المزامير

مز 1 – مز 50

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
 

-

- مقدمة

 

المزمور الخامس والعشرين (الرب معلمنا)

- الباب الأول [مز 1 – مز 41]

 

المزمور السادس والعشرون (السلوك بالاستقامة)

المزمور الأول (الإنسان المطوّب)

 

المزمور السابع والعشرين (الثقة في الرب)

المزمور الثاني (عش ملكًا)

 

المزمور الثامن والعشرون (مسيحنا في الجب)

المزمور الثالث (الله مخلصي)

 

المزمور التاسع والعشرون (عاصفة رعدية)

المزمور الرابع (الله برّي)

 

المزمور الثلاثون (شكر للخلاص من الموت)

المزمور الخامس (ضد المسيح)

 

المزمور الحادي والثلاثون (في يديك استودع روحي)

المزمور السادس (أول مزامير التوبة)

 

المزمور الثاني والثلاثون (الفرح بالغفران)

المزمور السابع (أنشودة القديس المفترى عليه)

 

المزمور الثالث والثلاثون (ترنيمة نصرة وفرح)

المزمور الثامن (سلطان ابن الإنسان)

 

المزمور الرابع والثلاثون (شكر من أجل النجاة)

المزمور التاسع (تسبحة الغلبة)

 

المزمور الخامس والثلاثون (صرخة طلبـًا للعون)

المزمور العاشر (لا تنس المساكين يارب!)

 

المزمور السادس والثلاثون (شر الإنسان وصلاح الله)

المزمور الحادي عشر (الإيمان أعظم من الهروب)

 

المزمور السابع والثلاثون (الودعاء)

المزمور الثاني عشر (كلام الأشرار وكلام الأبرار)

 

المزمور الثامن والثلاثون (مزمور التوبة الثالث)

المزمور الثالث عشر (إلى متى يارب....؟)

 

المزمور التاسع والثلاثون (الأحداث والزمن)

المزمور الرابع عشر (الجـــاهل)

 

المزمور الأربعون (جئت لأتمم مشيئتك)

المزمور الخامس عشر (الحياة على قمم الجبال)

 

المزمور الحادي والأربعون (الإنسان المطوَّب)

المزمور السادس عشر (الله كفايتي وفرحي)

 

- الباب الثاني  [مز 42 – مز 72]

المزمور السابع عشر (التأديب يقود إلى رؤية الله)

 

المزمور الثاني والأربعون (عطشي إلى المسيح)

- المزمور الثامن عشر (نعمة الملوكية)

 

المزمور الثالث والأربعون (أحكم لي يارب)

الجزء الأول: الخلاص

 

المزمور الرابع والأربعون (حُسبنا مثل غنم للذبح)

الجزء الثاني: نعمة الملوكية

 

المزمور الخامس والأربعون (تسبحة العرس)

المزمور التاسع عشر (الله يعلن عن ذاته)

 

المزمور السادس والأربعون  (رب القوات معنا)

المزمور العشرون (الله يخلص الملك)

 

المزمور السابع والأربعون (مَلِكْ الجميع)

المزمور الحادي والعشرين (نشيد نصرة الملك)

 

المزمور الثامن الأربعون (مدينة الملك العظيم)

المزمور الثاني والعشرون (آلام المسيح المجيدة)

 

المزمور التاسع والأربعون (قصور الغنى)

المزمور الثالث والعشرون (مزمور الراعي)

 

المزمور الخمسون (ذبيحة التسبيح)

المزمور الرابع والعشرون (ملك المجد يدخل مقدسة)

 

 

مقدمة في سفر المزامير

كلمة "مزمور" هي ببساطة ترجمة للكلمة اليونانية "psalmoi"، وهي بدورها ترجمة للكمة العبرية "mizmor". والكلمة في صيغة المفرد كانت تعني أساسًا صوت الأصابع وهي تضرب آلة موسيقية وترية، صارت فيما بعد تعني صوت القيثارة، وأخيرًا اُستخدمت لتعني غناء نشيد على القيثارة[1].

الاسم العبري لهذا الكتاب هو "سفر تهليم" أي "كتاب التهليلات أو التسابيح". فسواء كان الإنسان فرحًا أو حزينًا، متحيرًا أو واثقًا، القصد من هذه الأغاني هو النشيد والهتاف بمجد الله. إنها تقودنا إلى المقادس حيث يتربع الله على تسبيحات شعبه كعرش له (مز 22: 3).

بينما يعطينا سفر أيوب ردًا على السؤلين الآتيين: لماذا توجد الضيقات في حياتنا؟ وكيف نعالج مشكلة الألم والمعاناة، يقدم لنا سفر المزامير بدوره ردًا على سؤالين آخرين: كيف نعبد الله في عالم شرير؟ وكيف تبقى أنقياء ونحن نُضطهد. في أيوب يتعرف المرء على نفسه، بينما يتعلم في سفر المزامير أن يعرف الله[2] وأن يكون في التصاق وثيق به.

كلمة إسترشادية (مفتاح السفر):

الكلمات التي تُعتبر مفتاحًا للسفر هي: "ثقة، تسبيح، فرح، رحمة"؛ تتكرر هذه الكلمات مئات المرات في هذا السفر.

تعلمنا المزامير كيف نفرح واثقين في الله، وكيف نسبحه بكلمات أوحى بها الروح القدس.

المزامير والكنيسة المتهللة:

لكي نفهم دور سفر المزامير في حياة الكنيسة نقتبس كلمات Mircea Eliade: [يمكن أن يُقال بحق إن العبرانيين هم أول من أكتشفوا مغزى التاريخ كظهور إلهي[3]]. فقد اكتشفوا أن الله ليس فقط مصدر وجود الإنسان بل هو أيضًا مصد وجود شعبه. ففي مصر خلق شعبًا من عدم، وخلصهم من العبودية. ودخل معهم في ميثاق. كان لتاريخهم كيانًا خلال شركته معه، إذ رافقهم في البرية، ودخل معهم أرض الموعد وأقام لهم الملك التقي الأول (داود) كملكه هو. أمام هذا كله لم يقف الشعب صامتًا، بل رفعوا أصوات الهتاف والتسبيح؛ وفي وقت الضيق في شجاعة أثاروا أسئلة وقدموا له شكواهم، فقد اختارهم ليدخلوا معه في حوار أفضل أمثلة لهذه المعاملات (والحوار بين الله والإنسان) نجدها في سفر المزامير[4].

أما بالنسبة للكنيسة المسيحية فهي في حقيقتها جماعة تسبيح وترتيل، وُلدت كما في أنشودة مفرحة. إنجيلها (بشارة مفرحة) يأتي ومعه على مسرح التاريخ خورسًا من التسابيح والتماجيد لله[5]. فالكرازة بالبشارة المفرحة (الإنجيل) في العصر الرسولي لم تقم على نظرة لاهوتية جافة، مقدمة بطريقة باردة منعزلة عن الحياة الشخصية للمؤمن، إنما اُستقبلت بقلوب ملتهبه تتحرك في خبرة الفرح الأخَّاذ الذي يسبي العقل (أع 2: 1-13، 47؛ 3: 8؛ 5: 41، 42؛ 8: 39؛ 13: 52). حقًا إن ملكوت الله هو فرح في الروح القدس (رو 4: 17)[6]!

في السيد المسيح نكتشف الكنيسة بكونها أيقونة السماء وملكوت الله المملوء فرحًا. يريد الله لشعبه أن يمارس حياة الفرح فيّه، كعلامة التمتع بالحياة الداخلية المقامة في المكسيح وكعربون الشركة في السمويات عينها. تعكس المزامير هذا الجانب السماوي لوجودنا. يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إن التسبيح بالمزامير يجعلنا مساوين للملائكة في الكرامة]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنها توحدنا بهم]. ويكتب القديس باسيليوس الكبير: [ماذا يمكن أن يكون أكثر مسرة وغبطة للإنسان من أن يتشبه بالملائكة في ترنمه بالتسابيح، فيبتدئ يومه بالصلاة والتسبيح وتمجيد الخالق بالترانيم والأغاني؟![7]]. وجاء في التقليد الحاخامي أنه قد عُلقت قيثارة على مضطع داود[8] (أي ينهي يومه كما يبدأ بالعزف عليها مسبحًا الله قبل نومه وعند استيقاضه).

يقول William Plumer: [تُتلى (المزامير) وتتكرر تلاوتها وتُسبح ويُغنى بها وتدرس وتستخدم في سكب الدموع وأثناء الفرح، وتُفسر كما تُحب ويُمجد بها (الله) وذلك بواسطة شعب الله عبر آلاف السنوات].

وجد المسيحيون واليهود على السواء – عبر القرون – في كلمات المزامير القوة الروحية ولغة التسبيح في آلامهم كما في انتصارتهم. وُضع كثير من المزامير لاستخدامها في العبادة في الهيكل (مز 24، 118، 134، 145). في الكنيسة الأولى كانت مزامير العهد القديم تتلى بنظرة مسيحية بكونها تصويرًا مسبقًا ونبوات عن السيد المسيح، كما قامت الصلوات الأولى التي رفعتها الكنيسة الأولى في سفر الأعمال على المزامير (أع 4: 24-30).

يسجل الكتاب المقدس الكثير من التسابيح والأناشيد أو المزامير التي تغنى بها شعب الله أو ترنم بها أشخاص؛ من أمثلة ذلك: تسبحة لامك (تك 4: 23-24)؛ تسبحة مريم أو موسى النبي (خر 15)؛ تسبحة البئر (عد 21: 17-18)؛ تسبحة دبورة (قض 5)؛ تسبحة حنة (1 صم 2)؛ تسبحة يونان (يونان 2)؛ تسبحة حزقيال (إش 38: 10-20)؛ تسابيح إشعياء (25: 1-12؛ 26: 1-20)؛ تسبحة الثلاثة فتية (دا)؛ مزمور زكريا (لو 1: 68-79)؛ المجدلة Magnificant للقديسة مريم العذراء (لو 1: 55)؛ البركة Benedictus لزكريا (لو 2: 67-79)؛ المجدلة العلوية Glorian Excelsis للملائكة (لو 2: 13-14)؛ تسبحة الانطلاق Nune Dimittis لسمعان الشيخ (لو 3: 28: 32)؛ تسابيح القديس بولس (أف 5: 14؛ 1 تي 3: 16؛ في 2: 6-11؛ كو 1: 15-20؛ عب 1: 3)، تسابيح القديس بطرس (1 بط 1: 18-21؛ 2: 21-25؛ 3: 18-21)؛ تسبحة الأربعة مخلوقات الحية (رؤ 4: 8)، تسبحة الأربعة وعشرين قسيسًا (رؤ 4: 11)، الترنيمة الجديدة (رؤ 5: 9-10) الخ... بجانب هذه التسابيح وغيرها الواردة في الكتاب المقدس يوجد سفران مخصصان للتسابيح، هما المزامير ونشيد الأناشيد.

v     التسبيح بالمزامير لشفاء النفس[9].

القديس أثناسيوس الإسكندري

v     أي كائن له القوى الخمس يلحق به الخزي إن لم يبدأ نهاره بمزمور، فإنه حتى أصغر الطيور تبدأ يومها وتنهيه بتراتيل عذبة في عبارة مقدسة[10]!

القديس أمبرسيوس

v     معظم الناس لا يعرفون شيئًا عن الأسفار الأخرى، أما المزامير فيكررون تلاوتها في المنازل والشوارع والأسواق، هؤلاء الذين يحفظونها عن ظهر قلب، ويشعرون بالقوة المريحة التي تكمن في تسابيحها المقدسة[11].

الأب ثيؤدور من الميصة (ما بين النهرين)

v     المزامير هي قصائد شعرنا، أغاني حبنا، هي مرعانا وتدبيرنا.

رسالة باولا وايستوخيوم إلى مارسيلا

v     يقول أحد القديسين: ليكن تسبيح المزامير مستمرًا، فإننا إذ نذكر إسم الله تهرب الشياطين[12].

الأب مارتيروس

وضعوا السفر:

معظم المزامير أُوحى بها إلى داود الراعي والجندي، الملك والنبي؛ فقد كان يلعب بالقيثارة (1 صم 16: 18-23؛ 2 صم 6: 5). دُعى "مرنم إسرائيل الحلو" (2 صم 23: 1)؛ كانت له موهبة فائقة في وضع الشعر (2 صم 1: 19-27؛ 3: 33 الخ؛ 22: 1-51؛ 23: 1-7)، وكان عاشقًا للصلوات الليتورجية الجماعية (2 صم 6: 5، 15 الخ). نظم داود خدمة التسبيح في المقدسة (الخيمة المقدسة) (1 أي 6: 31؛ 16: 7؛ 25: 1؛ غر 3: 10؛ نح 12: 24، 36، 45-46؛ عا 6: 5).

نُسب 24 مزمرًا إلى آساف ربما كان "آساف" لقبًا لقادة الموسيقيين أو لمنظمي الخورس في أيام داود وسليمان (1 أي 16: 4-5؛ 2 أي 5: 12)، وإلى أبناء قورح (وهي عائلة من حارسي الأبواب الرسميين ومن الموسيقيين، ربما كانوا تلاميذ قورح وليس بالضرورة من عائلته)، وإلى هيمان وإيثان. هذه المزامير الأربعة وعشرون تُصنف معًا كمجموعة واحدة بطريقة لائقة لأن واضعيها قد ارتبطوا معًا في خدمة التسبيح التي أسسها داود.

ربما كتب موسى المزمورين 90، 100؛ وربما كتب سليمان أيضًا مزمورًا أو إثنين.

أما بقية المزامير فهي مجهولة المؤلف، تسمى بالمزامير "اليتيمة". يُعتقد أن داود النبي كتب بعضها.

لماذا يُنسب سفر المزامير إلى داود؟

بالرغم من أن 73 مزمورًا فقط من 150 مزمورًا (+ المزمور 151 في الترجمة السبعينية LXX) هي التي تنسب صراحة إلى داود، لكن اتجهت النظرة العامة إلى إعتبار داود هو واضع كل سفر المزامير؛ لماذا؟

1. يقول B. Anderson: [تعكس هذه النظرة بلا شك اقتناع الجماعة بإن داود هو المسيح الممسوح، والملك المثالي الذي به يُعرف الشعر عندما يتقدمون للعبادة أمام الله، ونموذج للملك الآتي الذي يحقق رجاء إسرائيل، وذلك كما جاء بوضوح في أخبار الأيام الأول والثاني[13]].

2. في أثناء حكم داود أصبحت أورشليم مركز العبادة للأمة الجديدة. وساهم سليمان من بعده بالأكثر في مركزية صهيون ببناء الهيكل العظيم فيها. لقد شعر الناس بجاذبية شديدة نحو أورشليم لعبادة الرب، ليس فقط بتقديم الذبائح وإنما أيضًا بتسبيح المزامير لله كتقدمة محرقات روحية. وعندما عاد المسبيون من بابل بعد خراب أورشليم، كان فكرهم الأول منصبًا على بناء الهيكل، وذلك لتحقيق وجودهم كجماعة عابدة مصلية في أورشليم.

يرى كثير من العلماء أن سفر المزامير قد أخذ شكله النهائي على يد المسئولين عن الهيكل الثاني، لكن معظمها تعكس العبادة الرسمية لعصر ما قبل السبي[14].

يقول L. Sabouirn: [إن كانت المزامير متصلة أساسًا بالعبادة الذبائحية فإن سفر المزامير قديم قدم العبادة الذبائحية نفسها[15]].

خصائص السفر:

1. هذا الكتاب أصلاً هو سفر التسبيح لشعب الله. وضعت بعض المزامير لاستخدامها الليتورجي في الهيكل، وبعضها من أجل الحياة الخاصة الشخصية وإن كانت الأخيرة تُستخدم أيضًا في العبادة الجماعية. يقول Brevard S. Chids: [تشكلت الحياة الدينية اليهودية – الجماعية والخاصة – منذ البداية بواسطة مزامير الكتاب المقدس. فيظهر سفر المزامير العبري بجلاء في كتاب الصلوات وفي المدراشيم وفي طقوس العبادة في المجمع[16]].

يعتقد بعض العلماء أنه لم يُقصد بسفر المزامير استخدامها في العبادة الهيكلية، وحجتهم في هذا أن ما يحمله السفر من عمق في الروحانية يتنافى مع هذه النظرة؛ إذ يعتقدون أن الروحانية مرتبطة بالعبادة الفردية وحدها. وقد سبق لي مناقشة هذا الموضوع (العبادة الجماعية والروحانية) في كتاب: "المسيح في سفر الأفخارستيا"، حيث قلت إن العبادة الجماعية الكنسية المبكرة لم تكن منفصلة عن العبادة الشخصية. فالمؤمن يمارس نوعًا واحدًا من العبادة أينما وجد، سواء في الكنيسة أو في مخدعه! يمارس الصلة الشخصية مع الله حتى أثناء العبادة الجماعية، ويصلي كعضو في الكنيسة المقدسة حتى وهو في مخدعه. هذا الإتجاه الإنجيلي اختبره الناس قديمًا. وكما يقول B. w. Anderson: [من أكبر الصعوبات التي تعوق فهم المزامير هي الفردية الحديثة التي تفترض أن العبادة أمر شخصي بين الفرد والله، وأنه يمكن الوصول إلى الله بعيدًا عن الوسائل المرسومة للعبادة الجماعية. من هذا المنطلق كانت الخطوة الأولى هي تقسيم المزامير إلى مزامير تعكس العبادة الجماعية وأخرى تعكس التقوى الشخصية. هذا التناقض بين الفرد والجماعة غريب تمامًا عن الإيمان الإسرائيلي المرتبط بالميثاق، والذي بمقتضاه يُنتسب الفرد إلى الله كعضو في الجماعة... وبحسب إيمان إسرائيل فإن يهوه – الجالس على العرش من تسبيحات شعبه – يكون حاضرًا عندما تتعبد الجماعة معًا في الهيكل في الأيام المقدسة أو الأعياد. يسبح الفرد الله مع الجماعة المتعبدة، قائلاً: "عظموا يهوه معي... وانمجد اسمه معًا" (مز 34: 3). عندما تُستخدم الضمائرنا "أنا" و "نحن" كما في مزمور الراعي المعروف (مز 23) يلزمنا التفكير في الجماعة كلها مجتمعة معًا لتُعبر عن إيمانها[17]].

يُعتبر سفر المزامير هو سفر الصلاة والتسبيح للكنيسة المسيحية حتى اليوم، لأنه يعبر عن اختبارات شعب الله في كل العصور. كما يقول الأسقف Weiser: [منذ بداية المسيحية (1 كو 14: 15، 26؛ أف 5: 19) وحتى العصر الحاضر تخلق العبادة الجماعية علاقة خاصة وقوية بين الجماعة المتعبدة والمزامير، هذه العلاقة مستمرة ونامية. لكن هذا لا ينفي أهمية سفر المزامير للاستخدام المسيحي (الشخصي). فبجانب استخدامها في العبادة الجماعية تستخدم أيضًا كوسيلة لبناء النفس الشخصي، وكأساس للعبادة العائلية، وككتاب للعزاء وكتاب للصلاة وكدليل يرشد إلى الله في أوقات الفرح وأوقات الضيق على السواء[18]].

2. سفر المزامير هو كتاب لكل من هم في عوز: للمريض والمتألم، للفقير والمحتاج، للسجين والمسبي، لمن هو في شدة أو تحت اضطهاد.

تعبِّر المزامير عن حياة الصلاة المتوازنة بين رفع الشكر لله والتضرع إليه من أجل المساعدة. جميعها تنطق بالمشاعر الداخلية النابعة عن القلب البشري في كل عصر. كل مزمور هو تعبير مباشر عن إدراك النفس لله، ومرآة خلالها يُعاين كل إنسان مشاعر نفسه، ويعتبرها قصته الشخصية، مشيرًا إلى أسئلة الخاصة به المحيرة وإجابات الله عليها.

يقول Dermot Connolly: [مما يجدر ملاحظته أن الصلاة أصيلة ودفينة في حياة شعب الله وخبراتهم: في أفراحهم وأحزانهم، في تاريخهم وعبادتهم، في وقت الخطر أو الخلاص، في المرض، في الطفولة والشيخوخة، في السبي وزيارة (أورشليم)، في العزلة والصداقة. لاحظ أيضًا الإشارات الجسدية (في المزامير): الأيادي والأقدام والحناجر والجلد والعيون، كلها تتعرض للمعاناه والأم، وتستخدم كأيماءات في الصلاة[19]].

3. تجري موضوعات نبوة عظيمة في سفر المزامير، إقتبس منها العهد الجديد؛ بل وربنا نفسه يقول: "لكي يتم ما هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" (لو 24: 44).

تعطي المزامير المسيانية تصويرًا كاملاً ودقيقًا عن ابن داود، ربنا يسوع المسيح. فهي تتنبأ عن المجيء الأول للسيد المسيح متضمًا تجسده وآلامه وموته ودفنه وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب، ثم عن مجيئه الأخير، وأيضًا وظائفه النبوية والكهنوتية.

تجد معظم المزامير كمال تعبيرها ومعناها في حياة السيد المسيح وعلى شفتيه.

4. يبدو أن الآلات الموسيقية مثل الدفوف والأبواق والمزمار والقيثارات والطبول كانت تستخدم في العهد القديم؛ لكن كنيسة الإسكندرية تعتبر حنجرة الإنسان أجمل الآلات الموسيقية، لذلك تستخدم أحيانًا الدفوف مع أصوات خورس الشمامسة والشعب.

يطلب الله الآلات الموسيقية التي للقلب والعقل، التي يعزف عليها بروحه القدوس. يقول الأب مارتيروس السرياني: [يجب أن تفهم هذا عند الحديث عن القيثارة أو الدفوف عندما تصدر نغمًا (1 كو 3: 1)؛ هل تصدر عذوبة الصوت والغناء عن القيثارة أم عن الشخص الذي يلعب على الأوتار ويغني؟! وأنت يا من حباك الله بعطية العقل... يلزمك أن تتحقق بأن روح الله يعزف على لسان ويغني أناشيده بفمك[20]].

5. يرى كثير من الدارسين أن المزامير كانت تُنشد غالبًا بواسطة خورس محترف وجوقة موسيقية (أوركسترا) حاشدة، بينما يُؤمِّن الشعب بترتيل "آمين"، ويرددون مستجيبين بين الحين والآخر بعبارات خاصة بالمناسبات. أما في الكنيسة القبطية المبكرة (وحتى الآن في بعض الأديرة) فإن الشعب كله ينقسم إلى خورسين شمالي (بحري) وجنوبي (قبلي) ليشترك الكل في ترنيم استيخونات المزامير والتسابيح بالتتابع.

6. يرد في سفر المزامير كثير من الكلمات الغامضة مثل "سلاه" التي تظهر 73 مرة، تدل إما على توجيهات للموسيقيين أو على توقيت بداية ترتيل توقيت المزمور. ويرى بعض الدارسين أن "سلاه" من المحتمل أن تكون مشتقة عن أصل عبري "selah" معناه: "الذي يرفع"، وذلك لكي يرتفع صوت الموسيقي أو الترنيم في توقيت محدد. وربما كان الشعب ينهض برفع يديه أو رأسه أو عينيه كعمل تعبدّي.

7. المزامير كقصائد شعرية مملؤة بالأسلوب الشعري، وتستخدم الآتي:

أ. التشبيه simile: مقارنة أشياء مختلفة عن بعضها البعض باستخدام "مثل" أو "ك" (مز 1؛ 3، 4؛ 11: 1؛ 19: 5).

ب. الاستعارة metaphor: استخدام كلمة لتدل على شيء ما أو فكرة ما بدلاً من كلمة أو فكرة أخرى، وذلك لكي توحي بالتشابه بينهما، دون استخدام "مثل" أو "ك" (مز 27: 1؛ 18: 2).

ج. المبالغة hyperbole: الغلو أو المبالغة في الوصف للحصول على تأثير معين (مز 6: 6).

د. التشخيص personification: إضفاء بعض الملامح الشخصية على أشياء بلا حياة (مز 9: 1، 35: 10).

هـ. المناجاه apostropge: توجيه الحديث إلى كائنات غير حية (مز 114: 5).

و. المجاز synecdoche: صورة بلاغية يقوم فيها الجزء مقام الكل أو الكل مقام الجزء (مز 91: 5).

يقول وليم بلامر Plumer: [تتشكل أشعار المزامير لا كما يحدث في أشعار اللغات الحديثة كاستجابة لمقاطع لغوية، وإنما كاستجابة للأفكار].

الأشكال الأدبية:

يمكن تقسيم المزامير حسب موضوعاتها أو رسالتها أو أسلوبها. ولكن الأنماظ الرئيسية للمزامير في هذا السفر هي: مزامير المراثي أو التضرعات، ومزامير الشكر، ومزامير التسابيح.

v     سأوضح لك المناسبات المختلفة للصلاة: فهناك الابتهال، والشكر والتسبيح. فالابتهال هو إن سأل الإنسان الرحمة عن خطاياه، وفي الشكر تقدم لأبيك الذي في السماء التشكرات، بينما في التسبيح تمجد الله على أعماله. حين تكون في ضيق إرفع ابتهالاً، وحينما تكون متمتعًا بكل خيرات يلزمك أن تقدم للواهب شكرًا، وعندما يبتهج عقلك إرفع تسبيحًا. قدم كل هذه الصلوات لله بإفراز[21].

القديس أفراهات

v     يُقدم التضرع بواسطة إنسان في عوز إلى شيء ما...؛ أما الصلاة مقترنة بالتسبيح فتُقدم بواسطة الإنسان الذي يطلب بطريقة أكثر وقارًا أمورًا أعظم؛ والتشفع هو التماس إلى الله يقدمه شخص له ثقة أعظم... الشكر هو صلاة تحمل اعترافًا لله من أجل أفضاله التي وهبنا إياها[22]...

العلامة أوريجانوس

يضع الدارسون تصنيفات أخرى متنوعة، ويلاحظ أن كثيرًا من المزامير لها ملامح أكثر من تصنيف من المجموعات التالية:

1. مزامير تعليمية:

أ. أقصد بالمزامير التعليمية "المزامير التهذيبية didactic" البناءة واللاهوتية. من الصعب الفصل بين النوعين الأخيرين (مامير للبناء العملي أو التهذيب والمزامير اللاهوتية)، فكلا النوعين يصوران الحكمة السماوية واللاهوت. يركز النوعان على "الحياة" الواحدة التي يلزمنا أن نقتنيها كأبناء لله، لكي نصير على صورته وكمثاله.

كل المؤمنين، خاصة القادة، يحتاجون إلى الحكمة، وكما يقولCarroll Stuhlmueller: [ارتبطت الحكمة منذ وقت مبكر جدًا بالملوكية في إسرائيل، (فقد جاء في ختام (1 مل 4: 29-34) "وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته"). مثلها مثل البلدان الأخرى إذ كانت المدارس النهائية لأبناء الأشراف الشباب تُقام في العاصمة الملوكية؛ وفي عصر ما بعد السبي التزمت المجامع بالخدمة كأماكن للعبادة والتعليم معًا (تعليم الحكمة). وأوضح إشارة إلى مثل هذه المدارس جاء في (سيراخ 51: 23) "اقترب مني يا من تتعلم وأدخل مدرستي"...

يبحث أدب الحكمة في نظام الحياة المستقرة المتناغم؛ إذ تقف الحكمة ضد الفوضى والعنف. فبينما تصور مزامير التسابيح – خاصة تلك التي تستمد غايتها من عمل الله الإبداعي في الكون – يهوه بكونه الغالب العظيم للبحر الغضوب ولعواصف الشتاء الثائرة (مز 29؛ 89: 9-13)، تجد الحكمة نفسها في حضرة الخالق "كنت عنده صانعًا... كنت كل يوم لذته، فرحه دائمًا قدامه" (أم 8: 30)!! بالرغم من هذا الاتجاه التأملي العقلاني إلا أن الحكمة تحوي على الدوام سرًا نهائيًا، محفوظًا خفية في خطة (نظام) الله. وفي أمثال (8: 22-31) نجد الحكمة مستقرة مع الرب قبل الخليقة. نفس الأمر نجده في سيراخ أصحاح 24. هذه النظره السرية تظهر اتجاهات عقلانية في المزمور 139: "لأنه قبل أن توجد كلمة في لساني ألا وأنت يارب عرفتها كلها... عجيبة هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيع أقتناءها"[23]].

يقول العلامة أوريجاوس: [بما أن (المزامير) هي صلوات وضعها الروح ونطق بها بالحقيقة، لذا فهي ممتلئة بتعاليم حكمة الله، حتى يمكن القول عما احتوته من تعاليم: "من هو حكيم حتى يفهم الأمور وفهيم حتى يعرفها؟!" (هوشع 14: 9)[24]].

يقول القديس هيبوليتس الروماني: [إن داود قدم لليهود طابعًا جديدًا من مزامير التسبيح، خلالها أبرز تعاليم كثيرة تخطت ناموس موسى]. كما يقول: [يحوي كتاب المزامير تعاليم جديدة تخطت ناموس موسى وكتاباته. إنها كتاب التعليم الثاني[25]].

أعلن القديس باسيليوس الكبير أثناء تعليقه على المزمور الأول: [كتاب المزمير حاوي كل اللاهوت].

ب. لم تكن الحكمة واللاهوت والعبادة تنفصل عن بعضها البعض؛ لذلك كان المجمع اليهودي ملتزمًا أن يعلم الشعب لا الحكمة وحدها وإنما يعلمها العبادة أيضًا.

ج. تسمى بعض هذه المزامير "مزامير التوراة"، إذ تتأمل في التوراة وتظهر البهجة بها (مز 1، 19، 119). ومن أهم ما تؤكده هذه المزامير هو أن دراسة التوراة تجعل من الإنسان حكيمًا ومطوبًا. تجلت هذه الفكرة لتسيطر على المزمور الأول فوق كل فكرة، هذا الذي يُعتبر مقدمة لسفر المزامير ككل.

د. يقدم سفر المزامير إجابة صريحة للعديد من الأسئلة التي تثور في الذهن البشري.

هـ. التعاليم الرئيسية الواردة في سفر المزامير هي:

* الله: يتمركز إهتمام المرتلين في الله نفسه، خاصة بالنسبة لمزامير الشكر. ففي مركز كل مزمور نرى حضرة الرب (إله الكنيسة)[26] وسط شعبه المقدس كما في قلب المؤمن التقي. لقد اعتاد المرتلون أن يتحدثوا مع الله أكثر من حديثهم عنه، فهم يكشفون عنه خلال حديثهم غير المنقطع معه. إنهم يسبحون الله كخالق ومخلص معًا، ويطلبون منه أن يخلص شعبه ويدافع عنهم ويعينهم، صانعًا هذا مع البرار أعضاء كنيسته. إنهم يمجدون الموضع الذي يتجلى الله فيه حيث يسكن وسط شعبه (كما في مزامير صهيون)، ويمجدون الوسائل التي يعلن بها نفسه (كما في مزامير التوراة).

خلال الصلوات والترنيم بالتسابيح نتعرف على الله بكونه رب الكنيسة أو الجماعة المقدسة، فندعوه: إله إسرائيل (الكنيسة هي إسرائيل الجديدة) (مز 68: 8)؛ قدوس إسرائيل (71: 2)، إله يعقوب (75: 9). في نفس الوقت يُنتسب الله إلى المؤمن على مستوى شخصي، إذ يدعوه: "مجدي ورافع رأسي" (3: 3) مِجَنّي (3: 3؛ 59: 11)، "صخرتي، حصني، خلاصي، غلهي، قوّتي، قرن خلاصي، برج خلاصي" (18: 2)، "راعيَّ" (23: 1)؛ "نوري وخلاصي" (27: 10)، "صخرتي القوية" (31: 20)، "معيني" (54: 4)، "ملجأي" (91: 2)؛ "برّي" (144: 2).

* الإنسان: يقدم سفر المزامير النظرة إلى الإنسان من زاويتين متكاملتين:

أ. يصور حياة الإنسان خلال استعارت كثيرة، فهي ليست إلا شبرًا (39: 6)، وعشبًا (103: 15-16)، وظلاً (144: 4؛ 109: 23)، وجرادًا (109: 23)، وحلمًا ونسمة ريح. الحياة الإنسانية مملؤة شقاءً وحزنًا (90: 10)، والمستقبل على الأرض غامض (39: 7)؛ في نفس الوقت في سفر المزامير نرى الإنسان قد خُلق لينعم بحياة مفرحة مطوّبة. حقًا في مزامير التضرعات (المراثي) يُصور الإنسان ككائن شقي عاجز، لكنه ينال خلاصًا من الشر باتكاله الكامل على الله. بهذا تخلق المزامير جوًا من الفرح والتعزية حتى وسط المتاعب والضيقات.

ب. في سفر المزامير يظهر الله كمن هو مهتم بالبشر وحدهم (مز 8)، خاصة بشعبه وبكل عضو منهم. فقد خلق الإنسان كسيد للخليقة (8: 6)، وافتداه ليقدسه ويجعله إلهًا وابنًا للعلي (82: 6). يتمجد الله بكرامة الإنسان ومجده.

إدراكنا لحقيقة أنفسنا، وبطلان الحياة الإنسانية، وهبات الله لنا، كل هذا يدفعنا ألا نستكبر بل نتضع فنصير قريبين من الله (138: 6)، حينئذ نقول: "المقيم المسكين من التراب؛ الرافع البائس من المزبلة، ليجلسه مع أشراف، مع أشراف شعبه" (113: 7-8). "ليس لنا يارب ليس لنا لكن لاسمك إعطِ مجدًا" (115: 1).

تؤكد المزامير وحدة الإنسان ككل، ففرح روحه يسند جسده ويقوبه.

* الأبرار والأشرار: (1، 5، 7، 9-12، 14، 15، 17، 24، 25، 32، 34، 36، 37، 50، 52، 53، 58، 73، 75، 84، 91، 92، 94، 112، 121، 125، 127، 128، 133): نجد في "مزامير التوراة" التضاد القاطع بين الأبرار والأشرار؛ وبين الحكيم والجاهل، بطريقة واضحة وبسيطة.

* ناموس الله (19، 119): تؤكد المزامير أهمية الحياة حسب مقاييس الناموس الإلهي وتبرز النتائج المباركة للطاعة للناموس والنتائج السيئة للعصيان[27].

يوجد مزموران مخصصان لمدح الناموس الإلهي (19، 119)، يعلنان أن وصايا الله ليست عبئًا ثقيلاً بل بالحري هي مصدر الحياة والعذوبة والشبع والغنى والاستنارة والفرح. (مز 119) يشبه أنشودة أو أغنية تناسب المؤمنين الروحيين في العهد الجديد كما في العهد القديم.

* واجبات الحكام (82، 191).

2. مزامير التكريس (التقوى) Devotional Psalms.

* الندامة التي تتنسم حزنًا عميقًا على خطية أُرتكبت. تعبّر بعض هذه المزامير "مراث جماعية" عن حزن جماعي شعبي بسبب الإحساس بخطية إرتكبتها الأمة ككل؛ وبعضها "مراثٍ شخصية".

مزامير التوبة السبعة: (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143). يحوي المزمور 51 تصويرًا نموذجيًا للمراثي والتوبة.

يقول بوسيديوس كاتب سيرة القديس أغسطينوس: [كُتبت مزامير التوبة السبعة كأمره، ووُضعت بطريقة يمكنه أن يراها وهو على فراشه. كان ينظر إليها ويقرأها أيام مرضه باكيًا ومتألمًا في أغلب الأحيان]. هكذا بعيون مثبته على المزامير انطلق القديس أغسطينوس إلى راحته[28].

* الضيق الشديد (4، 5، 11، 28، 41، 55، 59، 64، 70، 109، 120، 140، 141، 143).

* الرغبة في العون (7، 17، 26، 35، 44، 60، 74، 79، 80، 83، 89، 94، 102، 129، 139).

3. مزامير لتسبيح والشكر Hymns of Praise and Psalms of Thanksgiving (الخاصة والجماعية) (33، 95، 100، 117، 145، 148، 149، 150).

يفصل بعض الدارسين بين مزامير التسبيح ومزامير الشكر، متطلعين إلى الأولى بكونها بسيطة في هيكلها، إذ هي دعوة إلى العبادة، وغالبًا ما يُستخدم إسم المخاطب: "سبحوا الرب يا جميع الشعوب" (117: 1)؛ أما مزامير الشكر فترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمراثي، بمعنى أنها إعتراف بالخلاص من يد الأشرار.

يقول R. J. Clifford: [تعبير "الشكر" إلى حد ما يُضلل، ففي الكتاب المقدس إذ يقال "أشكروا" لا يعني القول "نشكرك". وينتهي الأمر، إنما يعني أن تخبر علانية بأن الخلاص يتحقق فعلاً، فيتعرف السامعون على يد يهوه ويقدمون له تسبيحًا[29]].

التسبحة هي أغنية تمجد عظمة الله المعلنة في أعماله الخاصة بالخلق (مزامير الخليقة) وأيضًا عبر التاريخ. المزامير التي من هذا النوع غالبًا ما تبدأ بأمر ودعوة نحو العبادة، عندئذ توضح أسباب التسبيح؛ غالبًا ما يمهد لها بكلمة "لأنه" KI، ويختتم المزمور أحيانًا بتجديد الدعوة نحو التسبيح، مرددًا صدى ما بدأ به. يمكن رؤية هيكل مزامير التسبيح هذا بوضوح في المزمور 117، أقصر مزمور في السفر[30].

يلتزم الشعب الواحد المقدس بالتسبيح ككل معًا، كما يلتزم كل عضو في الجماعة بذلك، سواء كان كاهنًا أو لاويًا أو من عامة الشعب، حتى الأطفال منهم. الخليقة السماوية وأيضًا الخليقة غير العاقلة تشترك في التسبيح. المسكونة كلها تنعم بالفرح خلال التسبيح لله.

يركز هذا الطابع من المزامير على الحياة والفرح (100: 2). فباسم الله ننال الفرح (10: 3)، ونحصل على مصدر العذوبة في قلوبنا كما في شفاهنا (100: 5). الرب هو الله الحيّ، يهب شعبه لا الحياة وحدها بل الحياة الجديدة المخلَّصة بما تحمله من كرامة وحنو وتقدير، فيأتي المزمور كأعظم ردّ فعل طبيعي مقدم لله الخالق والمخلص.

 خلال الترنم بالمزامير التسبيح يشتاق المؤمن أن يقدم نفسه بفرح ذبيحة حية لإلهه المحبوب لديه. يقول القديس بولس: "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1). ويحمل المرتل ذات الفكر، إذ يقول: "فأذبح في خيمته ذبائح الهتاف" (27: 6)، وأيضًا: "فلك أذبح ذبيحة حمد" (116: 17)، "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية" (141: 2).

v   إنني أعتبر الصلوات والتسابيح لله هي الذبائح الكاملة والمقبولة أمام الله، إن قدمها أناس ذو وقار[31].

القديس يوستين

أهم مزامير الشكر الخاصة هي (مز 18، 30، 32، 34، 41، 66، 92، 116، 118، 138).

4. المزامير المسيانية Messianic Psalms:

بالنسبة للمسيحيين الأوائل، كان السيد المسيح هو موضوع تمجيد كل مزمور. فقد صورت المزامير المسيانية السيد المسيح أو تنبأت عنه. ويُعتبر سفر المزامير هو أكثر الأسفار وضوحًا بعد إشعياء في التعبير عن النبوات الخاصة بالسيد المسيح ورسالته في كل العهد القديم. وقد ظلت معاني الكثير من المزامير غامضة حتى قدمت حياة ربنا يسوع المسيح المفتاح لمعانيها. نور العهد قد تحقق في المسيا، ليشرق هنا بنور أعظم بهاءًا[32]. يقول R. T. Boyd: [نجد (السيد المسيح) في الأناجيل قد ذهب ليصلي، أما في المزامير فنجد الصلاة نفسها التي قدمها؛ تخبرنا الأناجيل عن صلبه، بينما تعطينا المزامير استنارة وانفتاحًا على قلبه أثناء صلبه؛ تُظهر لنا الأناجيل أنه عاد إلى السماء عند أبيه وترينا المزامير إياه جالسًا مع الآب في السماء[33]].

اعتبر كثير من آباء الكنيسة الأولى غالبية المزامير مسيانية، أي تختص بالسيد المسيح. ويُعتبر داود نبيًا لأنه كتب الكثير من المزامير وهي تحتوي نبوات عن السيد المسيح. حقًا ينكر بعض اليهود لقب "نبي" بالنسبة لداود، لكن القديس بطرس دعاه هكذا بكل صراحة في أعمال الرسل (2: 30).

تصور المزامير المسيانية ربنا من زوايا أربعة:

أ. المسيح المتألم؛

ب. المسيح الملك؛

ج. ابن الإنسان، أي ابن داود؛

د. وابن الله، الله نفسه[34].

نقدم هنا المزامير المسيانية الهامة، هي:

مز 2: الملك المرفوض يقيم مملكته ويملك.

مز 8: الإنسان سيد الخليقة بالمسيح ابن الإنسان.

مز 16: قيامة السيد المسيح من الأموات.

مز 22، 69: آلام السيد المسيح وصلبه.

مز 23: عناية الراعي الصالح بخرافه الناطقة.

مز 24: رئيس الرعاة ملك المجد.

مز 40: المسيح المطيع.

مز 45: عروس المسيح الملكة، وعرشه الأبدي.

مز 68: 18 صعود السيد المسيح.

مز 72: مُلك المسيح المجيد والأبدي.

مز 80: الرجاء العظيم واشتهاء مجيء المسيا (80: 1-3؛ 89: 46، 49).

مز 89: تأكيد لا نهائية أسرة داود الملكية.

مز 97: الملك يملك!

مز 101: المسيح يحكم بالبر.

مز 110: لقبا المسيح الوظيفيين: الملك الأبدي والكاهن.

مز 118: تمجيد الحجر المرذول.

مز 132: الوارث الأبدي لعرش داود.

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح الذي يُحِّد الكنيسة بكونها جسده هو قلب المزامير، كما يقول: [يتحدث ربنا يسوع المسيح أحيانًا عن نفسه في شخصه هو بكونه رأسنا، وأحيانًا في شخص جسده أي عنا نحن كنيسته. لكنه يتكلم بصيغة المفرد لكي نفهم أن الرأس والجسد متكاملان ولا يمكن فصلهما، وذلك مثل الاتحاد الزيجي الذي قيل عنه: "ويكون الإثنان جسدًا واحدًا". فإن كنا نتعرف على شخصين في جسد واحد، هكذا بالمثل نتعرف نحن على المسيح وكنيسته في صوت واحد[35]].

يظهر Michael Gasnier أن المسيحيين الأوائل لم يروا السيد المسيح ممجدًا فقط في المزامير، وإنما وضعوا صلوات المزامير على شفتيه، مخاطبًا أبيه: يسبحه ويتضرع إليه ويسأل العفو عن خطايا البشرية؛ وبالتالي نحن نصلي معه ونوحّد أصواتنا مع صوته[36]. هو الذي يقدس شفاهنا، مستخدمًا إياها ليمتد بصلاته المقبولة في كل جسده، أي الكنيسة.

5. المزامير التاريخية Historical Psalms (78، 105، 106، 136).

تقص هذه المزامير تاريخ البشرية المسجل بأكثر تفصيل في أسفار الكتاب المقدس الأخرى ابتداءً من التكوين حتى يشوع، وذلك كأساس للتسبيح. ويروي تاريخ شعب الله كدافع ليعيننا ويُصلحنا من جهة إخلاصنا لله وحفظ العهد معه.

تذكرنا لتاريخ الكنيسة وتاريخ معاملات الله معنا على المستوى الشخصي يزودنا بالمادة التي بها نسبح الله. فباستعراض التاريخ ننال فكرة أفضل عن حقيقة أنفسنا وعمل الله معنا: من نحن؟ ما هي هوّيتنا؟ كيف يتعامل الله معنا؟ وما هي شخصية الله في تعاملنا؟ المغزى الحقيقي للتاريخ لا يمكن في سرد الوقائع التاريخية بدقة وفي تفصيل بقدر ما هو تمتع رؤية صادقة لأنفسنا ولله.

6. المزامير الليتورجية Liturgical Psalms (15، 24، 50، 75، 118، 20، 21، 135).

استخدام Gunkel هذا الاصطلاح ليشير إلى مجموعة من المزامير فيما بينها من جهة الطابع الأدبي، جُمعت معًا ليترنم بها خورس المرنمين في الهيكل. يقول Sabourin إن هناك مزامير واضح ضمنيًا أنها وُضعت لاستخدامها في العبادة الليتورجية، حتى المزامير الأخرى التي وضعت لمناسبات خاصة يُظن أنها اُستخدمت أيضًا بواسطة الجماعة. من أوضح الأمثلة على المزامير الليتورجية تلك الدعوة "ليتورجيات المداخل أو الأبواب" (والتي يدعوها Gunkel ليتروجيا التوراة) (مز 15، 24) (قارن إشعياء 33: 14-16).

وُضعت بعض المزامير الليتورجية من أجل استخدمها في مواكب الأعياد مثل (مز 24، 68، 118، 132)، هذه التي لا يمكن فهمها إلا على ضوء علاقتها بصورة الموكب نفسه وما يصحبه من أعمال ومناظر.

توجد في مزامير أخرى تلميحات إلى ما يمكن فهمه على أنها أعمال عبادة:

النية في العبادة (5: 7).

إيفاء النذر (7: 18؛ 22: 26، 50: 14؛ 56: 13؛ 61: 6-9؛ 65: 2؛ 66: 13؛ الخ، 76: 12؛ 116: 14، 18).

تقديم الذبائح (27: 6؛ 54: 8؛ 66: 15، 96: 8، 116: 17).

إنشاد تسابيح وسط الجماعة العظيمة (22: 23 الخ؛ 35: 18؛ 40: 11؛ 68: 27؛ 89: 6؛ 111: 1؛ 150: 1).

الطواف حول المذبح (26: 5؛ 43: 4).

الاشتراك في موكب ديني (42: 5؛ 68: 25 الخ؛ 118: 19-27).

تقدم الصلوات والذبائح المسائية (141: 2).

إتمام طقوس التطهير (51: 9).

نوال البركات أو النطق بها (في أغلب المزامير).

هذا بجانب الإشارات المتكررة إلى أورشليم والهيكل والمذبح وجبل الله ومسكن الله وموطئ قدميه والأعياد المقدسة، هكذا كله يدل على أنه بطريقة أو أخرى أن عددًا كبيرًا من المزامير نشأ أصلاً لأجل الخدمة الليتورجية.

7. مزامير التجليس Enthronement Psalms (29، 47، 93، 95-99).

ترتبط هذه المزامير بتلك المدعوة "مزامير صهيون"، والقائمة على الاعتقاد بأن صهيون هذه المدينة التي تذخر بالهيكل، موضع حضور يهوه وسط الشعب.

في الاحتفال ببدء العام الجديد يقترب الموكب الذي كان يحمل تابوت العهد إلى الهيكل وسط تسبيحات الشعب لله الملك.

تُظهر المزامير أن مركز التسبيح في العهد القديم هو إعلان الله عن نفسه وهو على عرشه. يُظهر جلاله (ملوكيته) على التابوت المقدس بكونه عرشه الخاص (الشاروبيم). هو أيضًا جالس على تسبيحات شعبه كعرش له. الله الذي يملأ مجده قدس الأقداس في الهيكل – إذا ما تذكرنا رؤية إشعياء – جالس على عرشه مرتفعًا في الأعالي كملك وخالق للكل وكمحارب عظيم يغلب من يقاوم سلطانه الجامع.

8. المزامير الملوكية Royal Psalms

يقوم هذا التصنيف على أساس المحتوى وليس على أساس الخصائص الأدبية، ففي الواقع يمكن أن نجد بعض المراثي أو التشكرات، ولكن كل هذه المزامير تخص الملك. فقد تحمل ذكرى لبعض أحداث تمس خبرة الملك، مثل تتويجه وزواجه وانتصار جيشه وما إلى ذلك.

هذه المزامير تتنبأ عن السيد المسيح كملك يملك على قلوب مُؤمنيه ويقبلهم كعروس سماوية تشاركه أمجاده، ويمنحهم النصر على الشر مثل (مز 2، 18، 20، 21، 45، 72، 89، 101، 110، 132، 144). وعد الله عائلة داود بُملك أبدي، حيث يظهر الملك في هذه المزامير أبديًا، ويتسع نطاق ملكه إلى العالم كله، وأما علامة ملكه فهو السلام مع العدل الخ...

الملك الذي من نسل داود هو الوكيل المختار من الرب، ويكون قصره الملوكي محصنًا ضد الأعداء الذين يهددون (8: 2)، وقد وعد أن يدوم عرش داود أمام وجه كل الأعداء الواقفين ضد مسيح الرب (مز 24-26).

من هو هذا الملك الذي تشير إليه المزامير؟

أ. الله الآب ملك المسكونة كلها كخالق لها (93: 1-2)، الذي يملك بالحب على شعبه. السماء عينها هي قصره الملوكي ومسكنه في أورشليم كما في قلب المؤمن، ملكه يضم كل المسكونة (مز 47، 67، 100، 117، 87).

ب. المسيا: الملك المحارب واهب النصرة الروحية للمؤمنين به (مز 2، 18، 20، 21، 45، 72، 89، 101، 110، 132، 144). يملك بالصليب محطمًا مملكة الظلمة (كو 2: 14)، جاذبًا البشرية إلى السماء. كملك الملوك يهب مؤمنيه نعمة الملوكية (رؤ 1: 6)، واهبًا إياهم بره وقداسته وسماته وفرحه!

ج. داود الملك وكل الملوك خلفائه الذين يمثلون الجماعة المقدسة كما يمثلون الله نفسه والسيد المسيح.

د. المؤمنون كأعضاء في جسد يسوع المسيح ملك الملوك. يتسلمون السلطان على حياتهم الداخلية ضد الخطية وقوات الشر، فيعيشون كملوك أصحاب سلطان داخلي.

للتعرف على المزامير الملوكية راجع أيضًا تفسيرنا للمزمور الثاني.

9. مزامير المصاعد أو الدرجات Psalms of Acents or Degrees

هي تجميع صغير من المزامير (120-134)، كل مزمور منهم يُدعى "ترنيمة المصاعد". يبدو أنها كتيبًا صغيرًا يستخدمه الزائرون القادمون إلى أورشليم في الأعياد العظمى.

للتعرف على هذه المزامير راجع تفسيرنا لمزمور 120.

10. مزامير هاليل The Hallel Psalms

كانت مزامير هاليل (113-118) ترتيل أثناء أعياد الفصح والمظال والخمسين (البنطقستي) وتدشين الهيكل ورأس الشهور.

11. مزامير المناسبات Occasional Psalms

في النص العبري يخصص مز 92 ليوم خاص هو السبت؛ أما في النسخة السبعينية فتوجد مزامير مخصصة لأيام أخرى من أيام السبوع:

مز 24: اليوم الأول (الأحد).

مز 48: اليوم الثاني (الاثنين).

مز 94: اليوم الثالث (الثلاثاء).

مز 93: اليوم السادس (الجمعة).

وفي ترجمة الفولجاتا نجد مز 81 مخصصًا لليوم الخامس (الخميس).

وفي المشناه نجد مز 82 مخصصًا لليوم الثالث (الثلاثاء)، ومز 30 لتكريس الهيكل، ومز 100 لتقدمة الشكر.

12. مزامير التضرعات أو المراثي Supplication or Lament Psalms

هذا النوع من المزامير هو أكثر شيوعًا، إذ يصرخ المرتلون إلى الله بخصوص

احتياج شخصي أو تشفعًا في آخرين معتازين (مز 86)، أو من أجل ضيقات وآلام شخصية أو جماعية. ويلاحظ أنه بالرغم من الإلحاد النظري لم يكن معروفًا في العهد القديم لكن الشعب كثيرًا ما يُصاب بشعور بأن الله قد تخلى عنه وسط الضيق (الإلحاد العملي).

* كانت مزامير التضرعات الشخصية تثيرها ضيقات شخصية، مثل:

أ. الموت المبكر: اعتبره اليهود عقابًا عن خطية ما (مز 54: 24). الهاوية Shoal هي في نظرهم مكان الأموات، توجد تحت الأرض (مز 21: 29؛ 68: 15 الخ). يُشار إليها أحيانًا بالحفرة pit؛ ويُظن أنها موضع السكون (مز 114: 17) أو موضع الظلمة والنسيان (مز 87: 12) حيث لا يوجد تسبيح لله (مز 6: 6؛ 87: 10-13)، هناك يُقطع الأموات من الشركة مع الله (مز 87: 5).

ب. المرض (مز 37: 3، 4؛ 40: 5؛ 68: 27؛ 101: 11). كان الأهل والأصدقاء يتطلعون إلى المرض بكونه تأديبًا عن خطأ خفي (مز 37: 12).

ج. الاتهامات الكاذبة: غالبًا ما يُشار إليها مستخدمين المجاز: كالصيادين (مز 7: 16؛ 34: 7؛ 56: 7، 63: 6؛ 139: 6)، واللصوص (16: 9-12؛ 55: 7)، والأسود (7: 3؛ 16: 12؛ 56: 5)، والكلاب (58: 15) والحيَّات (57: 5، 6).

* التضرعات الجماعية أو المراثي الجماعية: أفضل مثل لها هو (مز 44). هذه المزامير هي صلوات تقدمها الجماعة ككل بسبب حدوث كارثة قومية مثل قيام حرب أو حلول هزيمة في معركة أو مجاعة أو قحط أو وباء أو غزو جراد. في اليوم المحدد يجتمع الشعب في الهيكل ليقدموا توبة وهم لابسين المسموح وواضعين رداءًا. يصف يوئيل النبي طقسًا من هذا النوع (يوئيل 1: 13، 14؛ 2: 15-17).

لكل نوع من المراثي – الشخصية والجماعية – هيكله الخاص به:

هيكل المرثاة الشخصية هو: استرحام الرب والتضرع إليه من أجل المساعدة؛ وصف للحاجة إليه، التماس للخلاص، الدافع للتمتع بالالتماس، اعتراف بالثقة في الله، نذر بتقديم الشكر.

أما هيكل المرثاة الجماعية فهو: استرجاع مراحم الرب السابقة، الاعتراف بالثقة في الله (بالرغم من وجود الكارثة إذ يحتفظ المرتل برجائه في الله أنه سيتدخل ويعمل)، وصف للحاجة، التماس بالبراءة (أو اعتراف بالخطأ). تأكيد الثقة في الله (كان هذا يعتبر عمل الكاهن لا مقدم التضرع أن يؤكد الثقة في الله)[37].

تسجيل كل مرثاة دراما من ثلاثة ممثلين: المرتل، الله، الأشار.

13. المزامير الأبجدية Alphabetic (Acrostic) Psalms

وهي من أكثر المزامير قدرة على إثارة الاهتمام والانتباه، وذلك بسبب تركيبها الأدبي. تستخدم هذه المزامير ترتيبًا يقوم على الحروف الأبجدية العبرية (مز 9، 10، 25، 34، 37، 111، 112، 119، 145).

14. مزامير التهليل لله Hallelujah Psalms

تستخدم هذه المزامير اصطلاح "Hallelujah" اختصارًا لـ "هللويا ليهوه"؛ ربما استخدم لكي يوضح استخدامها في العبادة الجماعية (مز 105، 106، 111-113، 115، 117، 135، 146-150).

15. مزامير إلوهيم Elohistic Psalms

نقصد بها تلك المزامير التي تستخدم اسم إلوهيم Elohim عن الله مثل (مز 42-83). بعض المزامير الأخرى تستخدم اسم يهوه Jehovah بينما تستخدم بعضها أكثر من اسم واحد لله كما في (مز 19).

قديمًا كان الاعتقاد بأن كيان الإنسان يتمركز في اسمه أو اسمها ({اجع خر 3: 13، 14؛ قض 13: 17). فالاسم يعطي معنى ويضيفي وجودًا كاملاً على حامله (تك 2: 19، 23)؛ وكان المرء يأخذ قوة من غيره عندما يعرف اسمه. في (مز 54: 1-3) يُقال: اللهمَّ بأسمك خلصني، وبقوتك أحكم لي. اسمع يا الله صلاتي، اصغِ إلى كلام فمي، لأن الغرباء قد قاموا عليّ وعتاةً طلبوا نفسي، لم يجعلوا الله أمامهم". فالإسم الإلهي يحمل قوة معجزية خاصة؛ وتتكرر عبارة "اسم الرب" 100 مرة في 67 مزمورًا مختلفًا.

يقول Irving L. Benson في كتابه "المزمير"[38]: [إنه لأمر هام في دراستنا للمزامير أن نلاحظ دومًا كيف تعرَّف شخصية الله، سواء من جهة اسمه أو ما يُنسب إليه من سمات أو أعمال. توجد أربعة أسماء سائدة في المزامير هي: إل El (إلوهيم)، أودناي، يهوه، شاداي. وجاءت عدد مرات تكرار كل اسم في كل قسم من أقسام المزامير الخمسة كالآتي:

 

الاسم الإلهي العبري

قسم 1

قسم 2

قسم 3

قسم 4

قسم 5

إل (إلوهيم)

67

207

85

32

41

أدوناي

13

19

15

2

12

يهوه

277

31

43

101

226

شادي

 

1

1

1

 

 

يحوي العهد القديم عددًا من الأسماء لله والأسماء المركبة تكشف عن جوانب من شخصيته ومعاملاته مع البشر.

* إل أو إلوهيم: معناها قادر، قوي، سائد فوق الكل. في (عد 23: 32) يتحدث عن الله بكونه "إل" الذي أخرج شعبه من مصر (تك 17: 1؛ 35: 11). يقول Nathan J. Stone: [يحوي اسم إلوهيم فكرة الخلق والقوة السائدة، أو القوة اللانهائية والسيادة. هذا يظهر بوضوح من الحقيقة بأن كلمة "إلوهيم" وحدها دون غيرها اُستخدمت في (تك 1: 1) إلى (تك 2: 4)، وقد تكررت 35 مرة[39]].

* يهوه: هذه الكلمة مشتقة من الفعل العبري الذي يعني "يكون Hava"، فتعني "الكائن". هذه الكلمة تشبه تمامًا الفعل العبري chavah ومعناه "يعيش to live" أو "حياة". بهذا يلزمنا أن نفكر في أن "يهوه" هو "الكائن القائم بنفسه"، الواحد الذي له الحياة في ذاته بالضرورة، له الوجود الدائم، أي واجب الوجود، الأبدي غير المتغير (مز 102: 27).

يقول Stone: [يمكن لليهودي أن يقول "الألوهيم" (أي يضع الـ للتعريف، الإله الحق، مقابل كل الآلهة الكاذبة؛ لكنه يقول "ال" يهوه عن الله، لأن اسم "يهوه" هو اسم الله الحقيقي وحده (لا يحتاج إلى تعريف)، إذ لا يوجد يهوه آخر. إنه يتحدث عن "الله الحيّ"، لكن ليس عن " يهوه الحي"، لأنه لا يفهم من "يهوه" إلا أنه هو "الحيّ" (لا يمكن نسبه حيّ ليهوه لأن الكلمة نفسها تحمل ذات المعنى)... بكونه يهوه هو إله الإعلان عن نفسه للخليقة القادرة أن تفهم اللانهائي وتدركه – الواحد اللائق... لإسم يهوه أهمية أبعد من ذلك بالنسبة لنا، وهي أنه يعلن عن ذاته بكونه الله إله السلوكيات والروحيات... فبينما اصطلاح إلوهيم يفترض حبه نحو كل الخليقة والمخلوقات كعمل يديه فإنه اصطلاح يهوه يعلن عن هذا الحب كأمر متوقف على تمتعنا بسمات سلوكية ورحية. بهذا المعنى فإن لقب يهوه كما لاحظنا قبلاً لم يظهر حتى التكوين (2: 4) (لأنه يمس معاملات الله مع الإنسان الروحي فيما يمس خلاصه الأمر الذي لم يكن بعد قد ظهر)].

الله هو يهوه الخاص بشعبه، وذلك من أجل خلاصه العظيم لهم؛ يُظهر لهم ذاته بكونهم قديسيه، وبكونه إله البر والقداسة.

بمعنى آخر إن كان إلوهيم يعني القدرة مع اهتمام الله بكل الخليقة فإن يهوه يعني وجود الله وسط شعبه يخلصهم ويقدسهم بكونه الشعب المقدس وبكونه القدوس وحده!

* إل شاداي El Shaddai: يظهر هذا الاسم أولاً مرتبطًا بإبراهيم في (تك 17: 1-2). وهو مشتق من كلمتين: "إل" وتعني قدرة وقوة وكلية القدرة والتسامي المطلق، فهو اسم مرتبط بالخلق كما رأينا. و"شاداي" ترتبط بكلمة "صدر breast"، إشارة إلى من يغذي ويعول ويشبع ويموّن. لهذا فإن اللقب يعني "القادر أن يشبع ويقوت ويغذي" أو "القادر الذي فيه الكفاية في ذاته، جزيل العطاء، مصدر كل بركة وامتلاء وإثمار".

* أدوناي Adonai: تعني "المالك"، الله الذي له السيادة والربوبية.

بمعنى آخر يمكننا القول بأن "اسم إلوهيم" يُنسب إل الله القدير؛ و "يهوه" إله البر والقداسة والحب والخلاص؛ و"الشاداي" القدير واهب العطايا والقوات والبركات والإثمار بفيض؛ و"أدوناي" تخص الله بكونه سيد كل الشعوب أرادوا أو لم يريدوا.

16. مزامير اللعنة The Imprecatory Psalms

يوجد أكثر من عشرين مزمورًا تستنزل اللعنات على الأشرار؛ لماذا؟

أ. يقول J. H. Raven: [بإن تعبيرات اللعنة ليس فردية (خاصة) إنما هي جماعية رسمية، فالمرتل يطلب عقاب أولئك الذين حطموا شعب الله، ملكوت الله المنظور، وهم بذلك أعداء الله (مز 139: 21-22). لم يدافع داود عن نفسه أمام أعدائه الذين يقاومونه شخصيًا، بل بالعكس كان يُظهر روحًا متسامحة بشكل واضح كما يظهر من تعامله مع شاول الملك وأهل بيته (1 صم 24؛ 26: 5-12؛ 2 صم 1: 17؛ 2: 5، 9). أما في هذه المزامير فهو يصلي إلى الله كي يعاقب أعداء الله ولا يقوم هو بهذا الدور.

ب. طلب المرتلون العدالة الإلهية وليس انتقامًا بشريًا ضد الظالمين والمستهترين بالحب الإلهي.

ج. يكره الله الخطية لكنه يحب الخاطئ. لم يكن في الفكر العبراني فصل قاطع بين الخاطي وخطيته. (فبابل ترمز إلى الكبرياء؛ وفرعون إلى الظلم، وأدوم إلى سفك الدماء الخ...).

د. يشعر المرتل كنبي أن أعداءه هم أعداء الله؛ فبروح النبوة تنبأ أنهم لا يستحقون الحياة، فما نطق به هو نبوة.

17. مزامير صهيون (الكنيسة) Psalms of Zion (the Church

دخولهم أورشليم – كما جاء في سفر المزامير – يشير إلى عناية الله نحو شعبه، إذ حقق لهم وعده. وقد جعل داود أورشليم عاصمته، ونقل إليها تابوت العهد؛ بعد ذلك بنى سليمان الهيكل هناك. لذلك توجد مزامير كثيرة مخصصة لصهيون مدينة الله والعاصمة الروحية للجنس البشري؛ ومزامير خاصة بالهيكل بكونه مسكن الله، وأخرى خاصة بتابوت العهد كممثل لله.

إعتاد الكثيرون أن يحجوا إلى المدينة المقدسة في الأعياد الكبرى، وكان عليهم أن يتلو مزامير معينة كجزء من طقس مقدس.

كانت كل الأحداث التي تمس المدينة والهيكل وتابوت العهد (مثل خلاص أورشليم من يد سنحاريب) لها معانيها الخاصة في حياة الشعب.

18. مزامير الخليقة Psalms of Creation

توجد بعض المزامير تسبح الله كخالق المسكونة. هذه التسابيح تمجد عظمة الرب وصلاحه وجلاله الملوكي. إذ يدهش المرتلون أمام قدرة الله المهوبة، مقدمين له الشكر من أجل ما قدمه للإنسان من منزلة وفي تدبيره الإلهي (مز 8، 19، 33، 104)[40].

أرقام المزامير Psalms Numbering

تحتوي بعض المزامير أنشودتين أو أكثر بينما تنقسم أنشودة ما إلى مزمورين أو أكثر. هذا هو السبب في اختلاف الترقيم بين النص العبري والترجمة السبعينية، ففي النص الأخير إنظم المزموران 9 و 10 في مزمور واحد، وهكذا أيضًا المزموران 114 و 115، بينما انقسم المزموران 116 و 147 كل منهما إلى مزمورين منفصلين.

 

النص العبري

الترجمة السبعينية

1-8

1-8

9-10

9

11-113

10-112

114-115

113

116

114-115

117-146

116-145

147

146-147

148-150

148-150

-

151

 

سفر المزامير والكتاب المقدس[41]

يدعو القديس أثناسيوس سفر المزامير: [خلاصة الكتب المقدسة كلها]؛ ويدعوه القديس جيروم: [الكتاب المقدس داخل الكتاب المقدس]. ويقول القديس أغسطينوس: [أي شيء لا تتعلمه من المزامير؟]. ويقول القديس باسيليوس الكبير: [إن سفر المزامير هو الكنز العام لكل وصايا صالحة... صوت الكنيسة... الحاوي لكل اللاهوت]. أيضًا يقول القديس أمبروسيوس: [الشريعة تعلم، والتاريخ يروي أخبارًا، والنبوة تتنبأ، الإصلاح يلوم والسلوكيات تحث، أما كتاب المزامير فنجد فيه ثمار كل هذه، كما تجد فيه علاجًا لخلاص النفس. يستحق سفر المزامير أن يُدعى: تسبيحًا لله، مجدًا للإنسان، صوت الكنيسة، اعترافًا للإيمان في غاية النفع!]. هذا ما دعى البعض إلى تسميته: "الكتاب المقدس مصغرًا"، بينما يسمونه آخرون "العالم الصغير لكل العهد القديم".

بالحقيقة قُدمت مواضيع العهد القديم في المزامير تحت شكل صلاة. هذا أيضًا حقيقي فيما يتعلق بالحوادث الهامة الخاصة بتاريخ الخلاص من الخليقة إلى الخروج، من دخول كنعان إلى إعادة تجديد أورشليم، عندما نضج الرجاء في مجيء المسيا لتأسيس مملكة الله.

أفضل تعليق على المزامير أنها الكتاب المقدس نفسه دون أن يُستثنى منه العهد الجديد، فما هو غامض في المزامير ينظر إليه بمنظار جديد خلال الإنجيل.

سفر المزامير وأسفار موسى الخمسة The Psalms and the Pentateuch

يقول William Plumer: [أول ملاحظة لهيلاري (أسقف بواتيه) في مقدمته عن المزامير هي أن "سفر المزامير كتاب واحد وليس خمسة كتب". يشير هنا إلى أن بعض اليهود يقسمون المزامير إلى خمسة كتب، تطابق أسفر موسى الخمسة... مثل هذا التقسيم هو مجرد اختراع بشري، لا يقوم على أساس إلهي، ولا يقوم حتى على مجرد محتويات هذه الأغاني العجيبة. ففي (لو 20: 42) وفي (أع 1: 2) نقرأ عن كتاب المزامير، ولا نقرأ في أي موضع عن "أسفار المزامير"].

يرى كثير من الدارسين أن سفر المزامير نفسه يقدم في النص العبري دليلاً على تقسيمه إلى خمسة أقسام تبدأ على التوالي بالمزامير (1، 42، 73، 90، 107)، متمثلاً في ذلك ربما بأسفار موسى الخمسة، ينتهي كل قسم منها بذكصولوجية (تمجيد ختامي) (41: 14؛ 72: 19؛ 89: 52، 106: 48؛ 150: 6).

القسم الأول – يشبه سفر التكوين – معلنًا علاقة الله بالإنسان بصورة شخصية. الثاني – يشبه سفر الخروج – يعلن عن غيرة الله نحو فداء المؤمنين بكونهم شعبه الخاص. القسم الثالث – يشبه سفر اللاويين – يُظهر سكنى الروح القدس وسط شعبه لتقديسهم بكونه كنيسة مقدسة. القسم الرابع – يشبه سفر العدد – يعلن اهتمام الله بهم في برية هذا العالم ليقودهم إلى أرض الموعد وسط الآلام والضيقات. القسم الخامس – يشبه سفر التثنية – يكشف لنا عن الناموس أو كلمة الله كمنبع أو مصدر شفائنا الروحي وقداستنا وكفايتنا ومجدنا.

 


 

 

القسم

1

2

3

4

5

السفر المشابه له

تكوين

خروج

لاويين

عدد

تثنية

الموضوع

الإنسان والخلاص

الكنيسة والخلاص

الهيكل الجديد

الأرض الجديدة

كلمة الله

العلاقة مع الله

شخصية

جماعية

يحل الله فينا

يبارك أرضنا

عطاء الذات

واضع المزامير

داود

داود وقروح

آساف أساسًا

مجهول

داود أساسًا

زمن جمعها

داود

أثناء حكم حزقيال ويوشيا

عزرا ونحميا

 

يرى كثير من الباحثين أن العلاقة وثيقة بين كتب موسى الخمس وأقسام المزامير الخمسة، وذلك خلال دراستهم لنظام العبادة اليهودي القديم. فكمثال يقول A. Guilding: [إن اسم "الدورة الثلاثية" أُعطى للنظام الفلسطيني المبكر لقراءة كل أسفار موسى الخمسة أيام السبوت بالتوالي لمدة 3 سنوات قمرية. وقد قُسمت أسفار موسى الخمسة لهذا الغرض إلى أكثر من 150 قسمًا عرفت بالسيداريم Sedarim. على مرّ الأيام نمت عادة إضافة درس ثانٍ من الأنبياء عرف باسم الهافتارا haphtarah أو "العبارة الختامية". يبدو أيضًا أن المزامير كانت تُتلى على فترات ثلاث سنوات، خاصة وأن عدد المزامير يتناسب مع عدد السبوت خلال 3 سنوات قمرية، ويبدو أن ترتيب المزامير كان متأثرًا باعتبارات ليتورجية[42]].

