السبيل الملوكي فلا ننحرف عنه.

v     كان النور بالحق مخفيًا ومحتجبًا في ناموس موسى، لكن لما جاء يسوع، أشرق إذ رُفع البرقع وأعلنت في الحال وبالحق البركات التي قُدم ظلها في الحرف1.

العلامة أوريجينوس

v     إذا أدرك أحد كلمة الله وتمتع باللوغوس في كل تصرف حتى عندما يرفع قدمه في كل خطوة يخطوها فإنه لا يمكن أن يتعثر، لأنه يقتني "المصباح" ويستخدمه. وعلى العكس إن قبل المصباح وبدى كأنه قد آمن به لكنه لم يحمله في كل تصرف، ولا تطلع مع "اللوغوس" في كل سلوكه أين يضع قدمه، أقصد خطوات الروح، فمثل هذا الآنسان يرتكب خطأ مزدوجًا، لأنه أدرك اللوغوس ولم يستخدم كلمة الله أينما وُجد...

يمكننا القول إنه عندما جاء "كلمة الله" اللوغوس من السماء، أضاء كل مؤمن في داخله دون أن ينقص اللوغوس. خلال اللوغوس - المصباح والنور - تولدت مصابيح كثيرة من النور الفريد، فيقول كل من أدرك نعمة "كلمة الله"، السراج المنير، "أتطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ؟" (راجع 2كو3:13) تحت كل الظروف، إذ قبلنا كلمة الله نتهيأ لنتحرك في كلماتنا وسلوكنا وفكرنا مستخدمين السراج الذي نضعه أمامنا. فإنه "ليس أحد يوقد سراجًا ويغطيه بمكيال أو يضعه تحت سرير، بل يضعه على منارة لينظر الداخلون النور" لو16:8... فإنه ليس بيننا من أضاء سراجه وصار مدركًا اللوغوس، يجعله عاطلاً بوضعه تحت إناء، أي تحت المكيال (لو33:11؛ مت15:5)، أو تحت سريره، بل يضعه على منارة؛ والمنارة هي موضع السراج...

بحسب التفسير الأول "موضع المنارة" هي نفسك، حيث يجب أن تكون موضعًا لكلمة الله.

وبحسب التفسير الثاني: فكر في فمك، وفي الكلمات التي ينطق بها عندما تفتحه لكلمة الله (اللوغوس)، وذلك بوضع السراج على منارة، أي في فمك.

الداخلون إليك ينظرون النور (لو33:11؛ مت15:5) سواء حسب التفسير الأول (أي متجليًا في نفسك) أو التفسير الثاني (معلنًا في كلماتك وفي فمك). لهذا يقول الكتاب المقدس: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة" لو35:12. السراج هو كلمة الله، اللوغوس، الذي قبلناه والذي به آمنا بالله (الآب)، ليظل مشتعلاً ولا ينطفئ أبدًا. "نور الصديقين أبدي، وسراج الأشرار ينطفئ" (أم9‎:13).

كان في خيمة الشهادة (خر21:27) السراج موقدًا حتى يراه الذين يخدمون الله ويمارسون طقوسهم ويصيرون مستنيرين به. هكذا بنفس الطريقة يوقد سراج في الكنيسة، خيمة الشهادة (الجديدة).

"سراج الجسد هو العين" مت22:6؛ لو34:11. الجسد الكامل يمثل الكنيسة، والسراج الذي يمثل عينها هو البصيرة الروحية في الآنسان. [يربط أوريجين بين المعرفة والعمل] من يدرك اللوغوس، لا يقدر كعين أن يقول لليد: ماذا تفعلين؟ ولا اليد تقول للعين: "لا حاجة لي إليكِ" 1كو12:12، لأن اليد لا ترى لكنها هي التي تمارس (الحياة المسيحية) دون أن ترى الحقائق الروحية.

هناك اختلاف بين الذين يدركون اللوغوس (كلمة الله)، فالبعض يدركه مصباحًا والآخرون يدركونه نورًا... العذارى الجاهلات كان لهن مصابيح منطفئة (مت2:25)، "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله" يو20:3. كذلك يوبخ يسوع الذين لا ينتفعون دائمًا من النور، الذي معهم ساعة أو لحظة (يو35:5) عند استخدامهم هذا السراج. يقول يسوع: "كان هو السراج الموقد المنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة" يو35:5.

إنني في حاجة إلى أمرين: مصباح لرجلي، ونور قوي لكل سبلي؛ عندما أسير في الطريق أحتاج إلى سراج أمام خطواتي، لكنني بعد ذلك أحتاج أيضًا إلى نور قوي.

العلامة أوريجينوس

يرى المرتل أن سياحته في هذا العالم تتطلب الاستنارة بتعاليم الله، التي تقوده في الطريق الملوكي مهما كانت المخاطر التي يتعرض لها.

v     أشعة الكلمة مستعدة سرمديًا أن تشرق مادامت نوافذ النفس مفتوحة خلال الإيمان البسيط.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

v     السراج هو الشريعة بالنسبة للذين يسلكون في الظلمة قبل أن تشرق عليهم شمس البر (ملاخي 20:3)، والنور الحقيقي ليس مصباحًا بل هو الشمس التي تضيء على الذين قد تناهي الليل بالنسبة لهم وتقارب النهار (رو12:13). في هذا النهار يمكننا أن نسلك بلياقة (رو13:13).

القديس ديديموس الضرير

في اختصار كلمة الله هي مصباح للمؤمن، "لأن الوصية مصباح والشريعة نور" أم 23:6؛ إن عاشها بالروح يكون منيرًا، وإن توقف عند الحرف يصير منطفئًا كمصابيح العذارى الجاهلات.

في هذا العالم نحتاج إلى مصباحٍ منيرٍ وسط ظلمة هذه الحياة، فنسلك الطريق الملوكي، حتى نرى الرب وجهًا لوجه فننعم بالنور الأبدي.

عاش رجال العهد القديم قبل مجئ شمس البر يستنيرون بمصباح الشريعة، أما رجال العهد الجديد فيتمتعون بنور شمس البر، بكونهم قد صاروا ابناء نهار.

v     من يرفض قبول نور كلمة الله ينبغي أن يخشى عقاب الظلمة الأبدية1.

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     ترجّوا واحتملوا حتى يعبر غضب الله على الليل الذي هو أب الأشرار. لقد كنا نحن ابناء الليل، كنا أحيانًا ظلامًا (أف 3:2؛ 8:5)، وها هي تظهر أثاره في جسدنا إذ نحن أموات بالخطايا (رو 10:8) حتى يميل النهار وتهرب الظلال (نش 17:2)2.

القديس أغسطينوس

v     قيل هذا أيضًا عن المسيح، فقد قيل أنه أُعطى نورًا للأمم كما يقول إشعياء النبي: أعطيتك كنورٍ لكل الأمم، لكي تكون أنت خلاصي إلى أقاصي الأرض. لهذا يقول داود "مصباح لرجلي كلمتك، ونور لسبيلي"3.

الأب أفراهات

v     ليست خليقة، سواء كانت عاقلة أو لها قوة فهم، تنير بذاتها، بل تستنير بالشركة مع الحق الأبدي.

القديس أغسطينوس

يرى القديس جيروم أن النور هنا لا يشير إلى تبديد الظلام فحسب بل إلى بعث روح الفرح في المؤمنين. ولعل العذارى الحكيمات في استقبال العريس كن يحملن مصابيحهن متقدة وهن أمام شمس البرّ، لا مجال للظلمة، لكن كتعبيرٍ عن الفرح.

v     خلال كل الكنائس الشرقية، حتى حين لا توجد رفات للشهداء عندما يُقرأ الآنجيل توقد الشموع بالرغم من أن الفجر ربما يكون قد ظهر في السماء، ليس لأجل تبديد الظلمة بل للشهادة للفرح. ولهذا فإن مصابيح العذارى في الآنجيل دائمًا مشتعلة. ويخبرنا الرسل أن تكون الأحقاء ممنطقة والمصابيح في الأيدي متقدة. ونقرأ عن يوحنا المعمدان "كان السراج الذي يضيء" حتى خلال رمز النور المادي يُقدم النور الذي نقرأ عنه في المزمور: "سراج لرجلي كلامك يا رب، ونور لسبيلي"4.

القديس جيروم

لقد أشرق الآنجيل بالنور الذي كان مختفيًا وراء الحروف في العهد القديم.

v     الانجيل، العهد الجديد، يخلصنا من النظام القديم، نظام الحرف، ويُعلن عن سمو النظام الجديد. هذا هو نظام الروح  متحققًا بنور المعرفة ومنتميًا بطريقة لائقة إلى العهد الجديد لكنه يوجد مخفيًا أيضًا في الكتب في القديم5.

العلامة أوريجينوس

2. الوصية ترفعنا من المذلة

في الظلمة يسلك الآنسان بخوفٍ وقلقٍ، متوقعًا السقوط في حفرة أو  في هوة أو التعثر بحجرٍ، أما السالك في النور فالطريق بالنسبة له مكشوف، لذا يسير فيه بشجاعةٍ ويقينٍ، لا يخاف الآنحراف ولا العثرة ولا المذلة. لذا إذ وجد المرتل في الوصية الإلهية نورًا لسبيله قال:

"حلفت فأقمت على حفظ أحكام عدلك" [106].

يرى القديس أغسطينوس أن القَسَم هنا يعني الإصرار على السلوك في النور وحفظ أحكام عدل الله.

v     تُحفظ أحكام الله البارة بالإيمان، وذلك عندما لا يُظن أن أي عمل صالح يكون بلا مكافأة، ولا أية خطية لا يُعاقب عنها وذلك حسب أحكام الله البارة.

القديس أغسطينوس

v     يجب أن نتساءل هنا: ماذا تعني "حلفت"؟ لقد قطع الرب عهدًا على مختاريه (مز4:88)، وبعد قطعه العهد قبله المؤمن. هذا العهد قائم بين الله والمؤمن كقَسمٍ بقبوله العهد المقطوع مع الله. بقبولنا العهد نكون قد قطعنا عهدًا نحن معه، وهو أن نقوم على حفظ أحكام برّ الله.

أثبت أحكام برّ الله في نفسي، وعندما أثبتها يحدث لي ما قاله سليمان الحكيم في سفر الأمثال: "أحكام الصديقين عدل" أم5:12. هذه الأحكام هي أحكام "برّ" الله.

متى تأتي هذه الأحكام؟ عندما "حلفت"، أي ثبَّت هذه الأحكام فيَّ.

العلامة أوريجينوس

v     كلمة "حلفت" لا تعني النطق باسم الله، وإنما هي تعبير عن التحدث بكلمات لا تغيير فيها، وحفظ (العهد) دون ضعف، وذلك بالتنفيذ الحقيقي للعمل فيكون كمن أقسَم (فنفذ).

القديس ديديموس الضرير

3. الوصية واهبة الحياة

إذ أنارت الوصية للمرتل سبيله انفضحت أمام عينيه خطيته، وأدرك بشاعتها، فتذلل جدًا إلى الغاية، طالبًا مراحم الله وعمله الخلاصي. أدرك أن الموت قد ملك على نفسه وأهلكها، لذا يحتاج إلى كلمة الله النور لكي يرد لها الحياة، فيقول:

"تذللت جدًا للغاية،

يا رب أحيني كقولك" [107].

v     تذللت إما بسبب هجوم الأعداء أو بسبب مقاومة (شهوات) الجسد لنا شخصيًا، والتي تأتي علينا بإرادتنا.

القديس أثناسيوس الرسولي

v     يقول: حتى وإن كان لأي سبب أو علة أنتفخ وأتكبر وأفتخر لأنني ملك وحكيم ونبي، لكنني "تذللت إلى الغاية"؛ لأن الله "يستهزئ بالمتكبرين هكذا يعطي نعمة للمتواضعين" أم34:3.

"يارب أحيني كقولك" الكائنات المحرومة من العقل تحيا ولكن كخليقة غير عاقلة، أما الكائنات العاقلة فتحيا حسب العقل، لأنها خُلقت بطبيعة عاقلة.

لكن الجزء الأكبر من الخليقة العاقلة - أتحدث هنا على وجه الخصوص عن البشر - لا يعيشون "كأقوال الله"، وإنما حسب كبرياء (اهتمام) الجسد (رو6:8) وأفكاره. قليلون جدًا هم الذين يعيشون "كأقوال الله".

العلامة أوريجينوس

4. الوصية واهبة القوة

إذ يختبر المرتل النور بعد الظلمة والحياة المُقامة بعد الموت، يقول:

"تعهدات فمي باركها يا رب،

وأحكامك علمني" [108].

إذ غمرت المرتل نعمة الله، وأنارت الوصية حياته أراد تقديم ذبائح روحية مقبولة لدى الله، فقدم تعهدات الشكر والحمد لله تحت كل الظروف، ذبائح إرادته الحرة.

ماذا يعني بـ "تعهدات فمي" حسب النص القبطي، أو "ارتضى يارب بطوعيات فمي" في الترجمة السبعينية، أو"ارتضى بكلمات فمي" في السريانية؟

إذ تمتع المرتل بالحياة المقامة تعهد أن يعيش بناموس المسيح، أو ناموس الحياة الجديدة، فيمارس الحياة الروحية بما تحمله من جوانب إيجابية كالحب والشركة مع الله وملائكته وقديسيه، وجوانب سلبية كالامتناع عن طرق الشر، هذا مع بعض التعهدات الأخرى، كأن يصمم إنسان على البتولية أو الحياة النسكية الخ. كل هذه التعهدات التي تتناغم مع الوصية الإلهية لا يقدر المؤمن أن يحققها مالم تعمل الوصية فيه بكونها بركة الرب فيه، فيهبه الرب قوة للتنفيذ كما يعلمه أحكامه ويقوده بنفسه حتى لا ينحرف في تعهداته خارج دائرة الروح.

بالإيمان الحي والثقة في إمكانية الله وخلال الحب المتقد فينا نتعهد أن نقدم حياتنا ذبيحة حب لله يوميًا، ولتعمل الوصية فينا فننال بركة الرب ونكون تحت قيادته.

v     "تعهدات فمي باركها يارب؛ وأحكامك علمني"... بمعنى لتجعلها ترضيك؛ لا ترذلها بل وافق عليها.

تُفهم تقدمات الإرادة الحرة التي للفم على أنها ذبائح الحمد، تُقدم في اعتراف الحب، وليس عن الخوف من الإلتزام، كما قيل: "أقدم لك تقدمة الإرادة الحرة" مز6:5.

القديس أغسطينوس

v     نطلق على الأعمال التي نود أن نمارسها بإرادتنا طواعية "تعهدات" فمنا. نذكر على سبيل المثال: "وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن" 1كو25:7، يقصد البتولية التي لم يصدر عنها وصية أو أمر لكنني أمارسها طوعًا، إذ اختار النصيب الصالح أو النصيب الأفضل (1كو38:7)؛ هذه اقبلها يا رب! هكذا في باقي أمور حياتنا نكتشف أننا نتمم بعض الأعمال كعبيدٍ يتلقون الأوامر، وننفذ الأخرى طوعًا.

"وأحكامك علمني" [108]. يقول إنني أعرف جيدًا أن أحكامك بعيدة عن الفحص (رو33:11)، ومع هذا علمني إياها لكي إذ أتعلمها أقوم بتنفيذها، وأبتهج بأحكامك الصالحة.

العلامة أوريجينوس

5. الوصية والتسليم

إذ يرى المرتل في الوصية عهدًا بين الله والآنسان أو "ديالوج Dialogue" حبٍ من الجانبين، فيه يختبر المؤمن قوة الكلمة كمصباحٍ ينير له طريق غربته وكنورٍ أبديٍ يلازمه في الأمجاد السماوية، وكقوة قيامةٍ تهب حياة جديدة وبركة، يطلب من الرب أن يعلمه أحكامه ويقوده بنفسه. أما المرتل ففي دالة البنوة وطاعة الحب يعلن تسليم حياته في يدي الله، وانشغال كيانه كله بناموسه، قائلاً:

"نفسي في يديك كل حين،

وناموسك لم أنسه" [109].

أدرك المرتل أن الأخطار تحوط به من كل جانب، ففي مواقف كثيرة كان على عتبة أبواب الموت، تارة خلال خطط شاول الملك ضده، وأخرى خلال ابنه أبشالوم والذي خطط له مشيره الشخصي أخيتوفل. لم يجد لنفسه مأوى آمن إلا يدي الله، فيطلب أن تُحفظ هناك. بين يدي الله لا نفكر في المخاطر التي تحل بنا ولا في عداوة الآخرين إنما نجد لذتنا في ناموس الرب ونرتبط بالحق.

يقول القديس أغسطينوس انه جاء في بعض النسخ: "نفسي في يدي". على أي الأحوال إنها في يد الله حيث يعود المؤمن بالتوبة كالابن الراجع إلى أبيه ليسلمه حياته ونفسه فيحييها، أو هي في يد المؤمن يقدمها لله تقدمة محبة لكي يهبها الحياة.

v     "نفسي في يدي"... تكون نفس أي إنسان بين اليدين حين يكون في وسط مخاطر... إذن يقول البار: بالنسبة لي فإني أموت كل يوم، أنا في خطر دائم من أجل (ارتباطي) بكلامك، ومن أجل الحق... ولكنني لم أنسَ ناموسك، لأن خطر الموت لا يقدر أن ينسيني ناموسك.

يمكننا أن نفهم هذه العبارة بطريقة أخرى، وهي أن نفسي دائمًا في كفي، أي أنها دائمًا تمارس الأعمال الصالحة، لأن "اليد" أو "الكف" تُطلق دائمًا على العمل.

العلامة أوريجينوس

كأن نفسي في يدي الله العامل فيّ، إذ يحول وصاياه إلى خبرة حياة وعمل في حياتي اليومية، وأما أنا فمن جانبي أتجاوب مع هذا العمل بعدم نسياني لناموسه. فما أمارسه حسب ناموس المسيح إنما هو هبة الله ونعمته لي.

v     لأن نفوس الأبرار في يد الله" حك1:3، هذا الذي في يده نحن وكلماتنا (حك16:7)... يمكن فهم "نفسي في يديك"... على انها كلمات الآنسان البار لا الشرير، هذا الذي يعود إلى الآب ولا يرحل عنه (لو12:15،24)... في موضع آخر يقول: "إليك يارب رفعت نفسي" مز1:25.

القديس أغسطينوس

6. الوصية تكشف الفخاخ

نفسي محفوظة بين يديك تحميها وتسندها، عاملاً فيها لتتجاوب مع عمل نعمتك. أما الأشرار فلا يستسلموا ولا يتوقفوا بل بالأكثر يقاومونني بكل وسيلة.

"أخفي الخطاة لي فخًا،

ولم أضل عن وصاياك" [110].

v     متى يحدث هذا إلا أنه بسبب أن نفسه في يدي الله، أو أن نفسه في يده يقدمها لله كي يحييها.

القديس أغسطينوس

v     انهم مثل صيادي الحيوانات غير العاقلة يضعون فخاخًا لاصطيادها، هكذا يفعل الشيطان وجنوده. لقد ملأوا العالم كله بالفخاخ، وملأوا الحياة بالشباك.

يقول: نصب هؤلاء لي فخاخًا في كل موضع، ومع هذا فإنني حفظت وصاياك على الدوام ولم أضل بعيدًا عنها. وفي مزمور آخر بعد ذلك يقول: "نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين" 7:124.

العلامة أوريجينوس

7. الوصية واهبة البهجة

إذ تفتح الوصية الإلهية عيوننا لنرى يدي الله مبسوطتين لاحتضاننا ندرك أن كل فخاخ العدو لا تقدر أن تصطادنا، عندئذ نتمسك بها كميراثٍ أبديٍ ويبتهج قلبنا بها.

"ورثت شهاداتك إلى الأبد،

لأنها بهجة قلبي هي" [111].

اكتشاف المؤمن لقوة كلمة الله يهبه الغيرة ليعلن أنها ميراثه الشخصي ونصيبه ليس إلى حين بل أبديًا، يقبلها بفرح وبهجة قلب فلا يتزعزع أبدًا.

يرى العلامة أوريجينوس أن "شهادات الرب" تعني قبول الوصية برضى، والشهادة للحق أي للمسيح أمام الناس بلا خجل، مجاهدًا حتى الموت. هذه الشهادات تهب المؤمن فرحًا كما قيل عن الرسل: "ذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه" أع41:5.

v     لقد اقتناها ميراثًا وذلك إلى الأبد، لأنها لا تحمل فيها مجدًا زمنيًا للبشر الذين يطلبون الأمور الباطلة، بل تحمل المجد الأبدي للذين يتألمون إلى زمن قصير والذين يملكون بلا نهاية. لذلك جاءت الكلمات التالية: "لأنها بهجة قلبي هي"؛ فمع أحزان الجسد توجد بهجة القلب.

القديس أغسطينوس

8. الوصية والتمتع بالإكليل الأبدي

أخيرًا فإن الوصية جذابة للقلب الذي ينفتح على الأبدية ليرى المكافأة.

"عطفت قلبي لأصنع فرائضك إلى الأبد من أجل المكافأة" [112].

v     "عطفت" قلبي نحو شريعتك، نحو "فرائضك"، نحو "أوامرك"، لأني عرفت أن هناك مكافأة تنتظرني. هذه المكافأة هي "ملكوت الله"؛ "ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشرٍ، ما أعده الله للذين يحبونه" 1كو9:2.

العلامة أوريجينوس

ربما نتساءل: هل نصنع فرائض إلى الأبد؟ حتمًا لا! لكن إن كان الحب هو جوهر الفرائض الإلهية، فيبقى الحب أبديًا. بهذا تحسب أعمال الفرائض أبدية.

v     الذي يقول "عطفت قلبي" سبق فقال "أمل قلبي إلى شهاداتك" [26]، وذلك لكي تفهم أن ذلك عطية إلهية وأيضًا هي عمل الإرادة الحرة.

هل نصنع برَّ الله إلى الأبد؟ هذه الأعمال التي نتممها لأجل احتىاجات أقربائنا لا يمكن أن تكون أبدية حيث يتوقف الاحتياج إليها. لكن إن كنا لا نمارسها عن حب لا تكون برًا. أما إذا مارسناها عن حب، فهذا الحب أبدي، وله مكافأة أبدية مخزونة لأجله.

القديس أغسطينوس

كلمة الله نور وحياة

1. إن كانت الظلمة قد سادت العالم، لا نخاف مما فيه من عثرات أو أشراك أو فخاخ، مادمنا نمسك بمصباح حكمة الله المنير [105] الذي يبدد ظلام الجهل والحماقة.

2. إذ نختبر نور كلمة الله ندخل في عهد ثابت مع الله، فيه نعلن ولاءنا وطاعتنا له [106].

3. تكشف كلمة الله عن الموت الذي ملك علينا بالخطية لتهبنا الحياة [107].

4. بكلمة الله نقدم من جانبنا تعهدات بكامل حريتنا يباركها الرب [108]، كما نتعهد بتسليم حياتنا له [109].

5. كلمة الله تكشف لنا عن فخاخ العدو وتحمينا منها [110].

6. كلمة الله ميراث لنا يعكس علينا روح البهجة [111]، بها ننال مكافأة أبدية [112].


 

من وحي المزمور 119(ن)

كلمتك تنير لي طريق الفرح

v     كلمتك هي المنارة التي تنير مقادسك في داخلي،

وعمود النور الذي يقود كل كياني في الطريق إلى كنعان السماوية.

تبدد كل ظلمة في أعماقي لتعلن نورك السماوي.

أحملها أينما وجدت، فلا أتعثر في الظلمة!

v     في العهد القديم كانت النبوات مصباحًا،

حملته حتى دخلت إليك فرأيتك يا شمس البرّ.

أشرقت عليّ بنورك الإلهي الأبدي، فجعلتني نورًا للعالم.

v     أشرقت بنور الروح عليّ،

فحملتني من الحرف القاتل إلى الروح المحيي.

أدركتك وراء حروف الكتاب،

وتلاقيت معك أيها النور الفريد!

v     كلمتك هي نور الفرح والبهجة.

لأحملها مع العذارى الحكيمات فأدخل معهن في صحبة شمس البرّ.

لا تحتاج السماء إلى مصباحي،

بل أنعم أنا بنور الفرح في عرسٍ أبديٍ لا ينقطع.

v     إذ تنير لي كلمتك اكتشف خطاياي فأتذلل،

وأدرك قوة مواعيدك، فأحيا بقولك.

أقدم لك نفسي التي في يدي تقدمة حب،

أسلمها لك فتتعهدها بنفسك وتحييها.

v     تنير لي كلمتك فاكتشف الفخاخ المنصوبة،

حسبوني كحيوانٍ مفترسٍ وأرادوا اصطيادي وقتلي.

v     كلمتك تنير لي عن ميراثي الأبدي ومكافأتي،

فأجاهد بروح الفرح والبهجة.

أجري إليك وأضع نفسي بين يديك فتحييها وتحميها.

<<

 


 

15- س

 

عضِّدني حسب قولك

[113 - 120]

يسلم المرتل حياته بين يديْ الله ليبقى دائمًا متمسكًا بالوصية الإلهية كمصباحٍ ينير له طريق غربته ونورٍ أبدي يرثه في الحياة الأخرى. الآن وهو في يدّي الله يطلب عونه وتعضيده ضد مقاومي الوصية، سائلاً إياه أن يهبه خلاصًا وحكمة مع مخافة الرب حتى يُحفظ في الوصية دون انحراف.

1. عون ضد مقاومي الوصية 113-115.

2. عون لحياته الداخلية 116-117.

3. عون لاحتمال الظلم  118-119.

4. حاجته إلى مخافة الرب 120.

1. عون ضد مقاومي الوصية

"لمتجاوزي الناموس أبغضت،

ولناموسك أحببت" [113].

مع أن داود النبي لم يستطع القول بأنه قد تحرر من الأفكار الباطلة، لكنه كان يبغضها. كان يبذل كل الجهد لطردها والتغلب عليها. وبقدر ما كان يقاومها كان قلبه يزداد حبًا نحو ناموس الرب. فالحياة المقدسة والتأمل في الوصايا رفيقان كل منهما يسند الآخر. إذ نكره الخطية نحب الوصية، وإذ نحب الوصية تزداد كراهيتنا للخطية.

v     لم يبغض النبي المغبوط أناسًا مثل أبشالوم وشاول وأمثالهما، وإنما عني ببغضه مخالفي الناموس الأفكار والأعمال والحركات التي تسوق إلى مخالفة ناموس الله. ويمكن أيضًا أن يعني الذين يغوون الناس لمخالفة الناموس. فقد أمرنا أن نبغض والدينا وأقرباءنا؛ ولكن ليس المراد من هذا القول أن نبغض أناسًا، لأنه كيف يناقض قوله أن نحب أعداءنا؟! وإنما عني أن نبغض ونرفض أقوالهم وأعمالهم التي تخالف ناموس الله. لقد طلب ان نبغض أنفسنا، بمعنى أنه إذا كانت شهواتنا مضادة لإرادة الله فلا نطيعها. وأيضًا البغضة تعني تأخير محبة الأقرباء ومحبتنا لأنفسنا مفضلين محبة الله عنها. وذلك كما يُقال عن نور السراج ظلمة قياسًا إلى نور الشمس. فمن يحب ناموس الله يبغض أي يزدري بكل أمر يحثه على مخالفته، ويكون الله معينًا له، وناصرًا، على أعدائه بسبب اتكاله على أقواله.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     إنه لم يقل "أبغض الأشرار وأحب الأبرار" ولا "أكره الظلم وأحب شريعتك"، لكن بقوله "أبغضت الأشرار" أوضح السبب بإضافته: "ولناموسك أحببت"، مظهرًا أنه لم يكره الطبيعة البشرية في الأشرار، بل شرهم الذي هو عداوتهم للناموس الذي يحبه.

القديس أغسطينوس

قدرما يحب المرتل ناموس الله ويتعلق بكلمة الله لا يطيق ما يناقض أفكار الله وطرقه المقدسة، إنه يبغض ما ينقض الشريعة.

"لأنك معيني وناصري أنت،

وعلى كلامك توكلت.

اعدلوا عني أيها الأشرار،

فأفحص عن وصايا إلهي" [114،115].

جاء في النص العبري: "سري ومجني أنت" [114]، فالله بالنسبة لداود النبي هو موضع سري يختفي من الأعداء، ومجن يصد به السهام. فقد اعتاد النبي أن يهرب من وجه شاول مختفيًا حتى لا يسقط تحت يده فيقتله، كما كان يمسك بالمجن أثناء الحروب ليصد السهام عنه. لقد صار الله بالنسبة له كليهما، يختفي فيه هاربًا من وجه الشر، أما إذا دخل في معركة فيمسك به كمجنٍ حتى ينجو من فخاخ العدو وحروبه. في هذا يقول المرتل: "لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر؛ يسترني بستر خيمته" مز 5:27؛ "أما أنت يارب فترس لي" مز 3:3؛ "ترسي عند الله مخلص مستقيمي القلوب" مز 10:7.

يحب المرتل كلمة الله الثابتة إلي الأبد ولا يقبل آراء الناس المتغيرة والمناقضة لناموس الرب، فلا يتكل عليها، لهذا يكمل حديثه: "وعلى كلامك توكلت". كأن المرتل لا يكره الناس الأشرار وإنما الاتكال على مشوراتهم الشريرة.

أخيرًا فإنه يجد في الأشرار عقبة في فحصه وصايا إلهه، يريدون أن يشغلوه عن الكلمة الإلهية بكل وسيلة، لهذا يطلب إليهم أن ينصرفوا عنه، فلا يدخل معهم في عشرة وشركة. بهذا يتفرغ لفحص وصايا الله إلهه، وكأنه إذ يعتزل الشركة مع الأشرار يتمتع بالشركة مع الله على مستوى شخصي.

إذ يصير الله هو إلهي، أحسب شريعته شريعتي، وناموسه هو ناموس حياتي.

v     يدعو النبي الأفكار الشريرة النابعة من القلب والتي تنجس الإنسان "أشرارًا" فيزجرها ويقصيها بعيدًا عنه، لأن وجودها يصد فحص وصايا الله. ولما كان طردها ليس في قدرة الإنسان دون معاضدة الله، لذلك يقول: "عضِّدني".

أنثيموس أسقف أورشليم

v     "أنت معيني" في صنع الأعمال الصالحة، "ناصري" في الهروب من الشر فورًا. يلي ذلك الكلمات: "وعلى كلامك توكلت"، إنه يتحدث كابن الموعد.

 القديس أغسطينوس

"أعدلوا عني أيها الأشرار،

فأفحص عن وصايا إلهي"...

v     لم يقل "أتمم" (وصايا إلهي)، بل "أفحص عنها"، لكيما يتعلم هذا الناموس باجتهاد وفي كمال.

إنه يأمر الأشرار أن يفارقوه، بل يُلزمهم بالقوة أن ينسحبوا من رفقته. لأن للأشرار دور في عدم تنفيذ الوصايا، يقودونا بعيدًا عن فحصها، ليس فقط عندما يضطهدوننا أو عندما يريدون أن يقيموا دعوى ضدنا، بل وحتى عندما يكرموننا... فإنهم يتوقعون منا أن ننشغل معهم في شهواتهم الشريرة المتواصلة، وأن نقضي وقتنا معهم... إنهم يسببون لنا ضياع الوقت الذي كان يلزم أن نقضيه في خدمة الإلهيات. بالتأكيد، أقول: إننا بسبب هؤلاء الناس نصرخ بهذه الكلمات التي لجسد المسيح: "أعدلوا عني أيها الأشرار، فأفحص عن وصايا إلهي".

القديس أغسطينوس

2. عون لحياته الداخلية

إذ دخل المعركة الروحية فوجد الله مخبأه من الخطر، وترسه ضد سهام الخطية، وكلماته هي القانون الحربي الروحي للغلبة على إبليس، الآن يطلب من الله العون والعضد.

يحتاج المؤمن إلى تعضيد الله ومساندته، فهو وحده واهب القيامة، يقدر أن ينتشله من موت الخطية ويهبه الحياة الجديدة، بهذا لا يخيب رجاؤه المفرح. لن يتحقق خلاصه ولا يدرك أسرار وصيته دون النعمة الإلهية، وفي نفس الوقت إذ يدرس وصيته ويدخل إلى أعماقها يتمتع بنعمة الله وبسنده، فيقول:

"أعضدني حسب قولك فأحيا،

ولا تُخيِّب رجائي" [116].

v     ذاك الذي قال قبلاً: "أنت ناصري"، يصلي لكي ما يُسند أكثر فأكثر... الأمر الذي من أجله يحتمل أتعابًا كثيرة...

يقول عن المستقبل "فسأحيا"، كما لو كنا لا نحيا حاليًا في هذا الجسد المائت. بينما ننتظر رجاء أجسادنا نخلص بالرجاء، مترجين ما لا نراه، منتظرين بصبرٍ (رو23:8-25). لكن الرجاء لا يخيب، إن كان حب الله ينتشر في قلوبنا بالروح القدس الذي أُعطي لنا (رو5:5).

القديس أغسطينوس

"أعني فأخلص،

وأدرس في وصاياك كل حين" [117].

هكذا يربط المرتل بين التمتع بالحياة الجديدة والخلاص مع الدراسة الدائمة في الوصية. إنه يطلب العون الإلهي الذي به يقدم تعهدًا أن يدرس وصايا الرب بلا انقطاع.

v     يقول: "أدرس في عدلك كل حين"... لأن هذه النعمة يحظى بها الذين يحفظون الناموس هنا وفي الحياة العتيدة.

أنثيموس أسقف أورشليم

3. عون لاحتمال الظلم

بعد أن طلب عون الله ضد الشر الداخلي والإغراءات الخارجية [113-115]، وسأل أن تعمل قيامة الرب في حياته، تفتح له أبواب الرجاء وتكشف له أسرار الوصية وقوتها، يطلب عونًا خاصًا لمواجهة الظالمين العصاة.

"رذلت سائر الذين حادوا عن وصاياك،

لأن فكرهم ظلم.

عصاة حسبت سائر خطاة الأرض،

فلهذا أحببت شهاداتك في كل حين" [118،119].

يرى المرتل في الأشرار أن فكرهم باطل أو ظلم وأنهم خطاة الأرض، وليسوا كالمؤمنين الحقيقيين الذين هم ليسوا من هذا العالم. فإن كانت وصية الرب ترفع القلب إلى السمويات فإن الشر يربط صاحبه بالتراب والأرض.

v     لماذا تركوا برّ الله؟ "لأن فكرهم ظلم". لقد ساروا في هذا الاتجاه وهم يتركون الله. كل أعمالهم - صالحة أو شريرة - تصدر عن الأفكار؛ فكل إنسان يكون بريئًا أو مجرمًا  حسب فكره.

القديس أغسطينوس

"عصاة حسبت سائر خطاة الأرض"...

يرفض القديس أغسطينوس رأي بعض الشراح القائلين بأن الذين بلا ناموس يهلكون أما الذين تحت الناموس فيدانون على خطأهم ولا يهلكون، أي يخلصون كما بنار. هنا يرفض القديس أغسطينوس فكرة المطهر تمامًا. ويرى أن الذين بلا ناموس يعصون ناموس الطبيعة الذي فيهم، كما يُحسب كاسروا الناموس عصاة أيضًا. بهذا كل الخطاة المصرّين على خطأهم بلا توبة يدانون. لهذا يلجأ المرتل إلى النعمة الإلهية، ويطير نحو الروح واهب الحياة لكي تمحى خطاياه.

4. حاجته إلى مخافة الرب

السند الحقيقي للإنسان ضد كل شر هو خوف الله.

"سمِّر خوفك في لحمي،

لأني من أحكامك جزعت" [120].

يرتبط الرجاء المفرح بمخافة الرب فكما جاء في سفر حبقوق: "سمعت فارتعدت أحشائي، من الصوت رجفت شفتاي، دخل النخر في عظامي وارتعدت في مكاني لأستريح في يوم الضيق... فإني ابتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" حب 16:3، 18.

v     الشهوات الجسدية تمثل جزءًا أساسيًا في الجسد، وبوصايا العدالة والمسامير يمزق خوف الله جسدنا ويصلبه كذبائح مقبولة لدى الرب.

القديس أغسطينوس

يتساءل القديس أغسطينوس قائلاً: "إن كان بالفعل قد خاف (الله) أو إن كان الآن يخاف فلماذا لا يزال يصلي إلى الله لكي يُصلب جسده في خوفه؟ هل يطلب خوفًا إضافيًا متزايدًا يخصص له يكفي لصلب جسده، أي صلب شهواته الجسدية، وكأنه يقول: "اجعل خوفك كاملاً فيَّ؛ لأنني أخاف أحكامك؟" ويجيب على ذلك بقوله انه خلال الناموس الذي يعاقب على الشهوات الجسدية كان المرتل يخاف الله، يخافه من التهديدات بالعقوبة، لكنه يطلب الحب الذي يطرد مثل هذا الخوف خارجًا ويسمر فيه خوفًا جديدًا ينبع عن البهجة بالبركات الروحية. خلال حب البرّ يحسب الخطية نفسها عقوبة. بمعنى آخر عوض الخوف من العقوبة التي يهدد بها الناموس الإلهي، صار لنا في عهد النعمة خوفًا جديدًا، وهو الخوف من الخطية نفسها، إذ نحسبها عقوبة مرة مادمنا نذوق نعمة البركات الروحية السماوية.

v     يعني كما أن المُسمر على الصليب لا يتحرك خوفًا من الألم، كذلك من يفتكر فيما حكم به الله على المذنبين لا يتحرك أية حركة ذميمة خوفًا من ألم العذاب.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     يا للسرّ الإلهي الذي للصليب! يتعلق عليه الضعف، وتُسمر فيه الرذائل، وترتفع عليه تذكارات الغلبة حتى أن قديسًا قال: "سمِّر خوفك في لحمي". إنه لا يقصد مسامير حديد بل الخوف والإيمان، لأن روابط الفضيلة أقوي من روابط العقاب1.

القديس إمبروسيوس

v     كما أنه لا يمكن لريحٍ ما أن تقتلع شجرة سنديان لها جذورها المتأصلة من الطبقات الدنيا في الأرض، بل تبقى ثابتة، هكذا أيضًا النفس التي تُسمر بخوف الله لا يقدر أحد أن ينتزعها، فإن الذي يُسمر أقوى من الذي له جذور2.

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     أن تتطلع إلى الصليب يعني أن يجتاز الإنسان بكل حياته كميتٍ ومصلوبٍ عن العالم (غلا14:6)، لا يحركه الشر. حقًا كما يقول النبي "سمروا جسدهم بخوف الله" [120]. المسمار هو ضبط النفس الذي يضبط الجسد3.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     يريدنا ان نلتصق به هكذا ونتحد معه حتى لا ننفصل قط عنه4.

القديس يوحنا ذهبي الفم

كلمة الله عضدي وعوني!

1. يعلن المرتل رغبته في اعتزال الأشرار[113]، فلا يطيق مشوراتهم الشريرة وآرائهم المناقضة للناموس، حتى يدخل في شركة مع الله إلهه، حاسبًا ناموس الله ناموسه الشخصي [114].

2. كرجل حرب يجد في الله سرّ نصرته:

v     إذا رأى الخطر قادمًا يهرب إلى الله ليختفي فيه.

v     إذا حلّ الخطر يرى في الله المجن والترس يصد به سهام الشريرة الملتهبة نارًا.

v     يخضع لكلمات الله بكونها أوامر عسكرية روحية تسنده على النصرة، بطاعته إياها.

3. يطلب العون الإلهي والسند، ومن جهته يلتزم بدراسة وصية الله كل حين. [117].

4. يطلب العضد الإلهي حتى يرفض الشركة مع خطاة الأرض [119] الذين يحيدون عن ناموس الرب، بغية ارتباطه بالوصية فينال شركة مع السمائيين.

5. أخيرًا لكي تكون الوصية سنده يحتاج إلى مخافة الرب التي هي رأس الحكمة [120].

 

V V V


 

من وحي المزمور 119(س)

اسندني كمواعيدك الإلهية

v     كثيرون يبغضون ناموسك،

هب لي أن أحب الناموس وأبغض بغضتهم له.

لأبغض كل فكرٍ أو قول أو عمل يسوقني إلى مخالفة ناموسك .

لأبغض أعمال وأقوال والدي التي تدفعني لمخالفة ناموسك،

بل أبغض أعمالي وأقوالي التي تحثني على بغض وصاياك.

لا أكره الطبيعة البشرية بل الشر المقاوم للحق!

v     أنت صخرتي، فيك أستتر وأختفي من الأعداء.

أنت مجني، بك أصد سهام الشرير الملتهبة.

v     اعدلوا عني أيها الأشرار، لأنكم تريدون اعتزالي كلمة الله.

لاعتزل شركتكم بالشركة مع إلهي،

وأحسب شريعته شريعتي، وناموسه ناموسي الشخصي.

لتفارقونني، فإنكم تضطهدونني بسبب الوصية الإلهية،

أو تمالقونني لأنشغل عنها!

v     اسندني فأدرس وصاياك هنا وفي الحياة العتيدة.

اسندني فأطير بنعمتك، وأخلص من خطاياي.

سمِّر خوفك في لحمي، فهو سندي ضد كل خطية!

عوض الخوف من العقوبة سَّمر فيّ خوف الابن المملوء حبًا لأبيه.

<<

 


 

16 - ع

 

لا تسلمني إلى الذين يظلمونني

[121 - 128]

لا يتوقف المرتل عن طلب العون الإلهي، خاصة أنه كلما ارتبط بالوصية الإلهية وتمتع بالنعمة يثور ضده عدو الخير وكل جنوده، فيستنجد بالأكثر بالله معينه.

1. استنجاده من الظالمين. 121.

2. استنجاده من المتكبرين. 122.

3. استنجاده بخلاص الله. 123-124.

4. استنجاده بالوصية الإلهية. 125-128.

1. استنجاده من الظالمين

"قد صنعت حكمًا وعدلاً،

فلا تسلمني إلى الذين يظلمونني" [121].

v     ليس عجيبًا أن يمارس (المرتل) حكمًا وعدلاً، إذ صلى قبلاً من أجل خوف الله العفيف، الذي به يسمر جسده، أي شهواته الجسدية التي تريد أن تمنع حكمنا من أن يكون مستقيمًا.

القديس أغسطينوس

v     من يصنع إنصافًا وحكمًا لا يسلمه الله إلى الظالمين، وإن سقط في أيديهم ينجيه.

أنثيموس أسقف أورشليم

اعتاد الكثيرون من أصحاب السلطة أن يحققوا لأنفسهم مكاسب مادية أو كرامات أو ملذات ولائم دون مراعاة للعدالة، أما داود الملك فكان يجري حكمًا وعدلاً، مرضاة لله، وطاعة لوصيته المستقيمة، لهذا يطلب من الله في دالة ألا يسقط تحت جور الظلم. فإن السلوك المستقيم يشجعنا  الصلاة والطلبة من الديان أن ينجينا من ظلم الآخرين، ليس عن برِّ ذاتي ندعيه وإنما خلال عمل نعمته فينا.

2. استنجاده من المتكبرين

"كن لعبدك كفيلاً في الخير،

لئلا يجوز  المتكبرون" [122].

v     إنهم يسحبونني لكي أسقط في الشر، انتزعني إلى ما هو صالح.

القديس أغسطينوس

v     ترجمها أكيلا "اضمن عبدك"، بمعنى اشملني والتزم بحراستي وأعني  فعل الخير، لئلا يجد المتكبرون علة أن يفتروا  بهتانًا. بهذا المعنى أمرنا ربنا أن نصلي لئلا ندخل في تجربة؛ فإنه ليست تجربة أشد من البهتان.