القسم الأول: الإنسان والخلاص

1. تطويب الإنسان                                       [1].

2. سقوط الإنسان                                        [2-8].

3. عداوة الإنسان تصل إلى ذروتها في ضد المسيح      [9-15].

4. إصلاح الإنسان بالمسيا                               [16-41].

القسم الثاني: الكنيسة والخلاص

1. خراب إسرائيل           [42-49].

2. مخلص إسرائيل          [50-60].

3. خلاص إسرائيل         [61-72].

القسم الثالث: الهيكل الجديد

هنا يشار إلى الهيكل تقريبًا في كل مزمور: إبتداء من خرابه إلى إقامته وتكميل بنائه وبركته.

1. المقدس في علاقته بالإنسان        [73-83].

2. المقدس في علاقته بالرب [84-89].

القسم الرابع: الأرض الجديدة

1. الأمم: ضياعهم وطلبهم            [90].

2. طلب الأمم للأرض الجديدة        [91-104].

3. توقع الأمم للأرض الجديدة        [100-105].

4. احتفال الأمم بالأرض الجديدة      [100-105].

* ختام: الأرض الجديدة والراحة       [106].

القسم الخامس: كلمة الله

1. خبرة الكلمة             [107-118].

2. عرض للكلمة           [119].

3. توقع لعمل الكلمة         [120-150][43].

إصطلاحات تشير إلى طبيعة المزامير:

"شير" Shir أو "سير" Sir (= أغية، تكررت 30 مرة)، عادة تصحبها موسيقى، يرى البعض أنها اغنية تعتمد على الصوت أكثر من الموسيقى.

"مزمور" mizmor (57 مرة)، يحتمل أنها تعني نشيدًا يصطحبه العزف على آلة وترية.

"ماسكيل" maskil (تكررت 13 مرة)، ربما تعني شعرًا تعليميًا (راجع مز 32، 47، 78)، لكنها وُجدت أيضًا في أشعار غير تعليمية. لذا يحتمل أنها تعني "شعر فني artistic Poem" أي شعر مرتبط بالفن (مز 47: 8، 2 أي 30: 21).

"مختام" mikhtam (تكررت 6 مرات) في المزامير (16، 56-60)؛ ربما تشير إلى معنى خفي (katam)، كما تترجم أيضًا "شعر ذهبي ketem" أو "جوهرة مذهّبة". وقد بذل البعض جهدًا لتفسيرها كمزمور ندامة[44].

"سيجايون" siggayon (مز 7: 1). يبدو الإسم متشابهًا للشيجو الآشوري Assyrian Shegu، وهي مزامير شكوى أو ندامة.

"تهليل" tehillah، وهي أنشودة تسبيح ذكرت مرة واحدة (مز 145). لكن نفس الاصطلاح ورد في صيغة المذكر الجمع لوصف كل مجموعة المزامير.

عناوين (طقوس) ليتورجية Liturgical Rubrucs

عنوان "للتذكير" (مز 38، 70- راجع ابن سيراخ 50: 16)، يشير عادة إلى azkarah وهو جزء من تقدمة القربان الذي يمسح بالزيت ويحرق (لا 2: 2 الخ).

"للشكر" (مز 100): ربما تشير إلى ذبيحة الشكر (لا 7: 12؛ 22: 29)[45].

الإشارات الموسيقية:

تفسيرها غير سهل، لأننا لا نعرف إلا النذر القليل عن الموسيقى الإسرائيلية القديمة، لكن بصفة عامة تنتمي هذه الحواشي إلى مجموعتين:

المجموعة الأولى من الإشارات الموسيقية تشير إلى الآلات التي تصاحب الأصوات مثل "ضرب الأوتار" (مز 4، 6، 54، 61، 67، 76)، "مع آلات النفخ" (مز 5). كذلك "على الجتية" (مز 8، 81، 84) التي تشير إلى نوع من القيثارات (من جت؟) أو إلى نغمة صوت (امرأة ذات صوت الجت). "الهاسمينيت al hassminit" (مز 6، 12) أي "على الثمانية"، و "al alamot" (أي "حسب العذارى") وتعني مع أصوات سبرانو وأصوات منخفضة بالتتالي (1 أي 15: 20-21)، لكنها ربما تعني "مع قيثارة ذات ثمانية أوتار".

المجموعة الثانية من الإشارات الموسيقية ربما تشير إلى أناشيد مشهورة يُرتل على وزنها المزمور، مثل "لا تهلك" (مز 57، 58، 59، 75؛ أنظر إش 75: 8)؛ "على أيلة الصبح" (مز 22)، "على الحمامة البكماء بين الغرباء" (مز 56)؛ "على موت الابن" (مز 9)؛ "على السوسن" (مز 45، 69)، ربما تشير إلى أغنية شائعة تمجد الناموس بكونه كالسوسن.

أما اصطلاح "سلاه" الغامض، والذي يتكرر ظهوره في صلب المزمور في نهاية آية، فإنه تكرر 71 مرة في 39 مزمورًا، جاءت كلها في الأقسام الثلاثة الأولى للسفر ماعدا مرتين في (مز 140، 143). وتقال أثناء التسبيح إذ يسجد العابدون حتى الأرض مصلين، ويرى آخرون أن الاصطلاح يعني "ارتفاع" أصوات المرتلين أو يعني فاصلاً صامتًا للموسيقى[46].

سنعود إلى هذه الإشارة بأكثر توسع أثناء دراستنا للمزامير إن أذن الرب وعشنا.

ملاحظات:

1. إن أردنا أن نتفهم مزمورًا ما يلزمنا أن نحاول اكتشاف الظروف الخلفية أو الأحداث التي وراء المزمور.

2. يليق بنا أن ندرك أن المزامير هي تعبيرات عن مشاعر مقدسة، لا يفهمها إلا الذين يمارسون الحياة المقدسة.

افضل مؤهل لدراسة أي جزء من كلمة الله هو قبول عمل الروح القدس الساكن فينا، هذا الذي يلهب قلوبنا الباردة، واهبًا إيانا الفكر ومشاعر صادقة[47].

v   شكّل روحك بمشاعر المزمور...

إن كان المزمور ينفث روح صلاة صلِّ؛

إن كان مملوء تنهدًا تنهد أنت أيضًا؛

إن كان مفرحًا فأفرح أنت أيضًا؛

إن كان يشجع واهبًا رجاء، ترجى الله؛

إن كان يدعو إلى الخوف التَّقَوى، ارتعب أمام العظمة الإلهية؛ فإن كل الأشياء هنا تحمل مرآة تعكس سماتنا الحقيقية... دع قلبك يعمل ما تعنيه كلمات المزمور[48].

القديس أغسطينوس

v   لكي ننعم بهذا الكنز يلزمنا أن نتلو المزامير بذات الروح الذي به وُضعت، نتبناها في انفسنا بذات الطريقة كما لو أن كل واحد منها قد وضعها بنفسه، أو كما لو أن المرتل قد وجهها إلينا لاستعمالنا نحن، غير مكتفين بأنها قد تمت بواسطة النبي أو فيه، وإنما يكتشف كل منا دوره الذي يلزم أن يحققه خلال كلمات المرتل، بأن نثير في داخلنا ذات المشاعر التي نراها في داود أو غيره من المرتلين في ذاك الحين، فنحب حين نراه يحب، ونخاف إذ هو يخاف، ونرجو حين يرجو هو، ونسبح الله عندما يسبح هو، ونبكي على خطايانا وخطايا الآخرين حينما يبكي هو... نسر ونفرح بجمال المسيا والكنيسة عروسه... وأخيرًا إذ هو معلم يعلم وينصح ويمنع وبوجه البار يليق بكل أحد منا أن يفترضه متحدثًا إليه فيجيبه بطريقة لائقة تناسب تعليمات صادرة عن معلم كهذا[49].

القديس يوحنا كاسيان

عناوين المزامير قديمة قدم المزامير نفسها، تدخل بنا إلى فهم المزامير نفسها. يقول القديس جيروم: [عناوين المزامير هي المفتاح التي تفتح أبواب الفهم السليم لها].

2. في بعض الأحيان يوجه المرتل في مزمور واحد استيخون (مقطعًا) لله وآخر للجماعة أو لأصدقائه. أحيانًا يوجه للخليقة السمائية أو حتى الخليقة غير العاقلة، وإلى الأشرار أو إلى الشيطان كما إلى نفسه.

تحوي بعض المزامير حوارًا بين المرتل والجماعة، بقصد اظهار تعليم أو شهادة أو تقديم دعوة للجميع لمشاركته في الشكر والتسبيح لله.

3. المرتل أمين، صادق مع نفسه ومنفتح. متى كان سعيدًا عبّر عن سعادته؛ ومتى كان غاصبًا أو خائفًا أظهر ذلك. حتى إن شعر بغضب (عتاب) من جهة الله أعلن ذلك (مز 44: 47)،؛ لا يتظاهر بغير ما هو عليه!

4. يظن بعض الدارسين أن هناك تأثيرات أجنبية على سفر المزامير، خاصة من مصر القديمة وما بين النهرين، وذلك بسبب بعض التعبيرات المشتركة بين المزامير والأدب الديني القديم.

يقول R. E. Murphy: [كما هو الحال في كل أسئلة الأدب المقارن، يجب ألا يُضِلل الدارس لمجرد وجود تشابهات. فاستخدام نفس الكلمات لا يعني دائمًا ذات الأشياء (نفس المعنى) لأنها تتلون حسب الحضارة الخاصة بها أو بالوسط الديني الذي تُستخدم فيه، وعلى ذلك فإن الاختلافات الواضحة بين الديانات الإسرائيلية والمصرية والتي لمن هم بين النهرين يجب ألا نتجاهلها بسبب الرصيد المشترك لمفردات اللغة وأنماط التفكير... هذا ولابد من وجود مشابهات أساسية في خبرات البشر عند ملاقاتهم مع اللاهوت[50]].

يقول Sabourin بخصوص مصر: [عرف المصريون الحقيقيون إلهًا واحدًا قديرًا ديانًا ومدبرًا بعنايته. وفي مصر أيضًا كان الكتبة يُحثّون تلاميذهم على استقامة القلب (مز 7: 11) من أجل الله، الخفي والقريب. ويبدو إنه كانت لهم معرفة معينة بقيم خاصة بالحياة الداخلية: حلول الروح الإلهي في قلب البار، الشوق نحو الله، التسليم لإرادته، معنى الصمت. هذا وقد عايشت عقيدة الوحدانية المنتشرة في مصر جنبًا إلى جنب مع تعدد الآلهة، بينما في إسرائيل فكانت معارضة الوثنية أمر لا يتوقف. في الوثنية الشرقية كانت النظرة إلى الخطية تقوم أساسًا على أنها دنس جسدي يمكن التطهر منها بطقوس سحرية، ويمكن طرد الأرواح الشريرة بالرقي والتعاويذ، كانوا أيضًا يعتقدون في الفال الذي يكشف عن المستقبل. هذا بالإضافة إلى الأساطير المعقدة التي تفسر أصل نظام العالم المادي أو تشويشه، كما يوجد نظام خاص بطقوس تمس الطبيعة لأجل بلوغ رفاهية الأمة. بعكس هذا كله تصور المزامير الخطية على أنها اعتداد على النظام السلوكي، وأن التوبة هي الطريق الوحيد لإزالتها، هذا وقد أدانت المزامير الوثنية وعبادة الأصنام، أما السحر فلم يُشر إليه قط[51]].

تستحق كلمات W. Von Soden, A., Falkenstein عن بابل أن نقتبسها: [المزامير أكثر تحررًا في شكلها (عن الأدب البابلي) وأكثر تنوعًا في مبناها. هناك اختلاف حاسم نابع عن ارتباط البابليين بتقاليدهم من ناحية وعن إيمان إسرائيل المشروط بالله الواحد... والخلاصة يمكننا أن نقول بأن أجمل الصلوات البابليين – بالرغم مما حملته من أفكار كثيرة – لا تصل قط إلى مستوى المزامير، إذ لم يُعط لشعرائهم أن يكرسوا أنفسهم لله تمامًا بلا تحفظ، هؤلاء الذين ظنوا أنهم يعرفون مشيئته. لذلك كان في قدرتهم في معظم الأحيان أن يعلنوا عن حقائق هامة، لكن ليس عن الحق ذاته[52]].


 

المزامير والليتورجيات القبطية

صلوات السواعي "الأجبية"

يقول القديس بولس: "متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور..." (1 كو 14: 26).

استخدم المسيحيون المزامير في الكنيسة الأولى للصلاة أو بالحري للتسبيح، ليس فقط في العبادة الجماعية في الكنيسة وإنما أيضًا في العبادة الشخصية داخل المخدع، وأثناء السير في الطريق، وخلال ممارستها أعمالهم الخاصة وأثناء الاستحمام. لقد أدركوا أن المزامير هي من وحي الروح القدس قادرة أن ترفع القلب وتحفظ العقل محلقًا في السماء بفرح!

يقول دارس أمريكي: "الصلاة بمزمور كل يوم يطرد القلق خارجًا Praying a psalm a day keeps worry away".

ممارسة صلوات أو تسابيح السواعي "الأجبية" أو على الأقل أجزاء منها يساعدنا على التمتع بالشركة مع مسيحنا:

صلاة باكر  = قيامة السيد المسيح.

الثالثـــة = حلول الروح القدس.

السادســة = الصلب.

التاسعــة  = موت السيد المسيح.

الغــروب = دفن السيد المسيح.

النـــوم  = نهاية حياتنا.

نصف الليل = ترقب مجيء المسيح الأخير.

القراءات في القداس الإلهي (الليتروجيات الأفخارستيا):

دراسة المزامير التي تُتلى أو يُسبح بها قبل قراءة الإنجيل في رفع بخور عشية وبخور باكر والقداس الإلهي تكشف عن خطة الكنيسة واتجاهاتها وفكرها في كل قداس كما تكشف عن الخطوط العريضة لفكر الكنيسة عبر العام كله.

أقدم مثالاً لذلك تاركًا هذه الدراسة لبحث مستقل:

قراءات عن النيروز (عيد رأس السنة القبطية) تبدأ بالعبارة التالية من سفر المزامير "سبحوا الرب تسبحة جديدة"، وذلك قبل إنجيل رفع بخور عشية. هذه هي نصيحة الكنيسة في بدء السنة الجديدة، إذ تسأل أبناءها أن ينشغلوا كل السنة الجديدة في التسبيح لله من أجل عجائبه، مشتركين في عمل الملائكة. الترنم بتسبحة جديدة لا تعني وضع تسبحة جديدة وإنما ممارسة التجديد المستمر في حياتنا الداخلية، لكي ننعم بالتجديد حتى في التسبيح.

المزمور وتدشين المذبح:

الترنم بالمزامير بواسطة الأسقف نفسه يحتل مركز الصدارة في طقس تدشين المذبح. ففي هذه المناسبة المفرحة يكشف نظام وترتيب هذه المزامير عن مفهومنا للحياة الكنسية التي تناسب خلال المذبح الإلهي، أي خلال ذبيحة ربنا يسوع المسيح.

1. مز 23 (22) (المزمور السرائري): يبدأ الأسقف بتلاوته بصوت عالٍ ليعلن أن المذبح هو المرعى السرائري خلاله نلتقي براعينا الصالح، الذي فيه نثبت بتناولنا جسده الذبيحي ودمه الكريم. يتحدث هذا المزمور عن المعمودية ومسحة الميرون والافخارستيا كعطايا إلهية يقدمها الراعي لخرافه الناطقة.

2. مز 24 (23): فيه تُدعى كل البشرية لكي تتقدس خلال كنيسة المسيح، حيث تنفتح أبواب السماء للكل للتمتع بالشركة في أمجاد عريسها خلال مذبح العهد الجديد.

3. مز 26 (25): القداسة هي جمال مذبح البر.

4. مز 27 (26): المذبح هو مصدر القوة الروحية.

5. مز 84 (83): المذبح منبع السعادة.

6. مز 93 (92): المذبح هو عرش الله وجمال مجده.

يعلن المزمور السابق للإنجيل أن ذبيحة البر هي ذبيحة محرقة تعبر عن حبنا لله (مز 51 "50").

بعد مسح المذبح بالميرون يترنم الأسقف بثلاثة مزامير معلنًا أن مسكن الله محبوب، وأن نفسه تشتاق إلى الله الحييّ بكونه ملجأنا.

بعد الطواف حول المذبح يترنم الأسقف كممثل جميع المؤمنين، قائلاًً:

"يارب، أحببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك،

لأسمع بصوت الحمد،

وأحداث بجميع عجائبك".

<<


الباب الأول

 

 

 

 

 

 

 

الإنسان والخلاص

[مز 1 – مز 41]

 

 

 


 

مز1 – مز41

الإنسان والخلاص

الله في حبه للإنسان يبدأ كتابه المقدس بالحديث عن خلقة العالم من أجل محبوبه الإنسان، ليقيمه سيدًا على الأرض، أو قل ملكًا صاحب سلطان، وكيل الله يحمل صورته وعلى مثاله، يمارس الحياة الفردوسية المطوّبة والمملؤة فرحًا، يجد شعبه في الله الذي لم يعوزه شيئًا. وينتهي الكتاب المقدس بسفر الرؤيا حيث نرى الإنسان ساكنًا في أورشليم العليا، مسكن الله مع الناس (رؤ 21: 3)، ينعم بشركة المجد الإلهي، ويشترك مع الملائكة في تسابيحهم. بنفس الروح يبدأ سفر المزامير – الكتاب المقدس مصغرًا – بالإنسان في حياة مطوّبة بكلمة الله العاملة فيه (مز 1: 2)، ليصعد به في نهاية السفر فيجد الإنسان نفسه يمارس الحياة الملائكية المتهللة خلال عمل الله الخلاصي.

هذا القسم (مز 1 – مز 41) هو تجميع لمزامير تتحدث عن حالة الإنسان: حياته المطوّبة وسقوطة ثم تجديده. وهو في هذا يماثل سفر التكوين:

1. تطويب الإنسان          [مز 1].

2. سقوطه من سموه        [مز 2-8].

3. عداوته لله                [مز 9-15].

4. تجديده بالله مخلصه      [مز 16-41].

في هذا القسم يظهر ربنا كراعٍ صالح يبذل نفسه من أجل خرافه مقدمًا صورة للكفارة (مز 22)؛ حافظًا إياها خلال رعايته السرائرية (مز 23 كمزمور الأسرار الإلهية خاصة المعمودية والميرون والأفخارستيا)، مكافئًا إياهم في مجده (مز 24).

ومما يلفت النظر أن أغلب مزامير هذا القسم تبدأ بالعنوان "Le David"، التي تعني "لداود" أو "الخاصة بداود".

بلا شك هذا التجميع هو أقدم مجموعة من المزامير، ربما ترجع إلى استخدامها الليتروجي (العبادة الجماعية) في الهيكل قبل السبي[53].

<<


المزمور الأول

الإنسان المطوّب

مزمور إفتتاحي:

يبدأ سفر المزامير بالإعلان عن الحياة المطوّبة للإنسان الورع وعن فرحه الداخلي؛ إذ لم توضع المزامير لأجل دراستها كقطع أدبية وإنما لكي تُرنم بفرح في الروح. إنها قصة الحب الخالد بين الخالق وخليقته، لا يمكن تذوها إلا من خلال الحياة المطوبة، أو خلال الحياة الجديدة المفرحة في السيد المسيح. وُضعت لكي تُسبح بها القلب الذي يتقدس بالروح القدس، بكونه مقدِسًا يسكنه الله وتُقام فيه مملكة الفرح السماوي.

يعتقد البعض أن سليمان الحكيم هو واضع هذا المزمور، كتبه كمقدمة للسفر كله، كمدخل له، أو علامة إرشاد توجه المؤمنين بوضوح نحو الطريق الذي يليق بهم أن يسلكوه أو يعيشوه. وكأن واضع هذا المزمور أراد أن يجعله في مركز الصدارة يدعو به المتعبدين إلى طاعة إرادة الله والثقة في تدبير عنايته الإلهية.

المزامير الحكمية Wisdom Psalms:

  يُعتبر هذا المزمور ضمن المزامير الحكمية، مشحون بالحكمة التقوية العملية[54]، يرسم بطريقة فعّالة "الطريقين" وما بينهما من تضاد، بكونهما الأختيارين الرئيسين أمام الإنسان[55]: طريق التقوى في الرب أو طريق الشر. يبرز المزمور الخطوط العريضة لنصيب كل من الصالحين والأشرار، هؤلاء الذين تُقَّيم حياتهم من وجهة النظر  التالية: الالتصاق بالله أو اعتزاله. الرب هو شبعنا وفرحنا الداخلي، يهبنا استقرارًا أكيدًا، أما مضادة الله أو اعتزال كلمته فيسبب هلاكًا! إن أسوأ مصير للإنسان هو أن يترك في عزلة عن الله وكلمته!

يوجد في الأشعار الحكمية اتجاه عام يؤكد التركيز على "الحكمة العملية" إذ تقدم الأسس الدينية لممارسة الفضائل[56]. هذه الحياة العملية لا يمكن فصلها عن الحياة الإيمانية.

المزامير الحكمية (1، 37، 49، 73، 91، 112، 119، 127، 128، 133، 139)، لا تتبع تكوينًا أدبيًا محددًا.

في هذا المزمور يدعو المرتل المؤمنين إلى الانضمام إلى خائفي الرب وطائعيه، هؤلاء الذين يريدون أن يلتصقوا به جدًا، متحاشين العاصين الله.

يبدأ المزمور (في العبرية) بالحرف "ألف" أول حرف في الأبجدية العبرية (طوبى Ashre)، وتبدأ اّخر كلمة tobet في المزمور بالحرف "taw" اّخر الحروف الأبجدية. الحرفان "ألف" و "تاء" يرمزان إلى كل الحروف التي بينهما، وكأن المزمور الأول يحتضن في داخله كل كلمات سفر المزامير بل وكل الكتاب المقدس[57].

الكلمات الاسترشادية (مفتاح المزمور):

1. "طوبى" Ashre: ترتبط هذه الكلمة بسلوك الإنسان الطريق المستقيم خلال حياته اليومية. تتكرر هذه الكلمة 45 مرة في النص العبري، منها 26 مرة في سفر المزامير و 12 مرة في الأسفار الأخرى الحكمية. يختلف هذا التطويب عن البركة berakah الكهنوتية المضادة للعنة.

 الإنسان المطوّب يخاف الله (مز 112: 1؛ أم 28: 14؛ 20: 7)، ويهتم بالفقراء (مز 41: 1؛ أم 14: 21) ويتبع إرشادات الله.

v   خلق الله الإنسان لكي يشاركه تطويبه؛ أقامه كائنًا حيًا كاملاً عاقلاً ذا إدراك، لكي تمكنه هذه المنافع (الإلهية) من الأبدية[58].

القديس هيلاري أسقف بوايتيه

v   [الله مصدر تطويبنا الداخلي]:

إن كان الذين يُجلَدون هم أكثر تطويبًا من الجالدين، والذين في ضيقة بيننا أكثر تطويبًا من الذين بلا ضيقة وهم خارج الإيمان المسيحي، والحزانى أكثر تطويبًا من الذين هم في تنعم، فأي مصدر إذًا للضيق عندنا؟ ربما لهذا أقول لا يوجد إنسان سعيد ما لم يعش حسب (إرادة) الله؛ فقد قيل "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار" [1].

"طوبى للرجل الذي تؤدبه يارب وتعلمه من شريعتك" (مز 94: 12).

"طوبى للكاملين طريقًا" (مز 119: 1).

"طوبى لجميع المتكلين عليك" (مز 2: 13).

"طوبى للأمة التي الرب إلهها" (مز 33: 12).

"طوبى للذي نفسه لا تدين" (ابن سيراخ 14: 2).

"طوبى للرجل المتقى (الخائف) الرب" (مز 112: 1).

"طوبى للحزانى... طوبى للمساكين... طوبى للودعاء... طوبى لصانعى السلام... طوبى لكم إذا اضطهدوكم من أجل البر" (مت 5: 3-10).

 مطلوب منا أن تكون مخافة الله هي الأساس في كل ما نفعله أو نحتمله[59].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v بالحقيقة علامة (تمتعنا) بالطوباوية العميقة وبالصلاح الفريد هو الاستمرار في تعلم الحب وتعليمه للغير، هذا الذي به نلتصق بالرب فنتأمل فيه كل أيام حياتنا، ليلاً ونهارًا كقول المرتل، ونقوت أنفسنا التي تجوع بِنَهَمٍ إلى البر وتعَطُّشٍ إليه، باجترارها هذا الطعام السماوي[60].

الأب شيريمون

2. "الطريق": لفظ كتابي عام يُعبَّر عن "أسلوب الحياة"، أو عن سلوك أخلاقي كنتيجة لشركة الإنسان مع الله أو بالعكس إدارة ظهره له. تتكرر هذه الكلمة 66 مرة في سفر المزامير، منها 16 مرة في المزمور 119، وتتردد كثيرًا في الكتابات الحكمية. صارت هذه الكلمة شائعة الاستخدام بين الأنبياء المتأخرين؛ وقد قدم ربنا يسوع المسيح نفسه بكونه "الطريق" (يو 14: 6)، به ندخل إلى الحياة الملوكية المساوية، وخارج عنه لا نجد إلا الفساد والموت.

ما هما الطريقان؟ أي ما هو طريق الأبرار وما هو طريق الأشرار؟ يقول القديس جيروم: [إن كان المسيح هو طريق الأبرار، فالشيطان هو طريق الأشرار[61]]. بمعنى آخر ما يميز المؤمنين هو اتحادهم بكلمة الله، أي بالسيد المسيح. الطريق ليس سلوكيات مجردة إنما هو دخول إلى العضوية في جسد المسيح أو ضد المسيح، لنحيا بروح الرب أو روح الشر.

الهيكل العام:

1. تباين الطريقين                    [1-2].

2. طريق الإنسان الورع              [3].

3. طريق الأشرار                    [4-5].

4. نهاية الطريقين                    [6].

1. طريق الإنسان الورع:

     يقدم هذا المزمور مبدأ لاهوتيًا أساسيًا، أعني به "الحرية الإنسانية". فللإنسان حق الخيار في أن يحتضن الطريق التَّقَوى أو الشرير، أن يكرم المسيح أو ضد المسيح، أن يطيع الرب أو حتى يتمرد عليه.

 يظهر المرتل الطبيعة المطوّبة التي يتمتع بها الإنسان الورع من جوانب ثلاثة:

أ. من الجانب السلبي: عدم ارتكاب الشر [1].

ب. من الجانب الإيجابي: الالتصاق بكلمة الله [2-3].

ج. بالحديث عن الطريق المخالف، إذ كثيرًا ما ندرك حقيقة أمر ما بالكشف عما يضاده [4-6].

الجانب السلبي:

  يضع المرتل ثلاث مراحل للإنسان الشرير: يسلك أو يمشي في الطريق، ويقف، ثم يجلس مع الأشرار، قائلاً:

"طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين،

وفي طريق الخطاة لم يقف،

وفي مجلس المستهزئين لم يجلس" [1].

أ. يرى القس أبو الفرج عبد الله ابن الطيب أن المرتل يميز هنا بين الإثم والخطية والاستهزاء. الإثم هو ارتكاب شر يتعلق بجسده ممثل الشهوات الشريرة والزنا والفجور؛ والخطية تتعلق بعلاقته مع الله مثل الإلحاد؛ والاستهزاء يتعلق بخطية تمس علاقتة بالآخرين كالشتيمة والنميمة والافتراء عليهم. وكأن الطوبى هي تمتع بحياة مقدسة تمس علاقة المؤمن بحياته الشخصية وبربه كما بأخيه الإنسان! ‍  

ب. يرى بعض المفسرين أن المشي في مشورة المنافقين يشير إلى التفكير في الشر، أما الوقوف في الطريق فمعناه الدخول إلى العمل، وأخيراً الجلوس في مجلس المستهزئين فيشير إلى الأندفاع نحو إغراء الآخرين وتعليمهم الشر. وكأن مراحل الشر الثلاث هي: التفكير ثم العمل وأخيراً التعليم.

ج. يذكر المرتل ثلاث خطوات متتالية في طريق الشر:

1. السلوك في مشورة المنافقين، يعني تبني مبادىء فاعلي الشر كقانون للحياة، باتخاذ مشورتهم نصيحة للحياة. يتجنب الإنسان التقي الشر بنبذه صحبة الأشرار تماماً، حتى لا ينقاد وراءهم.

يرى الإنسان التقي الأشرار حوله يحيطون به، فالعالم مليء بهم، يمشون في كل جانب. إنه يحبهم كأشخاص لكنه لا يحب طرقهم و لا شرورهم. يصلي من أجلهم وبحكمة يتعامل معهم، متجنباً طرقهم الشريرة. يكره الخطية لا الخطاة. 

2. الوقوف في طريق الخطاة، كمن يبدأ رحلة معهم، يعني أنه يتشبه بهم بالإصرار على ممارسة المعاصي الرديئة.

3. أخيرًا، أشر الخطايا هو الجلوس في مجلس المستهزئين، ومشاركتهم في السخرية بالأمور المقدسة.

v يصعب على الإنسان ألا يخطيء، وكما يقول الإنجيلي يوحنا أن من ينكر أنه يخطيء فهو كاذب (1 يو 1: 8). إن كان جميعنا يخطيء، فماذا تعني الكلمات: "وفي طريق الخطاة لم يقف"... لم يقل الكتاب المقدس "طوبى للرجل الذي لم يخطيء" بل بالحري طوبى للرجل الذي لا يستمر في الخطية.

القديس جيروم

v يلزمنا أن ندرس التدرج: "يسلك ويقف ويجلس" [1]؛ فالإنسان يسلك في طريق الخطاة حينما يعطي ظهره لله، ويقف عندما يجد لذة في الخطية، يجلس عندما ينحصر في كبرياءه، فيصير غير قادر على الرجوع إلى الطريق المستقيم إلا بمجيء ذاك (المسيح) الذي لم يسلك في مشورة المنافقين، ولم يقف في طريق الخطاة ولم يجلس في مجلس المستهزئين لكي يخلصه.

القديس أغسطينوس

د. حالة التطويب هي هبة إلهية تُعطى للمشتاقين إلى الحياة المستنيرة البعيدة عن ظلام الخطية. يقول المعلم دانيال الصالحي: [فليقترب الذين  يشتهون الطوبى الموهوبة من الروح القدس ويسمعوا. لمن أعطى داود المرتل تلك الطوبى المغبوطة؟... القرب من الطوبى الإلهية تجعلنا نبتعد عن ظلام الخطية... إن العارفين باللغة العبرية حينئذ  يزعمون بأن هذا المزمور قيل لما مضى شاول طالبًا إخراج صموئيل النبي بواسطة السحر والعرافة. قاله عنه داود لما ترك الطريق المستقيم وسلك سبيل الأثمة، وسار مسيرة الكذب والزور ومشى طاغيًا وضالاً وراء الشيطان؛ نزل من كرسي البر وجلس على كرسي المرأة الساحرة في عين دور. لهذا تحرك الطوباوي داود بالروح وهو مطرود ومُضطهد وأنشد هذه التسبحة عن تغيير حال شاول ملك إسرائيل. ولكي لا يُشتم الملك المدعو مسيح الرب أخفى الشتيمة والتعيير...].

يرى أيضًا المعلم دانيال الصالحي أن الإنسان الساقط من الحالة المطوَّبة إلى طريق الشر هو آدم الأول، مقارنًا بينه وبين ملك إسرائيل الأول شاول قائلاً:

[صار (آدم) تلميذًا للحية بمشورة حواء مثلما صار شاول عبدًا للكهانة (العرافة) المضلة بتعليم المرأة العرَّافة. أما ذاك فسقط من من الجنة مطرودًا، وهذا سقط من مملكة شعب الله وخاب من شركة القديسين مرذولاً].

هـ. إن كان المعلم دانيال الصالحي يرى التطويب هو عطية الروح القدس الممنوحة لراغبيها فإن لفظ "طوبى" هو أحد القاب السيد المسيح، إذ يقول القديس بولس: "المبارك العزيز الوحيد، ملك الملوك ورب الأرباب" (1 تي 6: 15). وكأن التطويب هو عمل الروح فينا باتحادنا مع المطوّب المبارك، رأسنا يسوع المسيح.

يرى الأشرار في لذة الخطية المؤقتة سعادتهم التي تجتذبهم ولا تشبعهم فتكون سرابًا في حياتهم، أما المؤمنون المتحدون مع السيد المسيح فيجدون سعادتهم وتطويبهم وشبعهم لا في الأمور الزمنة الزائلة بل في الاتحاد بالسيد المسح نفسه.

و. لماذا استخدم المرتل التطويب هنا بصغة المفرد "طوبى للرجل

1. ربما لأن السالكين في طريق الرب، في الحياة المطوبة هم قلة قليلة جدًا، أو لعله أراد تأكيد وحدتهم معًا بروح الحب ووحدة الإيمان، فيحسبون كإنسان واحد. يقول الرسول بولس: "جسد واحد وروح واحد كما دُعيتم أيضًا في رجاء دعوتكم الواحد؛ رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة؛ إله وآب واحد للكل..." (أف 4: 5-6).

2. يرى بعض الآباء مثل القديس أغسطينوس أن الرجل الواحد المطوّب هنا هو السيد المسيح، آدم الثاني، الذي يحمل كنيسته فيه جسدًا مقدسًا للرأس، يهبنا حياته المطوَّبة.

ز. يُلاحظ أن المرتل يطوب مقاومي الشر ليؤكد أن هبة هذه التطويب تُمنح كعطية مجانية لمقاومي الخطية. فيؤكد القديس أغسطينوس أن الشاب الذي يقاوم فكرًا شريرًا لا يثور في مشاعر أو أحاسيس الطفل الصغير يهبه بالأكثر أكليلاً أعظم مما للطفل. فالشاب مقاوم الخطية ينال إكليل الجهاد عن حب وصراع لا كالطفل عن عجز. طهارة الشاب المقاومة للشر هي طهارة النضوج أما طهارة الطفل فهي عن ضعف!

الجانب الإيجابي:

مادام السيد المسيح - كلمة الله المتجسد - هو الطريق، لذا تحتل "كلمة الله" المكتوبة مركز الصدارة في حياة الأبرار. كلمة الله هي قائد حياتنا للتمتع بالحياة المطوّبة، وسند لنا ضد الإغراءات البشرية. كلمة الله هي أيضًا مصدر شبعنا وفرحنا ولذتنا كما عبّر عن ذلك المزمور 19؛ 119.

تُسمى المزامير 1؛ 19؛ 119 مزامير التوراة[62] Torah Psalm.

ينطق المرتل بالبركة على ذاك الذي يتأمل في الشريعة نهارًا وليلاً، فيجد فيها لذة، إذ تهبه سلامًا داخليًا وشبعًا في الرب. لا يتطلع المرتل إلى الشريعة كثقل يحمله، وإنما كطرق مفرح للشركة مع الله. يقول L.Sabourin: [جاء يسوع لا لينقض شريعة الله المعلنة بل ليكملها (مت 5: 17)، هذه التي يراها المرتل تعبيرًا عن إرادة الله، تقدم إرشادًا خلال تدبير عناية الله].

يقول العلامة أوريجانوس: [بإن الكنيسة أو النفس إذ تجد عذوبة في كلمة الله تتأمل في الشريعة على الدوام وتجترها كما يفعل الحيوان الطاهر (لا 11: 1- 4) [63].

v التأمل في الشريعة لا يعني مجرد قراءتها بل ممارستها، وكما يقول الرسول في موضع آخر: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31)[64].

القديس جيروم

v   لنحسب كل شيء ثانويًا بجانب الاستماع لكلمة الله، إذ لا يوجد وقت غير مناسب لها... بل كل الأوقات تناسبها[65].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   ليبحث كل منا كيف يبني في داخله مسكنًا لله!...

ليحمل في داخل نفسه تابوت العهد حيث لوحا الشريعة، فيلهج في ناموس الرب نهارًا وليلاً [2].

ليكن فكره ذاته تابوتًا ومكتبة تحفظ الكتب الإلهية، إذ يقول النبي: "طوبى لمن يحفظ في قلبه ناموس الرب ليعمل به".

ليحمل في قلبة قسط المن، أي الإدراك الصحيح والعذب لكلمة الله.

لتكن له عصا هارون، أي التعليم الكهنوتي المدقق على الدوام في تقوى[66]....

العلامة أوريجانوس

v التأمل في الكلمات الإلهية يشبه بوقًا ييقظ نفوسكم للدخول في المعركة، لئلا تناموا بينما عدوكم يقظ. لهذا يلزمنا أن نلهج في ناموس الرب، ليس فقط أثناء النهار بل وفي الليل أيضًا كقول الرب في الإنجيل: "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (مت 26: 41)[67].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v "وفي ناموس الرب يلهج نهارًا وليلاً"؛ تُفهم (هذه العبارة) بمعني بلا انقطاع؛ ربما يقصد بالنهار: "في الفرح" وبالليل "في الضيقات". فقد قيل: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن رأى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56)؛ "بالليل تنذرني كليتاي" (مز 16: 7).

القديس أغسطينوس

إن كان سفر المزامير هو سفر التسبيح السماوي، يبدأ بالحياة المطوبة ليرتفع بنا كما من مجد إلى مجد لنشترك مع السمائيين في تسابيحهم وليتروجياتهم التي لا ينطق بها، فإنه لا سبيل للدخول إلى هذه الحياة بغير كلمة الله المكتوبة وكلمة الله المتجسد. الكلمة الإلهي وحده يفتح عن عيوننا الداخلية بروحه القدوس فننعم بمعرفة ورؤية بل وشركة الحياة السماوية ونحن بعد هنا في الجسد. ننالها خلال العربون حتى نتمتع بكمالها في اليوم الأخير.

وجدت الكنيسة الأولي في كلمة الله المكتوبة وكلمة الله المتجسد (المخلص) فردوسها، فعاشت كما في السماء لا يعوزها شيء من كل خيرات العالم حتى الصالحة.

الشجرة المثمرة والعصافة:

الشجرة المثمرة ترمز للحياة المطوبة التي يتمتع بها الإنسان التقي؛ يقف أمام الرياح مقاومًا كل شر، مزهرًا ومثمرًا.

الشجرة المثمرة تبهج الإنسان والحيوانات والطيور بثمارها التي لا تنقطع وبظلالها (إر 17: 8). إننا نأتي بثمر كنتيجة للتأمل في شريعة الرب (يو 15: 8) وثمارنا لا تنقطع (يو 15: 16). لكننا لا نقدر أن نثمر أو نزدهر ما لم نرتوِ بمياه الروح القدس، الذي يهبنا قوة مواجهة مصاعب الحياة [3].

v الإنسان الذي تتناغم إرادته مع ناموس الله، ويهتم بناموس الله نهارًا وليلاً يصير شجرة مترعرعة ترتوي من مجاري المياه، وتعطي ثمارها في حينه (مت 21: 41)... يا لسعادة ذاك البستان الذي تماثل فاكهته جمال العريس، إذ هو النور الحقيقي والحياة الحقة والبرّ الحقيقي وما إلى ذلك، كما تقول الحكمة (أم 1: 3). عندما يكتسب الإنسان هذه السمات بالأعمال الصالحة، يتطلع إلى عنقود ضميره فيرى العريس داخله يعكس نور الحق بحياته الظاهرة[68].

القديس غريغوريوس النيصي

v يليق بنا أن نجاهد بكل قوتنا لنتحرر من اهتمامات العالم وأعماله الشريرة، وإن أمكن نترك وراءنا أحاديث الرفاق غير النافعة، ونتكرس لكلمة الله والتأمل في ناموسه نهارًا وليلاً [2]، فيصير تحولنا من كل القلب، ويمكننا التطلع إلى وجه موسى المكشوف[69].

العلامة أوريجانوس

اقتبس الأب مارتيروس كلمات القديس غريغوريوس اللاهوتي القائل: [يليق بنا أن نتذكر الله أكثر من النَفَس الذي نتنسمه[70]]، مظهرًا أن التأمل في شريعة الرب هو طريق اكتساب هذا التذكر. [يلزمنا أن نفتح أفواهنا في كل الأوقات أمام الله، ونتنسم نعمته التي تنعش نفوسنا بذكرى الله... لنفعل هذا، متأملين على الدوام في أمور الله خلال شريعته[71]].

يقول القديس جيروم: [إن الشجرة هنا ترمز إلى ربنا يسوع المسيح كما ترمز إلينا. يقول بإنه يوجد نهر واحد يخرج من عرش الله، وشجرة واحدة على جانب النهر (رؤ 22: 1-3؛ 4: 2). هذا النهر هو الكتاب المقدس، الذي له شاطئان: العهد القديم والجديد.

v خلال السنة تصنع هذه الشجرة (السيد المسيح) إثنتى عشر ثمرة، ثمرة في كل شهر (رؤ 22: 2)، إذ لا يمكننا تسلم الثمار إلا خلال الرسل (الإثنى عشر) [72].

القديس جيروم

v الآن خلال الفداء الذي تم بواسطة "شجرة الحياة"، أي خلال آلام الرب، نصير نحن أنفسنا مثل شجرة الحياة، كل ما فينا يكون أبديًا، وننعم بإحساس التطويب أبديًا.

كل ما يصنعه (الأتقياء) ينجحون فيه، إذ لا يخضعون بعد للتغير ولا للطبيعة الضعيفة، حين يبتلع غير الفاسد الفاسد، ويبتلع الأبدي الضعيف، وما هو على شكل الله يبتلع ما هو على شكل الجسد الأرضي[73].

القديس هيلاري أسقف بوايتيه

v ثمر الصليب هو القيامة المجيدة. هذا الثمر الذي للخشبة التي هي بالحق مغروسة "عند مجاري المياه"، لأن المعمودية مرتبطة دائمًا بالصليب. على أي الأحوال، تقدم هذه الخشبة "ثمرها في حينه" [3]، أي عند قيامة الرب[74].

الأب قيصريوس أسقف آرل

الإنسان التقي يشبه شجرة مثمرة، إذ يمارس حياة الاتكال على الله غير المتزعزعة المملؤة فرحًا، ويكون الله بالنسبة له هو كل شيء، يقول المرتل: "وكل ما يصنعه ينجح فيه". بمعنى أنه لا ينجح فقط في حياته الروحية بل وفي كل جوانب الحياة، لأن النجاح هو سمة الحياة المطوبة.

v كن مشتاقًا أن تثبت في وصايا الرب والرسل، بهذا "كل ما تصنعه تنجح فيه" [3]، في الجسد كما بالروح، في الإيمان كما في الحب، في الابن والآب والروح القدس، في البداية كما في النهاية[75].

القديس أغناطيوس النوراني

يُذكر الأشرار هنا من قبيل التعليم من النقيض. بدون فهم السقوط من الصعب جدًا أن نقدّر الصلاح في ذاته، لذلك يجب أن نراه من خلال الحديث عن الشر[76].

الأشرار – على النقيض تمامًا – يشبهون "العصافة" التي تحملها الريح الحفيفة [3-4]، بتحريكها من المكان يصير الموضع نظيفًا مما لا نفع له (العصافة). هكذا يهلك طريق الشرير، وتكون حياته بلا معنى وليست بذات قيمة، فإن الحياة الخارج الله هي فراغ مجرد أشبه بالعصافة.

كثيرًا ما يُستخدم تشبيه تذرية القش (العصافة) في حكم الله (هو 13: 3؛ صف 2: 2؛ إش 29: 5؛ مز 35: 5؛ مت 3: 12)[77].

v كما تتعرض العصافة لتلعب بها الريح، فتُحمل بسهولة إلى مسافات طويلة، هكذا ينساق الخاطئ أمام كل تجربة. بينما يكون في صراح مع نفسه ويحمل حربًا في داخله أي سلام يترجاه وهو يُسلم (للتجربة) داخل بيته، حاملاً ضميرًا عدوًا له؟! ليس كذلك البار[78]!

القديس يوحنا الذهبي الفم

يليق بنا أن نميز بين الشرير المصّر على ارتكاب الشر، والخاطي الذي يسقط في خطايا لكنه يُجاهد، متكلاً على مخلصه، طالبًا عمل النعمة الإلهية فيه. يقول القديس أغسطينوس: [كل شرير هو خاطئ، ولكن ليس كل خاطئ شريرًا].

"لا يقوم المنافقون في الدينونة، ولا الخطاة في مجلس الأبرار" [5].

لا يقدر الأشرار أن يقوموا للدفاع عن أنفسهم في دار الشريعة، عندما يحل وقت القضاء[79]. في الدينونة يرون الرب مهوبًا، عينيه كلهيب نار، أما أولاد الله فيرونه عريسًا سماويًا يضمهم إلى مجده!

يعرف الله الأتقياء:

"يعرف الرب طريق الأبرار، أما طريق المنافقين فتُباد" [6].

معرفة الرب ليست إدراكًا ذهنيًا مجردًا بل شركة فعّالة (عا 3: 2).

v   عرف الله أن آدم كان في الجنة، وكان يدرك تمامًا ما قد حدث، لكن لأن آدم أخطأ لم يعرفه الله، فقال له: "آدم ، أين أنت؟"...

إذ كان لإبراهيم إيمان عظيم بتقديمه ابنه ذبيحة، بدأ الله يعرفه (تك 22: 12).

لماذا نقول هذا كله؟ لأنه مكتوب: "يعرف الرب طريق الأبرار". لنضع هذه (العبارة) بطريقة أخرى: المسيح هو الطريق والحياة والحق (يو 14: 6). لنسِر في المسيح فيعرف الله الآب طريقنا[80].

القديس جيروم

v   إني لا أراكم (أيها الأشرار) في نوري، في البرّ الذي أعرفه[81].

القديس أغسطينوس

يعرف الله الإنسان التقي [6]، لأن الأخير يعرفه [2]. يُقال إن الله يعرف الصلاح، بمعنى أنه يحبه ويكرمه. أما الشر فلا يستحق معرفة الله له. يقول القديس أغسطينوس: [بالنسبة لله المعرفة هي وجود، وعدم المعرفة هو توقف عن الوجود. يقول الرب: "أهيه (أنا كائن) الذي أهيه"، "أهيه أرسلني إليكم" (خر 3: 14)].

يرى كثير من آباء الكنيسة أن الإنسان التقي هنا هو ربنا يسوع المسيح، الذي صار إنسانًا لكي يهبنا ذاته برًا لنا؛ فيه ننال الحياة المطوّبة الجديدة خلال مياة المعمودية.

v   جاء (المسيح) في طريق الخطاة، إذ وُلد كما يولد الخطاة، لكنه لم يقف هناك، إذ لم تمسك به إغراءات العالم...

القديس أغسطينوس

آدم الإنسان الطوباوي:

إذ يماثل هذا القسم من سفر المزامير (1-41) سفر التكوين الذي يبدأ بخلقة آدم الإنسان الأول في طبيعته الطوباوية، يبدأ داود سفر المزامير بالإنسان (آدم) الثاني المطوّب، إذ فيه نتجدد ونتحد كما لو كنا جميعًا "رجلاً واحدًا مطوبًا"، أو "عروسًا سماوية".

بحسب التلمود الثلاثة حروف العبرية المكون لاسم "آدم" تمثل ثلاثة أشخاص رئيسيين: آدم وداود والمسا[82]. آدم هو البداية، وداود تنبأ عما سيحدث، والمسيا آدم الثاني ابن داود الذي فيه تتحق الحياة المطوّبة.

آدم: آ. آدم = الطبيعة المطوّبة الأصلية المفقودة.

د. داود = الوعد بالطبيعة المطوّبة في المسيح.

م. مسيا = التمتع بالطبيعة المطوّبة فيه.

ملاحظة:

يُرنم المزمور الأول في "صلاة باكر" أو "تسبحة باكر" كل يوم ونحن نذكر قيامة السيد المسيح من الأموات؛ كأننا بهذا نسأل الرب القائم من الأموات أن يهبنا الحياة المطوّبة كنعمة إلهية، قبل أن نبدأ حياتنا اليومية.

 


 

صلاة

v   أيها الكلمة الحقيقي... هب لي أن ألهج في حبك نهارًا وليلاً، في وقت الفرج كما في الضيق!

v   أيها الطريق، احملني فيك وإليك، فأنعم ببرك!

v   أيها المصلوب... يا من حولت الخشبة إلى شجرة حياة، أقمني شجرة مثمرة، مغروسة على مجاري روحك القدوس!

<<

 

 


 

المزمور الثاني

عش ملكًا

عش ملكًا!

يقدم لنا المزمور الأول طريق الأبرار الملوكي، طريق الاتحاد مع كلمة الله نهارًا وليلاً، للتمتع بالحياة المطوّبة الداخلية، وتحاشي طريق الأشرار المهلك. الآن في هذا المزمور الملوكي يقدم لنا المرتل المسيا "الملك العام"  بكونه الطريق الضيق المجيد، فيه تدخل إلى معركة الصليب الروحية فنصير ملوكًا، إذ قيل: "جعلنا ملوكًا وكهنة" (رؤ 1: 6).

المزامير الملوكية The Royal Psalms:

أهم المزامير هي (مز 2، 18، 20، 21، 45، 72، 89، 101، 132، 144).

يقول L. Sabourin: [أدَّت النظرة التقليدية التي تتطلع إلى داود ككاتب لأغلب المزامير إلى تزايد عدد المزامير الملوكية (بكون الكاتب ملكًا). وإذ أُعيد تقييم النظرة إلى داود كواضع للمزامير احتل الاتجاه المضاد مركز الصدارة (انكار وجود مزامير ملوكية). أما ما حدث فيخبرنا به Mowinckel: [لقد اتجهت المرحلة الأولى للدراسة العلمية الحديثة إلى إنكار وجود أي شكل ملوكي في المزامير... أينما التقينا بشكل ملوكي كما في المزامير المدعوة بالمسيانية إذ صارت تُفسر على أنها تشخيص لشعب إسرائيل (وليس عن الملك). ويعتبر جانكل Gunkel هو أول من أعاد تحقيق المزامير الملوكية بكونها تخص ملكًا حقيقيًا، مقدمًا تفسيره هذا على أساس علمي سليم[83]].

يمكننا أن نتطلع إلى هذه المزامير من جوانب متباينة:

1. مزامير الجماعة: تقوم العلاقة بين الله والإنسان أساسًا على اتجاهين متكاملين: اتجاه جماعي وآخر شخصي. ففي العهد القديم كان الملك يمثل الجماعة ككل، لذلك فإن العهد الذي يقوم بين الله وبينه هو بعينه ذات العهد بين الله والشعب. هكذا كانت أهمية الملك، فلا عجب إن وُضعت مزامير لأجل تكريمة[84]، بقصد تكريم الجماعة. في هذه المزامير يقوم الضميران "أنا" و"نحن" بنفس الدور، فإن المتعبد الناطق بهما هو الملك الممثل للجماعة التي لا تنفصل عنه.

2. مزامير المسيح: يعلن العهد القديم عن يهوه بكونه الملك الحقيقي لشعبه (خر 15: 18؛ 1 صم 8: 7، 21). لهذا دُعي عرش الملك في أورشليم "عرش الرب" (1 أي 29: 23) أو "عرش مملكة الرب" (1 أي 28: 5). الملك الذي يمثل الجماعة ككل يمثل الرب أيضًا، لهذا دُعي "مسيح الرب". وهو في هذا يرمز للمسيح ملك الملوك، الوسيط بين الآب والجماعة، ذاك الذي هو واحد مع الآب في الجوهر، يتقبل الكنيسة كجسده، يشفع فيها بدمه الكفاري الثمين.

خلال هذه النظرة نتطلع إلى المزامير الملوكية أنها خاصة بالملك المسيح مخلص البشرية.

3. مزامير الحياة الداخلية: جاء السيد المسيح ليقيم مملكته داخلنا (لو 17: 21)، واهبًا إيانا نعمة الملوكية الروحية كهبة من قبل روحه القدوس. في السيد المسيح  – ملك الملوك – صرنا ملوكًا (رؤ 1: 6).

الملك المسياني The Messianic King:

يبدأ المزمور الأول كما ينتهي المزمور الثاني بالتطويب. فالطبيعة المطوّبة التي يترجاها المرتل في المزمور الأول لا يمكن تحقيقها إلا خلال الملك المسيّا الجامع المُعلن عنه في المزمور الثاني. ففي ربنا يسوع المسيح يتجدد المؤمنون القادمون من كل الأمم ويتقدسون بروحه القدوس. اُقتبس هذا المزمور مرارًا في العهد الجديد، بكونه خاصًا بالسيد المسيح الملك العظيم ابن داود، مسيح الرب (أع 4: 25 إلخ؛ 13: 23؛ عب 1: 5؛ 5: 5[85]).

يتطلع التقليدان اليهودي والمسيحي على حد سواء إلى المزمور الثاني بكونه مزمورًا مسيانيًا، مثله مثل المزمور 110 الذي يبدو أنه اعتمد عليه[86]. يقول Arno C. Gaebelein: [كان التفسير المسياني عند اليهود هو التفسير الوحيد (للمزمور) حتى القرن العاشر/ الحادي عشر. بعد ذلك حدّه اليهود ليعني داود، وذلك من أجل مقاومة التفسير

المسيحي له[87]]. 

يكشف هذا المزمور عن مخلصنا؛ فيتنبأ تحت اسم مملكة داود عن مملكة المسيا ابن داود، بكونها هدف المزمور الأساسي[88].

يميز القديس يوحنا الذهبي الفم بين مملكتين إلهيتين، قائلاً: [يعرف الكتاب المقدس مملكتين لله؛ واحدة بالتخصيص والثانية بالخلقة. فهو ملك على الجميع، على اليونان واليهود، كما على الشياطين وعلى مقاوميه، وذلك بكونهم خليقته. لكنه هو ملك على الأمناء الراغبين فيه، الخاضعين له، فيجعلهم خاصته. هذه هي المملكة التي قيل عنها أيضًا إن لها بداية، إذ يقول عنها في المزمور الثاني: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك" [7]. بخصوصها أيضًا قال لتلاميذه: "دُِفَع إليّ كل سلطان من أبي" (راجع مت 28: 18)[89]].

دخل المسيا في معركة مستمرة ضد الشيطان، ليعد الطريق الملوكي لنصرتنا. ارتضى أن يكون مرذولاً من أجلنا؛ هذا الرذل (1-3؛ أع 4: 25-28) لا يزال مستمرًا عبر الأجيال ليبلغ أقصاه في الارتداد العظيم في الضيقة العظيمة. إننا لسنا طرفًا في المعركة، إنما يلزمنا أن نختفي في أحد طرفي المعركة. فإن إختفينا في السيد المسيح نُرذَل من أجل اسمه، لكننا بالتأكيد ننال النصرة بينما يدين الله العالم الرافض المسيح!

مزمور تتويج  A Coronation Psalm:

يُسمى هذا المزمور الملوكي "مزمور تتويج"، ربما لأنه وُضع بمناسبة تتويج داود ملكًا، حيث تحقق الوعد الوارد في (2 صم 7: 8-16). وقد اُستخدم فيما بعد في تتويج الملوك خلفاء داود، لا لتكريمهم بكونهم المسّيا، وإنما لتذكيرهم بمن يرمزون إليه.

يرى Carrol Stumueller بأنه لا غرابة من ارتباط المزمور الأول بالثاني بكونهما مقدمة لسفر المزامير كله، فإن المزمور الأول هو ثمرة الحركة الخاصة بالحكمة Wisdom Psalm بينما وُلد المزمور الثاني في ظروف سياسية ترتبط بمراسم تتويج الملوك الجدد في هيكل أورشليم وفي القصر الملكي. فقد التزم الملوك باحتضان الحكمة وحمايتها، لذا نرى سليمان الملك أحكم جميع الناس (1 مل 4: 29-34)[90].

يعلن المزمور عن مدى مقاومة الملوك الوثنيين للملك الجديد الممسوح والمتوّج، هذا الذي كان رمزًا للمسيا الملك الذي يقاومه كثيرين.

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور المستخدم في الاحتفال بتتويج الملك الجديد يرنم بالنظام التالي:

* أعداد [1-2]: ينشدهما خورس المرنمين في الهيكل، للتعبير عن ثورة الملوك الوثنيين ضد حكم الله الذي يتحقق خلال ملكه المسموح.

* عدد [3]: ينشده خورس خاص من المرنمين ينطقون باسم هؤلاء الملوك.

* أعداد [4-6]: التدبير السماوي المنعكس على الهيكل في طقس التتويج (السخرية الإلهية بالملوك الثائرين). يوضع هذا الاستيخون ردّ فعل الله تجاه تمرد هؤلاء الملوك. مجرد كلمات الله تكفي لبث الرعب في حياتهم.

* أعداد [7-9]: التتويج، ينطق به نبي باسم الرب (مرسوم إلهي). يوضح هذا الاستيخون ثقة الملك القائمة على كلمة الله. 

* أعداد [10-12]: دعوة موجهة إلى الملوك للخضوع الجامع، أي خضوع كل الملوك في المسكونة.

من هو هذا الملك؟

1. مسيح الرب:

"قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا

على الرب وعلى مسيحه" [2].

 اهتمت كثير من المزامير الملوكية بالكشف عن قدسية عمل الملك، خاصة في هذا المزمور، حيث ذُكر أنه مختار من الله.

كان مسح الملك عملاً قدسيًا (1 صم 10: 1)، ودعى الملك "مسيح الرب". وقد انطبق هذا على شاول وادود[91]. لهذا فإن الثورة ضد الملك الممسوح ليست إلا ثورة ضد الله. وبالمثل مقاومة العالم للكنيسة ولأبنائها القديسين إنما هي مقاومة للسيد المسيح نفسه كما قال السيد لشاول (أع 9: 5).

كلمة "مسيا" مشتقة من الكلمة العبرية Mashia لتعني "الممسوح"، وكلمة "المسيح" مشتقة عن الكلمة اليونانية Christos لتعني ذات المعنى. فقد مُسح (الابن المتجسد) لينوب عني في المعركة الروحية، واهبًا إياي نصرته (1 يو 2: 13). فيه نصير نحن أيضًا مسحاء الرب خلال مسحة الميرون، أعضاء جسده المقدس، أبناء الله، وذبائح حب من أجل الآخرين.

يقصد المرتل بالملوك والرؤساء القادة الأشرار الذين مع تباين مصالحهم اتحدوا معًا عند لحظات الصليب السيد المسيح. اتحد ليس فقط الأقوياء بل وأيضًا الرعاع، إذ صرخ الشعب: "أصلبه! أصلبه!" وكما يقول ربنا: "أبغضوني أنا وأبي" (يو 15: 24). أبغضوه هو وأباه، قائلين: "لنقطع أغلالهما ولنطرح عنا نيرهما" [3]. لقد رفضوا الخضوع لولايتهما، ولم يطيقوا احتمال نير حبهما وقداستهما، قائلين: "لا نريد أن هذا يملك علينا" (لو 19: 14).

يبغضنا الأشرار بكوننا ممسوحين لله. وكما يقول ربنا: "لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس؟!" (لو 23: 31).

2. السماوي المتوّج [2، 4]:

يقابل الهياج والتمرد على الأرض [1] صورة السلام الفائق الذي يملك في السماء. ويقابل الملوك العاجزون على الأرض قدرة الله الفائقة، ملك السماء[92]! ففيه ننعم بالحياة السماوية وننال عربون الأبدية.

v   "الساكن في السموات يضحك بهم" [4].

إن كنا نفهم كلمة "السموات" بكونها النفوس المقدسة، فإن الله (الساكن في قديسيه) بسابق علمه يضحك بهم (بالأشرار) ويستهزئ بهم!

القديس أغسطينوس

إنه في السماء بعيدًا عن متناول تهديداتهم ومحاولاتهم العاجزة. هناك يعد عرشه للدينونة، لذا يسهل جدًا الاستهزاء بمحاولات الأعداء. يضحك بهم كجماعة من الحمقى، ويسخر بهم، كما تزدري بهم كنيسته العذراء ابنة صهيون (إش 37: 22)؛ هذه المؤسسة على صخرة، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها (مت 16: 18).

يقول القديس كيرلس الكبير: [إن الساكن في السموات يضحك بهم، لأنه بالحقيقة الرب الابن والوارث بكونه واحدًا في الجوهر مع الآب في السلطة تجسد، داعيًا الذين آمنوا به إلى الشركة معه في مملكته السماوية ومجده الأبدي، لكن الأشرار بكبريائهم رفضوا ذلك، ظانين أنهم قادرون أن يملكوا بدونه[93]].

تحققت هذه النبوة برفض اليهود للسيد المسيح. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يعلن المسيح نفسه: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت 23: 38). كما تعلن أمثاله ذات الأمر، إذ يقول: "ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟.. أولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًا" (مت 21: 40-41)[94]].

3. الملك:

في المسيح – الملك الحقيقي – نصير ملوكًا (رؤ 1: 6)، يصير لنا سلطان على عواطفنا وأحاسيسنا وأجسادنا وعقولنا الخ...

المسيح كملك يملك على قلوبنا لا خلال حب السلطة وإنما بالحب، حتى أننا نحن أيضًا كملوك روحيين نلتزم أن نربح الآخرين بانفتاح قلوبنا بالحب على كل البشرية.

4. الابن الوحيد الجنس [7]:

"أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" [7]. اقتبس القديس بولس هذه الآية في (عب 1: 5) ليثبت أن للسيد المسيح اسم أعظم مما للملائكة، بكونه ابن الله الوحيد، لا بالتبني بل بالوراثة، له ذات طبيعة الآب. 

v   يقول الآب: "أنا اليوم ولدتك" ولم يقل: "أنا خلقتك". لا يدعو الابن الله خالقه في ولادته الآزلية الإلهية، بل أباه[95].

v   كلمة "اليوم" وليس "بالأمس" تشير إلى ما قيل عن اتخاذ ذاك المولود أزليا من جهة اللاهوت جسدنا[96].

القدديس أمبروسيوس

 

v يظهر الآبُ (المسيحَ) بكونه ابنه اللائق به والوحيد، قائلاً: "أنت ابني" [7]، و"هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17). لهذا يخدمه الملائكة بكونه فوقهم؛ يسجدون له بكونه أعظم منهم في المجد، وفوق كل المخلوقات... وهو وحده ابنه الحقيقي جوهريًا[97].

القديس أثناسيوس الاسكندري

في المسيح الابن نصير نحن أبناء الله. هذا وجدير بالذكر أن كثيرًا من الوثنيين حسبوا أن ملوكهم قد وُلدوا من اللاهوت، وقد نبذ العهد القديم فكرة بنوة الملك الجسدية للاهوت لتعارضها مع الفهم الروحي لله (مز 89: 26 الخ؛ 2 صم 7: 14؛ 1 كو 28: 6).

5. رئيس الكهنة الأعظم:

المسيا هو الملك، ابن الله ورئيس الكهنة، الذي له السلطان أن يدخل السماء ويشفع عن كل الأمم بذبيحة نفسه. يشير المرتل عنه هنا كشفيع عن المؤمنين [8] بعدما تحدث عن ملكوته وبنوته للآب. هذه الشفاعة هي رجاء العالم (يو 17: 20).

v "اِسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك" [8] للوهلة الأولى يبدو أن لهذه الآية مفهومًا زمنيًا بالنسبة إلى اتخاذه الناسوت، إذ قدم نفسه ذبيحة عوضًا عن كل الذبائح الأخرى، والذي يشفع أيضًا فينا...

القديس أغسطينوس

6. مخلص العالم [10]:

 فيه صرنا أعضاءً في الكنيسة الجامعة، مع شعورنا بالتزام بالشهادة له أمام العالم.

ثورة الشعب والملوك:

عند موت قائد قوي لإحدى الإمبراطوريات العظمى في الشرق القديم تجتاح مشاعر الثورة والهياج الأمم كلها، حيث تعلو الصرخات وسط الأمم المستعَبدة طلبًا للتمتع بالحرية. لذلك كانت المهمة الرئيسية والأساسية التي تواجه الملك الجديد عند اعتلائه العرش هي تعزيز سلطة إمبراطوريته العظيمة وتأكيدها من جديد[98]. هنا يعبر المرتل عن دهشته لأن الأمم وملوكهم يفعلون ذات الأمر عند تتويج الملك الروحي المسيا على الصليب، إذ يقيم مملكته لتحريرهم من الملك الطاغية، إبليس، الذي أقام مملكته العنيفة ومارس السلطة عليهم حتى دُعى رئيس سلطان الهواء (أف 2: 2) الذي نتنسمه، وإله هذا العالم (2 كو 4: 4) الذي نعيش فيه. فالشيطان يعلم تمامًا أنه ما أن تقوم مملكة السيد المسيح حتى يُطرح أرضًا، كقول ربنا: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء" (لو 10: 18).

v أُعطى السلطان للشيطان (لو 22: 53)، ولليهود أن يقفوا ضد المسيح، لكنهم حفروا لأنفسهم هوة الهلاك. فبالحقيقة فدى (السيد) كل الذين هم تحت السماء بحبه للبشرية، وقام في اليوم الثالث، وداس مملكة الموت تحت قدميه، لكنهم جلبوا على أنفسهم دينونة لا مفر منها مع التلميذ الخائن. ليسمعوا إذن الروح القدس القائل على لسان المرتل: "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل؟! قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه"...  لقد اقحمت هذه الخليقة التعيسه نفسها في جريمة قتل ربهم، أما نحن فنمجده كمخلص لنا ومحررنا، ربنا يسوع المسيح[99].

القديس كيرلس الاسكندري

v نسى اليهود بتصوراتهم وموافقتهم على التصرفات الظالمة تجاه الرب أنهم إنما يجلبون السخط عليهم. لذلك يرثى الكلمة حالهم، قائلاً: "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل؟!" [1]. فإنه بالحقيقة باطل هو ما تصوره اليهود، إذ عزموا على قتل مصدر الحياة وتلفيق ما هو باطل ضد كلمة الآب[100].

v كانت تصورات اليهود ومن هم على شاكلتهم باطلة، إذ جاءت النتائج على غير ما توقعوا، فقد انقلبت ضدهم، فصار الجالس في السموات يضحك بهم والرب يستهزئ بهم [4]. لهذا عندما اُقتيد مخلصنا إلى الموت انتهر النساء اللواتي كن ينحن وهن يتبعنه، قائلاً لهن: "لا تبكين عليّ" (لو 23: 28)؛ ليعني بهذا أن موته هو مصدر فرح لا

حزن، وأن الذي يموت عنا إنما هو حيّ[101]!

البابا أثناسيوس الرسولي

v "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل؟!" [1]... قيل: "لماذا؟" كما  لو أنه يقول إن ما يفعلونه هو باطل، إذ لم يحققوا ما كانوا يأملونه، أي القضاء على المسيح. قيل هذا عن مضطهدي ربنا، الذين أُشير إليهم في سفر الأعمال.

القديس أغسطينوس

هذا  هو مركز الأشرار رافضي السيد المسيح كملكهم الروحي، أما بالنسبة لنا فسلطانه مفرح ونيره حلو للغاية.

v إن كنا نحني أعناقنا باتضاع لنتقبل نير المسيح، فإن النير نفسه بالحرى يحملنا ولسنا نحن الذين نحمله. إن كان نير العالم يضغط دائمًا على الإنسان لينزل به إلى أسفل فإن نير المسيح يرفعه إلى أعلى. والآن مادام كل إنسان إما أن يرتفع بحمله المسيح أو ينزل إلى الأمور الدنيا بحمله نير العالم لذلك يجب عليه أن يمتحن ضميره[102].

الأب قيصريوس أسقف آرل

مخلصنا الذي حطم الشيطان كملوك أشرار توّج المؤمنين به ملوكًا روحيين. وكما يقول القديس أغسطينوس: [أنتم الآن ملوك، قادرون أصحاب سلطان على كل ما هو دنئ وشهواني في داخلكم. كما لكم القدرة على الجهاد لا كضاربين في الهواء، وإنما إذ تقمون أجسادكم تخضع لكم (1 كو 9: 26-27)... الآن فصاعدًا إذ أنا متوج ملكًا لا أحزن].

يليق بنا أن ندرك أن غضب الله أو سخطه ليس انتقامًا لنفسه، إنما هو تعبير عن بره الذي لا يقبل الخطية أو الشر.

الحاجة إلى التأديب [10-13]:

يقول Weiser: [بإن المزمور يعود إلى نقطة البداية، حيث يوجه الحديث إلى حكام الأرض، منذرًا ومحذرًا إياهم، سائلاً إياهم أن يتضعوا أمام القدير وأن يعبدوه بخوف ورعدة].

تعبير "قبلوا قدميه" طبق على الله بطريقة تُناسب العادات البشرية؛ إذ ربما نبع ذلك عن عادة تقبيل قدميّ الملك كعلامة على الولاء والطاعة، هذه العادة تعرفنا عليها من الوثائق البابلية والمصرية.

يفهم الحاخام ابن عزرا هذه العبارة "قبلوا قدميه" بكونها تخص المسيا[103].

بعد تحذير داود النبي قضاء الأرض وحكامها والأمم المتمردة على الرب وعلى مسيحه يذكر التأديب كوسيلة للإصلاح، وكأنه يقول: "اقبلوا الاصلاح والتأديب لئلا يغضب الرب فتبيدوا بترككم الطريق المستقيم".

v   بتأديب الله (لنا) وإرشاده نخلص من الموت[104].

القديس اكليمندس الاسكندري 

v التأديب هو صمام الآمان للرجاء، رباط الإيمان، مرشد إلى طريق الخلاص، الحافز والمشبع لنزعات الخير، معلم الفضيلة الذي يدعونا إلى الالتصاق الدائم بالمسيح، وإلى الحياة الدائمة لأجل الله وإدراك الوعود السماوية والمكافآت الإلهية.