أنثيموس أسقف أورشليم

لقد وضع المتكبرون في قلبهم أن يفتروا  باطلاً، فليس لي من يدافع عني ويكون كفيلاً عني سواك. أنت ضامني، تدافع عن قضيتي، فلا يقدر الأشرار أن يسحقونني بافتراءاتهم، بل تخلصني منهم كعصفور من فخ الصياد. إنني لا أئتمن أحدًا  حياتي ومتاعبي وقضاياي سواك!

عندما دخل حزقيال الملك في ضيقة قال: "صرخت إلى الصباح، كالأسد هكذا يهشم جميع عظامي... كسنونة مزقزقه هكذا أصيح، أهدر كحمامة، قد ضَعَفَتْ عينايَ ناظرة إلى العلاء؛ يارب قد تضايقت؛ كن لي ضامنًا" إش 13:38، 14.

3. استنجاده بخلاص الله

إن كان المرتل يطلب من الله ألا يسلمه للظالمين، وأن يحميه من المتكبرين، فإن عينيه لا تجفان قط مشتاقتين بدموعٍ إلى خلاصه أو إلى مجيء المخلص الذي يحقق بصليبه عدل الله ورحمته؛ إذ يفي الدين، ويقدم الحب، ويعلن ذاته ضامنًا وكفيلاً لدى الآب لمؤمنيه المتمسكين به والمختفين فيه.

"عيناي قد فنيتا إلى خلاصك وقول عدلك.

اصنع مع عبدك نظير رحمتك،

وحقوقك علمني" [123،124].

v     لكي يقدم رمزًا لصليبه رفع موسى بأمر الله الرحيم صورة حية  عمودٍ في البرية، في شبه الجسد الخاطي الذي يلزم أن يُصلب في المسيح مرموزًا إليه (يو14:3). بالنظر إلى هذا الصليب الذي تعمَّد المرتل أن يتطلع إليه ويقول: "عيناي قد ذبلتا من انتظار خلاصك، وقول برك" [123]، لأنه جعل المسيح نفسه "خطية لأجلنا، وذلك  شبه الجسد الخاطي، لكي نصير برّ الله فيه" رو3:8؛ 2كو21:5).

من أجل النطق ببرّ الله يقول أن عينيه قد ذبلتا من النظر بغيرةٍ وحماسٍ، بينما يتذكر الضعف البشري، متطلعًا إلى النعمة الإلهية في المسيح.

القديس أغسطينوس

v     قوله: "عيناي قد فنيتا إلى خلاصك" يدل  تزايد اشتياقه ورغبته في الخلاص الذي وعد الله أن يصنعه للعالم بعدله ورحمته؛ كما يلتمس منه أن يعلّمه حقوقه ويفهمه شهاداته.

أنثيموس أسقف أورشليم

لقد بكى وانتظر، متطلعًا إلى يد مخلصه، الذي يسمع صوت الدموع وتنهدات القلب الخفية أكثر من كلمات الشفتين. لقد كلَّت عيناه وفنيتا، أما الله فلا يكل.

4. استنجاده بالوصية الإلهية

"عبدك أنا ففهمني،

وأعرف شهاداتك.

إنه وقت يُعمل فيه للرب،

وقد نقضوا ناموسك"

"لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر [الزبرجد]" [125 - 127].

لقد وجد المرتل في كلمة الله الإجابة على كل أسئلته والشبع لكل احتىاجات نفسه أكثر من الذهب والفضة، فأحبها أكثر من كل كنوز العالم.

v     "عبدك أنا؛ فهمني فأعرف شهاداتك"... يجب ألا تنقطع قط هذه الطلبة. فإنه لا يكفي أن تنال فهمًا وأن تتعلم شهادات الله ما لم تنل الزود المستمر من ينبوع النور الأبدي. لأن شهادات الله تُعرف بطريقة أفضل فأفضل كلما نال الإنسان فهمًا أكثر.

v     "إنه وقت يُعمل فيه للرب، لأنهم قد نقضوا ناموسك"... الآن، ما هو هذا إلا النعمة التي أُعلنت في المسيح في حينها؟

عن هذا الوقت يقول الرسول: "لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه" غلا4:4...

عندما نُقض الناموس، جاء الوقت الذي فيه تُرسل الرحمة بابن الله الوحيد.

v     "لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب والياقوت"...

للنعمة هذا الهدف، أن الوصايا التي لم يكن ممكنًا تنفيذها بالخوف تتم بالحب... لهذا فهي أفضل من الذهب والياقوت. قيل في مزمورٍ آخر: "أشهي من الذهب والحجارة الثمينة الكثيرة" مز10:19. لأن الياقوت يُحسب حجرًا ثمينًا للغاية.

لكنهم إذ لم يفهموا النعمة الخفية التي في العهد القديم بدى لهم كأنه شرير (حز33:34-35؛ 2كو13:3-15) (هذا عني به عندما كانوا عاجزين عن التطلع  وجه موسى)، حيث كانوا يودون طاعة وصايا الله من أجل المكافأة الأرضية والجسدية، لكنهم لم يستطيعوا طاعتها، لأنهم لم يحبوها... وذلك عندما لم تكن الوصايا أعمالاً صادرة عن إرادتهم بل ثقلاً غير مرغوبٍ فيه. لكن عندما صارت الوصايا محبوبة لأجل ذاتها أفضل من الذهب والحجارة الثمينة جدًا، صارت كل مكافأة أرضية تقارن بالوصايا تحسب رديئة. ولم يعد شيئ من كل أمور الإنسان الأخري الصالحة تقارن بهذا الصلاح الذي به يصير الإنسان نفسه صالحًا.

القديس أغسطينوس

v     يقصد بـ "أوقاته" [125] الأوقات المناسبة اللائقة1.

القديس يوحنا ذهبي الفم

إن كان الإنجيل يدعونا إلى عمل حساب النفقة عند بناء البرج، فإن برج حياتنا الروحية الشاهق لا يقوم  حجرٍ واحدٍ بل حجارة كثيرة من الفضائل أثمن من الذهب والحجارة الكريمة، وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص:

[حقًا إن حجرًا واحدًا لا يقيم مبنى البرج الضخم كله، وهكذا حفظ وصية واحدة لا يبلغ بكمال النفس إلى العلو المطلوب. يجب وضع الأساس بكل وسيلة، ولكن يُبنى  الأساس كما يقول الرسول (1كو12:3) ذهب وحجارة كريمة. هكذا هو عمل الوصية كقول النبي الذي يصرخ: "لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب وحجارة كريمة كثيرة"1.]

v     لنقرع باب المسيح الذي قيل عنه: "هذا هو باب الرب والصديقون يدخلون فيه" مز20:119، حتى متى دخلنا يفتح لنا الكنوز المخفية بالمسيح يسوع الذي فيه كل العلم: "المذخر فيه كنوز الحكمة والعلم" كو3:2.2

القديس جيروم

"ولأجل هذا بإزاء كل وصاياك تقومت،

وكل طريق ظلم أبغضت" [128].

إن كان الظالمون والمتكبرون قد قاوموني من أجل ارتباطي بالوصية، فإنني بالحق احتمي فيها، وأدخل إلى أعماق أسرارها، فاشتاق إلى الشهادة لها مهما يكن الثمن.

v     بلاشك تقومت لأنني أحب (وصاياك)، وتمسكت بمحبتها، التي هي مستقيمة فأصير أنا نفسي مستقيمًا. ما أضافه بعد ذلك جاء طبيعيًا: "وكل طريق ظلم أبغضته تمامًا". فإنه كيف يمكن لمن يحب الاستقامة إلا أن يبغض طريق الظلم؟ وذلك كمن يحب الذهب والحجارة الكريمة فإنه يبغض كل ما يسبب له فقدانها. هكذا إذ أحب وصايا الله أبغض الطريق الذي فيه يتعرض لكسر السفينة الثمينة جدًا.

ولكي لا يكون نصيبه هكذا، فمن يبحر  خشبة الصليب بالوصايا الإلهية حاملاً بضاعته يلزمه أن يبتعد عن هذه الصخرة (طريق الظلم).

القديس أغسطينوس

هنا يبرز المرتل الأمور التالية:

أ. لا يقوم فهم الوصية  قدراتي الذاتية بل  عمل الله واهب الفهم والحكمة [125]. لا يعطي معلمنا الإلهي فقط العلم وإنما يهبنا أيضًا الفهم، الأمر الذي لا يقدر معلم آخر أن يهبه. وكما يقول القديس اكليمنضس الإسكندري: [قد يقول قائل إن اليونانيين قد اكتشفوا الفلسفة خلال الفهم البشري، لكنني أجد الكتاب المقدس يقول بأن الفهم هو من عند الله3.]

ب. المعرفة للوصية تهبني قوة للشهادة [125] وذلك بالتنفيذ العملي والمفرح للوصية الإلهية، فيشهد المؤمن للنور بسلوكه فيه.

ج. إنه الآن وقت يعمل فيه الرب، فلا يليق بي التأجيل [126]. وكما جاء في سفر إشعياء: "هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتك، فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب... قائلاً للأسرى اخرجوا، للذين في الظلام اظهروا" إش8:49 إلخ. ويقول الرسول: "لأنه يقول: في وقت مقبول سمعتك، وفي يوم خلاصٍ أعنتك. هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص" 2كو2:6.

كان وقت داود كله وقت عملٍ للرب، لا يعرف الرخاوة. ففي وقت الضيق أو وقت الفرج، في عمله العام أو حياته الأسرية أو حتى أكله وشربه ونومه، يتصرف لحساب ملكوت الله.

بينما لا يكف المرتل عن العمل لحساب الرب بلا انقطاع ينشغل الأشرار بمقاومة ناموس الرب، كما فعل الساحران عند مقاومتهما عمل الله  يدي موسى (خر11:7 إلخ).

د. الوصية أثمن من الذهب والجوهر [127].

v     لما حلّ هذا الوقت، وصارت الأمم للرب، أبغضوا الذهب والجواهر التي منها كانت أوثانهم مصنوعة، وأحبوا وصايا الله وفضلوها  كل نفائس وكرامة العالم.

أنثيموس أسقف أورشليم

لا تسلمني إلى الذين يظلمونني!

1. من يسلك بنعمة الله باستقامة، فيجري عدلاً في أحكامه وتصرفاته، يجسر أن يطلب من الله أن يخلصه من ظالميه [121].

2. لا يقف عند خلاص المؤمن من ظالميه، إنما يطلب من الله أن يكون ضامنًا أو كفيلاً يدافع عنه [122]، فإنه لا يأتمن أحدًا  قضاياه سواه.

3. يتحدث المؤمن المتألم بدموعه التي تفتح أبواب السماء أكثر مما للكلمات المنمقة [123].

4. يشغل المؤمن كل وقته لحساب ملكوت الله، ويعمل الأشرار  هدمه [126].

5. تعطي قوة للعمل في طريق الحق وكراهية طبيعية لطريق الظلم [128].

6. يلذ للمرتل أن يدعو نفسه في هذا الاستيخون "عبد (الرب)" ثلاث مرات:

- كن لعبدك كفيلاً [122].

- اصنع مع عبدك نظير رحمتك [124].

- عبدك أنا ففهمني [125].

كعبدٍ أمينٍ لسيده يطلب منه أن يدافع عنه، ويهبه رحمته، ويعطيه فهمًا!


 

من وحي المزمور 119(ع)

 كن لي كفيلاً!

v     من يسندني ويحفظني من الظالمين المتكبرين؟!

كن لي كفيلاً، ولتدافع عن قضيتي.

خلصني من الأشرار كعصفورٍ من فخ الصياد.

من أئتمنه  حياتي وقضاياي سواك؟

إني أصرخ لك بدموع عيني، طالبًا خلاصك!

v     احسبني عبدًا أمينًا لك تدافع عني،

تصنع معي حسب رحمتك.

وتقدم لي فهمًا من عندك.

بهذا أحب وصاياك أفضل من الذهب والحجر الكريم.

الوصايا التي لم أكن قادرًا  تنفيذها حتى بالخوف من العقوبة،

تصير عذبة وثمينة ومحبوبة لديّ جدًا!

أتممها بالحب ولا أطلب عنها مكافأة زمنية!

v     أحب وصاياك التي هي أثمن من الذهب والحجارة الكريمة.

أحملها في سفينة الصليب،

واهرب من طريق الظلم حتى لا تتحطم السفينة الثمينة للغاية!

<<


 

 

17- ف

 

عجيبة هي شهاداتــك

[129 - 136]

إذ سبق فتحدث عن بركات الوصية كسندٍ وحيدٍ له وملجأ ضد الظالمين والمتكبرين [121-128]، الآن وقد تمتع بخلاص الرب وانفتحت عيناه على أعماق الوصية شاهد فيها عجبًا!

1. عجيبة هي شهاداتك!129.

2. استنارة وبساطة!130.

3. عطية الروح!131.

4. شهادات الرب تشعل الحب لله!132.

5. تقوّم الخطوات!133.

6. تحفظ من الافتراءات! 134.

7. تهبني معاينة وجهك!135،136.

1. عجيبة هي شهاداتك!

"عجيبة هي شهاداتك،

حفظتها نفسي" [129].

v     شهادات الله عجيبة، لأن منها نتعلم كل ما يستوجب العجب وحب كل أنواع الفضيلة مع رفض كل أنواع الرذيلة.

منها نتعلم مجازاة كل (فضيلة ورذيلة).

أنثيموس أسقف أورشليم

v     من يحصي شهادات الله بأنواعها؟ السماء والأرض، أعماله المنظورة وغير المنظورة، تعلن بطريقة ما عن شهادة صلاحه وعظمته... لم يرتعب المرتل من دهشته بسبب الخليقة بل بالحري قال إن هذا يُلزمه بالبحث فيها، لأنها أمور عجيبة. فبعد قوله: "عجيبة هي شهاداتك" أضاف: "لذلك حفظتها نفسي"؛ كمن صار بالأكثر شغوفًا للدخول في صعوبات للبحث فيها. فكلما كان يصعب فهم علة الشيء كان بالأكثر عجيبًا.

القديس أغسطينوس

عجيبة هي شهادات الرب؛ فهي فريدة في كمالها الذي لا يعرف الحدود؛ عجيبة في نقاوتها، خالية من كل الأباطيل؛ عجيبة في إمكانياتها، فهي قادرة أن تسحب الإنسان إلى حضرة الله؛ عجيبة في صدقها، تقدم وعود إلهية أمينة إلى المنتهي. عجيبة هي كلمة الرب لأنها تكشف عن شخص الله وتعلن عن خطته الإلهية ونظرته إلى الإنسان واهتمامه بخلاصه الأبدي.

كلمة الرب المكتوبة عجيبة في كل جوانبها، وكلمة الله المتجسد يُدعى اسمه عجيبًا (إش 6:9)، لأنه جاء يحدثنا بلغة الحب الإلهي العملي، مقدمًا حياته ذبيحة حب ترفع خطايا العالم كله.

تأثر المرتل بشهادات الرب العجيبة فلم يحفظها في ذاكرته فحسب، وإنما في نفسه، في أعماقه الداخلية، لتثمر روحيًا في فكره وأحاسيسه ومشاعره وحتى في جسده. حفظها داود النبي في نفسه لتقدس قلبه وأعماقه، وتقود كلماته وسلوكه الظاهر أيضًا.

2. استنارة وبساطة!

"إعلان أقوالك ينير لي،

ويفهم الأطفال الصغار" [130]

v     من هم الصغار إلا المتواضعون والضعفاء؟ لا تكن متكبرًا، ولا تفكر في قوتك التي هي كلا شيء فتفهم لماذا أُعطى الناموس الصالح بواسطة الله الصالح، وإن كان عاجزًا عن إعطاء الحياة. فقد أُعطي لهذا الهدف أن يجعلك صغيرًا عوض كونك عظيمًا، وليظهر لك أنك بلا قوة لإتمام الناموس بقدرتك، بهذا تشعر بالحاجة إلى العون وأنك فقير للغاية، فتطير بقوة نحو النعمة قائلاً: "ارحمني يارب فإني ضعيف" (مز2:6)...

ليصر الكل صغارًا مرة، وليكن كل العالم مذنبًا أمامك، "لأنه بأعمال الناس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه، لأن بالناموس معرفة الخطية" رو20:3. هذه هي شهاداتك العجيبة، التي تبحث عنها نفس هذا الطفل ويجدها، إذ صار متضعًا وصغيرًا. لأنه من يتمم وصاياك كما ينبغي أي بالإيمان العامل بالمحبة (غلا6:5)، مالم ينتشر الحب نفسه في قلبه بالروح القدس؟ (رو5:5).

القديس أغسطينوس

v     إن بداية أقوالك يا رب تنير وتثقف الأميين الذين بسبب عدم معرفتهم يُدعون أطفالاً. كما تنير الذين باختيارهم رجعوا وصاروا أطفالاً، كما فعل رسلك القديسون وغيرهم. كما أُعطيت حكمة لأطفال اليهود وصبيانهم ووهبتهم إلهامًا لمعرفة أنك المخلص الآتي إلى العالم ومبارك هو اسم الرب، فاستقبلوك بأغصان الأشجار.

أنثيموس أسقف أورشليم

ما أن تدخل كلمات الرب وأقواله إلى النفس حتى تنيرها، إذ خلالها يدخل كلمة الله - شمس البر - ويشرق عليها، مبددًا ظلمتها، وواهبًا إياها إشراقته، ساكبًا بهاءه عليها. كلمات الرب تنير لنا الطريق الملوكي لنعبر من العالم إلى السموات.

والعجيب أن هذه الآنارة التي تهب فهمًا ومعرفة وحكمة لا تجلب كبرياءً بل اتضاعًا وبساطة، فيصيرالمؤمنون كالأطفال الذين من أجلهم تهلل ربنا يسوع بالروح، قائلاً: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" مت25:11.

+ لقد انفتحت بالفعل أعيننا. لقد جاء يسوع ليفتح عيني، ورُفع البرقع الذي غطاهما1.

العلامة أوريجينوس

3. عطية الروح!

"فتحت فمي واجتذبت لي روحًا،

لأني لوصاياك اشتقت" [131].

يشَّبه المرتل نفسه بمسافرٍ في جوٍ حارٍ جدًا، يفتح فمه ليجد كوب ماء بارد وسط الحر القاتل، هكذا تشتاق نفس المرتل إلى عمل الروح القدس الذي يلهب القلب بالحنين نحو كلمة الإلهية. في مزمور آخر يقول: "عطشت إليك نفسي في أرضٍ ناشفة ويابسة بلا ماء" مز 1:63.

الروح الذي فتح أفواه الأطفال والرضع ليسبحوا للمخلص، هو أيضًا يدخل في أذهاننا وفي إنساننا الداخلي لفهم أسرار المخلص والخلاص، فيلهب النفس شوقًا نحو وصايا الرب أو ناموس المسيح الروحي.

يفتح المرتل فمه بعد جري طويل ليجتذب له نفسًا، أي ليتنفس الصعداء... فإن الوصية بالنسبة له هي نسمة يستنشقها في داخله، ترد له حياته.

كثيرًا ما يكرر المرتل قوله "لوصاياك اشتقت"، فقد اشتاق أن ينالها من يدي إلهه كناموسه الخاص، واشتاق أن يتفهمها ليدرك أسرارها، واشتاق أن يحفظها في نفسه ككنزٍ ثمينٍ، واشتاق أن يحملها في الطريق كسراجٍ منيرٍ، واشتاق أن يطيعها كابن يحب وصية أبيه، واشتاق أن يعلمها للغير كي ينعموا بها معه، واشتاق أن يأكلها فهي أشهي من العسل والشهد، واشتاق أن يتمتع بها كميراثه الأبدي.

v     ماذا يشتهي إلا طاعة الوصايا الإلهية؟ لكن لم تكن توجد إمكانية للضعيف أن يمارس الأمور الصعبة، ولا للصغير أن يمارس الأمور العظيمة، لهذا فتح فمه معترفًا أنه قد عجز عن إتمام هذا بنفسه. فتح فمه بالسؤال والطلب والقرع (مت7:7)، وعطش ليشرب الروح الصالح، الذي يمكنه أن يفعل مالا يستطيع فعله بنفسه، فإن "الوصية مقدسة وعادلة وصالحة" (رو13:7). ليس أن الذين أقتيدوا بروح الله (رو14:8) لم يفعلوا شيئًا، وإنما لكي لا يتوقفوا عن العمل يحركهم الروح الصالح للعمل. بقدر ما يصير الإنسان ابنا صالحًا يُعطيه الآب الروح الصالح بدرجة أعظم.

القديس أغسطينوس

v     فتحت فمي وأُجتذبت فيّ الروح، وسلمت نفسي وكل كياني للروح: عملي وكلامي وصمتي، فقط ليمسك بي ويقودني، ويحرك اليد والذهن واللسان إلى ما هو حق، إلى ما يريد. وليضبطهم في الحق فيما هو أكيد.

إنني آلة الله، آلة عاقلة، آلة يضرب عليها الروح، الفنان الماهر فيقدم انسجامًا.

بالأمس كان عمله فيّ هو السكون، فعزفت عن الكلام.

هل يضرب على ذهني اليوم؟ فيُسمع صوتي بمنطوقات... إني أفتح بابي وأغلقه حسب إرادة العقل (الإلهي) والكلمة والروح، اللاهوت الواحد...1

القديس غريغوريوس النزينزي

يربط العلامة أوريجينوس بين تلك الكلمات وبين نشيد الآنشاد: "فليقبلني بقبلات فمه" (نش 2:1)، لأن عروس المسيح تفتح فمها الداخلي لتقبل الروح القدس الذى ينير فكرها، ويهبها استحقاقات نوال قبلات المحبة لعريسها1.