اتباعنا للتأديب هو نافع لنا، وإهماله وإدارة ظهورنا له هو موت[105].

القديس كبريانوس

v   التأديب هو نوع من الحماية ودفاع ضد كل ما يضرنا.

v يلزمنا ألا نتطلع إلى غضب الله [5] بكونه اضطرابًا في الفكر؛ بل بالحرى هو القوة التي بها يثبت له حقوقه في العدل، حيث تخضع كل خليقة لخدمته[106].

القديس أغسطينوس

"اعبدوا الرب بخشية وهللوا له برعدة" [11]

في عبادتنا لله يلزم أن تمتلئ قلوبنا بمخافة إلهية مقدسة، وفي نفس الوقت تمتلئ بثقة مفرحة في الرب. لذلك يرى آباء الكنيسة نوعًا من التكامل بين مخافة الرب المقدسة والفرح الروحي. فإن العبادة والنظام الروحي يخلقان ليس فقط نوعًا من الرعدة أو الخوف وإنما أيضًا فرحًا داخليًا.

بخصوص مخافة الرب نقتطف العبارات التالية:

v   لننظر أي إنسان يجب أن يكون القديس! يجب أن يكون لطيفًا، حكيمًا، حزينًا، نائحًا، منسحق القلب!

الإنسان الذي هو هزلي في تعاملاته ليس قديسًا. فحيث توجد النجاسة يكون الهزل؛ وحيث الضحك في غير أوانه يكون الهزل. اصغ إلى قول النبي: "اعبدوا الرب بخوف وهللوا له برعوده" [11]. 

الهزل يسلم النفس إلى التنعم والتكاسل. إنه يثير النفس بصورة غير لائقة، فكثيرًا ما تجنح إلى أعمال العنف وتوجد حروبًا[107].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v عندما تتلو مزمورًا تأمل كلمات من هذه التي تتلوها، ولتبتهج نفسك بندامة حقيقية أكثر من الإعجاب بلذة الصوت، فإن الله يُقدر قيمة دموع من يسبحه أكثر من عذوبة الصوت. يقول النبي: "اعبدوا الرب بخشية وهللوا له برعدة" والآن حيث يوجد الخوف والرعدة لا يوجد صوت عالٍ وإنما يكون اتضاع الفكر مع نحيب وبكاء[108].

(المدعو) سولبيتس ساوريرس

v أنه لأمر عظيم أن نخدم الله، إذ قيل: "أعبدوا الرب بخوف"، وأمرُ عظيم أن تُدعى من الله "عبدي" (إش 49: 6)... مع ذلك قيل للرسل: "لا أعود أسميكم عبيدًا لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده" (يو 15: 15)... ها أنت ترى أن هناك مراحل متعددة للكمال، وأن الله يدعونا إلى أمور عالية، ثم يعود فيدعونا إلى ما هو أعلى حتى أن من يصير مباركًا وكاملاً في مخافة الرب يرتقي كما هو مكتوب: "من قوة إلى قوة" (مز 84: 7)[109].

الأب شيريمون

v   إنه لمن اللائق أن نقف أمام الله بعقل يقظ متنبه ممتزج برعدة وخوف مع التهاب الروح بالفرح والحب العميق (رو 12: 11-12) [110].

الأب مارتيروس

v   إن كنت تتذكر الديان وقت الشدة فحَسْب كمن يبث خوفًا ومن هو أمين بلا فساد فأنت لم تتعلم بعد أن "تعبد الرب بخشية وأن تفرح به برعدة"[111].

الأب أوغريس من بنطس

v   يوجد فرح فنقدم شكرًا، وتوجد رعدة لئلا نسقط[112]!

الأب قيصريوس أسقف آرل

يقول مؤلف كتاب السلم (الدرجات) من القرن الرابع: [عندما يُعتق إنسان من عبودية الموت يلزمه أن يخدم الرب بفرح لا بحزن[113]].

المسيح القائم من الأموات:

يُسبح بهذا المزمور في صلاة باكر حسب الطقس القبطي، بكونه مزمور القيامة. يقول C. Stuhlumeller: [يتمم يسوع هذا المزمور بكونه ملكًا، لا من حيث ولادته من نسل داود، مكتسبًا ذلك خلال يوسف (مت 1: 16-17؛ لو 1: 32)، وإنما خلال قيامته من الأموات، متوَّجًا عن يمين الله، يُرسل الروح القدس (أع 4: 25-26، 13: 33؛ عب 1: 5، 5: 5).

يختم المزمور بالقول: "طوبى لجميع المتكلين عليه" [12].

v   الثقة فيه هي أمر أعظم من الإيمان، فإنه إذ يؤمن إنسان أن ابن الله هو معلمنا يثق أن تعاليمه هي الحق[114].

القديس اكليمندس الإسكندري

 


 

صلاة

v العالم بكل جبروته يود الخلاص من رباطات حبك، والتحرر من نير وصيتك أيها المسيح مخلصي. اربطني بالحب وهب لي أن أحمل نير صليبك العذب!

v   العالم بنيره الثقيل أحنى ظهري وأحدرني إلى الهاوية، أما نيرك فأحمله لكي يحملني منطلقًا به إلى سمواتك!

v   أيها الابن الوحيد الجنس... ضمني إلى حضن أبيك، فأشاركك الميراث الأبدي! ليؤدبني الآب بروح الأبوة، ولا يغضب عليّ!

<<

 

 

 

 

 

 

 

 


 

المزمور الثالث

الله مخلصي

هذا المزمور هو مرثاة شخصية، يعبّر بها المؤمن عما يتوقعه من متاعب وآلام مع كل صباح جديد خلال معركة الخلاص التي لا تتوقف. لكن سرعان ما تتحول المرثاة إلى أنشودة خلاص تملأ النفس بهجة وسلامًا خلال التمتع بقيامة السيد المسيح التي تعكس علينا روح النصرة حتى على الموت ذاته، وتسكب في داخلنا شركة المجد الإلهي، وتفيض علينا ببركات إلهية لا تنقطع.

بمعنى آخر هذا المزمور هو مرثاة مؤلمة وفي نفس الوقت هو أنشودة مفرحة. إنه نشيد عسكري نعزفه أثناء المعركة الروحية، وهو تسبحة غلبة حيث تتهشم أسنان الأشرار فنراهم أضحوكة، بينما يتمجد الله ويتبارك شعبه.

هذا المزمور يمس حياة داود الشخصية، ويحمل نبوة عن شخص المسيح ابن داود، يمس حياة كل واحد منا خلال علاقته الشخصية مع مخلصه كما يمس حياة الجماعة المقدسة ككل! يبدأ بصيغة المفرد وينتهي بصيغة الجمع: "على شعبه بركته"!

مركز المزمور في السفر:

يُعتبر المزموران الأول والثاني أشبه بمقدمة لسفر المزامير ككل، في الأول يعلن المرتل أنه لا يستطيع أحد أن ينشد مزامير الفرح شاكرًا الله ما لم يتمتع أولاً بالحياة المطوّبة (مز 1: 1)، وفي الثاني يوضح أن هذه الحياة المطوّبة تُهب لنا لا بفضل خاص من جانبنا بل بعمل المسيًا الملك الذي يثور عليه العدو الشرير (إبليس) وأعوانه.

باستبعاد المزمورين الأولين بكونهما مقدمة للسفر يحتل المزموران الثالث والرابع مركز الصدارة؛ الثالث مزمور الصباح والرابع مزمور المساء (4: 8).

في كل صباح يرنم المؤمن هذا المزمور متذكرًا أنه ينبغي أن يتألم دون أن يفقد سلامه الداخلي وفرحه، إذ يتطلع إلى قيامة السيد المسيح التي تحققت في الصباح الباكر، لتهبه أبواب ملكوت الله مفتوحة! بمعنى آخر، لن يقلق المؤمن مادام يتمتع بالحياة الجديدة المقامة، مترقبًا مع كل صباح سرعة مجيء مسيحه المصلوب القائم من الأموات.

مرثاة شخصية:

وضع داود النبي المزامير (3؛ 4؛ 5) كمراثٍ شخصية أثناء هروبه من أمام وجه ابنه المتمرد أبشالوم (2 صم 15: 8). في المزمور الثالث يعلن النبي أن المعركة في الحقيقة ليست شخصية بينه وبين ابنه، إنما هي معركة قائمة بين الله والشيطان. وفي المزمور الرابع يرى أن البر الواهب الغلبة في المعركة ليس من عندياته إنما هو برّ الله، بل الله نفسه هو بره. وأخيرًا في المزمور الخامس يحول نظره إلى أخيتوفل المشير الشرير لأبشالوم كاشفًا عن شخصه بكونه رمزًا للدجال "ضد المسيح".

المزمور الثالث مرثاة شخصية، حيث يكشف المرتل عن مشاعره الخاصة بكونه في ذاته شخصًا ضعيفًا، يقف وحيدًا أمام جمهور شعب ثائر ضده؛ وفي نفس الوقت يحمل المزمور صبغة جماعية، فهو مزمور الجماعة كلها هو مزمور كل عضو فيها، ما يمس الشخص له فاعليه في حياة الجماعة. على أي الأحوال ينطبق هذا المزمور على كل إنسان متألم، خاصة متى شعر وسط آلامه كأن الكل قد اعتزله، حتى أحباؤه من حول يخونونه، ويحاصره كثيرون يقفون ضد.

يؤكد بعض الدارسين أن واضع المزمور بالضرورة ملك (كداود)، إذ يقوم ضده كثيرون [2]، وربوات الشعوب مصطفون عليه من حوله [7]؛ وإن كان آخرون يعدلون هذه النظرية متطلعين إلى أن واضعه إنسان إسرائيلي ({بما – من الشعب) اقتبس عبارات عن مراثٍ ملوكية[115].

يرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور كتبه داود الملك لكن على لسان ابن داود المسيّا الملك، إذ يقول: [تقودنا كلمات هذا المزمور إلى الاعتقاد بأنها تنطبق بالضرورة على شخص المسيح، فهي تتفق مع آلام الرب وقيامته أكثر مما تتفق مع هروب داود أمام ابنه المتمرد أبشالوم حسب ما قدمه لنا التاريخ].

جدير بالذكر أن هذا المزمور استخدم قديمًا في طقس إخراج الأرواح الشريرة، حيث ترى الكنيسة أن سلطانها على الشر وأرواح الشر إنما ينبعث عن قيامة السيد المسيح.

أقسامه:

1. مناجاة الرب             [1-2].

2. الإيقان بالقيامة           [3-6].

3. صرخة ثانية للمعونة     [7].

4. الخلاص من قبل الرب   [8].

الخط الواضح في هذا المزمور هو تمتعنا بالخلاص الإلهي خلال قيامة مسيحنا بالرغم من كثرة المقاومين لنا.

المسيح المُضطَهد:

1. "يارب لماذا كثر الذين يحزنوني؟" [1]. لقد طُرد داود من موضعه ومن المدينة الملوكية، وحُرم من تابوت العهد المقدس كما من شعبه؛ طرده أبشالوم الابن المتمرد الذي وضع في قلبه لا أن ينتزع عنه تاجه فحسب وإنما حياته نفسها أيضًا (1 صم 15)، لذا صار داود يشكو إلى الله ملجأه. عند هروبه صعد على جبل الزيتون في حزن شديد؛ وكان يبكي بكاء شديدًا، مغطيًا رأسه، حافي القدمين، ينشد ويصلي هذه المرثاة. بالحقيقة لم يكن ممكنًا للضيق أن يسحبه من الله بل بالعكس قاده إلى ظل قيامة المسيح ابن داود الذي اجتاز الضيق والآلام والصلب.

كان داود يتألم بسبب خطيته الخاصة بأمر أوريا الحثي، وقد أنذره الله بأنه سيقوم عليه من هو من أهل بيته (2 صم 12: 11)، لكن داود لم يفق ثقته بالله، فتحول حزنه إلى فرح، لأنه آمن بعمل الله الخلاصي.

اجتمع ضده عدد كبير من الأعداء، حتى الأصدقاء أداروا له ظهورهم [2]. هكذا تُرك المرتل وحيدًا ليجتاز المحنة؛ وبالإيمان تأكد أن الله لن ينساه. تركه الجميع – الأعداء والأصدقاء – فتمسك بالله أكثر[116].

يرى العلامة ترتليان أن هذه الصرخات إنما هي حديث السيد المسيح ابن داود مع الآب لحسابنا نحن المتألمين المتروكين كمن هم بلا عون: [اسمع منطوقات الابن مع أبيه: "يارب لماذا كثر الذين يحزنوني" كل المزامير التي تتنبأ عن شخص المسيح غالبًا ما يقدمها الابن في حوار مع الآب؛ أي تقدم لنا المسيح متحدثًا مع الله (الآب)[117]]. لقد كان للسيد المسيح أعداء كثيرون اشتركوا في صلبه، من قادة لليهود أشرار وجموع غفيرة، وأيضًا واحد من تلاميذه.

2. لاحظ داود أن غاية هؤلاء الأعداء الحاقدين هي أن يقلقوه؛ إذ قالوا له بتجديف إن الله عاجز عن أن ينقذه: "الخطر الذي يحدق به أعظم من أن يخلصه منه الله". هكذا سعوا في زعزعة ثقته بالله والخول به إلى اليأس[118].

v   "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه" [2]...

هذا هو هدفهم في أحاديثهم: "فلينزل الآن عن الصليب إن كان ابن الله"، "خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت 27: 42)...

القديس أغسطينوس

هذه هي أخطر ضربة يوجهها العدو ضدنا، يفقدنا ثقتنا في الله مخلصنا ليدخل بنا إلى اليأس. لذلك عندما كتب القديس يوحنا الذهبي الفم إلى صديقه ثيؤدور الذي أحب امرأة يهودية فكسر نذر البتولية وفقد حياته في المسيح، إنه باليأس يصفع وجه مخلصه أكثر مما ارتكبه بالزنا، لأن اليأس هي خطية إلحاد: إنكار إمكانية عمل الله الخلاصي.

مهما بلغت خطايانا، يلزمنا أن نثق في الله مخلصنا واهب المغفرة، أما إن فقدنا الرجاء فباليأس تتسلل كل الخطايا (الشياطين) إلى حياتنا كما يقول القديس فيلكسينوس.

كان تمرد أبشالوم ضد داود تأديبًا له على خطية ارتكبها، فإن الخطية وليس ثورة الابن هي التي نزعت عنه مجده وجعلته مستوجبًا الموت (2 صم 12: 7).

3. "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت" [5]. كثيرون يضطجعون ولا يستطيعون أن يناموا وذلك بسبب آلام الجسد أو قلق الفكر أو سيطرة الخوف الدائم عليهم؛ وكثيرون يضجعون وينامون لكنهم لا يستيقظون، إذ ينامون نوم الموت، كما حدث مع أبكار المصريين (خر 12: 29).

v   يمكننا بلياقة أن نلاحظ أن تعبير "أنا" هنا يشير إلى موت (المسيح) بإرادته، إذ يقول: "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا؛ ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي؛ لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 17-18).

القديس أغسطينوس

v   "يارب لماذا كثر الذين يحزنوني؟" [1]... واضح إنهم ما كانوا يقتلونه لولا عدم إيمانهم بقيامته. كلامهم نفسه يشهد بهذه الحقيقة: "إن كان ابن الله فلينزل الآن عن الصيب"، "خلص آخرين وأما نفسه فلم يقدر أن يخلصها" (مت 27: 42).

القديس أغسطينوس

إن كان هذا المزمور يشهد للمسيح المتألم القائم من الأموات، فكما يقول القديس أغسطينوس ينطبق على كنيسة المسيح أيضًا بكونها جسده (1 كو 12: 27). بمعنى آخر هو مزمور كل واحد منا نحن الذين نئن مشاركين مسيحنا آلامه، متهلليل وسط الأنين ببهجة القيامة العاملة فينا كخبرة يومية نعيشها خلال الشركة مع الله.

الرب مخلصي:

خلال الظل أدرك داود الملك بروح النبوة قوة قيامة المسيح، فصارت الآلام ليس علة لزعزعة ثقته بالله بل تأكيدًا لعمل الله الخلاصي، بكونه ترسه ومجده ورافع رأسه، رأى نفسه وهو طريد ينعم بالحضرة الإلهية كما في صهيون، كما لمس قوة الحياة الغالبة للموت.

1. حاول الأعداء زعزعة ثقة داود بالله، كما لو كان غير قادر أن ينقذه، لكن داود التصق بالقائم من الأموات، فرأى في الله ترسه ومجده ورافع رأسه [3].

أ. الله المخلص "ترسه" [3]: كانت الجماهير في صف أبشالوم، أما بالنسبة للملك داود المرذول الطريد، فكان الله هو حاميه وترسه، يخلصه من كل خطر يحدق به. الله هو المشجع له وواهب النصرة. يقول: "أنت ترسي لي" [3]. ليقولوا هم ما يشاؤون، إذ هو متأكد أن الله إلهه لن يتخلى عنه. له خبرة في التعامل، بكونه إلهه وحاميه.

v   عمل (الله) أن نغلب وننال النصرة باخضاع العدو في الصراع العظيم[119].

الشهيد كبريانوس

ب. الله مخلصه هو "مجده" [3]. صار داود في عار، فقط سقط التاج عن رأسه، وتمرد ابنه عليه، وثارت الجماهير ضده، لكن بقى الله هو مجده الداخلي وكرامته (إش 60: 19).

ج. اقتنع المرتل بأن الله هو مجده الداخلي الذي "يرفع رأسه" بالفرح فوق كل الضيقات؛ أي يرد له كرامته أمام أعدائه (إبليس وملائكته) وأمام البشر والخليقة السماوية، واهبًا إياه نصرة وخلاصًا، يسببان له بهجة!

2. طُرد داود الملك من المدينة المقدسة وحُرم من التابوت المُقام على الجبل المقدس، لكن الله الساكن هناك هو مالئ الأرض كلها يسمع صوت قلب داود الطريد أينما وُجد. بمعنى أنه لم يكن ممكنًا للأعداء إقامة هوة بين نعمة الله وداود رجل الله، القائل: "استجاب لي من جبل قدسه" [4]. بالإيمان تسلم داود رسائل سلام من الجبل المقدس بالرغم من طرده من هناك.

في (مز 2: 6) نرى السيد المسيح ملكًا على جبل صهيون المقدس، خلاله يسمع الآب صلواتنا ويستجيب لها.

الإشارة إلى جبل الله المقدس [4] كموضع هيكل الرب على الأرض مقابل الهيكل السماوي[120] تعلن بوضوح إمكانية تقديم كل مشكلة بشرية إلى الحضرة الإلهية المقدسة.

3. كان أبشالوم رمزًا للشيطان الذي يحرض الشعوب (اليهود والأمم) ضد ابن داود في معركة الكفارة. لهذا يرتل الأسقف أو الكاهن هذا المزمور في طقس دفن السيد المسيح في ختام الجمعة العظيمة، قائلاً "أنا اضطجعت ونمت" [5]، إذ دخل مسيحنا في معركة ضد إبليس الذي ظن أنه قادر على تحطيم المخلص بالموت والتخلص منه، ولم يدرك أن موته ليس إلا نوم يصحبه استيقاظ.

أطلق مسيحنا صرخات قوية في آلامه وسُمع له، لأنه الابن المطيع الذي يُسر الآب به، لهذا وإن اضطجع في القبر ونام نوم الموت لكنه حطم العدو وقام في اليوم الثالث في عدم فساد.

بدأ المرتل بمشهد ساحة المعركة، لكن على الفور ركز نظره على الرب مصدر النصرة والسلام والخلاص، وعلى بركات الرب على شعب الله. إنها معركة إلهية خلالها ننال بمسيحنا الغلبة على العدو غير المنظور، ويتحقق خلاص الله فينا، ويتبارك شعبه [8].

دُعي هذا المزمور "مزمور الصباح"، إذ يعلن داود النبي أنه قد اعتاد أن ينام في سلام كامل حتى إن اقتفى الأعداء أثره، وذلك لثقته في الرب. ونحن نصلي في كل صباح لنشكو لدى مخلصنا رذائل وشهوات كثيرة تهاجم أذهاننا بناموس الخطية. إنها تهزأ بنفوسنا، لكننا نترجاه لأنه مخلصنا.

صوت القلب:

المرتل الذي اعتاد أن يعبد الله أمام التابوت المقدس في المدينة المقدسة نراه الآن يسير بعيدًا حافي القدمين، يسكب قلبه أمام الرب الذي يستجيب له من جبل الكنيسة "مقِدسة"، كما لو كان داود وهو مطرود قائمًا داخل بيت الله أو في السماء عينها.

v   "بصوتي إلى الرب صرخت" [4]، لا بصوت جسماني يخرج محدثًا ذبذبات في الهواء، وإنما بصوت القلب الذي لا يتحدث مع البشر بل مع الله، فيخرج كصرخة. بهذا الصوت سُمعت سوسنة، ومن أجل هذا الصوت أمر الرب أن تكون الصلاة في المخدع (مت 6: 6)، حتى يتحقق هذا الصوت في أعماق القلب في هدوء... هذه هي صلاة كل القديسين، رائحة عذوبة تصعد أمام عيني الرب.

القديس أغسطينوس

يقول العلامة ترتليان[121]: [إن هذا هو صوت الكلمة الذي اعتاد أن يتحدث في الأنبياء، الآن هو يصلي لأبيه. فلو أنه صوت داود لماذا يقول "بصوتي" [4]؟ إذ لا حاجة للقول هكذا، مادام كل جسد يصرخ بصوته. إنما المسيح ينطق بهذا كي يعلن حبه، صارخًا بصوته الشخصي، وليس خلال الأنبياء، ليسأل الآب من أجلنا. ويرى القديس يوستين[122] أن الرب الذي بقى على الخشبة حتى قرب المساء ودفن وقام في اليوم الثالث هو الذي صرخ فاستجاب له.

إن كان الصراخ قد صدر عن السيد المسيح كممثل لنا واستجاب له الآب لحسابنا، فإن هذه الاستجابة صدرت "من جبل قدسه" [3] الذي هو المسيح... وكأن كل استجابة إنما تتحقق لنا خلال مسيحنا، أو خلال إيماننا به. يتحدث القديس أغسطينوس عن السيد المسيح بكونه "الجبل" قائلاً: ["استجاب لي من جبل قدسه". يستخدم نبي آخر تعبير "الجبل" ليعني به ربنا نفسه، إذ يكتب: "قُطع حجر بغير يدين... فصار جبلاً كبيرًا" (دا 2: 34-35)].

المسيح القائم من الأموات:

"أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب ناصري" [4]. يتحدث المرتل عن الهدوء الداخلي الذي يملأ أعماقه وهو مزمع أن يسترسل للنوم في رعاية الله بالرغم من المخاطر العديدة التي تحيط به، وذلك لثقته بالرب. حقًا كانت تلك الليلة حالكة الظلام، ليلة تجارب خلالها صارع كثيرًا، فازدادت بالأكثر ثقته بالرب واستقرت. خلال ليلة التجارب يشرق شمس البر في قلوبنا واهبًا إيانا الحياة المفرحة المقامة.

يتحدث المرتل عن الموت بكونه نومًا، والقيامة بكونها استيقاظًا، لأن انفصال الجسد عن النفس بالنسبة للمؤمن هو نوم مجرد ومؤقت، أما انفصال النفس عن إلهها فهو موت أبدي.

v   الخاطى وهو حيّ ميت لله؛ والبار وإن مات فهو حيّ لله. فإن مثل هذا الموت هو نوم كقول داود: "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت" [4]. ويقول إشعياء: "يستيقظ الراقدون في التراب" (26: 19). وقال ربنا عن ابنة رئيس المجمع: "إن الصبية لم تمت لكنها نائمة" (مت 9: 24)، وعن لعازر قال لتلاميذه: "لعازر حبيبنا قد نام؛ لكني أذهب لأوقظه" (يو 11: 11). ويقول الرسول: "لا نرقد كلنا ولكننا كُلّنا نتغيير" (1 كو 15: 15)، وأيضًا: "من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا" (1 تس 4: 13)[123].

الأب أفراهات

أوضح القديس يوستين في دفاعه الأول أن المتحدث هنا هو الابن[124].

v   ليس فقط يدعو قيامة المسيح إستيقاظًا من النوم على سبيل الشبه، وإنما يحسب نزول الرب إلى التجسد (إخلاء ذاته) نومًا[125].

القديس اكليمندس الإسكندري

أسنان الخطاة:

لا يقصد بها المعنى الحرفي المادي وكما يقول العلامة أوريجانوس: [واضح تمامًا أنه في هذه العبارات (مز 3: 7؛ 5: 9؛ 55: 9 الخ...) لا تُستخدم الأعضاء بقصد الجسد المنظور بأية وسيلة وإنما تشير إلى أعضاء النفس غير المنظورة وقواها].

"أسنان الخطاة هشمتها" [7].

يُشبه المتمردون ضد الملك (داود) بالحيوانات الضارية؛ أسلحتهم المقاومة تكمن في أسنانهم، لذلك يصلي داود إلى الرب كمحارب أن يحطم أعداءه وينزع عنهم سلاحهم.

يضرب الرب الأعداء بقيامته، فيكون كمن هشم أسنان الحيوانات المفترسة ليقدمهم في ضعف أمام الأطفال، يسخرون بهم.

v   "أسنان الخطاة هشمتها" [7]... أي كلمات الأشرار الذين يلعنون ابن الله فتصير كلا شيء، ينزل بها كما إلى التراب. هكذا نفهم "الأسنان" على أنها كلمات اللعنة (غلا 5: 15)...

v   يمكن أيضًا فهم أسنان الخطاة على أنها القيادات الشريرة، إذ تمارس سلطانها على الناس ليتركوا الطريق المستقيم، وينضموا إلى جماعة فاعلي الشر. هذه الأسنان تُضاد أسنان الكنيسة، التي بسلطتنها يُنتزع المؤمن من أخطاء الوثنية والأخطاء الهرطوقية، ويتحولون إلى جسد المسيح. بهذه الأسنان طُلب من بطرس أن يأكل الحيوانات عندما ذُبحت، أي بقتل ما في الأمم (من وثنية) وتحويلهم مما هم عليه إلى ما هو عليه (كعضو في جسد المسيح).

القديس أغسطينوس

الأسنان التي تُسّن ضد الله وضد شعبه تتهشم، لأن ذراع الله لا تقصر عن أن تخلص!

للرب الخلاص:

"للرب الخلاص، وعلى شعبه بركته" [8].

ماذا يعني هذا؟ لا فضل للإنسان نفسه، إنما الفضل للرب الذي وحده يخلصنا من موت الخطية.

ينتهي المزمور بنغمة النصرة. هذه الفقرة ربما كانت تُرنم كقرار تنشده كل الجماعة التي تقف أمام الرب الملك، حيث يُستعلن مجد الرب في خلاص شعبه ومباركتهم. وكما كتب القديس إيريناؤس: [مجد الله هو حياة الكائن البشري Gloria Dei Vivens homo].

يتمجد الله في الإنسان بعطية الحياة والخلاص... لذا جاء المزمور يحمل خطًا واضحًا هو أن الله مخلص شخصي للإنسان كما هو مخلص شعبه كجماعة.

v   "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه، أما أنت يا رب فترس لي، مجدي ورافع رأسي" [2-3].

ما كان للأعداء أن يترجوا تحطيم الكنيسة المنتشرة في كل موضوع لو لم يحسبوا أن الرب لا يبالي بها...

"رافع رأسي" الذي هو المسيح، لأنه إذ تأنس صار الكلمة جسدًا وحلّ بيننا (1 يو 1: 14)، أقام الكنيسة فيّه، وأجلسنا معه في السمويات (أف 2: 6). إذ يسبق الرأس ويرتفع تتبعه الأعضاء الأخرى، لأنه "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟!" (رو 8: 35). إذن بحق تقول الكنيسة: "أنت مجدي ورافع رأسي".

القديس أغسطينوس

يقارن القديس أغسطينوس بين المدينة الأرضية والمدينة السماوية المجيدة، قائلاً:

[ترفع المدينة الأرضية رأسها في مجدها الذاتي، أما السماوية فترفعها في الله: "مجدي ورافع رأسي".

في الأولى تحكم الشهوة المسيطرة على أشرافها في الأمم الخاضعة لها، أما في الثانية فأصحاب السلطة والخاضعون يخدمون بعضهم بعضًا بالمحبة؛ يقدم المسئولون مشورة ويقدم الخاضعون الطاعة.

مدينة تحب قوتها الذاتية المعلنة في قادتها الأقوياء، والثانية تقول لإلهها: "أحبك يا ربي، قوتي!" (مز 18: 1)[126]].

عندما يسخر الأعداء يستخدمون التعبير العام لله "إلوهيم" [2]، قائلين له إن الله يتخلى عنه، بينما يستخدم المرتل "يهوه" عندما يعبر عن الله الذي يدخل في ميثاق مع شعبه ويخلصهم...

إذ ننشد هذا المزمور ونحن نتألم نحسب أنفسنا شركاء آلام مسيحنا، نائلين قوة قيامته كسرّ شبع لنا من جوانب متعددة:

1. ننعم بالحياة المقامة [5].

2. نتخلص من الخوف من الأعداء الذين بلا حصر، المحيطين بنا والقائمين علينا [6].

3. تتهشم أسنان الأشرار (أي شرهم) لعلهم ينصلحون بالتوبة.

4. يتمجد الله فينا بخلاصنا [8].

5. يبارك الله شعبه [8].

بمعنى آخر يشعر داود أن خلاصه الذي ناله من الله بصفة شخصية له فاعليته لا على حياته فحسب بل وعلى حياة الأشرار الذين يشهد لله أمامهم، وعلى الشعب ككل إذ ينالون بركته.

ملاحظة: يليق بنا أن نذكر أن الحروب والمعارك الواردة في العهد القديم هي حقائق تاريخية تقدم مفاهيم روحية بالنسبة للمسيحي، متطلعًا إلى الشيطان والخطايا كأعدائه الحقيقيين.

v   ما لم تُحسب هذه الحروب الجسدية (الواردة في العهد القديم) رمزًا للحروب الروحية، ما كنت أظن أن الرسل يقدمون الأسفار التاريخية اليهودية لتُقرأ في الكنائس بواسطة أتباع المسيح... هكذا إذ يدرك الرسول أن الحروب الجسدانية تحولت إلى معارك خاصة بالنفس ضد الأعداء الروحيين لذا كقائد حربي أوصى جنود المسيح، قائلاً: "إلبسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس" (أف 6: 11)[127]]

العلامة أوريجانوس

 


 

صلاة

v   لماذا كثر الذين يحزنوني؟ ليدخلوا بي حتى إلى القبر... هناك أجدك قائمًا من الأموات، فأقوم معك!

v   لماذا يُحطمني الأعداء باليأس؟ أنت مجدي ورافع رأسي؟

v   هشّم يارب أسنان الأشرار، أما نفوسهم فخلصها!

<<

 


 

المزمور الرابع

الله برّي

العلاقة بين المزمورين الثالث والرابع:

توضح هذه المرثاة الثقة القوية في رعاية الله للأتقياء أكثر من أي سفر آخر، ويمكننا أن نطلق عليهما "أغنية الثقة"[128]!

بحسب ما ورد في الآيتين 4 و 8 يمكن أن يدعى هذا المزمور "تسبحة المساء". بهذا يرتبط بالمزمور الثالث بكونهما صلاتين للمساء والصباح، يشتركان معًا حتى في الكلمات والعبارات التي تُعتبر مفتاحًا لفهم المزمور.

"المساء" هو المناسبة التي تخص المزمور، لكن صُلْب المزمور هو الاهتمام بالسلام الداخلي في المواقف المحيرة [8]. اقتراب الليل وما يتبعه من إغراء للاسترسال في التفكير في الخطايا السابقة [4] وفي المخاطر الحالية هو الذي دفع داود النبي للإفصاح عن إيمانه، حاثّـًا الآخرين على الإيمان كالتزام شخصي للإنسان نحو خالقه الأمين[129].

تمرد أبشالوم على أبيه داود الذي كان وراء المزمور الثالث يمكن أن يكون وراء هذا المزمور أيضًا كخلفية له. فإننا نرى داود هنا كما في المزمور السابق في مهانة [2]، مُحاطًا بالأكاذيب [2] وبالسخط والكآبة [6]. ولما كانت هذه المشاعر يمكن أن تنتج عن سبب أو آخر في حياة الإنسان، لذلك يُستخدم المزمور في العبادة الجماعية كما في العبادة الخاصة[130].

اختبر داود النبي الرحمة الإلهية بكونها كنزه الداخلي وعونه القوي الذي يمكن أن يتكئ عليه على الدوام في أية ضيقة تواجهه. هذه الرحمة الإلهية منحته اتضاعًا حقيقيًا، فلا يتكل على برّه الذاتي بل على برّ الله واهب النصرة.

يحث داود النبي ابنه أبشالوم والجماهير التي تبعته دون معرفة، (إذ خدعها أخيتوفل – المفسد الحقيقي) على التوبة والتمتع بالحياة التقوية المفرحة التي يتمتع هو بها.

عنوان المزمور:

بحسب الترجمة السبعينية: "إلى النهاية مزمور لداود"

لما كان هذا المزمور يتحدث عن "الله برّي" جاحدًا البرّ الذاتي، لهذا فإن "إلى النهاية" إنما تعني "السيد المسيح" الذي هو غاية أو نهاية حياتنا، هو برنا؟

v   "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4). فإن هذه النهاية (الغاية) تعني كمالاً لا استهلاكًا!

القديس أغسطينوس

v   عندما يُقرأ المزمور وتسمع "إلى النهاية، مزمور لداود" لا تفهم هذا إلا عن المسيح، إذ يقول الرسول: "غاية الناموس هو المسيح للبر". إن جئت إلى آخر غيره أعبر عنه لكي تبلغ إلى النهاية[131].

الأب قيصريوس أسقف آرل

يرى البعض أن "إلى النهاية" تفترض أن المزمور يُرنم دائمًا، أو كثيرًا ما يُرتل؛ هذا يعني أن المزمور ذو قيمة عظيمة ونفع كبير.

وجاء العنوان في النص العبري "لإمام المغنين على ذوات الأوتار (على نيجينوث Neginoth)".

خمسة وثلاثون مزمورًا والأصحاح الثالث من سفر حبقوق موجه إلى "إمام المغنين". فقد قُسم المرتلون والمسيقيون إلى أقسام. الكل يتنبأ حسب نظام الملك (1 أي 25: 2) يستخدم البعض قيثارات لتقديم الشكر والتسبيح للرب وآخرون يستخدمون القرن. الكل يترنم في بيت الرب ويترنمون تسابيح الرب.

تقديم المزمور لشخصية متعبدة عامة تعني تقديمها للكنيسة كلها وليس لشخص واحد، إنه مِلْكٌ عام للجميع[132]!

الإطار العام Outline:

1. صرخة افتتحاية للنجدة             [1].

2. المصاعب التي تواجهه            [2-6].

3. الفرح الداخلي والسلام             [7-8].

1. الحياة البارة:

"إذا دعوت استجبت لي يا إله بري" [LXX 1]:

ربنا هو برنا؛ وكما يقول القديس بولس: "لأن غاية الناموس هو المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4).

2. الحياة المتسعة (الرحبة):

يدعونا ربنا إلى حمل صليبه والسير في الطريق الضيق. وبمشاركتنا إياه في صليبه ننعم برحابة الأفق واتساع القلب بقوة قيامته المجيدة المفرحة.

v   "في الضيق رحَّبت لي" [1]. قدتني من ضيق الحزن إلى طريق الفرح المتسع...

عندما أعلن (داود) أن اُستجيب له، في اتساع قلبه فضل الحديث مع الله (عن أن يتحدث مع أبشالوم والجماهير)، حتى أنه بهذه الطريقة يرينا كيف يكون اتساع القلب، أي أن يمتلك الله داخل القلب، فيدخل معه في حوار داخلي.

القديس أغسطينوس

v   خلال التعاون مع كلمة الله وحضوره يشجعنا ويخلصنا؛ بعون الله يصير ذهننا متهللاً وشجاعًا وقت التجربة؛ هذه الخبرة تُدعى "اتساعًا"[133].

العلامة أوريجانوس

v   مع أن طريق الملكوت ضيق وكرب بالنسبة للإنسان، لكنه متى دخله رأى اتساعًا بلا قياس، وموضعًا فوق كل موضع، إذ شهد بذلك الذين رأوا عيانًا وتمتعوا بذلك.

(يقول البشر في الطريق): "جعلت أحزانًا على قوتنا" (مز 66: 11)، لكنهم عندما يروون فيما بعد عن أحزانهم يقولون: "اخرجتنا إلى الخصب" (مز 66: 12)؛ وأيضًا: "في الطريق رحَّبت لي" [1] [134].

البابا أثناسيوس الرسولي

[لم يقل: "لم تسمح لي بالوقوع في الألم"، ولا قال: "نزعت ألمي سريعًا" إنما أكمل "أخرجتني إلى الرحب" (دا 3: 21)، أي منحتني الكثير من الحرية والراحة. هذا ما حدث فعلاً مع الثلاثة فتية، فإنه لم يمنع القاءهم في الأتون ولا أطفأ النار بعد القائهم، لكنه بينما كان الأتون يزداد التهابًا وهبهم الحرية[135]].

ببر السيد المسيح نقتني القلب المتسع، بينما خلال الخطية نُعاني من "ثقل القلب"، لهذا يضيف المرتل: "يا بني البشر حتى متى تثقل قلوبكم؟!" [LXX 2]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن "ثقيل القلب" مثقل بالارتباكات الأرضية عوض التأمل في الإلهيات (راجع لو 21: 34). ويسألنا القديس أغسطينوس أيضًا ألا ننشغل بالأرضيات، قائلاً: [هنا ربما يلاحظ أحدكم العبارة السابقة: "حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب؟" [2]، وكأنه يقول: لا تحنِّ إلى التفاهات الفارغة ولا تبحث عن الأباطيل].

اتساع القلب – في رأي القديس أغسطينوس – يُقتنى بالروح القدس الذي يسكب الحب في القلب.

على نقيض أصحاب القلوب المتسعة يوجد ثقيلوا القلب والكاذبون الذين يسعون وراء الباطل. لهذا يقول المرتل:

"يا بني البشر حتى متى تثقل قلوبكم؟!

لماذا تحبون الباطل وتبتغون الكذب؟!" [2].

من يذم المرتل ويطلق عليه الكاذيب لا يرتاب فقط في كرامته كإنسان إنما يُهاجم الله نفسه بطريقة غير مباشرة. مجد المرتل يمكن في ثقته في الله[136].

يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إن ثقيل القلب الباحث وراء الكذب لا يدعو الله السماوي أباه، إنما يدعو الكذاب وأب كل كذاب أباه (يو 8: 44).

يترجم البعض "رحَّبت لي" بـ "أعطيتني موضعًا عندما كنت في الضيق" [1]. ما هو هذا الموضع؟ إنه في حضن الآب، فإننا إذ نشارك السيد المسيح آلامه نجد موضعًا لنا في حضن الآب.

3. الحياة المقدسة:

"إعلموا أن الرب قد جعل قدوسه عجبًا" [3].

الكلمة العبرية Hasid هي إحدى كلمات عديدة تعني شعب الله، وتشير إليهم كشعب مكرس أو يجب أن يكون مكرَّسًا ومُخلِصًا لله. هنا يريد المرتل من أصدقائه كما من أعدائه أن يفتحوا عيونهم الداخلية لمعاينة مجده، طالبًا منهم أن يحولوا أفكارهم من الأحزان الخارجية إلى الرب السماوي غير المنظور، الذي ليس فقط يساعده وإنما يمجده أيضًا. ونحن أيضًا نتمجد في السيد المسيح ربنا إن قبلنا الحياة المقدسة بعمل روحه القدوس فينا.

بعد قوله: "اعلموا أن الرب قد جعل قدوسه عجبًا" أضاف "اغضبوا ولا تخطئوا" [LXX 4]، وقد استشهد القديس بولس بهذه الترجمة السبعينية في رسلته إلى أهل أفسس (4: 26).

v   يمكن فهم (هذه العبارة) بطريقتين: إما بمعنى أنه وإن غضبت فلا تخطئ، أي أنه حتى إذ ما ثار انفعال في النفس فبسبب العقوبة لا تقدر أن تتمم الخطية؛ أي لا تجعل العقل أو الذهن الذي جدده الله يخطئ. فبالذهن تخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية (رو 7: 25). وإما بمعنى قدموا توبة، أي اغضبوا على أنفسكم بسبب خطاياكم السابقة ومن الآن فصاعدًا كفوا عن فعل الخطية!

القديس أغسطينوس

v   ليتنا لا نستخدم القدرات التي وهبنا إياها الخالق لأجل خلاصنا كفرصة أن نخطئ ضد أنفسنا. لكي نوضح ذلك، الغضب متى استثير في الوقت المناسب وبأسلوب لائق يُنتج شجاعة وصبرًا وضبطًا للنفس، أما إذا اُستخدم لسبب غير لائق يصبح الغضب هنا حماقة. لذلك يحذرنا المرتل: "اغضبوا ولا تخطئوا" [5].

يهددنا الرب بإدانة من يعطي طريقًا للغضب بسهولة، ولكنه لا يمنع توجيه الغضب إلى هدفه الصحيح كعلاج[137].

القديس باسيليوس الكبير

v   كونك تغضب ليس خطية، إنما الخطية هي أن تغضب بلا سبب، لهذا قال النبي: "اغضبوا ولا تخطئوا"[138].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   ليكن لفمك باب، يُغلق عند الضرورة، وليُدعم بمزلاج محكم، فلا يقدر شيء ما أن يثير صوتك بالغضب ولا أن ترد الفساد بلفساد، فقد سمعت اليوم ما تُملى على مسمعك: "اغضبوا ولا تخطئوا"[139].

القديس أمبروسيوس

v   أي شيء أكثر برًا من أن يغضب كل أحد على خطاياه الخاصة أكثر من خطايا الآخرين، فإنه إذ يُدين نفسه يقدم ذبيحة لله؟!

القديس أغسطينوس

v   "أغضبوا ولا تخطئوا" [4]، أي لا تمكثوا في الغضب؛ أو تسترسلوا فيه[140].

العلامة ترتليان

v   "الذي تقولونه في قلوبكم اندموا عليه في مضاجعكم" [5]. بمعنى أن كل ما تفكر فيه في قلبك بسبب إثارة مفاجئة، اِصلحه وقوّمه بالندم الكامل، طارحًا إياه كما على فراش الراحة، منتزعًا كل اضطرابات الغضب وضجيجه بروح المشورة المعتدلة[141].

القديس يوحنا كاسيان

يقول المرتل: "الذي تقولونه في قلوبكم اندموا عليه في مضاجعكم" [5]. ربما تشير "المضاجع" هنا إلى أماكن الصلاة بتذلل بالانطراح أرضًا (مز 95: 6)[142]. بالتوبة نتمتع بالحياة المقدسة واتساع القلب.

v   في الليل يمكننا التذكر دائمًا، إذ تكون النفس هادئة في راحة، تكون في المساء، تحت سماء صافية[143].

v   إن فعلت هذا كل يوم، فستقف بكل ثقة أمام كرسي الدينوة المخيف[144].

v   اعتنا أن نحسب ما لدينا من أموال في الصباح، وأيضًا بعد العشاء في المساء ونحن مسترخون على مضطجعنا، حيث لا يوجد من يقاطع تفكرنا. ليتنا نطالب أنفسنا بمحاسبة كل ما نقوله أو نفعله خلال النهار، فإن وجدنا خطية ما فلنلم ضمائرنا ولنوقع تأديبًا على فهمنا وننخس عقولنا بقوة، حتى إذا ما استيقظنا في الصباح نذكر هذا التأديب الذي سقطنا تحته بالليل فلا ننقاد ثانية إلى عمق الخطية[145].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   لنحزن ونحن على مضاجعنا، أي في قلوبنا على كل سقطاتنا، لندن أنفسنا كل يوم، مشتكين أنفسنا أمام دياننا[146].

الأب قيصيوس أسقف آرل

4. الحياة المضحية (ذبيحة) The Sacrificial life:

"اذبحوا ذبيحة البرّ" [5]: يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [نل البر، اصنع البر، وقدمه ذبيحة لله].

v   الذبائح التي تقدم من خلال النفس... لا تحتاج إلى جسد ولا إلى أدوات (ذبح) ولا إلى أماكن خاصة لتقديمها، فإن كل شخص هو الكاهن، يُقدم العفة وضبط النفس والرحمة واحتمال الاضطهاد والتألم واتضاع الفكر[147].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   "اذبحوا ذبيحة البر، وتوكلوا على الرب" [5]. يقول المرتل في موضع آخر بأن ذبيحة العدل يمكن أن تنطبق على عمل الندامة. أي عدل أكثر من أن يلوم الإنسان نفسه بشدة من أجل خطاياه بدلاً من أن يلوم الآخرين على خطاياهم، فيحكم على نفسه كمحرقة لله؟

v   أو هل تشير ذبيحة العدل إلى الأعمال الصالحة التي تُمارس بعد التوبة؟ عندما يموت الإنسان العتيق أو يضعف بسبب أعمال التوبة. فالإنسان المولود من جديد عن طريق التجديد يقدم لله ذبيحة عدل؛ النفس التي تطهرت تقدم نفسها على مذبح الإيمان لكي تموت بالنار المقدسة التي هي الروح القدس.

القديس أغسطينوس

v   لقد أدركوا معرفة الوقت الذي فيه يستمر الظل (الذبائح الحيوانية) وألا ينسوا الوقت الذي كان يقترب جدًا، والذي فيه لا تقدم العجول كذبائح لله، ولا الحملان أيضًا ولا الكباش (خر 12: 5)، وإنما تتحقق هذه الذبائح بطريقة روحية طاهرة، خلال (ذبيحة) الصلاة الدائمة والحوار المستقيم بكلمات تقوية. وكما يترنم داود قائلاً: "ليكن تأملي موضع سروره؛ لتستقيم صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يديّ كذبيحة مسائية" (راجع مز 104: 34؛ 141: 2). يقول أيضًا الروح الذي في (داود) موصيًا: "قدموا لله ذبيحة التسبيح، أوفوا للرب نذوركم؛ قدموا ذبائح البر وتوكلوا على الرب" (مز 50: 4؛ 4: 5)[148].

البابا أثناسيوس الرسولي

تقديم ذبيحة البر تعني أيضًا انفتاح القلب تجاه الغير، فلا يقف الإنسان عند الجهاد بنعمة الله في التوبة وممارسة البر وإنما أيضًا يحث الآخرين على الاتكال على الله للتمتع بذات الخبرة؛ لذلك يضيف المرنم:

"كثيرون يقولون: من يرينا الخيرات؟

قد أضاء علينا نور وجهك يارب" [6]

أدرك المرتل أن كثيرين حوله معرضون لخطر الاستسلام لليأس الشديد وإلى تجارب مؤلمة، فهم يُستهلكون في انفعالاتهم وشعورهم بالضيق متساءلين: ماذا يفعل الله في هذا الأمر؛ "من يرينا الخيرات؟" يرشدهم المرتل ليتمتعوا بنفس الخيرات التي نالها هو، موقظًا فيهم فرح الرب كهبة إلهية.

يقول واضع كتاب "الدرجات": [هؤلاء الذين يحاربون الشيطان ويهزمونه، يستحقون هذه الكنيسة العليا التي فوق الكل، هذه التي فيها يشرق ربنا بوضوح، ويتقبلون نور وجهه المجيد[149]].

5. الحياة المفرحة في المسيح:

"ملأت قلبي سرورًا" [7]: القلب في لغة الكتاب المقدس يعني مركز الروح الإنسانية التي تنبع منها المشاعر والأفكار والدوافع والشجاعة والعمل[150].

الفرح الداخلي والبهجة والسلام والأمان كلها هبات إلهية، تُعطى للذين يعترفون بأن الله هو برّهم، حتى في لحظات ضيقهم. ففرح النبي كان أعظم بكثير من الذين كانوا ضد الله وهم في وقت الحصاد.

6. الحياة المستنيرة:

"قد أضاء علينا نور وجهك يارب" [6]. ففي السيد المسيح تستنير النفس وتُختم بنور وجهه بهذا يتحقق اصلاحنا وننال صورة الله ونصير على مثاله.

لقد أضاء وجه موسى النبي عندما دخل في علاقة وثيقة مع الله.

v   "قد أضاء علينا نور وجهك يارب" [6]... لقد انطبع علينا كما تُطبع صورة الملك على العملة، كقول المرتل. فقد خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، لكنه بالخطية شوّه هذه الصورة (تك 1: 26). لذلك يجب أن يُختم صلاحه الدائم والحقيقي بالتجديد.

القديس أغسطينوس

7. في وحدانية الفكر In Singleness (Single-Minded):

"لذلك أنت يارب بوحدانية In Singleness اسكنتني على الرجاء" [LXX 9]. يقول أنسيموس الأورشليمي: [إن ربنا قد صار وحيدًا في صلبه، فريدًا في مجده]. ويقول القديس أغسطينوس: [إن المؤمنين في العصر الرسولي كانوا قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة (أع 4: 32)]؛ ونحن أيضًا يلزمنا أن نكون محبين للأبدية والوحدة ما دمنا نرغب في الدخول إلى حضن الله الواحد.

اقتراب المرتل إلى الله سمح له بتحذير الذين ابتعدوا عن الله لكي يرجعوا ويتحدوا معه [3-6]، هذا الاقتراب أيضًا جعل من المرتل نموذجًا لتمتع بالبركات الإلهية [7-9][151].

 

 


 

صلاة

v   ما أعذبك أيها الضيق... خلالك يهبني مسيحي المصلوب القلب الرحب المتسع بالحب لكل البشرية!

v   هب لي أيها الحب الإلهي أن أغضب ولا أخطئ! أغضب لا على أخوتي بل على خطاياي... فأُدين نفسي! قدس أيها الحب غضبي!

v   بقيامتك أشرقت يا شمس البر على وجهي ببهائك وجلالك، وأفضت ببهجة خلاصك في قلبي، واشبعتني بدسم حبك، ووهبتني سلامك الفائق! قيامتك هي بهائي وبهجتي وشعبي وسلامي!

<<

 

 

 


 

المزمور الخامس

ضد المسيح (المجدَّف ورجل الماء)

في هذه المرثاة، يحوّل داود النبي اهتمامه إلى أختيوفل المستشار الشرير لأبشالوم، والمشبَّه بضد المسيح (6). يُظهر المرتل هنا التضاد بين أمان البيت الله (8-9؛ 12-13) والخطر الذي يُلحق بمصاحبة الشرير (5-7؛ 10-11). يقارن المرتل بين نفسه وأخيتوفل، بكونه رمزًا للكنيسة – بيت الله الروحي – المتحدة مع ابن داود، والتي تدخل في معركة مستمرة مع ضد المسيح؛ بينما يمثل أخيتوفل ضد المسيح واتباعه الشعب الشرير.

صلاة هذه المرثاة، صلاة شخصية عميقة؛ تمس في نفس الوقت حياة المؤمن بكونه عضوًا في الكنيسة الواحدة. وكما سبق فقلت إننا في عبادتنا لا يمكننا أن نفصل حياتنا الشخصية عن الحياة الجماعية. هنا يبدأ المرتل بدعاء شخصي، فيقول: "كلماتي، صراخي، ملكي وإلهي" [1-2]، ويختتم المزمور باتجاه جماعي، فيقول: "يفرح جميع المتكلين عليك، يبتهجون إلى الأبد" [11]. هذه المرثاة تخص كل شخص أيّا كان عمره، كما تخص الكنيسة ككل.

من بين الخمس مقطوعات الشعرية stropes للمزمور تتحول ثلاث منها بالكامل نحو الله تتخللها مقطوعتان هما شكوى ضد العدو مقدمه لله بانفعال. وقد جاء المزمور ككل يفسر روح الصرخة الواردة في الآية "ملكي وإلهي"[152].

هذا المزمور يسندنا عندما نكون في أسوأ أزمات الخيانة التي قد تحدث من أحد أفراد الأسرة أو من الجماعة.

نسبح بهذا المزمور كل صباح في صلاة باكر لنمتلئ رجاءًا.

يبدو أن هذه المرثاة الصباحية كانت تردد في الهيكل مرتبطة بطقس الذبيحة الصباحية (3، 7؛ 2 مل 3: 20؛ عا 4: 4)[153].

يصنف Dahood هذا المزمور ضمن "مزامير البراءة Psalms of Innocence" (مز 5؛ 17؛ 26؛ 139). لم يفكر المرتلون والأنبياء أن ينكروا خطاياهم قط، إنما كانوا يتضرعون لكي يخلصوا منها؛ فلا تقوم براءتهم على برّهم الذاتي، وإنما تعتمد على النعمة التي صارت لهم عند الله، خلال رغبتهم الصادقة للاتحاد معه. بمعنى آخر كانوا أبرياء من جهة الاتهامات الباطلة التي اعتاد الأشرار أن يثيروها ضدهم.

الإطار العام:

1. توسل إلى الرب                   [1-3].

2. لا اتفاق بين الله والشر             [4-6].

3. البار يعبد الله                      [7-8].

4. الهتاف الليتورجي والبركة         [12-13].

عنوان المزمور:

جاء عنوان المزمور في العبرية: "لإمام المغنين على ذوات النفخ Nehiloth، مزمور لداود"، وفي الترجمة السبعينية: "حتى النهاية، للوارثة، مزمور لداود".

1. لشرح "لإمام المغنين" أنظر شرح المزمور الرابع: عنوان المزمور.

2. تُشرح كلمة Nehiloth بطرق مختلفة:

* يعتقد البعض أنها تعني "جيوشًا"؛ هذا يقتضي أن تكون الكلمة السابقة لها هي "ضد" أو "مقابل" وليس "على upon"؛ لكي تُقرأ "لإمام المغنين، ضد الجيوش". يفترض هذا التفسير أن هذه الأنشودة يُسبَّح بها مقابل فرق الأعداء التي قامت لتهاجم المدينة؛ لكن هذا الرأي يرتكز على أساس واهٍ جدًا[154].

* يظن البعض أن كلمة Nehiloth هي الكلمة الأولى لأغنية ما مشهورة، تدل على اللحن الذي يُغنى به المزمور.

* يترجمها البعض "آلات نفخ"، لتقابل كلمة Niginoth في المزمور السابق بمعنى "آلات وترية".

* يضع البعض كلمة "وارثة" بدلاً من كلمة "Nehiloth"، معتمدين في ذلك على العنوان الوارد في الترجمة السبعينية، بفرض أن داود هنا يدعو الأسباط الإثنى عشر وارثة، وأن هذا المزمور هو صلاة لأجل شعب إسرائيل[155].

3. جاء العنوان في الترجمة السبعينية "إلى النهاية". وكما يقول القديس أغسطينوس: ["لأن غاية (نهاية) الناموس هي المسيح، للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4)، ومع ذلك فإن هذه النهاية تعني الكمال لا الفناء]. ويعلق القديس جيروم، قائلاً: [الوعد بميراثنا لم يحدث في البداية بل في نهاية العالم... هذا بالتدقيق ما يعنيه الرسول يوحنا بقوله: "يا أولادي الأحباء، إنها الساعة الأخيرة" (1 يو 2: 18)].

4. يعلق كثير من آباء الكنيسة على كلمة "الوارثة" الواردة في العنوان حسب الترجمة السبعينية، مثل:

* يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن المرتل يتكلم لحساب العروس، ليشفع في البلاط الملكي، مخبرًا إيانا عمن يشفع فيها ألا وهي "الوارثة"، هذه الوارثة هي الكنيسة[156].

v   لأنه ماذا تطلب الوارثة؟ لنسمع: "انصت يارب لكماتي" [1]. إنها تدعو عريسها "ربها"، لأن هذا هو واجب العروس الكاملة المهيأة حسنًا! إن كان هذا يحدث كأمر طبيعي بين البشر، إذ تدعو الزوجة زوجها "يا سيدي"، فكم بالحري يكون حال الكنيسة مع السيد المسيح الذي هو بالطبيعة الرب حقًا[157]؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يقول القديس جيروم: [بإن داود يرتل باسم الكنيسة[158]؛ وأنه يركز على ضد المسيح وأتباعه، الذين يقاومون الكنيسة "الوارثة"، لكن تنتهي المعركة بنصرتها ومجدها وتمتعها بالميراث الأبدي.

* يقول القديس أوغسطينوس: [إن كنيسة العهد الجديد نفسها هي ميراث المسيح، فهي أيضًا تنال الميراث الأبدي.

v   تُدعى الكنيسة بدورها ميراث الله في النص الأصلي: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثك" (مز 2: 5)؛ لهذا يُدعى الله ميراثنا، لأنه يسندنا ويحتضن كياننا، ونُدعى نحن ميراث الله لأنه يملك علينا ويدبر حياتنا. لهذا فإن هذا المزمور هو أغنية الكنيسة التي دُعيت لترث ومن أجل أن تكون هي نفسها ميراث ربنا.

v   الكنيسة هي المعنية، هذه التي تتقبل ميراثها حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا، فتقتني الله نفسه، بالتصاقها بذاك الذي لأجله تتبارك، وفقًا للعبارة: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (مت 5: 5)...

القديس أغسطينوس

جاء عنوان هذا المزمور في السريانية هكذا: "صلاة في شخص الكنيسة عندما تأتي مبكرًا في الصباح إلى بيت الرب"، لكن هذا تفسير وليس ترجمة لنص العنوان[159].

بحسب ما ورد في المزمور (142: 5)، ميراث الكنيسة هو ربنا نفسه: "أنت هو رجائي، نصيبي في أرض الأحياء".

داود رمز الكنيسة الوارثة:

1. رجل الصلاة والتأمل: لقد أقترب إلى الله، الذي يصرخ إليه على الدوام، فإنه يشتاق لا أن تصل إليه كلماته فحسب، وإنما أن ينصت الله إلى صوت صلاته الداخلية [1].

v   "اَنصت يارب لكلماتي" [1]. ما من أحد له مثل هذه الثقة إلا الكنيسة، فالخاطي لا يجسر على القول: "انصت يارب لكلماتي"... بل بالحري يترجى ألا يشاء الله أن يسمعه...

"أفهم (تأمل) صراخي" [1]: كلمة "صراخي في الكتاب المقدس لا تعني صرخات الصوت بل القلب". وقد قال الله بالحقيقة لموسى: "مالك تصرخ إليّ هكذا؟!" (خر 14: 15)، بينما لم يتفوّه موسى بأي صراخ على الإطلاق... على نفس الوتيرة جاءت كلمات إرميا: "لا تعطِ لعيني راحة" (مرا 2: 18). لاحظ ماذا يقول: لا تسمح أن تصمت حدقة عيني... إذ أحيانًا تصرخ حدقة أعيننا ذاتها إلى الله[160].

القديس جيروم

v   يكشف المرتل عما تكون عليه تلك الصرخة، وكيف تصدر عن عمق الداخل، عمق القلب، دون صوت جسداني؛ فتصل إلى الله، فإن الصوت الجسداني يُسمع أما الروحاني فيُفهم: "أفهم صراخي".

القديس أغسطينوس

صرخ داود ثلاث مرات، سائلاً الله أن يسمع صلاته، قائلاً:

"انصت يارب لكلماتي،

وافهم صراخي.

اصغ إلى صوت طلبتي يا ملكي وإلهي" [1].

يذكر انسيموس الأورشليمي أن داود كممثل للكنيسة يشير في صرخته إلى الثالوث المقدس (يارب، يا ملكي وإلهي). فتدعو الكنيسة الآب "يارب"، وليس "ياربي"، لأن اليهود أيضًا يعرفونه معها، وأما الابن والروح القدس فتنسبهما إليها "ملكي وإلهي"، لأنها الوحيدة التي تعرفت عليهما.

التكرار ثلاث مرات هنا يشير إلى شدة محبة داود ولجاجته في الصلاة. لقد كشف بتعبيراته المختلفة عن شكاواه العديدة. وهذا يدل على أنه لم يُصِلّ بفتورٍ مكتفيًا بكلمات قليلة، وإنما كان جادًا في عرضه مصائبه أمام الله بسبب شدة حزنه.

2. يقول المعلم دانيال الصالحي: [تأمل كيف لم يُسم (داود) نفسه ملكًا في صلاته، لكنه عرَّى نفسه من العظمة الملوكية، ودعا الله ملكه وإلهه؛ موضحًا أنه ليس ملك بالحقيقة إلا الله وحده. فإن من كان تحت سلطان الملك لس بملك. فيقول داود النبي: "ملكي وإلهي" يعني: "أنت هو الملك وحدك"].

إذ كان أبشالوم يطارد أباه، لا ليسحب منه العرش فحسب بل ويحرمه الحياة عينها، صرخ داود الملك: "روحك القدوس يهديني إلى الاستقامة... عرفني يارب الطريق التي أسلك فيها لأني إليك رفعت نفسي" (مز 143: 8-9). وكأنه يقول: "إنني محتاج إلى روحك القدوس يقودني إلى الطريق الملوكي... يرفعني بالصليب إليك فأحيا كملك مرتبط بملِك الملوك". إني عاجز عن حماية العرش وحراسة القصر الملوكي، لكن بك أدخل إلى نعمة الملوكية أيها الملك الحقيقي وحدك!

3. لقد وثق أنه حتى في المستقبل يقترب إلى الله بعد أن صار مطرودًا من بين شعب الله، محرومًا من المدينة المقدسة، ومن بيت الله. ربما اعتاد داود النبي على الدخول إلى بيت الله كل يوم، خاصة في الصباح، ليقف أمام الرب، حتى يفتقده الله بنفسه ويحرسه [3].

"بالغداة (في الصباح) استمع صوتي،

بالغداة أقف أمامك وتراني" [2].

الصباح بلا شك هو الوقت الطبيعي للصلاة (مز 88: 13)، ولخدمة الهيكل (خر 29: 38-40؛ لا 6: 12-13؛ 2 مل 3: 20). في الحقيقة ذبيحتا الصباح والمساء في الهيكل هما الأساس الذي قام عليه نظام صلاة التسبيح ورفع البخور عند المسيحيين صباحًا ومساءً وقد ارتبط بتقديم البخور لله.

الصباح أيضًا هو رمز تحرير الشعب من مصر (خر 14: 20-24)، ومن الآشوريين (إش 37: 36)، ومن الليل أو من ظلمة الخطية. ويعتبر السحر أو الصباح أفضل وقت للصلاة: "يارب... كن عضدنا (قوتنا) في كل صباح" (إش 33: 2). مراحم الرب جديدة في كل صباح (مرا 3: 23) هذه التي نتوقع نوالها في صلواتنا (الصباحية). هذا الأمر يتكرر في كثير من المزامير، فإن مراحم الرب تُتوقع غالبًا في الصباح (مز 59: 16؛ 90: 14)، وفي الصباح يُعين الله المدينة المقدسة وينقذها من السقوط (مز 46: 5؛ 101: 8).

ربما يشير الصباح إلى تدخل ملاك الله ضد سنحاريب (2 مل 19: 35)، وربما إلى القيامة، عندما يتحدث المرتل عن الاستيقاظ في حضرة الرب (مز 3: 5؛ 17: 15)[161].

التبكير في الصلاة هو السعي الدؤوب الجاد لطلب الله، قبلما أن نسأل الآخرين المساعدة؛ الإنسان الذي يقدم باكورة أفكار اليقظة لله لا يحجم عن أن يكرّس له بقية ساعات النهار الأخرى.

v   تُتلى الصلوات باكرًا في الصباح لكي تُكرَّس للرب كل الحركات الأولى التي للنفس والعقل، فلا يكون لنا أدنى اهتمام آخر خلاف تهليلنا وفرحنا وشبع قلوبنا بالتفكير في الله، كما هو مكتوب: "تذكرت الرب فابتهجت" (مز 77: 4) (الترجمة السبعينية)، ولكي لا يتثقل الجسد بأي عمل آخر قبل إتمام الكلمات: "لأني إليك أصلي يارب، بالغداة (في الصباح) استمع صوتي، بالغداة أقف أمامك وتراني" [2] [162].

القديس باسيليوس الكبير

v   يشرح بعض المفسرين هذه الكلمات ببساطة هكذا: أنهض في الفجر للصلاة والتضرع إليك...

اصغ إلى ما تعنيه هذه الكلمات حقًا: طالما أنا تائه في ظلمة الخطأ لا تسمعني (يارب)؛ لكن إذ تشرق شمس البر (السيد المسيح) في قلبي تسمع في الصباح صوتي...؛ فقط حينما تبدأ ظلمات الليل أن تنقشع عني تسمع صوتي، في للحظة التي أبدأ في عمل الخير تسمع صوتي دون أن تنتظر حتى النهاية.

v   بينما تخترق أشعة الفضيلة نفسي أقف أمامك؛ لست أجلس ولا أرقد بل أقف. "وأنت تُثبِّت خطواتي بقوة على الصخرة" (مز 39: 3)، فأستحق تدريجيًا أن أراك[163].

القديس جيروم

v   الشر والخيانة والكذب والقتل والخداع وما أشبه ذلك ترتكب في الليل الذي يجب أن يعبر قبل بزوغ الفجر الذي فيه يُستعلن الله...

ماذا يعني: "سأقف" وليس "أرقد"؟ ماذا يعني الرقاد إلا نوال الراحة على الأرض بطلب الملذات الأرضية؟

يقول المرتل: "أقف... أرى"؛ فعلينا أن نضحي بأمور هذا العالم إن كنا نود رؤية الله؛ إذ هو منظور فقط بنقاوة القلب!

القديس أغسطينوس

يقول أُنسيمس الأورشليمي: [إن المرتل يقصد هنا بكلمة "الصباح" العبادة المسيحية، لأن اليهود الذين كانوا تحت ظلال الناموس اعتادوا الاحتفال بالفصح عن المساء، أما الآن فقد أشرق شمس البر بالتجسد، فنعبده في الصباح، مستنيرين بأشعته الإلهية. يمكننا القول بأن الفصح المسيحي الجديد قد تحقق في الصباح بقيامة مخلصنا، هذا الذي أباد الموت وحطم قوة الشيطان.

يقول المعلم دانيال الصالحي [إن روح النبوة يخبرنا بأسرار جسيمة وإلهية على لسان الطوباوي داود... وأن هذا الملك والنبي بعدما دعا (عمانوئيل) في المزمور الأول شجرة مثمرة عديمة الفساد، وفي المزمور الثاني أنذر به مولودًا أزليًا، وفي المزمور الثالث سماه ربًا وإلهًا ومخلصًا، وفي المزمور الرابع دعاه صالحًا ونور وجه الآب؛ يسأل المرتل في هذا المزمور الخامس طالبًا ومتضرعًا بروح النبوة أن يخرج من ليل الناموس، ويأتي إلى الصباح المضئ المبهج الذي هو كلمة الآب الأزلي... يُريد أن يعلمنا أن عمانوئيل مدعو صباحًا، لأنه هو النور الحقيقي الذي لا تشوبه ظلمة ليل قط، وهو القادم بعد ليل الناموس المظلم. هذا هو الصباح الذي سماه يوحنا: "النور الحقيقي الذي يضيئ لكل إنسان آت إلى العالم"، وظلمة الناموس لم تدركه...

هكذا قد جاء سيدنا ذاك الصباح والنور الحقيقي بعدما أسودَّ العالم في ظلام الخطية...

قال مصباح الحياة: "أنا نور العالم"، ثم زاد فقال: "من يأتي ورائي لن يمكث في الظلمة لكنه يجد نور الحياة"].

كان المرتل يتطلع بثقة إلى فوق منتظرًا استجابة الله لصراخه. هذا التصوير مأخوذ عن وضع إنسان في برج مراقبة ليعلن عن اقتراب رسول عائد أو عن تحركات أي شخص آخر. هكذا توصف حالة العقل في موضع آخر بالأنبياء، فيقول حبقوق: "وعلى البرج أقف، على الحصن انتصب وأراقب لأرى ماذ يقول لي" (2: 1)؛ وميخا يقول: "ولكني أراقب الرب، أصبر لإله خلاصي؛ يسمعني إلهي" (7: 7).

4. يتجاسر المرتل فيدعو الرب [1]، إذ يقف أمامه كل صباح في بيت الرب. يقابل ذلك، لا يستطيع الأشرار أن يطلبوه لأنهم لم يقبلوا الدخول في قدسه كضيوف عنده يسكنون معه [4].

يدرك المرتل قداسة الرب ويعيها جيدًا، لهذا يحفظ نفسه بعيدًا عن الأشرار الكذبة المخادعين سافكي الدماء.

"تهلك كل الناطقين بالكذب.

رجل الدماء والغاش يرذله الرب" [6].

الكذب والغش وكل الخطايا لا تؤذي الله، إنما تحطم الذين يمارسونها. يعلق الأب ثيؤدورت أسقف قورش على العبارة السابقة قائلاً: [لا شيء يؤذي الله الذي لا يمكن أن يتدنس[164]].

v   إذ يعطي (الكذبة) ظهورهم للوجود الحقيقي (الحق) يتحولون إلى اللاوجود (الكذب الباطل).

القديس أغسطينوس

v   يلزمنا أن نكون دائمًا حذرين حتى لا نسقط في الكذب، لأن كل من يكذب لا علاقة له بالله... إذ يأتي الكذب دائمًا من الشيطان، إذ مكتوب عنه: "إنه كذاب وأبو الكذاب" (يو 8: 44)... أما الله فهو الحق، إذ يقول: "أنا هو طريق والحق والحياة" (يو 14: 6). لننظر الآن كيف نحرم أنفسنا خراجًا، وماذا يكون مركزنا بالكذب، بلا شك نصير أتباع الشرير. لذلك إن أردنا أن نخلص، يلزمنا أن نحب الحق بكل قلوبنا ونحفظ أنفسنا من كل أنواع الباطل، فلا ننفصل عن الحق بكل قلوبنا ونحفظ أنفسنا من كل أنواع الباطل، فلا ننفصل عن الحق والحياة.

v   لنهرب من الباطل (الكذب) يا إخوة، فنخلص من أيدي العدو، ولنجاهد أن نتمسك بالحق فنتحد بذاك القائل: "أنا هو الحق" (يو 14: 6). ليت الله يجعلنا مستحقين للحق الذي له[165].