واقتبس القديس إمبروسيوس نفس الفكر حين تحدث عن هذه النعمة، وهي عندما تُقَبِّل النفس السيد المسيح تتقبل الروح القدس عاملاً فيها. يُقبِّل السيد المسيح من يعترف به بلسانه ويؤمن به بقلبه (رو10:10)، ذاك الذي عندما يقرأ الآنجيل يتعرف على أعمال الرب يسوع ويُعجب بها بروح التقوى فيقبل بورع خطواته التي سار بها. نُقَبِل السيد المسيح بقبلة الشركة معه2.

4.  شهادات الرب تشعل الحب لله!

إذ يفتح المؤمن فمه الداخلي ويتقبل عمل الروح القدس فيه يمتلئ قلبه حبًا لله فيمارس وصيته، وبممارسته الوصية أو طاعته لها يعلن عن حبه لله ويجتذب نظراته إليه. لهذا يطلب المرتل من الله أن ينعم عليه بنظرته الإلهية التي بها يتطلع إلى محبوبيه الأخصاء، ويهبهم رحمته الخاصة بالذين يحبونه.

"أنظر إليَّ وارحمني،

كرحمتك للذين يحبون اسمك" [132].

في اتضاع لم يطلب من الله أن يمد يده للعون فهذا كثير جدًا، لكنه يكفيه نظرات حنانه وابتسامته له لتلهب الحياة. إنه لا يطلب ما يستحقه بل حسب المراحم الإلهية المجانية لمحبي اسمه القدوس.

v     المرحومون من الله صنفان: أحدهما الذين كفوا عن الخطية، يرحمهم الله ويغض نظره عن خطاياهم. والثاني الذين نجحوا في عمل الفضيلة... الذين لأجل محبة اسمك يصنعون ما يجتذب إليهم نظرك.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     لا يزال يصلي، يفتح فمه ويجتذب فيه الروح.

إنه لا يزال يقرع على باب الآب بالصلاة. يطلب ويشرب، وكلما وجده عذبًا أكثر يعطش بأكثر شغف. اسمع كلماته في عطشه: "أنظر إليَّ وارحمني، كأحكامك للذين يحبون اسمك"... إذ أحببتهم أولاً جعلتهم يحبونك، هكذا يقول الرسول: "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً" 1يو19:4.

القديس أغسطينوس

5. تقوّم الخطوات!

ممارسة المرتل للوصية من واقع حبه لله يهبه نظرات الرب الخاصة ومراحمه، بهذا تتشدد قدماه للتحرك في الطريق الملوكي بحرية كمن يطير، لا سلطان للإثم عليه، ولا يقدر أن يوقف خطواته الرزينة القوية.

"قوّم خطواتي كقولك،

ولا يتسلط عليّ أي إثم..." [133].

v     إن رجعنا عن عمل السوء، واتجهنا نحو عمل الخير يقوِّم (الله) خطواتنا، ويمهد طرقنا، ويصلح سيرتنا، ولن تقدر الخطية أن تتسلط علينا.

أنثيموس أسقف أورشليم

تترنم حنة أم صموئيل قائلة: "أرجل أتقيائه يحرس، والأشرار في الظلام يصمتون" 1صم 9:2. هكذا يشعر أتقياؤه أن الله يعين خطواتهم بنعمته، فلا يتحركون إلا حسب مشيئته المقدسة، لأن لا سلطان لهم عليهم مادام الرب نفسه يقود حركتهم في طريق الكمال.

v     بقدر ما يزداد حب الله مالكًا على كل إنسان، يقل بالأكثر سلطان الإثم عليه.

ماذا يطلب سوى أن يعطيه الله أن يحبه؟ لأن بحبه لله يحب نفسه، ويحب قريبه كنفسه بطريقة صحية. على هاتين الوصيتين يتعلق كل الناموس والآنبياء (مت37:22-40).

بماذا إذن يصلي سوى أن الله يقدم معونته في إتمام هذه الوصايا التي فرضها ليرتبط بها؟

القديس أغسطينوس

6. تحفظ من الافتراءات!

"انقذني من بغي الناس،

فأحفظ وصاياك" [134].

v     تعبير "انقذني من بغي الناس" جاء باليونانية "انقذني من بهتان الناس"، أي من افتراءاتهم، ومعناه "من تعاليم الهراطقة"، لأنهم يفترون على الإيمان الحقيقي بنطقهم ما يخالف الحق.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     ألم يحفظ أناس الله القديسون الوصايا بأكثر مجد وسط هذه المصائب عينها، عندما كانوا في أشد لحظات الضيقة، ولم يذعنوا لمضطهديهم ويرتكبوا سيئات؟ لكن بالحق معنى هذه الكلمات هنا هي: هل بسكبك روحك عليّ تحفظني فلا انهزم أمام رعب المصائب البشرية، ولا انسحب من وصاياك إلى الأعمال الشريرة؟ فإن صنعت هكذا معي، أي إن كنت بوسيلة ما تخلصني بعطية الصبر من مصائبهم، فلا أخاف من الاتهامات الباطلة التي يوجهونها ضدي، بهذا أحفظ وصاياك وسط هذه المصائب.

القديس أغسطينوس

ذاق داود النبي المرارة بسبب افتراءات الأشرار، فحُرم مرات كثيرة ولفترات طويلة من التمتع من مقدس الرب ومن شركة العبادة الجماعية ومن الوجود وسط الشعب، ليبقى طريدًا بلا ذنب من جانبه. وها هو يطلب معونة الله وخلاصه لئلا تشتد الضيقة فوق احتماله. حقًا في أحلك اللحظات كان وهو مطرود يشعر أنه كشجرة الزيتون المغروسة في بيت الرب، لا يقدر أحد أن يقتلعه من مقدس الرب، ولا من ينزع المقدس من أعماقه... ومع هذا لم يكف عن الصراخ طالبًا العون الإلهي، وكأنه يقول: "لا تدخلنا في تجربة".

إذ يُرفع  الظلم عن أولاد الله لا يستخدمون الحرية للانحراف بل لمجد الله، فعندما أُطلق بطرس ويوحنا "أتيا إلى رفقائهما" أع23:4 يسبحان الله ويمجدانه.

7. تهبني معاينة وجهك!

عمل الوصية تقديم الحق الذي ينقذنا من افتراءات الهراطقة، ويهيئنا لمعاينة المخلص "وجه الآب"، شمس البرّ، لذا يقول:

"أضيء بوجهك علي عبدك،

وعلمني حقوقك" [135].

v     بمعنى أعلن حضرتك بمساعدتك ومعونتك لي، "وعلمني برّك".

علمني أن أصنع برّك، وقد عبَّر عن ذلك بأكثر وضوح في موضع آخر: "علمني إرادتك" (مز10:143). فالذين يسمعون، مع أنهم يحفظون في ذاكرتهم ما يسمعونه، ألا أنهم لا يُحسبون بأية طريقة أنهم يتعلمون مالم يمارسوا ما يسمعونه. فإن كلمة الحق هي: "كل من سمع من الآب وتعلَّم يقبل إليَّ" يو45:6. لذلك من لا يطيع بالعمل، أي لا يُقبل (إليه) لا يكون متعلمًا.

القديس أغسطينوس

كان داود الملك يعتز بلقب "عبد الرب"، حاسبًا هذا كرامة له، يطلب رضاه حتى وإن وقف الكل ضده.

إن كان الأشرار يتهمونني ظلمًا ويفترون عليَّ ليدخلوا بي إلى ظلمة القبر، فأنت تشرق عليّ بوجهك فأمتليء بهاءً. هم يحثونني على كسر وصيتك وأنت تكشف لي أسرارها وتعلمني حقوقك.

عندما يشرق الله علينا بنوره لا نظن أننا قد بلغنا الكمال فنعلِّم الآخرين في كبرياء وتشامخ، وإنما بالأكثر نشعر بالحاجة إلى التعلم لندخل إلى أعماق جديدة ونتمتع باستنارة أعظم. أما من جهة الآخرين فنعلمهم لا من كراسي المعلمين ولكن بروح الأبوة الحانية، حيث لا تجف دموعنا من أجل توبتهم ورجوعهم إلى الله. فإن إشراق شمس البر علينا يهبنا دموعًا لا تجف من أجل الخطاة.

"غاصت عيناي في مخارج المياه،

لأنهم لم يحفظوا ناموسك" [136].

v     لا تتركوا شيئًا يُبعدكم عن الندامة، ففي هذا تشتركون مع القديسين، فإنه بمثل هذا الحزن على الخطية تشبهون القديسين. داود "أكل الرماد خبزًا، ومزج شربه بالبكاء" مز9:102. لهذا يفرح كثيرًا لأنه بكى كثيرًا، إذ قال: "جرت عيناي في أنهار المياه"1.

القديس إمبروسيوس

v     يقول في نوع من المبالغة أنه في بكائه قد عبر مجاري المياه، أي ببكائه أكثر من المياه التي تفيض من مجاريها.

القديس أغسطينوس

لم يبكِ داود على آلامه وأتعابه الكثيرة واليومية، لكنه بكى على الخطاة لأنهم يهينون ويفقدون خلاصهم الأبدى. بهذا حمل روح إلهنا القائل: "لأني لا أُسر بموت من يموت" حز32:18. بكى المخلص أيضًا على مدينة أورشليم لأن سكانها لم يتوبوا. وغسل بطرس إنكاره الثلاثي بدموع غزيرة مرة، محققًا كلمات النبي: "جرت أنهار مياه من عينيْ". وناح إرميا أيضًا على شعبه غير التائب، قائلاً: "ياليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً... شعبي2".

عجيبة هي شهاداتك

1. فريدة في كمالها ونقاوتها وفاعليتها وأمانتها، لذا حفظها المرتل ليس في فكره بل في نفسه لتثمر في كل جوانب حياته [129].

2. تشرق بالنور في النفس فتمتليء بهاءً، لكن بروح البساطة والوداعة، فتجعلها كطفلٍ بسيطٍ وحكيمٍ [130].

3. يفتح فمه ليلهث مستنشقًا إياها، ومعلنًا شوقه إليها كي يحفظها في داخله، يأكلها، ويمارسها، ويتفهم أعماقها، ويرثها، ويعلم بها.

4. إذ نحفظها في أعماقنا وفي سلوكنا نتأهل إلى نظرات الله نحونا المملوءة حبًا ورحمة!

5. بالنعمة تسند وصية الرب خطواتنا وتحفظنا من سلطان الشر والأشرار علينا حتى نبلغ الكمال ونتمتع بالقداسة.

6. يشتاق المؤمن أن يحفظه الله من افتراءات الأشرار [134]، وأن يشرق بوجهه عليه فيكسبه بهاءً [135]، ويدخل إلى معرفة جديدة للوصية مع محبة حانية لتوبة الخطاة ورجوعهم.

 

V V V


 

من وحي المزمور 119(ف)

شهاداتك عجيبة تهواها نفسي!

v     عجيبة هي شهاداتك، فهي فريدة في كمالها ونقاوتها،

قادرة في صدقها، تقدم لي مواعيد إلهي الأمينة.

عجيبة هي شهادتك، احفظها لا في ذاكرتي فحسب،

وإنما في أعماقي لتعمل في افكاري وأحاسيي وكل كياني.

تقدس قلبي، وتقود كلماتي وسلوكي.

v     ناموسك يشرق عليّ، فيكشف لي عن ضعفي!

اعترف لك إني طفل صغير وجاهل.

تهبني العلم والمعرفة لأتقبل عمل الروح فيّ.

إني أفتح فمي لأقبلك، فأتقبل عمل روحك فيّ!

v     إذ أهوى شهادتك تتطلع إليّ، تؤهلني لنظراتك المملوءة حبًا ورحمةً!

تتشدد قدماي للتحرك في طريق وصاياك بحرية.

أطير كما إلى السموات، ولا سلطان للإثم عليّ!

لا أبالي بافتراءات الأشرار الباطلة، ولا أنسحب من وصاياك إلى الأعمال الشريرة!

بهذا أعاين وجهك، ويشرق نورك عليّ!

تئن نفسي وأبكي بمرارة علي من لم يتمتع معي بنورك.

<<

 


 

18- ص

 

عادلة هي شهاداتك إالى الأبد

 [137 - 144]

تلامس المرتل مع الوصية فوجدها عجيبة في قوتها وفاعليتها، والآن يلمس فيها العدالة بالرغم مما يظنه البعض كأن أمور العالم يسودها الظلم بلا رادع. أدرك المرتل أنه أصغر من أن يدافع عن عدالة أحكام الله وشهاداته أو حتى أن يفهمها أو يفسرها. لقد تأكد أن الله حب، في حبه رحوم وعادل، رحمته مملوءة عدالة، وعدله مملوء رحمة. لقد ظهر هذا بكل وضوح في الصليب ينبوع الحب الإلهي والعدالة.

1. عادل أنت يا رب

"عادل أنت يا رب،

وقضاؤك مستقيــم.

أمرت بالحق والعدل جدًا،

اللذين هما شهاداتك" [137،138].

يبدو للإنسان في أول وهلة أن الظلم يسود العالم، لكن من يتأمل بروية وحكمة أحكامك يعرف أنك أنت هو "العدل" و"الحق"، وأن قضاءك مستقيم.

v     فلنتأمل كلمات المزمور الحكمي: "بار أنت يارب، وقضاؤك مستقيم". لا يقدر أن ينطق بهذا إلا الذي يعظم الرب في كل ضيقاته، وينسب آلامه إالى خطاياه، مقدمًا الشكر لله من أجل رحمته1.

القديس جيروم

v     "بار أنت يارب، وقضاؤك مستقيم"... برّ الله هذا وحكمه المستقيم والحق يجب أن يخشاه كل خاطئ. فإن كل من يُدان إنما يُدان بواسطة الله، ولا يمكن أن يوجد من يشتكي بحق ضد برَّ الله عندما يُلقى في جهنم. لهذا توجد حاجة إالى دموع الندامة، فإنه بعدل تُدانٍ القلوب غير التائبة.

يدعو شهادات الله برًّا، إذ يؤكد أنه بار بتقديمه وصايا بارة. وهذا أيضًا حق؛ بمثل هذه الشهادات يُعرف الله.

القديس أغسطينوس

عجيب هو الرب في عدله الممتزج بالحب، فإن كان بالعدل قد حكم علينا بالموت كثمرة طبيعية لانفصالنا عنه، مصدر حياتنا، فبمحبة قَبِلَ الحكم في جسم بشريته، محققًا العدالة الإلهية ليصالحنا مع الآب فنسترد الحياة.

كما أن الله عادل ولا يمكن أن يصنع شيئًا بدون عدلٍ، هكذا يريدنا نحن أن نقتدى به فنسلك بالبرّ والعدل كأبينا السماوي، وذلك في معاملاتنا مع أنفسنا أو مع الغير أو مع الله نفسه.

2. غيرة المرتل على عدالة الله

إذ يرى المرتل في الكنيسة بيت الله، بيت العدل الإلهي والبرّ، لذا ذاب في غيرته عليها، هذه التي هي موضع هجوم العدو المستمر من اتجاهات متعددة.

"غيرة بيتك أذابتني،

لأن أعدائي تناسوا أقوالك" [139].

ينطبق هذا القول على السيد المسيح الذي في غيرته على كنيسة الله، أي حبه لخلاص المؤمنين ذاب كالشمع حين عُلق على الصليب ليحقق العدالة الإلهية وفي نفس الوقت يكشف عن الحب الإلهي اللانهائي، لكن خاصته التي تحولت إالى العداوة تناسوا أقواله التي سبق فأعلنها على ألسنة الآنبياء.

المؤمن الحقيقي أيضًا يمتلئ غيرة على بيت الرب الذي في داخله، وبيته المُقام في كل نفس بشرية. يشعر بقيمة النفس باذلاً كل حياته الزمنية، متنازلاً عن كل حقٍ وكرامة من أجل إقامة بيت الرب المجيد في أعماق النفس. يغير الإنسان على وقته أيضًا وطهارته... وتبقى هذه الغيرة ملتهبة حتى ما بعد الموت. وكما يقول القديس جيروم هل تظن أن بولس الرسول الذي كان مملوء غيرة على خلاص كل نفسٍ، فكان يتنقل من بلد إالى أخري كما من حجرة إالى حجرة في بيتٍ واحدٍ، هل تتوقف غيرته ومحبته بعد رحيله من الجسد؟! حتمًا لا، بل تزداد غيرته مصليًا من أجل خلاص العالم كله.

v     ع139 "غيرة بيتك أكلتني، لأن أعدائي نسوا وصاياك"... جاء في بعض النسخ "غيرتك"، وهي تعني إنسانا غيورًا على الله لا على ذاته...

تُفهم غيرة المرتل هنا بمعنى صالح، مقدمًا السبب لها، قائلاً: "لأن أعدائي نسوا وصاياك" [139].

القديس أغسطينوس

بقول المرتل "تناسوا أقوالك" يكشف عن مدى تماديهم في الشر، فإنه قد يكسر الإنسان الوصية لكن ضميره في الداخل يثور ويبكته حتى إن حاول تهدئته، أما أن يتناسى الإنسان الوصية ويتجاهلها تمامًا، فهذا أمر له خطورته.

"مُحمي قولك جدًا

وعبدك أحبه" [140].

v     إن قول مُحمي أي لا غش فيه ولا تملق ولا مزاح، ولا مراءاة؛ لكنه حيّ وفعّال وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارق إالى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميز أفكار القلب ونياته... (عب12:4 إلخ)، فالذي يكون عبدًا لله يحبه.

أنثيموس أسقف أورشليم

إذ يشتاق قلب المرتل إالى النقاوة يرتبط بأقوال الله النارية، أو النقية في معانيها وفي روحها وفي فاعليتها، إذ وهي نقية قادرة أن تهب النقاوة، وتلهب القلب بنارها.

v     يا لها من نفس بائسة تلك التي انطفأ فيها نار الإيمان، وتحول دفء المحبة إالى برودة!

حينما يأتي رئيس كهنتنا السماوي إليها ويطلب منها جمرًا مشتعلاً يُقدم عليه بخور للآب يجد أعشابًا يابسة ورمادًا باردًا فيها!

هذا هو حال من ينسحبون ويبتعدون عن كلمة الله لئلا يسمعوا الكلمات الإلهية ويلتهبوا بالإيمان وينموا في دفء المحبة، ويشتعلوا بالرحمة.

أتريدون أن أريكم كيف تتوهج النار بكلمات الروح القدس فتضيئ القلوب في المؤمنين؟ انصتوا إالى داود وهو يتحدث في المزمور "ممحص قولك جدًا" [140]. ومكتوب في الإنجيل أيضًا بعد أن تحدث الرب مع كليوباس: "ألم يكن قلبنا مشتعلاً فينا؟" (لو 32:24).

وأنتم متى تقتنون النار؟ كيف يوجد فيكم جمر النار إن لم تشتعلوا دائمًا بكلمات الرب، وتتقدموا أبدًا بكلام الروح القدس؟ انصتوا إالى داود نفسه الذي يقول في موضع آخر "حمي قلبي في جوفي، عند لهجتي اشتعلت النار" (مز 3:39) فكيف تزدادون دفئًا؟ أين تتوقد فيكم النار إن لم تتأملوا أبدًا في الكلمات الإلهية؟ بل والأسوأ من ذلك إذ حميت ناركم في الملاهي (السيرك) أو في سباق الخيل أو في الحلبات الرياضية، هذه النار لا تأتي من مذبح الرب بل هي تلك النار المسماة "نار غريبة". وها أنتم قد استمعتم منذ لحظات ماذا حدث عندما أحضر بعض الناس نارًا غريبة قدام الرب، وكيف أُبيدوا (لا 1:16)1.

العلامة أوريجينوس

v     يصعب على النفس البشرية أن تتجنب أن تحب شيئًا ما، بل يلزم لذهننا بالضرورة أن يفتح الطريق للعاطفة لشيءٍ أو آخر. محبة الجسد تُغلب بمحبة الروح. تُطفأ الشهوة بشهوة أخرى. ما يؤخذ من الواحد يُزاد بالآخر2.

القديس إمبروسيوس

أما سرّ غيرة داود منذ شبابه على عدالة الله، فلأنه اختبرها عمليًا عندما كان أصغر إخوته، مرذولاً حتى من أبيه الذي لم يستدعه عندما أراد صموئيل النبي أن يمسح أحد ابنائه ملكًا، أما الله فلم ينسه. وكما يقول:

"شاب أنا ومرذول،

وحقوقك لم أنسَ.

عدلك حق هو إالى الأبد.

كلامك حق هو" [141،142].

يشعر المرتل أنه شاب صغير، أصغر من أن يقف موقف الناقد لكلمة الله وللوصية، إنما موقف الإنسان الناري المشتاق إالى التمتع بوعود الله. إنه يعلم أن عدل الله حق، وكلامه حق. لذا يخضع لينعم بهذا الحق الإلهي ويتمتع بالمعرفة السماوية الفائقة.

v     "صغير أنا ومرذول، وحقوقك لم أنسَ"... يبدو أن الأصغر يحزن على من هم أكبر منه، هؤلاء الذين نسوا برَّ الله، أما هو فلم ينسَ. فإنه ماذا يُعني بقوله: "صغير أنا... ولكنني لم أنسً"؟ سوى هذا: هؤلاء الأكبر مني قد نسوا...

لنتعرف على الأمتين، اللتين كانتا تتصارعان حتى في رحم رفقة، عندما قيل لها ليس من أجل الأعمال بل من أجل ذاك الذي يدعو: "الكبير يُستعبد للصغير" (تك22:25،23؛ رو12:9،13). لكن الأصغر هنا يقول أنه بلا صيت، لهذا صار الأعظم، "هكذا يكون الأوَّلون آخرين، والآخرون أوَّلين" مت 16:20.

v     إننا لا نعجب أن الذين نسوا كلمات الله، الذين اختاروا أن يثبتوا برّهم الذاتي يجهلون برّ الله (رو3:10)، وأما هو، الأصغر، فلم ينسَ، لأنه لا يطلب برّ نفسه الذاتي، بل برّ الله، والذي يقول عنه الآن: "برّك هو إالى الأبد، وناموسك حق هو" [142].