الأب دوروثيؤس من غزة

5. بيت الله ملجأ المرتل، وعبادته هي درعه:

"أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك،

وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك" [7].

يقول داود إن الإنسان التقى يعبد الله متجهًا نحو الهيكل الرب المقدس، إذ كانت العادة قديمًا أن تكون الصلاة موجهة نحو قدس الأقداس أينما كان المتعبدون (1 مل 8: 30، 38، 42؛ دا 6: 10). بعد خراب أورشليم، في المجامع اليهودية في الجليل، كان المؤمنون يؤدون العبادة متجهين نحو أورشليم.

v   "إلى الأبد يهتفون وتحل فيهم" [11].

طوبى للذين يصيرون خيامًا للمسيح!...

من يحب الرب يبتهج في الرب![166]

القديس جيروم

v   سأدخل بيتك (مز 5: 7) كحجر في البناء. هذا هو المعنى على ما أعتقد، وإلا ماذا يكون بيت الله إلا هيكل الله الذي قيل عنه: "لأن هيكل الله مقدس، الذي أنتم هو" (1 كو 3: 17)؟ البناء الذي فيه (الرب) هو رأس الزاوية (أف 2: 20)، الذي هو قوة الله وحكمته شريك الآب في الأزلية.

القديس أغسطينوس

ربما يُعّبِر داود هنا عن اقتناعه بأن نفيه لن يدوم طويلاً، معنًا تصميمه على انتهاز أول فرصة للدخول إلى بيت الله. في كل هذا كان متضعًا، لا يعتمد على استحقاقه الذاتي أو حكمته أو قوته، بل على كثرة مراحم الله: "وأما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك" [7]؛ والجدير بالذكر أن مخافة الله والعبادة لا ينفصلان: "وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك" [7].

6. الله هو القائد:

"اهدني يارب بعدلك،

من أجل أعدائي سهل أمامك طريقي" [8].

إذ يقودنا الرب نكون في مأمن من أعدائنا الروحيين. حقًا يخضع العالم للظلم، لكن الله العادل يعتني بأولاده، مظهرًا لهم رحمته ويدافع عنهم ويحفظهم. نحن نتضرع إليه أن يقودنا أمامه أو أمام عينيه، متوسلين إلى كِلّي المعرفة أن يرشدنا وأن يفحص طرقنا.

في محبته الإلهية إذ يهدينا يقدم لنا نفسه "الطريق" طريقًا لنا، سهلاً، لا يقدر الأعداء على مقاومته. طريقه هو الصليب يصير طريقنا، يحمل عذوبة خاصة وسهولة لأجل شركتنا مع المصلوب!

من أجل العدالة الإلهية حمل مسيحنا الصليب، لتُعلن رحمته كلية لعدالة، وعدله كليّ الرحمة؛ ناسبًا صليبه إلينا بكونه طريقنا الملوكي واهب النصرة.

v   لقد أُمرنا أن نظهر له طرقنا، فتكون معروفة، فإنها لم تصر مستقيمة بجهادنا الذاتي، وإنما بمعونته ورحمته. لذلك كُتب: "اجعل طريقي مستقيمًا أمامك"، حتى ما يكون مستقيمًا عندك أحسبه أنا أيضًا مستقيمًا...

سلم للرب أعمالك، فتستقر أفكارك. عندما نعهد للرب معيننا كل ما نعمله، تستقر كما على صخرة ثابتة صلدة، وننسب كل شيء إليه[167].

القديس جيروم

7. الله هو مصدر البركة في حياة الإنسان. "لأنك أنت باركت الصديق يارب" [12]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن الصديق لا تهمه إهانات الناس له، لأن الله نفسه يباركه. ما المنفعة إن أكرمه العالم ولم يكرمه الله؟

8. وفقًا لمشيئة الله مسار يوم الصديق دائمًا مُفرح، ينال الصديق الأمان والبركة [11-12].

9. الله هو درعه وإكليله [12].

"مثل سلاح المسرة كللتنا"، وفي الأصل العبري: "كأنه بترسٍ تحيطه بالرضا". وكأن ترسنا هو مسرة الله أو رضاه!

يقول القديس جيروم: [في العالم، الدرع شيء والإكليل شيء آخر، ولكن مع الله هو نفسه درعنا وهو إكليلنا]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن حياتنا هي معركة روحية، يجب أن نكون مستعدين، لأن الشيطان يفعل كل ما في وسعه كي يحثنا على الخطية.

v   كُتب في المزمور: "يارب، كللتنا باحسانك كما بترس" [12]. فإننا ننال نصرتنا وإكليل نصرتنا بحمايته بواسطة ترسه. نحن هنا نجري لكي ننال هناك، حيث نتسلم الإكليل بكوننا قد برهنا في هذا العالم أننا غالبون[168].

القديس جيروم

أخيتوفل رمز لضد المسيح محطم الميراث:

1. شرير:

"لأنك إله لا تشاء الإثم،

ولا يساكنك من يصنع الشر" [4].

ضد المسيح وأتباعه أشرار، أما الله فقدوس ليست له مسرة في أي شر؛ لا يستطيع إلا أن يحب من هم على صورته (البر)، ولا يستطيع إلا أن يرفض صورة الشرير. الله والشر لا يمكن قط أن يجتمعا معًا، لأنه "أي شركة للنور مع الظلمة؟ أي اتفاق للمسيح مع بليعال؟" (2 كو 6: 14-15). ويقول القديس جيروم: [الله نار، نار آكلة (تث 4: 24)؛ وكل إنسان قشًا كان أو خشبًا يهرب بعيدًا عن النار لئلا تحرقه[169]]. لم يقل المرتل "هؤلاء الذين هم مذنبون بفعل الخطية" بل قال "من يصنع الشر"، أي يُصرّ على الخطية.

2. متكبر [5]: لا يقترب إلى الله، بل على العكس يتمرد ضده وضد كنيسته. التمرد ضد الله يُرى في جميع الاتجاهات، يُمارَس العنف على الأرض تحت قيادة ضد المسيح.

3. غاش [6]:

"تُهلك كل الناطقين بالكذب

رجل الدماء والغاش يرذله الرب" [6].

يقول القديس أكليمندس السكندري: [يدعوه إنسانًا كاملاً في الشر، بينما يُدعى الرب إنسانًا كاملاً في البر (2 كو 11: 2)[170]].

يقول القديس جيروم: [الإنسان الي يكذب يكون أكثر بئسًا وتعاسة ممن يفعل الشر. وإن كان فاعل الشر يخضع لكراهية الله، فالكذب يهلك تمامًا: "الفم الكذاب يذبح النفس" (حك 1: 11)[171]].

4. رجل دماء [6].

5. حنجرته قبر متسع مفتوح، منه ينبعث الموت [9]. اختبر داود أن اللسان مميت كالسيف. لقد ركَّز على فم ضد المسيح كمصدر تجديف يعلن عن شره الداخلي.

الحنجرة الشريرة قبر متسع لا يكتفي قط ولا يشبع. إنها قاسية كالقبر، تتحفز لكي تفترس وتبتلع، نهِمَة القبر، الذي لا يقول قط "كفى!" (أم 30: 15-16).

v   اسمع، كيف يجعل الناس من ألسنتهم آلة، البعض يستخدمونه للخطية والآخر للبر! "لسانهم سيفٌ ماضٍ" (مز 57: 4). ويتكلم آخر عن لسانه، قائلاً: "لسان قلم كاتب ماهر" (مز 45: 1). الأولون يسبب لسانهم هلاكًا، والآخر كتب الناموس الإلهي. لهذا حُسب الأول سيفًا والأخر قلمًا، لا بحسب طبيعته وإنما بسبب اختيار من يستخدمه؛ لأن طبيعة لسان هذا أو ذاك واحدة، لكن العمل الذي يقوم به ليس واحدًا[172].

v   لا نعجب إن اتبع هؤلاء الهراطقة حكمة الأمم، لكننا نهزأ بهم إذ يتبعون معلمين أغبياء... هم عظماء في مواقعهم، ينمون في التواءٍ جميل، يختفون وراء ثيابهم الفلسفية؛ هكذا تنتشر فلسفتهم، لكن إن تطلعت في داخلهم تجد ترابًا ورمادًا، لا شيء سليم، "حنجرتهم قبر مفتوح"، كل ما لديهم مملوء دنسًا وفسادًا، وكل تعاليمهم دود[173].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   الهراطقة ليس لهم المسيح الحق على شفاههم، إذ لا يحملونه في قلوبهم. قلبهم باطل (مز 5: 10)... ينطقون بالتقوى ويخفون ضلالهم. يتكلمون عن المسيح ويخفون ضد المسيح، عالمين أنهم لن ينجحوا في غوايتهم قط إن جاهروا بضد المسيح. يقدمون النور إنما لكي يخفوا الظلمة؛ بالنور يقودون الغير إلى الظلمة[174].

القديس جيروم

v   يستخدم المرتل عبارة رائعة: "قبر مفتوح"، لأن الطمع واسع لا يشبع على خلاف القبور التي تُغلق بعد دفن الجثمان...

هم أنفسهم يقدمون كلامًا بلا حياة، لأنهم محرومون من حياة الحق؛ يبتلعون الأموات الذين قتلتهم أولاً كلماتهم الكاذبة وقلوبهم الماكرة، وبعد ذلك يسحبونهم (كجثث) في داخلهم.

القديس أغسطينوس

v   كما هو الحال مع كثيرين الآن، يزينون أنفسهم من الخارج، لكنهم مملوئين شرًا من داخل. توجد أنماط وأشكال عديدة للطهارة الخارجية، بينما نفوس هؤلاء لا تملك ما يبدو عليها في الظاهر. بالحقيقة إن فتحَ إنسان ضمير أحدهم يجد الكثير من الدود مع الفساد، يجد رائحة كريهة لا يُعبر عنها تتوارى خلف الفاظ منمقة، شهوات شريرة حيوانية، أعني ما هو أكثر دنسًا من الدود[175].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   أفواه مثل هؤلاء إذ تُخرج كلمات موت ودمار تُدعى قبورًا، هكذا كل من يتكلم ضد الإيمان الحق أو يعارض تعليم الطهارة والعدل والاعتدال[176].

العلامة أوريجانوس

6. مُرّ المذاق [11]: ينال الأبرار عذوبة الله بينما يجده الخطاة مرًا في أفواههم.

v   "لأنهم أغاظوك يارب" [10]. يقول ربنا: "أنا هو خبز الحياة الذي نزل من السماء" (يو 6: 51)؛ "ذوقوا وانظروا ما أطيب (أحلى) الرب" (مز 34: 8)؛ أما بالنسبة للخطاة فإن خبز الحق مُرّ المذاق. لهذا يكرهون الفم الناطق بالحق، ويجدون الله مُرًّا. لأن الخطية جعلتهم مرضى للغاية حتى صار خبز الحياة اللذيذ بالنسبة للنفس التي تنعم بالعافية مذاقه مُرّ لا يحتمل.

القديس أغسطينوس

يقول المرتل:

"دنهم يا الله، وليسقطوا من جميع مؤامراتهم" [10].

يقول القديس أغسطينوس: [هذه نبوة وليست لعنة].

إنها مسئوليتهم، لأنهم يُعاقبون بواسطة أفكارهم (مؤامراتهم) وخطاياهم. إذ تحمل الخطية جزاءها في ذاتها. لذلك يقول الرب: "تموتون في خطاياكم".

 


 

صرخة من أجل الميراث

v   كن ميراثًا لي، واقبلني ميراثًا لك، يا ملكي وإلهي!

v   مع كل صباح جديد أشرق ببهائك في داخلي:

بدد ظلمة خطيتي، فاستنير ببرك وجلالك!

بدد ظلام الحرف القاتل، فاستنير بالروح المحييّ!

انصت إلى كلمات قلبي، أنت وحدك تفهمها!

حطم مؤامرات الشرير المخادع القتّال والمملوء مرارة!

v   افتح لي أبواب بيتك لأنعم ببهاء هيكلك المقدس؛

هب لي أن أفتح لك أبواب قلبي لتقيم مذبحك داخلي!

v   لتحّل بركتك عليّ، ولتدربني على حياة الجهاد، واهبًا لي النصرة!

v   هب لي روح الهتاف والبهجة بك مع كل شعبك!

<<

 

 


 

المزمور السادس

أول مزامير التوبة

أول مزمور من مزامير التوبة السبعة (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143) التي تناسب التعبير عن حال التائب، وقد دُعيت هذه المجموعة هكذا ربما بواسطة القديس أغسطينوس.

يرى البعض أن هذه المزامير السبعة تقابل خطايا داود السبع وهي[177]:

1. الكبرياء أو الافتخار حين أمر بتعداد رعيته.

2. الزنا مع امرأة أوريا الحثي.

3. الغش حيث دعا أوريا من الجيش ليخفي خطيته.

4. التستر على خطيته بطلبه من أوريا أن يبيت مع زوجته.

5. قتل أوريا.

6. تهاونه مع ابنه أمنون الذي ارتكب الشر مع أخته.

7. قساوة قلبه إذ لم يعترف بخطيته حتى جاءه ناثان النبي بعد حوالي عامين.

لهجة هذا المزمور تناسب الإنسان التائب، فهي تعبر عن شدة الحزن على الخطية، البكاء بدموع غزيرة (5)، كراهية الخطية (8)، الرجاء في مراحم الله (2)...

تكشف الثلاثة مزامير السابقة عن آلام الأبرار بسبب أعدائهم الأشرار، بينما تكابد نفوسهم في هذا المزمور وتعاني بسبب الخطية.

كان داود يعاني من مرض خطير حين كتب هذا المزمور. لقد أدرك تأثير الخطية على حياته الجسدية والنفسية والروحية. يدعو هذا المزمور اليائسين – بسبب شدة وطأة المرض – أن يضعوا يأسهم ومعاناتهم وشكواهم وضيقاتهم بأمانة أمام الرب. بمعنى آخر، عوضًا عن الانخراط في المعناة والحزن، يقدمون التوبة وينشغلون بمخلصهم كمصدر للفرح الحقيقي والتعزية.

يطالب إمام المغنين أن يصحب الترنم بالمزمور آلة ذات ثمانية أوتار Sheminith، لذا جاء عنوانه هكذا: "إلى النهاية، عن التسابيح وفي الثامن، مزمور لداود".

أُستخدم هذا المزمور في الليتورجيات اليهودية والمسيحية، وكان يُرنّم كل يوم في المجامع اليهودية، وفي الكنيسة اللاتينية. يُرنم أيضًا في كل صباح (صلاة الأجبية) حسب الطقس القبطي.

إطاره العام:

1. صرخة إلى الطبيب الحقيقي        [1-3].

2. وادي ظل الموت                  [4-7].

3. رفض شركة الأشرار             [8].

4. استجابة الصلاة                            [9-10].

العنوان:

"لإمام المغنين على ذوات الأوتار Niginoth على شيمينوت، مزمور لداود". وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى النهاية، في تسابيح أوكتاف Octave (ثمانية)، مزمور لداود".

1. "إلى النهاية": راجع عنواني المزمورين الرابع والخامس.

2. "على نيجينوث on Niginoth" تعني: "على ذوات الأوتار".

3. "على شيمينيث Upon Sheminith" وُجدت أيضًا في (1 أي 15: 21) حيث يخبرنا النص عن تعيين مغنين ذوى كفاءة عالية ليرنموا مع عزف قيثارات على "شيمينيث" لكي يمجدوا الله... كما نجد ذوات العنوان في (المزمور 12).

توجد تفاسير مختلفة لكلمة Sheminith منها[178]:

أ. يضع البعض تعبير "على الوفرة الزائدة" عوضًا عنها.

ب. الترجمة الحرفية لـ "على شيمينيث" هي "على الثامن".

إن كان "الثامن" يُقرأ Octave تتجه أذهاننا للفور إلى أمر يتعلق بالموسيقى، بكون لفظ "أوكتاف" يشير إلى شخص يهتم بالموسيقى أثناء عبادة الشعب كله لله، بينما يرى البعض أنها تشير إلى آلة معينة ربما قيثارة ذات ثمانية أوتار.

ج. يرى البعض أنها تشير إلى يوم الدينونة الأخير الذي يعقب أيام التعب الستة لهذه الحياة واليوم السابع لراحة النفوس ثم يأتي اليوم الثمن الذي هو نهاية العالم الحاضر.

ويرى بعض الكتاب اليهود أن اليوم الثامن هو يوم الختان. ويشير بعض قدامى المسيحيين إليه بكونه يوم الرب، اليوم الذي يعقب سبت اليهود. قاد هذا الفكر إلى عرض لاهوتي حول الخليقة الجديدة المسيحية في المسيح القائم من الأموات. كما تشير "شيمينيث" أيضًا إلى مملكة المسيّا السماوية، حيث تبرأ كل الأسقام الروحية. كتب أحد الحاخامات: "سيحل المسيا الوُثُق التي تربطنا بهذا العالم[179].

يقول أنسيمس الأورشليمي: [إن رقم ثمانية يشير إلى قيامة السيد المسيح، لأنه قام في اليوم الأول للأسبوع التالي، أي في اليوم الثامن بالنسبة للأسبوع الأول (الذي تم خلاله الصلب). لهذا ينبغي أن تُمارس توبتنا من خلال إيماننا بالمسيح القائم من الأموات، الذي يهبنا الرجاء في الحياة الجديدة].

v يمكننا باطمئنان أن نفسر الأوكتاف octave بأنه يوم الدين. لأن نهاية العالم تدخل بنا إلى الحياة الأبدية، فلا تخضع نفوس الأبرار إلى تغيرات الزمن. لأن الزمن كله يتحقق خلال تكرار الأيام السبعة، ومن ثم يشير الأوكتاف (الثامن) إلى اليوم الثامن الذي هو أسمى من تلك الدورة الزمنية.

القديس أغسطينوس

v بعد حفظ السبت، فليحفظ كل صديق للمسيح يوم الرب كعيد، يوم القيامة، ملك (ملكة) كل أيام (الأسبوع)، إذ يتطلع النبي إليه يعلن: "إلى النهاية، في الثامن"؛ فبالارتكاز عليه انطلقت حياتنا من جديد، ونلنا النصرة على الموت في المسيح، أما أبناء الهلاك الأعداء الجاحدون هؤلاء آلهتهم بطونهم ومجدهم في خزيهم، يفتكرون في الأرضيات (في 3: 18-19)، محبون للملذات دون محبة الله، لهم صورة التقوى وينكرون قوتها (2 تي 3: 4)[180].

القديس أغناطيوس الأنطاكي

مادام هذا المزمور هو أول مزامير التوبة التي هي معمودية ثانية، وتمتع مستمر بختان الروح والقلب والحواس، لذا لاق به أن يُدعى: "إلى النهاية، في الثامن".

فبالتوبة ندخل إلى الشركة مع مسيحنا الذي هو غاية أو نهاية إيماننا، فيقيم ملكوته السماوي في قلوبنا.

بالتوبة ننعم بالقيامة معه كما في اليوم الأول من الأسبوع أو الثامن من أسبوع صلبه... نُصلب معه كل يوم عن  خطايانا ونقوم معه حاملين بره برًا لنا.

بالتوبة نجدد ختان الروح الذي نلناه في المعمودية، فتُصلب أعمال إنساننا القديم ونحمل على الدوام جدة الحياة في انساننا الداخلي.

بالتوبة نعود مع الابن الضال إلى حضن الآب (لو 15)، تتعم بعربونه هنا، وننال كماله في اليوم الثامن، أي يوم الرب العظيم!

لا عجب إذن إن دفعنا المزمور سكب دموع التوبة كي نستدر مراحم طبيب نفوسنا وأجسادنا، فلا يبتلعنا موت الخطية، ولا تكتنفنا ظلمة الليل، بل يعبر بنا إلى ملكوته المفرح.

صرخة إلى الطبيب الحقيقي:

"يارب لا تبكتني بغضبك،

ولا تؤدبني بسخطك.

ارحمني يارب فإني ضعيف،

اشفيني يارب فإن عظامي قد اضطربت

ونفسي قد انزعجت جدًا

وأنت يارب فإلى متى؟" [1-3].

1. كان داود نبيًا باكيًا مثل إرميا النبي. كان داود أشجع وأعظم من أن يحزن بسبب ضيقٍة خارجية، لكن عندما ثقلت الخطية جدًا على كاهل ضميره رفض أن يتعزى[181]، منتظرًا مراحم الله.

2. يسأل داود الرب أن يبكته ليس بغضبه [1]. فإنه لم يُصِلّ: "يارب لا تبكتني". وإنما قال: افعل هذا كأب يُسر بابنه. يقول إرميا: "ادبني يارب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني" (إر 10: 4). ويسأل داود أن تكون أحزانه تأديبات ابن لا عقاب إنسان منبوذ. فإن غضب الرب يُفني أما حبه الأبوي فُيصلح ويُجبر ويُخِلّص.

يسأل داود الله أن يُبكّته في رحمة وصلاح وليس بغضبه، لأن من يصب الله غضبه عليه يهلك، إذ لله قضيبان، واحد للرحمة والآخر للغضب المروّع. يتحدث القديس بولس عن الأخير قائلاً: "تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" (رو 2: 5).

يُعاني داود من الآلام التالية:

 أ. تعب داخلي: كانت نفسه مرتاعة للغاية، فإنه ليست هناك ضيقة تعادل ضيقة النفس الداخلية! تفسد الخطية كل شيء وتشوهه؛ وتجعل النفس بائسة!

ب. الألم الجسماني والمرض: حيث ينزعج القلب، وترتجف العظام، ويخور الجسد كله وينحل!

 ج. الأعداء الخارجيون: يدرك داود أن المرض الجسماني والأعداء الخارجيين الايُشكِلّون أي خطر يُخشى منه، إنما تكمن المشكلة الحقيقية في أعماقه الداخلية، ألا وهي الخطية! حمل نحميا ذات الفكر، فعندما سمع عن الضيقة العظيمة التي حلت بأورشليم، حيث تهدمت أسوارها وأحُرقت أبوابها بالنار جلس وبكى ناحًا عدة أيام، وتضرع إلى رب السماء، معترفًا أنه قد أخطأ هو وبيت أبيه، طالبًا المغفرة؛ صنع هذا قبل أن يبدأ حركة الإصلاح (نح 1). لم يشكُ من الأعدء، ولم يَلُم القادة الآخرين، إنما لام نفسه وبيت أبيه، واثقًا في الله واهب النصرة لمؤمنيه القديسين.

يرى داود النبي وجود علاقة وطيدة بين الخطية وغضب الله والمرض والألم. فالآلام التي يكابدها الأتقياء تسبب انكسارًا للقلب بسبب الخطية، لهذا يبسط المرتل ذراعيه أمام الرب أينما داهمته ضيقة، صارخًا إلى الله طبيب النفس والعقل والجسم، قائلاً: "اشفني يارب فإن عظامي قد اضطربت" [2]، طالبًا عونًا للنفس وقوة؛ لأن هذا هو معنى "العظام". يرى بعض الدارسين أن العظام تعني الهيكل الداخلي، وهنا تمثل الجسم كله. باضافته "النفس" [3] يقصد المرتل كيان الإنسان كله! ولا سبيل لشفاء الجسد والنفس بالنسبة للمرتل إلا في الالتجاء والاحتمال بنعمة الله ومراحمه، إن أراد الله تراءف على ضعفه، وخلصه من الضيق الذي ارتاعت به نفسه.

هذه الصرخة ليست إلا اعترافًا بضعفنا الكامل وعجزنا عن خلاص أنفسنا وما رجاؤنا في أي صلاح إلا في المراحم الإلهية!

يقول القديس يوحنا كاسيان: [بإن البعض يعتقدون أن الغضب ليس ضارًا، إن غضبنا على الذين يخطئون، مادام قد قيل عن الله نفسه إنه غضب، إذ يقول المرتل: "يارب لا تبكتني بغضبك ولا تؤدبني برجزك"].

ترى الكنيسة أن الحديث هنا خاص بالسيد المسيح بكونه حامل خطايانا، فترنم الآية 2 في صلاة الساعة الحادية عشر من يوم الأربعاء من البصخة المقدسة، حيث تشير إلى آلام السيد المسيح الحقيقية التي سببتها خطايانا؛ لقد انزعجت نفسه جدًا، إذ صرخ قائلاً: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت"، كما دخل إلى ضعف الجسد، إذ يقول: "أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف" (مر 14: 38)، وقيل عنه في البستان: "وإذ كان في جهاد يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض" (لو 22: 44)... هكذا اضطربت عظامه، لا عن خطية ارتكبها إنما عن خطايانا التي حملها فيّه ليقتلها بصليبه!

وادي ظل الموت:

"وأنت يارب فإلى متى؟...

لأنه ليس في الموت من يذكرك،

ولا في الجحيم من يعترف لك" [4-6].

سؤال يحمل عمق اليأس وعجز الإنسان اللانهائي! يتكرر في الكتاب المقدس ثلاثين مرة.

إذ شعر المرتل أن خطيته تستحق الغضب الإلهي والرجز، وأن كيانه كله قد انهار، بدأ يصرخ من أعماقة يسأل الله ألا يسخط عليه، ولا يتركه هذا يهلك حتى النهاية، فقد حّلْ الموت بنفسِه وها هو جسده ينهار سريعًا ليدخل إلى القبر، ويُحبس كيانه في الجحيم... لذا لا خلاص له إلا بالنعمة الإلهية والمراحم الأبوية! "عُد ونج نفسي واحيني من أجل نعمتك" [3-4].

يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يدعو الخطية "موتًا"، لأنها تنتج موتًا، وتيقن داود أنه بالخطية قد انحرف إلى الجحيم، كما لو كان ميتًا، وأنه لا طريق له للخلاص إلا بالمراحم الإلهية، يبلغها خلال التوبة.

 1. يبدأ داود توبته بحديث صريح مع الله: "وأنت يارب فإلى متى؟" وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله الذي يُقال له: "وأنت يارب فإلى متى؟" يجب ألا يُنظر إليه كإله قاسٍ، بل كحنون يقنع النفس (بالحوار)، أي شر جلبته على ذاتها. فإن هذه النفس لم تصِلّ بعد بكمال، لذا يمكن أن يقال لها: "وبينما أنتِ تتكلمين بعد أنا أسمع" (أنظر إش 65: 24)].

2. "عُد يارب نج نفسي"[4]. لماذا يقول المرتل "عُد"؟ أليس الله حاضر في كل مكان؟

يجب أن نميز بين نوعين من الحضور؛ حضور الله المالئ كل مكان؛ وحضور النعمة حيث يسكن وسط شعبه وفي داخل قلوبهم، معلنًا اتحادهم به.

حضوره في كل مكان يشجع المؤمنين على الصلاة إليه، عالمين أنه قادر أن يسمع أينما وجدوا؛ لكنهم محتاجون إلى حضور النعمة. فإن أخصر الضيقات وأمرّها على الإنسان هو "غياب الله" عنه. في هذا يحِذّر الله شعبه، مهددًا: "أذهب وأرجع إلى مكاني حتى يُجازوا ويطلبوا وجهي، في ضيقهم يبكرون إليّ" (هو 5: 6). حينما يحجب الله وجهه يرتاع الشعب وتُحسب عودته من مراحم الله الجزيلة[182].

يقول القديس أغسطينوس: [إذ ترجع النفس تتوسل إلى الرب كي يرجع هو أيضًا إليها، كما قال: "ارجعوا إليّ أرجع إليكم يقول الرب" (زك 1: 3). أو هل يمكن فهمها هكذا: "ارجع يارب" بمعنى اجعلني أرجع، إذ تجد النفس صعوبة ومشقة عظيمة في رجوعها!... أو بمعنى: أعنا لكي يكمل فينا الرجوع، فنجدك مستعدًا لتقدم ذاتك لكي تهب أثمارًا للذين يحبونك].

التوسلات التي بها يقدم طلباته لا تحرك الله بل تحرك نفسه، فينال النعمة الإلهية، ويتصالح الله معه. إنه يشكو بؤسه متوسلاً إلى مراحم الله الجزيلة كي تشمله، متضرعًا إلى مجد الله [5] إذ لا ذكرى (لله) في الموت (الخطية).

3. "نج نفسي من أجل نعمتك" [4]؛ كأنه يقول اشفني لا عن استحقاقي الذاتي وإنما من أجل مراحمك!

4. "لأنه ليس في الموت من يذكرك، ولا في الجحيم من يعترف لك" [5].

يليق بنا ألا نعجب من أن يحسب داود النبي الموت فصلاً تامًا لكل رباط بين الله والخاطئ، حيث لا توجد أية فرصة للتوبة! مسرة الله هي في الصِدّيق الذي يسبحه ويحمده لا بلسانه فقط وإنما بحياته كلها. لهذا يتضرع المرتل إلى الرب أن يهبه نعمته الإلهية قبل فوات الوقت المقبول.

v ثمة تفسير أخر، أن المرتل يعني بالموت الخطية التي يقترفها الإنسان ضد الناموس الإلهي، لهذا تُدعى شوكة الموت، مادامت تؤدي إليه؛ "لأن شوكة الموت هي الخطية" (1 كو 15: 56). هذا الموت يتمثل في تجاهل الإنسان الله، واحتقاره ناموسه ووصاياه. لهذا يستخدم المرتل تعبير "الجحيم" بكونه العمى الذي يحل بالنفس فيهلكها بالخطية.

القديس أغسطينوس

v كما أن ملكوت الشيطان يمكن اكتسابه بالاتحاد مع الخطية، هكذا يمكن اكتساب ملكوت الله بممارسة الفضيلة في نقاوة قلب وبمعرفة روحية. لكن حيثما وُجد ملكوت الله فبالتأكيد تكون متعة الحياة الأبدية، وحيثما وُجد ملكوت الشيطان فبلا شك يكون الموت والقبر، والإنسان في هذه الحل لا يقدر أن يسبح الله كقول النبي... فالإنسان ولو دعا نفسه مسيحيًا آلاف المرات أو راهبًا، لا يقدر أن يعترف بالله بينما هو يخطئ من يسمح لنفسه أن يصنع ما يكرهه الله لا يقدر أن يعترف بالله، ولا أن يدعو نفسه أنه بالحق خادم الله. فإن من يحتقر وصايا الله بغباء وطياشة يسقط في الموت الذي تسقط فيه الأرملة المتنعمة، الذي يقول عنه الرسول: "وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية" (1 تي 5: 6).

هناك كثيرون أحياء بالجسد لكنهم أموات ولا يقدرون على التسبيح لله... وهناك كثيرون قد ماتوا بالجسد لكنهم يسبحون الله بأرواحهم، إذ يُقال: "يا أرواح وأنفس الأبرار سبحي الله" (راجع دا 3: 86- تتمة دانيال في الترجمة السبعينية)، "كل نسمة فلتسبح الرب" (مز 150: 6)[183].

الأب موسى

v   لأن الحياة الحاضرة بالحقيقة هي زمان السيرة الحسنة، لكن بعد الموت تكون الدينونة والعقاب، إذ كُتب "ليس في الجحيم من يعترف لك"[184].

v   إنها لكارثة عظيمة أن يرحل الإنسان إلى العالم الآتي بأثقال الخطايا... حيث مكان الدينونة، ولا مجال للتوبة[185]!

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   لنتب هنا، فنجد الله رحيمًا معنا في اليوم الآتي، ونوجد قادرين على التمتع بالمغفرة الجزيلة التي ننالها جميعًا[186].

القديس يوحنا الذهبي الفم

المفهوم القديم عن سكنى الأموات في العالم السفلي أو بالعبرية "شيئول Sheol" لم يكن يفترض وجود نشاط للراحلين أو عواطف سامية لهم، إنما كانوا يُصوِّرون بأنهم محاطون بظلمة النسيان. وقد شارك بعض العبرانيين في هذا المفهوم العام إلى حد ما حتى زمن السيد المسيح، حيث أعلن الله مفهومًا أوضح وأعمق عن الحياة ما بعد الموت[187].

5. "أعوّم كل ليلة سريري،

وبدموعي أبل فراشي" [6].

"كل ليلة": ما أن ارتكب الخطية حتى صار في ظلمة كأنه في ليل، يرقد في فراشي الشهوات الدنسة الجسدانية. لهذا صار يبكي طالبًا مراحم الله. ناح داود بالليل على فراشه، حيث يرقد مع قلبه، ولم تشهد عينٌ ما حُزنه وآلامه، إنما تراه عين الله الذي كله عين (يرى الكل).

v أي شيء يمكن غسله بمجرد (صب ماء عليه)، بينما "البلل" يعني غمس الشيء بأكمله في الماء؛ هذا هو ما تشير إليه الدموع التي أغرقت أعماق القلب الداخلية فتبلل.

القديس أغسطينوس

v   حَزن داود وناح على الخطية التي ارتكبها منذ زمان بعيد وسنوات عديدة، كأنها حدثت منذ عهد قريب[188].

v   لم يطغه الثوب القرمزي الملوكي أو التاج على الإطلاق ولا كان متعاليًا بهما، إذ كان يدرك أنه إنسان، كلما شعر قلبه بالندامة راح يبكي نائحًا.

إن كنا نتذكر على الدوام خطايانا، لا يمكن للظروف الخارجية أن تجعلنا نتغطرس: لا الثروات ولا السلطان ولا الكرامة ولا إن جلسنا حتى في المركبة الملوكية ذاتها، وإنما نئن في مرارة[189].

v أترغبون في معرفة ما يجعل الفراش جميلاً حقًا؟ سأريكم الآن كرامة الفراش، لا فراش مواطن عادي أو جندي بل فراش ملك...، فراش أعظم ملك، أعظم ملوكية من كل الملوك، الذي لا يزال حتى الآن يُكرم بالترانيم في العالم كله؛ إنني أريكم فراش الطوباوي داود، فماذا يكون فراشنا؟ فراشه لم يكن مزينًا بالذهب والفضة، بل بالدموع والاعترافات... إنه يثّبت دموعه كاللآلئ في كل موضع من فراشه[190].

v   مزامير داود تُسبب فيضانًا من الدموع تنسكب! فكروا (في القديسين) كيف يقضون الليل كله في ذرف الدموع[191].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بذرف الدموع ننال غسل المعاصي[192].

الأب بينوفيوس

v   ليس كل نوع من ذرف الدموع يتم بشعور متشابه أو بفضيلة ما واحدة:

* فمن ناحية قد تصدر الدموع بنخس خطايانا التي تضرب قلوبنا (مز 6: 7).

* وبطريق آخر، قد تنهمر الدموع خلال التأمل في الخيرات الأبدية والرغبة في المجد المقبل (مز 119: 5-6).

* وبوسيلة أخرى، تفيض الدموع لا خلال الشعور بخطية مميته وإنما خلال الخوف من الجحيم وتذكر الدينونة الرهيبة، التي ضرب بها النبي فصلى إلى الله، قائلاً: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك لأنه لن يتزكى كل حيّ أمامك" (مز 113: 2).

* أيضًا ثمة نوع آخر للدموع، علتها لا خطايا الإنسان بل قساوة قلوب الآخرين وخطاياهم، بهذه الدموع وُصف صموئيل أنه بكى لأجل شاول[193]...

الأب إسحق

v للصلاة المقدمة في المساء قوتها العظيمة، أكثر من تلك التي تُقدم في النهار. لهذا اعتاد كل القديسين أن يصلوا خلال الليل وهم يجاهدون ضد ثقل الجسد وعذوبة النوم،

مقاومين الطبيعة البشرية...

ليس شيء مخيٌف حتى بالنسبة للشيطان نفسه مثل الصلاة التي نرفعها ليلاً[194].

v لتكن هذه هي العلامة لكم، حينما تقتربون من الدخول إلى تلك المدينة؛ حينما تفتح النعمة عيونكم فتدركون أمرًا بالبصيرة الضرورية؛ عندئذ تبدأ عيونكم في ذرف الدموع حتى تغسل وجناتكم بسبب غزارتها[195].

v   الدموع بالنسبة للعقل هي التميز الأكيد بين الجسدانية والروحانية، وبين الإدراك العقلاني والنقاوة[196].

v كل مرة يثور في الروح التفكير في الله يشتعل القلب بالحب حالاً، فنذرف العينان دموعًا بغزارة؛ إذ اعتاد الحب على ذرف الدموع عند لقاء المحبوب[197].

القديس مار إسحق السرياني  

6. "ساخت (اضطربت) من الغم (الغضب) عيني [7].

v اسمعوا كيف يصف المرتل أن الغضب يغطي عين القلب بسحابة كثيفة، فيقول: "بالغم" [7]، أو "بالحزن". أيضًا يشهد القديس يوحنا الإنجيلي كيف يُعمى الغضب عيني القلب: "الذي يكره أخاه هو في الظلمة ويسير في ظلمة، ولا يعرف إلى أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه! (1 يو 2: 11). بحسب هذه الشهادة، تُعمي عين القلب بالغضب المفاجئ، لكن نور المحبة ينطفئ بالكراهية[198].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v   ليس ما يُكِدّر العين مثل الضمير الشرير... ليس ما يظلمها هكذا! حرروها من ذلك الأذى، فتجعلونها قادرة وقوية، منتعشة بالرجاء الحسن[199].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   النفس وهي في حالة الاضطراب الذي يمنعها من رؤية الله، إذا ما بدأت في الالتحام بالحكمة الإلهية تبدأ شمسها الداخلية في الإشراق.

القديس أغسطينوس

رفض شركة الأشرار:

إذ يتأكد العابد استجابة صلاته كهبه من الله، يمتلئ قلبه قوة جديدة، ويتغير مسار أفكاره ونغمة صوته ومزاجه. عوض القلق والكآبة والرثاء نسمعه كإنسان قد استعاد هدوءه، كاشفًا عن إرادة قوته في الله.

عندما تُستجاب صلاة قلب التائب تتحول أحزان الليل إلى خلاص الصباح، ويرفض المرتل الشركة مع الأشرار حتى يتجنب الظلمة وظلال موت الجحيم.

"ابعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم،

لأن الرب قد سمع صوت بكائي.

الرب سمع تضرعي.

الرب لصلاتي قبل.

فليخر وليضطرب جميع أعدائي،

وليرتدوا إلى ورائهم بالخزى سريعًا جدًا" [9-10].

ما يُعبر عنه المرتل هنا ليس رغبة للانتقام ولا غضبًا بل هو كشف عن معرفة حقيقية تصدر عن الإيمان، معرفة بما يفعله الله مع (العابد) واصفًا أثر ذلك على معانديه.

v أما من جهة أن النبي يسبق فيعلن (يتنبأ) عما سيحدث في يوم الدينونة حينما يُفصل الأشرار عن الأبرار، أو أنه يطلب الانفصال بينهما من الآن، فواقع الأمر أنه مع أن (الفريقين) يشتركان معًا في ذات المجتمع، إلا أنه عندما تُبدر الحنطة تُفصل حبوب القمح النقية عن القش، وإن كان حسب الظاهر يبدو أنه مختلط به. فالقمح والتين يمكن أن يوجدا معًا، لكن لا يمكن أن يجتمعا معًا إذا ما ذراها الريح.

القديس أغسطينوس

استجابة الصلاة [8-10]

حدث تغير مفاجئ، فالمرتل الذي كان يئن ويتنهد باكيًا، حاسبًا أنه فقد كل شيء،

نراه هنا يتحدث بفرح شديد.

المراحم التي ننالها بالبكاء والصلاة تناسبنا جدًا للتمتع بالرجاء.

من السهل جدًا على الله أن يربك أعداءنا في لحظة ليرد لنا بهجة خلاصنا وفرحنا فيه.   

 


 

توبني فأتوب

v   هب لي أيها الطبيب الحقيقي ينابيع دموع لأبكي على خطاياي الكثيرة!

v   انتزع موت الخطية فتنطلق كل حياتي بالتسبيح لك!

v   نجني يارب من أجل فيض نعمتك! احملني إلى ملكوتك المفرح!

<<

 

 


 

المزمور السابع

أنشودة القديس المفترى عليه

مرثاة يرفعها المرتل متضرعًا أمام محكمة الرب العادلة. مناسبتها هي حادثة كانت وقعت لداود حين اضطهده أعداء شرسون، ربما شاول ورجاله، الذين افتروا عليه، فهرب إلى حضرة الرب في الهيكل، لأجل سلامته الشخصية، وللبت في القضية واستصدار حكم بها وإعلان براءته. يرى أحد الدارسين Hans Schmidt أن حالة المرتل هنا كالتي تجسمت بشكل واضح في (1 مل 8: 31) الخ... حيث يتقدم المتهم البرئ إلى الهيكل طالبًا حكم الله الذي يبرره ويدين الخصم الذي يفترى عليه، موقعًا عليه عقوبة يستحقها[200].

يحّول داود النبي التقي كل حادثة تقع في حياته إلى مناسبة يرفع فيها قلبه ونفسه في تكريس عميق لله. فقد دفعته أقوال كوش وأفعاله الشريرة ضده إلى الصلاة والتغني بتسبحة تبعث بالتعزية في قلبه، وبالحياة المتدفقة في أوصال الكنيسة عبر كل العصور.

الإطار العام:

1. ثقة صلاة                [1-2].

2. داود البرئ               [3-5].

3. قم يارب                 [6-7].

4. الحكم الانقضائي         [8-9].

5. نهاية الشر               [10-17].

عنوان المزمور:

"شجوية Shiggaion لداود، غناها للرب بسبب كلام كوش البنياميني".

1. لا يمكن تحديد المعنى الأكيد لكلمة "شجوية Shiggaion"[201]:

أ. يفترض بعض الدارسين وجود علاقة بينهما وبين اللفظ الآشوري Iegu الذي يعني "مرثاة".

ب. يرى البعض أنها تعني "صراخًا عاليًا"، يحدث في حالة خطر محدق أو في حالة ارتباك أو تحت وطأة ألم شديد. وقد استخدمت هنا مرة واحدة في المزامير، وجاءت بصيغة الجمع "شجويات Shiginoth" في (حبقوق 3: 1)، حيث نجد تشابها شديدًا وعميقًا بينهما. ففي سفر حبقوق يبدو الصراخ بصوت عالٍ تحت وطأة نفس الظروف التي يتعرض لها المرتل في المزمور الذي أمامنا.

ج. يرى آخرون أن لفظة "شجوية" تعني "تجولاً" أو "تيهًا"، وثمة شروحات أربعة لهذا المعنى:

* الشرح الأول: أن هذا المزمور يُرنم بنغمة متغيرة (متجولة كما من موضع إلى آخر)؛ أي يقدم بنغمة تضم نغمات مختلفة ومتباينة مع تبدّل أزمنة وأساليب عزفها وآدائها.

* الشرح الثاني: أن المزمور يتسم بتنوع أوزانه وبحوره الشعرية.

* الشرح الثالث: أن داود النبي كان يتغنى بتجواله؛ وإن كان الدارسون لم يتفقوا معًا أكان التجوال هنا يشير إلى عدم استقراره في البرية، أو هو تيهًا في أخطاء ارتكبها أو بسبب تيه أخلاقي أو سلوكي.

* الشرح الرابع: أن داود يتغنى بتجوال أو بتيه أو أخطاء آخرين في تعاملهم معه.

د. يرى آخرون أن Shiggaion تعني "أنشودة مبهجة جدًا وعذبة".

2. "كوش": أكبر أبناء حام حمل هذا الأسم، لكن ثمة صعوبة تواجهنا حينما نعلم أن التاريخ لا يورد شخصًا معاصرًا لداود يحمل هذا الأسم"[202].

* يرى البابا أثناسيوس الرسولي والقديس باسيليوس الكبير أن كوشًا هذا يعني "حوشاي" الذي أثنى أبشالوم عن الإنصات لمشورة أخيتوفل، وقد دُعى ابن اليمين (بنياميني) لأنه تصادق مع أبشالوم ليحثه على عدم محاربة أبيه، فأعطى أمانًا لداود أو حُسب كمن عن يمينه يعمل لحسابه.

* يرى البعض أنه يقصد شمعي الذي كان بحق بنيامينيًا، منافسًا ومقاومًا لداود. وربما كان كوش البنياميني هذا هو أحد أنسباء أو أقارب شاول ألّد أعداء داود.

* لما كانت كلمة "كوش" معناها "أسود"، لذلك اعتقد البعض أن كوش البنياميني هو شاول البنياميني، الذي كانت نفسه من الداخل في ظلمة، بسبب شره وخبثه. من الجانب التاريخي يمكن ربط المزمور بـ (1 صم 24، 28)، حيث يرمز شاول إلى ضد المسيح الآتِ.

* يرى القديس جيروم أن هذا المزمور يشير إلى الزمان الذي ثار فيه أبشالوم ضد أبيه داود. وقد بدد كوش مشورة أخيتوفل مشير أبشالوم وأرسل كلمة إلى داود (2 مل 15-17)، فتغّنى داود بهذه الأغنية.

1. اتكال وصلاة:

"أيها الرب إلهي، عليك توكلت،

خلصني من أيدي جميع المطاردين ونجني

لئلا يخطفوا نفسي مثل الأسد

حيث ليس من ينقذ ولا من يُخِلّص" [1-2].

هنا أول مثل في المزامير فيه يذكر اسمين للقدير: "يهوه" (الرب)، و "إلهي". إذ كان داود مضطربًا يتطلع إلى عدوه القاسي كأسد يود أن يمزقه [2]، لهذا يرفع صلاة وتسبيحًا للرب (يهوه) الذي يدخل مع شعبه في عهدٍ لحمايتهم، ويحسب يهوه إله كل الشعب هو إلهه الشخصي (إلهي). وكأن داود المؤمن يقول: "أنت هو رب كل الكنيسة عمومًا، وربي أنا بوجه خاص. أنت هو إلهي، فإلى من غيرك أذهب إذن؟ أنت إلهي وأنا عبدك، لي حق حمايتك لي فأنت درعي وملجأي".

الإيمان والصلاة هما مفتاحان بهما تُفتح أبواب مراحم الله؛ وهما الذراعان اللتان بهما يغلب المؤمن في التجربة القاسية ويقهر عدوه الروحي. في وقت الضيق يهرب دائمًا إلى رب كل الكنيسة ليحتمي به، هذا الذي يمنح حصنًا شخصيًا للمؤمن وله القدرة على تخليصه من خصمه الذي يهدده بالقتل. يجد المؤمن في الله كل كفايته وأمانه. وليس شيء أكثر يقينًا ولا أقدر قوة من حماية الله لكل من يلجأ إليه ويتكل عليه.

يصرخ داود النبي إلى الرب إلهه من أجل مطاردين كثيرين يريدون البطش به... لكنه يعود فيرى عدوًا واحدًا رئيسيًا، يشبهه بأسد يمزق فريسته [2]. وكراعٍ صغير السن فإن مشهد أسد يمزق حملاً إربًا كان مألوفًا لديه منذ صبوته (1 صم 17: 34-35). الأسد هنا هو الشيطان، الخصم المقاوم لكل البشر. إنه أسد زائر ومشتكٍ، يتهمنا، وهو كذّاب وأبو الكذاب؛ هو الحية القديمة، رئيس سلطان الهواء، إله هذا الدهر، رئيس الظلمة، الروح الذي يعمل حتى الآن في أبناء المعصية، وما من أحد يستطيع الصمود أمامه بقوة، أما حماية الرب فهي الرجاء الوحيد والأخير للخلاص منه. الكلمات التي ينطق بها المرتل هي كلمات شخص هزّه الفزع المميت، فسقط مرتعدًا انقطعت نفاسه وضاق به صدره. وفي ذات الأوان هي كلمات إنسان متمسك بالمشاعر العميقة أنه يجد موضعًا للأمان والحماية في الله الذي يمكنه أن يلقي عليه ثقته[203]؛ لأن مجد الله هو أن يعين الذين لا عون لهم.

بدأ الاضطهاد مع قايين، واستمر على أيدي أشرار كثيرين في أجيال متعاقبة. وها هي الكنيسة تعيش كما عاش دانيال في جب الأسود، التي تزأر على الدوام وتزمجر في كل مكان وزمان، تلتمس أن تقتل الأبرار، لكن نداءنا لله يدخل بنا إلى ملجأ آمن.

وسط الضيق الشديد وكثرة المقاومين لم يرى داود النبي إلا ذاك العدو الخطير الذي يريد أن "يخطف نفسه"... لم يخف داود على كرسي المُلك ولا على آلام الجسد التي قد تلحق به وإنما على نفسه لئلا تفقد إيمانها وتخسر أبديتها!

لقد خطف العدو نفس آدم الأول وأسرها تحت سلطانه، وظن أنه قادر أن يخطف نفس آدم الثاني، نائب البشرية ومخلصها... لكنه لم يستطع. في البستان صرخ السيد المسيح لدى الآب ليرفعنا إليه وقت الضيق، وإذ دخل الجحيم هزّ أركانه وأخرج نفوس الأسرى.

عدو الخير الأسد المزمجر لا يطلب إلا هلاك النفس، ومسيحنا الأسد الخارج من سبط يهوذا مخلص النفوس ومحررها بدمه الثمين!

v يقول الرسول: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه" (1 بط 5: 8)، لذلك حينما يقول بصيغة الجمع: "خلصني من جميع المطاردين لي"، يكمل بصيغة المفرد، قائلاً: "لئلا يمزق نفسي مثل أسد". إذ لم يقل: "لئلا يمزقوا نفسي في أي وقت". فهو يعلم يقينا من هو عدو النفس الكاملة وخصمها العنيف... إن لم يفتِد الله أو يُخلص ينقضّ الشيطان على فريسته.

القديس أغسطينوس

2. داود البريء:

إذا كان العدو يطارد داود، التجأ الأخير إلى الله، في بيت الله، حيث يخضع لقسم التبرئة، مُقسمًا أنه برئ [4، 6؛ 1 مل 8: 31-32]، لا من كل خطايا، وإنما مما أتهم به ظلمًا! إذ وُجهت إليه تهمة التآمر والخيانة ضد حياة شاول وتاجه، تمامًا كما حدث مع أيوب (أي 31: 1) الخ، لذلك أقسم داود معلنًا تبرئته وتطهيره من هذا الذنب، باذلاً جهدًا عظيمًا لينطق مؤكدًا ضميره الصالح؛ وفي جرأة راح يستدر حكم الله العادل، فلا بديل لتبرئته سوى طلب عدالة الله. لهذا تضرع من أجل النجاة لكي يتمجد الله في حكمة بالبراءة.

من يتألم ظلمًا دون ذنبٍ ارتكبه لا يخاف شيئًا، بل يعرف يقينًا أن الله يسمعه ويستجيب لصلاته، ويحارب عنه معانديه، ويتحمل عنه كل ضيق، بل ويقاوم مقاوميه ومضطهديه (2 تس 1: 4، 8). إذ كان لداود ضمير صالح خاصة في معاملاته مع أعدائه لم يخش أن يحتكم للسماء. وكما يقول القديس بولس: "لأن فخرنا هو هذا، شهادة ضميرنا أننا في بساطة وإخلاص الله لا في حكمة جسدية بل في نعمة الله تصرفنا في العالم ولا سيما من نحوكم" (2 كو 1: 12). كما يقول القديس يوحنا الحبيب: "أيها الأحباء، إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله" (1 يو 3: 21). من له الضمير الصالح في الرب لا يخشى مقاومة الناس بل يحتكم لله الفاحص الأعماق. كثيرًا ما يتعرض للضيقات، لكنه يؤمن بذاك القادر أن يبرر ويمجد أولاده!

إذ لم يحتقر داود النبي وصية الله فأحب أعداءه دون أن يُضمر في قلبه شرًا أو يحمل فيه حقدًا، لهذا اطمأن أنه لن تحل به لعنةً ما بل يستجيب الله لصلاته.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم ستة شروط لاستجابة الصلاة[204]:

أ. أن يكون الطالب مستحقًا لنوال طلبه.

ب. اتفاق الطّلبة مع ناموس الله.

ج. مداومة الطلبة.

د. ألا تكون الطلبة أمرًا دنيويًا.

هـ. أن يكون الطالب مجاهدًا في حياة الفضيلة.

و. أن تتفق طلبته مع مشيئة الله.

يُعلن المرتل براءته أمام الله، قائلاً:

"أيها الرب إلهي إن كنت فعلت هذا،

وإن كان ظلمًا في يديّ؛

أو جازيت الذين صنعوا بي الشرور،

أسقط إذن أمام أعدائي فارغًا" [3-4].

 سقط شاول بين يديّ داود مرتين، مرة في مغارة عدلام وأخرى في برية زيف، لكنه لم يمس شعرةً منه ولم يؤذه؛ بل ولم يدع أحدًا من أعوانه يتعرض لشاول بالضرر. هكذا يتعامل رجل الله مع عدوه من بني البشر بالخير الذي أوصاه به الكتاب المقدس (1 صم 24، 26). وكأن داود يقول: "إن كنت مذنبًا فإنني اعترف بأنني هكذا، ولكنني إن كنت أصنع خيرًا حتى مع أعدائي فليضطهد عدوي نفسي ويدركها ويدوس في الأرض حياتي... [5]. إن كان كوش يقيم ضدي اتهامًا صادقًا يُدينني، فلتحلّ بي كل أشر المهالك، وليقع بي كل ما يشتهيه ضدي عدوي، وليسلبني حياتي، ولينزعني من الوجود، وليدفن في التراب مجدي [5][205].

v   أي مجد لنا إن كنا لا نؤذي من لا يؤذينا؟! بل الفضيلة الحقة هي أن نغفر لمن يؤذينا[206].

القديس أمبروسيوس

v كان موسى وديعًا أكثر من جميع الناس (عد 12: 3)؛ وكان داود وديعًا بزيادة (مز 131: 2). لهذا يحثنا بولس هكذا: "عبد الرب لا يجب أن يخاصم بل يكون مترفقًا بالجميع، صالحًا للتعليم، صبورًا على المشقات، مؤدبًا بالوداعة المقاومين" (2 تي 2: 24-25). فلا تطلبوا الانتقام لأنفسكم ممن يؤذونكم، إذ يقول (الكتاب): "إن جازيت الذين صنعوا بي الشرور (بالشر)" [4]. لنصيرّهم إخوة لنا بترفقنا[207].

القديس أغناطيوس الأنطاكي

v "إن جازيت الذين صنعوا بي الشرور، لأسقط إذن بلا دفاع أمام أعدائي" [4]. ما المقصود بالقول "لأسقط"؟ طالما الإنسان على قدميه تكون له القوة أن يقف أمام أعدائه، يضرب ويُضرب، فينال نصرة أو تحل به الهزيمة، لكنه يظل واقفًا على قدميه؛ أما إن زلت قدماه وسقط ملقيًا على الأرض، فكيف يقدر على الاستمرار في مقاومة عدوه؟ لهذا نصلي بغيرة ألا نسقط أمام أعدائنا لئلا نسقط أمام أعدائنا، ولئلا يكون سقوطنا دون وجود دفاع... نطلب أن يلقينا (الخصم) أرضًا بهذه الكيفية إن كنا نجازي الشر بالشر.

لا نطلب هذا فقط، بل نضيف: "ويدوس في الأرض حياتي" [5]. ما المقصود بحياتنا؟ قدرتنا على العمل في الفضيلة، واقتدارنا في العمل التقوى، فإننا نطلب ذلك أن نُداس في الأرض فنصير أرضيين تمامًا، وتنحدر كل أفكارنا وأعمالنا إلى الأمور الأرضية.

"ويحل مجدي في الثرى (التراب)" [5]. ما هو مجدنا هذا إلا المعرفة التي تتولد في النفس بحفظ الوصايا؟!...

إننا نلعن أنفسنا إن جازينا الشر بالشر... ليس فقط بالعمل وإنما أيضًا إن جازيناهم بالكلمات أو في النية... فإنه أحيانًا يجازي الإنسان الشر بالشر حينما يزعج أخاه بالنية أو بحركاته أو نظراته عن عمد. وثمه إنسان آخر قد لا يُجازي الشر بالشر بتصرفاته أو كلماته أو اتجاهاته أو تحركاته وإنما حين يُجرح قلبه فيُظهر امتعاضًا نحو أخيه... وثالث قد يسمع أن أحدًا ضايق (عدوه) أو وشى به أو قاومه فيفرح لسماع ذلك، بهذا يعرف بوضوح أنه يجازي الشر بالشر[208].

الأب دورثيؤس من غزة

v   نكرر هذه الكلمات كثيرًا: لنتجنب أن نجلب اللعنة على أنفسنا. لنتجنب أن نجازي الشر بالشر[209]

القديس قيصاريوس أسقف آرل

لقد حسب داود النبي موته – يدوس العدو في الأرض حياته – أمرًا شريرًا، أما أن يحل مجده في التراب فهذا شر أعظم [5]!

3. قم يارب:

"قم يارب برجزك،

وارتفع فوق أقطار أعدائي.

استيقظ يارب وإلهي بالأمر الذي أوصيت

ومجمع الشعوب يحوط بك.

ولأجل هذا ارجع إلى العلاء" [6-8].

يلاحظ في الليتوجيات الخاصة بأعياد الصليب تُختار المزامير التي يرد فيها كلمة "ارتفع"؛ وكأن الكنيسة تتطلع إلى هذه المزامير بكونها إعلانًا عن ارتفاع السيد المسيح على الصليب ليحطم العدو إبليس ويهب نصرة لشعبه ومجدًا لأبيه.

هنا قبل أن يتحدث عن الحكم أو الديبنونة الانقضائية في يوم الرب العظيم يشير إلى صلب الرب "ارتفع" وقيامته "استيقظ" وصعوده "ارجع إلى العلاء".  

يقول المرتل "قم" للرب الذي لا ينعس ولا ينام (مز 121: 4). في وسط الضيق يبدو لنا وكأن الشر قد انتصر، لذا نصرخ إلى الرب بكلمات المرتل هذه التي تكشف عن مدى نفاذ صبره وما يُعانيه من عذاب. يبدو له كأن الرب لم يقم ليعمل ويخلصه مما يعانيه. صلاته تكشف عن احتياجه الشديد وعجزه الواضح عن النجاة، لذا يطلب من الرب أن يقوم ليواجه المأزق الذي يعيش فيه المرتل[210]. ارتبطت هذه الصرخة أو هذا النداء بتابوت العهد الذي يرمز للحضرة الإلهية وسكنى الله وسط شعبه وهم في البرية أو أثناء الحروب فيما بعد (عد 10: 35؛ مز 68: 1؛ 1 صم 4: 1-4). كما يرتبط ذات التضرع بعمل الله مع الضعفاء الذين لا ملجأ لهم (إش 51: 17).

"قم يارب": ليس عملنا أن نصدر حكمًا على عدو؛ إذ لنا إنجيل له رسالة إيجابية مباركة. فالمسيحي ينبغي أن يسمو فوق الغيرة والأحقاد والوشاية والافتراءات، ولا يليق به مطلقًا أن ينحدر من مستوياته العالية السامية ليدافع عن نفسه بذات أساليب أعدائه، ويجازيهم شرًا بشر. فإن كانت هناك حاجة إلى سلاح أو سيف، إن كانت هناك حاجة إلى حكم وإدانة، فلنترك الرب نفسه يتصرف، هو يقوم ليُدين المسكونة كلها بالعدل[211].

يرى المرتل في شدة حزنه كأن الديان قد ترك منصة القضاء إلى حين، وها هو يتوسل إليه أن يقوم ليفصل في قضيته. لقد سلم كل شيء بين يديه، يحكم بينه وبين أعدائه. صمتْ الله يعلن عن طول أناته، لكن إذ يسيئ الأشرار فَهْم طول أناه الله فيطأوا قديسيه في التراب تحت أقدامهم، يقوم الله ويقضي.

v إذ لم يعرفوك في حنانك، فليختبروك في غضبك. "ارتفع فوق حدود أعدائك" [7]. هنا يتوسل المرتل من أجل أعدائه، إذ يتمجد الله في أرضهم، عندما يكفون عن أن يصيروا أعداء، وترتفع يارب بينهم[212].

القديس جيروم

v بالتأكيد تصلي النفس ليس ضد البشر بل ضد الشيطان وملائكته، الذين ينتمي إليهم الخطاة والأشرار. إنها علامة التقوى لا الغضب أن يطلب أحد الرب الذي يبرر الفجار (رو 4: 5)، ليسلب الشيطان فريسته. فإن تبرير الفاجر يعني العبور من النجاسة إلى القداسة، ومن سلطان الشيطان إلى هيكل الله.

القديس أغسطينوس

كأن المرتل يصرخ إلى الرب الديان والمخلص أن يقوم ليدين حالة العداوة والشر، فيُحطم بصليبه وقوة قيامته شر الأشرار ويحولهم إلى بره. هذا ما يعنيه "ارتفع فوق أقطار اعدائي"[6]، أي، ليغرس صليبك في قلوبهم، وليطهر دمك أعماقهم، ولتحول أرضهم المظلمة إلى ملكوتك، ملكوت النور والفرح. لتجمع منهم أعضاء مقدسة "مجمع الشعوب يحيط بك"؛ لتُقم منهم كنيستك التي بلا عيب  ولا عداوة.   

ارتفع يارب على الصليب على أرض العدو لتقيم منه صديقًا، بل وعروسًا مقدسة لك. استيقظ يارب من بين الأموات في وسط الشعوب التي أماتتها الخطية لتخلق منها كنيستك الحية بك. لترجع إلى العلاء ولتصعد إلى سمواتك، لتُجلِس الكل معك أيها البكر.

يعلق القديس جيروم على الكلمات: "استيقظ يارب وإلهي... ومجمع الشعوب يحيط بك" [7]، قائلاً: [بإن ربنا قد تمجد بقيامته].

v هذا فعلاً ما نقوله: لقد تألمت لأجلنا؛ لقد صلبت عنا، قم وخلصنا... قم حتى تؤمن بك جموع أكثر فأكثر، فإنه ماذا نطلب بعد قيامتك؟ عُد إلى الآب. "وفوق هذا اصعد إلى العلاء" [7]، لأجل من؟ لأجل مجمع الشعوب. لقد تألمت لأجلنا، وأنت قمت لأجلنا، وصعدت لأجلنا "وفوق هذا (المجمع) أصعد إلى العلاء"، "لا يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3: 13) [213]

القديس جيروم

هذه هي صلاة المرتل داود حتى من أجل أعدائه، يريد أن يرى المخلص قد تمجد فيهم، محطمًا شرهم بصليبه ليقيمهم معه، ويرفعهم إلى سمواته. هذه الصلاة تتفق والحق الإلهي، إذ يقول "بالأمر (الحق) الذي أوصيتَ" [7]. يطلب المرتل ما يتفق مع خطة الله الخلاصية وحقه وحبه للبشرية. وكما يقول القديس يوحنا: "وهذه هي الثقة التي لنا عنده أنه إن طلبنا شيئًا حسب مشيئته يسمع لنا" (1 يو 5: 14). أيه مشيئة إلهية أوضح من خلاص البشرية بالصليب وتمتعها بشركة الأمجاد السماوية؟!

  4. الحكم الانقضائي:

"الرب يدين الشعوب.

دنّي يارب على حسب عدلي (كحقي)

وعلى قدر عدم شري (كمالي) عليّ" [8].

مادام داود بريئًا في هذه القضية فقد تضرع إلى الرب أن يفحص أعماق قلبه.

v   لاحظوا كيف أن هذه النفس التي تصلي بكمال لم تخف يوم الدينونة، إنما تصلي بشوق دون قلق: "ليأتِ ملكوت" (مت 6: 10)...

"اقض لي يارب كَبرِّي، وحسب براءتي، لأن برّي وبراءتي هما من العلي... أنت تضئ سراجي يارب (مز 18: 28)... اقضِ لي حسب اللهيب الذي هو من فوق، الذي لم يصدر عني بل يضئ فيّ حينما تضرمه أنت من عندك.

القديس اغسطينوس

داود النبي يطلب هنا من الله أن يقضي له بحقه يتضرع إليه في موضع آخر ألا يدخل معه في المحاكمة، إذ لا يستطيع أحد أن يتبرر قدامه. ما يطلبه هنا لا أن يبرر ذاته أو يفتخر بقداسته إنما أن ينصفه ممن اتهموه ظلمًا وأساءوا فهم تصرفاته. لهذا يلجأ إليه كقاضٍ عادل، فاحص القلوب والكلى [9]؛ هو نار تأكل الشر وتزكي الحق: "ليفنَ شر الخاطي ويستقيم الصديق" [9].

 يعلق القديس جيروم على هذه الفقرات التي فيها يطلب داود النبي أن يحكم الله كحق المرتل ومثل كماله [8]، قائلآً: [لا يقدر داود أن يذكر هذه الكلملت عن نفسه، إنما هي بالحقيقة تخص المخلص الكامل الذي لم يخطئ قط]. إنها بالحق كلمات السيد المسيح ابن داود القائم من الأموات والصاعد إلى العلاء لأجلنا.

  5. نهاية الشر:

"ليفنَ شر الخاطي، ويستقيم الصديق" [9].

يرى العلامة أوريجانوس أن المرتل هنا يطلب أن يحطم الله الشر فيتحرر الخاطي من عدو الخير ويصير صديقًا مستقيمًا في طريقه.

يسأل داود النبي الله أن يبيد شر الخطاة وأنت يثبت الأبرار، مؤمنًا أن الشر في النهاية ينتهي ويُباد، وأن الله يسعى أن يتصالح مع الخاطي، لا مع خطيته أو شره.

بمعنى آخر لم يطلب داود النبي من أجل إبادة الأشرار بل إبادة شرهم. لم يطلب أن يُفني الله أعداءه بل أن ينهي عداوتهم بغير رجعة، لكي يصير الشرير صالحًا؛ كما يطلب منه أن يُثبت الصديقين.

بعمل ربنا الخلاصي: صلبه وقيامته وصعوده، ينتهي الشر إما بعودة الأشرار إلى إلهم بالتوبة، أو بدينونتهم في اليوم الأخير.

"فاحص القلوب والكلى هو الله" [9]

 الله في دينونته للأشرار لا يحتاج إلى شهود، إذ هو مدرك للخفيات، عارف ما تخفيه القلوب من مشاعر أو عواطف وأفكار، وعالم بما في الكلى من رغبات وشهوات... كل شيء مكشوف وعريان أمامه، فلا يخطئ الحكم.

v   "سينير الله كل خفايا الظلام" (1 كو 4: 5)، يتم ذلك بالمسيح، إذ هو النور (إش 42: 6)، كما يعلن أنه هو سراج "فاحص القلوب والكلى"[214].

العلامة ترتليان

في يوم الدينونة سينتهي الشر تمامًا، الأمر الذي لا يتحقق الآن، لا عن عجز وإنما لأجل طول أناة الله، مقدمًا للكل فرصًا للتوبة والرجوع إليه.

يقول المرتل: "الله قاضٍ عادل وقوي وطويل الأناة، ولا يرسل رجزه في كل يوم" [11].

إن كان المرتل يطلب من الله أن يبرره حسب كماله من جهة الافتراءات التي وجهها العدو ضده، فإنه يعلم أنه هو نفسه كما أعداءه يحتاجون إلى طول أناة الله، وأنه لو غضب ليجازي كل إنسان في الحال لما خلص أحد.

v "الله قاضٍ عادل وقوي وطول الأناة، ولا يرسل رجزه في كل يوم" [11].  لكن إن أسأنا استخدام طول أناته، يأتي وقت لا تكون فيه فرصة لنا للتمتع بطول أناته علينا ولو لفترة وجيزة بل يحل علينا العقاب فورًا[215].

v هنا على الأرض لدينا سبب للتوبة، إنه طويل الأناة، ومن ثم يقتادنا إلى التوبة؛ لكن إن كنتم تستمرون في خطاياكم فإنكم بحسب قساوتكم وقلبكم غير التائب تذخرون لأنفسكم حمو غضب[216].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هكذا يدرك المرتل طول أناة الله حتى على الأشرار، لكن يلزم ألا نتراخى فقد أعد السيف والقوس لإبادة الشر، السيف للضرب عن قرب والقوس للضرب عن بعد.

"إن لم ترجعوا سيصقل سيفه.

أوتر قوسه وأتقنها، وأعدَّ فيها أواني الموت.

صنع سهامه للملتهبين" [12-13].

بالفعل أستخدم السيف والقوس معًا في قتل شاول (1 صم 31: 3-4). الإثنان يشيران إلى الله نفسه، إذ عدله حاد وقاطع كالسيف وراشق وماضٍ كسهام الحرب. وقد مدّ الله قوسه وهيأه لضرب قلب الشرير وضميره القاسي، لكي يهبه التوبة بتحذيره وتبكيته، فإن الله يُريد أن يحرق بسهامه النارية الخطية لا الخاطي. يود أن تفنى الخطية بسيفه، أي بكلمة الله، فيصير الخاطي بارًا بالنعمة الإلهية.

يرى القديس أغسطينوس أن القوس هنا هو كلمة الله، إذ يقول: [هذا القوس فيه تظهر قوة العهد الجديد كأوتار...

هذا القوس أطلق الرسل كسهام، أي أرسلهم كارزين بالكلمة الإلهية. هذه الأسهم جعلها (الله) مهيأة للذين هم ملتهبون، أي يضطرمون بنار حب الله عندما تطعنهم هذه السهام. فبأي سهم آخر طُعنت نفس القائل: "أدخلتي إلى بيت الخمر، أقامني بين الأطياب. اسندوني بأقراص الزبيب. انعشوني بالعسل، فإني مجروحة حبًا" (نش 2: 4 LXX)].

أية سهام أخرى تقدر أن تشعل بالنار ذاك الذي يقرر الرجوع إلى أحضان الله، هذا الذي يقطع تيهه، ويطلب عونًا ضد الألسنة الغاشة، قائلاً: "ماذا تُعطي وماذا تزاد بأزاء اللسان الغاش؛ سهام الأقوياء مرهفة مع جمر البرية" (مز 120: 3-4)؟! كأنه يُقال: إن طعنتُك هذه السهام واضطرمت فيك نار هذا الجمر، تحترق بحب ملكوت السموات، فتحتقر ألسنة مقاوميك الذين يريدون أن يصدّوك عن غايتك.

القديس أغسطينوس

يرى البعض أن الحديث في هاتين الفقرتين (12، 13) هو عن الشيطان بمعنى إن لم تتوبوا وترجعوا عن طرقكم تمكثون تحت سلطان إبليس الذي يُعد سهامه دائمًا لتكون على أهبة الاستعداد لضربنا وإسقاطنا. لهذا يضيف المرتل: "أعدَّ فيها أواني الموت" [12]؛ ويقول القديس بولس إن سهام إبليس ملتهبة (أف 6: 16). وكأن الشرير يعطي إبليس فرصة ليلهب قلبه بالشهوات الشريرة، فيصير بالأكثر فريسة للأسد الذي يعمّق له حفرةً ويقتاده معه حتى موت الجحيم.

إذ يتحدث المرتل عن الشر، يُشبِه الشرير بالمرأة الحامل الذي تعيش زمانًا على رجاء انجاب إنسان جديد يُفِّرحِ قلبها، وتتحمل الآلام خاصة أوجاع المخاض، فإذا بها تنجب باطلاً وظلمًا.

"هوذا الإثم قد تمخض،

حبل وجعًا وولد ظلمًا" [14].

من يتحد بالسيد المسيح يُنجب ثمر الروح: محبة، فرحٍ، سلام... (غلا 5: 22)، يلد حقًا. أما من يتحد بإبليس فينجب كذبًا وخداعًا مع عنف وقلق.

v كل إنسان يحمل، ولا يوجد من هو ليس بحاملٍ، لكن البعض يحمل من السيد المسيح وآخرون من إبليس. من يحمل من إبليس يُقال عنهم: "هوذا بالإثم حبل تعبًا وولد فشلاً" [14]، بينما كُتب عن الذين يحبلون خلال الروح القدس: "حبلنا تلوَّينا بالألم،  ولدنا روح خلاصكم" (إش 26: 18 LXX)[217].

الأب قيصريوس أسقف آرل

يُشبِه المرتل الأشرار أيضًا برجل يحفر حفرةً لأخيه فيسقط فيها، إذ يقول:

"حفر جُبًا وعمَّقه سيسقط فيه،

وفي الحفرة التي صنعها" [15].

v    لا تفتحوا إذن جبًا (حمام سباحة) ولا تحفروه بالرذائل والجرائم، لئلا يُقال: "فتح جبًا، حفره فسقط في الحفرة التي صنعها"[218].

القديس أمبرسيوس

بينما ينهمك الشرير في حفر جب وإعداده إذ به يسقط فيه. هكذا يكشف داود النبي أن الخطية تحمل في أعماقها جزاءها، كما يحمل البر في ذاته المجازاة، هكذا يعلن الكتاب المقدس:

"من يحفر حفرة يسقط فيها، ومن دحرج حجرًا يرجع عليه" (أم 26: 27).

"من يحفر هوَّةً يقع فيها، ومن ينقض جدارًا تلدغه حيّة" (جا 10: 8).

"جلبت طريقهم على رؤوسهم" (حز 22: 31).

"ساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً" (إر 2: 5).

v    إن تحفر حفرة معناه أن تعد فخًا في أمور دنيوية ملتوية، كمن يحفر في الأرض، ليُسقط أحدًا في حبائله، هذا ما يفعله الظالم مخادعًا الغير.

يحفر الخاطي هذه الحفرة عندما يفتح نفسه لاقتراحات زمنية مملؤة طمعًا. يحفرها هو حين يفعل ذلك فيسقط في الخداع.

القديس أغسطينوس

يقول الأب سيرينيوس[219]: [إن الشياطين تقاوم البشر لكن ليس بدون جهد من جانبهم ليضمنوا النصر عليهم، فيسقطون فيما يصنعونه بنا، إذ قيل: "وعلى هامته يرجع ظلمه" (مز 7: 16)، وأيضًا: "لتأته التهلكة وهو لا يعلم ولتنشب به الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع" (مز 35: 8)، أي في التهلكة التي دبرها بغشه للبشر، فتسقط الأرواح الشريرة في الحزن، وإذ تريد إهلاكنا تهلك هي بواسطتنا بنفس التهلكة التي يرغبونها لنا].

يختم المرتل المزمور بالاعتراف بعدل الله والتسبيح لاسمه، إذ يعمل الله في حياته ويرد الشر على العدو الشرير:

"اعترف للرب على حسب عدله،

وأرتل لاسم الرب العلي" [17].

هذه هي أول مرة في سفر المزامير يُدعى فيها الله بالعلي The Most High. أول مرة تصادفنا فيها هذه الكلمة في الكتاب المقدس في (تك 14: 18)؛ تتكرر كثيرًا في أسفار موسى الخمسة، وأيضًا في الأسفار الأخيرة. تتكرر في المزامير أكثر من عشرين مرة.

الله هو العلي في سمو مجده طبيعته ومشورته وتدبيره. ليس أحد مثله، ولا شريك له، وليس أحد بجانبه. ليس فقط هو في الكل وبالكل وإنما أيضًا على الكل، أي فوق الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد[220].

v    يا له من قول جميل: "العلى"، لأن الرب ارتفع قدر ما اندحر الشيطان.

القديس جيروم

يختتم المزمور بأنشودة الفرح والانتصار مع التسبيح، مُحولاً الحزن إلى فرح، ومقاومة الأعداء إلى خبرة عمل الله معنا لينفتح اللسان بالتسبيح.

v    التسبيح هو علامة الفرح، بينما التوبة عن الخطية تتحدث بلهجة الحزن.

القديس أغسطينوس

يعلمنا داود النبي أن نسبح الله ونشكره في أحلك الظروف، كما فعل أيوب الصديق، وكما رنم الرسولان بولس وسيلا في غياهب سجن فيلبي.

v لنسبح الرب على الدوام، ولا نتوقف قط عن تقديم الشكر له على كل حال، بالكلمات كما بالأعمال. لأن هذه هي ذبيحتنا؛ هذا هو قرباننا؛ هذه هي أعظم ليتورجيتنا أو خدمتنا الإلهية، بها نتشبه بالحياة الملائكية. إن كنا نستمر هكذا نسبح له فسننهي حياتُنا هذه بلا ملامة متمتعين بالخيرات الصالحة المستقبلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم


 

صلاة

v   علمني يارب ألا أجازي الشر بالشر،

بل اطفئ نار الشر بمياه روحك القدوس واهبة الحب!

v    هب لي ألا أخاف الأسد المزمجر ضدي،

فأنت هو حصني، الأسد الخارج من سبط يهوذا!

v    قم في حياتي الداخلية كما في قلوب كل البشر،

أقمنا من كل ضعف، أصعدنا معك في السماويات،

هب لنا نصيبًا في أحضان أبيك، واحضرنا معك على السحاب.

v    علمني أن أشكرك بلا انقطاع بإعلان مجدك فيَّ!

<<

 

 

 


 

المزمور الثامن

سلطان ابن الإنسان

هذا المزمور هو أغنية تسبيح أو حمد، تُمجّد الله الخالق، لأنه أعطى البشر المسئولية والكرامة. يدور المزمور كله حول عظمة الله ومجده خلال عظمة الإنسان وكرامته!

يُعلن هذا المزمور ويكشف عن مجد اسم الله ونعمته الفياضة الغزيرة، مُترنّمًا بمن هو الله، وما هي أعماله نحو الكون كله، وعلاقتنا نحن به، وعلاقة العالم به. ويسلط الضوء على سبل الله الغير مُتوقعة في الأدوار التي كلف بها الأقوياء والضعفاء [2]، وأعماله المنظورة والخفية.

ويجيب المزمور على السؤال: "من هو الإنسان؟"، وذلك من خلال عمل ابن الإنسان الكفّاري الذي تجسد وظهر في منتهى الاتضاع وإخلاء الذات، ووُضِع قليلاً عن الملائكة، وذاق الموت عن كل إنسان، وقد تكلل الآن بالمجد والكرامة؛ وذلك لكي نتمجد نحن أيضًا فيه ومعه. يمعنى آخر، أُستُعلِن مجد الله وظهر في كرامة الطبيعة البشرية كما كانت عليها في أصلها وبدايتها، وفي استعادتها أيضًا في السيد المسيح الذي صار "ابن الإنسان".

وكما في مزامير أخرى كثيرة فإن نفس المرتل تمتلئ بشعورين أساسيين: مخافة الله والفرح بمجده. والمزمور كله يزخر بمنظومة يوحي بها هذان الشعوران أو الاتجاهان، اللذان ليسا هما متضادين وإنما متكاملان. فإن مهابة الله أو مجده تُقدم سلامًا وفرحًا في أعماق أولاده الذين يرجون الشركة في الأمجاد السماوية.

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور نظمه داود النبي ليلاً، حين كان يسهر على القطيع، فهو زاخر بالتأملات الليلية.

مزمور مَسِيَّاني:

أُقتُبِس هذا المزمور في العهد الجديد ثلاث مرات، فيشير إليه ربنا يسوع المسيح حينما هتف الأطفال في الهيكل: "أوصنا لابن داود" (مت 21: 16)، كما اقتبسه بولس الرسول في (1 كو 15: 27) و (عب 2: 5-9)، مُظهِرًا أنه يشير إلى ربنا.

وقد أُعتُبِر مزمورًا مَسِيَّانِيًا على أعلى مستوى[221]. إنه نبوة تخص السيد المسيح في آلامه، وقيامته، وسلطانه على كل المخلوقات. فيقول أحد الدارسين السريان: [المزمور الثامن يخص المسيح مخلصنا].

وفي النص العبري للمزمور نجد أن كلمة يهوه هي أول كلمة لأول وثامن آية، ولما كان رقم 8 يرمز إلى العالم الآتي أو نهاية العالم، لهذا يشير المزمور إلى يهوه بكونه الأول والآخِر، الذي يحتضن كل المؤمنين ليرفعهم إلى الأمجاد الأبدية. 

إطاره العام:

1. ما أعجب اسمك!                                               [1-3].

2. المفارقة بين الكون المهيب والكائنات البشرية الضئيلة الحجم     [3-4].

3. كرامة الإنسان كهبة إلهية                             [5-9].

4. تمجيد اسم الرب                                                [9].

العنوان:

"للتمام وعلى المعاصر، لإمام المُغنّين على (الجَتَّيِة) Gittith ...".

أُستُخِدمت لفظة "جَتَّيِة gittith" في عنوان المزمورين (81، 84). والمزامير الثلاثة التي لها هذا العنوان ذات سمة فرح مميزة، نابعة عن الحمد والشكر والتسبيح لله.

هي لفظة قريبة الصلة بعض الشيء من المدينة الفلسطينية جت Gath، وربما تشير إلى آلة موسيقية. وهي نوع من القيثارة، وربما تشير إلى نغمة موسيقية معينة، أو بداية لأغنية مشهورة في مدينة جت. على أي الأحوال كان لداود علاقة وثيقة بالفلسطينيين، إذ عاش معهم حين كان هاربًا من وجه أبشالوم (1 صم 27: 1-7)، وكان قد عّين منهم حرسًا خاصًا له (2 صم 8: 18).

وكلمة جَتَّيِة gittith في العبرية تعني "معصرة خمر" (قض 6: 11؛ مر 1: 15؛ يؤ 3: 13)، وردت في صيغة الجمع gittoth في (نح 13: 15) تحمل نفس المعنى تقريبًا. أما الترجمة السبعينية وأيضًا اللاتينية (الفولجاتا) فاستخدمتا العنوان "على المعاصر"، وفي هذا إشارة إلى أدوم التي ستُداس كما يُداس العنب في معصرة الخمر. وربما يشير إلى الدم الثمين الذي انسكب على صليب الجلجثة، هذا الذي انسكب كما في معصرة (إش 63: 1-4). ولهذا العنوان صلة بعنوان المزمور التاسع "موت لابِن muth Labben" أي "موت الابن".

v   يمكننا أن نأخذ المعصرة بمعنى أنها "الكنيسة"... لأن الكلمة الإلهية ذاتها يُمكن أن تُفْهَم بكونها عنبًا، كما دُعِى الرب عنقود عنب (كرمة)، هذا الذي سبق فأُرسِل قبلاً إلى شعب إسرائيل من أرض الموعد مِعلقًا على خشبة، كما لو كان مصلوبًا (عد 13: 23)...

هذا الخمر الذي من نتاج العهد الجديد، يشربه الرب مع قديسيه في ملكوت أبيه (مت 26: 29)، حلو المذاق جدًا وصحيّ للغاية.

v   تشير المعاصر (جمع كلمة معصرة) أيضًا إلى الاستشهاد؛ فالذين يعترفون باسم السيد المسيح تطأهم ضغطات الاضطهاد، بينما تبقى قشور الثمار على الأرض (ما تبقَّى من العصر) إذا بنفوسهم ترتفع لتستريح في المساكن العلوية (كالخمر).

القديس أغسطينوس

ما أعجب إسمك!

"أيها الرب ربنا مثل عجب صار اسمك على الأرض كلها، لأنه قد ارتفع عظم بهائك فوق السموات" [1].

1. عجيب هو إسم الله في الخليقة وفي عهده الذي أقامه مع الإنسان، أينما وجد الإنسان! "مثل عجب صار اسمك على الأرض كلها".

ماذ تعني الأرض؟ إنها ترمز إلى جسدنا الذي أُخذ من الأرض، إذ يتمجد الله في هذا الجسد الذي كرّمه بتجسده، إذ أخذ جسدنا! كما يجدد جسدنا بروحه القدوس في مياه المعمودية ويُشّكله ليصير هيكله المقدس.

هذا ويملأ مجده "الأرض كلها" كخالق للمسكونة.

v   تُنتج الفنون البشرية بيوتًا وسفنًا ومدنًا وصورًا. لكن كيف أخبر عما يصنعه الله؟ تأملوا المسكون كلها، إنها عمل يديه: السماء والشمس والملائكة والبشر هي صنعة أصبعه. يا لعظم قدرة الله[222]!

القديس أكليمندس

v   بالنسبة للإنسان على الأرض، فيما يخص طبيعته الجسدية فهو تراب ورماد، لكن الله كرَّمه إذ خلقه على صورته ومثاله، لا في شكله الجسدي، بل بالحري بقدرته أن يحيا بارًا وصالحًا، ولائقًا لممارسة كل فضيلة. لهذا يعتني به خالقه بكونه خليقته بهدف تزيين الأرض به. وكما يقول إشعياء النبي: "لم يخلقها باطلاً، للسكن صوِّرها" (إش 45: 18)، تسكنها بالطبع الكائنات العاقلة التي تفكر بكل أنماط الذهن في الخالق والمُبدع المسكونة فيمجدونه مثلما تفعل الكائنات العلوية[223].

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس أكليمندس الإسكندري والعلامة أوريجانوس والقديس غريغوريوس النيصي أن الله فوق كل إسم. وأن أسماءه أُعطِيت لنا فقط لكي نتعرف عليه بعقولنا المحدودة.

يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [كيف يمكن لذاك الذي يفوق كل شيء على الدوام أن نعرفه خلال إسم؟... كثيرًا ما يدعوه العظيم داود بالعديد من الأسماء، مُقِرًّا أن جميعها (أقل من أن تعبّر عن الحق)، دون الحق. "أنت هو الله، الرحوم، العطوف، الطويل الأناة، الغني في الرحمة، الحقيقي، القوي، الثابت، ملجأ وقوة وعونٌ ومُعينٌ وقرن خلاص الخ..." مرة أخرى يعترف داود أن اسم الله لا يُعرَف في كل الأرض ومع ذلك فهو عجيب. "مثل عجب صار اسمك على الأرض"[224]].

2. تُرنَّم تسابيح الله في العلا، إذ "قد ارتفع عظم بهائك فوق السموات" [1].

إن كانت الأرض تُشير إلى "جسدنا"، فنسبح اسمه ونمجده بكل جسدنا، أي بكل أحاسيسنا وعواطفنا وطاقاتنا؛ فالسموات هنا تشير إلى "سمائنا الداخلية"، أي نفوسنا إذ أسَّس ملكوته في داخلنا (لو 17: 21)، يعكس الله بهاءه علينا وفيها. إذ يقول: "وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب" (حز 16: 14).

"لأني أرى السموات أعمال أصابعك.

القمر والنجوم أنت أسستها" [3].

 يذكر هنا القمر والنجوم دون أن يُشير إلى الشمس، لأنها ترمز إلى "ربنا يسوع المسيح"، العريس السماوي (مز 19: 5). القمر بتغيّراته يرمز إلى "الكنيسة"، أما النجوم بأمجادها المتبادلة في النور فترمز إلى "المؤمنين". القمر والنجوم التي تمجد الله وتسبحه هم "الخطاة" الذين ينالون نعمة الله ويتقدسون بالروح القدس. كانوا أرضًا وصاروا سماءً.

يتحدث المرتل عن السموات بكونها "أعمال أصابعه". كما في كل الصناعات اليدوية يستخدم الإنسان أصابعه، لهذا وكنوع من الإخلاء والاتضاع قيل إن الله صنع السموات بأصبعه، مع أنه بدون أعضاء جسدية.

الناموس أيضًا كُتِب بأصبع الله (خر 31: 18)، التي نفهم بها الروح القدس. فإن الروح القدس الذي يُسجل كلمات الله في قلوبنا هو القادر وحده أن يُحوّلنا إلى سموات!

يقول القديس أغسطينوس: [إن الروح القدس الذي أعطى الناموس لموسى عبد الله، يعمل في عقل الخدام ليفهموا الكتب المقدسة حالة كونها السموات. يرفع الروح القدس الأطفال والرضع ليفهموا الكتب المقدسة، أي ليدخلوا السموات!

أما عن قوله "القمر والنجوم أنت أسستها"، فيُعلّق الأب يوحنا الدمشقي: [يشير بكلمة "أسست" إلى ثبات وديمومة النظام والتدبير اللذين وٌهِبا لهم من الله[225]].

3. تنطلق تسابيحه من الأطفال والرضع بطريقة مقبولة؛ فقد سبحوه عند دخوله إلى أورشليم (مت 21: 16).

يُشير الأطفال إلى النفوس التي ولدت من جديد (نالت الميلاد الثاني بالمعمودية)، هذه التي تسبح الله لا بألسنتها فحسب بل وبكل كيانها، حينما تنال الحياة الجديدة في المسيح.

يقول القديس أغسطينوس: [لا نستطيع أن نفهم الأطفال والرضع إلا أنهم أولئك الذين قال عنهم الرسول: "كأطفال في المسيح سقيتكم لبنًا لا طعامًا" (1 كو 3: 1-2)]. وبسطاء المؤمنين الذين ينعمون بتسبحة الطفولة العذبة "بسبب أعدائك"، بمعنى آخَر ينعمون بالقدرة على هزيمة المضطهِدين والهراطقة والفلاسفة الملحدين وذلك بإيمانهم. تظهر قدرة الله المعجزية في الحقيقة العجيبة أنه "اختبار جهال العالم ليخزي الحكماء، واختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء؛ واختار أدنياء العالم والمُزدَرى وغير الموجود ليُبطِل الموجود. لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمام الله (1 كو 1: 27، 29). مسرَّة إلهنا وربنا يسوع المسيح أن يفتح أبواب ملكوته للأطفال الصغار (مت 11: 25-26 لو 10: 21؛ 18: 17)، واهبًا لهم الحكمة الإلهية والقدرة والفرح ليشتركوا في التسابيح الملائكية السماوية.

v   يقول داود: "تفرح نفسي بالرب وتبتهج بخلاصه" (مز 35: 9). ولهذا السبب فإنه عند دخول الرب إلى أورشليم عرف كل الذين كانوا في طريقه – داود ملكهم في حزن نفسه، ففرشوا على الأرض ثيابهم، وزينوا الطريق كله بالأغصان الخضراء صارخين ومهللين بصوت عظيم وفرح عجيب: "أوصنا لابن داود"... أما الوكلاء الأشرار الحاسدون الذين قمعوا الذين حولهم ومعهم، وسيطروا على قليلي الحكمة، هؤلاء الذين لم تكن لديهم الرغبة في مجيء الملك، فقالوا له في غضب: "أتسمع ما يقول هؤلاء؟!" أجابهم الرب: "أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحًا؟!" (كت 21: 16)، مُعلِنًا أن ما سبق داود وكتبه بخصوص ابن الله، قد تحقق فعلاً في شخصه، كاشفًا عن مدى جهلهم لفهم الكتب المقدسة وعدم معرفتهم لتدبير الله، وأنه هو نفسه الذي تنبأ عنه أنبياء العهد القديم بكونه المسيح، الذي يُسبَّح باسمه في كل الارض، الذي كمّل سبحًا لأبيه من فم الأطفال والرضع، لهذا يرتفع مجده فوق السموات[226].

القديس إيرناؤس

v   نحن أطفال؛ والكتاب المقدس يحتفي بنا بطرق عديدة، ويصفنا بعدة أشكال وأنماط من الحديث، مُعطِيًا بساطة الإيمان أسماءَ عديدة... فقد قيل: "وحينئذ قُدِم إليه أولاد لكي يضَع يديه عليهم ويباركهم، فانتهرهم التلاميذ، أما يسوع فقال لهم: "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (مت 19: 14). وما يعنيه هذا القول يُعلنه الرب نفسه، قائلاً: "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت 18: 3). هنا لا يتحدث الرب بشكل رمزي عن التجديد إنما يضع أمامنا مثالاً به يُحتذَى، أعني البساطة التي للأطفال. وما هو الروح النبوي أيضًا يميزنا كأطفال[227].

القديس أكليمندس الإسكندري

v   لأن المسيح بقبوله التسبيح من أفواه الأطفال والرضع، يعلن أن الطفولة ليست بدون أحاسيس[228].

العلامة ترتليان

في المزمور الثاني، إذ كًلِّلَ ملكنا المسيا على الصليب ثار ضده ملوك الأرض، أما هنا فتَمجَّد إسمه لا كخالق بل بكونه الفادي الذي يُجدد طبيعتنا، واهبًا إيانا الحياة الجديدة فيه.

يقول C. Stuhmueller: [اقتباس المزمور في (1 كو 15: 20-28) يشمل إشارات إلى ناسوت آدم الجديد، وإلى الملكوت الجديد، وإلى الصراع مع الأعداء الذين آخِرهم هو الموت، وإلى الخليقة الجديدة (أنظر أف 1: 15-23). أوضح العهد الجديد أن يسوع مارس صراعنا ضد الشر في جسده الذي صُلب ودُفن؛ وكلما متنا نحن في أهدافنا ننال كرامة جديدة وخليقة جديدة في يسوع القائم من الأموات[229]].

4. يُمجَّد إسم يسوع خلال كرامة الإنسان وسلطانه [6-9]. ما من إعلان عن الله إلا ويُلقى بعض الضوء أيضًا على طبيعة الإنسان؛ وبالعكس فإن الفهم الحقيقي للإنسان لا يمكن بلوغه إذا لم نهتم بمعرفة الله[230]. يُبدِي المرتل دهشته لهذا العالم العجيب المكلَّل بالكائنات البشرية[231].

وهبَنا الله سلطانًا على كل البهائم والأغنام، أي على الجسد بكل حواسه وعلى العواطف الجسدانية؛ كما وهَبنا سلطانًا على طيور السماء، أي على حواسنا وأفكارنا الهائمة؛ وعلى سمك البحر أي يكون لنا سلطانٌ روحيٌ حتى على الظروف التي تبدو كأنها خارج أيدينا أو فوق إمكانياتنا.

كرامة الإنسان:

يُظهِر هذا المزمور الإنسانَ بكونه ليس نتاج الصدفة العشوائية، إنما خُلق على صورة الله. فالإنسان هو أعظم نسق لخلقة الله. ولا تُقّدر الحياة البشرية في ذاتها، وإنما كهبة إلهية. كانت مشيئة الله أن يحكم  الإنسان الأرض كممثّل لله ذاته.

"على أعمال يديك أقمته؛

كل شيء أخضعت تحت قدميه:

الغنم والبقر جميعًا،

وأيضًا بهائم الحقل وطيور السماء وأسماك البحر السالكة في البحار" [6-8].

الإنسان ليس بالكائن المعمّر ولا القوي ولا النشط ولا السريع العَدْو في مشيه كبعض الحيوانات، لكن الله وهبه سلطانًا عليها.

يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إن الله خلق الإنسان في كرامة طبيعية؛ لهذا لا يليق بسيّدٍ أن يغضب على خدمه، إذ خُلِقوا ليكونوا مساوين له في الكرامة. فإن رب المسكونة قد نظّم أن تكون الطبيعة غير العاقلة هي وحدها التي تلتزم بخدمة الإنسان[232]].

يرى القديس أغسطينوس أننا نفهم بتعبير "الغنم والبقر جميعًا"، النفوس المقدسة، إما التي تثمر براءة أو التي تعمل في الأرض لكي تثمر، بمعنى أن الإنسان الترابي يمكن أن يتجدد ليصير في غنى روحي. بالنسبة للقديس أغسطينوس "بهائم الحقل" يُفهَم منها البشر الذين يجدون بهجتهم في ملذات الجسد حيث لا يرتفعون إلى الأعالي ولا يجاهدون. فالحقل هو طريق متسع يؤدي إلى الهلاك (مت 7: 13). أما طيور السماء فهي "المتكبرون"؛ والأسماك هم "الفضوليون". بمعنى آخر أن القديسين ومعهم الخطاة الذين ابتلعتهم شهوات الجسد، المتكبرون والفضوليون، جميعًا يخضعون لابن الإنسان.

يليق بنا أن نلاحظ هذه الحقيقة أنه في الآيتين 5، 6 الله دائمًا هو المهيمن، وأن من يده يستلم الإنسان وَضعْه كمسيطر في العالم. وبالرغم من تفاهة الإنسان، عَيَّنه الله ليسود الأرض. فقد إِأْتَمن رب الكون الإنسان ليقوم بعمل إلهي خاص بالسيادة. مَلِكُ الكون أقام الإنسان كملِكٍ على الأرض، مُكلّلاً إياه بأكاليل الجلالة والمجد التي بحق هي من سمات جلال الله[233]. وقد مُنِحت هذه الهبة الإلهية للإنسان في خلقته: "على صورة الله ومثاله" (تك 1: 26-28؛ 2: 19). بل وقد أُستُعِلن هذا الأمر بوضوح كامل وعميق في عمل ربنا يسوع المسيح الكفاري، حيث يمكننا القول مع الرسول بولس: "بنعمة الله أنا ما أنا" (1 كو 15: 10).

v   أخضع الله أعماله في الكون التي صنعها لصورته أي الإنسان[234].

العلامة ترتليان

v   تعلّم الفلاسفة من كتاباتنا أن كل الأشياء قد أُخضِعت للإنسان، لهذا عرفوا أيضًا أن جميعها قد خُلِقت من أجل الإنسان[235].

القديس أمبروسيوس

"وضعته قليلاً عن الملائكة" [5].

في (عب 2: 6-8) فُهمِتْ الآيتان 5، 6 (الترجمة السبعينية) بكونهما نصًا نبويًا، حيث فُسرّ ابن الإنسان [4] أنه ربنا "ابن الإنسان" "Son of Man"، الذي هو بالطبيعة فوق الملائكة وقد اتضع وأُنقِص قليلاً عنهم بإخلائه ذاته بالتجسد، ليهبنا شركة مجده (عب 2: 6-8؛ 1 كو 15: 27).

v   لأنه حمل طبيعتنا أُنقِص قليلاً عن الملائكة[236].

العلامة ترتليان

يستخدم العلامة ترتليان هذه الآية كأحد البراهين ضد مارقيون الذي أنكر ناسوت ربنا يسوع المسيح:

v   الآن هذه العلامات عن التنازل (التخلي) (إش 53: 1-4؛ 8: 14؛ 8: 5؛ 22: 7) تناسب مجيء الله تمامًا، كما ستظهر علامات جلاله عند مجيئه الثاني، حيث لا يعود بعد "حجر عثرة وصخرة معصية" وإنما بعد رفضه صار رأس الزاوية الأساسي... لأن الآب بعدما أنقصه قليلاً عن الملائكة سوف يكلله بمجد وبهاء ويسلطه على أعمال يديه ويجعل كل شيء تحت قدميه [5-6]. حينئذ أيضًا سوف ينظره جميع الذين طعنوه وينوحون عليه كل عشيرة على حدة (زك 12: 10، 12)، لأنهم بلا شك قد رفضوا مرة أن يتعرفوا عليه في اتضاع بشريته. يقول إرميا إنه إنسان، فمن سيتعرف عليه؟ لذلك يسأل إشعياء: "من سيُعلِن عن جيله؟" (إش 53: 8).

v   في تنازله (تخليّه) قَبل من الآب تدبيرًا، الأمر الذي أنت تحتقره بكونه إنسانًا؛ فمنذ البداية حتى النهاية وُضِع له أن يكون إنسانًا. إنه هو الذي نزل وهو الذي يُمَّجد؛ هو يُسأل وهو الذي يعطي بفيض.

v   أما بخصوص مسيحنا فلا مناص أمامه من أن يكون ما كان عليه، وأن يصير ما شاءه الآب "يُنقصه قليلاً عن الملائكة"، يصير "دودة لا إنسانًا"، "عارًا عند البشر ومُحتقَر الشعب" (مز 22: 6)... حتى يؤسس خلاصنا باتضاعه[237].

العلامة ترتليان

هكذا تنطبق العبارة "وضعته قليلاً عن الملائكة" على شخص السيد المسيح بتجسده؛ وإن كان بعض الآباء يرى أنها تنطبق على الإنسان بوجه عام حيث أقامه الله صاحب سلطان وبسبب خضوعه للموت صار أقل من الملائكة.

v   خلقَنا "أقل من الملائكة"، أعني بسبب الموت، لكن هذا النقصان القليل قد استردناه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بسبب براءة الملائكة القديسين وبرهم، اللذين يتناسبان مع طبيعتهم ومجدهم، يتميزون تمامًا عن سكان الأرض، لأن الأخيرين "أي مكان الأرض" ذوو مرتبة أدنى، وهم أقل من كل جهة، كما هم أقل منهم من جهة الطبيعة. ومع هذا فإن الذين يشتاقون أن يعيشوا مقدَّسين لا يقدرون أن يبلغوا هذا دون تعب، فإن الطريق المؤدي إلى الفضيلة هو على الدوام طريق وعِر وعسير أمام كثيرين أن يسلكوا فيه[238]!

القديس كيرلس الإسكندري

تمجيد اسم الرب:

لا يختم المرتل مزموره بالتأمل في سلطان الإنسان على الأرض، وإنما يعود إلى البداية حيث يُعلن مجد اسم الرب إلهنا... وكأن مجد اسمه هو البداية والنهاية، أما مجدنا فهو عطية من الله الممجّد في كل الأرض.

"أيها الرب ربنا، مثل عجب صار اسمك على الأرض كلها".


 

ما أعجب إسمك يارب!

v   أيها العجيب في مجدك،

أقمتني ملكًا على الأرض، أحمل سلطانًا على الخليقة التي أوجدتَها لأجلي!

هب لي يارب سلطانًا على جسدي وأحاسيسه ومشاعره،

على نفسي بكل قدراتها وطاقتها!

v   أيها القدوس قدسني!

أيها الممجد مجدني!

v   اِفتح شفتي بالتسبيح، واحسبني مع الأطفال والرضع أسبح اسمك!

v   هب لي شركة مع ملائكتك، لأشاركهم تسابيحهم وفرحهم بك!

<<

 

 


 

المزمور التاسع

تسبحة الغلبة

المزموران 9، 10:

يرتبط المزموران 9، 10 ارتباطًا وثيقًا ببعضهما البعض، وقد وجد اتفاق شبه عام على أنهما يكونان مزمورًا واحدًا. وفي الحقيقة تدعوهما النسخة السبعينية المزمور التاسع، وقد تبعتها الترجمة اللاتينية المسمّاه الفولجاتا وأيضًا النصوص الليتورجية القديمة في الكنيسة الشرقية والغربية.

توجد أسباب كثيرة مقنعة تؤكد وحدة الزمورين:

* ثمة نسق هجائي عبراني، أو تركيب لغوي "الفابتا" ممتد في المزمورين.

* غياب عنوان للمزمور العاشر، يؤيد وجهة النظر القائلة بأنه امتداد للمزمور التاسع.

* التسليم الكنسي في الشرق والغرب.

* استمرارية الأفكار وانسيابها واتساق مفردات اللغة العبرية في المزمورين كوحدة بنائية واحدة. ففي المزمور التاسع يكتب داود النبي عن الأعداء الخارجيين (الأمم الوثنية)، وفي المزمور العاشر يكتب عن الأعداء الداخليين الذين يظلمون المساكين ويضطهدون المتضعين واليتامى. كلاهما يتحدثان عن "أزمنة الضيق" (9: 9؛ 10: 1)، وعن الصراع المرير بين البر والشر.

مناسبة المزمور:

ربما تفّوه داود النبي بهذا المزمور كتسبحة شكر، شاعرًا بالفضل الإلهي عليه. نطق به في إحدى انتصاراته التي ظفر بها، ربما حين غلب جليات الجبار.

يرى الأسقف وايزر Weiser أن الاحتفال بعهد الرب هو المناسبة التي كان يُتلى فيها هذا المزمور حيث توجد إشارة إلى الله أنه الملك الجالس على العرش (9: 4؛ 10: 6) في صهيون (9: 11)، الذي يقضي بالحكم على الأمم، مشيرًا إلى احتفال ديني مهيب. يفترض وايزر أن المزمورين يمثلان "صلاة توسلية"، بينما يراهما موفنكل Mowinckel كمزمورين ينتسبان إلى "المزامير الوطنية (الخاصة بالجماعة)".

الشكل الأدبي:

شكله الأدبي مختلط، أي يجمع العديد من الأنماط الأدبية معًا، مثله مثل المزامير (36، 40، 89، 90، 139). فهو مرثاة وفي نفس الوقت هو تسبحة شكر ومزمور ليتروجي (جماعي) حِكميّ خاص بحكمة الاتكال على الله.

ربما بدأت ليتورجية الهيكل في أورشليم، أي العبادة الجماعية فيها، بتقديم التسبيح والشكر، ثم قُبلت بعد ذلك الصلوات التوسلية من أجل طلب المعونة والتعبير عن الحزن الذي يلحق بهم بسبب المصاعب وفي النهاية تعلن عن الثقة في الله والاتكال عليه.

الكلمات والأفكار المحورية (مفتاح المزمور):

الأمم الوثنية (10 مرات).

*المساكين (10 مرات).

*الأشرار المتغطرسون والمنحرفون (15 مرة).

عدل الله (8 مرات).

*جلوس الله على العرش في الهيكل (5 مرات).

*حالة الضياع والهلاك (5 مرات).

الإطار العام للمزمور:

1. تسبيح العَليّ              [1-2].

2. الرب الديّان              [3-8].

3. الرب الملجأ              [9-11].

4. الرب المخلّص           [12-20].

العنوان:

"لإمام المغنين على موت الابن muth-Labben، مزمور لداود" وبحسب الترجمة السبعينية: "لداود، على الانقضاء (النهاية)، ومن أجل أسرار الابن".

1. "على الانقضاء": سبق الحديث عنها في المزامير (4، 5، 6، 8).

v   أما كلمة "للتمام" (على الانقضاء) فكُتبت لأن بموت المسيح صار لنا الخلاص، وهذه كانت الغاية (النهاية) التي من أجلها جاء المخلص بالجسد، والتي عنها كتب بطرس الرسول: "نائلين غاية إيمانكم خلاص نفوسكم، الخلاص الذي من أجله فتش عنه الأنبياء الذين تنبأوا من أجل النعمة التي لأجلكم، وفتشوا لمن أو في أي وقت استعلن روح المسيح الذي كان فيهم، إذ سبق فشهد عن آلام السيد المسيح والأمجاد التي بعدها" (أنظر 1 بط 1: 9-11)[239].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   لا تشير الكلمات: "إلى النهاية" إلى اليهود بل إلينا نحن الذين آمنا أخيرًا. فاليهود هم الابن البكر، أما نحن فالابن الأخير، يجدر بنا أن نعي هذا المزمور لأنه يخص أولئك الذين آمنوا في النهاية.

القديس جيروم

2. أما "موت الابن muth-Labben" فقد جاءت في الترجمة السبعينية: "من أجل أسرار الابن".

أ. "muth-Labben" تعني "موت الابن"، ربما تشير إلى موت ابن بتشبع الأول، أو موت جليات أو نابال أو أبشالوم. ويظن البعض أن "Labben" هو اسم قائد عظيم كان يقود قوات معادية لداود الملك وإسرائيل؛ وكأن هذا المزمور يعلن عن الاحتفال بذكرى الخلاص منه بعد موته[240].

ب. يقبل البعض الرأي القائل بأنه يشير إلى موت ابن الإنسان على الجلجثة حيث هُزم الشيطان.

v   أما بخصوص "من أجل أسرار الابن" فربما يُثار تساؤل: مادام هذا الابن لم يتحدد من هو، فالمقصود به هو ابن الله الوحيد الجنس... واضح أن هذا المزمور هو أغنية تترنم بأسرار ابن الله الوحيد.

القديس أغسطينوس

3. كلمة "Higgalon" تعني "تأمل في...".

1. تسبيح العليّ:

"أعترف لك يارب من كل قلبي،

وأحدث بجميع عجائبك.

أفرح وأتهلل بك.

أرتل لاسمك أيها العليّ" [1-2].

افتتاحية هذا المزمور هي صلاة شكر من أجل نوال نصر ظافر وأكيد على أعداء المرتل. يمكن فهمه على أنه نذر للرب، به ينذر العابد الحقيقي أنه سيشهد باسم الرب ويتحدث بجميع عجائبه.

هذه الافتتاحية تصلح في العبادة الليتورجية العامة.

يلاحظ في هذه الافتتاحية الآتي:

أ. روح الشكر هي إحدى السّمات الرئيسية التي تميز الكنيسة الحقيقية والمؤمن الحقيقي كعضو في الكنيسة السماوية له سِمته التي تميزه عن أهل هذا العالم.

ب. يدخل المرتل إلى المعركة لا ليواجه العدو وإنما بالحري ليسبح الله واهب الغلبه على الشر. بمعنى آخر لا يركز المرتل على ما يلاقيه من متاعب وإنما بالحري على نعمة الله الغنية. لهذا يفيض قلبه فرحًا ولا يصمت لسانه عن الشكر والتسبيح. وكما يقول إشعياء النبي: "وتقول في ذلك اليوم: أحمدك يارب... هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا، فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" (إش 12: 1-3).

ج. ثمة سمة أخرى لا تنفصل قط عن السمة السابقة وهي الفرح بالله نفسه، وليس فقط بأعماله العجيبة. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن شئت أن يكون فرحك ثابتًا باقيًا، التصق بالله السرمدي، ذاك الذي لا يعتريه تغيير، بل يستمر ثابتًا على حالٍ واحد إلى الأبد[241]].

الفرح بالله وبأعاجيبه معنا يُولِدّ فينا روح التسبيح والشكر، وممارسة التسبيح تزيدنا فرحًا وبهجة بالله... وهكذا ينطلق المؤمن من فرح إلى فرح أعظم ومن تسبحة إلى تسبحة...

v   إنها تسبحة القلب كله صادرة عن شعب ممتلئ بالروح والمغفرة، يسبح المخلص من أجل أعماله الخلاصية.

v   "أعترف لك يارب من كل قلبي" [1]. لا يعترف لله بكل قلبه من كان متشككًا في عنايته الإلهية في أمر، وإنما ذاك الذي يرى أسرار حكمة الله الخفية، وعظم مجازاته غير المنظورة، قائلاً: "نبتهج في الضيقات" (رو 5: 3)، وأن كل ما يحل بالجسد من آلام إما هي تداريب للذين يرجعون إلى الله، أو تحذير للذين لم يهتدوا بعد فتحثهم على الرجوع إليه، خاصة بالنسبة للمعاندين بقساوة قلوبهم، وذلك لإنقاذهم من طريق الهلاك الأبدي. الآن كل الأمور يحكمها تدبير العناية الإلهية التي يعتقد الحمْقى أنها عشوائية، تحدث بمحض المصادفة البحته، دون أي تدبير إلهي.

القديس أغسطينوس

v   لم يتحدث العظماء عن الله، بل بالحري عن أعماله، قائلين: "من يعلن عن قوات الرب؟!" (مز 106: 2)، "سأخبر بجميع عجائبك" (مز 9: 2)، "جيل فجيل يُسبِّح بأعمالك" (مز 145: 4). هذا هو محور مناقشاتهم، وهذا ما يدور حوله كلامهم، إذ يحاولون أن يترجموا الحقيقية إلى كلمات. ولكن حينما يصل حوارهم إلى ذلك الذي يعلو كل معرفة، بالحري يلتزمون بالصمت عندما يخبروننا عنه. إنهم يخبروننا بأن عظمة مجد قداسته لا نهاية له[242].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

د. يصدر التسبيح عن القلب كله، فلا يسبح العابد الحقيقي بشفتيه بينما قلبه منقسم بين محبة الله ومحبة لعالم. القلب الممتلئ بحب الله يسبحه على الدوام بكل أعماقه.

يصنف البعض العابدين إلى ثلاثة أقسام[243]:

الذين يخدمون الله برياء؛

والذين يعبدونه بقلب منقسم؛

ثم الذين يعبدونه بملء القلب.

يقول الأب أنثيموس أسقف أورشليم: [من يحب الله من كل قلبه، هذا يعترف له من كل قلبه، أي بكل همةٍ ونشاط، وذلك مثل من يتوب عن خطيته إلى الله من كل قلبه". كما يقول لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تفسيرًا لهذه العبارة: "[أشكرك يارب على كل حال؛ ليس في العيشة الرغدة وانشرح القلب فحسب، وبل في ضد ذلك. الشكر لله على إحسانه هو وفاء دين، وأما الشكر في وقت الشدة والعذاب فيجعل الله مدينًا لك، عوض شكرك ينعم عليك بقوة فلا تشعر بالأوجاع...].

لقد قدم مسيحنا "الابن الوحيد" اعترافًا وشكرًا للآب من كل قلبه، متهللاً بالروح، لأن حكمة خلاصنا قد أُخفيت عن الحكماء المتكبرين وأُعلنت للأطفال البسطاء، إذ يقول: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (مت 11: 25). ربما لهذا السبب جاء عنوان المزمور: "من أجل أسرار (خفايا) الابن".

لنتحد بمسيحنا، فيجدد بروحه قلوبنا، ويصدر عنها تسابيح الحمد والشكر بكل القلب بغير انقطاع، خاصة من أجل أسرار خلاصه التي أعلنها لنا. نبقى نهتف لاسمه كسِرّ خلاصنا وقوتنا حتى ننعم معه بشركة أمجاده الأبدية.

2. الرب الديَّان:

لم يكن داود النبي منهمكًا بنصراته على الأعداء الظاهرين، وإنما انغمس بكُلّيته في الحضرة الإلهية وعمل الله العجيب معه، ممجدًا إياه كديان عادل [1-8، 15-20]، وكملجأ حصين [9]، وكمخلص وفادٍ من العدو الحقيقي [13-14].

"في ارتداد عدوي إلى خلف يضعفون ويهلكون جميعًا من وجهك، لأنك صنعت حكمي وانتقامي" [3].

إن سقط أعداؤنا الروحيون إنما يتحقق ذلك في حضرة الله. فحضوره ومجد قوته كفيلان بتدمير أعداء شعب الله. تحقق هذا عندما تقدم ربنا يسوع المسيح، قائلاً: "أنا هو"، رجع أعداؤه إلى الوراء وسقطوا على الأرض (يو 18: 6) [244].

I. ظل جليات لمدة أربعين يومًا يهين الله بينما كان شاول الملك وكل جيشه في عار. أما داود – الشاب التقي – فقد آمن بالله الديان العادل الذي لا يمنع الأشرار عن ممارستهم شرورهم ولكن إلى حين. ففي الوقت المناسب يحكم لشعبه بالعدل ويخلص الانقياء من فخاخهم الشريرة المنصوبة لهم، بينما يترك الأشرار يجنون ثمار شرورهم الآثمة إن أصرُوا على عدم التوبة. يظهر كمال مجد الله وكرامته حين يحكم على الأشرار ويعاقبهم، إذ يقول المرتل: "في ارتداد عدوي إلى خلف يضعفون ويهلكون جميعًا من وجهك" [3]. هكذا يتكئ المؤمن في حضن الرب (يو 13: 23)، مدركًا أن الله الطويل الأناة ينتظر توبة الجميع، حتى مضطهديه! وهو في نفس الوقت عادل لا يمكنه أن يترك الشر إلى الأبد.

يرى بعض آباء الكنيسة أن هذه الفقرة إنما تشير إلى اليهود المقاومين للسيد المسيح.

v   هكذا كان الحال مع اليهود، إذ قالوا ينبغي عليهم أن يقتلوا يسوعًا، لئلا يأتي الرومان ويأخذون موضعهم وأمتهم... الذي ذُبح، هو في السماء، والذين ذبحوه نالوا الجحيم جزاءهم[245].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   الآن يبدأ شخص الرب في الظهور متحدثًا بالمزمور، إذ تلى ذلك القول: "أرتل لاسمك أيها العليّ، في ارتداد عدوي إلى الخلف" [2-3]. متى رجع عدوه إلى خلف؟ هل حينما قال الرب: "اذهب عني يا شيطان" (مت 16: 23). لأن ذاك الذي جَرَّب وضع نفسه أن يكون متقدمًا إلى الأمام، لكنه دُفع ليرتد إلى خلف بفشله في خداع (السيد المسيح) المُجرَّب، إذ لم يقدر أن يجد عليه شيئًا... بالحقيقة ارتد الشيطان إلى خلف.

القديس أغسطينوس

يمكننا القول بأن هذا تحقق في حياة السيد المسيح الذي ألزم الشيطان عدو الخير أن يتقهقر إلى خلف في خزي وفشل، ولا يزال يحقق هذا في كنيسته حين يجربها العدو ليتقدمها كرأس لها، فيرده الرأس الحقيقي إلى خلف بلا سلطان.

أ. في التجربة على الجبل سمح الرب للشيطان أن يجربه، لكنه باسمنا غلب، فتقهقر العدو.

ب. حين أراد الأشرار القبض على السيد المسيح، قال "أنا هو"، فلم يحتملوا حضرته بل سقطوا في خزي، حتى سلم نفسه إليهم بسماح منه.

ج. يقول القديس أغسطينوس: [حينما نهرب من الشيطان مضطهدنا، ونتبع ربنا كقائد لنا، يرجع الأول متقهقرًا خلفنا].

د. يمكننا أيضًا القول بأنه عندما نقبل الصليب مع ربنا يسوع المصلوب نلبس الإنسان الجديد السماوي الذي بحسب صورة خالقه، بينما يتقهقر الإنسان القديم مرتدًا إلى الخلف.

هـ. جاء آدم الثاني (ربنا يسوع) في المقدمة يقود مسيرة حياتنا كلها بينما رجع آدم الأول إلى وراء. يقول القديس بولس: "الإنسان الأول من الأرض ترابي، الإنسان الثاني من السماء سماوي" (1 كو 15: 47)؛ كما يقول إنه ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13).

هكذا إذ يتحطم بآدم الثاني عدو الخير ليرتد عنا وراءنا، ويصلب إنساننا العتيق نترنم قائلين: "لأنك صنعت حكمي وانتقامي" [3].

II. الله الديان يقيم عرش بره أو عرش ملكوته داخل القلب، لكي يُفنى بعدله جموع الخطايا التي احتلت مركزه في أعماقنا، ويهدم مدنها تمامًا ليقيم مدينته المقدسة فينا؛ إذ يقول المرتل:

"جلست على العرش يا ديّان العدل.

انتهرت الأمم.

وهلك المنافق.

ومحوت اسمهم إلى الأبد وإلى أبد الأبد.

فنيت سيوفَ العدو إلى الانقضاء.

وهدمت مدنًا" [4].

إذ كان مخلصنا هو ديان المسكونة، يأتي على السحاب ليحكم ويدين الأحياء والأموات، ويجازي كل واحد حسب أعماله... فإنه يقيم كرسيه الآن في قلوب مؤمنيه لكي بصليبه يدين الشر ويحطم الخطية وينزع عدو الخير عن كرسيه الذي اغتصبه. في نفس الوقت يعلن المخلص ملكوته داخلنا القائم على عدله وبره، فيتسلم بنفسه قضايا حياتنا، ولا يتركنا في أيدٍ ظالمة ولا تحت أحكام الشر الجائرة.

أ. الديان العادل الجالس على العرش: كملك حين يتهيأ للبت في أمر هام وخطير يمس مملكته يجلس على العرش لينطق بالحكم؛ هكذا إذ يستلم رب المجد قضية مؤمنيه يعلن عن عرشه الإلهي، في وقار مهيب.

v   "جلست على العرش يا من تدين بالعدل" [4].

ينطق الابن بهذا متحدثًا مع الآب. وقد قال أيضًا: "لم يكن لك عليّ سلطان لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 19: 11)... ديان البشر صار تحت الحكم من أجل خير البشرية، محققًا عدالة الآب وأسراره الخفية.

وربما القائل هنا هو الإنسان نفسه موجهًا حديثه لله: "جلست على العرش يا من تدين بعدل"، فيدعو نفسه his soul عرش الله كما يُسمى جسده أرضًا التي هي موطئ قدمي الله (إش 66: 1)...

وربما الحديث هنا عن نفس soul الكنيسة الكاملة التي بلا عيب ولا غَضَن (أف 5: 27)، المستحقة نوال معرفة الأسرار التي للابن، حيث يُدخلها "الملك إلى حجاله" (نش 1: 4). فتقول لعريسها: "جلست على العرش يا من تدين بعدل"، إذ قمت من بين الأموات وصعدت إلى السموات وجلست عن اليمين...

القديس أغسطينوس

ب. انتهرت الأمم: ما هي الأمم التي ينتهرها الرب الجالس في نفوسنا كما في كنيسته بكونها عرشه إلا الخطايا والشرور؟ فحيث يملك الرب لا يمكن أن يبقى الشر، لأنه لا شركة بين النور والظلمة.

ليدخل الرب إلى أعماقك، فتهتز كل الضعفات، ويملك داخلك ببره، واهبًا إياك قداسته وثمر روحه القدوس.

ج. هلك المنافق: تحدث عن الخطايا (الأمم) بصيغة الجمع، أما وراء هذه الخطايا فيوجد عدو واحد ضد البشرية هو إبليس المنافق.

v   العدو الذي يتحدث عنه المرتل جاء بصيغة الفرد لا الجمع؛ وقد فقدت سيوفه حدها؛ مَن هذا إلا إبليس الذي أسلحته هي آلاف النظريات الخاطئه المنحرفة التي يستخدمها كسيوف قاطعة تدخل بالنفس إلى الموت؟...

القديس أغسطينوس

د. محوت اسمهم إلى الأبد: لن تبقى بل تُباد، ولن يدم سلطان إبليس وجنوده، وإنما تُمحى اسماؤهم ويبيد ذكرهم.

هـ. فنيت سيوف العدو: يعتز العدو بظلمه، حاسبًا أنه يرهب بسيفه الاتقياء... لكن إذ يدين الله الشر يُنتزع هذا السيف، ليُعلن سيف كلمة الله الذي يبتز الشر ويفصله فيتمجد برّ الله.

يفنى سيف العدو بالسيف الخارج من فم السيد المسيح (رؤ 1: 16). وكما يقول المرتل: "تقلد سيفك على فخذك أيها القوي، بحسنك وجمالك استله وانجح وأملك" (مز 45: 5).

و. هدمت مدنًا: يبيد الله كل أثر للخطية: ينتهر الأمم، ويمحو اسمهم، ويحطم سيوفهم، ويهدم مدنهم... بهذا يتم خراب العدو تمامًا فلا يجد في قلوبهم له موضعًا يستقر فيه.

يحطم الديان مدن العدو التي فينا ليقيم لنا المدينة الباقية التي لها أساسات صانعها وبارئها هو الله.

v   هدمت مدنهم، أي أولئك الذين شابهوا الأبراج والمدن[246].

القديس كيرلس الإسكندري

v   هذه المدن هي المواضع التي يجرفها الشيطان بآرائه الدنسة المضللة، كما لو كانت قلاع ملوكية...

سكان تلك المدن ما هي إلا الشهوات الحسية والعواطف اليومية المثيرة المتضاربة في الإنسان...

يحطم ربنا هذه المدن عندما يطرد رئيسها كما اخبرنا: "الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا" (يو 12: 31)... بهذا يتحقق قول الرسول: "إذن لا تُملّكَنَّ الخطية في جسدكم المائت" (رو 6: 12).

القديس أغسطينوس

3. الرب الملجأ:

"وكان الرب ملجأ للفقير

وعونًا في أوقات موافقة في الضيق" [9].

يعاني الأبرار الذين يعرفون اسم الرب من متاعب كثيرة، خلالها يكتشفون أن الله ملجأ لهم. وقد استخدم المزموران 9 و 10 العديد من الأسماء بها يشير إلى الأبرار: المساكين، المتواضعين، البائسين، المحتاجين، الأبرياء، اليتامى، طالبي الرب وعارفي اسمه.

أ. الله هو ملجأ البائسين والمساكين [9]. من الأتعاب الخاصة التي يطلعهّا المرتل على الله هي أنه قابل الودعاء والمدافع عنهم (مز 147: 6)، وأبو اليتامى وقاضي الأرامل (مز 68: 5)، وحافظ الصغار (مز 116: 6).

الله هو ملجأ عالٍ لحماية قديسيه، لن يبلغ إليه أقوى أعدائهم الأشرار.

v   أي أذى يلحق بالذين يصير لهم الرب ملجأ؟ كأنهم اختاروا أن يصيروا مساكين في هذا العالم الذي يرأسه إبليس، غير واضعين قلوبهم على أمور زائلة تراوغ الإنسان حتى حينما يعيش محبًا لها، فإنه إذ يموت يتركها كلها. مثل هؤلاء المساكين يصير لهم الرب "عونًا في أوقات الضيق" [9].

القديس أغسطينوس

ب. الله لن يتخلى عن مؤمنيه، طالبيه، الذين يعرفون اسمه كأب لهم، يتكلون عليه، ويفرحون بوعوده ويسعون إليه بقلوبهم وأفكارهم كما بسلوكهم وسيرتهم.

"ويتكل عليك الذين يعرفون اسمك،

فلا تترك طالبيك يارب" [10].

اسم الله يعني شخصيته التي نتعرف عليها من خلال شركتنا معه.

طلب الرب معناه الاشتياق نحو التعرف عليه وحبه وطاعته وخدمته والثقة في حمايته والشركة معه. أخيرًا أن نصير معه في مجده السماوي.

يليق بالمؤمنين أن يطلبوه بكل عقولهم لا خلال خرافات؛ يطلبوه بكل اجتهاد لا بتهاون؛ باتضاع لا في كبرياء، بكل قلبهم ليس برياء، باسم المسيح وليس ببرنا الذاتي[247].

كأن المؤمنين مطالبون بالثقة فيه خلال التمتع بالمعرفة الروحية الاختبارية الحية مع طلب الرب للتمتع بشخصية.

ج. الله ملجأ لهم باختفائهم فيه وسكناه فيهم: يجدون فيه حمايتهم ويجد هو لذته فيهم فيحل فيهم بكونهم كنيسته، مدينته المقدسة، صهيون الروحية.

"رتلوا للرب الساكن في صهيون

واخبروا في الأمم بأعماله" [11].

v   حينما تنفصل النفس عن هذا العالم، وتطلبه كموضوع ثقتها، فتنال معرفة اسم الله في التو لنجدتها.

القديس أغسطينوس

4. الرب المخلص:

يقارن المرتل بين الهلاك الذي يرجوه لي العدو والخلاص الذي يقدمه لي الرب.

أولاً: العدو سافك دماء والرب يسمع صرخات الدم البريء:

"لأنه طلب الدماء وتذكرها،

ولم ينس ضجيج البائسين" [12].

قد يسمح الله أن يستشهد مؤمنوه وتسفك دماؤهم، لكنه في الوقت المناسب يُطالب بدمائهم، بكل قطرة منها. حين تعلو صرخات (ضجيج) البائسين الخفية يستجيب لها، قائلاً للأشرار ما سبق فقاله لأول سافك دم في تاريخ البشرية: "صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض!" (تك 4: 10). قد يبدو أن جريمة القتل أو الظلم قد ابتلعها الزمن، لكن الله لن ينسى الصرخات القديمة، ولا يتغاضى عن المظالم التي حلت بهم.

v   حينما يُطالب بدماء (الشهداء)، ينالون المجد بينما يرتبك الأعداء حينما يرون المسيح الذين افتروا[248]...

القديس إيريناؤس

الله لا ينسى صرخات البائسين وصلواتهم، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[الصلاة ميناء للإنسان الذي تحطمت سفينته،

مرساة للذين يغوصون في الأمواج،

طوق نجاة يسند الأطراف المرتعشة،

منجم جواهر للفقراء،

شفاءً للأمراض،

حافظة للصحة.

الصلاة تضمن في الحال استمرارية بركاتنا، وتبدد غيوم مصائبنا.

مباركة أنتِ أيتها الصلاة!

أنتِ القاهر الذي لا يكل لأهوال الإنسان،

الأساس الراسخ للسعادة البشرية،

مصدر الفرح الدائم،

والدة الفلسفة.

الإنسان الذي يقدر أن يصلي حقًا، وإن خارت همته وصار في عوز شديد، فهو أغنى من كل ما عداه. أما الشقي الذي لا تنحني ركبتاه، فإنه وإن كان رأسًا (ملكًا) لأمم كثيرة فهو أتعس البشر جميعًا[249]].

ثانيًا: العدو يطلب مذلتي والرب يطلب مجدي:

"ارحمني يارب وانظر إلى ذلي من أعدائي" [13].

عدو الخير يأسر الإنسان بالشهوات والخطايا، ليسلبه كرامته وعزه، ويجعل منه عبدًا ذليلاً، أما المخلص فجاء إلينا يشترينا بدمه لثمين ليقيمنا أبناء الله المكرمين، شركاء معه في المجد.

ثالثًا: العدو يميتني بالقلق والمخلص يرد ليّ البهجة والفرح:

"يا رافعي من أبواب الموت،

لكيما أخبر بجميع تسابيحك،

في أبواب ابنة صهيون،

أبتهج بخلاصك" [14].

إذ يدفعني العدو إلى مقبرة الخطية ويدخل بي إلى موت النفس، لا استطيع التسبيح لله، لأنه "ليس في الموت من يذكر ولا في الجحيم من يسبحك". بلخطية تغلق علينا أبواب الموت الأبدية، وتفقد النفس سلامها مع الله ومع ذاتها فلا تقدر على التسبيح. أما مسيحنا غالب الموت فيرفعنا من أبواب الموت بعدما حطم متاريسه، وأطلق لسان قلوبنا بالفرح لننشد له تسابيح الفرح. يدخل بنا إلى ابنة صهيون، الكنيسة السماوية، التي تشارك السمائيين بهجتهم وليتورجياتهم وتسابيحهم.

ترفعنا الأذرع الأبدية من أبواب الجحيم لتدخل بنا إلى أبواب ابنة صهيون، فنجد لنا موضعًا في حضن الآب.

رابعًا:  العدو ينصب لي الفخاخ ويهيئ لي الفساد، والرب يتركه يجني ما قد زرعه:

"انغرست الأمم في الفساد الذي صنعوه،

وفي الفخ الذي أخفوه انتشبت أرجلهم" [15].

أعد إبليس الصليب ليتخلص من اليد المسيح فتحطم العدو نفسه وفقد سلطانه.

يرى القديس كيرلس الكبير أن هذه الآية تنطبق على جماعة اليهود، فقد أصدر بيلاطس حكمًا ضد السيد المسيح ليوافقهم على هواهم وما تاقوا أن يفعلوه. كان أفضل لهم لو تمت إرادة بيلاطس وصدر الحكم بإطلاق سراح الرب البريء البار القدوس الذي بلا ذنب، وأن يخلص البريء من قيوده التي كُبِّل بها ظلمًا، لكنهم قاوموه وأصرّوا على عنادهم، وازدادوا هياجًا وعنفًا، فظفروا بالنصرة التي صارت أساس بلاياهم وشرهم. لقد حفروا فخًا أدى إلى هلاكهم[250]...

خامسًا: يعاقب الله على الشر، ويكافئ الأبرار على صبرهم:

"سيُعرف الرب أنه صانع الأحكام

والخاطي بأعمال يديه أُخذ...

وصبر البائس لا يهلك إلى الدهر" [16، 18].

تظهر عدالة الله في معاقبته الأشرار ومكافأة الأبرار.

v   يعاقب الشرير على أفعاله، ويجني الآخرون منفعة من ذلك[251].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   كما أن الأبرار الذين كملوا بالأعمال الصالحة لا يأتون إلى الدينونة ليُدانوا (مز 1: 5) هكذا الأشرار الكثيرو الخطايا الذين عصيانهم قد طغى جدًا، فإنهم لا يطلبون للاقتراب نحو الدينونة (لرؤية مجد الله) إنما ما يقومون حتى يرجعون إلى الهاوية Sheol[252].

الأب أفراهات

سادسًا: يعلن الله عن ضعف عدوي...

 


 

صلاة

v   ارفعني يا إلهي من أبواب الموت،

ولتدخل بي إليك فأنعم ببهجة خلاصي!

v   أُدخل بي إلى ملكوتك الفَرِح،

فتتحول حياتي إلى تسبحة لا تنقطع!

v   قلبي كله هو لك... أنت لي،

أنت بري، أنت ملجأي، أنت هو خلاصي!

v   عدوي أسد عنيف... أمامك يصير أضحوكة!

حطم أسلحة شره، وبدد ظلمته،

حرر الخطاة من أسره فيشاركونني حبك ومجدك!

<<

 


 

المزمور العاشر

لا تنس المساكين يارب!

كما قلنا في المزمور السابق أن المزمورين التاسع والعاشر مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطًا وثيقًا، حيث يتحدث المزمور السابق عن الأعداء الخارجين أما هنا فعن الأعداء الداخليين الذين يظلمون المساكين والأيتام، متجاهلين حكم الله وقضاءه.

ينتهي المزمور بالإيمان بالرب العطوف على اليتيم والبائس، فلا يدع الأشرار المتكبرين في مجتمعٍ ما أو على مستوى المسكونة كلها أن يطغوا على من لا عون لهم، العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم، فيطردونهم من مواضعهم.

يركز هذا المزمور على "القلب" [6، 11، 13]. فالشرير متكبر في قلبه: "لأنه قال في قلبه إني لا أزول من جيل إلى جيل بغير سوء" [6]؛ أما قلب الإنسان المتضع فهو مسكن للسيد المسيح الوديع والمتواضع القلب. قلب المتكبر هو عرش للشيطان، لا موضع فيه للسيد المسيح.

"قال (الشرير) في قلبه إن الله قد نسى؛ صرف وجهه لئلا ينظر إلى الانقضاء" [11]، "قال في قلبه إنه لا يفحص" [13]. بينما يعاين القلبُ النقي الله مخلصه المحبوب، إذ بالشرير صاحب القلب الدنس يسقط في إلحاد عملي، يظن أن الله قد نسى مظالمه، لن يحاسبه، ولا يفحص الأمور.

مناسبة المزمور:

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور لم يُنظم لأجل مناسبة تاريخية معينة، وإنما لهدف عام. هو وأشبه باستغاثة من المظالم تصدر عن الكنيسة وقت الاضطهادات، خلالها تتوجه أنظارها واهتماماتها إلى التكريس للشهادة الإنجيلية؛ كما تعين المؤمن في احتماله ضيقاته ومتاعبه الشخصية، وما يعانيه من كبرياء الأشرار.

والعجيب أن هذا المزمور يناسب المؤمن التقي الساقط تحت وطأة الضيق أينما وجد في العالم، وفي أي زمان! إنه يصف الكنيسة المتألمة، كنيسة السيد المسيح، ويكشف عن المصير المحتوم للأشرار أعدائها.

يرى آخرون أن هذا المزمور قد وُضع في ظروف تاريخية خاصة، مثل[253]:

1. اضطهاد شاول لداود.

2. غزو كنعان بواسطة بعض القبائل الفلسطينية.

3. عن سَنبلَّط وغيره من الأعداء أثناء الأسر البابلي (نح 4: 1).

4. الاضطهاد المروع الذي أثار أنتيخوس أبيفانيوس في أيلم المكَّابيين.

ويرى البعض أن المزمورين التاسع والعاشر يُعبِّران عن صوت الأنين الصاعد عن الكنيسة المتألمة في أيام الدجال أو ضد المسيح أو إنسان الخطية حيث تحل الضيقة العظمى الفاصلة.

إطاره العام:

1. يارب، لماذا تقف بعيدًا؟           [1].

2. الشرير وسِماته                    [2-11].

3. لا تنسى المساكين يارب           [12-18].

1. يارب، لماذا تقف بعيدًا؟

الله لا يتخلى قط عن قديسيه أثناء ضيقتهم، لكن المؤمن أحيانًا إذ ينتظر التعزية الإلهية طويلاً يبدو له وسط آلامه كأن الله يقف صامتًا، أو كأنه يقف بعيدًا، فيصرخ متساءلاً: "يارب، لماذا تقف بعيدًا؟"

بلا شك أن حضور الله هو مصدر الفرح والتعزية لشعبه، أما الشك في حضوره فيسبب قلقًا وفقدانًا للسلام الداخلي. وإن كان البعض يرى في تساؤل المرتل عتاب حب واعتراضًا مقدسًا ورعًا وليس غريبًا. فقد حدث موقف مماثل على الصليب، قائم على أساس الإيمان بأن الله يرى كل شيء، وأنه وحده قادر أن يهب النجاة، فهو إله عادل يحكم بالعدل في النهاية، فلماذا إذن يبدو كمن يقف محايدًا من بعيد دون تدخل من جانبه؟ لماذا يحجب العون حينما تكون الحاجة ماسة إليه شديدة ومُلِحّة إلى أقصى درجة؟[254].

"لماذا... نتغافل في أوقات الشدائد؟!" [1].

جاءت في النص العبري بما معناه: "لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟!" فإن ما يحطم نفسية المؤمن ليس وجود شدائد أو الدخول في أزمنة الضيق، وإنما الشعور باختفاء الله وحجب وجهه عنه.

الشدة لابد أن تزول يومًا ما، لكن ما اقتنيه هو إشراق وجهك عليّ وقت الضيق... أشعر بالألم لكنني أتمتع بخبرة يديك اللتين تمسحان كل دمعة من عيني.

2. الشرير وسِماته:

ربما يشير الشرير هنا إلى ضد المسيح Antichrist، أو إلى الذين يحملون روحه ويسلكون حسب مشورته. ويصور لنا المرتل هنا ما يتسم به الشرير من سمات، أو قل إنه يقدم صحيفة اتهام ضده بنودها الآتي:

أ. متكبر متعاظم ومتغطرس:

في كبرياء يحاول الأشرار أن يحرقوا المساكين بنار شرهم، فإذا بهم يؤُخذون بخطاياهم؛ يقول المرتل:

"عندما يستكبر المنافق يحترق المسكين.

يُصادون بالمشورة (بالمؤامرة) التي أشاروا بها" [2-3].

أمر طبيعي ألا يكف المتكبر عن مضايقة المسكين بلا سبب حتى يحرقه، لكن الكأس التي ملأتها بابل المضطهد لكنيسة المسيح تشرب هي منها (رؤ 17: 6؛ 18: 6)؛ والكلاب التي لحست دم نابوت اليزرعيلي لحسِت دم مضطهده آخاب الملك (1 مل 21: 19)؛ والخشبة التي أعدها هامان لمردخاي صُلب هو عليها (إش 7: 9).

v   يوخذون بأفكارهم التي بها يفكرون" [2]، بمعنى أنه تصير أفكارهم الشريرة قيودًا تكبلهم... والسنة المتملقين تربط النفوس بالخطية.

القديس أغسطينوس

"لأن الخاطي يمتدح بشهوات نفسه

والظالم يبارك (نفسه)" [3].

يمتدح الشرير شهوات قلبه الشرير، حاسبًا نفسه سعيدًا جدًا بسلوكه الطريق الواسعة! يمجد نفسه في خزيه! يتفاقم كبرياؤه الفارغ طويلاً!

إنه لأمر خطير أن يبارك إنسان الأشرار ويحسدهم لما هم عليه من ترف زائل وقتي، فيبدل الحلو بالمُرّ والنور بالظلمة.

وكأنه لا يكتفي الأشرار بأنهم في خزي وعار يصنعون الشر، وإنما في كبريائهم يفتخرون بالشر ويتباهون بشهواتهم الدنيئة. أما ما هو أشر فهو تحويل الشر إلى صورة خير، فيُظهرون الرذائل كأنها فضائل. إن غضبوا وثاروا حسبوا هذا شجاعة وصراحة وتمسكًا بالحق؛ وإن سقطوا في الشهوات الجسدية حسبوا هذا نضوجًا وخبرة حياة وانفتاح فكر. وكما يقول النبي: "ويل للقائلين للشر خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المُرّ حلوًا والحلو مرًا" (إش 5: 20).

v   "لأن الخاطي يمتدح بشهوات نفسه والظالم يُباَرك" [3].

يُدعى الإنسان المنحل سعيدًا، والطماع مقتصدًا في ادخار ماله[255].