القديس أغسطينوس

يرى العلامة أوريجينوس أن هذا الشاب هو أيضًا جماعة الأمم الحديثون في الإيمان، كانوا مرذولين من اليهود الذين سبقوهم في الإيمان بالله (في العهد القديم). لم ينسَ الله الأمم إذ فتح لهم باب الإيمان.

v     كيف لا يكون الناموس هو الحق،هذا الذي جاءت منه معرفة الخطية والذي يشهد لبرّ الله؟ هكذا يقول الرسول: "برّ الله مُعلن، مشهود له من الناموس والآنبياء".

القديس أغسطينوس

كلام الرب ليس حقًا فحسب وإنما هي "الحق" بعينه الذي يلزم دراسته والتدرب عليه.

"ضيق وشدة أدركاني،

ووصاياك هي درسي" [143]

v     لا يشترك أي رياضي في مسابقة رياضية ما لم يتدرب أولاً. فلندهن أذرع نفوسنا بزيت القراءة، ويكون لنا تدريب منتظم نهارًا وليلاً في صالة تدريب (جمينزيم) الكتاب المقدس.

القديس إمبروسيوس

v     من أجل الناموس احتمل الأصغر اضطهادًا من الأكبر، فيقول الأصغر: "ضيق وشدة أدركاني، ووصاياك هي درسي".

v     ليثوروا وليضطهدوا، فبحسب الوصايا لنحب حتى الثائرين.

 القديس أغسطينوس

"عادلة هي شهاداتك إالى الأبد،

فهمني فأحيا" [144].

من يقبل الوصية يتعرض لمتاعب كثيرة، وكما يقول الرسول: "من خارج خصومات، من داخل مخاوف" 2كو5:7. لكن دراسة وصية الرب والآنشغال بها كفيلة برفع القلب فوق الضيق والشدة.

v     يصلي هذا الصغير من أجل الفهم، حتى إذا لم يكن له فهم يصير أحكم من الشيوخ [100].

إنه يُصلي إذ هو في متاعب ومصاعب حتى يفهم أن كل أعدائه المضطهدين يستخفون به، إذ يقول انهم يحتقرونه. لذلك يقول: "فأحيا"، لأنه إن كانت المتاعب والأثقال قد بلغت به إالى حُفرةٍ كهذه حيث صارت حياته في أيدي أعدائه المقاومين، إلا أنه يحيا إالى الأبد، فهو يفضل البرّ الذي يبقى إالى الأبد عن الأمور الزمنية. هذا البرّ وسط المتاعب والمصاعب هو شهادات لله Martyria Dei بها يكلل الشهداء.

القديس أغسطينوس

شهاداتك هي عدل إالى الأبد

1. إن كان الظلم يسود العالم، لكن عدل الله باقٍ إالى الأبد.

2. يعلن المرتل غيرته الشديدة في الدفاع عن عدل الله وحقوقه.

3. شهادات الله عدل وبرّ قادرة أن تهبنا النقاوة وتدخل بنا إالى الحق ذاته.

4. يستصغر الأشرار المرتل ويرذلونه، أما هو فمتهلل بالوصية التي تحمله إالى ما فوق الضيق.

 

V V V


 

من وحي المزمور119 (ص)

عادل أنت يارب …  حتى إن ساد العالم الظلم

v     من أنا يا رب حتى أدافع عن عدلك وبرّك؟!

من يشتكي ضد برّك، فإن ما يحل بي هو بسبب خطاياي!

v     بعدلٍ حكمت على بالموت الأبدي،

وبحبك حملت الحكم في جسم بشريتك.

عادل وأنت ومحب يا مخلص البشر!

v     في غيرتك على كنيستك ذاب قلبك كالشمع على الصليب.

وفي غيرتي على كنيستك أشتهي الموت من أجل خلاص كل نفسٍ!

تبقى غيرتي على كنيستك حتى بعد رحيلي.

ها هو كل القديسين يطلبون بنيانهم وخلاص الجميع.

v     التهب قلبي بنار الغيرة المقدسة.

لتبقى كلماتك نارًا مشتعلة في أعماقي.

لتلهب حبي فلا يستطيع العالم أن يطفئ ناره.

لتحرق نار كلماتك المقدسة نيران الشهوات الجسدية والملذات!

v     تجاهل يسى ابنه داود الصبي حين جاء صموئيل النبي ليدهنه ملكًا!

أبي وأمي يتجاهلاني، أما أنت فلن تنساني!

صغير أنا ومرذول عن أن أنتقد عدلك.

عدلك حق، حتى وإن لم أستطع فهمه.

<<

 


 

 

19- ق

 

قريب أنت يا رب

[145 - 152]

يؤمن المرتل بعدالة الله ويثق في أحكامه مهما كانت الظروف المحيطة به، بهذا تخرج صلاة القلب لتستقر في قلب الله، وتجد هناك تجاوبًا معها. يصرخ بقلبه إلى الله العادل والقريب إليه جدًا، ليسمعه ذاك الحالّ في قلبه.

1. صرخات قلبيــة145-146.

2. صرخات عاجـــلة147-149.

3. اقتراب الأشرار واقتراب الرب. 150-152.

1. صرخات قلبية

"صرخت من كل قلبي،

فاستجب لي يا رب؛

أطلب حقوقك" [145].

بينما كان موسى النبي صامتًا بفمه قال الرب: "مالك تصرخ إليّ؟!" خر15:14. هكذا إذ كان قلب موسى النبي مقدسًا سمع الله صرخاته الخفية واستجاب لها قبل أن يعبِّر عنها بشفتيه. على العكس قد يصرخ إنسان لله لساعات طويلة فيسمع القول: "ليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السموات".

لكي يسمع الله صرخاتنا يلزمنا أن نقدمها من كل القلب، فلا يكون القلب مشغولاً بآخر غير إلهه، وأن يكون القلب مقدسًا متجاوبًا مع الله القدوس، وأن تكون الصرخة متفقة مع فكر الله وإرادته.

لقد كان داود رجل صلاة بحق يعرف كيف يقدم صلواته فتستجيب له السماء:

v     كان يقدمها من كل قلبه [145]. هذا هو جوهر الصلاة، حيث تتكرس النفس بكل طاقاتها ومشاعرها لحساب الله.

v     كان يطلب حقوق الله، أي صلاة حسب إرادته الإلهية [145].

v     يطلب لنفسه الخلاص لا الأمور الزمنية [146].

v     يطلب عونًا ليحفظ وصاياه، أيضًا ينفذها ويثابر عليها [146].

v     يطلب استجابة الصلاة من الله وحده، إذ لا رجاء له في ذراع بشري. لقد أدرك أن الحاجة إلى واحدٍ (لو 42:10).

v     الصرخة ليست إلا صوتًا قويًا يدل على أهمية ما ينقله إلى الله. في الحقيقة، يصرخ الصديق إلى الله عندما يطلب أمورًا عظيمة وسماوية. هكذا قيل عن هابيل الصديق عند موته: "صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض" تك10:4. قيل هكذا لتوضيح أن الصديق يصرخ إلى الرب مصدرًا صوتًا قويًا.

يقول الرب لموسى النبى المُطارد من المصريين: "مالك تصرخ إليّ؟" خر15:14. أما نحن، فعندما نصير قديسين، تكون في داخلنا هذه الصرخة، لأن الروح الساكن فينا يصرخ، قائلاً: "يا أبَّا الآب" رو15:8؛ غل6:4...

أيضًا اسمع القول: "وقف يسوع وصرخ قائلاً: "إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب" يو35:7. إذن، من هو هذا الذي يصرخ إلى الله؟ ذاك الذي يتضرع من أجل أمورٍ عظيمةٍ، ولا يطلب أمورًا تافهة.

كيف صرخت؟ "من كل قلبي، فاستجب لي"... يقول المرتل: إنني لا أنطق بفتور، ليس بشفتي ولا بالفم فقط، وإنما انطق بقلبي... أوجه إليك صلاتي طالبًا منك أن تستجب لي يا رب، إذ أنا أطلب حقوقك، كي أنال فهمًا دقيقًا وأصير بها حكيمًا.

العلامة أوريجينوس

v     إلى أي مدى تنفع صرخته، يجيب: "إني أبحث عن البرّ. لهذا الهدف يدعو الله من كل قلبه". لقد اشتهي أن ينال هذا من قِبل الرب الذي ينصت إليه طالبًا برَّه.

القديس أغسطينوس

"صرخت إليك فخلصني،

لأحفظ شهاداتك" [146].

كانت صلاته قصيرة جدًا: "خلصني"، لكنها تحمل معانٍ كثيرة، منها:

v     خلاص من مؤامرات الأعداء.

v     خلاص من التجارب القاسية.

v     خلاص من الخطايا والإغراءات.

v     خلاص للنفس بتجديدها المستمر.

v     خلاص من العار وللتمتع بالمجد الفردوسي المفقود.

أما غاية هذه الصلاة أو غاية خلاصه فهو: "لأحفظ شهاداتك"، أيضًا يبقى شاهدًا أمينًا لله مخلصه بحياته الملتهبة حبًا لله والناس.

يقول القديس أغسطينوس أنه في بعض النسخ اليونانية واللاتينية جاءت "دعوتك" بدلاً من "صرخت إليك". ماذا تعني "دعوتك" إلا أنه بدعوتي إليك أبتهل إليك.

v     عندما قال: "خلصني"، ماذا أضاف؟ "لأحفظ شهاداتك". فإنه متى كانت النفس سليمة (غير مريضة، أي متمتعة بالخلاص) فإنها تتمم ما يلزم أن تعمله. فتجاهد حتى إلى موت الجسد، وذلك عندما تمتد التجربة إلى هذه الدرجة من أجل الدفاع عن الحق الخاص بالشهادات الإلهية. أما إذا كانت النفس عليلة فيغلب عليها الضعف ويصير الحق مُستهانًا به.

القديس أغسطينوس

v     طلبتك بصوتٍ عالٍ لذلك "خلصني"، وأنا أتعهد أنني إذ أخلص أحفظ الأوامر التي سلمتني إياها أمام الشهود من أجل خلاصنا.

العلامة أوريجينوس

2. صرخات عاجلة

إذ كان الأمر جد خطير للغاية يمس أبديتي رفعت صوت قلبي بصرخات متوالية طالبًا الخلاص مع تعهدى بحفظ شهاداتك حتى وسط الضيق. ولما كان الوقت مقصرًا والأيام شريرة (1كو 29:7) فإننى أسرع لأقدم صرخات عاجلة في الليل والسحر حتى تشرق عليَّ يا شمس البرّ وتحول حياتي إلى نهارٍ دائمٍ. إنني لا أتوقف عن الصراخ ودراسة مواعيدك لي:

"سبقت فبلغت في غير وقت (في وقت الظلمة) وصرخت،

وعلى كلامك توكلت.

سبقت عيناي فبلغتا وقت السحر

لتدرسا في أقوالك" [147،148].

v     يمكننا أن نستفيد بتفسير النص حرفيًا، كما ننتفع بتفسيره روحيًا أيضًا.

هذا هو المعنى الحرفي: إنني لم أنتظر قدوم النهار لأصلي لك، لكنني نهضت في وقت الظلام، في الليل، مصليًا إليك... حتى أنال شروق نور الحق في نفسي. هذا وخلال رجائي (في كلامك) "انتظرت" من جديد، ناميًا في الحب، حيث أن "المحبة ترجو كل شيء" 1كو7:13.

أما المعنى الروحي فهو: انه ليس بالأمر المدهش أن ينهمك شيخ لم تعد تزعجه شهوات جسده، وإنما ما هو مدهش أن شابًا (سبق فبلغ في غير وقت) يحتقر الرذائل الشبابية ولا ينتظر، بل في وقت الظلمة يريد أن ينتصر على شهواته الشبابية بحكمة الشيوخ. حينئذ أستطيع أن أقول عن هذا الشاب أنه حقق المعنى الروحي لهذه الكلمات: "لم أنتظر وصرخت في وقت الظلمة. انتظرت كلامك في رجاء متزايد".

v     فتحت عيني في السحر، منشغلاً بالصلاة إليك، لكي ألهج بكلامك قبل أي عمل.

العلامة أوريجينوس

v     كان أولاً "في وقت الظلمة" [147]، التي يمكن أن تُشبه بالعالم الحاضر، فإننا كثيرًا ما نسميه ليلاً بمقارنته بالعالم العتيد الذي يُطلق عليه "نهار"، كما يظهر من النص التالي: "قد تناهي الليل وتقارب النهار" رو12:13.

v     ما يُسميه هنا "عينيه" [148] يعني به قدرته على الرؤيا، فإنه لم ينتظر شروق شمس البرّ (ملا 20:3) حيث يستنير ويحل ملء النهار، بل صار يلهج في أقوال الله لتهبه أجنحة فينطلق إلى المرتفعات، ويدخل إلى الشركة مع النور الحقيقي نفسه دون استخدام برقع، فلا يكون "وقت ظلمة" بل يتواجد في النور الكامل، الذي هو نور الظهيرة.

القديس ديديموس الضرير

v     يتطلع إليك "الشمس" بنظرة متجردة إذا ما أشرق ليجدك في السرير تغط في شخير وكسلٍ عميق! فأنت مدين بأبكار ثمار قلبك وصوتك لله حيث أمضى الرب يسوع ليالٍ في الصلاة. إعطه ما أعطاك.

القديس أمبروسيوس.

v     إن كنا هنا نشير إلى كل مؤمن... فغالبًا ما تستيقظ (فيه) محبة الله في تلك الساعة من الليل، وتحثنا محبة الصلاة بقوة في ساعة الصلاة، التي تريد أن تكون قبل صياح الديك.

أما إن فهمنا هنا ليل هذا العالم، فإننا بالحقيقة نصرخ إلى الله في منتصف الليل، قبل نهاية الزمن الذي فيه سيُصلح من حالنا كما وعدنا...

إن اخترنا أن نفهم هذا الليل بالزمن الذي لم يتم بعد، أي قبل مجيء ملء الزمان (غلا4:4)، حيث يظهر المسيح في الجسد، فإنه في ذلك الوقت في أيام العهد القديم لم تكن الكنيسة صامتة، بل كانت تصرخ خلال النبوات، واثقة في كلمات الله القادر أن يتمم ما وعد الله به، أن جميع الأمم تتبارك بنسل إبراهيم (تك3:12؛18:22).

القديس أغسطينوس

ربما عني المرتل أنه وهو في وقت الظلمة، أي تحت ظلال العهد القديم، حيث لم يشرق بعد شمس البرّ استطاع المرتل بصرخات قلبه الداخلية ودراسته لوعود الله وأقواله أن تنفتح بصيرته الداخلية ويعاين أسرار الخلاص كما في وقت السحر! لقد حسب المرتل نفسه كمن يعيش في ظلمة الليل حيث يرى المسيح قادمًا ليشرق بنوره على الجالسين في الظلمة. لقد رآه خلال النبوات والرموز، خلال الظلال، لذا ما أن حلّ السحر وبدأت بوادر النور الإلهي حتى أسرع يدرس في أقوال الله ليتعرف على شخص المسيا القادم لخلاصه.

يترجم البعض تعبير "وقت السحر" بـ "الهجعات" وحراسات الليل، فقد اعتاد اليهود أن يقسموا الليل إلى ثلاث هجعات، كل هجعة 4 ساعات، بينما يقسم الرومان الليل إلى أربع هجعات، كل هجعة 3 ساعات. مع كل هجعة كان حارس الليل يعلن عن حلول ساعات الليل. أما المرتل فكان يقوم قبل صياح حارس الليل ليصرخ إلى الله، فإنه ليس بمحتاج إلى من ييقظه أو يذكِّره بحلول ساعة الصلاة، إذ كان قلبه يطير مع كل ساعة من ساعات النهار والليل. كان الجنود يتناوبون ليلاً في ورديات للحراسة، أما داود النبي فكان يخدم الله طوال الليل دون ترقب لآخر يحتل مكانه، إذ كرَّس كل ساعات عمره للشركة مع الله.

اعتاد المرتل أن يستيقظ قبل شروق الشمس ويبدأ صلواته بالصراخ لله مقدمًا تضرعات حارة إلى الله إلهه. يمزج صرخاته بدراسته للكتاب المقدس، فإن الصلاة ودراسة الكتاب لا ينفصلان بل يمثلان حديثًا بين الله والآنسان.

v     لنحسب "الصباح" هنا بمعنى الوقت الذي فيه أشرق النور على الجالسين في ظلال الموت (إش2:9)، فإن عيني الكنيسة لم تتوقفا في وقت هذا الصباح، وذلك في القديسين الذين كانوا قبلاً على الأرض، إذ سبقوا فرأوا مقدمًا أن هذا (الوقت) يعبر، فكانوا يلهجون في أقوال الله التي أعلنت عن هذه الأمور خلال الناموس والآنبياء.

القديس أغسطينوس

"استمع صوتي يا رب نظير رحمتك،

وبحسب أحكامك أحيني" [149].

إذ صار المرتل وهو في وقت الظلمة يدرس أقوال الله ويتفحص وعوده بالخلاص استنار ولو جزئيًا كما في وقت السحر، طالبًا محبته الفادية، ومتمسكًا بالوعد الإلهي، قائلاً: "بحسب أحكامك أحيني" [149]. هكذا تحوَّلت حياة داود الدراسية لكلمة الله إلى صلوات وصرخات. وكأن إنجيلنا ليس للدراسة المجردة إنما هو كنز يلزمنا التمتع به خلال حديثنا الودي مع مخلصنا واهب الحياة.

v     لست أتوهم ولا أطلب أن تحيني حسب سلوكي (برِّي الذاتي) وإنما حسب أحكامك، بمعنى آخر أحيني بالطريقة التي تريدنى بها أن أحيا، فإنني أريد أنا أيضًا أن أحيا.

العلامة أوريجينوس

v     أولاً رفع الله العقوبة عن الخطاة برأفاته وسيهبهم الحياة العتيدة، وذلك للأبرار حسب دينونته. فإنه ليس باطلاً قيل له: "رحمة وحكمًا أغني، لك يارب أرنم" مز1:101. هذا الترتيب في الاصطلاحين (رحمة أولاً ثم الحكم، أي تقديم الرحمة في هذا الزمان والحكم في يوم مجيء الرب)، وإن كان في عصر الرحمة نفسه لا تكون الرحمة بدون الحكم، حيث يقول الرسول: "لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا" 1كو31:11... وأيضًا الحكم الأخير لا يكون بدون رحمة، حيث يقول المزمور: "يكللك بالمراحم والرأفات"، لكن سيكون الحكم بلا رحمة للذين هم على اليسار، الذين لم يمارسوا الرحمة (يع13:2).

القديس أغسطينوس

3. اقتراب الأشرار واقتراب الرب

كلما رفع المؤمن قلبه بالصراخ إلى الله وكرس حياته لدراسة أقوال الله ووعوده يقترب إليه الأشرار ليطردوه خارجًا حتى يتحطم، فإذا به يجد الرب المطرود خارج المحلة أو خارج أورشليم قريبًا إليه جدًا، بل وفي داخله. لقد عانى داود النبي من ذلك إذ قال ليوناثان بن شاول: "إنه كخطوة بيني وبين الموت" 1 صم 3:20. لكنه وجد أيضًا في ذلك سعادته فإنه كلما اقترب الشرير إليه جدًا يقترب إليه الرب ليدافع عنه وينقذه.

قترب بالإثم الذين يطردوننى،

وعن ناموسك ابتعدوا" [150].

لقد سمع داود النبي بآذانه الداخلية وقع أقدام مطارديه، فقد جاءوا من ورائه ليطاردوه. ركضوا خلفه ليسيئوا إليه، لذلك رفع أمره إلى الله وتوسل إليه أن يتدخل. لقد أبغضوه لأنهم ابتعدوا عن ناموس الله، وكأن بغضتهم له هي بغضه لله نفسه.

v     يُستفاد من هذا النص معرفة مصير من يضطهد الصديق. كلما اقترب لاضطهاده ابتعد عن الناموس، وابتعد عن الحياة، لأن الناموس هو "حياتنا" تث47:32.

العلامة أوريجينوس

v     بقدر ما اقتربوا من البار المُضطهد كانوا بالأكثر بعيدين عن البرّ.

أي ضرر يصيبون به هؤلاء (الأبرار) الذين يقتربون إليهم بالاضطهاد مادام اقتراب ربهم إلى المضطهدين أسرع، هذا الذي لا يتركهم؟!

القديس أغسطينوس

"قريب أنت يا رب،

وكافة وصاياك حق هي" [151].

إن كان العدو يقترب إلينا من خلفنا لمقاومتنا فالله أقرب إلينا، هو في داخلنا، قادر أن يسندنا، يسمع صرخاتنا الخفية ويطارد أعداءنا.

v     في موضع آخر يقول الرب: ألعلي إله من قريب يقول الرب ولست إلهًا من بعيد؟! إر23:23. حقًا إن ربوبية الله هي في كل مكان، حيث تؤكد عنايته الإلهية بالخليقة. يقول بولس الرسول لليونانيين كما جاء في سفر أعمال الرسل: "نطلب الله، وهو ليس بعيدًا عنا، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" أع28:17. كما قيل: "روح الله يملأ المسكونة" حكمة7:1. إذن كيف يكون الله قريبًا؟

إذ يقترب الله منّا، فإننا ما لم نقترب نحن منه لا نبتهج بقربه منّا. لهذا فإن الخطاة بعيدون عنه. "هوذا البعيدون عنك يبيدون" مز27:73؛ أما البار فيقترب من الله. لأن الله ليس فقط الخالق (للبشر) وإنما يدخل بهم إلى الشركة معه. "ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون" خر2:24. يقترب إلى الله من كان على اتصال (شركة) به، وذلك حسب استعداده ودرجة كماله، فيقول عنه الرسول بولس: "من التصق بالرب فهو روح واحد" 1كو17:6.

"قريب أنت يا رب، وكافة وصاياك حق هي" [151]. لا يستطيع اليهودي الجسداني أن ينطق هكذا بالحق، لأن ممارسته هي في مجال الحرفية. إنه مختون، لكن ليس ختانًا حقيقيًا. انه يحتفل بعيد الفطير، لكن ليس بالعيد الحقيقي. في كلمة واحدة نصفه بأنه يقضي وقته في "الحرفية" مع أنه لم ينلها بعد. أما من يدرك حقائق و"أسرار ملكوت السموات" مت11:13؛ مر11:4؛ لو10:8، ويعرف ما هي حقيقة كل كلمة في الكتاب المقدس، مثل هذا يستطيع القول: "كافة وصاياك حق هي".

العلامة أوريجينوس

v     يوجد تفسير آخر للنص: "وكافة طرقك حق هي"، لتعني الطرق المؤدية إلى الله. "كافة هذه الطرق" هو ذاك الذي يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة" يو6:14. من يبلغ كافة هذه الطرق يكون في "الحق"، ويكون الحق وأبوه في داخله.

القديس ديديموس الضرير

v     يعترف القديسون لله حتى وهم في وسط متاعبهم، ناسبين الحق لله، لأنهم يتعذبون ليس عن غير حقٍ. هكذا فعلت الملكة إستير (إش6:14،7)، والقديس دانيال (دا16:4)، والثلاثة فتية في الأتون (تسبحة الثلاثة فتية 2-10)، وغيرهم. ففي قداستهم يعترفون لله.

لكن ربما يتساءل البعض: بأي معنى قيل هنا: "كل طرقك حق هي"؟ نقرأ في مزمور آخر: "كل سبل الرب رحمة وحق" مز10:25. من جهة القديسين كل سبل الرب رحمة وحق في نفس الوقت، حيث يعينهم حتى في الحكم، وبهذا لا يكون هناك نقص في الرحمة. وبرحمته عليهم يتمم ما يعد به فلا يكون هناك نقص في الحق. هكذا نحن جميعَا، سواء الذين يحررهم أو يدينهم، نجد كل سبل الرب رحمة وحق، فحينما لا يُظهر الرحمة يظهر حق انتقامه، فإنه لا يدين أحدًا لا يستحق الدينونة.

القديس أغسطينوس

"منذ البدء عرفت من شهاداتك،

أنك إلى الدهر أسستها" [152].

عرف داود النبي أن الله أسس شهاداته منذ البدء، وأنها تبقى ثابتة في كل العصور، لا تستطيع قوى الظلمة أن تحطمها. إنها أساس صخري عليه يبني المؤمنون حياتهم في الرب. مواعيد الله ثابتة لا يغيرها الزمن، هذا ما يملأ نفوس المؤمنين رجاءً مفرحًا.

v     عندما كنت في بدء حياة التقوى ونلت معرفة شهاداتك... استنرت بها، وجئت إلى المعرفة.

"عرفت من شهاداتك أنك إلى الدهر أسستها"، إن كان الرب قد أسس هذه الشهادات، فإن هذه الشهادات... تنتظر ما يُبنى عليها. لكن ماذا يبني الله على هذا الأساس؟ إنه يبني الأوامر والوصايا والأحكام والشريعة والحكمة والمعرفة. هكذا يجعل البناء متكاملاً في كل شيء بالأعمال الصالحة وبكلمات الحكمة والعلم والمعرفة... فيستحق أن يسكن الله فيه ويسير فيه (2كو16:6؛ لا12:226).

العلامة أوريجينوس

v     أسس الرب الشهادات فلا يقدر أحد أن يزعزعها ولا أن يحطمها؛ وكلمتك الذي هو حكمتك وابنك هو أسسها... لذلك يقول: "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول" مت35:24؛ مر31:13؛ لو33:21.

القديس ديديموس الضرير

v     ما هي هذه الشهادات سوى تلك التي فيها يُعلن الله أنه يُعطي ملكوتًا أبديًا لابنائه؟

إذ أعلن أنه سيُعطي هذه الشهادات في ابنه وحيد الجنس قال (المرتل) ان الشهادات نفسها قد تأسست أبديًا. ما قد وعد به الله خلال هذه الشهادات هو أبدي، ولهذا السبب فإن الكلمات "أنت أسستها" بحق تُفهم هكذا، إذ تظهر حقيقية في المسيح (1كو11:3).

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أن هذه الشهادات التي أسسها الله قد عرفتها الكنيسة منذ البدء، بكرها القديس هابيل الذي ذُبح كشهادة لدم الوسيط المقبل، والذي سُفك بواسطة أخٍ شرير.

 

V V V


 

من وحي المزمور 119(ق)

اقترب إليّ يا رب، فقد اقترب الاشرار لهلاكي!

v     لأقدم مع داود صلاتي صرخة من كل قلبي،

أطلب حقوقك لكي تتم إرادتك السماوية،

أطلب الخلاص لا الأمور الزمنية.

أطلب منك أن تقترب إليّ، لأن الاشرار يقتربون لهلاكي.

v     اقترب إليَّ وخلصني من مؤمرات الأعداء.

خلصني من قسوة التجارب.

خلصني من الخطايا والشهوات .

خلصني من طبيعتي الفاسدة بتجديدها.

خلصني من العار فأتمتع بمجد الفردوس المفقود.

v     قبل شروق الشمس أقوم، أصرخ إليك لتشرق بنور الحق عليّ!

في وسط ظلمة الشهوات أصرخ إليك لتحول حياتي إلى نهارٍ.

أعطيك بكور حياتي،

قبل البدء بالعمل في الصباح أصرخ إليك لكي تقترب مني.

v     كم من ليالٍ قضيتها في الصلاة وأنت السامع للصلوات؟!

هب لي أن أقضي ليالي حياتي في الصلاة لألتقي بك.

v     هب لي أن أمزج صرخات الصلاة بجدية الدراسة في كلمتك،

ففي كليهما أدخل معك في حوار شيق وارتبط بوعودك!

تقترب إلى، وتعلن سكناك فيّ!

v     يتسلل العدو خلفي مقتربًا إلى لإهلاكي،

لكنك تسرع فتقترب إلى لخلاصي!

أنت اقرب إليَّ من العدو، أنت في داخل نفسي!

<<

 


 

20- ر

 

بعيد هو الخلاص عن الخطـــاة

[153 - 160]

إذ يقترب الأشرار إليَّ ليطردونني خارجًا تقترب أنت إليَّ جدًا وتتجلى في داخلي. هؤلاء الأشرار يبتعدون عن ناموسك [150]، فيحرمون أنفسهم من اقترابك إليهم. بإصرارهم على عدم التوبة يبقى الخلاص بعيدًا عنهم، مع أنك تريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1تي4:2).

1. بالاتضاع ننعم بخلاصه153-154.

2. بعيد الخلاص عن الخطاة155.

3. قبولي رأفاتك ورفضهم لها156-160.

1. بالاتضاع ننعم بخلاصه

سبق فأعلن أن الرب قريب منه [151]، هنا يعلن سرّ هذا القرب من جانبه ألا وهو الاتضاع والطاعة له:

"أنظر إلى تواضعي وأنقذني،

فإني لم أنسَ ناموسك" [153].

الرب المخلص هو حال في كل موضع، يشتاق في حبه اللانهائي أن يحتضن كل نفس ويخلص الكل. لكن كبرياءنا وعصياننا يحجبان وجهه عنا، فيصير خلاصه بعيدًا.

إذ يتضع المؤمن أمام مخلصه، ويحتضن ناموسه الروحي، يتمتع بالشركة معه، فيصير ما له للمؤمن، وما للمؤمن له؛ حتى تصير شكوى المؤمن ومتاعبه كأنها أمور تخص المخلص شخصيًا، الذي يحكم له في دعواه ويخلصه ويهبه حياة أبدية.

v     ليت كل إنسان ثابت في جسد المسيح لا يظن أن هذه الكلمات غريبة عنه، لأنه بالحق كل جسد المسيح موضوع في هذا الحال المتضع يقول: "أنظر إلى تواضعي وانقذني، فإني لم أنس ناموسك".

v     لا يمكننا أن نفهم ناموس الله كما ينبغي، حيث تقرر نهائيًا أنه "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" لو11:14، 14:18.

القديس أغسطينوس

"أحكم لي في دعواي ونجني،

من أجل كلامك أحيني" [154].

يظهر المرتل هنا كمن يستأنف قضيته أمام المحكمة العليا الإلهية، طالبًا من الله أن ينظر إلى دعواه. أما من جانبه فيقدم أمرين: اتضاعه وتمسكه بناموس الله. بهذا فهو مطمئن أن يقف أمام العرش الإلهي. يطلب من الله أن ينظر إليه، فهو وحده يقدر بنظراته الإلهية أن يدرك ما في أعماق النفس من حزنٍ أو ضيقٍ؛ ويعطيها سلامًا فائقًا، ويرد لها بهجتها، كما أن نظراته يصحبها عمل إلهي، وليس كنظرات الناس التي وإن حملت أحيانًا ترفقًا لكنها تعجز عن إنقاذ النفس.

v     ماذا قيل: "لا أنسَ ناموسك" [153] وهي تتفق مع الكلمات هنا "من أجل كلمتك أحيني" [154]. فإن هذه الكلمات هي ناموس الله الذي لا ينساه، لهذا اتضع فارتفع.

أما كلمة "أحيني" فهي تخص هذا الارتفاع عينه، لأن ارتفاع القديسين هو حياة أبدية.

القديس أغسطينوس

2- بعيد الخلاص عن الخطاة

إن كان المؤمن باتضاعه وطاعته ينعم بالشركة مع مخلصه، فالشرير في كبريائه وعصيانه أو رفضه لأحكام الله ووصيته يحرم نفسه من التمتع بهذه الشركة وثمرها الروحي في حياته.

"بعيد هو الخلاص من الخطاة،

لأنهم لم يطلبوا حقوقك" [155].

هناك نوعان من الخطاة، نوع يشعر بخطاياه ويعترف بها ويطلب العمل الإلهي، والنوع الآخر لا يبالي بخطاياه لذا لا يطلب الله، مثل هؤلاء الخلاص بعيد عنهم تمامًا.

v     الخلاص ليس بعيدًا عن جميع الخطاة، لأن المسيح الذي هو الخلاص جاء ليدعوهم إلى التوبة ويخلصهم، إنما هو بعيد عن الذين لم يطلبوا التوبة التي تبرئهم من الخطية.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     هذا يفصلك عنهم، لأنهم لا يفعلون ما تفعله أنت، إذ أنت تنظر إلى برّ الله. "وأي شيء لك لم تأخذه؟!" 1كو7:4... لقد أخذت من (الله) الذي دعوته القوة لكي تحفظ برّه. هو نفسه فصلك عن أولئك الذين هم بعيدين عن سلامة (النفس) لأنهم لا يراعون برّ الله.

القديس أغسطينوس

شعر القديس أغسطينوس بخطورة الحوار مع الشرير الذي يسحب المؤمنين إليه لكي يحرمهم من خلاصهم: "بعيد هو الخلاص من الشرير"، فيقول: "هكذا وقفت أمامه وانسحبت إليه تدريجيًا دون أن أدرك".

لا يتمتع الخطاة غير التائبين بالخلاص، الذي يصير بعيدًا عنهم لأنهم لا يطلبون حقوق الله، أو الحق الذي هو المسيح.

v     شريعتك هي الحق، والحق هو أنت (يو 6:14)1.

القديس أغسطينوس

3. قبولي رأفاتك ورفضهم لها

إن كان الخلاص بعيدًا عن الخطاة فليس سرَّه الله بل الخطاة أنفسهم، ولئلا يظن أحد أن الله قاسي يكمل المرتل حديثه بتأكيد رأفات الله الكثيرة التي يرفضها الأشرار.

يعلن الرب المخلص الرأفات الإلهية على الصليب للعالم كله، وتبقى أبواب محبته مفتوحة حتى اللحظة الأخيرة من حياتنا، من يرد ينعم بها وينال الحياة، عندئذ يقاومه الأشرار ويحزنون قلبه، أما هو فيبقى أمينًا في حفظه لكلمات مخلصه، متمسكًا بناموس الرب ورحمته الواهبة الحياة.

"رأفاتك كثيرة جدًا يا رب،

فحسب أحكامك أحيني" [156].

وكأن المرتل يوجه اللوم إلى الأشرار بطريقة غير مباشرة مقدمًا خبراته، فقد ذاق رأفات الله التي قدمت له الحياة عوض الموت. لقد حُكم علينا بالموت، لكن بالصليب تبدل الحكم فوهبنا الحياة المُقامة. إنه يدعو الأموات لكي يتمتعوا بالحياة الجديدة خلال مراحم الله كما اختبرها هو، فإن الله لا يشاء موت الخاطى مثل أن يرجع ويحيا.

"كثيرون هم الذين يضطهدونني ويحزنونني،

وعن شهاداتك لم أجنح" [157].

v     هذا ما نتحققه ونعرفه ونتذكره.

كل الأرض صارت حمراء بدم الشهداء،

السماء تزهر بأكاليل الشهداء،

الكنائس تتزين بذكريات الشهداء.

الفصول تتميز بأعياد ميلاد الشهداء،

أشفية تتحقق باستحقاقات الشهداء.

لماذا هذا إلا لأنه قد تحققت نبوة ذاك الذي انتشر في العالم كله. نحن ندرك هذا ونقدم الشكر للرب إلهنا. وأنت يا إنسان قلت بنفسك في مزمور آخر: "لولا أن الرب كان معنا، لابتلعونا ونحن أحياء" مز2:157،3. انظر السبب لماذا لم تجنح عن شهاداته...

القديس أغسطينوس

لم يقف الأمر عند بعدهم عن الخلاص وحرمانهم من الحياة الأبدية لكنهم يضطهدون المؤمنين ويحزنونهم بلا سبب. إنهم لا يريدون التمتع بالخلاص ولا ترك الغير في سلامهم الداخلي. يشتهون تحطيم كل نفسٍ بشرية. لكن ما هو موقف المؤمنين الحقيقيين منهم؟ إنهم يبكونهم ويحزنون عليهم.

كان لداود كشخصية عامة أعداء كثيرون ظاهرون وخفيون، لكنه لم يخشَ أحدهم، ولا مالق أحدًا على حساب شهادات الرب ووصاياه.

"رأيت الذين لا يفهمون فاكتأبت،

لأنهم لأقوالك لم يحفظوا" [158].

v     من هم هولأء الذين لا يحفظون عهدك إلا الذين حادوا عن شهادات الله، ولم يحتملوا متاعب مضطهديهم الكثيرين؟ الآن هذا هو العهد أن من يغلب يكلل. فالذين لا يحتملون الاضطهاد إذ ينحرفون عن شهادات الله لا يحفظون العهد. هؤلاء رآهم المرتل وذاب أسى لأنه أحبهم. فالغيرة حسنة، هذه النابعة عن الحب لا الحسد. أضاف بخصوص الذين فشلوا في حفظ الناموس: "لأنهم لأقوالك لم يحفظوا"، لأنهم صاروا جاحدين في ضيقاتهم.

القديس أغسطينوس

إذ ننظر إلى الذين لا يفهمون فنحزن عليهم طالبين خلاصهم يرد لنا الرب نظرتنا إليهم بنظرته هو إلينا، وشوقنا إلى خلاصهم برحمته علينا الواهبة الحياة. ما نمارسه من حنو حتى نحو مضطهدينا يرتد إلينا مضاعفًا على مستوى سماوي فائق!

"أنظر يا رب فإني أحببت وصاياك،

فبرحمتك يا رب أحيني" [159].

v     هذه (الوصايا) قدمتني للموت، فأحيني.

القديس أغسطينوس

لم يقل داود النبي "أنظر فإنى قد تممت وصاياك" لأنه يعلم تمامًا أنه مقصر وله ضعفات، لكنه يقول "قد أحببت وصاياك"، مجاهدًا في تنفيذها.

"بدء كلامك حق،

"وإلى الأبد كل أحكام عدلك" [160].

v     من الحق تصدر كلماتك، فهي صادقة ولا تخدع إنسانا، وفيها تُعلن الحياة للأبرار والعقوبة للأشرار. هذه أحكام برّ الله الأبدية.

القديس أغسطينوس

يرى العلامة أوريجينوس أن بدء كلام الله هو وعده لأبينا إبراهيم، وقد حقق ما وعد به إذ صار نسله الروحي مثل نجوم السماء ورمل البحر، ومن نسله جاء ربنا يسوع المسيح الذي بارك الأمم الذين آمنوا به.

 

V V V


 

من وحي المزمور 119(ر)

 نظراتك الإلهية تملأني سلامًا!

v     أنظر إليّ في ضيقي،

نظراتك تنقذني وتهبني سلامًا وبهجة.

نظراتك مملوءة حنانًا عمليًا،

تترفق بي، وتعمل من أجلي،

وتهبني حياة أبدية!

v     هب لي أن اعترف بخطيتي،

 مقدمًا التوبة عنها،

فلا يكون خلاصك بعيدًا عني!

لأطلب الحق الإلهي... أنت هو الحق!

v     رأفاتك كثيرة جدًا يا مخلص العالم،

لكن الأشرار يجنحون عنها ولا يبالون بها!

يحرمون أنفسهم من الخلاص،

ويضطهدون من يطلبون خلاص أنفسهم!

هذا ما ملأ نفسي حزنًا وكآبة!

لا أخشاهم لكنني أخاف عليهم!

v     لأنني مملوء حنوًا حتى على مضطهديَّ!

لتنظر إليّ وترد حنوي عليهم بحنوك عليَّ!

فإن هذا هو وعدك الإلهي،

وهذا هو الحق الأبدي!

<<

 


 

21- ش

 

سلام عظيم للذين يحبون اسمك

[161 - 168]

إذ يلتصق المرتل بخلاص الله، وينعم بالحياة الجديدة يُقاوم بلا سبب، لكنه لا يفقد سلامه العظيم ولا بهجة قلبه، لأنه لا يضع قلبه على المقاومات بل على وعود الله العظيمة بكونها غنائم كثيرة.

1. اضطهاده بلا سبب161.

2. بهجته بالغنائم162-163.

3. حالة فرح وتسبيح دائم164.

4. تمتعه بالسلام165-168.

1. اضطهاده بلا سبب

"الرؤساء اضطهدونى بلا سبب،

من أقوالك جزع قلبي" [161].

إذ يصرخ المرتل: "الرؤساء اضطهدوني بلا سبب"، يكشف عما في داخله من مرارة، فقد كان يليق بهؤلاء الرؤساء أن يهتموا به وبغيره، لكن عوض الرعاية والحب قدموا اضطهادًا وكراهية، بلا سبب. إنه لا يطمع في مراكزهم ولا تمرَّد عليهم، ولا قاوم سلطانهم، لكن ربما شعروا أن برَّه يكشف عن شرهم، ونجاحه الروحي يدفعه إلى النجاح الزمني فيحتل مراكزهم. هكذا كانت مشاعر شاول الملك من نحوه. على أي الأحوال فإن نصيب المؤمنين هو الاضطهاد. فإنه إذ يلتصق المؤمن بالله لا يحتمله الأشرار. المؤمن يشتهي مع الرسول بولس أن يسالم إن أمكن جميع الناس، لكن ليس الكل يقبلون هذا السلام، لا لعلة إلا لأنهم لا يقبلون السيد المسيح الساكن فيه.

إذ قاوم الرؤساء المرتل كمضطهدين ومقاومين وأعداء استخدموا بجانب السيف القانون نفسه، إذ حولوه ضد الحق، وتلاعبوا به لقتل المرتل، مقدمين تبريرات كثيرة. أما هو فلم ينشغل بهذه المقاومة، بل بأقوال الله التي تولد طاقات حب حتى نحو المقاومين. بهذا ينشغل المرتل بالعمل الإيجابي لا السلبي.

إنه لا يجزع من الأشرار لكن من أقوال الله لئلا يخالف الوصية الإلهية. فإن سلطان الله أعظم من كل سلطانٍ بشريٍ.

v     تُوجه تجارب الشيطان بالأكثر ضد الذين تقدسوا، لأنه يشتاق بالأكثر أن ينال نصرة على الأبرار1.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

v     لا أخشى أعدائي، لكنني أجزع من الموت الذي تحكم به كلمتك.

القديس البابا أثناسيوس

v     تصدر كلماتك من الحق، فهي صادقة ولا تخدع إنسانا، وفيها تُعلن الحياة للأبرار والعقوبة للأشرار. هذه أحكام بر الله الأبدية.

القديس أغسطينوس

v     هل أضر المسيحيون ممالك الأرض مع أن ملكهم قد وعدهم بمملكة السماء؟!

كيف؟ أقول كيف أضروا ممالك الأرض؟!

هل منع ملكهم جنوده من أن يُقدموا الخدمة اللائقة بملوك الأرض؟

ألم يقل لليهود الذين كانوا ثائرين ليفتروا عليه: "أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" مت21:22؟

ألم يدفع عن شخصه الجزية من فم سمكة (مت24:17-26)؟

عندما كان جند هذه المملكة يطلبون من السابق له (القديس يوحنا المعمدان) ما يجب أن يفعلوه لأجل خلاصهم الأبدي عوض أن يجيبهم: اخلعوا مناطقكم والقوا عنكم أسلحتكم واتركوا الملك لكي تثيروا حربًا من أجل الرب، أجاب: "لا تظلموا أحدًا ولا تشوا بأحدٍ واكتفوا بعلائفكم" لو14:3.

ألم يقل أحد جنوده، صديقه المحبوب لديه جدًا (بولس) لزملائه الجنود إنهم إذ يتحدثون عن المسيح: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة"؟ رو1:13.

ألم يأمر الكنيسة أن تُصلي حتى لأجل الملوك أنفسهم (1تي1:2،2)؟

إذن كيف يضاد المسيحيون الملوك؟

أي التزام عليهم من نحوهم لا يمارسوه؟

في أي الأمور لم يطع المسيحيون ملوك الأرض؟

لهذا يضطهد ملوك الأرض المسيحيين بلا سبب... ولكن انظر بماذا يكمل: "من قولك جزع قلبي" [161].