الأب قيصريوس أسقف آرل

تلد الكبرياء الرغبة في إشباع الشهوات الشريرة مع الظلم أو الطمع... إذ هناك علاقة وثيقة بين الثلاثة: الكبرياء، الزنا، والعنف.

في كثير من حالات السقوط في الزنا والنجاسات الجسدية يحتاج الإنسان أن يفحص أعماقه، ليرى أن السبب أحيانًا بل وغالبًا السقوط في الكبرياء. فالشاب الذي يصوم ويقرأ في الكتاب المقدس ويُسبِّح أو يُرنّم لكنه عنيف في معاملاته مع والديه أو ناقدًا لاذعًا لزملائه غالبًا ما تغلبه شهوات جسده ولو خفية، ويسقط في عادات شريرة.

"لأنه قال في قلبه:

إني لا أزول؛ من جيل إلى جيل بغير سوء" [6].

يسيء الشرير – في رفاهيته – استغلال طول أناة الله، وعوض أن تقوده إلى التوبة يقسي قلبه في إثمه، حاسبًا أنه لن يُحاسب على شروره قط. يظن أنه فوق أن يحاسب!

الشرير في عجرفته يقول في قلبه أنه لن يتزعزع أو لن يزول، وها هي الأجيال تعبر والأشرار باقون بلا سوء. إنه يُسقط الله من حساباته.

ما أخطر الكبرياء؛ إنها خطايا تحيل كل البركات إلى لعنات، وتجعل البشر بلا حياء! يوجد العديد من خطايا الكبرياء (أم 16: 18؛ 29: 23). فقد يفتخر الإنسان بميلاده الشريف وآخر بمنشأه المتواضع؛ واحد يفتخر بملبسه الفاخر وآخر بثيابه الرثة البالية؛ واحد بفضائله وآخر برزائله.

ب. ملحد:

"أغاظ الخاطي الرب

ولم يفحص عن كثرة رجزه.

لأن ليس الله أمامه" [4].

يرى القديس أغسطينوس أن وراء كل الحاد شهوة. فإنه وإن اعتقد بعقله ومنطقه بوجود الله، لكن لإراحة ضميره وتحقيق شهوات قلبه الشريرة وملذات الجسد أو ممارسته للظلم يُخرج الله من حساباته. بينما يلهج قلب المحب باسم الله مرددًا اسمه القدوس مع كل نسمة من نسمات حياته، إذا بالشرير يتجاهل النعمة الإلهية، حاسبًا الله بعيدًا كل البعد عن العالم، وأنه لا يبالي بأعمال البشر أو حياتهم ولا يدينهم! إذ هو يتمتع بنوع من الرفاهية، يحلم معتقدًا أن الله لا يطاوله، ومن ثم يتصور الأحكام الإلهية بعيدة تمامًا عنه؛ وإذا قاومه أحد، يثق أنه يقدر أن يطرحه على الفور أرضًا أو يمزقه إربًا بنفخة أو نسمة أنفه[256]. بمعنى آخر، تجرد الخطية الله من سلطانه وعرشه بل تلغي وجوده واهب النعم تمامًا من القلب، أي من عرشه الملوكي. وقدر ما تستطيع تتصرف كي تجعل الشرير يفكر ويتصرف كما لو كان الله غير موجود.

يسيء الشرير فهم أناة الله وصبره بسبب عماه الروحي، إذ يقول المرتل أن الله ليس أمامه أو حسب النص العبري "ليس أمام عينيه". الله موجود في كل مكان، لكن بسبب عمى الشرير يظنه غير موجود، أو على الأقل أنه لا يرى أفعاله، وإن رآها لا تشغله.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن العنف أو الظلم أو الغضب عِلَّة الإلحاد، إذ يقول: [الغضب ظلمة، يقول الكتاب المقدس: "قال الجاهل في قلبه: ليس إله موجود" (مز 14: 1). ربما يناسب هذا القول الغضوب أيضًا، إذ قال الغضوب أيضًا: ليس إله. وكما يقول الكتاب: "حسب تشامخ أنفه (شدة غضبه) لا يطلب الله"[257]]. إن كان الغضب يعكر العينين أي يفسد البصيرة الداخلية، فإنه يحرم الإنسان من التمتع بالرؤيا الإلهية.

لا نعجب إن لاحظنا أن المجتمعات الإلحادية تحمل سِمتين رئيسيتين، الانحلال الأخلاقي الخاص بشهوات الجسد، وتأليه الإنسان. الساقط في شهوات جسدية يطلب ألا يوجد من يحاسبه فيحرمه من التسيُّب، وأيضًا من يؤلّه ذاته لا يقدر أن يقبل وجود إله يتدخل في حياته.

سيأتي ضد المسيح ليبث هذه الفكريين: انحلال وتألُّه!

ج. طرقه نجسة:

"طرقه نجسة في كل حين.

أباد أحكامك عن وجهه،

ويسود على جميع أعدائه" [5].

إن كان الله هو القدوس، ومؤمنوه الحقيقيون قديسين يحملون سمات أبيهم؛ فإن عدو الخير هو "الدنس" أو النجس"، واتباعه يحملون سماته فيهم، ألا وهي النجاسة.

كما أن القداسة هي حياة داخلية، شركة مع الله، يُعبَّر عنها خلال الفكر والكلمات والعمل؛ هكذا النجاسة موت داخلي يحل بالأعماق فيحطم كل ما بالإنسان؛ هذه النجاسة هي ثمرة اتحاد مع العدو الشرير، تتحول إلى طريق دائم لا يقدر الإنسان أن يَخِلُص منه إلا بالنعمة الإلهية.

في هذه العبارة [5] يكشف عن علاقة الشرير بنفسه (نجاسة داخلية!)؛ ومع الله (رفض تام لأحكامه) ومع الغير (حب السيطرة والسلطة!). وكأن النجاسة الداخلية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإلحاد العملي والعنف.

د. غاش ومحيك مؤامرات:

"فمه مملوء لعنة ومرارة وغشًا.

تحت لسانه عناء ووجع.

جلس في الكمين مع الأغنياء

ليقتل البريء في خفية.

وعيناه إلى البائس تنظران" [7-8].

إذ يحمل الشرير روح إبليس أبيه يمتلئ فمه لعنة ومرارة وغشًا. فإن كان السيد المسيح قد دُعي بالمبارك مصدر البركة، يُقيم من مؤمنيه جماعة مباركة، فإن إبليس الساقط تحت اللعنة يبث اللعنة خلال فم أتبعه. ليس من تضاد في العالم أكثر مما بين البركة واللعنة. لهذا يقول معلمنا يعقوب الرسول: "من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة؛ لا يصلح يا اخوتي أن تكون هذه الأمور هكذا. ألعل ينبوعًا ينبع من نفس عين واحدة: العذب والمُرّ؟!" (يع 3: 10-11).

أن مسيحنا كله عذوبة يُضفي على النفس عذوبة داخلية، فإن عدو الخير يحمل مرارة يُضفي على نفوس الأشرار مرارة قاسية.

مسيحنا هو الحق يبعث في مؤمنيه الصدق، أما عدو الخير فيبث في أتباعه روح الغش والخداع.

v   "تحت لسانه عناء ووجع" [7]... تحت لسانه وليس على لسانه، إذ يحيك هذه الأمور في صمت، ويتحدث إلى الناس بعكس ما يُبطن، فيبدو صالحًا وبارًا، وابنًا لله.

القديس أغسطينوس

v   "تحت لسانه عناء ووجع" [7]... يستمد الشرير poneros اسمه من كلمة ponen التي تعني "يعاني تعبًَا". بالحق يدعوه الكتاب المقدس الشر "عناءً"[258].

القديس يوحنا الذهبي الفم

في غشه يلتقي مع الأغنياء ليخطط في الخفاء من أجل قتل البريء... ولعله هنا يشير إلى ما فعله عدو الخير، باذلاً كل طاقاته ليقتل رب المجد الذي افتقر لأجلنا. استخدم الأغنياء والعظماء من ولاة وقواد وقيادات دينية للخلاص منه!

في غشه مع عنفه يترقب المسكين، عيناه تنظران إليه لكي تقتنص الفرصة لقتله! شتَّان ما بين عيني الله وعيني الشرير؛ عينا الله تتطلعان إلى المسكين لتبعثا فيه روح الرجاء والثقة بل والحياة أما عينا الشرير فمملوءتان حسدًا وشرًا!

يرى البعض أن ما يخفيه الشرير تحت لسانه من عناء ووجع هو الهرطقات والبدع. يتكلم خلال الهراطقة بالناعمات، بكلمات معسولة جذابة، ليخفي سم البدع وراءها. إنه يستخدم أسلوب الإخفاء ليس خجلاً مما يفعله، إنما خشية أن تنكشف مؤامراته. ولعله لهذا السبب يفسر الأسقف أنثيموس قول المرتل: "جلس في الكمين مع الأغنياء"، قائلاً: [يختار الشيطان أناسًا يُظن أنهم أغنياء بالكلام الكاذب، ويجلس فيهم كما في كمين مختفيًا]. يستخدم أحيانًا فلاسفة وحكماء هذا الدهر ليخفي شره خلال أفكار فلسفية تبدو

في ظاهرها مٌقنعة ومنطقية.

هـ. عنيف:

"يكمن مختفيًا مثل الأسد في عرينه

يرتصد ليخطف المسكين" [9].

إذ يقبل الهراطقة وأصحاب البدع أيضًا الأشرار أن يكونوا عرينًا للأسد، يختفي الأخير فيهم في دهاءِ. يختفي في أفكارهم ونياتهم ومشاعرهم وفلسفاتهم ومواهبهم وسلوكهم، ليستخدم كل طاقاتهم لحسابه.

يمكن كلص في مخابئه وأوكاره، وكالخاطف الذي يختفي وراء مؤامراته، وكأسد في عرينه، يتربص في الخفاء حتى يقفز فجأة على فريسته البريئة ليفتك بها! يتظاهر كمن هو غير مكترث، فيخدع فريسته التي تحسبه ساهٍ عنها، لكنه لا يلبث أن ينشب مخالبه في جسمها لينهشها ويمزقها ويقطعها إربًا! إنك لا تجد بين مقاومي الكنيسة من يتصف بالأمانة أو اللطف أو العطف أو العذوبة أو الرقة إنما بالشراسة مع الدهاء!

v   "يكمن مختفيًا مثل الأسد في عرينه" [9]. يقصد بالأسد في عرينه أنه يجمع بين العنف والخداع. فإن الاضطهاد الأول للكنيسة كان بالعنف من مصادرة ممتلكات واحتمال عذابات وقتل؛ هذا ما كان يلتزم المسيحيون أن يحتملوه كذبيحة. أما الاضطهاد الثاني ضدها فبالخبث، من صُنع الهراطقة من كل نوع والاخوة الكذبة. يبقى اضطهاد آخر سيمارسه ضد المسيح، لا يشبهه شيء ما في ضراوته، إذ يكون عنيفًا ومخادعًا. عنيف حيث يصدر عن إمبراطورية (ذات سلطان) ومخادع بعمل عجائب. في لفظ "أسد" يشير إلى العنف، وفي قوله "في عرينه" يشير إلى الخبث.

القديس أغسطينوس

إنه مخادع كما سبق فخدعت الحية حواء؛ وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هذه هي الحية، الارتداد العظيم، الهاوية ذاتها بجوف مفتوح، الطاغية بقوات الظلمة الذي يجرف إلى الموت، وما غير ذلك مما أوحى عنه ليخبرننا به[259]].

و. يرى بعض المفسرين البروتستانت[260] أن الشرير عنا يُقصد به بابا روما الذي يعمل مع كرادلته ضد المؤمنين الحقيقين، معتمدين في هذا على القول: "جلس في الكمين مع الأغنياء ليقتل البريء في خفية" [8]. غير أن أغلب آباء الكنيسة الأولى يرون في الشرير هنا إشارة إلى إنسان الخطية أو ضد المسيح "ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو ومعبودًا حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله" (2 تس 2: 4).

3. لا تنس المساكين يارب:

"قم ياربي وإلهي

ولترتفع يدك

ولا تنس المساكين" [12].

بعدما وصف المرتل سمات الشرير المُرّة ومقاومته العنيفة الشرسة والمملوءة دهاءً ضد أولاد الكنيسة المدعوين "مساكين"، يصرخ المرتل طالبًا تدخل الله المخلص الذي يبدو كما لو كان نائمًا في السفينة: "قم ياربي وإلهي!"

حينما يفتر إيماننا إلى حين نصير كأننا نائمون أو كأن السيد المسيح نائم في سفينتنا فنيقظه كما فعل تلاميذه، قائلين له: "يا سيد نجنا فإننا نهلك" (مت 8: 25).

v   الكنيسة وهي تتألم في مثل هذه الظروف، تشبه سفينة وسط أمواج عظيمة وتجارب قاسية، تيقظ الرب كما لو كان نائمًا، كي يأمر الريح ويستعيد لها الهدوء (مت 8: 24-26).

القديس أغسطينوس

لعل المرتل هنا – إذ تشتد به الضيقة جدًا – يجد في صليب رب المجد وقيامته سرِّ القوة، فيصرخ أن ترتفع يده، أي يعلن قوة صليبه حيث ارتفعت يده بالقوة لتحطم سلطان إبليس مصدر الشر، طالبًا منه أن يقوم في قلبه، واهبًا إياه قوة قيامته مصدر الغلبة حتى على الموت، فيقول مع توما الرسول: "ربي وإلهي"!

ولعله يقصد بقوله "قم" سرعة مجيء الرب الديّان، كي يقوم ويجلس على كرسي الحكم فيدين الشر ويجازي المساكين والأيتام، إذ يختم المرتل المزمور بقوله:

"ليحكم لليتيم والمتواضع

كي لا يعود الإنسان يفتخر بالعظائم على الأرض" [18].

v   فلنذكر على الدوام يوم الدينونة هذا، لنبقى على الدوام قادرين أن نستمر في الفضيلة. من يطرد من نفسه تذكار هذا اليوم يندفع كحصان جامح فلت زمامه... أمام من يحفظ في قلبه مخافة (الدينونة) فيسير سيرة حسنة[261].

v   لا يستطيع الإنسان يحيا حياة طاهرة دون إيمانه بالقيامة[262].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

إذ يستغيث المرتل يكرر الكلمات "المسكين، واليتيم، والمتواضع"، فقد صار الغني فقيرًا من أجلنا لكي نستغنى نحن بفقره (2 كو 8: 9). جاء إلينا نحن الذين سبق أن كنا أيتامًا إذ أفقدتنا الخطية التمتع بأبوة الله السماوي. جاء إلينا باتضاعه ليحملنا نحن المتواضعين إلى شركة مجده. الآن نحن فيه أغنياء بلا يُتم مُمجَّدين.

هذه هي مسرة الله أن يُعين المساكين والضعفاء، معلنًا أبوته للأيتام وحمايته للأرامل وقربه من المتواضعين. لهذا نصلي في القداس الغريغوري قائلين: "يا معين من ليس له معين، ويا رجاء من ليس له رجاء".

إنه ينصت إلى مؤمنيه، يسمع صراخهم وسط الضيق، مصغيًا بسمعه لاستعداد قلوبهم [7].

v   تأتي إجابة (الرب) خلال النبي: "تستغيث فيقول: هأنذا" (إش 58: 9). حتى قبلما تبدأ العروس صلاتها يسمع توسلها ويميل ليهيئ قلبها (له) [263].

القديس اغريغوريوس أسقف نيصص

v   ما هو استعداد إنجيل السلام (أف 6: 14) إلا حياة فضلى في أسمى درجاتها كقول المرتل [17] [264].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هكذا يختتم المزمور بإعلان عمل الله العجيب وسط كنيسته ليرد لها بهجة خلاصها، سامعًا لندائها وسط الضيق، محطمًا كبرياء إبليس وتشامخه.


 

صلاة

v   عُد يا إلهي وتطلع إلى كنيستك،

هوذا العدو كأسد يتربص ليفترسها،

ينصب لها الشباك ليهلكها!

v   قم أيها المخلص وأعن عروستك!

v   يا من صرت لأجلي مسكينًا تطلع إلى مسكنة قلبي!

v   أنزع عني حالة اليُتم ولتفرح قلبي بأبوتك!

v   لتتطلع عيناك إليّ لأن العدو يتفرس فيّ ليلتهمني!

<<

 

 


 

المزمور الحادي عشر

الإيمان أعظم من الهروب

تسبحة الواثق:

يظهر داود النبي هنا وقد أشار عليه أصدقاؤه الذين خارت قلوبهم أن يهرب إلى أحد الجبال ليحتمي فيها من وجه مطارده شاول (1 صم 23: 7-18). لكنه رفض مشورتهم، مؤمنًا أن الله الملك البار لن يتخلى عنه. الله خالق الجبال هو ملجأه. ويرى بعض الدارسين أن هذا المزمور هو أحد المزامير الناطقة باسم الشعب التي تكشف عن العون الإلهي في مقابل أعداء همجيين برابرة. ولم يرفض داود مشورة أصدقائه ليس لأن هروبه يُعد بمثابة عار بالنسبة لقائد مثله، وإنما لأن هذه المشورة حملت نوعًا من عدم الثقة بالله، الأمر الذي لا يليق برجل الله، الذي إعتاد أن يترنم في داخل قلبه، قائلاً: "على الرب توكلت" [1].

يطلق على هذا المزمور "تسبحة الواثق"، أحد مزامير الثقة بالله Psalms of Confidence [مز 11، 16، 23، 62، 125، 129، 131]. هذه المزامير تكشف عن أن الابتعاد الكامل عن الله يجعل الصلاة مستحيلة؛ ولا يكون أمام المتألم إلا أن يلعن الله ويموت كما أشارت زوجة أيوب على رجلها (أي 2: 9). في هذه المزامير يستنير المؤمن بأشعة الثقة بالله ليدرك أن الله الذي أنقذ شعبه مرارًا في القديم لا يزال حيًا مخلصًا لهم على الدوام. بهذا الرجاء يرتفع المؤمن فوق الألم، وعوض الهروب إلى جبال مخلوقة يتكئ على خالق الجبال، الساكن في السماء [4] وعيناه تفحصان أمور البشر، هو ملجأ مؤمنيه!

تكررت كلمة "ملجأ refuge" مرارًا في سفر المزامير، فمن بين 37 مرة في كل الكتاب المقدس جاءت 22 مرة في هذا السفر. موضوع هذا المزمور وكثير من المزامير هو الاتكال على الله ضد قوة الشرير. هذه الثقة هي أساس الترنم المفرح في الكنيسة، في كل عبادتها وحياتها التقوية. يعلمنا المزمور كله أننا إذا ما سقطنا في تجربةٍ ما، يليق بنا ألا نشكو، بل نقاوم الشيطان فيهرب منا[265].

الإطار العام:

1. مشورة زائفة            [1-3].

2. الثقة بالله                 [4-7].

1. مشورة زائفة:

"على الرب توكلت

فكيف تقولون لنفسي انتقلي على الجبال مثل العصفور؟!" [1]

يذكر داود مشورة أصدقائه [1-3]، الذين أشاروا عليه أن يترك بلده، ويلجأ إلى أحد الجبال. الكلمة العبرية المرادفة لكلمة "اهربوا" تعني يتذبذب أو يترنح أو يسير في خط ملتوٍ zigzag كما لو كان في حالة فزع تظهر عليه نتيجة محاولته لمناورة عدوه الماهر. ولكن كانت إجابة داود: "على الرب توكلت". كان أصدقاء داود شديدي الشبه جدًا بزوجة أيوب. الجبن دائمًا خطير، لا شيء يعادله في الضرر. إنه من الأعمال الإجرامية النابعة عن عدم الإيمان. كل مشورة بترك موقع العمل هي تصرف شرير أحمق. ما قاله أصدقاؤه قد أحبطه وجرح مشاعره كمؤمن يضع ثقته في الله[266].

ربما كان داود في ذلك الحين يعمل في القصر الملكي؛ لو أنه هرب لأُتهم بالتقصير في عمله والجبن؛ لكن ما شغل النبي لا إتهام الناس وإنما أعماقه الداخلية التي ترفض الشك في حماية الله له.

لسنا ننكر أن داود النبي هرب أكثر من مرة من وجه شاول مضطهده وأيضًا من وجه إبنه المتمرد أبشالوم، إذ يوجد هروب شرير وهروب مقدس:

1. الهروب الشرير، هو ذاك الذي يقوم على الخوف الداخلي وفقدان الاتكال على الله والثقة في عنايته وحمايته. هذا ما رفضه داود النبي!

2. الهروب المقدس، هو ذاك الذي فيه نهرب من وجه الشر، لا عن عدم ثقة وإنما لعدم تبديد الوقت في مقاومة الشر. فقد هرب ربنا يسوع المسيح إلى مصر من وجه هيرودس (مت 2: 13)، وطُلب من لوط أن يهرب إلى الجبل (تك 19: 17)، كما سألنا السيد المسيح أننا إذا ما طُردنا من مدينة نهرب إلى أخرى (مت 10: 41). الهروب من مجالات الخطية خاصة المحبوبة لدينا هي علامة حبنا لله لا عدم ثقتنا في خلاصه لنا (2 بط 2: 20)، فقد ترك يوسف ثوبه بجانب إمرأة فوطيفار وهرب (تك 39: 15)؛ وفي سفر الرؤيا هربت المرأة من وجه التنين إلى البرية (رؤ 12: 6).

v   إن كنت طاهرًا حتى الآن، فلتكن أكثر طهارة بتجنب مثل تلك المناظر. لا تبتهج بالمناقشات الباطلة، ولا تحتج بالأعذار غير النافعة، وإنما ليكن لك عذر واحد... أترك الزانية المصرية (كيوسف) كمن يهرب من بين يديها عاريًا[267].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v   لكي تهرب من سيدتك المصرية أترك الثوب الذي يخص هذا العالم[268].

القديس جيروم

v   تُشبه النفس بالعصفور [1]... يوجد عصفور صالح يقدر بالطبيعة (الروحية) أن يطير؛ ويوجد عصفور شرير لا يقدر أن يطير بسبب النجاسات الأرضية؛ هذا الأخير يُباع بفلسين (لو 21: 6)... ما أبخس ثمن الخطايا؟[269].

القديس أمبروسيوس

هكذا لسنا نهرب خوفًا أو تشككًا في إمكانية الله لخلاصنا وإنما إن هربنا إنما نهرب من الشر إلى الله. يعلمنا داود النبي أن نستمر في جهادنا ولا نأبه للمضايقات المحيطة بنا، مهما طال زمن جهادنا، ومهما ثقلت علينا الضيقات، واثقين في الله وفي وعوده.

كان داود رمزًا للسيد المسيح إبن داود، الذي أتى إليه بعض الفريسيين وإقترحوا عليه أن ينسحب لأن هيرودس كان يطلب أن يقتله، لكنه رفض، متنبئًا أمامهم أنه موشك أن يدخل في طريق الألم والصلب (لو 13: 31-32). ونحن أيضًا يلزمنا ألا نهرب إلى جبالنا (برّنا الذاتي)، بل نتكل على الرب السماوي بكونه برّنا.

يرى القديس أغسطينوس أنه يجب علينا أن نصعد إلى الجبل الواحد، ملجأنا، السيد المسيح، أي نكون فيه وننعم بالعضوية في كنيسته. بمعنى آخر، الجبل المقدس هو السيد المسيح، وأيضًا هو كنيسة المسيح. أما الهراطقة فإنهم يحاولون خداعنا بالصعود إلى الجبال، أعني قبول التعاليم الباطلة.

من خلال الكنيسة - الجبل المقدس - نرتفع إلى السماء بعينها، إلى مسيحنا السماوي وكنيسته التي هي أيقونة السماء؛ أما تعاليم الهراطقة فترفعنا إلى جبال الكبرياء.

العدو مستعد للعمل:

"لأن هوذا الخطاة قد أوتروا قِسيّهم

وهيأوا نبلاً في جباعهم،

ليرموا بالخفاء (اختفاء القمر) المستقيمة قلوبهم" [2]

يُظهر داود أن المخاطر تحوط به من كل جانب، وأنه على وشك ملاقاة حتفه. ومن المستحيل أن يختبئ أو يهرب من أعدائه الذين قد تدججوا بالسلاح، وتهيأوا لضربه بالسهام. وكما سبق فقلنا أن الكنيسة في كل العصور، أينما وُجدت، إنما تعيش كدانيال في جب الأسود، الذي كان كمن هو في السماء عينها، يتمتع بالشركة مع الملائكة التي سدت أفواه الأسود، يشاركهم التسبيح لله.

يليق بالأبرار ألا يندهشوا مهما بلغ الشر الموجّه ضدهم، فإن الأشرار هم على الدوام أردياء للغاية؛ شرهم في قلوبهم. أعمالهم الشريرة تليق بهم كأبناء ظلمة؛ وكأولاد إبليس الشرير. لكن جيل قايينه وأخيتوفله وسانبلاطه ويهوذه وديماسه وإخوته الكذبة وكلابه، وجبناؤه عديمو المبادئ وطغاته القساة القلوب[270].

ليس للعدو قوسه المشدودة فحسب بل وسهامه المهيأة على الوتر؛ هدفه هو مستقيمو القلوب ليضربهم في الظلمة، في إختفاء القمر. القمر هو رمز الكنيسة، لذلك لا يقدر العدو أن يصوّب سهام الخطية النارية والتعاليم الباطلة في نور الكنيسة بل عندما يخبو ذلك الضوء القمري وتعلوه قتامة الإثم.

v   يُفهم القمر أنه الكنيسة، لأنها لا تعطي ضوءًا من ذاتها، بل ينيرها إبن الله الوحيد، الذي يُرمز له في العديد من مواضع الكتاب المقدس بالشمس (مل 4: 2)؛ والذي يجهله بعض الهراطقة، ويعجزون عن معرفته، ومن ثم يسعون في تضليل عقول البسطاء...

القديس أغسطينوس

كان النبي "مستقيم القلب"؛ هكذا أيضًا الكنيسة التي تتقدس بالروح القدس في إستحقاقات دم المسيح الثمين؛ إنها ليست معوجِّة بل "مستقيمة". مخلصها، شمس البر، يشرق عليها بنوره الإلهي واهبًا إياها نوره لتصير هي نفسها نور العالم. لا يقدر العالم أن يهلكها لأنه يسعى أن يصوب سهامه نحو مستقيمي القلوب في الظلام وليس في النور. ما دام السيد المسيح يشرق ببهاء لاهوته على كنيسته المتحدة به لا يقدر الهراطقة أن يحطموا إيمانها مهما صوّبوا من سهام التعاليم الخاطئة.

يرى البعض أن الكنيسة كالقمر لها جانب منير يتقبل نور السيد المسيح بالروح القدس العامل فيها، وجانب مظلم له الإيمان النظري دون الحياة المستنيرة بالروح، التقوية، هذا الجانب يتقبل بسهولة الهرطقات متجاوبًا معها.

يرى آخرون أن الكنيسة في دُجى الليل - وسط آلامها بسبب الاضطهادات المستمرة - يصوب ضدها الهراطقة سهامهم النارية لكي ما يصيبوا مستقيمي القلوب في وسط إنشغال الخدام الأمناء بما يحل بالكنيسة من أوجاع!

"لأن الذي أصلحت أنت هم هدموه.

فأما الصديق فماذا صنع؟" [3].

وجاء النص العبري ترجمته: "إذا انقلبت الأعمدة (الأساسات)، فالصديق ماذا يفعل؟".

يطبق البعض هذه الكلمات على كهنة نوب (1 صم 22)، ويرى آخرون أن أعمدة الأساسات التي إنقلبت تشير إلى أشراف أو نبلاء، وإن كان الانطباع الأكثر شيوعًا هو أن داود يتحدث عن أسس العدل[271] التي تقوصت بواسطة شاول الملك، فهل يستطيع داود الصديق أن يصلحها؟!

يفهم القديس جيروم البناء هنا أنه الشرائع، فإن عمل العدو أن يحطمها، ليدمر التدبير الكنسي بخلق جو من البلبلة. أساسات الكنيسة هي ناموس الحب، لذلك يتركز عمل العدو في تحطيم الحب والوحدة التي لنا في المسيح.

عندما يعوزنا الحب، ماذا يستطيع الصديق أن يفعل؟ يحتاج الأمر إلى الله نفسه ليصلح الجماعة ويجددها.

v   من يدعوهم هنا أشرارًا إنما هم الشياطين غير المنظورين، الذين يُصوّبون سهامهم خِفية؛ هذه السهام بعضها زنا وأخرى طمع ومحبة قنية؛ بها يجرحون الكثيرين ما استطاعوا[272].

العلامة أوريجانوس

يرى القديس أغسطينوس أن الصديق هنا يشير إلى السيد المسيح الذي قدم كل الحب ببذله حياته من أجل العالم... ماذا يفعل بعد إذ يحطم الهراطقة أعمدة الإيمان، وقد أطال أناته عليهم لعلهم يتوبون.

يشير الحديث هنا إلى الأزمنة الأخيرة حيث تكاد تتحطم أعمدة أساسات الكنيسة بالانحراف عن الإيمان الحق وترك المحبة (مت 24: 12)، حيث تأتي أزمنة صعبة (2 تي 3: 1)، فيبدو كأنه لا مجال لعمل الصدّيق، إن أمكن حتى المختارين أن يضلوا... وفي هذا كله نردد بإيمان: "على الرب توكلت... الرب في السماء كرسيه، عيناه إلى المساكين تنظران" [1، 4].

الرب في هيكل قدسه:

"الرب في هيكل قدسه

الرب في السماء كرسيه.

عيناه إلى المساكين تنظران،

أجفانه تفحص بني البشر" [3-4].

يحاول العدو خداع البسطاء بسحبهم إلى الظلمة، بعيدًا عن ضوء القمر، لكن الإيمان يرفعهم من الأرض إلى الكنيسة السماوية الروحية، ليروا بهاء العرش الإلهي. هناك يعاينون الرأس، القدوس، مصدر برنا. يسكن الرب في هيكل قدسه، ومع هذا فعرشه في السماء؛ بمعنى أن الذين يمارسون العبادة الروحية يتمتعون بالمجد السماوي ملجأ لهم.

كلمة "هيكل" هنا كثيرًا ما ترد بمعنى "قصر" في المفرد أو "قصور" في الجمع (2 مل 20: 18؛ مز 45: 8 ؛ أم 30: 28؛ إش 13: 22). وقد أُطلق إسم "هيكل" على الخيمة قبلما يولد داود (1 صم 1: 9؛ 3: 3)، مما يغلق باب الجدل هنا (بأن الكاتب ليس بداود). وتوضح هذه العلاقة أن داود يتحدث هنا عن الله بكونه قاضيًا وملكًا، يحكم بالبر، يجلس في السماء، وليس كما كان في القديم يحل في الشكيناه (كلمة عبرية معناها السكنى) التي لتابوت العهد. الله في هيكل قدسه... هنا يشير داود إلى السماء، المقدس الحقيقي الذي كان الهيكل رمزًا لها، كما يتضح ذلك من العبارة التالية حيث ينطق بأكثر وضوح: "الرب في السماء كرسيه"[273].

يعرض لنا المرتل التضاد بين السماء والأرض؛ فقد لاحظ أن الأرض الآن تموج كلها بالفوضى، حيث لا يقدر أحد أن ينال عدالة أو مساواة؛ ولا توجد وسيلة للخلاص من الظروف العصيبة الحاضرة. إنه لا يثق في إنسان، وإنما في الله الذي يسود ملكوته الجميع، عاملاً دومًا بالبر، مرتفعًا أبدًا على قوى الحقد، لا يتخلى عن دوره كقاضٍ وحاكم للجميع (دون محاباة). لم يقل المرتل إن الله يسكن في السماء فحسب، وإنما قال يحكم من هناك (في السماء كرسيه)، كما من قصره الملوكي، حيث يوجد عرشه أو كرسيه.

إن فهمنا السماء بكونها النفس البارة، يمكننا القول بإنه بينما يحاول العدو أن يرمينا بسهامه الخاصة بالشهوات الجسدية، يعلن ربنا ملكوته السماوي في داخل نفوسنا، بكونها قصره الملوكي أو هيكل قدسه. يشتاق العدو أن يقيم منا أرضًا بينما يريد لنا ربنا أن نكون سماءه. ويشجعنا العهد الجديد أن نجد الرب لا في الهيكل فقط (مت 5: 34-35) بل وفي البَّر الموهوب كنعمة للكنيسة (مت 18: 15-19).

بمعنى آخر إن كان الأصدقاء أصحاب القلوب المرتجفة قد أشاروا على داود النبي أن يهرب إلى الجبال بكونه عصفورًا صغيرًا لا حول له ولا قوة، يعجز عن الوقوف أمام أعداء خطيرين لا يقومون بنصب فخ صغير لاصطياد عصفور، وإنما حملوا أقواسًا قد أوتروها وصارت سهامهم مستعدة لقتل المستقيمي القلوب، العصفور البسيط؛ وأن كل أساسات العدالة قد إنهارت ولم يبق أمام داود - الصديق - ما يفعله لاصلاح ما قد تهدم، فأنه يوجد الله نفسه ساكنًا في سمواته يحقق العدالة. الله القدوس يسكن في كنيسته السماوية كما في النفس التي تتقدس به، لا ليحملها إلى الجبال كعصفور، وإنما يهبها روحه القدوس لتطير كما إلى السماء عينها... من أجل هذا يردد المرتل قائلاً: "على الرب توكلت".

يطلب منا الأصدقاء أن نهرب إلى جبال الحكمة البشرية والاتكال على الأذرع الإنسانية والإمكانيات العالمية، أما الله الساكن في السموات فيهبنا روحه لنرتفع به إلى كرسيه، ونجد لنا موضعًا في أحضان أبيه!

البر ونفوسنا: 

يجيب المرتل أصدقاءه ذوي القلوب المرتجفة: "على الرب توكلت". هذه الثقة يليق أن تُستعلن خلال الحياة البارة، أعني خلال تمتعنا ببر المسيح. فهو وحده القدوس، الساكن في هيكل قدسه، أي في قلوبنا التي يجب أن تتقدس بروحه القدوس، عندئذ ينظر إلينا بكوننا مساكينه، ويصير ملجأ لنا: "عيناه إلى المساكين تنظران، أجفانه تفحص بني البشر".

الله قائم في سمواته بكونها هيكل قدسه، نحن لا نراه بعيوننا الجسدية أما هو فيرانا. نحن قد ننشغل عنه وسط إرتباكات هذه الحياة الزائلة أما هو فمشغول بكل واحد منا، ينظر إلينا ويفحص حياتنا بأجفانه، خلال عذوبة مواعيده.

يسكن الله السماء وعيناه تنظران مساكينه، لأنهم أولاده، لهم موضع في قلبه. هم يعيشون على الأرض حيث ينتشر حولهم الأشرار الذين يضغطون عليهم ويمارسون ضدهم أشد أساليب الظلم، لكنه ما من مكان لا يطاوله عدل الله وعنايته بشعبه. إنه يسمح حقًا بتجربة أولاده في كل مكان وزمان، لكن سرعان ما تحتضنهم نعمته ورحمته أينما وحيثما وجدوا.

عينا الرب اللتان تتطلعان إلينا هما رحمته ونعمته؛ أو حبه ورعايته؛ وربما تشيران إلى الكتاب المقدس بعهديه خلالهما يعلن الله عهده الأبدي وسكناه وسط شعبه ووعوده الإلهية وشركة أمجاده السماوية. خلال كلمته نراه يتطلع إلينا بنظرات الحب الحانية والأبوة العملية ليرفعنا إلى سمواته، نعيش معه في هيكل قدسه أبديًا أو يعيش داخلنا كهيكله المقدس (1 كو 3: 17)، نصير "أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أف 5: 30).

بينما البار تحوطه وترعاه عينا الرب، إذا بالشرير تبغضه حتى نفسه: "والذي يحب الظلم فلنفسه أبغض" [6]. يفقد الظالم شركته مع الله القدوس، الحب ذاته؛ فيضيق قلبه جدًا حتى لا يطيق نفسه، ويضطرب ضميره، كما أقلق الضمير هيرودس بعد قتله القديس يوحنا المعمدان.

v   أتوسل إليكم ألا نبغض نفوسنا ولا نحب الظلم؛ فإنه بالتأكيد نفع الظلم في هذا العالم الحاضر قليل أو معدوم، أما في العالم الآتي فيجلب دمارًا أعظم[274].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   ليس عجبًا أن تصير عدوًا لنفسك، لأن "محب الظلم تبغضه نفسه". فإن كنت تبغض نفسك بمحبة الظلم، فهل تعجب أنك تكره كلمة الله التي تريد خير نفسك؟

v   حقًا إذا أحببت نفسك بطريقة شريرة تهلكها، لكن إن ابغضتها بالحق فأنت تحفظها. إذن هناك حب شرير للنفس وبغضه صالحة لها.

v   إن كان بحب الظلم ليس فقط أنت لا تحب نفسك بل تبغضها، فكيف تقدر أن تحب الله أو تحب قريبك[275]؟!

الأب قيصريوس آرل

نصيب الأشرار:

"يمطر على الخطاة فخاخًا؛

نارًا وكبريتًا وريحًا عاصفًا.

هذا هو حظ كأسهم" [7].

الأشرار ليس فقط تبغضهم أنفسهم بل والله ذاته، الذي يكره الخطية جدًا، يتركهم ينالون ثمار شرهم طالما يرفضون التوبة.

ينصب الأشرار فخاخهم خِفيةً وفي خداع لاصطياد المساكين، أبناء الله، ظانين أنه لن يلحقهم شر ما (مز 10: 6)، لكنهم لا يسقطون فقط في مصائدهم (مز 10: 2)، وإنما يمطر الله عليهم فخاخًا علانية كما من سحابة ظاهرة، ينصب لهم شراكًا لا يستطيعون أن يفلتوا منها، في طول أناته ينتظرهم مقدمًا لهم العديد من فرص التوبة، فإذا بهم يتوهمون أنهم فوق عدل الله وأحكامه، فيصيرون كجيادٍ جامعة إنفلت زمامها وإنطلقت من معاقلها إلى فضاء فسيح. لكن في إنتظارهم كمّ هائل من الفخاخ التي يمطرها الله عليهم من السماء قبلما يمطر عليهم نارًا وكبريتًا. وكأن الله يشل حركتهم أولاً بالقاء الشباك من السماء ليقبض عليهم في فخاخه، وحينما تنغلق أمامهم كل المنافذ وتوصد كل أبواب الهرب، تأتي اللحظة الرهيبة المخوفة، لحظة إستعلان غضب الله بالنار والكبريت المنهمر عليهم مطرًا من السماء، كما حدث في سدوم وعمورة، اللتين هلكتا وفنيت من الأرض ذكراهما!

v   لأنه كما يقول المرتل: نار وكبريت ورياح مسمومة هي نصيب كأسهم؛ ولماذا هكذا؟ لأنهم - كما قلت - رفضوا النعمة التي بالإيمان، لذا كان إثم خطيتهم لا يُمحى، وناسبهم أن يحملوا عقاب محبة الخطية الذي يستحقونه[276].

القديس كيرلس الاسكندري

v   إن كنا نفهم بالسحب الأنبياء عمومًا، سواء الصالحين منهم أم الأشرار الذين دعوا أنبياء كذبة. فقد سخر الرب الإله الأنبياء الكذبة لكي يمطر بهم فخاخًا على الخطاة (مت 24: 24). لأنه ما من أحد سوى الخاطي هو الذي يسقط في اتباعهم بإعداده للهلاك الأخير إن اختار الإصرار على الخطية، وإما أن ينصرف عن الكبرياء ويرجع في وقت ما يطلب الله بأكثر إخلاصًا.

أما إن كانت السحب يُقصد بها الأنبياء الأبرار وحدهم، فبهؤلاء أيضًا يمطر الله فخاخًا على الأشرار، لكن بهم يروي الصالحين إلى حياة مثمرة. إذ يقول الرسول: "لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 15: 11).

ليس فقط الأنبياء بل وكل الذين يُرْون النفوس بكلمة الله يمكن دعوتهم "سحبًا"... وأيضًا من سحب الكتاب المقدس، ووفقًا لاستحقاق كل إنسان، تسقط أمطار فخاخ نار وكبريت ورياح مسمومة على الخاطي، وأمطارًا مثمرة على البار.

"نارًا وكبريتًا وريحًا عاصفة؛ هذا هو حظ كأسهم". هذه عقوبة ونهاية الذين يجدفون على اسم الله، تحرقهم نيران شهواتهم، وسموم أعمالهم الشريرة وتطردهم من شركة الطوباويين، وتدخل بهم إلى المعاناة من أشد العقوبات التي لا يُنطق بها...

إنني أظن أن الكأس قد وردت هنا لهذا السبب: ألا نظن بأن أمرًا ما حتى في عقوبات الأشرار يتم بدون إعتدال أو قياس... "لأن الرب بار وللبر أحب" [7]...

"نظر وجهه العدل" [7]، كأنه يقول: يُرى العدل في وجهه، أي في التعرف عليه؛ لأن وجه الله هو المسكين الذي به يصير الله معروفًا للذين هم مستحقين ذلك. أو على الأقل يقصد بالقول "نظر وجهه العدل" أنه لا يسمح لنفسه أن يعرفه الأشرار بل الأبرار؛ وهذا عدل!

القديس أغسطينوس

إذ يلتصق أولاد الله بأبيهم البار وحده والعادل، يتمتعون بروحه الناري يلهب أعماقهم بالحب، أما الأشرار فيشربون كأسهم نارًا قاتلة تفقدهم الحياة والسلام!

ربما عنى المرتل بحظ كأسهم هنا بما ورد في سفر العدد حيث يشرب المُتهم كأسًا من سائل مقدس، فإن كان مجرمًا يهلك ويموت (عد 5: 23-28).

الختام:

كما بدأ المزمور هكذا ينتهي بكلمة "الرب" الذي سمته أنه "بار"، يجيب على كل مخاوف المؤمن المُضطهد.

 

 


 

علمني أن أهرب إليك

v   إن كنت قد صرت كعصفور وحيد يحوط به أعداء أقوياء وأشرار، فأنت يا رب هو ملجأ لي... إليك أطير، وفي حضنك ألتجئ!

v   لست أُريد أن أهرب إلى جبال الحكمة البشرية ولا السلطان الزمني ولا الإمكانيات العالمية وإنما إليك أيها الجبل القدوس. هب لي روحك كجناحي حمامة فأطير إليك وأسكن في أحضان أبيك! 

v   هب لي روحك القدوس فأحب برك... بل أحب نفسي وأحب أخوتي كنفسي!

v   انزع عني حب الظلم حتى لا أبغض أعماقي!

v   لتمطر عليّ روحك القدوس الناري يطهر أعماقي، أما النار والكبريت والريح العاصف فلا تكون حظ كأسي.

<<

 

 

 


 

المزمور الثاني عشر

كلام الأشرار وكلام الأبرار وكلام الله

يكشف المرتل هنا عن فاعلية كلمات بني البشر الفارغة [1-4]، وعلى النقيض من ذلك الأثر الصالح لكلمات الله النقية [5-8]؛ وعن كلمات أو صرخات الأبرار البائسين [5]. ويُعتبر الكلام الشرير أكثر الشرور تدميرًا لنفس الإنسان وللشركة الأسرية وللكنيسة. قد يبدو هذا الأمر تافهًا بلا تأثير، وأنه لا وجه للمقارنة بينه وبين باقي خطايا الشهوات الجسدية السلوكية وجرائم العنف من قتل واستعباد وسرقة. هذه المعصية التي تبدو هينة تنخر في إنساننا الداخلي، وعائلاتنا والكنيسة، وهكذا تقدر أن تمزق أوصال الوجود الإنساني ذاته. إن كنا لا نصدق زوجًا أو زوجة أو أخًا أو أختًا أو كاهنًا، فإن البناء الكامل للأسرة والكنيسة ينهار من أساسياته[277].

يقدم لنا المرتل ثلاثة أنواع من الكلام:

1. كلام الأشرار: كذب ورياء وكبرياء... ينطقون بفم أبيهم، إبليس، الكذاب وأبو كل كذاب، المخادع والمتعجرف.

2. كلام الأبرار: تنهدات المساكين بسبب ما يعانوه من ضيق ومتاعب في هذه الحياة. الرب أبونا يسمع كلمات القلب وتنهداته الخفية.

3. كلام الله: كلام نقي، مصدر الخلاص.

ويرى البعض أن هذا المزمور هو مرثاة جماعية، نطق بها المرتل باسم الجماعة الخائفة الله، فهي تصرخ تطلب الخلاص والعون من الأشرار الغاشين الذين حملوا صورة الرياء والكذب من جانب، وصورة العنف والظلم من جانب آخر... يعلن المرتل كيف طال انتظار شعب الله مترجين عمل الله الخلاصي لحفظهم من المنافقين. لقد وجدوا الإجابة شافية في كلمته الإلهية التي تقدم وعوده الإلهية!

بِنية الزمور:

1. دعوة للخلاص                                                 [1].

2. الدافع لهذه الدعوة اليائسة                              [1-2].

3. صلاة يقدمها خورس مرتلين                                   [3].

4. النطق بلسان الأشرار، بواسطة خورس آخر           [4].

5. إلهام إلهي ينطق به كاهن أو نبي باسم الله                       [5].

6. استجابة من الجوقات المرنمة على كلمات الرب، بواسطة الجوقة الثانية  [6].

7. صلاة ثقة تنطق بها الجوقة الأولى                             [7].

8. ختام، يشبه افتتاحية المرثاة تردده أغلب الجوقة                 [8]

العنوان:

"للتمام، من أجل الثامن". سبق لنا التعليق على مثل هذا العنوان أثناء دراستنا للمزامير (5، 6، 8).

يقول القديس أغسطينوس: [لتؤخذ كلمة "الثامن" بمعنى "الأبدية". فإنه بعد انقضاء الزمن الحاضر، الذي هو دورة سبعة أيام متعاقبة، يأتي (الثامن) كنصيب للقديسين. يقول المرتل: "المنافقون حولنا يمشون (في دائرة)" [8]، أي يمشون في شهوة الزمنيات، والتي تدور كعجلة في حلقات متكررة من سبعة أيام، لهذا لا يبلغون اليوم الثامن، أي لا ينعمون بالأبدية التي هي عنوان المزمور].

كان العبرانيون يستخدمون هذا المزمور في اليوم الثامن، يوم الختان.

الحاجة إلى القديسين:

يحتاج العالم إلى قديسين كشهود لعمل الله وكبركة للآخرين. يصرخ داود قائلاً: "خلصني يارب فإن البار قد فنى" [1]. وعلى نقيض القديسين يوجد (في العالم بكثرة) بنو البشر [9].

لم يجد المرتل الحقوق بين بني البشر، إنما وجد كذبًا، وبأكثر دقة وجد فراغًا، وهو تعبير يحمل معنى "البطلان"، "عدم الإخلاص" و"التسيّب".

"خلّصني يارب فإن البار قد فنى.

والحقوق قد قلت من بني البشر" [1].

تطلع داود النبي في مرارة نفسه ليجد كأن جيله قد خانه، صار كمن يتعامل مع بني بليعال، ليس بينهم بار يثق فيه. ربما تطلع داود حوله ليجد شاول الملك الذي أنقذه من العار وخلصه من جليات الجبار يجند كل طاقات الدولة ضده، كما خانه أهل زيف (1 صم 24: 19) وأهل قعيلة (1 صم 26)؛ وربما تذكر الكهنة الذين لقوا حتفهم في نوب (1 صم 21)... شعر داود كأنه لا يوجد إنسان أمين في العالم؛ وهو في هذا ربما يشبه إيليا النبي عندما صرخ قائلاً: "يارب قتلوا أنبياءك، وهدموا مذابحك، وبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي" (رو 11: 3).

لعل داود النبي كان يتكلم باسم السيد المسيح الذي جاء ليخلص العالم، فقد فسدت الطبيعة البشرية وضاع الحق من حياة الإنسان، لذلك يصرخ باسمنا طالبًا الخلاص بتجديد طبيعتنا واتحادنا مع الحق!

لا طريق لعودة الحياة البارة ورجوع الحق إلى العالم إلا بخلاص السيد المسيح، لهذا يبدأ المرتل بصرخة قصيرة وقوية: "خلصني يارب".

اللسان الشرير:

"تكلم كل واحد مع قريبه بالأباطيل.

شفاة غاشة في قلوبهم، وبقلوبهم تخاطبوا.

يستأصل الرب جميع الشفاة الغاشة

واللسان الناطق بالعظائم

الذين قالوا نعظم ألسنتنا شفاهنا هي منا

فمن هو ربنا؟!" [2-4].

اللسان عطية إلهية، به نسبح الله وبه نتحدث مع الغير. إذا أسأنا إستخدامه يصير نارًا وعالم إثم (يع 3، مز 141: 3). وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن المرائين المتغطرسين يتكلون على حديثهم في خداع الناس دون الخضوع لله].

يتضرع داود النبي إلى الله كي يهلك المتملقين، الذين يهددون الصالحين. يعد الله أن يُعين الذين تحت الضيقة، مستجيبًا لتنهدات المساكين.

v   ليته لا يخدع أحد قريبه، كما يقول المرتل هنا وهناك: "يتكلمون بشفاة غاشة وقلب مزدوج" [2]. فما من شيء يجلب العداوة مثل الغش والخداع[278].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   الفم هو مصدر كل شر، بالحري ليس الفَم بل الذين يُسيئون استخدامه، فمنه تصدر الشتائم، والإهانات، والتجاديف، وما يثير الشهوات، والقتل، والزنا، والسرقات، هذه جميعها مصدرها إساءة استخدام الفم. ربما تسأل: كيف يسبب قتلاً؟ لأنه من السب يُثار الغضب، ومن الغضب الضرب، والضرب يدفع إلى جريمة قتل. مرة أخرى: كيف يسبب زنا؟ ربما يقول قائل: "هذه المرأة تحبك، وتداعبك بكلام لطيف". هنا تشتعل الشهوة في داخلك[279]!.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الآن بعدما تحدث عن كلمات الأشرار التي تكشف عن طابع أبيهم: الخداع مع العنف، يقدم لنا المرتل عمل كلمة الله فينا.

إن كان عدو الخير قد أوجد فينا - إن صح التعبير - قلبين أو وجهين، بالواحد ننطق بالكلمات اللطيفة اللينة وبالآخر نحمل فكرًا ذئبيًا شرسًا، بالواحد نعيش داخل الكنيسة وبالآخر نتعامل مع الآخرين، فإن علاج الأمر هو إبدال عمل عدو الخير بعمل الله، أو كلمة عدو الخير بالكلمة الإلهية، بكونها كلمة واهب الخلاص.

"الآن أقوم يقول الرب

أصنع الخلاص علانية

كلام الرب كلام نقي

فضة محمية مجرَّبة في الأرض

قد صفيت سبعة أضعاف" [5-6].

تقود كلمات البشر المتغطرسة إلى الإلحاد، إذ يقولون "شفاهنا هي منا؛ فمن هو ربنا؟!" أما كلمات الله فنقيّة، مثل الفضة المصفاة بالنار سبعة أضعاف. كلماته في حقيقتها هي وعود مقدمة لنا، تضمن لنا أماننا فيه.

v   "صفيت سبعة أضعاف"، وذلك:

1. بمخافة الرب.

2. بالصلاح.

3. بالمعرفة.

4. بالقدرة.

5. بالمشورة.

6. بالفهم.

7. وبالحكمة (إش 11: 2).

إذ توجد سبع درجات للتطويب، صعد عليها الرب كما جاء في متى، في نفس العظة التي نطق بها على الجبل (مت 5: 3-9).

القديس أغسطينوس

v   كما أن الفضة غالبًا ما تُنقى، هكذا يُمتحن البار، فيصير عُمْلَة الرب، تتقبل الصورة الملكية. سليمان أيضًا يدعو "لسان الصديق ذهبًا ممحصًا بالنار" (راجع أم 10: 20)، مظهرًا أن التعليم الذي يُمتحن وتثبت حكمته يُمتدح ويُقبل، حيث يُمحص على الأرض عندما تتقدس نفس الغنوصي (الإنسان الروحي صاحب المعرفة) بعدة طرق، منسحبة من النيران الأرضية. أما الجسد الذي تسكنه (هذه النفس) فيتطهر وتصير له النقاوة اللائقة بهيكل مقدس[280]...

القديس أكليمندس الإسكندري

أمان وسط الضيق:

إن كان المنافقون قد التفوا حولنا من كل جانب [8]، يسلطون ألسنتهم الشريرة ضدنا بخداع مع عنف داخلي... لكن كلمة الله تقدم لنا وعود إلهية، تحول حياتنا إلى "تسبحة" مفرحة، فنقول مع المرتل:

"وأنت يارب تنجينا وتحفظنا

من هذا الجيل وإلى الدهر" [7].

يبقى الأشرار مقاومون لأولاد الله في كل جيل وفي كل موقع في العالم حتى انقضاء الدهر؛ وتبقى كلمة الله مُخَلّصة لنا وحافظة إلى التمام.


 

كلامك روح وحياة

v   لتنطلق ألسنة الأشرار ضدي،

ولترشق سهامها القاتلة نحوي،

فإن كلمتك يارب واهبة الخلاص،

هي حصني وخلاصي، هي بهجتي وكل حياتي!

<<

 

 

 


 

المزمور الثالث عشر

إلى متى يارب....؟

يبدو أن داود قد واجه تجارب لا تنتهي في فترةٍ ما من حياته. وقد جاء هذا المزمور بمثابة تضرع يسكبه أمام الله حتى يعينه ضد أعدائه.

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور لم يُكتب أثناء متاعب داود مع شاول، لأنه هذه المتاعب كانت قبل سقوطه في خطيته الشنعاء. ففي رأيهم أنه وضع هذا المزمور أثناء تمرد أبشالوم، عندما أسرع هاربًا من وجه ابنه. غير أن سحابة الحزن الخارجي لم تكن إلا رمزًا باهتًا لما قد ثقل على نفسه داخليًا بسبب الخطية، الأمر الذي كان أكثر سوادًا من ظلمة منتصف الليل[281].

يعبر هذا المزمور الصغير عن آلام داود الشحصية، سجلها كصرخة قوية وصريحة تخرج من أعماق نفسه المتألمة ليرتمي في أحضان مخلصه الذي يخرج به من المرارة إلى حياة الفرح والتهليل. وقد جاء هذا المزمور صلاة تضم كل عناصر المرثاة: شكوى، توسل، ثقة، شكر؛ التي تناسب كل إنسان بار يعاني من متاعب داخلية وخارجية.

يقول وليم بلامر: [يأتي تسلسل هذا المزمور طبيعيًا وبطريقة رائعة. ففي الآيتين 1، 2 يصرخ داود: "إلى متى؟"، مرددًا إياها أربع مرات؛ وفي الآية 3 يبدأ في جدية يصرخ طالبًا العون. وفي الآية 4 يستخدم أسلوب المحاججة الذي غالبًا ما يستخدمه مع الله... وإذ يتوسل يزداد إيمانًا؛ وإذ يؤمن يفرح في الرب، وإذ يفرح ينطلق طافرًا بتسابيح الحمد[282]].

الإطار العام:

1. إلى متى يارب؟          [1-2].

2. توسل                    [3-4].

3. أغنية النصرة            [5].

1. إلى متى يارب؟

بدأ داود النبي بسؤال، إذ رأى خارجه أن الأعداء قد ارتفعوا، ونفسه في داخله

حزينة، والله من فوق صامت.

يكرر داود في الآيتين 1، 2 "إلى متى...؟" أربع مرات، معبرًا عن إحباطه وفزعه، ويرى البعض أن التكرار هنا أربع مرات يُظهر أن المرتل يصرخ لا باسمه الشخصي وإنما باسم الشعب كله الذي سقط في الأسر أربع مرات: الأسر البابلي، والفارسي (المدياني)، والإغريقي، والروماني. وهكذا يُحسب هذا المزمور مرثاة جماعية ونبّوة تاريخية. وربما كرر المرتل هذه الكلمات أربع مرات ليعلن أنه أينما ذهب: شرقًا أو غربًا أو شمالاً أو جنوبًا لا يجد راحة، لأن الله قد حجب وجهه عنه.

ليس كل تكرار في الصلاة مرفوضًا إنما يُرفض التكرار الباطل.

"إلى متى يارب تنساني إلى الانقضاء؟

حتى متى تصرف وجهك عني؟

إلى متى أضع هذه المشورات في نفسي

والأوجاع في قلبي النهار أجمع؟

إلى متى يرتفع عدوي عليّ؟" [1، 2]

لم يجد داود راحة لنفسه في كل الأرض، لا بسبب تمرد ابنه، وإنما بسبب خطيته التي تجعل الله يحجب وجهه عنه. وقد استعار المرتل هذا التعبير من إعلانات الله المحسوسة في هيكل قدسه، في خيمة الاجتماع التي كانت ترمز إلى أن القدوس يسكن وسط شعبه المقدس. ليس ما يفرح القلب وينير البصيرة الداخلية مثل حضرة الله الواهبة النعم، بكونه هو حياة النفس ونورها. وليس من ظلمة أكثر رعبًا من تلك التي تنبع عن الشعور بأن الله يحجب وجهه عن الانسان. لقد بلغت آلام أيوب ذروتها حين قال: "من يعطيني أن أجده... هأنذا أذهب شرقًا فليس هو هناك، وغربًا فلا أشعر به، شمالاً حيث عمله فلا أنظره، يتعطََّفُ الجنوبَ فلا أراه" (أي 23: 3، 8-9).

v   "حتى متى تصرف وجهك عني؟" إذ الله لا ينسى، لذلك فهو لا يحجب وجهه، إنما يتحدث الكتاب المقدس بلغتنا البشرية، فيقول إن الله يحجب وجهه بعيدًا عنا، وذلك حينما لا يُعلن معرفته عن ذاته للنفس التي لم تتطهر عيني فكرها بما فيه من كفاية.

 القديس أغسطينوس

ما نطق به داود يحمل نبوة عن السيد المسيح الذي يصرخ نائبًا عن البشرية وقد حمل ثقل خطاياها، فيقول للآب: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" ليتنا نتمثَّل به في اتضاعه وصراخه بإيمان سائلاً الآب أن يوجه وجهه نحونا.

أحيانًا يشعر الإنسان في لحظات فتوره الروحي كأن الله قد تركه أو حجب وجهه عنه، وكأن الخطية - عدوه - قد ارتفعت عليه، لا تطلب إلا موته الأبدي... عندئذ لا يجد له ملجأ إلا الله مخلصه، يصرخ إليه لكي يشرق ببهاء وجهه في داخله.

في وقت المرارة يشعر الإنسان كأن الله قد تركه زمانًا طويلاً، لكن إذ يعود فيلتقي بالله خلال مراحمه العظيمة يدرك القول الإلهي: "لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك" (إش 54: 7).

2. توسل:

"أنر عينَّي لئلا أنام نوم الموت" [3].

شعر داود النبي باحتياجه إلى الله الذي حجب وجهه عنه بسبب خطيته أن يعود فيرد وجهه البهي نحوه، وينير إنسانه الداخلي بنوره الإلهي، حتى لا يستمر في خطاياه، فلا ينام مع الذين ماتوا في خطاياهم.

صرخة المرتل "إلى متى" ليست صادرة عن يأس إنما عن نفس متألمة تعرف كيف تحول الشكوى إلى صلاة، لتنطلق بإيمان إلى الله تطلب منه الاستنارة ببهاء وجهه. إنها بدالة الحب تطلب إليه قائلة: "أنظر... أستجب... أنر". فهو وحده القادر أن يدخل إلى أعماقنا، ويتطلع إلى سرائرنا، يستجيب إلى تنهدات قلبنا الخفية، وينير طبيعتنا التي صارت ظلمة.

v   لكي نقترب من النور الحقيقي، أعني المسيح، نسبحه في المزامير، قائلين: "أنر عينَّي لئلا أنام نوم الموت". فإنه موت حقيقي هو موت النفس لا الجسد حين نسقط عن استقامة التعاليم الصادقة ونختار الباطل عوض الحق. لذلك يلزم أن تكون أحقاؤنا ممنطقة وسرجنا موقدة كما قيل لنا هنا[283].  

القديس كيرلس الكبير

v   إذا ما أغلق الإنسان عينيهِ عن الرحمة، ينام في شهوات الملذات الجسدية[284].

الأب قيصريوس أسقف آرل

إذ يشرق مسيحنا في داخلنا يهبنا بروحه القدوس البصيرة المنيرة، فننال فهمًا جديدًا لحب الله وأبوّته وعمله الخلاصي، وإدراكًا لسرّ المسيح الذي يضم الشعوب والأمم إليه كأعضاء جسده المقدس، وإمتلاءً من روحه الناري الذي لا تقدر مياه كثيرة أن تطفئه في داخلنا؛ كما يهبنا العين المفتوحة القادرة أن تعاين الأمجاد السماوية، وأيضًا نظرة جديدة للبشرية كلها تتسم بالحب الباذل العملي من أجل الكل.

بهذه الاستنارة لا يبقى للظلام موضعًا في النفس ولا في الجسد أو في الفكر أو القلب إلخ... بل يكون كل ما في داخلنا وخارجنا مستنيرًا بالرب.

"لئلا يقول عدوي: إني قد قويت عليه.

الذين يحزنونني يتهللون إن أنا زللت" [4].

هكذا قدم داود النبي صلاة قصيرة نابعة عن إحتياجه، لكنها قوية. إنه إنما يطلب من الله أن يشرق عليه بنوره. وقد نصحنا آباء الكنيسة أن نردد صلوات قصيرة على الدوام، تسمى "الصلاة السهمية"، لأنها توجه كالسهم ضد الشيطان.

من هو هذا العدو الذي يخشى المرتل أن يقوى عليه ويعيَّره؟ إنه إبليس أو الخطية. يخشى المرتل سخرية أعدائه، الذين يتهللون إذا ما تزعزع مؤمن ما، ويُسر جدًا بهذا النجاح وإن كان مؤقتًا!

ما أعجب الله الذي كثيرًا ما يسمح لشعبه أن يسقطوا إلى حين تحت عنف أو استبداد أزواج أو والدين أو سادة أو قادة. كان لابد لدانيال وزملائه الأتقياء أن يعيشوا تحت سطوة حكام كلدانيين لهم نزواتهم. وعاشت أبيجايل مع زوج هو ابن لبليعال، لا يجسر أحد أن ينطق أمامه بكلمة. هذه هي المدرسة التي يتتلمذ فيها القديسون لمنفعتهم ونوالهم المجد، فإن الصعاب غير المحتملة تقودنا إلى البركة والنصرة[285].

3. أغنية النصرة:

ثقة داود أو إيمانه بالله قد حوّل حزنه إلى تسبحة مفرحة، وآلامه إلى خلاص، لهذا يقول المرتل:

"يبتهج قلبي بخلاصك.

أسبح الرب المحسن إليّ.

وأرتل لاسم الرب العالي" [6-7].

يقول Stuhlmueller: [من الصعب أن ندلل على سبب هذا التحول المفاجئ: هل تعافى المرتل بسرعة؟ من المحتمل أن المزمور قد نُظم عبر ليالٍ طويلة من الأرق، والآلام المُرّة والصلوات اليائسة، والذكريات القاسية، كل هذا تطور تدريجيًا لينشئ سلامًا، حتى عند الموت يتحول غضب الإنسان أو كآبته إلى سلام داخلي وحب راسخ].

بدأ المزمور بالتنهدات وخُتم بالتسابيح، وكما تقول العروس: "لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال؛ الزهور ظهرت في الأرض؛ بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سُمع في أرضنا" (نش 2: 11-12). وكما يقول إبن سيراخ: "انظروا يا بني البشر واعلموا أنه ما من أحد توكل على الرب وخزى" (2: 11).

 


 

صلاة

v   حوّل يارب مرارة نفسي إلى صلاة!

v   انظر إلى أعماقي، واستجب لتنهدات قلبي، ولتنر بصيرتي!     

أراك فأتعرف عليك وأحبك وأتحد بك وأشاركك مجدك!

v   أنر عينيْ قلبي بنورك فلا يكون للظلمة موضع في أعماقي!

v   قدني في مدرسة الألم لكي استعذب شركة صلبك وأنعم بقوة قيامتك!

v   احملني في وسط وادي الدموع، فيبتهج قلبي بخلاصك، وينفتح فمي بتسبيحك!

<<

 

 

 


 

المزمور الرابع عشر

الجـــاهل

ربما كُتبت هذه المرثاة الشخصية لداود عند ثورة أبشالوم ضده.

المزمور 53 ليس إلا تكرارًا لهذا المزمور، ولكن هناك فارق، فبينما يتكرر استخدام اسم يهوه أربع مرات في هذا المزمور لم يذكر في المزمور 53 إلا مرة واحدة، ذاكرًا اسم "الوهيم" خلال المزمور.

ركز هذا المزمور (مع مز 53 الذي يطابقه) على الإنسان الجاهل؛ وقد ظهر "الجاهل" في سفر المزامير خمس مرات، هنا وفي المزمور 53 حيث يقول "لا إله" (14: 1؛ 53: 1)؛ ويُهين الجاهلُ البارَّ ويُعيّره (مز 39: 8)، أما ما هو أشر فهو أنه يهين اسم الله (مز 74: 18، 22)[286].

يتصور المرتل العالم وقد انقسم إلى فريقين من الناس: الجهلاء [1-3]، وجماعة الأبرار أو شعب الله المتألم. إذ يشكو المرتل من اضطهاد الأشرار لجماعة الأبرار بينما يراقبهم الله من السماء. إنه يُعبّر عن رجاء عظيم في الله القادم من هيكله ليعاقب الأشرار ويثبت المؤمنين[287].

الجاهل لا يطلب الله أما الحكيم فيطلبه!

كلمات ركيزية (مفتاح السفر):

1. جاءت الكلمة العبرية المرادفة لكلمة "جاهل" في هذا المزمور "نابال". يرى بعض الدارسين أنها مشتقة من فعل يعني "يبهت" أو "يجف" كأوراق الخريف الساقطة؛ يرتبط بهذا المعنى فكرة الانحطاط الخلقي وانعدام القيم عند الإنسان الجاهل.

يقدم لنا (1 صم 25) صورة صادقة عن جهل نابال زوج أبيجايل، وقد ارتبطت هذه الكلمة في بادئ الأمر بالسلوك الأخلاقي المنبوذ ثم استخدمت فيما بعد بخصوص تدنيس المُقدَّسات. كان العمل الأحمق في البداية يمس ضرر الجماعة الشديد مقترنًا بفساد جنسي (تك 34: 7؛ تث 22: 21؛ قض 19: 23، 1 صم 13: 11). مؤخرًا استخدمت كلمة "نابال" عندما يحدث ما يهدد استقرار الجماعة كما في (أم 30: 21-23). أما بالنسبة للأنبياء فكانت تشير إلى خيانة الأمة كلها للعهد مع الله وخيانتهم لبعضهم البعض (إش 9: 15-17؛ أر 17: 11، نح 3: 6) خلال تاريخ إسرائيل الطويل، فقد ارتبط الجهل (نابال) بانحلال الأسرة والمجتمع والعهود المحلية. كان للجهل أثره الوخيم في بادئ الأمر على الأسرة في العالم وقد انتقل الأثر إلى المجتمع الديني الأكثر نقاوة[288].

2. الكلمة العبرية "ايساه esah" والتي تعني "مشورة"، حيث تتخذ القرارات الحاسمة. انتقلت الفكرة من المجتمع البيئي الأسري إلى المجال السياسي ثم إلى الدوائر الدينية لتعبر عن أحكام الله أو قراراته، ومع ذلك فغالبًا ما تأثرت بالجانب السياسي والعدالة الإجتماعية (إش 28: 29).

تداخل الجهالة مع المشورة الصالحة في هذا المزمور يؤكد سيادة أو ربوبية الله على الروابط الأسرية والسياسية والشئون الدولية[289]. بمعنى أن الإنسان وإن سلك بجهالة وقاوم مشورة الله الصالحة، فإن الله في صلاحه يستخدم حتى ضعفات الإنسان وشره لخلاص أولاده، مخرجًا من الشر صلاحًا، مُحوّلاً الضيقات إلى بهجة خلاص وتهليل وهتاف لا ينقطع!

الإطار العام:

1. فساد الأشرار                      [1-3].

2. عداوة الأشرار للأبرار            [4-6].

3. المخلص والمحرر والمفرح          [7].

يشمل المزمور قسمًا حكيمًا [1-3]، وقسمًا نبويًا [4-6] وصلاة ختامية [7].

1. فساد الأشرار:

"قال الجاهل في قلبه ليس إله موجود.

فسدوا وتدنسوا بأعمالهم.

ليس من يصنع خيرًا حتى ولا واحد" [1].

تحوي الآيات 1-3 مرثاة قوية عن فساد الأشرار الذين يقولون "لا إله". هذا القول لا يعني إلحادًا عقيديًا وإنما إلحادًا عمليًا، فإن اقتراف الخطية بتصميم وإصرار هو جهالة وإلحاد عملي.

خلال الجهالة:

أ. لا يستطيع الأشرار أن يقنعوا أنفسهم بأنه ليس إله، لكنهم يشتاقون ألا يكون هناك إله. خلال هذا الوهم بأنه يُحتمل ألا يوجد إله، يفرحون. إنهم ملحدون خلال الرغبة!

ب. يتجاهل الأشرار الله في سلوكهم، فيعيشون كما لو لم يوجد إله، ولا يكرّمونه قط في كل مشروعاتهم. إنهم يتصرفون في حياتهم كما في داخل قلوبهم كما لو كان الله غير موجود؛ مع أنه ليست غباوة أعظم من نسيان الله في الحياة اليومية.

ج. لا يطلبون العون الإلهي؛ إنهم ملحدون إذا اظلمت قلوبهم الغبية، وانحرفت ضمائرهم، وتغرَّبت أذهانهم وأفكارهم عن الحياة مع الله بإنكارهم عنايته بهم وقيادته لهم، مُظهرين حماسًا شديدًا لآرائهم الشخصية وقوتهم وسلطانهم بل وأستعدادتهم حتى الموت من أجل رأيهم الذاتي.