يقف قلبي مرتعبًا من هذه الكلمات: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد... "مت28:10. إني استخف بالإنسان الذي يضطهدني وأغلب الشيطان الذي يريد أن يغويني.

القديس أغسطينوس

v     يمكن أن ينطق بهذه الكلمات على وجه الخصوص من دُعى للاستشهاد، يضطهده رؤساء هذا العالم وسلاطينه الذين أُوكِل إليهم الحكم على حياة الناس أو موتهم. هلم ننظر إلى الشهيد فإنه يشاهد مختلف أدوات التعذيب ولا يجزع منها، وإنما يتذكر أحكام الله ويجزع منها. فهو مشغول تمامًا بتذكر هذه الأحكام والعقوبات المعدة هناك لمن ينكر الله.

يقول أيضًا: "الرؤساء اضطهدونى بلا سبب"، اضطهدونى ليس لأني سارق أو قاتل أو لأنني ارتكبت فعلاً ما يستحق اللوم، وإنما لأنني أمجدك أنت يا الله خالق الكون، ولأنني آمنت باسم ابنك الوحيد. لأجل هذا اُضطهدت، وفي هذا الاضطهاد أجزع، ليس بسببهم أو بسبب تهديداتهم، وإنما بسبب الخوف الذي أشعر به تجاه أحكامك.

يليق بنا أن يكون لنا المخافة النابعة عن أقوال الله، فنرجع عن خطايانا، خاصة تلك التي تتمثل في إنكار ذاك الذي مات من أجلنا.

من يتمسك بهذا يبتهج بأقوال الله [162].

العلامة أوريجينوس

v     الرؤساء الذين اضطهدوا داود هم شاول وأمثاله الذين اضطهدوه بلا سبب، أي بغير حق، وأما الذين يضطهدوننا نحن فهم رؤساء القوات الشريرة (إبليس وجنوده).

وأما الجزع فنوعان: نوع يحدث من الغضب في النفس بلا سبب، وهذا يحدث عن ضعف الإيمان، ولذلك وبخ ربنا بطرس لما جزع عندما أراد أن يمشى على الماء، وقال له: يا قليل الإيمان لماذا شككت؟ وجزع ذو حسيه يحدث في قلب الإنسان وعقله، وهذا حميد.

أنثيموس أسقف أورشليم

2. بهجته بالغنائم

إن كانت مقاومة الرؤساء مرة، لكن انشغال قلب داود النبي بكلام الرب ولَّد فيه طاقات بهجة، إذ اكتشف ما تحويه من وعود وبركات سماوية.

إذ كان قد جزع قلب المرتل من أقوال الله حمل مخافة الرب، إلا أن هذه المخافة الإلهية التي تحل في قلوبنا تعطى أيضًا بهجة، حاسبين كلمة الله كنزًا ثمينًا، لا يمكننا التفريط فيه. إنها ليست المخافة التي تطرح المحبة الكاملة إلى خارج (1يو 18:4)، بل من ذلك النوع الذي تغذيه المحبة.

باسم كنيسة العهد الجديد يعلن المرتل بهجته بأقوال الله التي تسلمها من كنيسة العهد القديم كغنائمٍ كثيرة تقدم لنا المواعيد الإلهية والناموس والعهود والنبوات والرموز، هذه التي لم يدركها كثير من اليهود رافضوا الإيمان بالمخلص. يقول المرتل:

"ابتهج أنا بكلامك

كمن وجد غنائم كثيرة" [162].

عوض الآنشغال باضطهاد الرؤساء ومقاومتهم ابتهجت نفس المرتل بوعود الله والغنائم التي اقتناها خلال كلمة الله. في كل معركة روحية ضد إبليس يخرج المؤمن غالبًا، حاملاً غنائم كثيرة. هي أعماق جديدة في الشركة مع الله وتمتع أكثر بثمار الروح القدس. ما أعظم الفرح الذي يملأ قلب الغالبين وهم يقتسمون الغنائم، وما أعظم فرح المؤمن الغالب عندما يكتشف نصيبه في وعود الله وغنى كنوزه.

v     إنه لأمر يستحق البحث أن نعرف لماذا يربط البهجة بالكلام "كمن وجد غنائم

إن أخذنا في الاعتبار من هم الذين كان لهم كلام الله فيما مضى، وإذا فهمنا من هم الذين صار لهم هذا الكلام الآن، لأدركنا أننا نحن المسيحيين قد سلبنا (جردنا) اليهود، وذلك كقول السيد المسيح: "ملكوت الله يُنزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره" مت43:21.

كثيرة هي الغنائم، أي الأسفار المقدسة، هذه التي لا يمتلكها اليهود الآن، لأنهم لا يعرفون معناها.

العلامة أوريجينوس

يشكو العلامة أوريجينوس من بعض المسيحيين الذين يقاومونه لأنهم يصرون على التفسير الحرفي للكتاب المقدس، ويضطهدون المدافعين عن التفسير الروحي، قائلاً:

[أصدقاء المعنى الحرفي يصرخون ضدي في افتراءٍ. إنهم يهاجمونني قائلين بأنه لا يوجد حق ما لم يستقر على الأرض. أما من جهتنا نحن (كعبيد لإسحق) فيلزمنا أن نفضل آبار المياه الجارية والينابيع الحية. لنهرب من مثل هؤلاء الرجال بحرفهم الذي لا يحمل الحق. لنترك لهم الأرض ما داموا يحبونها هكذا ولنبلغ نحن إلى السموات1.]

v     إذ أشار إلى الأعداء الذين يضطهدونه تحدث عن "الغنائم". يقول إن قتلتهم جميعًا وجمعت كل غنائمهم فلن ابتهج بها قدر ابتهاجى بقولك.

الأب ثيؤدوريت

v     تؤخذ الغنائم من المنهزمين، فإذ يُغلب (الشيطان) تُنهب الغنائم منه، هذا الذي قيل عنه في الإنجيل: "إن لم يُربط القوي أولاً" مت29:12.

وُجدت غنائم كثيرة نعجب منها: نرى احتمال الشهداء، فإنه حتى المضطهدين أنفسهم آمنوا، هؤلاء الذين خططوا لإيذاء ملكنا بإيذائهم جنوده.

من يقف في جزع من كلمات الله يخشى لئلا ينهزم، فيفرح كغالبٍ بنفس هذه الكلمات.

القديس أغسطينوس

لئلا يُفهم من الغنائم أمورًا مادية أو سلبًا لحقوق الغير كغنائم الحرب، يكمل المرتل كلماته، قائلاً:

"أبغضت الظلم ورذلته،

أما ناموسك فأحببته" [163].

الحب والبغضة هما قائدا العواطف الإنسانية، إذا وُضعا في اتجاههما الصحيح أو تقدسا في حياة الإنسان تتحرك بقية العواطف كما ينبغى. هذا ما حدث مع داود النبي إذ أحب الله وكلمته وخليقته، وكره الشر والظلم وقوات الظلمة، أحب الحق وأبغض الكذب والباطل.

v     إنها كلمات إنسان صديق، لا يمتنع عن ارتكاب الظلم فحسب بل ويبغضه...

يريد القول: إنهم يبغضوننى ويشمئزون مني، كأني فار ميت أو جثة إنسان، أو إنسان أبله، أما أنا فأبغض ما يستحق البغضة... أي الظلم.

على نقيضهم لقد أحببت ناموسك، ولم أفهمه كما يفهمونه هم، فهم يستخدمونه في أمور أرضية ويهبطون به إلى حقائق العالم السفلي. فإن كنا قد قمنا مع المسيح فلنهتم بما هو فوق لا بما على الأرض (كو 1:3-2)، ونفهم الناموس بمعناه الروحي.

القديس ديديموس الضرير

v     هذا الجزع من كلماته لا يخلق كراهية... بل يسند الحب فلا يكون قليلاً. فإن كلمات الله ليست إلا ناموس الله. حاشا أن يتحطم الحب بالخوف، مادام الخوف نقيًا.

هكذا يخاف الابناء الودودين آباءهم ويحبونهم في نفس الوقت.

وهكذا تخشى الزوجة العفيفة رجلها لئلا يتركها، وتحبه فتنعم بحبه.

بالأكثر جدًا بالنسبة لأبينا الذي في السموات (مت9:6)، والعريس الأبرع جمالاً من بني البشر (مز2:14)، ليس حسب الجسد بل في الصلاح. لأنه بواسطة من يُحب ناموس الله إلا الذين يحبون الله؟ وأية شدة يقدمها ناموس الأب لابنائه الصالحين (عب6:12)؟ لنمدح إذًا أحكام الآب حتى عندما يجلد، مادامت وعوده بالمكافأة تكون محبوبة.

القديس أغسطينوس

3. حالة فرح وتسبيح دائم

لئلا يظن أحد الغنائم أمورًا زمنية يعلن المرتل انشغاله المستمر بالتسبيح لله وفرحه الدائم بعمل الله معه وأحكام عدله.

"سبع مرات في النهار سبحتك على أحكام عدلك" [164].

بينما يجد البعض صعوبة في تكريس يومٍ واحدٍ للرب أو ساعات قليلة كل أسبوع للرب إذا بداود النبي يكرس وقتًا للتسبيح سبع مرات يوميًا، مقدمًا الشكر لله بغير انقطاع، في كل الظروف. وكما يقول القديس أغسطينوس: [رقم 7 بوجهٍ عام يُستخدم عن الشمول وكمال الشيء.1]

v     ماذا تعني إذن "سبع مرات سبحتك" إلا "إنني لن أكف عن التسبيح لك"؟

فإن من يقول "سبع مرات" يعني "كل الوقت"2.

v     القول "سبع مرات في النهار سبحتك" هو بعينه القول في مزمور آخر: "تسبحته دائمًا في فمي" مز1:34. يوجد سبب قوي لماذا سبع مرات تُوضع بمعنى "دائمًا"، لأن كل نظام الزمن يتحرك في دائرة منتظمة خلال سبع أيام تجيئ وتتكرر3.

القديس أغسطينوس

v     هكذا تراه لا يكف عن التسبيح للًه. من هو هذا الذي يسبح أحكام الله عدة مرات (سبع مرات، مستخدمًا العدد المقدس الذي يشير إلى الراحة)، إلا الذي يبتهج بأحكام الله بكونها عادلة؟!

العلامة أوريجينوس

v     الصديق المضيء يكون في نهارٍ دائمٍ طول حياته، نهار لا تقطعه ظلمة، وهو يسبح الله سبع مرات، لأنه صار مرتفعًا عن هذا العالم الذي خُلق في ستة أيام.

عندما ابلغ فردوس الله، وأتأمل غاية الخلق وحكمة الله، اعترف ان أحكام الله عدل.

القديس ديديموس الضرير

v     إننى أتذكر دائمًا الأحكام التي أمرت بها بعدلك، طاردًا الرؤساء (الشياطين) المتكبرين، ومخلصًا ضحايا الظلم.

القديس أثناسيوس الرسولى

v     بالإضافة إلى هذه الخدمة نشترك بالتأكيد في هذه الاجتماعات الروحية سبع مرات في اليوم، ونظهر مسبحين الله فيها سبع مرات1.

القديس يوحنا كاسيان

v     أُوصينا أن نوقر ونكرم نفس الواحد إذ اقتنعنا أنه الكلمة (اللوغوس) والمخلص والقائد، وبه (نكرم) الآب، لا في أيام خاصة مع آخرين، بل نفعل ذلك باستمرار في حياتنا وبكل وسيلة2.

القديس إكليمنضس الإسكندري

v     إن كان النبي يقول: "سبع مرات في النهار سبحتك"، مع أنه كان مشغولاً بشئون مملكة، فكم ينبغي علينا نحن أن نفعل إذ نقرأ: "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" مت41:263.

القديس إمبروسيوس

v     لنسهر النهار والليل مثل داود الذي يشكر من أجل أحكام الله البارة سبع مرات في النهار [164] كما في نصف الليل4.

البابا أثناسيوس الرسولي

v     يُرد على الجيران الأشرار سبعة أضعاف (مز12:79)، ويتأسس بيت الحكمة على سبعة أعمدة (أم1:9)، ويتزين حجر زربابل بسبعة أعين (زك9:3)، ويُسبح الله سبع مرات في اليوم (مز164:119). مرة أخرى العاقر تلد سبعة، الرقم الكامل...5

القديس غريغوريوس النزينزي

ومما يزيد هذه التسابيح المستمرة عذوبة انها تنبع عن قلب لا يرتبك بالضيق والاضطهادات، فإن تسبيحنا وسط الآلام أكثر عذوبة منه وسط الفرج.

4. تمتعه بالسلام

"فليكن سلام عظيم للذين يحبون اسمك،

وليس لهم شك" [165].

v     الذين يبتغون اسم الرب لهم سلام عظيم، لا يقصد به السلام الخارجي (لأنه لا يتوقف علينا)، وإنما سلام الفكر الذي يصاحب غياب القلق والاضطراب... من لهم هذا السلام يحصلون في ذات الوقت على نعمة الله الآب والرب يسوع المسيح (رو 7:1، 1تى 2:1).

إذ يكون لهم هذا السلام باسم الله وهم في سمو كامل، لذلك ليس لهم شك... من كان له السلام يرتفع إلى الدرجة التي فيها لا يمكنه أن يشك (يعثر) في شيء ما. "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق؟!" رو 35:8. وأيضًا: "ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا، فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع" رو 37:8-39.

العلامة أوريجينوس

v     هذا يعني أن الناموس نفسه ليس عثرة لمن يحبونه أو أنه لا توجد عثرة من أي مصدر للذين يحبون الناموس؟ المعنيان حق هما، لأن من يحب ناموس الله يكرم حتى ما لا يفهمه فيه، وما يبدو له غير معقولٍ، يحكم بالأحرى أنه لا يفهمه، وأنه يوجد معنى خفي، بهذا لا يكون ناموس الله عثرة بالنسبة له...

v     لكي تتفادى العثرات أي موضع تذهب إليه خلف العالم، ما لم تطر إلى الله الذي خلق العالم؟! وكيف يمكننا أن نطير إلى ذاك الذي خلق العالم ما لم نصغِ إلى ناموسه الذي يُكرز به في كل موضع؟ وأن تصغي إليه هذا أمر بسيط جدًا إذ نحبه1.

القديس أغسطينوس

v     المسيح ربنا هو السلام...

لنحفظ السلام، فيحفظنا السلام في المسيح يسوع2.

القديس جيروم

لم يقل "فليكن سلام عظيم للذين يتممون الوصية" بل "للذين يحبون اسمك"، فإنه لا يوجد من يتمم الوصية كما ينبغى، إنما من يحب اسم الله يجاهد دومًا لإتمام الوصية طالبًا عمل المخلص في حياته.

يقول أيضًا: "ليس لهم شك (عثرة)" [165]؛ فإن من يتمتع بسلام الله الحقيقي النابع عن حبه لاسمه القدوس وجهاده لطاعة وصيته لا يتعثر قط بل يقول مع كافة المؤمنين الحقيقيين: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده" رو 28:8. انهم لا يتعثرون بسبب الضيق أو الألم أو الظلم الذي يحل عليهم إذ هم واثقون في أحكام الله العادلة ومطمئنون لرعايته الفائقة، سلامهم نابع من أعماقهم وشركتهم مع الله، لا من الأحداث الخارجية.

أخيرًا فإن سرّ سلام المرتل العظيم هو ترقبه للمخلص وتمتعه بعمله الخلاصي القادر أن يسنده فيحفظ الوصية الإلهية دون أن يكسرها، الأمر الذي لا يشك فيه قط ولا يعثره فيه أحد أو حدث ما. يربط المرتل بين التمتع بخلاص الرب المجاني والمثابرة على حفظ الوصايا الإلهية، مؤكدًا ذلك ثلاث مرات، ومعلنًا أن حفظها ينبع عن حبه العميق لها، إذ يقول:

"توقعت خلاصك يا رب،

ووصاياك حفظتها" [166].

"حفظت نفسي شهاداتك،

وأحببتها جدًا" [167].

"حفظت وصاياك وشهاداتك،

وكل طرقي أمامك يا رب" [168].

v     إذ أترجى الخلاص الحقيقي القادم من عندك لا أحفظ وصاياك فحسب بل وأحبها. عندئذ أنفذ الوصايا بحب، وبهذا يتم الخلاص المنتظر.

لم أحب وصاياك فحسب [166]، وإنما "حفظت نفسي شهاداتك وأحببتها جدًا".

في البداية كنت أحب وصاياك وصية فأخرى...

ثانيًا: حفظت نفسى شهاداتك.

ثالثاُ: يجمع الاثنين معًا بقوله: "حفظت وصاياك وشهاداتك وكل طرقي أمامك يا رب...

لن يقول الخاطىء: "كل طرقى أمامك"، لأن طرق الخاطىء ليست أمام الله، بل طريق الصديق. لكي تكون طرقنا كلها أمام الله... لنطلب من الله مصلين أثناء سيرنا في الطريق حتى النهاية، حتى نصل إلى الله أب الجميع في المسيح يسوع.

العلامة أوريجينوس

v     ماذا ينفع أبرار العهد القديم إذ أحبوا وصايا الله مالم يحررهم المسيح الذي هو خلاص الله، الذي بروحه يقدرون أن يحبوا وصايا الله؟ لذلك الذين أحبوا وصايا الله توقعوا خلاصه، فكم بالأكثر تكون هناك حاجة إلى يسوع الذي هو خلاص الله، لأجل خلاص الذين لم يحبوا وصاياه؟

هذه النبوة قد تناسب أيضًا قديسي فترة إعلان النعمة والكرازة بالإنجيل، فإن الذين يحبون وصايا الله يتطلعون إلى المسيح حياتنا عندما يظهر معهم في المجد.

القديس أغسطينوس

v     حُفظت شهادات الله ولم تُجحد. هذا هو عمل الشهداء، لأن "الشهادات" دُعيت في اليونانية Martyria. وحيث أنه  بدون محبة لا أنتفع شيئًا حتى إن احترقت بالنار (1 كو3:13). لذلك أضاف: "أحببتها جدًا" [167]... لأن من يحب يحفظ الوصايا في روح الحق والأمانة.

القديس أغسطينوس

إذ يركز على حفظ الوصايا يؤكد هنا الآتي:

v     توقعه خلاص الرب، أى رجاؤه في عمل الله الخلاصي، فحفظ الوصايا ليس مجهودًا بشريًا ذاتيًا بل هو عمل الله الخلاصي فيه.

v     لن يتمم حفظ الوصية بغير إرادته... "وصاياك حفظتها". لابد من التجاوب مع النعمة الإلهية.

v     ينبع حفظ الوصايا عن الحب الشديد لها.

 

V V V


 

من وحي المزمور 119(ش)

الرؤساء اضطهدوني بلا سبب!

v     اشتهي السلام مع كل أحد،

لكن الرؤساء اضطهدوني لا لعلة إلا لسكناك فيّ.

استخدموا كل وسيلة لمقاومتي.

لا أخشاهم إنما أجزع من الموت الذي تحكم به كلمتك.

إني استخف بالإنسان الذي يضطهدني،

واستهين بالشيطان الذي يطلب هلاكي،

لكنني أخشى إلهي الديان العادل!

v     إذ لا أخاف العدو بل أخشى كلماتك يا إلهي،

فإن مخافتك تولد فيّ بهجة،

أرى في كلماتك غنائم لا تُقدر بثمن.

مع كل معركة ضد إبليس أتمتع بنصرة،

وأخرج حاملاً غنائم كثيرة...هي عطايا إلهية فائقة!

v     ظن إبليس أنه يحطم السيد المسيح بتحطيم مؤمنيه،

فتحطم هو وفقد الكثيرين من تابعيه.

آمن كثير من المضطهدين أنفسهم،

وصاروا أعضاء في مملكة المسيح!

v     أتمتع بغنائم الفرح،

فأسبحك سبع مرات في النهار.

يصير ليلي نهارًا،

ومتاعبي تسبيحًا لا ينقطع!

وسط الضيق أبلغ فردوسك،

وأنعم بحمدك الدائم!

v     مقاومة العدو لي تزيدني سلامًا،

لأن سلامي العظيم لا ينبع من الخارج بل من الداخل.

في مقاومة العدو أرى مخلصي في داخلي،

يقترب إلى جدًا ويخلصني.

يخفيني فيه فلا أكون طرفًا في المعركة.

v     مع كل معركة روحية أتوقع خلاصك،

وأحب وصاياك جدًا وأتممها،

وأرى طريقي ماثلة أمامك حتى أبلغ إلى حضن أبيك!

v     مع كل ضيقة وألم أتمتع بحب الوصايا جدًا.

اتمتع بالحب فاحفظها بالحق وأمانة.

ويبقى الحب رصيدي الدائم إلى الأبد!

<<

 


 

22 - ت

 

علمني، أعني، ابحث عني!

[169-176]

ختام المزمور مفرح، يكشف لنا عن غاية المزمور كله، وهو تهليل النفس بالرب معلمها، الذي يهبها الحياة والفهم والخلاص، ويقدم لها العون، ويعلن مبادرته بالحب نحوها.

يختتم المرتل المزمور بسؤاله الرب أن يقود حياته، فهو واهب المعرفة، والحياة والفرح، والخلاص... لقد ازدادت صلواته قوة وغيرة، وكأنه قد دخل إلى الحضرة الإلهية، لكنه يشتهي الدخول إلى أعماق جديدة ليرى الرب وجهًا لوجه.

لقد شعر بضعفه في حضرة الرب فسقط أمامه يتوسل إليه أن يرده كراعٍ يقبل الخروف الضال. يطلب منه أن يبحث عنه ويطلبه ولا ينتظر من المرتل أن يأتي إليه. إنه محتاج إلى مبادرة الرب - المعلم الإلهي الفريد - بالحب له.

1. الدنو من الرب معلمه 169-170.

2. فرح المرتل بمعلمه الإلهي 171-172.

3. الرب هو المخلص  173-174.