د. يتجاهل الأشرار طبيعتهم الفاسدة.

هـ. خلال الجهل يسيء الأشرار إلى الله في أشخاص أولاده، يأكلونهم بشراهة كما يأكلون الخبز، ويستهينون بمشورة المساكين.

القلب أو الإنسان الداخلي هو الذي يكشف عن الإنسان إن كان جاهلاً أم حكيمًا، قديسًا أم شريرًا. قلب الإنسان هو مركز كل الصلاح أو الشرور، فيه يُقام ملكوت المسيح أو ملكوت ضد المسيح.

فساد جامع:

تقييم الله للجنس البشري أنه ليس أحد بارًا، ليس من يطلب الله. إقتبس القديس بولس هذا النص في (رو 3: 10-12). "ليس بار ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب، الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد"، ليُثبت أن اليهود والأمم على حد سواء جميعهم تحت الخطية. ليس فقط الوثنيون هم خطاة بل وكل البشرية أيضًا. العالم كله مذنب أمام الله؛ هذا يقودنا إلى فهم الأمر بصورة عامة بخصوص فساد الطبيعة البشرية. طبيعتنا في كلّيتها - التي مركزها القلب - تحتاج إلى تجديد.

"قال الجاهل في قلبه ليس إله موجود.

فسدوا وتدنسوا بأعمالهم

وليس من يصنع خيرًا حتى ولا واحد" [1].

هكذا صار الجهلاء رجسين في طرقهم وأفعالهم وانحرافاتهم. ذبائحهم وبخورهم رجس عند الرب، حتى أعيادهم واحتفالاتهم دنسة (أم 15: 8؛ إش 1: 13). ربما يصنع الأشرار أمورًا صالحة لكن تبقى دوافعهم الداخلية شريرة. لا يصنعون شيئًا يُحسب في عيني الله صالحًا، لأن الله ينظر إلى القلب؛ و"المحبة هي تتميم الناموس"، إذ ليس للأشرار محبة. "بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله"؛ والأشرار ينحرفون عن الإيمان. الخطية تدمرّ وتحطم كل أعمال الأشرار[290].

v   "فسدوا ورجسوا بأعمالهم"، بمعنى أنهم بينما هم يحبون هذا العالم ولا يحبون الله، هذه الأفعال التي تفسد النفس وتعميها تؤدي بالجاهل أن يقول "في قلبه لا إله". "وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" (رو 1: 28).

القديس أغسطينوس

v   إذ هم حمقى في أفكارهم تظهر أعمالهم الشريرة، إذ يقول الرب: "كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار؟!" (مت 12: 34). كانوا أشرارًا لأنهم فكروا بالشر. كيف يمكن لهؤلاء أن يأتوا بأعمال بارّة وأذهانهم قائمة على الخداع والمكر؟![291].

القديس أثناسيوس الرسولي

v   كيف يمكن أن يكون حكيمًا من لا يتطلع إلى صانعه؟[292].

القديس أمبروسيوس

v   حينما يقول: "الرب أطلع من السماء" يصف معرفته الكاملة بكل شيء بصورة استعارية مأخوذة عن البشر[293].

القديس يوحنا ذهبي الفم

الأشرار لا يفهمون ولا يطلبون الله. لو كانت عقولهم غير مظلمة لعاينوا جمال الإلهيات وأحبوها. وإذا ما أحب البشر الإلهيات فإنهم يعرفون شيئًا بل والكثير عن جملها، فإننا لا نقدر أن نعاين الجمال ما لم نحبه، ولا يمكننا أن نعطي إهتمامًا حيويًا ومبهجًا لأمر ما ما لم يكن لدينا الاستعداد أن نحتضن هذا الأمر.

كلمة "فاهم" هنا في النص جاءت في مواضع أخرى في الكتاب المقدس بكونها: "حكيمًا، متعقلاً، خبيرًا، ماهرًا" (دا 12: 10؛ عا 5: 13؛ إر 1: 9؛ دا 1: 4) وأيضًا لتعني: "يعلم، يسلك بحكمة" (2 كو 30: 22؛ 1 صم 18: 14-15). كما جاءت في صيغ أخرى للكلمة لتعني: "يعتبر، ينتعش، يتثقف، ينال نجاحًا صالحًا، يتصرف بفطنة" (أي 34: 27؛ أر 10: 21؛ 20: 11؛ 23: 5؛ نح 9: 20؛ أم 21: 11؛ يش 1: 8، إش 52: 13). فالأشرار بذواتهم لا يتحلّون بالحكمة أو الفطنة أو الخبرة أو المهارة، لا يسلكون بتعقل ولا يقدّمون تعليمًا صادقًا، ولا يتعلمون تعليمًا صحيحًا، وهم ليسوا ناجحين في حياتهم ولا يزدهرون. كلهم سخفاء، لا يتمتعون بعنصر واحد من الحكمة في كل سلوكياتهم، من جهة التزاماتهم وإخلاصهم.

أما كلمة "يطلب (يفتش)" فقد جاءت بمعنى يستفهم (تث 13: 11)، أو يبحث (إر 29: 13)، أو يعتني (أي 3: 4) أو يهتم (تث 11: 12؛ 142: 4). فالأشرار لا يهتمون بالله ولا يلتفتون نحوه ولا يبحثون عنه ولا يطلبونه. وقد جاء الفعل المقابل لها "يجد" فالحكمة الحقيقية تقوم على طلب الله والعثور عليه[294].

"كلهم قد حادوا جميعًا وفسدوا معًا

وليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" [3].

خلال شبه اتحاد أو اتفاق فيما بينهم، لأن الجميع زاغوا وفسدوا، الكل قد تدنس وإرتد!

الحاجة إلى تجديد طبيعتنا الفاسدة:

لقد أخطأ آدم وحواء وتحملا مسئولية خطأهما الشخصي، لكنهما فقدا صلاح الطبيعة فورثنا عنهما فسادها، الأمر الذي نشاهده حتى في الأطفال الصغار، حيث يحملون الكثير من الغضب أو الغيرة دون أن يعلّمهم أحد... وصارت الحاجة إلى مخلص قادر أن يعيد خلقة طبيعتنا أو أن يجددها.

v   خلق الله الإنسان، وأراد أن يبقى في عدم فساد، ولكن البشر باحتقارهم ورفضهم التأمل في الله، ابتكروا ودبروا الشر لأنفسهم... فنالوا حكم الموت الذي أُنذروا به، ومن ذلك الحين لم يستمروا كما خُلقوا، بل فسدوا حسب تدابيرهم...

وإذ رأى "الكلمة" أن فساد البشر لا يمكن إبطاله بأية وسيلة سوى الموت كشرط ضروري... فلهذه الغاية أخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت، لكن باتحاد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا بأن يموت بالنيابة عن الكل؛ ولأن الكلمة أتى وسكن فيه، يبقى في غير فساد، وبذلك ينزع الفساد من الكل بنعمة القيامة...

كان ضروريًا ألا يتجسد أحد آخر سوى الله الكلمة نفسه، "لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آت بابناء كثيرين إلى المجد أن يجعل رئيس خلاصهم كاملاً بالآلام" (عب 2: 10).

القديس أثناسيوس الرسولي

2. عداوة الأشرار ضد الأبرار:

"حنجرتهم قبر مفتوح، مكروا بلسانهم

سم الأفاعي تحت شفاههم.

أفواههم مملوءة لعنة ومرارة.

أرجلهم سريعة إلى سفك الدماء.

الانكسار والشقاء في سبلهم،

وطريق السلامة لم يعرفوها.

ليس خوف الله أمام أعينهم

أليس يعلم جميع عاملي الإثم" (الترجمة السبعينية).

لم يرد النص السابق في النص العبري، إنما في الترجمة السبعينية وبعض الترجمات المأخوذة عنها مثل النسخة القبطية؛ وهو يطابق ما ورد في (رو 3: 13-19).

لا يقف الشرير عند جهله الحكمة، وإنكاره وجود الله في حياته العملية وعدم طلب معونته ومشورته، وفساد أعمله، إنما يحمل شرًا تجاه أخيه، سرّه أن فمه صار أداة لعدو الخير، مملوء خداعًا، يحوّله إلى فم الحيَّة المملوءة سمًا ومقبرة لقتل الأبرياء ودفنهم، مع حب شديد لسفك الدماء وبغضة وكراهية، يعملون بلا مخافة الله متجاهلين ناموسه؟

عداوة الجهلاء ضد مؤمني الله موجهة إلى الله نفسه، لهذا تُعتبر إلحادًا عمليًا. إنهم يأكلون كنيسة الله بإغاظة القديسين وتعذيبهم وقتلهم دون سبب سوى أنهم رجال الله. "الذين يأكلون شعبي كأكل الخبز... هناك جزعوا خوفًا حيث لا خوف" [4، 5].

v   خافوا لئلا يفقدوا المملكة الأرضية حيث لا حاجة إلى الخوف، وها هم يفقدون المملكة السماوية التي كان يليق بهم أن يخافوا فقدانها.

القديس أغسطينوس

لقد تحقق ذلك في أيام السيد المسيح، فقد تآمر الكل ضده، حاسبين أنه بوجوده يفقدون سلطانهم وكرامتهم وغناهم... وقد سأله بيلاطس إن كان هو ملك؟... أما رب المجد يسوع الذي صار لأجلنا مسكينًا فأعلن أن مملكته ليست من هذا العالم.

ما حدث مع السيد المسيح يحدث دومًا مع الكنيسة المسكينة التي لا تطلب مجدًا في العالم فيظنها العالم أنها تسحب أمجاده. على أي الأحوال فإن خطط الحمقى ضد اخوتهم المساكين يغضب الله نفسه، ولا يكون للأبرياء المظلومين ملجأ غير الله نفسه.

يحاول الأعداء أن يأكلوا أولاد الله ويلتهموهم، هؤلاء الذين يدعون "المساكين"، لكن الله يتجلى في وسطهم خلال الضيقة ويعلن عن حلوله وسكناه في وسطهم. "لأن الله في جيل الأبرار" [5].

بسبب مضايقات الأشرار يدعى أولاد الله بالمساكين، لكن المخلص نفسه الغني صار فقيرًا لكي بفقره أي ببرّه يغنيهم. قد يضحك ألشرار على المساكين، لكن إلى حين، إذ يصير الله نفسه ملجأ المساكين!

المخلص والمحرر والمفرح:

بعد توبيخ الأشرار يختم المرتل المزمور بنظرةٍ كلها رجاء في عون الله وخلاصه، فالله هو مخلص كنيسته "صهيون الروحية"، يهبها الحرية من سبي إبليس. بنعمته يعرَّفها الطريق الذي يرفعها من الظلمة إلى النور، وفي المستقبل يأتي إليها محولاً دموعها إلى فرح وتهليل.

"من يعطي من صهيون خلاصًا لإسرائيل (الكنيسة)

إذا ما ردَّ الرب سبي شعبه؟!

فليتهلل يعقوب ويفرح إسرائيل"

التحرر من السبي معناه المتحرر من أي شر وبيل وأية ضيقة عظيمة. لقد كنا في سبي إبليس حتى جاء الابن فحررنا بصليبه، مانحًا إيانا بهجة وخلاصًا!

اعتاد اليهود أن يشيروا إلى هذه الآية الأخيرة كنبوة عن زمن المسيا كفادٍ لهم، وقد تحقق هذا الخلاص خلال الكنيسة، صهيون الجديدة، وتغيرت الصورة بالكامل من الضعف إلى صيحات الفرخ، كإعلان عن النصرة على العدو. أما اليهود ففي تمسكهم بالحرف القاتل لا يزالوا يطلبون خلاصًا ماديًا ومملكة زمنية بفكر صهيوني بعيد عن الفكر الكتابي الحق.

 

صلاة

v   أيها الحكمة الحقيقية اسكن في أعماقي نازعًا روح الجهالة عني!

v   يا من افتقرت لكيّ تغنيني، هب لي أن أقبل كل ألم معك لكي أغتني بنعمتك!

v   حوّل يا رب دموعي وتنهدات قلبي إلى تسابيح وتهليلات مفرحة!

<<

 

 


 

المزمور الخامس عشر

الحياة على قمم الجبال

يبدو مناسبًا جدًا أن يلي هذا المزمور المزمور السابق (14) مباشرة، فالسابق يكشف عن خصال الشرير أما هذا المزمور فيكشف عن خصائص الإنسان التقي.

هذا المزمور مع مز 24 ربما أُلهم به داود النبي أثناء إصعاد تابوت العهد إلى مدينته. وكان داود قد أخفق في نقل تابوت العهد في المرة الأولى إذ لم يعهد ذلك إلى اللاويين حسب الشريعة، أما في المحاولة الثانية فقد حرص ليس فقط أن يسند العمل إلى اللاويين الذين عينهم الرب لحمله وخدمته (1 أي 15: 2)، بل ورتب أن يكون التابوت في عهدة الرجل الذي بارك الرب بيته عندما أقام التابوت عنده، فكان عوبيد آدوم وبنوه الكثيرون يخدمون في بيت الرب (1 أي 26: 8، 12). ويعتبر هذا المزمور تسبحة تكشف عن سمات المؤمن الحقيقي الذي يسَرُّ الرب أن يقيمه لخدمة بيته الروحي أي كنيسته.

ربما يعبر المزمور عن أعماق أفكار داود وهو في المنفى، حيث كان محرومًا من العبادة في بيت الرب.

وللمزمور صلة بإشعياء (33: 14-16)، وربما تُعد رسالة يعقوب تعليقًا على هذا المزمور وتفسيرًا له.

كان هذا المزمور جزءًا من مزامير الأحتفال عند باب الهيكل. كان الهيكل هو بيت الله الذي لا يمكن دخوله الأ في أوقات معينة وبشروط خاصة. وكان الزائر الذي يحج إلى هذه الأماكن المقدسة يلتزم بأن يستأذن الكاهن المختص متى رغب في الدخول، فيسأل: "يارب من يسكن في مسكنك؟ أو من يحل في جبل قدسك؟" [1] يجيبه حارس البيت مقدمًا السمات المطلوبة للدخول... يسأل الزائر (العلماني) ويجيب الكاهن لا بتقديم قائمة عن التزامات طقسية خارجية وإنما التزامات تمس فحص ضميره.

يحوي هذا المزمور النص الذي يُتلى عند دخول بيت الرب للاشتراك في عبادة ليتورجية، وهو أشبه بصلاة للتوبة ومحاسبة النفس قبل الأشتراك في ليتورجية الأفخارستيا.

يرى Mowinckel أن هذا المزمور هو جزء من الليتورجية الخاصة بالأحتفال بالله "يهوه"[295].

دعى بعض الأباء هذا المزمور "سلم يعقوب" ، يرتقيه الإنسان التقي ليصعد إلى الله.

يعتقد البعض أن استخدام كلمة "خيمة" لتدل على مكان إستقرار تابوت العهد يشير إلى أن هذا المزمور لا يمكن أن يكون قد وُضع بعد حكم داود، أو بداية حكم سليمان الحكيم؛ فإنه بعد ذلك الحين أُستخدمت كلمة "هيكل" أو أي لفظ آخر غير كلمة "الخيمة"؛ كما لا يمكن أن يكون المزمور قد وضع قبل داود الملك لأنه لم يكن قد نُقل التابوت إلى جبل صهيون[296].

المزمور الرابع عشر:

هذا المزمور هو المزمور 14 حسب الترجمة السبعينية. يعلق القديس جيروم على هذا الرقم قائلاً: [نقرأ في (خر 12: 6) أنه في اليوم الرابع عشر يُقدم حمل ذبيحة؛ في اليوم الرابع عشر عند إكتمال القمر، عندما يصير ضوءه في أشده. ها أنتم ترون المسيح لا يقدم نفسه ذبيحة الأ في كمال النور وتمامه. في اليوم الرابع عشر يُقدم الحمل بواسطتك، لذلك يندهش النبي متسائلاً: "يارب من ينزل في مسكنك؟"[297]].

كأننا إن أردنا أن نتمتع بذبيحة المسيح الكفارية يليق بنا أن نتقبل نوره الألهي في أعماقنا فنصير كمن في اليوم الرابع عشر، كقمر قد تمتع بكمال الأستنارة من شمس البر، عندئذ ندخل إلى بيته وننعم بسرّ مذبحه المقدس.

 بالتوبة الصادقة في استحقاقات الدم يدخل بنا روح الله القدوس إلى المقدسات الألهية، ونشترك في ليتورجيا الأفخارستيا بنفس متهللة مستنيرة بالروح القدس. لهذا قبل التناول من الأسرار المقدسة يصرخ الكاهن، قائلاً: "القدسات للقديسين"، وإذ يشعر الشعب كله بالحاجة إلى عمل الله القدوس لتقديسهم يجيبون: "واحد هو الأب القدوس، واحد هو الأبن القدوس، واحد هو الروح القدس".

الأطار العام:

1. ضيف الله.              [1].

2. سمات ضيف الله.        [2-5].

1. ضيف الله:

"يارب من يسكن في مسكنك (خيمتك)؟!

أو من يحل في جبل قدسك؟!" [1].

يتساءل المرتل: يارب أنت هو القدوس الساكن في السموات، من يقدر أن يقترب إلى مسكنك أو تكون له شركة معك؟ السماء ليست بطاهرة في عينيك، وإلى ملائكتك تنسب حماقة فكيف يستطيع الإنسان القابل للموت أن يقترب إلى بهاء لاهوتك؟

خلال العهد الألهي ووعوده المستمرة أدرك داود النبي أن من صار ضيفًا عند الله عند دخوله المقدس يحتمي من مضطهديه خلال سلام الله (مز 27: 4، 61: 3)؛ يتمتع بخلاص الله وبركاته خلال الشركة مع الله التي ينعم بها في كنيسة الله.

حقًا أنه كان من المتوقع أن الذين يدخلون بيت الله أن يحظوا بأعلى قدر من العدالة وأرفع درجة من الصلاح، على خلاف الجهلاء الذين تحدث عنهم المزمور السابق، هؤلاء الحمقى في أفكارهم وكلماتهم وأعمالهم.

كان مسكن الرب (خيمته) على جبل صهيون في أيام داود، وهو مسكن جديد أعده النبي الملك، وليست الخيمة التي أُستخدمت في البرية وظلت في جبعون. أما الجبل المقدس، أو جبل قدسه، فهو جبل صهيون في أورشليم، رمز لكنيسة العهد الجديد.

يؤمن المرتل أن الذي لم يتهيأ للكنيسة السماوية المجيدة في الدهر الأتي لا يستحق العضوية الروحية في الكنيسة هنا على الأرض. من سوف لا يشترك في شركة الحياة الأبدية هو غريب حتى عن ملكوت الله هنا. لذلك يسأل: "من يكون عضوًا حقيقيًا في كنيستك المقدسة، ولا يُطرد منها أبدًا؟ من يدخل مسكنك المجيد الأبدي؟

v   "يارب من يقيم (مؤقتًا) في خيمتك؟! من يسكن في جبل قدسك؟!" يبدو لي أن الخيمة هي الكنيسة في هذا العالم. فالكنائس التي نراها اليوم هي خيام، لأننا نحن في هذا العالم غرباء، لسنا في موطن دائم، بل بالحري كمن هم على وشك أن يهاجروا إلى مكان آخر.

v   إن كان هذا العالم كما نرى يزول (مت 24: 35)، وإن كانت السماء والأرض تزولان، فكم بالحري الحجارة التي بنيت بها الكنائس المنظورة؟ لهذا فإن هذه الكنائس هي خيام، نتركها ونهاجر إلى جبل الله المقدس.        

ما هو جبل الله المقدس هذا؟ جاء في حزقيال ضد ملك صور: "فأطرحك من جبل الله..." (حز 28: 16).

مادمنا نرحل من الخيام إلى الجبل، يليق بنا أن نتعرف على أولئك الذين يهاجرون إليه[298].

القديس جيروم

v   "يارب من يسكن في خيمتك؟"... إذا ما أُخذت الخيمة في معناها الحقيقي اللائق فهي خاصة بالحرب، لهذا يُدعى الجنود "تابعي (جماعات) الخيام"، إذ لهم خيام مشتركة معًا. هذا المعنى يناسب الكلمات "من يسكن (مؤقتًا)؟"، لأننا إنما نحارب الشيطان إلى حين ثم نحتاج إلى خيمة نستريح فيها وننتعش...

"من يسكن في جبلك المقدس؟" يشير هنا في الحال إلى السكنى الأبدية ذاتها (2 كو 5: 1-2) التي تُفهم من لفظ "جبل" الذي هو ذروة حب المسيح في الحياة الأبدية.

القديس أغسطينوس

"يسكن مؤقتًا sojourn" تعني إقامة إنسان غريب كما كان إبراهيم في أرض كنعان (تك 15: 3)، وكطريق إسرائيل في أرض مصر (خر 23: 2). لفظ "يسكن dwell" جاءت عن كلمة عبرية قديمة تخص العيش في الخيام، رمز للإيواء يسهل نصبها حين تكون الأسرة في حالة ترحال؛ خصصت هذه الكلمة فيما بعد لموضع سكنى الله. يستطيع الله أن يتحرك متقدمًا شعبه، كما حدث في أيام السبي (حز 10: 18-19، 22-25)، ويمكنه أن يظهر للأنبياء في بلد غريب (حز 1: 1، إش 40: 1-11) [299].

غاية هذا المزمور توضيح العلاقة الوطيدة التي لا تنفصم بين عبادة الله في مسكنه والشهادة لها في الحياة العملية. فمن يظهر تقواه لا في العبادة الجماعية فحسب وإنما أيضًا في حياته يستحق امتياز السكنى في بيت الله[300].

إذن للسؤال وزنه الخاص، يُطرح في لحظة رهيبة. وقد جاءت الإجابة من الجانب الإيجابي في العددين 2، 4؛ ومن الجانب السلبي في العددين 3، 5.

2. سِمات ضيف الله:

إذ يصدر السؤال عن قلب يشتاق أن يرحل إلى بيت الله ويستقر فيه لينعم بالشركة مع الله ويتمتع بالأحضان الأبوية، فإنه لا يستطيع أحد أن يقدم الإجابة غير روح الله القدوس الذي أعلن عن سمات ضيف الله أو الراغب في التمتع بالحضرة الإلهية أبديًا.

جاءت الإجابة بسيطة للغاية لكنها مستحيلة تمامًا على الطبيعة البشرية الفاسدة، وكأن المزمور يعلن بطريق غير مباشر أن التمتع بالشركة الألهية يحتاج إلى تدخل إلهي حتى نلبس بر المسيح فنجلس في وليمته، وننعم بثوب العروس فنوجد في حجال الملك السماوي... نحتاج إلى نعمة الله الغنية المجانية التي توهب بالإيمان لمن يجاهد قانونيًا...

1. بلا لوم: جاءت الإجابة في البداية عامة [2]، ثم صارت أكثر تخصيصًا [2-5] والكلمة المقابلة لـ "بلا لوم" هي الجانب السلبي للفظ العبراني "تاميم tamim"، التي تنطبق على ما هو كل، كل القلب، وسلامته. فمن يخدم الله ينبغي عليه أن يسلك بإخلاص، حافظًا نفسه بلا دنس في العالم.

الكلمة المقابلة لـ "بلا لوم" تُستخدم في العهد القديم بخصوص الحملان التي تقدم كذبائح، والتي كانت رمزًا لحمل الله الذي بلا عيب. هكذا إن أردنا أن نكون عابدين مقبولين لدى الله يلزمنا أن نتحد مع السيد المسيح، ونتشبه به، نكون أناسًا كاملين، بلا أخطاء، مستقيمين إلخ... نُقدم حياتنا المستقيمة كذبيحة يومية.

v   "السالك بلا عيب ويعمل العدل"؛ وذلك كما جاء في المزمور 118 "طوباهم الذين بلا عيب في الطريق" (مز 119: 1)... هنا في مزمورنا يقول "السالك بلا عيب" فالسالك يكون "في الطريق". لتفهم ما يُوصي به؛ فإن الروح القدس لم يقل "من بلغ النهاية بلا خطية"، وإنما يقول عن الذي لا يزال في الطريق بلا دنس[301].

القديس جيروم

هنا يوضح القديس جيروم أنه وإن كانت الحياة غير الملومة لازمة وضرورية، لكن الحاجة لا أن نكون قد بلغنا نهاية هذا الطريق إنما أن نسلك مجاهدين بروح الرب. بمعنى آخر قد نسقط لكننا في استحقاقات الدم نغتسل وبالروح القدس ننال المغفرة وبتناولنا من الأسرار الإلهية نثبت في برّ المسيح، وهكذا ننطلق في الطريق يومًا فيومًا بلا يأس. لكنك في الطريق، أي في السيد المسيح، ولنسلك بروحه عاملين بره... وإن ضعفنا نصرخ إليه فيقدسنا من جديد!

2. الجانب الإيجابي في الحياة التقوية: يقول القديس جيروم: [ربما يقول قائل: "إنني بلا خطية، لا أصنع شرًا". لا يكفي أن نمتنع عن الشر ما لم تصنع أيضًا الخير].

v   "السالك بلا عيب ويعمل العدل" [2]... العدل لا يعرف أخًا، ولا أبًا، ولا أمًا؛ إنما يعرف الحق ولا يحابي الوجوه؛ إنه يتمثل بالله... من لا يطمع فيما هو للآخرين، ولا يشعر بلذة في متاعب الغير، فهو عادل[302].

القديس جيروم

3. "ويتكلم الحق في قلبه" [2]. هناك ثمة اتفاق وانسجام بين اللسان (يتكلم) والقلب، فيكون الحديث أشبه بتمثيل صادق لما هو في داخل القلب من مشاعر خفية.

كلمة "الحق" هنا تعني ما هو أكيد وموثوق بها، وليس مجرد الشيء الصحيح. السيد المسيح هو الحق؛ والتكلم بالحق يعني الشهادة للسيد المسيح الساكن في قلوبنا، لا بالكلمات المجردة وإنما أيضًا بالأفكار والمشاعر والنيات والأعمال والسلوك. يقول القديس أغسطينوس: [لا يكفي أن تنطق بالحق ما لم يكن الحق ساكنًا أيضًا في قلبك].

جاء الحديث عن التكلم بالحق بعد الحديث عن الحياة التي بلا عيب والسلوك بالعدل، لأن السلوك الشرير غالبًا ما يُسقطنا في الكلام بالكذب كتغطية للشر. هذا ما حدث مع جيحزي الذي جرى وراء نعمان السرياني يطلب فضة وثيابًا وعندما سأله إليشع النبي أنكر (2 مل 5: 25) ولم ينطق بالحق. حقًا "إن من يسلك بالأستقامة يسلك بالأمان" (أم 10: 9).

4. يحب قريبه: يوضح لنا المزمور على أعلى مستوى العلاقة الوثيقة بين الأيمان بالله وعمل الرحمة أو الحب بالنسبة للقريب. فالمؤمن الحقيقي لا يصنع شرًا بقريبه، ولا يعطيه قرضًا بالرّبا ولا يشي به، وإنما يكرم خائفي الرب. لا يقدم المرتل هنا وصفًا كاملاً عن الخطايا التي يمكن أن تُقترف ضد القريب، إنما يوسع من نطاق ما ورد في (أم 10: 12) "البغضة تهيج خصومات، والمحبة تستر كل الذنوب".

يقول القديس أغسطينوس: [لفظ "قريب" يلزم أن يضم كل كائن بشر]. ويقول القديس جيروم: [كل البشر هم أقرباؤنا... كلنا أقرباء... كل البشر نحو كل البشر، إذ لنا جميعًا أب واحد].

"الذي لم يغش بلسانه،

ولم يصنع بقريبه سوءًا،

ولم يقبل عارًا على جيرانه" [3].

يليق بالعابد الحقيقي لله ألا يكون سليط اللسان ولا يستخدمه في الوشاية. قال وثني: [الواشي أكثر الوحوش المفترسة رعبًا! [303]].

المؤمن الحقيقي يعرف أن سمعة الإنسان أثمن من كل كنوز العالم (أم 22: 1) يدرك أنه ليس من ضرر أشر من تجريح سمعة إنسان.

5. احتقاره الأقوياء الأشرار وتكريمه خائفي الرب:

"فاعل الشر مرذول أمامه،

ويمجد الذين يتقون الرب" [4].

من يتقي الله أو يخافه يمجد الله، فيمجده الله، ويطلب من الأخرين أيضًا أن يمجدوه! هذا ما يدفع كنيسة الله أن تكرم أو تمجد قديسي الرب، إذ هي تمجد نعمة الله العاملة فيهم، وتركز على الله المخلص الساكن فيهم.

v   مخافة الرب تفوق كل شيء؛ خف الرب واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله[304].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   حتى إن كان إمبراطورًا أو حاكمًا أو أسقفًا أو كاهنًا، أيًا كان الإنسان، فأنه إن كان فاعل شر يكون كلا شيء في عيني القديس... أما إذا رأى إنسانًا يتقي الله فهو يكرّمه حتى وإن كان فقيرًا يستجدى[305].

القديس جيروم

6. يفي بكل وعوده للناس، مثبتًا إخلاصه لهم.

"الذي يحلف لقريبه ولا يغدر به" [4].

المؤمنون في العهد الجديد مطالبون ألا يحلفوا البتة، إنما تحسب كلمتهم كأنها عهد أو قسم إذ يسلكون بروح الحق، حاملين مسيحهم في داخلهم. يقولون الكلمة ويحققونها في الرب دون غدر أو خداع من جانبهم.

7. لا يعطي أمواله بالربا ولا يرتشي على الأبرياء [5].

كان الربا ولا يزال أمرًا مكروهًا لدى الله والناس، وفكرة الربا هنا تعني أن يقرض غنى إنسانًا فقيرًا لعوز شديد أو لوقوعه في مأزق، مستغلاً ضيقته ليفرض عليه أرباحًا باهظة. لذا قيل "إن أقرضت فضةً لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي؛ لا تضعوا عليه ربا" (خر 22: 52)؛ "إذا افتقر أخوك وقصرت يده عنك فأعضده غريبًا أو مستوطنًا، فيعيش معك؛ لا تأخذ منه ربا، ولا مرابحة، بل إخشَ إلهك فيعيش أخوك معك" (لا 25: 35-36).

هذا الفكر يختلف تمامًا عن الأقراض لهيئات تجارية أو صناعية لا لفقرها أو عوزها إنما للعمل والربح... هنا شركة عمل لا إقراض عند عوز.

يرى بعض الأباء أن استخدام كلمات الله لا ككنز داخلي تنعم به النفس في عشرتها مع الله وتقديس القلب ومساندة الإنسان في أفكاره وكلماته وتصرفاته إنما للمباهاه بها في رياء أمام الغير إنما هو إقراض للمال بالربا، إذ يجتني المجد الباطل ومديح الناس كربا مؤقت.

v   "لا يعطي ماله بالربا"؛ فإن من يحتقر كلمات الله حبًا في مديح الناس، وقد قيل "كلام الرب كلام نقي؛ فضة محمّاة مجربة قد صفيت سبعة أضعاف" (مز 12: 6)؛ هذا الإنسان يقدم ماله بالربا، ويستحق العقاب[306].

الأب نسطوريوس

v   لا تقرضوا أموالكم بالربا... فإن كان لمسيحي مال وجب عليه أن يعطيه (لمحتاج) ولا ينتظر إسترداده، أو على الأقل يسترد فقط ما أقرضه، بهذا التعامل يجمع ربًا ليس بقليل (أي ميراثًا أبديًا). إن سلك بغير هذا يغش ولا يعين، فإنه أي شيء أقسى من أن تقدم مالك إلى من هو مُعدم لتسترده مضاعفًا؟ إن كان المقترض عاجزًا أن يسدد ما أعطيته فكيف يقدر أن يرده مضاعفًا؟[307].

القديس أمبروسيوس

هكذا يليق بالراغب في سكنى بيت الله أبديًا ألا يقرض ماله بالربا ولا يأخذ رشوة على البريء، بل يمتلئ قلبه حبًا وحقًا، بهذا يتحقق ما ختم به المرتل المزمور: "الذي يصنع هذا لا يتزعزع إلى الأبد".

 

 

 


 

صلاة

v   لتفتح يارب أبواب بيتك أمام وجهي؛

ولتهيء قلبي مسكنًا لك؛

حتى أنعم بالسكنى في أحضانك أبديًا!

v   من يقدر أن يسكن في بيتك المقدس؟!

هبني ذاتك بِرًا وحقًا وحبًا فألبس ثوب العرس وأسكن معك!

v   كلمتك هي فضتي وكنزي، هب لي أن أقتنيها في داخلي،

ولا أقرضها بالمديح الباطل كرباَ ضائع!

<<

 

 

 


 

المزمور السادس عشر

الله كفايتي وفرحي

كان داود يتأمل في كمال الشبع الذي يجده في الله، وملء الفرح الذي يهبه الله وحده. في أغنية الثقة هذه، يحتمي المرتل في الهيكل معبرًا عن ثقته بالرب الذي يملك على أرض شعبه.

مما يثبت أن داود هو واضع هذا المزمور ما ورد في عنوانه؛ وما جاء على لسان القديس بطرس الرسول في يوم الخمسين بخصوص قيامة الرب إلهنا (أع 2: 25-31)؛ وأيضًا ما أعلنه القديس بولس في حديثه إلى أهل أنطاكية (أع 13: 35-37). وإن كان بعض الدارسين يرون أن واضع المزمور لاويٌ، لأنه يقول: "الرب هو نصيب ميراثي وكأسي" [5]. إذ لم يكن للاويين نصيب في الأرض، بل كان الرب هو ميراثهم، كان لداود النبي - كما لكل مؤمن حقيقي - ذات الشعور، أن لا نصيب له في الأرض ولا في العرش بل الرب نفسه هو نصيبه، يجد فيه شبعه. ويتحدث المرتل عن كل إنسان تقي له شركة مع الرب وله ولاؤه في حبه للرب، كما يتحدث عن أمانتنا مع الرب وأمانة الرب من جهتنا، معلنًا أن رؤية الرب وحضرته هما سرّ فرحنا.

أقسامه:

1. العبد الأمين              [1-6].

2. الرب الأمين              [7-11].

عنوان المزمور:

هذا هو أول مزمور من مزامير الميختام Michtam (Miktam) الستة (16، 56-60]. أما معنى "ميختام" فغير مؤكد[308]:

* يعتقد البعض أنها تشير إلى النغمة التي يُنشد بها المزمور.

* يرى آخرون أنها مشتقة من لفظ يعني "يقطع" أو "يحفر"، بمعنى أن المزمور يُحفر أو يُنقش على أحد الأعمدة القيّمة والوطيدة. أما العنوان حسب الترجمة السبعينية فهو "مذهَّبة منقوشة على عامود".

* يرى البعض أنها تعني "سرًّا"، أغنية ذات مغزى عميق، وربما تنبئ عن عمق المغزى العقيدي والروحي في تكوينه المقدس.

* يرى كثيرون أن كلمة "ميختام" منشقة من كلمة معناها "ذهب"، مما يدل على أن المزمور هو "مذهَّبة"، وقد تُرجمت "الجوهرة الذهبية"، لأن المزمور يعلن عن مسيحنا القائم باعتباره العبد المطيع الذي فيه ننال الحياة المجيدة المقامة، ونقبل الأب نصيبنا وقسمتنا.

* يرى البعض أن الكلمة هنا هي لفظ "ميختاب" الموجودة في (إش 38: 9)، وفي العديد من نصوص الكتاب المقدس، ومن ثم فهي تعني "كتابة".

مزمور مسياني:

كتب على الأقل جزء من المزمور عن المسيّا القادم (أع 2: 25-28؛ 13: 35-37)، ومن ثم يُصنف المزمور بأنه مزمور مسياني.

يقول Gaebelein: [المزمور السادس عشر هو المزمور المسياني الخاص الثالث. يعلن المزمور الثاني عن بنوته، والمزمور الثامن أنه ابن الإنسان، أما في هذا المزمور فيمكن أن نتتبعه بكونه العبد المطيع على الأرض الذي سلك باتكال على الله (الأب) وثق فيه تمامًا في الحياة والموت، موت الصليب. لقد عبر (السيد) عن القيامة بجانب ما وراءها من بركات من تمتع بحضرة إلهه وجلوسه عن يمينه... كتب داود هذا المزمور كنبي... ومن ثم لنا في هذه "الجوهرة الذهبية" صوت الرب إلهنا في عمق اتضاعه[309]].

ربنا يسوع المسيح كنائب وممثل لنا، آدم الثاني، هو العبد المطيع الذي أصلح طبيعتنا التي فسدت بعصيان أبينا آدم الأول. وقد قبل مسيحنا الأب كنصيب ميراثه وكأسه، لا يطلب معه شيئًا. في طاعته دخل إلى براثن الموت، وهو القدوس وحده الذي لم يعرف الخطية، لهذا لم يرَ فسادًا في موته.

قيامة المسيح:

"لأنك لا تترك نفسي في الجحيم،

ولا تدع صفيَّك أن يرى فسادًا" [10].

يرى آباء الكنيسة أن ربنا يسوع المسيح الذي صار العبد الصالح يسأل الآب من أجل قيامته[310].

بقيامة السيد المسيح الذي لم يمسه فسادًا، صار لنا رجاء القيامة المجيدة (1 كو 15: 1-4؛ 20-23).

v   إذ لم يخضع في موته وآلامه إلى الناموس البشري (أي تألم ومات بسبب الخطية)، بل بإرادته الحرة كتب عنه وحده هكذا؛ إذ مات حسب الجسد ولم يمت حسب الروح، لأن نفسه لم تُترك في الجحيم، "ولم يرَ جسده فسادًا"، كما يقول بنفسه: "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها من ذاتي... لي سلطان أن آخذها" (يو 10: 18)[311].

القديس يوحنا كاسيان

v   لم تكن للنار سلطان على ثياب حنانيا وأخويه، ولا على أجساد الأبرار؛ وسوف لا تكون في النهاية للنار سلطان على الذين آمنوا بيسوع[312].

الأب أفراهات

v   بدى كأن الجسد قابل للفساد، لكنه لم يبق هكذا بطبيعته فإنه إذ لبسه الكلمة بقى بلا فساد. فإنه إذ جاء في جسدنا وتشبه بحالنا، لذا نحن نقبله ونشترك في الخلود الصادر عنه[313].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   تقدم ليتحدث معهم في ثقة عن الأب داود، أنه كان نبيًا، وعرف أن الله أقسم له بأنه من ثمرة صلبه يأتي من يجلس على كرسيه. وإذ يتنبأ بهذا يتحدث عن قيامة المسيح، أنه لا يُترك في الجحيم، ولن يرى جسده فسادًا[314].

القديس إيريناؤس

1. بركات الله:

يحفظ الله مؤمنيه من خلال حبه لهم:

"احفظني يا رب فإني عليك توكلت" [1].

يستهل العابد صلاته بتوسل أن يحفظه الله ويهتم به. وتناسب هذه الصلاة داود النبي والسيد المسيح؛ فإن كان داود قد غلب جليات الجبار، وخرجت النساء للقاء شاول بالغناء: "ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، إلا أن حياة داود كانت دائمًا مهددة بالخطر من شاول ورجاله... ولم يكن له من يحفظ حياته إلا الله وحده. إنه كراعٍ يعرف كيف يحتضن الخروف الضعيف ويحوط حوله بذراعيه، حاملاً إياه على منكبيه... وها هو يجد رعاية أعظم من راعي الخراف الناطقة. أما عن السيد المسيح، ففي أثناء تجسده قدم صلوات وتوسلات بصراخ عظيم ودموع، إلى ذاك القادر أن يخلصه من الموت (عب 5: 7). وقد جاء في سفر إشعياء وعد الآب للسيد المسيح أن يحفظه: "هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك، فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب" (49: 8). وقد تحقق ذلك كما يظهر في صلاة السيد المسيح الوداعية بكونه شفيعنا ورئيس الكهنة السماوي، الذي فيه نصير محفوظين، إذ يقول: "أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك، الذين أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما نحن" (يو 17).

من أجلنا دخل مسيحنا إلى الضيق ليصرخ كممثل لنا طالبًا من الأب أن يحفظه، وإذ سُمع له من أجل بره الإلهي  صرنا نحن - كأعضاء جسده محفوظين.

يرى بعض الدارسين أن المرتل لم يضع هذا المزمور لمواجهة نكبة معينة أو ضيقة ما يريد الخلاص منها، إنما هو ثمرة اختبار تَقوى خلاله يدرك المرتل وكل عابد تقي أن حمايته هي في الله؛ يختبرها المؤمن على أساس التمتع بالحضرة الإلهية في الهيكل[315].

"قلت للرب أنت ربي،

ولا تحتاج إلى خيراتي" [2].

إذ تلتقي النفس بالله مصدر حمايتها تدخل كما في عهد فتقول له "أنت ربي"، وتعلن ثقتها فيه بكونه ربها، وأنها ليست ملكًا لذاتها ولا سيدة نفسها، بل سلمت حياتها له بكونه ربها وقائد حياتها.

إذ نثق به، يحفظنا فيه كملجأ لنا، ويتعامل معنا بكوننا خاصته وهو خاص بنا (ربي). هو ليس في حاجة إلى صلاحنا. إذ لا نقدم لله القدير شيئاً ما ننفعه به (أي 22: 2-3؛ 35: 7-8؛ لو 17: 10)، لا يمكن أن نقدم له أية عطية، لا نعطيه إلا مما هو له (1 أي 29: 14). إنه يطلب قلوبنا وحبنا بكوننا أولاده، من خلال هذا الحب يكشف عن ضعفنا، لا ليُديننا بل ليُصلح طبيعتنا.

حتى بالنسبة للسيد المسيح كممثل لنا فإنه لم يتجسد ولا مات ليعلن عن عطفه نحو الآب إنما نحو الخطاة، كاشفًا عن حب الآب وابنه لهم. ما قدمه من خير إنما لحساب الخاطئ لا لحساب الآب الذي نخطئ في حقه، إذ يقول: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 13: 6).

v   لا يحتاج (الله) إلى صلاحنا، بل نحن نحتاج إلى صلاحه، وكما يقول النبي: "لا تحتاج إلى خيراتي"[316].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v   كما يقول المرتل "لا تحتاج إلى خيراتي"؛ قل لي: ما هو نفع الله أن أكون بارًا (عادلاً)؟!، وماذا يضيره أن أكون شريرًا؟! أليست طبيعته غير قابلة للفساد؟ لا يصيبها ضررًا وفوق أي الأم؟ ليس لدى العبيد مهما كانوا أغنياء شيء ما من عندياتهم، بل ما لديهم هو من سادتهم[317]...

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المتحدث هنا في هذا المزمور هو السيد المسيح، إذ يقول: [مكتوب أن الرب قال للرب "أنت ربي"... هنا يشير إلى الأقانيم من ذات الجوهر... فأننا لا نفهم وجود جوهرين مختلفين عن بعضهما البعضن بل أقانيم، كلها من ذات الطبيعة[318]].

2. يكشف الله أسراره لقديسيه:

"أظهر عجائبه لقديسيه الذين في أرضه،

وصنع فيهم كل مشيئاته" [3]

تستمد كلمة "قديسيه" معناها من أصلها، من مفهوم الشعب المقدس الذي أفرزه الله له أو عزله له، دعاه ليُعلن قداسة الله ومجده للعالم من خلال معاملات الله معهم وشهادتهم له[319].

يقول العلامة أوريجانوس: [إن المؤمنين الذين يسعون في طلب القداسة يُدعون "قديسين"، بسبب تَقدمهم في حياة القداسة وإن لم يدركوها تمامًا في كمالها. إنهم يتمتعون بالحياة المقدسة خلال الشركة مع السيد المسيح القدوس، يغتسلون بدمه من خطاياهم وضعفاتهم، ويتسربلون ببره وقداسته بعمل روحه القدوس فيهم].

هؤلاء القديسون يعيشون في "أرضه"؛ إنهم يسلكون في ذات العالم الذي فيه يعيش الأشرار وعلى ذات الأرض، لكن القديسين يرون في هذا العالم وهذه المسكونة بصمات الله صانع المستحيلات لأجلهم، فيدركون أنهم إنما في أرض إلههم، كمن هم في بيت أبيهم المصون. بهذا يرون أنفسهم في كنيسته المقدسة "أرض المخلص"، فتستريح نفوسهم حتى ترتفع إلى سماواته لتراه وجهاً لوجه.

حقًا ما أحوجنا أن ندرك أننا تحت مظلة مخلصنا الذي يقدس عالمنا بالرغم مما يصنعه الأشرار، وننعم بالسكنى في أرض الله أو كنيسته!

يعلن الرب "عجائبه" في حياتنا، فيحوّل حتى شر الأشرار إلى نفعنا، يخرج من الآكل أُكلاً، ومن الجافي حلاوة... عندئذ ونحن في أرضه ليس فقط نتعرف على مشيئته بل يعمل هو كل مشيئته فينا، إذ يقول المرتل: "صنع فيهم كل مشيئته"، محققًا كل خطته الخلاصية فينا لننعم بشركة أمجاده.

ما هي عجائب كل مشيئته في قديسيه إلا عمله الخلاصي، خاصة قيامته وصعوده ومجيئه الأخير، أمور تُستعلن لقديسيه. أنهم أحباؤه الأخصاء الذين يمنحهم ذاته لينعموا بحياته المقامة كحياة جديدة، فتنسجم مشيئتهم المقدسة مع مشيئته... يشتهون الصعود معه والتمتع بمجد يوم الرب العظيم.

من هم هؤلاء القديسون الذين في أرض الرب؟

v   القديسون الذين بسرور يضعون رجاءهم في أرض الأحياء؛ هم مواطنو أورشليم السماوية، الذين تتثبت سيرتهم الروحية بمرساة الرجاء في تلك المدينة التي تُدعى بحق أرض الله، مع أنهم لا يزالون يسلكون على هذه الأرض وهم في الجسد. هؤلاء القديسون هم تلاميذ المسيح والمريمات وآخرون تمتعوا بظهورات المسيح القائم من الأموات. كان الصلب عامّاً، فقد عاين اليهود والأمم المسيح المصلوب، لذلك هم بلا عذر. أما القيامة فتُمنح كهبة إلهية لمن يسعى إلى طلب الحياة الأبدية، ويصبح المسيح القائم نصيبًا لهم وميراثًا. "الرب هو نصيب ميراثي وكأسي" [5].

القديس أغسطينوس

هكذا يكشف المخلص الرب أسرار قيامته في قلوب قديسيه ليتمتعوا به نصيبًا وميراثًا، يشبع نفوسهم بالمجد الأبدي، مقدسًا حتى الأرض التي يسيرون عليها لتُحسب أرضه... وكأنه يهب قديسيه قيامته كحياة مقامة لهم ويأخذ أرضهم (أجسادهم) لينسبها له؛ بمعنى آخر يدخل ربنا مع قديسيه في حب مشترك خلاله يصير ما لنا له وما له لنا، بل نصير نحن أنفسنا له، وهو لنا. أما عن الأشرار فقيل:

"كثرت أمراضهم،

ومن بعد هذا أسرعوا" [3].

يسمح لهم بالأوجاع والأمراض لعلهم بأمراضهم الجسدية يدركوا مرضهم الداخلي، فيلجأوا مسرعين إلى المخلص، طبيب الأجساد والنفوس القدوس.

v   "كثرت أمراضهم"، لا لكي تُبيدهم بل لكي يصرخوا طالبين الطبيب!

القديس أغسطينوس

أجاب الرب قائلاً: "أقول لك حتى سبعين مرة سبع مرات"، فإنه حتى الآنبياء بعد مسحهم بالروح القدس أخطأوا بكلمات... كتب القديس أغناطيوس الرسولي والشهيد في جسارة: [اختار الرب رسلاً كانوا خطاة أكثر من الكل]. وبسبب سرعة تحولهم يتغنى المرتل قائلاً: "كثرت أمراضهم، ومن بعد هذا أسرعوا"[320].

القديس جيروم

يسمح للأشرار بالضيق لعلهم يبحثون بالتوبة عن الله كطبيب ومخلص، ويسمح لقديسيه بها لتزكيتهم ونموهم ومجدهم.

يرى القديس كيرلس الكبير أن هذه النبوة قد تحققت إذ قبلت الأمم الإيمان بالسيد المسيح كشافي لجراحاتها.

v   كثيرة كانت ضعفاتهم، لكنهم أسرعوا بعد ذلك [4]. بالحقيقة كانت معاصيهم كثيرة التي يُتهمون بها، هذه التي دعاها بلطف "ضعفات"؛ فإنهم كانوا تائهين في الخطأ، مذنبين بجرائم شنيعة، ليس في طريق واحدة بل بطرق كثيرة، لكنهم أسرعوا إلى الإيمان، أي لم يتباطؤا في قبول وصايا المسيح، بل باستعدادٍ اعتنقوا الإيمان. لهذا اقتنصتهم شبكة المسيح، وهو يعلمكم قائلاً بلسان أحد الآنبياء القديسين: "لذلك فانتظروني يقول الرب إلى يوم أقوم إلى السلب، لأن حكمي هو يجمع الأمم" (صف 3: 8)[321].

القديس كيرلس الكبير

إن كان الله يعلن أسراره لقديسيه، وفي نفس الوقت يطلب عودة الأشرار إليه كطبيب يشفي جراحات نفوسهم، فإن القديسين من جانبهم يتحاشوا شركة الأشرار في شرهم، خاصة في عبادتهم...

"لا أجمع مجامعهم من الدماء،

ولا أذكر أسماءهم بشفتيَّ" [4].

كان من عادة الوثنيين أن يشربوا كأسًا من الدم كتقدمة وكنوع من العبادة. وربما قصد بالدم هنا تقديم دم الضحايا البشرية كجزء من الطقوس الوثنية. أما ذكر أسمائهم فربما قصد به أسماء الآلهة، إذ قيل: "لا تذكروا إسم آلهة أخرى ولا يُسمع من فمك" (خر 23: 13)؛ "تقطعون تماثيل آلهتهم وتمحون إسمهم من ذلك المكان" (تث 12: 3). "وانزع اسماء البعليم من فمها فلا تذكر أيضًا باسمائها" (هو 2: 17). كأن الله أراد لشعبه أن يتقدس تمامًا فلا يدنس فمه بمجرد ذكر اسماء الآلهة الوثنية.

تحت ضغط الظروف اضطر داود النبي أن يهرب إلى جت حيث أقام هناك (1 صم 27: 3)، كما ذهب مرة أخرى إلى أرض موآب (1 صم 22: 3-4). وقد استغل أعداؤه ذلك ليتهموه بأنه اشترك مع الوثنيين في حياتهم واجتماعاتهم وعباداتهم، وأنه تدنس بنجاساتهم، لذا يبرر المرتل نفسه من هذا الاتهام، فإنه وإن التجأ إليهم، لكنه لم يشاركهم في اجتماعاتهم الدموية ولا دنَّس شفتيه بذكر أسماء آلهتهم. يرى البعض أنه ربما عرض هؤلاء الوثنيون على داود أن يشاركهم عبادتهم، كما يظهر من حديثه مع شاول عندما ألتقى به في برية زيف: "والآن فليسمع سيدي الملك كلام عبده، فإن كان الرب قد أهاجك ضدي فليشتَم تقدمةً، وإن كان بنو الناس فليكونوا ملعونين أمام الرب، لأنهم قد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب الرب، قائلين: "اذهب أُعبد آلهة أخرى" (1 صم 26: 9).

3. يمنحنا الله ذاته كأسًا لنا ويكون نصيبنا:

"الرب هو نصيب ميراثي وكأسي.

أنت الذي ترد إليّ ميراثي" [5].

لغة هذا العدد وما يليه مستمدة بلا شك من تقسيم الأرض في كنعان، إذ كان كل شخص ينال نصيبه من الميراث بالقرعة، وتوضع خطوط لتحديد الموضع؛ هكذا بالقرعة تم تقسيم الأرض وتوزيعها أما الكهنة واللاويون فلم يُعط لهم نصيب، إذ كان الله نفسه هو نصيبهم وميراث قسمتهم. لهذا يقول داود - الذي من سبط يهوذا لكنه لم ينشغل بالميراث الأرضي - أن الله هو نصيبه، وأكد ذلك في مواضع أخرى (مز 119: 26) كما أكد آساف نفس الأمر (مز 73: 26)[322].

هذه هي غبطة التمتع بالشركة مع الله؛ ربما الكأس هنا هي كأس عيد الله التي كانت تمر على الحاضرين في وليمة تعبدية للاشتراك في العيد، وهي رمز وعربون نعمة الله الخلاصية[323].

ظن إبليس أنه قادر أن يطغى ابن الإنسان بوعده أن يعطيه كل ممالك العالم إن سجد له (مت 4: 8-9)؛ وقد رفض ابن الإنسان ذلك لأنه ما جاء ليملك على الأرض بل على القلوب، مفضلاً أن يكون الآب نصيبه وميراثه وكأسه... إذ قال "لتكن إرادتك لا إرادتي"، مع أنه واحد معه في ذات الأرادة الإلهية. رفض أن يتسلم الكأس من يد العدو ليشرب كأس الصليب، مطيعًا حتى الموت موت الصليب، بكونه كأس الطاعة للآب وكأس الحب للبشرية!

v   ليختْر آخرون أنصبة لأنفسهم، أنصبة أرضية زائلة، ليتمتعوا بها. أما نصيب القديسين فهو الرب، نصيب أبدي.

ليشرب آخرون من المسرات المميته، أما نصيب قسمتي وكأسي فهو الرب.

"حبال المساحة وقعت لي من الأماكن المجيدة (الأعزاء)". وقعت حبال تقسيم حدود نصيبي في مجدك كما بقرعةٍ، هكذا كما كان الله هو مِلكْ الكهنة واللاويين ونصيبهم (عد 18: 20).

القديس أسطينوس

v   أطع أمر الرب "اتبعني"؛ وخذ رب العالم مِلكًا ونصيبًا لك، لكي تُسبّح مع النبي: "الرب نصيبي"، وكلاويٍّ حقيقي لا تملك ميراثًا أرضيًا[324].

القديس جيروم

v   الآن، من كان بشخصه هو نصيب الرب أو يكون الرب نفسه نصيبًا له، ينبغي عليه أن يسلك كمن صار في ملكية الرب ومن مَلَك الرب. فإن من يملك الرب يقول مع المرتل: "الرب نصيبي". لا يملك مع الرب شيئًا؛ فإنه إن امتلك شيئًا معه لا يكون الرب نصيبه[325].

القديس جيروم

v   تحوي الكأس كل الخمور القوية، وهي أيضًا "سرّ" فيه يعلن المسيح ذاته[326].

القديس مارافرام السرياني

v   حين نحصل على لقب "لاوي"، الذي يعني "هو ذاته مِلكي" أو "هو لي"، حينئذ تعظم كرامتنا، إذ يقول الله للإنسان: "أنت لي"، أو كما قيل لبطرس عن الأستار الذي وجده في فم السمكة: "اعطهم عني وعنك" (مت 17: 27) [327].

القديس امبروسيوس

"حبال المساحة وقعت لي في الأماكن الفضلى (من الأعزاء)،

وإن ميراثي لثابت لي" [6].

يبدو أن داود كان فرحًا جدًا بنصيبه في أرض الميعاد التي هي عربون كنعان السماوية. حتى مياه مدينته بدت له أفضل من أية مياه في مواضع أخرى (2 صم 23: 15؛ 1 أي 11: 17). المؤمنون الحقيقيون الذين يختبرون عطية الخلاص يشعرون بفرح شديد الآن لما تمتعوا به من قِبل الله. وأيضًا من أجل ما ينتظرونه في الدهر الأتي. بالإيمان يعاينون هنا السيد المسيح حالّ في قلوبهم مشبع للكنيسة، وهناك يرونه وجهًا لوجه. ميراثنا الأبدي يفرح قلوبنا أثناء جهادنا في هذا العالم، اذ ننعم بالعربون داخلنا كمجد داخلي لابنة الملك.

ميراثنا ثابت لنا [6]، لا يستطيع أن يسبحه، إذ هو "ميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السموات لأجلهم" (1 بط 1: 4).

4. يهبنا الله حكمة وفهمًا:

"أبارك الرب الذي أفهمني،

وأيضًا إلى الليل أدَّبتني كليتاي" [7].

كثيرًا ما كان البابا كيرلس السادس يردد هذه العبارة، ويكتبها لابنائه الأحباء... فإن الحكمة أو الفهم أثمن ما يقدمه الله للإنسان، بكوَّنْ كلمة الله نفسه هو "الحكمة". فلا نعجب إن شهد الإنجيل عن السيد المسيح أنه تهلل بالروح مسبحًا الآب من أجل تمتع الكنيسة البسيطة بالفهم الروحي، إذ قيل: "تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب، رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال؛ نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك" (لو 10: 21). يتهلل كلمة الله لتمتع الكنيسة بالفهم السماوي المخفي عمَّن ظنوا أنفسهم حكماء وفهماء، ويُسر الآب بكنيسته الحكيمة بالروح والحق.

سبق لنا الحديث في أكثر من موضع أن مدرسة الإسكندرية حسبت المعرفة "الغنوسية gnosis" الروحية هبة إلهية توهب للمؤمنين خلال حياة التأمل والممارسة العملية للوصية والسلوك بالروح الكنسي أو الحياة الصالحة في الرب[328].

كان القديس أكليمندس الإسكندري يدعو المسيحي الروحي "غنوسيًا". ويقول: [إن الغنوسية - التي هي المعرفة وإدراك الأمور الحاضرة والمستقبلة والماضية كأمور أكيدة وموثوق فيها - يمنحها ابن الله الذي هو "الحكمة" ويعلنها[329]. كما أوضح أن السيد المسيح يهب الغنوسية خلال قراءة الكتاب المقدس[330] بروح كنسي حتى لا نسيء فهمها كالهراطقة. بهذا نحمل الكمال بسلوكنا الإنجيلي الكامل، كما يؤكد أن المعمودية تجعل الغنوسية ممكنة بالنسبة لنا، باستنارة عيوننا الداخلية[331].

إذ ترتبط المعرفة الحقة بالعمل الروحي، خاصة التوبة، يقول المرتل: "وأيضًا إلى الليل أدَّبتني كليتاي"... غالبًا ما تتم التوبة بالليل حيث السكون، فيرجع الإنسان إلى نفسه ويكتشف خطاياه، متكئًا على رب المجد كمخلص الخطاة. كما تنقي الكلية الدم هكذا تنقي التوبة المستمرة النفس لتؤهل للميراث الأبدي الذي بلا دنس. ولعل الليل يشير إلى ظلمة الخطية، فإننا بالتوبة نشعر بمرارة ظلمتنا، متطلعين برجاء إلى شمس البر الذي يشرق في أعماقنا ببهائه.

غالبًا ما ينكشف الإنسان في أعماقه أثناء هدوء الليل، فالأشرار يجدون في الليل مجإلا للهو وممارسة الشر وتدبير مؤامرات، والقديسون يجدون في الليل مجالاً للصلاة والتأمل وانطلاقة النفس بالحب نحو السماويات.

v   حينما علَّق (أوريجانوس) على كلمات المرتل: "وأيضًا إلى الليل أدَّبتني كليتاي" قال: [إذا ما بلغ إنسان قديس مثلك حد الكمال يتحرر من الضعفات البشرية حتى في الليل ولا يجربه فكر شرير[332]...

القديس جيروم

يحدثنا القديس أكليمندس الإسكندري عن ارتباط المعرفة الروحية الحقة بالتوبة والجهاد، قائلاً: [الغنوسي إنسان تقي يهتم أولاً بنفسه (بخلاصها)، وبعد ذلك بقريبه حتى يكون الكل صالحًا جدًا. فإن الابن يفرح أباه الصالح بظهوره صالحًا على شبه أبيه... في مقدورنا أن نؤمن وأن نطيع[333]]. فالمعرفة لا تكون بالذهن فقط وإنما بخبرة الحياة التي نعيشها لنتشبه بالله أبينا. يقول القديس أكليمندس: [الغنوسي كمحب للحق الواحد الحقيقي يكون إنسانًا كاملاً، صديقًا لله، ويُحسب ابنا[334]].

5. يمنحنا الله رؤيته الدائمة:

"تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين،

لأنه عن يميني كي لا أتزعزع" [8]

إن كان الله يهب مؤمنيه المعرفة ليتمتعوا بحبه ويسلكوا حسب مشيئته، فإن غاية هذه المعرفة العملية أن نراه هنا بالإيمان كعربون لرؤيته في الدهر الأتي بالعيان. نراه هنا في كل شيء، نهارًا وليلاً، ونحن سائرين وأيضًا ونحن جالسين، نراه في كل ما نصنعه وفي كل ما نحتمله من آلام.

رؤية الله أمامنا علامة قيادته لنا وإرشادنا كما كان يظهر كعمود نور في البرية يقود شعبه؛ ونراه عن يميننا أي سرّ قوتنا فلا نتزعزع.

v   يوجه المسيحي كل عمل - صغيرًا كان أم عظيمًا - حسب مشيئة الله، متممًا إياه بكل حرص ودقة، ويحفظ أفكاره مثبتة في (الله) الواحد الذي وهبه العمل لكي يتممه، بهذه الكيفية يتم القول: "تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني كي لا أتزعزع"[335].

القديس باسيليوس الكبير

تعبير "عن يمين" يشير إلى القوة، لهذا قيل عند صعود السيد المسيح أنه جلس على يمين الآب، أي يحمل قوة الآب، بكونه واحدًا معه، ولا يعني هذا أن للآب يمين ويسار بطريقة مادية مكانية.

v   إذن الجلوس عن اليمين لا يعني أن الآب عن يساره[336] ؛ لكن كل ما هو يمين في الآب وثمين فهو للابن القائل: "كل ما للآب هو لي" (يو 16: 15). من ثم إذ يجلس الابن عن اليمين يُرى الآب أيضًا عن اليمين، فإنه إذ صار (الابن) إنسانًا يقول: "رأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني كي لا أتزعزع". هذا أيضًا يكشف أن الابن في الآب، والآب في الابن، لأن الآب عن اليمين والابن أيضًا عن اليمين. وبينما يجلس الابن عن يمين الآب إذا بالآب في للابن[337].

البابا أثناسيوس الرسولي

6. يقف الله بجوارنا فلا نتزعزع [1]:

نحن واثقون في عونه، أيا كان الخطر أو كانت الضيقة، واثقون في مشورته وإرشاده لنتخذ قرارات سليمة.

7 . يهبنا التهليل في رجاء:

"من أجل هذا فرح قلبي،

وتهلل لساني؛

وأيضًا جسدي يسكن على الرجاء

لأنك لا تترك نفسي في الجحيم.

ولا تدع صفيَّك أن يرى فسادًا" [9-10].

الله كمصدر شبع للنفس البشرية يقدم لنا "التهليل" هبة من عنده لمن هم في شركة معه، فتمتلئ قلوبنا فرحًا وسعادة، إذ نشعر بالآمان ما دمنا بين ذراعي الله.

القلب في الداخل يفرح واللسان الخارجي يتهلل، وكأن كل كيان الإنسان       - الداخلي والخارجي - يتجاوب مع عمل نعمة الله بالفرح والتهليل.

الجسد والنفس يمجدان الله؛ مع أن الجسد يمارس الأصوام والنسك وما يبدو من حرمان وتعب، لكنه يسكن على رجاء القيامة... يدرك وسط الآلام أنه يعبر حتى القبر ليقوم جسدًا روحيًا؛ أما النفس فتدرك عُرسها الأبدي مع مخلصها الذي يهبها الخلود الدائم...

في مقدمة السفر رأينا كيف أشارت هذه العبارة إلى قيامة السيد المسيح.

ربما يقول قائل: ما دامت هذه العبارة هي نبوة عن حياة المخلص، فلماذا تتحدث عن الفرح؟ حقًا لقد إتسمت حياته على الأرض في معظمها بالدموع والأحزان، لكنه أيضًا تهلل بالروح من أجل ما تتمتع به الكنيسة من معرفة وفهم وحكمة فيه (لو 10: 21)؛ وفي وسط الآمه القاسية كان هناك إدراك سري بالخيرات القادمة خلال صليبه. فمن أجل هذا السرور الموضوع أمامه حسب كثرة الآلام كأنها لا شيء؛ لقد إستهان بالخزي (عب 12: 2). وعندما يفرح القلب - يتمتع بالمجد الداخلي - يتهلل لسانه[338].

8. يعرفنا طرق الحياة:

"قد عرفتني طرق الحياة،

تملأني فرحًا مع وجهك

البهجة في يمينك إلى الأنقضاء" [11]

ورد تعبير "طرق الحياة" مرة واحدة هنا في سفر المزامير، وتكرر ثلاث مرات في سفر الأمثال (2: 19؛ 5: 6؛ 15: 24)، وهو تعبير يقابل "الهاوية" Sheol و"الموت". لا يمكن فهمه إلا بأنه حياة معاشة في شركة مع الله، تستمر إلى ما بعد الموت[339].

إذ سبق فتحدث عن قيامة السيد المسيح في العدد السابق [10]، ها هو يعلن "طريق الحياة" أو "طريق المجد الأبدي" خلال الصعود، لنرى وجه الله فنمتلئ فرحًا، ونعيش مع السيد المسيح عن يمينه أبديًا. لقد صعد الرب وجلس عن يمين الآب، فاتحًا طريق السماء والمجد لكنيسته لترتفع معه كملكة وتراه وتجلس عن يمينه... بهذا تتحول أحزان الكنيسة الزمنية إلى علة مجد أبدي!

 


 

إلهي... أنت كفايتي وفرحي

v   ربي... أنت هو نصيبي وكأسي... سرّ شبعي وتهليل نفسي

امتلكتني بحبك الباذل، علمني كيف أقتنيك، ولا أطلب معك شيئًا!

v   هب لي أن أسرّ بشركة القديسين كما تُسر أنت بهم،

واسمح لي ألا أشارك الاشرار مشوراتهم أو كلماتهم أو تصرفاتهم!

v   أنت قائدي... أتكل عليك فتحفظني!

تكشف لي أسرارك وتتمم إرادتك فيّ!

تهبني عربون ميراثك، وتدخل بي إلى أمجادك الخفية!

هب لي حكمة أيها الحكمة الإلهي!

متعني برؤيتك الدائمة، ولتكن أنت قوتي ويميني!

اعلن حضورك الإلهي  في داخلي فلا أتزعزع!

عرفني قوة قيامتك واحملني إلى سمواتك كما في طريق الحياة الملوكي!

مشتاق أن أرى وجهك فأسبح متهللاً مع ملائكتك أبديًا!

<<

 


 

المزمور السابع عشر

التأديب يقود إلى رؤية الله

هذا المزمور هو مرثاة قدمها إنسان متهم ظلمًا فاحتمى بالهيكل ينتظر حكم الله في قضيته[340]. ربما صلى به داود حين ضايقه الأعداء؛ وقد سجله عندما كان في برية معون، حينما قام شاول ورجاله على مسيح الرب (1 صم 23: 25).

يقول C. Stuhlmueller: [نحتاج إلى المزمور 17 كاحتياجنا إلى آلامنا السرية ونحن أبرياء، لا لننطلق إلى ما وراء آفاق تلك الأرض فنبلغ الأبدية فحسب، وإنما لكي ندخل إلى قلب يسوع الذي أُتهم ظلماً (يو 8: 46)، البريء الذي "لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21). وحينما نتلو المزمور 17 نصلي أيضًا من أجل الأوقات التي فيها نحن قد اسأنا الحكم وظلمنا أبرياءً: نصلي من أجل كل ضحايا الظلم[341]].

يعتقد البعض أن هذا المزمور يماثل المزمور 16 حتى ليحسبوا المزمورين كتوأمين.

يكشف لنا هذا المزمور عما حلَّ بداود النبي، أنه كمن أُلقي في أتون نار ملتهب، لكنه عوض أن يهلك خرج منه ليس فقط دون أن يلحق به ضرر وإنما خرج ينعم بالاحتماء تحت ظل جناحي الرب، ويعاين بهاء وجهه الإلهي!

مزمور مسياني:

يرى البعض أن المزامير 16-24 تمثل مجموعة مسيانية متكاملة، كل مزمور منها يقدم نبوة واضحة عن السيد المسيح المخلص. ولعل أروع هذه النبوات ما ورد عن الصليب وآلام الرب المجيدة في المزمور 22.

يقول Gaebelein عن المزمور 17: [عند قراءة هذه الصلاة الثمينة يشعر الإنسان في الحال أنها تخص شفتي من هو أعظم من داود. بينما كتب هذه الصلاة بروح الله - كما كتب كل الصلوات الأخرى - بما فيها من صلوات اللعنات (ضد الأعداء)، فإن سمة هذه الطلبة الموجهة لله لا تخص داود... كلماتها أولاً وقبل كل شيء تنطبق على المسيح. هو الكامل والبار... هو الشفيع عن شعبه. إذ يتقدم بدعواهم يطلب ذلك خلال بره هو وكماله. والآب يسمع دائمًا لتشفعاته[342]].

طبَّق القديس جيروم كل ما ورد في هذا المزمور على السيد المسيح. وبعض الآباء الآخرين مثل القديس أغسطينوس حسبوا أن كل ما جاء في المزمور يخص السيد المسيح وشعبه. إذ يقول القديس أغسطينوس: [يجدر بنا أن ننسب هذا المزمور لشخص ربنا المتحد مع الكنيسة التي هي جسده].

العنوان:

"صلاة لداود". توجد أربعة مزامير أخرى تحمل ذات العنوان، وهي (مز 86، 90، 102، 142). وقد دُعيت صلوات لأنها مفعمة بالتوسلات، فهي من خصائصها وعناصرها الأساسية[343].

لقد أتقن داود النبي فن الصلاة، حتى دعى نفسه "صلاة". عرف كيف يلجأ إليها على الدوام، خاصة وأنه رجل آلام وأوجاع، يشعر أنه في حاجة إلى الله كملجأ له من أعدائه الأشرار ومن ضعفاته الشخصية وسقطاته، لكي يتأهل خلال مراحم الله أن يرتفع فوق التأديبات إلى الحياة السماوية المفرحة.