4. الرب هو المعين  175.

5. الرب المبادر بالحب  176.

1. الدنو من الرب معلمه

يرى العلامة أوريجينوس أنه قد جاء في سفر الخروج أن الله أمر موسى النبي أن يصعد على الجبل ومعه هرون وناداب وأبيهو وسبعون رجلاً من شيوخ بني إسرائيل فيسجدوا من بعيد، ويقترب موسى وحده قدام الرب، أما هم فلا يدنون معه، ولا يصعد الشعب معه (خر 1:24،2). هكذا قسمهم الله ثلاث فئات:

أ. الفئة الأولى تضم موسى وحده، يصعد على الجبل ويدنو من الله.

ب. الفئة الثانية تضم الأشخاص السابق ذكرهم، هؤلاء يصعدون مع موسى على الجبل لكنهم لا يدنون من الله.

ج. الفئة الثالثة وهي الشعب، لا يصعدون على الجبل ولا يقتربون منه.

وكأن المؤمن يلتزم بأن يرتفع في درجات الكمال للتأهل إلى الصعود على الجبل، بل والدنو من الرب، ليختبر شركة فريدة واتحادًا عجيبًا ورؤى وإعلانات. هذا ما اشتهاه المرتل في نهاية حديثه عن كلمة الله أو الوصية الإلهية، طالبًا من الله أن يرفعه إلى هذه الدرجة السامية من الكمال، قائلاً:

"فلتدن وسيلتي قدامك يا رب،

كقولك فهمني" [169].

من يقترب من الله إنما يقترب من شجرة الحياة؛ فقد اقترب آدم من شجرة معرفة الخير والشر فأخذ خبرة الشر. أما من يقترب من الله فيأكل من شجرة الحياة، وتصير له خبرة جديدة وهى معرفة الخير وإدراك النور الإلهي. يتمتع بالحياة المُقامة عوض الموت الذي حلّ به، ويتمتع بإشراقات الفهم عوض ظلمة الجهالة التي أحدقت به.

حين يدنو المرتل بطلبته قدام الرب معلمه يتوسل إليه أن يسمح لها بالاقتراب منه، يُنصت إليها، ويهتم بها، ويرتضي بها، فإنه لا يقدمها لأحد غيره. يطلب أن يهبه الفهم والمعرفة، مشتاقًا أن يتمتع بحقه كعروسٍ روحية تدخل إلى حجال العريس السماوي، وتتمتع بأسراره الإلهية الخاصة، علامة الوحدة الفائقة. ليست له طلبات مادية، بل يطلب الفهم الروحي والحكمة السماوية. ربما يحكم عليه البشر أنه حكيم وصاحب فهم، لكنه يطلب حكم الله ليُحسب من المتعلمين من الرب. كما قيل: "كل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيكِ كثيرًا" إش 13:54؛ "إنه مكتوب في الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله" يو 45:6.

v     ما لم يفتح المسيح عيوننا، كيف يمكننا أن نرى الأسرار العظيمة التي تحققت في الآباء (البطاركة) والتي رُمز إليها بالليالي والمواليد والزيجات...1

v     نفهم معنى الناموس إن قام يسوع بقراءته لنا، وأوضح لنا معناه الروحي. ألا ترى بهذه الطريقة أمكن للقائلين: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يُكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟! أن يدركا المعنى؟2

v     تعال أيها الرب يسوع مرة أخرى لكي تشرح هذه الأمور لي وللذين هم ههنا يبحثون عن القوت الروحي3.

العلامة أوريجينوس

يؤكد المرتل ذات الطلبة، قائلاً:

"لتدخل طلبتي إلى حضرتك يا رب،

ككلمتك أحيني" [170].

إنه يتشبه بإستير الملكة التي في جسارة الإيمان دخلت إلى حضرة الملك لتلمس قضيب ملكه الذهبي وتنعم بحنوه، فسألها أن يعطيها طلبتها إلي نصف المملكة، أي تشاركه أمجاده، فخلصت هي وشعبها.

يطلب من الله أن تدخل طلبته إلى حضرته، فقد أدرك أنه توجد أحيانًا موانع تحرم طلبته من الدخول إلى حضرته، لذا فهو يطلب إزالة هذه العوائق مثل عدم نقاوة القلب وانشغاله بالزمنيات. كأنه يقول: "نقِ قلبي حتى أطلب ما يليق بي كابن لك، فتستجيب لطلبتي".

يرى المرتل في كلمة الله سرّ حياته: "ككلمتك أحييني"، إذ كثيرون يعيشون في العالم لكنهم أموات، أما من يلتصق بكلمة الرب فيبقى حيَّا حتى وإن مات بالجسد. لا تُقاس حياة المؤمن بالسنوات التي يعيشها وهو بعد في الجسد، بل تصير حياته خالدة، لأنه ارتبط بالكلمة الأبدي. لقد مات القديسون بالجسد، لكنهم أحياء يسبحون الله، ويشفعون في البشرية، مشتهين خلاصهم الأبدي.

2. فرح المرتل بمعلمه الإلهي

إذ يصير للمؤمن دالة أن يدخل بطلبته إلى عرش النعمة، ويلتقي بالمخلص عريس نفسه، معلمه الإلهي، فإنه يتدرب تلقائيًا على حياة التسبيح، أو حياة الفرح الداخلي، كحياة سماوية، قائلاً:

"تفيض شفتاي السبح،

إذا ما علمتني حقوقك" [171].

v     إننا نعرف كيف يعلم الله أولئك الذين هم ودعاء الله. فإن الذين يسمعون من الآب ويتعلمون يأتون إلى ذاك الذي يبرر الفجار (يو 45:6؛ رو 5:4). لكي يحفظوا برّ الله ليس فقط في ذاكرتهم، بل في تنفيذهم للبرّ. هكذا من يفتخر، يفتخر لا في نفسه بل في الرب (1 كو 13:1)، ويفيض حمدًا.

القديس أغسطينوس

"ينطق لساني بأقوالك،

لأن جميع وصاياك عادلة" [172].

لقد اشتهى أن يرتفع فوق كل الطلبات حتى الروحية لتتحول صلواته إلى تسابيح حمد لله، يشكر بفيض بلا انقطاع من أجل غنى نعمة الله الفائقة، وتتحول حياته إلى شركة مع السمائيين الذين يسبحون بلا انقطاع. أما موضوع تسبيحه فهو كلمات الله ووصاياه التي تُعلن عن عدله وبره.

إنه يسبح الله بقلبه كما بشفتيه، يعبر عما في داخله بعبارات. تسبيحه لله يعينه على الشهادة للوصية فينطق لسانه بأقوال الله، ويكرز بها. هنا يعلمنا المرتل أن نركز في حديثنا عن الله على أقواله ووصاياه، لنؤكد مواعيده الثمينة، وعمل نعمته الفائقة.

v     عندما قال أنه يُعلن عن هذه الأمور صار خادمًا للكلمة. فإنه يكرز بالله الذي يعلم في الداخل؛ فإن "الإيمان بالخبر...، كيف يسمعون بلا كارز؟" (رو10:17،14). الله هو الذي يُنمي (1كو7:3)، فليس هناك حجة إننا لا نزرع ولا نسقي.

القديس أغسطينوس

3. الرب هو المخلص

 إذ تمتع المرتل بروح التسبيح أدرك مفهوم الخلاص، لا كغفران لخطاياه فحسب، وإنما كتمتعٍ بالشركة مع الله في أمجاده، فقال:

 "لتكن يدك لخلاصي،

 لأنني اشتهيت وصاياك.

اشتقت إلى خلاصك يا رب،

وناموسك هو لهجي" [173-174].

v     لكي لا أخاف، ليس فقط يبقى قلبي ثابتًا وإنما حتى لساني ينطق بكلماتك "اخترت وصاياك" كتمت خوفي بالحب. إذًا لتمتد يدك لتخلصني من يد الغير. هكذا خلص الله شهداءه عندما لم يسمح لنفوسهم بالقتل. فإنه "باطل هو خلاص الإنسان" مز11:60 في الجسد.

أيضًا الكلمات "لتكن يدك" تُفهم بمعنى أن المسيح هو يد الله...

بالتأكيد حين نقرأ الكلمات التالية: "اشتقت إلى خلاصك يارب" [174]، فإنه حتى إن كان كل أعدائنا يمنعوننا من العمل، يعمل المسيح لحسابنا. لقد اعترف رجال العهد القديم الأبرار أنهم تاقوا إليه، تاقت الكنيسة إلى مجيئه من رحم أمه المحدود، والآن تتوق الكنيسة إلى مجيئه عن يمين أبيه.

يضيف الكلمات: "وناموسك هو لهجي"، لأن الناموس يشهد للمسيح.

v     من لا يقدر أن يرى كيف يساعد دم المسيح الكنيسة؟ يا لعظم المحصول الذي يظهر في كل العالم من النور‍؟!

v     "ناموسك هو لهجي"... كم بالأكثر لا يكفيكم لنفعكم الروحي أن تسمعوا الدروس الإلهية في الكنيسة بل وأنتم بين أصحابكم في البيت يلزمكم أن تنشغلوا بالقراءة المقدسة لساعات طويلة بالليل حينما يكون النهار مقصرًا. هكذا يمكنكم في مخزن قلوبكم أن تُعدوا الحنطة الروحية وتخزنوا لآلئ الكتب المقدسة في مخزن نفوسكم. عندئذ إذ نأتي أمام كرسي الديان الأبدي في اليوم الأخير، كما يقول الرسول: "لا نوجد عراة بل لابسين".

القديس أغسطينوس

4. الرب هو المعين

تمتع المرتل بحياة التسبيح والمجد الداخلي مع الشهادة الحية لأقواله ومواعيده الإلهية، لم يشغله عن طلب عون الله ومساندة أحكامه الإلهية له، إذ يقول:

" تحيا نفسي وتسبحك،

وأحكامك تعينني" [175].

يطلب منه أن يهب نفسه الحياة ويحفظها من طريق الموت. ليطلب عمل روحه القدوس واهب الحياة، ومعطي الفرح والحكمة، بهذا تحيا نفسه وتسبحه وينعم بمعونة أحكامه.

v     إننا في حاجة إلى عون وإلى مساندة إلهية لكي نحفظ الحق إلى الأبد، ولكي لا يتردد فمنا بين الحق والكذب.

 من كان عنده الحق يطلب أن يحفظ الوصايا أو السلوك، مادام يحفظ أحكام الله في ذاكرته وقت الضيق.

 أعرف تمامًا أنني إن تطهرت من كل رأي خاطئ احفظ شريعتك دائمًا وإلى الأبد دون عائق.

يوسابيوس القيصري

5. الرب المبادر بالحب

أخيراً في ختام مزمور الوصية الإلهية، إذ اختبرها كحياةٍ أبدية ونورٍ أبدي لسبيله، لها عذوبتها الخاصة وأمجادها، لم ينتفخ في كبرياء، وإنما في تواضع تطلع إلى نفسه كخروفٍ ضالٍ عاجز عن العودة بنفسه إلى الكلمة الإلهي، يطلب مبادرته بالحب ليجتذبه إليه، قائلاً:

"ضللت مثل الخروف الضال،

فأطلب عبدك فإني لوصاياك لم أنسَ. هللويا" [176].

يختم المرتل المزمور بالاعتراف بالضعف مع الثقة في حب الراعي الإلهي الذي يحملنا على منكبيه. مهما كانت حياة المؤمن يشعر انه ضال عن تطبيق وصايا الله كما يليق، وعن التمتع بخبرة السماء. يمكنه أن يبرر نفسه في حضرة خصومه ومقاوميه، لكنه إذ يوجد في حضرة الله يعترف بضعفاته الماضية والحاضرة، حاسبًا نفسه كخروفٍ ضالٍ عن مرعاه، يحتاج إلى الراعي الصالح لكي يرده إلى المرعى الروحي. إنه يحمل حنينًا صادقًا نحو الأحضان الإلهية.

v     لقد ضللت كخروفٍ ضالٍ، لكن على منكبي راعيي الذي يبنيكم، أترجي أن أعود إليكم1.

القديس أغسطينوس

يتحدث القديس جيروم عن الكنيسة كأم تطلب الخروف الضال ليرجع إلى حظيرة الراعي فيقول في إحدى رسائله:

[بينما أنت تتجول في مدينتك الذاتية، مع أنه بالحق لم يعد لك مدينة إذ فقدت مالك، تشفع فيك في المناطق المقدسة التي تشهد لميلاد ربنا ومخلصنا وصلبه وقيامته... تسحبك إليها بصلواتها لكي تخلص، إن لم يكن بواسطة أعمالك فعلى أي الأحوال بإيمانها...2]

يجيب المرتل على التساؤل: من الذي يقترب نحو الآخر، الله أم الإنسان؟ الإنسان في ضعفه لا يقدر أن يقترب من الله، لأنه نار آكلة؟ والله قدوس. كيف يلتصق الخاطي بالقدوس؟! لقد اقترب كلمة الله فعلاً نحو الإنسان، وبادره بالحب، إذ حلَّ بيننا وصار كواحدٍ منا، وقدم دمه الثمين لمصالحتنا مع الآب. الآن انفتح لنا باب اللقاء، لكي نرد الاقتراب بالاقتراب، والحب بالحب.

على أي الأحوال إذ يشعر الإنسان بالضعف يصرخ: "أطلب عبدك"... كما طلب زكا العشار الذي لم يكن ممكنًا له أن يقترب إليه، لكنه بذل كل الجهد، معلنًا صدق رغبتة في اللقاء معه.

 

V V V


 

من وحي المزمور 119(ت)

أتهلل بك يا مهذب نفسي!

v     تقترب نفسي إليك لأنك مهذبهًا.

لترتفع مع موسي على الجبل،

ولتدرك النور الإلهي فتمتلئ بهاء بك!

تشرق عليها بنور الفهم وتبدد ظلمة جهالتها!

تتقدم إليها أيها العريس لتحملها إلى حجالك السماوي.

هناك تختبر وحدة أعمق،

وتدرك أسرارك الفائقة!

v     افتح أيها المخلص عيني نفسي،

تراك وتتمتع بأسرارك العظيمة،

وتفهم ناموسك ووصاياك.

لتقرأ لها كلمتك،

وتلهب قلبها، موضحًا لها كتبك.

v     لتدخل نفسي إلى حضرة معلمها السماوي،

فتمد لها قضيب ملكك الذهبي، وتسألها عن طلبتها،

 تطلب منك حياتها وحياة كل شعبك .

احسبها إستير الثانية الجريئة بالإيمان العامل بالمحبة!

v     لترتفع نفسي بروحك القدوس إلى عرش نعمتك،

هناك تفيض شفتاها بالتسبيح والشكر.

v     اشتاقت كنيسة العهد القديم إلى مجيئك متجسدًا،

وتشتاق كنيسة العهد الجديد إلى مجيئك في مجدك،

 ناموسك يلهب شوقي إليك، لذا الهج فيه بلا انقطاع

لألهج في ناموسك وسط الجماعة المقدسة،

 وانشغل به في بيتي لساعات طويلة.

ليشغلني وسط النهار،

ولأتاملة في نصف الليل!

لتمتلئ مخازن قلبي من حنطة كتابك ولآلئ ناموسك

v     أخيرًا أعترف لك بخطاياي,.

أنت راعيّ الصالح، تبحث عني أنا الخروف الضال.

تبحث عني لأني أعجز عن المجئ إليك.

تحملني على منكبيك،

وتقدم لي وصاياك فلا أنساها بعد!

 V V V

<<

 


 

1 Jamieson, Fousset, Brown (The Bethany Parallel Commentary on the O.T., Minnesota, 1985, P. 1155.

2 J. R. Church, P. 329.

1 Plumer, P. 1018.

1 The Epistle to the Romans, hom., 28.

2 St. Jerome: hom. 41.

1 Scripture Union: Bible Study Books, Psalms, P. 98.

2 Plumer, p. 1018.

3 Erlig C. Olsen:Mediations in the Book of Psalms, N.J, 1985, p. 835.

1 J. R. Church, P.330.

2 Arno C. Gaebelein, P. 439.

3 Plumer, P. 1019 - 1022; Nelson; A New Catholic Commentary on Holy Scripture, P. 487 - 8; Scripture Union: Bible Study Books, Psalms,P,98, 99; Henry and Scott: Acommentary upon the Holy Bible - Job to Solomon' s Song, P. 339.

1 The Jewish Encyclopedia, vol. 12, P. 196.

2 In Gol., ch. 3.

3 Sermons on N.T. Lessons, 94:5.

1 Stromata 5: 3.

2 Of the Christion Faith 4:7 (73-75); 1:7 (50).

3 In Joan. hom 73:2.

4 Ep. 73 (Oxford 74):9.

1 Against Jovinianus, Book 2,34.

2 Yer. Shek. 49a.

1 Ab. Zarah 3b.

2 B.B. 799(Jewish Encyclopedia, vol. p. 197.

3 Mishnah: Abot 4:5.

4 Jewish Encylopedia, vol. 12, p. 197.

5 Ibid.

6 B.K. 38a (Jewish Encylopedia, p. 197.)

1 John Cassian: Conferences 14:16.

1 Duties of the Clergy 2:2:7;3:9.

2 Epistle to Eph., 9.

3 De incorn. Verbi 57.

1 Bethany Parallel Commentary on O.T., (Adam Clark), p. 1156.

1 On Holy Virginity, 42.

1 Matthew Henery, Ps. 119, verses 7-8.

1 Duties of the Clergy, Book 1:2:7.

1 Letter 127 to Prinicria 4.   

1 Of the Holy Spirit, Book 2:4:29.

1 Letter 53:4.

2 Against Pelagions. Book 1,14.

3 Letter 108:9.

4 Comm on Luke, hom. 53.

1 Dial. With Heraclides, 156.

2 Canfessions, 10:70.

3 Hom 76 on Mark 1:13 etc.

1 Pashal Letters 20:2.

1 Bethany Parallel Commentary on the O.T. (Adam Clarke), p. 1157.

1 Theododort: Ecc. His. 5:17.

1 The Institutes 10:4.

1 Bethany Panallel Commentary on O.T, (Adam Clarke), p. 1158.

1 St. Cassion: Conferences, 16:27.

1 In Ezek. hom 4:3 (Die Griechischen Christlichen Schrifsteller, 8:363).

2 In Gen., hom, 6:1. PG 12:195.

1 Flight from the world, 1:1.

2 Duties of the Clergy, Book 2:6:26.

1 Hom., 6 (Frs.of the Church).

2 Sermon 172:4.

1 On the Mysteries, Lec. 1 (19):6.

1 In Gen. hom. 10:1; PG 12:125.

1 Letter 40:2.

1 Letter 57:4.

3 The Acts of the Apostles, hom. 17.

1 Sermons N.T. Lessons, 55:5.

1 PG 31:257 D.

2 In Epis, ad Phil. 3:4.

1 Sermon 7:1.

1 On Ps. 118: Heth, 7.

1 Comm. On Luke.

1 Letter 109:3.

1 In Luc. 11:5-13.

2 In Acts  hom. 26.

3 In Ascetical Discourse.

4 Paidagogus, 2:9.

1 Paschal Letters, 11.

1 Stromata 7:7:36.

2 راجع القديس إكليمنضوس الإسكندري ANF. Vol. 2, p. 213.

1 St. Jerome: Letter 130:16, To Pammachius against John of Jerusalem, 7.

1 Concerning The Statues, hom., 1:14.

2 In Act  hom. 16.

1 In Heb. 33:8.

1 Of the Holy Spirit, Book 3, 3:33.

2 Sermon 228:1.

1 On The Gospel of St. John, tract. 40:6.

1 Sermon 48:3.

2 Bethany Parallel Commentary on O.T., P 1163.

1 Hom. On 1 Timothy, 14.

1 Letter 22:7.

1 Confessions, 11:2:4.

1 Of the Christian Faith, Book 1, 10:63.

2 Four Discourses against the Ariaus, 2:8:36.

3 Four Discourses against the Ariaus, 2:21:62.

1 Cut. Lect., 8:5.

1 Sermon 8:2.

2 Sermon 117:5.

3 Discourse 22.

1 In Defence of His Flight to Pontus, 77.

2 Cat. Lect. 8:13.

3 Hom on St John, 1:5.

4 Hom. On Hebrews, 8:9.

5 Letter 54:17.

1 In lus. 11:33-36.

1 On Principitis 4:1:6 (Die griechischen christichen Schrifsteller, 4:302.)

1 Sermon 76:3.

2 Confessions 13:14 (15).

3 Select Demonstration, 1:10.

4 Against Vigilantius, 7.

5 Com. On John 1:6:36.

1 Of the Holy Spirit, 1:108.

2 In Johm, hom 54:1.

3 Life of Moses, P. 274.

4 Hom. On 1 Tim., 9.

1 Hom on Titus, 1.

1 On Virginity, ch 17.

2 In Matt. 7:7.

3 Stromata 6:8.

1 De Principitis 7:6. PG 12:203.

1 To His Father, Oration 12:1.

1 See Comm. On Song of Songs 1:2.

2 Letter 41:15.

1 Concerning Repentence, book 2, 10:93.

2 Epistle 122:1.

1 Epistle 39:2.

1 In Lev. Hom. 9:9.

2 Letter 22:17.

1 Confessions 4:9 (14).

1 In Mott. Hom. 2.

1 De Principiis 13:3.

1 City of God, 11:32.

2 Sermons on N.T. Lessons, 45:2.

3 Ibid 64:1.

1 the Institutes, 3:4.

2 Stromata 7:7.

3 Concerning Virgius, book 3, 4:18.

4 Paschal Letters 6.

5 On Pentecost, 3.

1 Sermons on N.T. Lessons, 31:1.

2 On Ps. Hom. 41.

1 Hom. Gen. 12:1, PG 12:225.

2 In Jos. hom 9:8 PG 71:62.

3 In Jer. hom. 19:14 (Source Chrictienne 288:230).

1 Confessions 12:15 (21).

2 Letter 122:4.

 

الصفحة الرئيسية