الإطار العام:

1.  اللجوء إلى الله لتأكيد براءته      [1-5].

2.  طلبة من أجل الرحمة             [6-12].

3.  توسل ضد الأشرار               [13-14].

4.  تمجيد لله                         [15].

1. اللجوء إلى الله لتأكيد براءته:

جاءت افتتاحية المزمور صلاة لتبرئته [1-5] يليها تثبيت هذه البراءة [3-5].

يترجى المرتل في الله أن يبرئه، واثقًا في برّ الله الذي لا يحابي الوجوه، ومعتمدًا على صلاح ضميره.

"استمع يا الله عدلي (برّي)،

واصغ إلى طلبتي،

وانصت إلى صلاتي فليست هي بشفتين غاشتين" [1]

يطلب المرتل من الله أن يستمع إليه ويصغى وينصت، مكررًا ثلاث مرات في هذا العدد طالبًا من القاضي أن ينصفه. هذا التكرار لا يُقدم منه باطلاً وإنما دليل اللجاجة وعدم اللجوء إلى آخر غيره.

كان داود بارًا بلا عيب، يتبع الحق والعدل من جانبه، بريئًا من الأخطاء المُتهم بها؛ غير أن السمات الواردة هنا (عدلي (بريّ)، بشفتين بلا غش) تنطبق على السيد المسيح أولاً وقبل كل شيء، إذ هو البار الكامل، وشفتاه بلا غش (1 بط 2: 22)، يشفع ببره عن شعبه، ويستمع الآب على الدوام إلى شفاعته.

السيد المسيح هو المتضرع، الذي يصلي كرأس من أجل جسده، الكنيسة، حاسبًا قضية شعبه قضيته الخاصة به، متشفعًا لأجل قديسيه، لأنه "في كل ضيقهم تضايق" (إش 63: 9)، قائلاً لشاول: "شاول شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4).

ونحن أيضًا كأعضاء في جسد المسيح يليق بنا أن نحيا بالبر، لأن الآب لا يمكنه أن يتعامل معنا ما لم نكن أمناء معه بالتمام، لنا برّ المسيح. هو يعرف دوافعنا الحقيقية؛ قد نخدع أنفسنا أحيانًا، لكننا لا نقدر أن نحدع الله.

ويلاحظ في المزمور الذي بين أيدينا الآتي:

 أ. لا يمكننا فهم الدفاع بالبر هنا كتعبير ساذج عن البر الذاتي، فهو ليس مجرد تأكيد من جانب الإنسان العابد على خلوه من الخطية، إنما هي محاولة لتبرير الإنسان من إتهامات معينة ظالمة[344]. فبقولنا: "استمع يا الله عدلي (بري)"، لا نعني أننا بلا خطية، وإنما نعني أن صوت دم السيد المسيح واستحقاقاته أعظم من صوت الاتهامات الباطلة ضدنا بل ومن صوت الخطية التي تشهد ضدنا، صوته فينا أقوى، لأنه صوت برّ المسيح، الحق الإلهي!

في برّ المسيح نسمع صوت الرسول: "طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها، كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا وصلى صلاة أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر..." (يع 5: 16-17) وكأنه ببر المسيح نحمل مفتاح السماء، ويستجيب لنا الآب نفسه!

ب. بقوله: "فليست هي بشفتين غاشتين" يعلن المرتل أنه لا ينطق في صلاته بالشفاة المجردة، وإنما خلال إنسجام الشفتين مع إخلاص القلب الداخلي، وأمانة العمل؛ وكأن المرتل يعلن أن صلاته تخرج من كيانه كله: الفكر الداخلي أو نية القلب والكلمات مع العمل.

صاحب الشفتين الغير غاشتين يحمل إخلاصًا داخليًا وصدقًا في تصرفاته الظاهرة، فلا يسقط تحت التوبيخ الإلهي: "جبهة امرأة زانية كانت لكِ... ألست من الآن تدعينني يا أبي أليف صباي أنت... ها قد تكلمتِ وعملتِ شروراً واستطعتِ" (إر 3: 3-5). شفتا الغش مكروهة عند الناس فكم بالحري تكون مكروهة لدى الرب؟! الله لا يطلب صلوات الشفاة الغاشة، وإنما يطلب سكب النفس (1 صم 1: 15) وسكب القلب (مز 62: 8).

ج. إذ يلجأ المرتل إلى الله يجد في الحضرة الإلهية راحته، فيطلب منه أن يتسلم بنفسه قضيته ويعلن أحكامه فيها علانية، لأنها أحكام عادلة ومستقيمة.

"من وجهك ليخرج قضائي،

عيناي لتنظرا الإستقامة" [2].

v   ليت قضائي لا يصدر عن الشفاة الغاشة (التي للأشرار) وإنما عن حضورك البهي، لكي لا أنطق بخلاف ما أكتشفه فيك.

ليت عيناي - عينا القلب بالطبع - تعاينان الأمور المستقيمة.

القديس أغسطينوس

ماذا يعني المرتل بوجه الآب إلا الابن الذي خبَّرنا عن الآب، وأعلن بالصليب كمال الحب الإلهي، فإننا خلال عمله الخلاصي ننعم ببهاء الوجه الإلهي، ويحق لنا الدخول إلى الأحضان الأبوية، معاينين كل ما هو حق ومستقيم.

د. استقامة حياته الداخلية:

"جرَّبت قلبي وتعهدته ليلاً،

واحميتني فلم تجد فيّ ظلمًا.

لكيما لا يتكلم فمي بأعمال الشر" [3].

كلمة "جربت" تستخدم للتعبير عن امتحان الذهب بالنار (زك 13: 9)، الأمر الذي يفوق حدود الفحص العادي إلى التفتيش في الأعماق داخل النفس البشرية.

ربما عنى المرتل بطلبته هذه أن يقدم قلبه لله ليلاً حينما يترك كل من هم حوله ليكشف للرب أعماق قلبه وصدق نيته بعيدًا عن أعمال البشر والانشغال معهم في أحاديثهم... يرى الله في داخله إخلاصًا صادقًا، لا يحمل كراهية أو بغضة أو ظلمًا حتى ضد المفترين عليه. يرى الله في قلبه إشتياقًا حقًا ألا ينشغل المرتل بكلمات الناس بالرغم من عدم إنعزالهم عنه جسديًا؛ هو يتحدث معهم ويعاملهم لكنه كمن هو غريب يطلب أن ينطق بأعمال الله لا الناس.

وربما أراد المرتل أن يعلن أنه ما أسهل على البشر أن يحكموا ضده، بإساءة فهم كلماته أو تصرفاته، أما الله فيحكم حسب أعماقه. وكأنه يقول مع الرسول بطرس بعد إنكاره للرب: "يارب أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف إني أحبك" (يو 21: 17).

ما أحوجنا أن نتعهد قلوبنا ليلاً، فيشرق مسيحنا علينا ويحول ظلمتنا إلى بهاء نوره!

ربما يقول "تعهدته ليلاً، لأن الليل هو ترمومتر الحياة الروحية، فيه تنكشف القلوب. الإنسان الملتهب قلبه بالحب طول نهاره عندما يحل الليل يجد لذته في التمتع بالصلاة ودراسة الكتاب المقدس والتأملات الروحية، وحينما يضع رأسه يردد في قلبه: "إني لا أدخل إلى مسكن بيتي، ولا أصعد على سرير فراشي، ولا أعطي لعينَّي نومًا أو لأجفاني نعاسًا، ولا راحة لصدغي، إلى أن أجد موضعًا للرب" (مز 132 صلاة النوم). يضع رأسه على وسادته ليهيم فكره في السماويات حيث يوجد قلبه ويكون هناك كنزه. أما من ارتبك بهموم الحياة فلا يجد في الليل لذة بل يعاني من الأرق ويزداد قلقه، ويصير الليل لا للراحة بل لاختبار عربون الجحيم الذي لا يُطاق. والذي يقضي يومه في الملذات الجسدية والتسيّب من جهة حواسه، فمتى حلّ الليل ينغمس بالأكثر في أحلام اليقظة المثيرة لجسده وأفكاره... وهكذا يكشف الليل للإنسان حاله الداخلي.

في الليل تنفتح السماء أمام عيني المرتل ليهيم في حب الله ويصلي من أجل أخوته!

هـ. ضبط لسانه:

"لكيما لا يتكلم فمي بأعمال البشر" [3].

لقد تهيأ المرتل تمامًا لتقديم أفكاره وكلماته وأعماله لفحص دقيق جدًا من قبل الله، وفي نفس الوقت أدرك الغبطة التي يتمتع بها الإنسان الذي يصرخ إلى الله ليهبه كمال القلب والحديث والعمل.

v   "لكيما لا يتكلم فمي بأعمال الشر"، أي لئلا يفلت من شفتي كلام إثم، بل يخرج منهما كل ما يليق بمجدك وحمدك، وليس كتعديات البشر المقاومين مشيئتك.

القديس أغسطينوس.

v   لا تزعج نفسك بأمور العالم التي لا ينفعك منها شيء صالح لحياتك، إذ كُتب "لكيما لا يتكلم فمي بأعمال البشر". فالإنسان المولع بالحديث عن الخطاة وأعمالهم سرعان ما تثور فيه شهوة الإستهتار. بالحري يلزمك أن تنشغل بحياة الصالحين، فإن هذا يعود عليك بشيء من النفع[345].

v   تعلمت أن أصلي حتى لا يتكلم فمي بأعمال البشر[346].

القيس باسيليوس الكبير

v   لا تبحث في فكرك عن أخطاء الغير، ولا تدنس لسانك باتهام قريبك؛ فإن القول "لا يتكلم فمي بأعمال الناس" أمر له تقديره! [347].

الأب بابي (السرياني)

وربما قصد المرتل بقوله: "لا يتكلم فمي بأعمال البشر"، أو في النص العبري: "لا يتعدى فمي..." أنه وإن مرّ به فكر إدانة من جهة إنسان - حتى وإن كان عدوه - فإن هذا الفكر لا يمكن أن يجتاز فمه، أي لا يتحول إلى كلمات وبالتالي إلى عمل، إنما يحبسه ليقتله بعمل الله فيه. فقد وضع الله حافظًا لفمه وبابًا حصينًا لشفتيه كي لا يخطئ بلسانه.

و. سالك في طريق الله الضيّق:

"من أجل كلام شفتيك أنا حفظت طُرقًا صعبة.

ثبت خطواتي في سبلك لئلا تزل قدماي" [4-5].

تحدث داود النبي عن قلبه الصالح ثم عن لسانه وأخيرًا عن أعماله. فمن جهة أعماله حفظ نفسه من الطرق الشريرة ليسلك طريق الله، أي ليعيش حسب مشيئته الإلهية؛ لم يتحقق هذا بقدرته الشخصية وإنما بارشاد الله ومعونته حتى لا تزل قدميه.

في هذا المزمور يكشف المرتل عن كلام الأشرار وكلام الأبرار وأيضًا كلام الله. فشفتا الأشرار تُصدران افتراءات واتهامات باطلة ضد أولاد الله، لهذا يلجأ المرتل إلى الله كي يبرره فيها. وشفتا المرتل (الأبرار) تتحفظان من أعمال الناس لكي لا يوجد فيهما غش بل يحملان صدقًا وإخلاصًا وإنسجامًا مع صدق القلب والعمل. أما شفتا الله فتحفظان أولاده، إذ تقدمان كلامه روحًا وحياة؛ تقودانهم إلى الطرق الإلهية التي تبدو صعبة لكن بلا زلّة أو سقوط. شفتاه ترشداننا وتهبانا قوة وثباتًا في الطريق. كلمات شفتيه إنما هي ميثاق الله ووعوده لنا القادرة أن تثبتنا فيه أبديًا.

v   "ثبت خطواتي في طرقك" حتى تبلغ الكنيسة كمال الرحمة خلال الطرق الضيقة التي تقود إلى راحتك.

"لئلا تزل قدمي"، حتى تصير آثار رحلاتي مطبوعة كآثار الأقدام في الأسرار وفي كتابات الرسل، فلا تمحى أبدًا، بل تصير ظاهرة يلاحظها كل الذين يتبعونني. أو ربما تعني أن قدميَّ قد سلكتا تلك الطرق الوعرة وكملت السعي في طرقك الضيقة لكي أسكن أبديًا في الحياة الأبدية.

القديس أغسطينوس

طريق الله ضيق ووعر لكنه مستقيم، إن زلت قدماي فبسبب ضعفي وخطيتي، إذ كثيرون يتعثرون في وصية الله كما يتعثرون في التجارب، لهذا فإنني في حاجة إلى العون الإلهي ليس فقط لأدخل الطريق وإنما لكي اثبت فيه حتى النهاية، هو الذي يبدأ وهو الذي يكمل وهو الذي يبلغ بي إلى النهاية. هذا ما دفع المرتل أن يصرخ إلى الله الذي ينتظر سؤالنا لكي يستجيب!

2.  طلبة من أجل الرحمة:

يثق المرتل في رحمة الله كعون إلهي له:

أ. نزول الله إلينا:

"أنا صرخت إليك لأنك سمعتني يا الله.

أمِل أذنيك يارب، واستمع كلامي" [6].

صرخة داود النبي تنبع عن خبراته القديمة مع الله أنه يشتاق أن يستمع ليستجيب.

ماذا يطلب المرتل في صرخته؟ أن يُميل الله أذنيه؟ أذن الآب التي تميل إليّ إنما هو ابن الله المتجسد، الذي نزل إليّ ليسمع صوتي ويستجيب. في خطايانا نيأس ولا نقدر على الصلاة، لكن ربنا الذي يمثلنا لدى الآب يصرخ عنا (1 كو 1: 30؛ رو 8: 34)، فيستجيب الآب؛ وهكذا تنفتح أبواب الرجاء أمامنا!

السيد المسيح هو أذن الآب خلاله يسمع صوتي، فيدخل الصوت مُبررًا، مقبولاً لدى الآب، موضع سروره! هو ينزل إليً لأن صوتي وحده عاجز عن أن يرتفع إلى الآب.

ب. إعلان خلاصه ومراحمه للذين عن يمينه:

"عجب مراحمك يا مخلص المتكلين عليه من الذين يقاومون يمينك" [7].

إذ ينزل مسيحنا إلينا يعلن مراحم الله العجيبة خلال دمه الثمين، واهب الخلاص للذين يؤمنون به ويتكلون عليه في حياتهم العملية اليومية. بالمسيح يسوع صرنا عن يمين الآب، نحمل قوته... الأمر الذي يثير عدو الخير فيقاومنا بشدة، وهنا يظهر عجب مراحم الله التي تحوّل المقاومة إلى نصرة!

تمتعنا بيمين الله لا ينزع الحرب عنا بل يثيرها بالأكثر، وفي الحرب نطلب نعمة الله بالأكثر لننال الغلبة ونكلل أبديًا!

ج. حفظه إيانا مثل حدقة العين:

"احفظنى يارب مثل حدقة العين" [8].

لا يوجد جزء من جسم الإنسان يحتاج إلى رعاية وعناية مثل العين، وقد وضعها الله في مكان أمين، إذ هى مستريحة بين عظام بارزة كحصن لها، وكأنها بأورشليم التي تحوط بها الجبال من كل جانب، غايتها التمتع بالرؤيا الصادقة لتدير الجسم كله في الوضع السليم، تنذر الجسم بالمخاطر وتكشف له عن الطريق. هكذا يحفظ الله النفس كالعين، يحوطها بكلماته كعظام قوية، أو كجبال الله المقدسة، وإذ تتقدس النفس (البصيرة الداخلية) يسلك الإنسان في طريق الله بلا لوم.

أحاط الله العين بغطاء الجفن وسياج الرموش، هكذا يسيج الرب بنعمته حولنا ويحمينا من زوابع البشر.

يتصرف المرتل هنا كطفل يحمل مشاعر رقيقة نحو الله، إذ يرى نفسه كالعين المحبوبة يحتضنها الله ويرعاها بنفسه.

تستطيع العين أن تُغمض عن شهوات العالم وملذاته الباطلة، فهى لا تحتمل أدنى الأتربة أو الغبار. هكذا يليق بالمسيحي أن يكره أقل دنس الخطية.

حدقة العين هى التي توجه النظر، تمكننا من التمييز بين النور والظلمة.

الخادم الحقيقي الذي يعمل بروح الرب يرى في شعب الله أنهم كحدقة عينه، كنور عينيه، لا يقدر أن يفقدهم. فلا نعجب أن سمعنا القديس يوحنا الذهبي الفم يقول:

[ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم؛ لا، ولا حتى النور!

إني أود أن أقدم بكل سرور عينيَّ ربوات المرات وأكثر - إن أمكن - من أجل توبة نفوسكم!

عزيز عليّ جدًا خلاصكم، أكثر من النور نفسه! لأنه ماذا تفيدني الشمس إن أظلم الحزن عيني بسببكم؟![348]].

د. ستره لنا تحت جناحيه:

"وبظل جناحيك استرني من وجه المنافقين الذين اضعفوني" [8].

المحبة والرحمة هما جناحا الله، وكما يقول القديس أغسطينوس: [لتحمني مجبتك ورحمتك واهبة النعم كدرع!] ظل جناحي الله هما تشبيه للطائر الأم (إش 49: 2؛ هو 14: 7؛ مرا 4: 20)، أو إشارة إلى جناحي الكاروبيم المظللين على تابوت العهد المقدس، للحضرة الإلهية مع شعبه (خر 25: 20-22)، حيث يظهر الله على الكاروبيم ويجلس على عرشه هناك.

v   كثيرًا ما سمعت في الكتاب المقدس نسبة الأجنحة لله (مز 17: 8؛ 91: 4؛ تث 32: 11؛ مت 23: 37). جناحا الله يمثلان قوة الله وبركاته وعدم فساده وما إلى ذلك. كل هذه الخصائص الإلهية وُجدت في الإنسان حينما كان يشبه الله في كل شيء، لكن انحرافنا إلى الشر سلبنا أجنحتنا، ومن ثم أُعلنت نعمة الله لنا وأنارتنا. برفضنا الفساد والشهوات العالمية ينمو فينا جناحا القداسة والبر من جديد[349].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

هـ. حمايته لنا من الأعداء الأشرار:

"والآن أحاطوا بي.

نصبوا أعينهم ليميلوا في الأرض

أخذوني مثل الأسد المتهيء للصيد وكالأشبال التي تأوى في أماكن حفية" [10].

يرى داود النبي نفسه كمدينة تحوط بها الأعداء من كل جانب، لقد أغلقوا عليه كل منفذ ولم يطلبوا أقل من تحطيم حياته تمامًا؛ لم يكن أمامه إلا أن يرفع عينيه إلى فوق ليجد معونة من قِبل الله. يرى نفسه ومن معه أشبه بالفريسة التي يتعقب الصياد خطواتها لكي يصطادها؛ أو كفريسة يخطط الأسد لينقضّ عليها ويفترسها.

بعدما تحدث النبي بصيغة الفرد عاد وتحدث بصيغة الجماعة، وكأنه كرمز للسيد المسيح يعلن أن العدو لا يطلب مسيح الرب وحده وإنما يريد أن يلتهم كل كنيسته.

يرى بعض الآباء أن الأشرار هنا هم صالبوا ربنا يسوع المسيح الذين سمن قلبهم بالترف والطمع وقد انغلق عن معرفة الحق، لهم القلب السمين الضيق، أما أفواههم فتنطق بالكبرياء عوض تمجيد إسم الله.

v   هكذا انطلقت ألسنتهم باستهزاء وقح، قائلين: "السلام لك يا ملك اليهود" (مت 27: 29)...

من مدينتهم طردوني، وها هم يحيطون بي وأنا على الصليب... "أخذوني مثل الأسد المتهيء للصيد" [12]. أحكموا الخناق عليّ مثل العدو المنقض على فريسته: "وكالأشبال التي تأوى في أماكن خفية" [12].

إنهم ذرية (إبليس) وهم بشر، قيل عنهم: "أنتم من أب هو إبليس" (يو 8: 44)؛ لهذا دبروا مؤامراتهم ليُباغتوا البار ويهلكوه.

القديس أغسطينوس

في اختصار، هؤلاء الأعداء الأشرار:

أ. لا يهدفون إلى التمتع بنفع خاص بهم بل بالحري تدمير حياة الآخرين بلا سبب.

ب. هم منغلقون داخل قلوبهم السمينة [12]؛ هذا تعبير يشير إلى الغرور والترف. لا همّ لهم إلا الحياة المدللة المرفهة، ضيقوا الأفق والقلب بسبب قساوتهم وافتقارهم إلى الحب.

ج. متكبرون حتى في أحاديثهم، لأنه من فضلة قلوبهم القاسية تتكلم ألسنتهم.

د. ينصبون فخاخًا لاصطياد الآخرين [11].

هـ. المضطهدون وحوش مرعبة... وقد دعى القديس بولس نيرون أسدًا (2 تي 4: 17).

و. عداوتهم وعنفهم ليس عن احتياج، لأن الله لا يحرم حتى الأشرار من عطاياه الأرضية. بل على العكس يعيشون في ترف، بطونهم مملؤة بخيرات الله، يتركون فضلاتهم لأطفالهم [14].

3. توسل ضد الأشرار:

يقارن المرتل بين نصيب القديسين ونصيب الأشرار. نصيب القديسين هو الرب نفسه. يرونه وجهًا لوجه، يشبعون بلقائه ويصيرون مثله، إذ ينعمون بالشركة معه في قلوبهم كعربون للتمتع بالملكوت الأبدي. أما نصيب الأشرار فهو الانقسام في حياتهم:

أ. الله نفسه هو الذي يحارب عن قديسيه:

"قم يارب ادركهم وعرقلهم.

نج نفسي من المنافق وسيفك من أعداء يديك" [13].

أحاط الأعداء بالمرتل كوحوش مفترسة، لكنه يدرك أن عون الإنسان باطل، ولا رجاء له ما لم يظهر الله نفسه.

ب. سيف الله [13] هو كلمته التي تُستخدم كأداة للتأديب.

ج. رؤية الله أو نظر وجهه هبة إلهية ننالها خلال بره الذي يصيّر مؤمنيه على مثاله.

4. تمجيد لله:

"وأنا بالبر أترآى لوجهك

وأشبع عندما يظهر مجدك" [15].

تتحقق رؤية الله على الأرض بالإيمان، وفي السماء بالعيان وجهًا لوجه. نحن هنا نعاين مجد الرب كما في مرآة سميكة معتمة، كعربون لرؤيته في مجده خلال رؤى الخلود.

v   من يشترك في الإلهيات يعود إليها دائمًا جائعًا، والجائع ينال مواهب دون أن يخزى، وكما وعد الحكمة قائلاً: "لا يُجيع الرب نفس الصديق" (أم 10: 3)؛ ووعد في المزامير: "طعامها أبارك بركة، مساكنها أشبع خبزًا" (مز 132: 15). ونسمع صوت مخلصنا أيضًا: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون" (مت 5: 6)[350].

البابا أثناسيوس الرسولي

هكذا يختم المرتل المزمور بالتمتع برؤية الله والشبع بمجده الإلهي، فإن هذا هو غاية إيماننا، أن نراه ونشترك في أمجاده...

v   التأمل في الله وجهًا لوجه قد وعد به لنا ليكون نهاية سعينا ومنتهى مسراتنا.

القديس أغسطينوس

v   كل عقل حسب مقدار تدرجه يستنير بكمية محدودة من النور.

مار اسحق السرياني


 

صلاة

v   بك وحدك أتبرر، وبدونك أهلك، يا مخلصي!

v   تعهد قلبي ليلاً، كي لا يعرف النوم ولا التراخي،

أنره بروحك القدوس فلا اكون ابنًا لليل ولا للظلمة!

v   لتسندني كلمات شفتيك، ولتقدني وعودك الإلهية،

فأسلك طريقك الضيق الآمن، أعبر فيه إلى حضن أبيك!

v   أشكرك لأنك تحفظني كحدقة العين من تراب العالم،

وتسترني بظل جناحيك من ضربات العدو.

v   أيها الأسد الخارج من سبط يهوذا حطم أنياب إبليس،

الأسد المزمجر ليفترسني.

v   أرني وجهك، إشبعني بجمالك الإلهي!

<<

 

 

 


 

المزمور الثامن عشر

نعمة الملوكية

هذا المزمور، الذي يطابق (2 صم 22) هو مزمور شكر ملوكي، ليس من أجل انتصار عسكري ناله المرتل مرة واحدة، وإنما من أجل كّمٍ هائل من تدخلات الله المملؤة رأفات، من أجل حياة كاملة غنية باختبارات محبة الله المترفقة. إنها قصيدة انتصار سجلها داود في أواخر حياته بعد أن استراح من جميع أعدائه، وعلى رأسهم شاول، وقد أنقذه الرب من بين يديه. فبالرغم من إخلاص داود له لم يكف عن أن يتعقبه بلا شفقة.

عند كتابة هذا المزمور كان قد مرّ على موت شاول زمن طويل، ربما ثلاثون عامًا، ومع هذا يتحدث داود عن هذه الواقعة كأنها أمر حديث. هكذا يليق بنا إلا ننسى خطايانا ولا مراحم الله علينا مع مرور الزمن[351].

هذا المزمور ليس فقط يمثل قطعة رئيسية في ليتورجية إلهيكل الخاصة بالأحتفالأت الملوكية وإنما أيضًا يقدم فرصة جيدة للتعرف على إحدى القصائد الأصيلة الشهيرة لداود الملك... مع أنها كُتبت كأغنية شكر شخصية، لكن سرعان ما صارت في ملكية الجماعة تستخدمها في الصلاة والعبادة[352]...

يذكّرنا هذا المزمور بأن كل معركة روحية شخصية، حتى تلك التي تدور في ساحة ضميرنا الخفي، بلإضافة إلى كل معركة تدور في العالم لأجل العدالة، تمس تأسيس ملكوت الله الأبدي في حياتنا الداخلية.

مزمور مسياني ملوكي:

اقتبس القديس بولس هذا المزمور مرتين بكونه يخص السيد المسيح (رو 15: 9؛ عب 2: 13). ويطبق بعض المفسرين المزمور كله على السيد المسيح. وهو يُصنَّف كمزمور مسياني، إذ أوضح داود أن مُلكِه إنما كان صورة ورمزًا لمملكة المسيح. لقد اكتشف أن الخلاص الحقيقي لا يتحقق بهلاك شاول ورجاله بل بهلاك إبليس وجنوده الروحيين، خلال نصرة المسيح وموته وقيامته ومجده وملكوته. لقد أقامنا ملوكًا روحيين (رؤ 1: 6).

يحتوي هذا المزمور على ذروة الشكر المسياني.

يلقب وايزر Weiser هذا المزمور "نعمة الملوكية". في نظره أنه نشيد عسكري خاص بالسيد المسيح المحارب، ملك الملوك، الذي يحارب ليقيم طريقه - خلال عالم متمرد - بأسلحة الإيمان والحب، حتى يأتي في ملكوته ويضم الكل إليه كملوك روحيين. وكأنه في المسيح يسوع تنشد الكنيسة هذه التسبحة كمزمور نصرتها الملوكية الروحية.

يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن المزمور يتضمن سبعة أمور:

1. مقاومة الأعداء لنا.

2. الأستعانة بالله.

3. نزول السيد المسيح إلينا ليخلصنا.

4. صعود الرب إلى السماء.

5. الله ينقذ الإنسان من الأعداء.

6. رفض اليهود (فقدان كرامة البنوة لله وصيرورتهم غرباء).

7. قبول الأمم (قبولهم نعمة الملوكية بالإيمان خلال السماع).

عنوان المزمور:

1. حسب النص العبري: "لإمام المغنين، لعبد الرب، داود الذي كلم الرب بكلام هذا النشيد في اليوم الذي أنقذه فيه الرب من أيدي كل أعدائه ومن يد شاول".

أ. يدعو داود نفسه "عبد الرب"؛ فإنه إذ يتحدث عن "نعمة الملوكية"، فإن هذه النعمة ترفعه إلى حضن ملك الملوك، لا ليتشامخ ولا ليمارس سلطانًا وسطوة، وإنما بالحري ليحمل روحه الوديع المتضع، فيرى في نفسه عبدًا للرب، منسحقًا، ومحتاجًا إلى العون الإلهي. لقد أقامه الرب ملكًا على شعبه ليعيش عبدًا للرب يخدم أفراد شعبه بروح الحب والرعاية!

ب. يقول "كلم الرب"، إذ وضع هذه التسبحة لا لإرضاء الناس، ولا للافتخار بنصراته، وإنما كذبيحة شكر لله واهب النصرات المستمرة... إنه مدين للرب بكل نجاح!

ج. وُضع المزمور بعد نواله نصرات كثيرة... وكان يردده في مناسبات مختلفة كلما تذكر لمسات يدّ الله الحانية، فلا نعجب إن تكرر أيضًا في (2 صم 22).

2. جاء العنوان في الترجمة السبعينية: "على النجاز (التمام) لداود، إذ يتحدث عن تمام الخلاص الذي تحقق بنزول كلمة الله وصعوده وتقديم نعمة الملوكية للأمم.

الإطار العام:

يُقسّم بعض الدارسين مثل Hans Schmidt المزمور إلى صلاتين مستقلتين، فيروا أن الجزء الأول [1-30] يتناول نجاة الملك من خطر هائل في يوم بليته [14]؛ بينما يبدو أن الجزء الثاني [31-50] يغطي فترة زمنية أطول ويذكرنا بعدة أحداث وليس بحدث واحد (عدد 43 غالبًا ما يشير إلى نزعات قامت بين جماعات شعب داود الملك فيما بينهم). وقد رفض آخرون هذا التقسيم، فيقول Weiser: [على أي الأحوال، لم نتبع نحن تقسيم المزمور إلى صلاتين مستقلتين؛ حيث يمثل المنهجان الرئيسيان (للقسمين) وحدة واحدة كما يظهر في العددين 43، 48؛ وقد أُستخدم ذات القياس في القسمين... إنهما يشبهان منارتي كاتدرائية مرتفعتان، فيحلّق الجزءان من هذه التسبحة الرائعة في السماء، بكونهما تسبحة حمد لمجد الله، الذي يظهر كمعين للمتعبد (المرتل) وسط بليّته [1-30]، يرفعه [عدد 46] ليُعظّم بركات مَلِكه [5]... مع أن كل جزء من جزئي المزمور له سمته الخاصة به، والتي تناسب الموضوع الذي يتناوله، ولكنهما لا يقدمان أثرهما الكامل للشهادة التامة لقوة الله الحيّ الملوكية ولثقة المرتل الملك الثابتة حيث هو متأكد من بركات الله ومتهلل بها، ما لم يُنظر إلى الجزئين كوحدة واحدة[353]].

الجزء الأول: الخلاص

1. خلاص من براثن الموت           [1-5].

2. قوة القيامة                         [6-18].

3. عطية المجد                       [19-30].

الجزء الثاني: نعمة الملوكية

1. الإعداد لها                         [31-36].

2. استسلام الأعداء                   [37-42].

3. رئاسة على الأمم                  [43-45].

4. حمد وشكر                        [46-50].

الكلمة الأسترشادية (مفتاح المزمور):

مفتاح المزمور هو كلمة "برّ"، التي تأتي كمحور المزمور [20]. إنها تنشد تبرئة داود؛ لكن داود لم يكن يدافع عن بره الذاتي، إنما هي نعمة الله العاملة في حياته. أما ربنا يسوع المسيح فقد صارع ضد الشر حتى سفك دمه على الصليب لكي يهبنا بره، مصارعًا ضد الأعداء الشرسين كاموت والشياطين والعالم الشرير والخطية (رو 7: 24-25؛ 1 كو 15: 20-28). معركتنا من أجل البر ليست ضد البشر، وإنما ضد أجناد الشر الروحيين في السماويات (أف 6: 12).

<<

 


 

الجزء الأول: الخلاص

1. خلاص من براثن الموت:

هذه هي تسبحتنا، إذ نعرف أننا في المسيح نستطيع أن نعبر من براثن الموت إلى شركة الأمجاد السماوية. هنا نجد قائمة تكاد تكون كاملة للإستعارات المختلفة الخاصة التي تعبّر عن قوة الله وخلاصه الواردة في المزامير مثل الصخرة (لا يمكن تسلقها ولا مهاجمتها)، والسرعة (لا يمكن تعقبها)، والدرع (كجندي)، وقرن الخلاص (كالحيوان القوي)، وملجأ (يتعذر بلوغه).

"أحبك يارب قوتي.

الرب هو ثباتي (صخرتي) وملجأي ومخلصي،

إلهي عوني وعليه أتكل.

عاضدي وقرن خلاصي وناصري" [1-2].

علاقتي بالله شخصية هذا الذي أُحبه بكونه "قوتي" بكل ما لهذه الكلمة من معنى؛ إنه يسندني، ويمنحني الشجاعة والنجاح والاستقرار.

أنا بذاتي لا أستطيع أن أعمل شيئًا، لكن الله يهبني الحماية الكافية والسند والخلاص. هو صخرتي، صخرة الخلاص (نت 32: 4، 15)، صخرة شعبه (تك 49: 24)؛ يشير هذا اللقب "صخرة" إلى الصلابة والقوة وعدم التغيُّر. إنه ملجأي (في العبرية: حصني)، وهو منقذي. كلمة "منقذ" تعني من يحملني بعيدًا سالمًا أو يقدم لي مجإلا للهروب[354].

v   لم يتضرع داود إلى أحد سوى الله نفسه من أجل خلاصه[355].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   "أحبك يارب قوتي؛ الرب صخرتي وحصني ومنقذي".

نعم، أعنِّي كي أحبك؛ فأنت هو إلهي، حاميَّ؛ أنت حصني المنيع؛ أنت رجائي العذب وسط ضيقاتي...

لألتصق بك، فأنت هو الخير وحدك، وبدونك ليس للخير وجود!

لتكن أنت كل سعادتي، يا كُلَّي الصلاح...

أيها الحياة، لمجدك يحيا كل مخلوق. لقد وهبتني الحياة، وفيك حياتي. بك أحيا، وبدونك أموت...

أتوسل إليك: أخبرني أين أنت؟! أين ألقاك، فأختفي فيك بالكلية، ولا أوجد إلا فيك!

القديس أغسطينوس

v   "أدعو الرب بتسابيح الحمد، فأنجو من أعدائي" [3]. أدعوه ليس طلبًا لمجدي بل لمجد الرب عندئذ لا يوجد ما يدعوني للخوف من حماقة الأشرار.

القديس أغسطينوس

يقول Weiser: [بإنه في العدد 3 يتغير طابع التسبحة إلى شكل قصصي ويستمر هكذا حتى عدد 19. غاية القصة تُقديم الأحداث السابقة في شكل ليتورجي كأحداث حاضرة. هكذا تدخل بنا الأحداث إلى خبرة الحضرة الإلهية الحالية وعمل خلاصي في ثوب تعبدي. هذا الهدف يوضح علّة إستخدام صيغ أفعال مختلفة بطريقة مذهلة، فيستخدم المرتل الماضي التام ثم الماضي الناقص على التوالي... ويستمر تغير الأفعال خلال المزمور بغية التعبير عن أن ما حدث في الماضي هو واقع تحقق في الماضي لكنه فعّال في الحاضر[356]].

يتصور المرتل نفسه وقد إرتحل بالفعل إلى العالم السفلي، تحيط به حبال الموت، فيقول: "اكتنفتني أمخاض الموت... أدركتني فخاخ (حبال) الموت: [4، 5]. هكذا يصور الموت كمارد يقيد ضحيته أو كصياد يمسك بفريسته.

الكلمة العبرية Chabel المترجمة "محاض" تعني "من يتلوى ألمًا" كإمرأة في حالة مخاض. هكذا يقول المرتل إن المتاعب قد أحاطت به كإمرأة تلد، لا حول لها ولا قوةً، تتعرض لخطر الموت.

ويرى البعض في قوله "أمخاض الموت" إشارة إلى أن الموت يحيط بالإنسان حتى قبل تمام ولادته، وهو في بطن أمه تتمخض به، يتابعه ليلحق به في طفولته وصبوته وشبابه وشيخوخته حتى يدخل به إلى الجحيم.

الفعل "اكتنفتني" أُستخدم أولاً في (هو 6: 3، 6) في وصف عملية إحاطة مدينة لتدميرها.

إن كانت نفس المؤمن أشبه بامرأة حبلِى فإن كل ما تفعله الضيقة إنها تدخل بها إلى آلام الولادة لتنجب حياة جديدة وثمرًا مقدسًا. إنها كالمدينة العامرة، يود العدو أن يحولها إلى خراب وقفر.

عمل العدو أن يهلك ويدمر، أن يقتل ويميت، أما عمل الله الحيّ فهو أن يهب القيامة ويرد الحياة من جديد!

2. قوة القيامة:

"وفي شدتي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت.

فسمع صوتي من هيكل قدسه.

وصراخي قدامه يدخل في أذنيه.

تزلزلت الأرض وصارت مرتعدة.

اضطربت أساسات الجبال وتزعزعت،

لأن الرب سخط عليها [6-7].

سماع الله للصلاة ليس أمرًا جديدًا، إذ يُسر الله أن يسمع صرخات مؤمنيه الصادرة من الأعماق. سمع الله لداود من الهيكل، أي من الخيمة حيث يوجد التابوت، أو من السماء عينها، لأن الهيكل الأرضي رمز للسماوي.

إن كان العدو قد ألقى بحبال الموت كشبكة تصطاد المرتل وتسحبه إلى القبر، يُدفن ولا يقوم، إذا بالسيد المسيح القائم من بين الأموات يستجيب لصرخاته كما من السماء، ينزل إليه إلى القبر ويحمله كغنيمة ويصعد به إلى مقدسه.

لعل المرتل - في ضيقته - عاين بروح النبوة السيد المسيح، ابن  داود، في صلبه... لقد صرخ إلى الآب أبيه وسُمع له من أجل تقواه، عندئذ تزلزلت الأرض وارتعدت وتشققت الصخور، كما روى لنا الإنجيليون، وقام أجساد كثير من القديسين ودخلوا المدينة.

يروي لنا المرتل عن حدوث معجزة عظيمة، حيث ظهر الله كما في هيكل قدسه - على تابوت العهد - لينقذه في محنته، في هذا يرمز للمخلص الذي دخل إلى تجربة الصليب لتُعلن قوة قيامته. وما قدمه المخلص في شخصه إنما لحسابن ا كي ننعم نحن أيضًا بقوة قيامته أو شركة الحياة المُقامة. فلنرتل نحن أيضًا ذات التسبحة، مفتكرين أننا نسبح بها ونحن ملتصقون بمخلصنا القائم من الأموات. إننا لا نيأس قط، إذ ننعم بقوة قيامته، فليس من ضيق كهذا إلا ويخلصنا منه.

v   "في شدتي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت". يعلن القديس بولس عن هذه الصرخة الموجهة إلى الآب، قائلاً: "الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلص من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عب 5: 7). سُمعت صرخته بإقامته من الأموات ونواله المجد والملكوت.

v   "فسمع صوتي من هيكله المقدس". سمع صوتي من مسكنه داخل قلبي! "وصراخي قدامه يدخل في أذنيه"، هذا الصراخ الخاص بي لا تسمعه أذن إنسان، فإنني إذ أنطق به في داخلي في حضرته، يبلغ إلى أذنيه!

القديس أغسطينوس

يقول المرتل إن الموت لا يستطيع أن يحطم نفسه باليأس، لأن قيامة المسيح قدمت له رجاءً حيًا وعمليًا... ما عليه إلا أن يدعو ويصرخ من أعماق قلبه ليجد صرخته قد اخترقت أبواب أورشليم اللؤلؤية (رؤ 21: 21)، تبلغ إلى الموت الذي لا يُدنى منه؛ فيميل الله بأذنيه ليسمع هذه الصرخات القادمة مع صلوات السمائيين وتسابيحهم! هنا تتزلزل كل أرض أمامه وتتزعزع أساسات الجبال... يضطرب الأعداء المحبون للعالم (الأرضيات)، الذين يظنون في أنفسهم أنهم جبابرة ليس من يقدر أن يهز كيانهم، راسخون كأساسات الجبال!

الله الكلّي الحب، الكلي الوداعة، يعلن ذاته نارًا آكلة للعدو المقاوم للمجد الإلهي أو لشعبه المسكين، لهذا يقول المرتل:

"ارتفع الدخان برجزه،

والنار التهبت من أمام وجهه،

والجمر اشتعل منه" [8].

هذا التصوير يعلن غضب الله لا كانفعال للإنتقام ولكن بكونه العدالة التي لا تقبل الظلم، والقداسة التي لا تطيق الخطية. يقول الرسول بولس: "فعمل كل واحد سيصير ظاهرًا، لأن اليوم سيبينه، لأنه بنار يستعلن، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو، إن بقى عمل أحد قد بناه عليه فسيأخذ أجرة، إن احترق عمل أحد فسيخسر وأما هو فسيخلص ولكن كما بنار" (1 كو 3: 13-15).

دينونة الله وعدالته نار تزيد الذهب والفضة بهاءً ونقاوة، وتحرق الخشب والعشب. أيضًا كلمة الله نارًا آكلة، تحرق فينا الأشواك الخانقة للنفس وكل ما هو شر لتلهب القلب بنار الحب الإلهي، فلا تقدر مياه العالم أن تطفئها. وقد جاء الروح القدس على شكل ألسنة نارية ليحول التلاميذ والرسل إلى خدام الله الملتهبين نارًا، فيشعلوا البشرية بنار الحب الإلهي بعدما يحرقون الشر في قلوب المؤمنين بروح الله واهب القداسة. هذا هو غاية المصلوب القائم من الأموات، القائل: "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49).

يرى بعض الدارسين في صعود الدخان برجزه أن المرتل يقارن غضب الله على الشر بالضباب الذي يعتم الجو كدخان قاتم يتصاعد من أنف من يغضب، أو من الوحوش الثائرة التي تصير كادخان تكتم النفس عندما تثور!

v   "ارتفع الدخان برجزه". يسكب البشر الدموع ويقدمون التوسلات حين يمتلئون ندامة بسبب تهديدات الله ضد الأشرار (أي أن غاية هذه التهديدات هي رجوع الأشرار عن شرهم فلا يلحق بهم الغضب الإلهي!).

"والنار التهبت من أمام وجهه". يعقب التوبة اشتعال الحب خلال معرفة الله.

"والجمر اشتعل منه"، هؤلاء الذين سبقوا فماتوا غير مبالين بلهيب الرغبة المقدسة أو نور العدل، غارقين في برودة الظلمة صاروا ينعمون (في المسيح) بالدفء والنور وإعادة الحياة من جديد.

القديس أغسطينوس

"طأطأ السموات ونزل،

والضباب كان تحت رجليه" [9].

ما كان ممكنًا للإنسان وقد إنحدر إلى الموت أن يلتهب بنار الحب الإلهي، وتشتعل فيه الجمرة المقدسة، ما لم ينزل السماوي نفسه إليه، يطأطئ السموات ليلتقي بنا على أرضنا، فيهبنا روحه القدوس الناري. نزل إلينا متجسدًا، فأخفى بهاء لاهوته، لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد (1 كو 2: 8)... هذا ما عبَّر عنه المرتل بقوله: "الضباب كان تحت رجليه". اختفى مجده وانحجب عن الأعين البشرية كما بضباب قاتم...

v   "طأطأ السموات ونزل، والضباب كان تحت رجليه". اتضع العادل، الذي انحنى إلى أسفل من أجل ضعف البشر.

"والضباب تحت رجليه"، الذين أُعمت عيونهم بشرورهم؛ هؤلاء الأشرار الذين لا يبالون إلا بالأرضيات لم يقدروا أن يعرفوه، لأن الأرض تسقط تحت رجليه مرتبطة بموطئ القدمين.

القديس أغسطينوس

لعل المرتل أيضًا أراد أن يعلن قوة الصلاة والصرخات الداخلية؛ فإن كان العدو يُشبه بالأرض وأساسات الجبال الراسخة، فإن الله ليس فقط يميل أذنيه ليسمع للمرتل، إنما ينزل بنفسه إليه متخفيًا كما في الضباب ليقتنص العدو وينزل به إلى قدمي المرتل نفسه.

يرى بعض الدارسين أن قول المرتل هنا فيه وصف دقيق وتصوير رائع تفصيلي عن الظهور الإلهي الأول في جبل سيناء (خر 19: 8؛ قض 5: 4؛ حب 3: 3-15)، إذ لا يوجد دليل على أن داود قد تمتع بما ورد هنا بصورة حرفية، أي لم يتمتع برؤية عينيه للحضرة الإلهية مثل موسى، لا عندما كان هاربًا من وجه شاول ولا أثناء حروبه ومعاركه وهو ملك. لكنه يرى أن ما يتمتع به من نصرات أشبه بعبور يختلف في مضمونه عن العبور الوارد في سفر الخروج من جهة الشكل لكنه يطابقه من جهة قوة التأثير والفاعلية. فإن حقيقة الخلاص لا تتوقف على الشكل الذي نتخذه[357].

خبرة المؤمنين من جهة الشكل التقليدي الثابت بخصوص الظهور الإلهي في سيناء هي أن الله حاضر الآن أمامهم، يستطيعون أن يروه ويسمعوه، وكأن التقليد في كماله يتحقق معه كحدث حاضر حيّ.

رآه موسى خلال العبور حين حلَّ الضيق بشعبه وسمع صوته بطريقة ملموسة وسط الضباب، وكأن الله قد نزل إليه ليعين شعبه. وبالإيمان رآه داود النبي وسط آلامه حين كان الموت يلاحقه خلال ثورة شاول الطاغية ضده؛ وتحقق النزول في كماله في ملء الزمان حين نزل رب المجد يسوع ليخلص العالم من إبليس وقد أحاط نزوله بالضباب؛ وها هو مستعد أن يحل في قلب المؤمن وسط آلامه ليعلن له قوة الصليب!

وكأن الظهور الإلهي تحقق هكذا:

أ. مع موسى عند إستلام الناموس، خلال الظلال.

ب. مع داود بالإيمان خلال تمتعه بنصرات دائمة هي عمل الله في حياته.

ج. مع السيد المسيح بكونه الابن  الوحيد الجنس، الذي أعلن عن أبيه الواحد معه في الجوهر... كأعظم إعلان إلهي!

د. مع مؤمني العهد الجديد، خلال إتحادهم بالابن .

ليس عجيبًا أن تتحقق كل الإعلانات عبر العصور وتتجلى الحضرة الإلهية عندما تشتد التجارب والضيقات؛ حينما يبدو الموت أمرًا محققًا ليس من يقدر أن يهرب منه يتجلى واهب القيامة. حتى مسيحنا - الواحد مع الآب - لم يعلن مجده إلا خلال طريق الصليب.

مع كل ضيقة يستطيع المؤمن أن يتمتع بالجالس على المركبة الشاروبيمية، واهب الخلاص، إذ يقول المرتل:

"ركب على الشاروبيم وطار،

طار على أجنحة الرياح" [10]

ذُكر الشاروبيم لأول مرة في سفر التكوين (3: 24)؛ وتكرر ذلك في (مز 68: 4، 33؛ 104: 3)، مقترنًا إلى حد ما بالكاروبين اللذين على غطاء تابوت العهد. فقد أُطلق هذا الاسم على الشكلين الواقفين عليه (خر 25: 18-20) حيث يقومان على كرسي (عرش) الرحمة، بينهما الشاكيناه، حيث تُعلن حضرة الرب الدائمة وسط شعبه. في حزقيال 10 نجد أكمل تقرير لدينا عن الشاروبيم، وهي كائنات سماوية، خليقة مملؤة حياة، تتسم بالسرعة الشديدة والقوة والشجاعة؛ صوت أجنحتها كصوت القدير حين يتكلم.

v   "ركب على الشاروبيم وطار"، أي ركب بعيدًا فوق حدود كمال المعرفة، مظهرًا أنه لا يقدر أحد أن يقترب منه إلا بالحب؛ لأن المحبة هي تكميل الوصايا (رو 13: 10).

القديس أغسطينوس

إن كان الشاروبيم ممتلئون أعينًا، ولكل واحد منهم ستة أجنحة، فإن المؤمن إذ تكون له البصيرة الروحية (المعرفة) المقدسة، يحلق كما بأجنحة الروح نحو السمويات، يصير مركبة إلهية؛ فيقال عنه أن الرب قد ركب كما على شاروب ناري، يتمتع بالحضرة الإلهية، وتكون معرفته لله خلال خبرة تلاقٍ حقيقية.

يقول: "طار على أجنحة الريح" [10]، إعلانًا عن سرعة مجيئه لخلاص أولادهن دون أن يوجد عائق في الطريق. وكما جاء في المزمور (104: 3) "الذي جعل مسالكه على السحاب؛ الماشي على أجنحة الرياح".

"جعل الظلمة حجابه، تحوط مظلته" [10].

نزل إلينا ليخلصنا بنفسه، لكنه احتجب في الناسوت، لكي نقبله بالإيمان؛ فإن كانت البصيرة الخارجية يصعب أن تخترق الضباب المحيط به كمظلة لتدرك أسراره، فإنه بالإيمان تستنير بصيرتنا الداخلية القادرة أن تدخل إلى الأعماق وتلتقي به وتتعرف على أسراره الخفية. يقول إشعياء النبي: "حقًا أنت إله محتجب" (45: 15)، يقول المرتل: "السحاب والضباب حوله" (مز 97: 2).

تشير الظلمة هنا إلى عجز، لا الخليقة الأرضية وحدها عن رؤية طبيعة الله، بل والخليقة السماوية لا تقدر على معاينتها في كمالها. تعاين كل خليقة الله قدر استطاعتها أو قدر قامتها الروحية، وليس كما هو!

v   "جعل الظلمة حجابه". حيث اختار ظلمة الأسرار، الرجاء الخفي في قلوب المؤمنين هناك حيث يحجب نفسه دون أن يتخلى عنهم.

القديس أغسطينوس

v   تريد النفوس المتكبرة في جسارة وتهور أن تنبش في الظلام، وبالتدريج خطوة فخطوة تلتحف بظلمة الخطأ الكثيفة والملموسة.

الأب قيصريوس أسقف آرل

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السحاب هو المركبة الملوكية التي ارسلت إلى الملك السماوي، يسوع المسيح، عند صعوده[358]. أما قوله جعل "الظلمة حجابه"، فلأن صعوده كان مخفيًا عن العالم، يتمتع بها من يتتلمذ على يديه فتصعد أفكاره معه كما في الخفاء. وبقوله "تحوط مظلته"، ربما يشير إلى تلاميذه أو الكنيسة ككل، إذ يختفي فيها الصاعد إلى السموات كمظلة له، يسكن داخلها دون أن يعاينه العالم!

لا يوجد وصف لهيئة الله في أي موضع في الكتاب المقدس. إنما يتحدث الكتاب عن قرب الله من الإنسان وعظمته التي لا يُدنى منها، وذلك من خلال الرموز؛ من جهة قُربه يتحدث عن بهاء نوره، ومن جهة عظمته الخفية فيتحدث عن السحاب والظلمة... طبيعة الله غير مدركة، لكنها تُعرف خلال عملها وفاعليتها في حياة الإنسان.

v   القديس يوحنا الجليل الذي اخترق الظلمة المنيرة يقول: "الله لم يره أحد قط" (يو 1: 18)، مؤكدًا عدم إمكانية بلوغ الجوهر السماوي بواسطة البشر، بل وأيضًا بواسطة كل الخليقة العاقلة. لذلك، عندما نما موسى في المعرفة أعلن أنه رأى الله في الظلام، بمعنى أنه أتى إلى معرفة ما هو إلهي، ما هو فوق كل معرفة أو إدراك، إذ جاء النص: "أما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الله" (خر 20: 21). أي إله؟ ذاك الذي جعل الظلمة حجابه كقول داود، الذي تعرَّف على الأسرار في ذات المقدِس الداخلي[359].

القديس غريغوريوس النيصي

السحابة هي مركبة للاهوت (إش 19: 1؛ مز 104: 3)؛ نزل من السماء المملؤة سحابًا التي أحناها إلى الأرض، نزل في عاصفة، راكبًا على شاروب.

"من لميع وجهه جازت السُحب،

قدامه بردًا وجمر نار" [12].

يرى البعض أن المرتل هنا يصف البرق، أسهم الله التي تنتشر وتهزم أعداء داود؛ فإن الله لا تنقصه الوسيلة ليحقق غضبه ونشر قوته الخلاصية. وكأنه يمزق السحاب إربًا، ويرسل سهامه التي لا يعوقها السحاب بل تقتحم السحاب كأنه غير موجود. تنفتح السماء بأكملها كما يحدث أثناء البرق (حيث يبدو كأنه يمزق السحب). غالبًا ما يكون البرق مسحوبًا بالبرد والبَرَدْ. وكثيرًا ما يعاقب الله الأشرار بحجارة من البَرَدْ والنار (خر 9: 24-25؛ يش 10: 11؛ مز 78: 47-48؛ 105: 32؛ حجي 2: 17) [360].

كأن الله المحتجب في الضباب يفتح أبواب السماء ليقذف الأشرار المصرّين على شرهم بحجارةٍ من البرد والنار.

من جانب آخر إن كان السحاب يشير إلى القديسين (عب 12: 1)، من بينهـم الأنبياء، فقد أرسل الله نبواته خلالهم كقذائف من البَرَدْ والنار، تحطم عدو الخير إبليس وتحقق الخلاص للمؤمنين. لهذا يكمل المرتل قائلاً:

"أرعد الرب من السماء،

والعلي أعطى صوته" [13].

هكذا نتقبل كلمة الله، خاصة النبوات التي سبق فتحدثت عن الخلاص كرعد صدر من السماء... يتكلم الله فتهتز السماء والأرض، يتحدث بكلماته كما بأعماله. بالنسبة له ليس شيء ما مستحيلاً، ليس شيء ما شاقًا[361]. من يستطيع الوقوف أمامه؟! من يقدر أن يتحمل صوته الذي يرعد؟!

قوله: "أرعد من السموات" يشير إلى صعود السيد المسيح، إذ قيل: "صعد الله بتهليل (هتاف)، والرب بصوت البوق" (مز 47: 5). خلال هذا الصعود تحقق الوعد الإلهي الخاص بإرسال الروح القدس كينابيع مياه حيّة، يتمتع به المؤمنون خلال مياه المعمودية، وظهر الرسل الأطهار والتلاميذ القديسون كأساس للبناء المسكوني الجديد (أف 2: 20)، إذ يقول:

"ظهرت عيون المياه،

وانكشفت أساسات المسكونة،

          من انتهارك يارب،

ومن نسمة ريح رجزك" [15].

ما هي عيون المياه التي ظهرت إلا المعمودية، إذ يقول إشعياء النبي: "فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" (12: 3). مياه المعمودية تبعث بهجة وفرحًا في قلوب المؤمنين وهلاكًا لعدو الخير وكل أعماله الشريرة.

في مياه المعمودية صوت الرب يرعد، فينتزع من عدو الخير مملكته فينا، ويملك هو في قلوبنا أبديًا.

أما أساسات المسكونة، أي التلاميذ، فيتكئون على السيد المسيح حجر الزاوية الذي رفضه البناؤون في البداية، وعلقوه على خشبة، فصار ذلك خلاصًا لكنيسة الله وبنيانًا لها على مستوى سماوي.

يرى بعض المفسرين أن هذا العدد [13] فيه تلميح لمعجزة البحر الأحمر الذي انشق فظهرت أعماق المياه وانكشفت أساسات المسكونة! وكأن المرتل يقول إن الله يخلصه بطريقة مؤكدة وبوضوح كما سبق وصنع مع شعبه عند هروبهم من وجه فرعون وجنوده. ويرى آخرون أن المرتل يحسب نفسه كمن هو مدفون في أعماق المياه كما في (مز 144: 7)، حيث يصلي، قائلاً: "انقذني ونجني من المياه الكثيرة، ومن أيدي بني الغرباء". لهذا يكمل المرتل في المزمور الذي بين أيدينا:

"أرسل من العلاء فأخذني،

وانتشلني من مياه كثيرة،

ينجيني من أعدائي الأقوياء،

ومن أيدي الذين يبغضونني" [16-17].

إن كانت أمواج العالم وتياراته كادت أن تبتلعني، فقد نزل من السماء ليأخذني فيه ويحملني إلى سمواته؛ يحطم بصليبه أبواب الجحيم، وينجيني من الموت ومن كل قوات الظلمة الذين يبغضون نفسي ويطلبون هلاكها أبديًا. إن كان الشيطان وكل جنوده أقوياء، لكنه يوجد من يخلصني من أيديهم، ويصعد نفسي معه.

يرى المرتل نفسه وقد هاج الأعداء الأقوياء ضده، فصار كمن هو في مياه كثيرة؛ في عجزه البشري لم يكن ممكنًا أن يخلص، لكن الله وهبه النصرة على جليات الجبار، ثم على شاول وأقربائه ورجاله، ثم على الفلسطينيين والسوريين وشعوب أخرى، وأخيرًا على ابنه المتمرد أبشالوم؛ هذا كله كان رمزًا لما عانته نفس داود حين أدركت أن أبواب الجحيم تُطبق عليها بواسطة الأعداء الحقيقيين مثل الشيطان وجنوده والخطايا والحكم عليه بالموت الأبدي... الأمر الذي لا يقدر أن يخلصه منه إلا السيد المسيح غالب الموت، ومخرج النفوس من الجحيم إلى حرية الفردوس.

3. عطية المجد:

"وكان الرب سندي، وأخرجني إلى السعة (الرحب)،

ينجيني لأنه أرادني (سُرّ بي)" [19].

يعلن الله عن حبه للإنسان ورغبته في اقتنائه خلال تدخله الإلهي وقت الضيق. فقد سمح ليوسف أن يعيش إلى حين كعبد في بيت فوطيفار بل وكنزيل في بيت السجن، وكان الرب سنده أعطاه نعمة في أعين كل من هم حوله، حتى في عينيّ رئيس السجن... لقد أخرجه الله ليعيش في القصر في السعة هو ووالديه وإخوته. الله هو سنده لأنه "أراده" أو "سُرّ به"، أن يكون رمزًا للسيد المسيح. هكذا كان داود في مغارة عدلام هاربًا من وجه الطاغية شاول ورجاله ليرتقي به إلى العرش؛ لقد أراده الرب وسُرّ به. ما أمتع السعة بعد الضيق، لا لأجل السعة في ذاتها ولكن لأجل بصمات حب الله ورعايته الفائقة لنا. فإن للرب الذي يُسر بأولاده هدفه الخاص في ضيقهم كما في تمتعهم بالسعة.

مسيحنا يدخل بنا إلى شركة آلامه لكي يعبر بنا إلى سعة القيامة ورحبها. إنه يعبر بنا من ضيق الجحيم إلى سعة الفردوس. وفي حبه يخلصنا من ضيق قلوبنا المتقوقع حول الأنا لينفتح بسعة على الله وعلى السمائيين وكل بني البشر في حب صادق مقدس.

حكم عليه الأعداء ظلمًا أن يدخل إلى الضيق، لذا يستغيث المرتل بالله، قائلاً:

"يجازيني الرب مثل بري،

مثل طهارة يدي يكافئني

لأني حفظت طُرق الرب،

ولم أنافق على إلهي.

لأن جميع أحكامه قدامي،

وحقوقه لم أبعدها عني.

وأكون معه بلا عيب،

واتحفظ من إثمي" [20-23].

ماذا يعني داود ببره، وطهارة يده، وحفظه طرق الرب وأن يكون مع الرب بلا عيب، متحظًا من إثمه؟ اتهمه أعداؤه بالتمرد والخيانة والنهب والسلب والتحريض على الفتنة والعصيان والوحشية وأعمال أخرى كثيرة شائنة. وها هو داود يعلن براءته من كل هذه الاتهامات. لقد وضعه الرب في طريق الارتقاء على العرش ومع ذلك ترك قضيته في يد الله دون إتخاذ أي إجراء شرير ليحقق ذلك[362].

v   أية طهارة هذه التي في عيني (الله

إنه يطالبنا بالقداسة التي يمكن لعيني الله أن تنظرها[363].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذه الكلمات هي أيضًا نبوة مسيانية، لأن السيد المسيح هو ابن  الإنسان الوحيد في كماله (الإله المتأنس)، الذي أطاع الآب حتى الموت؛ هذه الطاعة حتى الموت دفعته إلى المجد. "لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل إسم" (في 2: 9).

يبقى الله أمينًا بطبيعته بكونه "الحب"، هذه الأمانة تعمل بطرق مختلفة حسب تجاوب الإنسان معه. فالصالح يمكنه أن يوقن بمحبة الله له خلال حبه هو لله. فتتحقق وعود الله في حياة هؤلاء الذين ينتمون إلى زمرة الصالحين. ومن ناحية أخرى، فإن الذين يسيئون استخدام وصايا العهد الإلهي ويعصونها يبدو لهم الله كأنه مضاد لهم. يرونه هكذا ضدًا لهم، لأنه إذ يواجههم كعصاة يحقق حكمه وينفذه.

"مع البار بارًا تكون،

ومع الرجل الزكي تكون زكيًا.

ومع المختار تكون مختارًا،

ومع المعوج تتعوج" [25-26].

الله في محبته يريد أن جميع الناس يخلصون، لكن لا يعطي الكل لأنفسهم الفرصة لإدراك نعمته. الرحوم يَنعم برحمة الله، والحنون يتمتع بحنانه الإلهي، والكريم يختبر كرم الله، أما الذي يُصرّ على أن يكون قاسيًا فيُترك لتصرفاته، ويحرم نفسه من لطف الله، وهكذا يبدو الله بالنسبة له كأنه قاسي وغير رحيم... جاء في (لا 26: 21) "وإن سلكتم معي بالخلاف ولم تشاءوا أن تسمعوا لي أزيد عليكم ضربات سبعة أضعاف حسب خطاياكم".

هكذا الرحوم يتجاوب مع مراحم الله ليتفهمها ويَتنعم بها، والإنسان المقدس يتفهم قداسة الله، مصدر كل قداسة، فيدركه كقدوس.

v   "مع القديس تكون قدوسًا"...

بالحق الله لا يضر أحدًا، إنما يُمسك كل شرير بحبال خطيته (أم 5: 22).

القديس أغسطينوس

إن كان الرحوم يتعرف على رحمة الله ويتجاوب معها، هكذا حتى في علاقتنا مع بعضنا البعض، فأننا نتفاعل معًا... الملتصق بالرحماء ينعم بالحياة الرحيمة، والملتصق بالقديسين ينعم معهم بالقداسة التي هي عطية الله لهم. لذلك يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [ينبغي علينا أن نلتصق بالقديسين [25-26]، لأن من يلتصق بهم يتقدس[364]].

وكأن سرّ مجدنا هو التجاوب مع الله وقديسيه خلال الحياة الرحيمة الطاهرة؛ وذلك بروح الاتضاع والخضوع لعمل نعمته الإلهية.

"لأنك أنت يارب تنجي شعبًا متواضعًا،

وتذل عيون المتعظمين" [27].

ما ورد في العددين 25، 26 يخصان معاملات الله مع الأفراد، الآن يطبق ذات المبدأ على مستوى شعب الله ككل؛ فإنهم إذ يخضعون معًا بروح الاتضاع لإرادة الله يختبرون الله كمعين لهم، أما الذين يتكبرون في عجب باطل فيضعهم الله[365]؛ لأن طبيعة الله وخطته هي أن يمنح الخلاص للمعوزين والودعاء والمتضعين، بينما يكره الله الكبرياء في أي كائن!

بالاتضاع يتقبل المؤمن نعمة الله واهبة الاستنارة:

"لأنك أنت تنير سراجي،

إلهي يضيء ظلمتي" [28].

يفيض قلب المرتل بالشكر والثقة معترفًا أن الله يضيء سراجه، بمعنى أن الله يهبه الحياة الحقة، إذ لا انفصال بين الاستنارة والحياة، فعندما تعرض داود في أواخر أيامه للقتل أشار عليه رجاله ألا يعود يخرج إلى الحرب حتى لا ينطفئ سراج إسرائيل (2 صم 22: 17).

أدرك المرتل أنه ليس إلا سراجًا لا يستطيع أن يضيء بذاته إنما يحتاج إلى زيت النعمة الإلهية، يحتاج إلى السيد المسيح "نور العالم" أن يعلن ذاته فيه نورًا يبدد كل ظلمة قاتلة، منعمًا عليه بحيوية جديدة. وكأنه مع كل ظلمة آلام يصرخ إلى مخلصه لتفسح له الآلام الطريق لبهجة متجددة وتذوُّق جديد لحياة الاتحاد مع الله تحثه على ممارسة أعمال صالحة أكثر[366].

v   "لأنك أنت تنير سراجي". ضياؤنا لا يصدر عن أنفسنا، بل أنت يارب الذي تنير سراجي.

"إلهي يضيء ظلمتي". إننا في ظلمة الخطية؛ ولكن آه يارب، أنت تضيء ظلمتي.

القديس أغسطينوس

v   مصباحًا واحدًا أنظر، وبنوره أستضيء، والآن أنا في ذهول، أبتهج روحيًا، إذ في داخلي ينبوع الحياة، ذاك الذي هو غاية العالم غير المحسوس.

v   إحمل نير ربك بقلبك، وعجب عظمته في عقلك دائمًا، فتسكب فيك نور ربك الوهج الذي يضيء قلبك.

القديس يوحنا سابا "الشيخ الروحاني"

v   أيها النور الحقيقي، الذي تمتع به طوبيا عند تعليمه ابنه، مع أنه كان أعمى!

أيها النور، الذي جعل اسحق - فاقد البصر - يعلن لابنه عن مستقبله!

أيها النور غير المنظور، يا من ترى أعماق القلب البشري!

أنت هو النور، الذي أنا عقل يعقوب، فكشف لأولاده عن الأمور المختلفة!...

أنت هو الكلمة القائل: "ليكن نور"، فكان نور. قل هذه العبارة الآن أيضًا، حتى تستنير عيناي بالنور الحقيقي، وأميّزه عن غيره من النور...

نعم، خارج ضياءك، تهرب الحقيقة مني، ويقترب الخطأ إليّ. يملأني الزهو، وتهرب الحقيقة مني!

القديس أغسطينوس

إذ يضيء الرب النفس - أرض المعركة الروحية - لا يقوى عدو الخير بكونه مصدر الظلمة الداخلية أن يقف أمامه، إذ يقول المرتل:

"لأني بك أنجو من البلوى (التجربة).

وبإلهي أثب السور" [29].

وبحسب النص العبري: "لأني بك اقتحمت جيشًا، وبإلهي تسوَّرت أسوارًا". المؤمن ضعيف جدًا بذاته، لكنه يتسلق الأسوار بل ويثب عليها؛ هذه الأسوار يضعها العدو كعوائق ضد ثقته بالله. بالله يجتاز المرتل كل تجربة وكل ضيقة بنصرات متجددة، محطمًا مدن العدو الحصينة.

v   ليس بقوتي الشخصية لكن بقوتك أنت وحدك أتغلب على التجربة...

بمعونة الله وليس بقدرتي أقفز (أو أثب) على السور الذي أقامته الخطية بين الإنسان وأورشليم السماوية.

القديس أغسطينوس

v   مكتوب: "بإلهي أثب السور"، سور الشر الذي يفرق الإخوة ويثير الانقسامات بينهم، ويحيد بهم عن الحق[367].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   لقد عرف (المرتل) أن قوة المؤمنين تكمن في تقديم الشكر لله، إذ بفرحهم يقفزون فوق أسوار الأعداء، وذلك مثل القديسين القائلين: "... بإلهي أثب السور"[368].

البابا أثناسيوس الرسولي

إلهنا هو يضيء حياتنا، ويرفعنا فوق كل تجربة فلا نتحطم، ويثب بنا فوق كل الحواجز... طريقه طريق ضيِّق وصعب لكنه عذب ومملوء أمانًا، لذا يقول المرتل:

"إلهي طريقه نقية،

كلام الرب مُختبر بالنار،

وهو ناصر جميع المتكلين عليه" [30].

طريق الرب الضيق نقي، من يدخله يدرك كمال الطريق من جهة الحب والرحمة والعدالة والقداسة والصلاح والأمان والضمان والنجاح. علينا أن نبدأ الطريق الإلهي وننتظر لنرى نهايته. الله في معاملاته مع شعبه كجماعة كما مع كل عضو منها بعيدة كل البعد عن الخطأ إذ هو أمين في عهده، وقادر على تحقيق وعوده في اللحظات الحاسمة، واهب النصرة الأكيدة للمتكلين عليه.

v   عندما يتخلى إنسان عن إرادته الذاتية يتطلع في الحال إلى طريق الله بكونها بلا عيب، ليس فيها عوائق، أما إذا اعتدّ الإنسان بإرادته الذاتية فأنه لا يرى طريق الرب بلا عيب أو بدون عوائق[369].

الأب دوروثيؤس من غزة

v   "هو ناصر جميع المتكلين عليه". كل من يتكل على المسيح لا على الأنا، يجتاز التجربة بسلام، لأن الإيمان يوّلد رجاءً.                          

القديس أغسطينوس

<<

 


 

الجزء الثاني: نعمة الملوكية

1. الاعداد لنعمة الملوكية:

يبدأ الجزء الثاني من المزمور باعلان يترنّم به مجموعة من المرتلين في العبادة الجماعية، يسبحون به الله في شكل سؤال بلاغي: "لأن مَن إله غير الرب؟! أو من هو إله سوى إلهنا؟!" [31]. هنا يقارن المرتل بين الله "يهوه" والآلهة الأخرى التي يتعبد لها الأمم، ممجدًا سموه العالي.

في الأعداد [32-36] أُعد داود لاعتلاء مركزه، حيث ينال نعمة الملوكية.

الله هو المعلم والمدافع عن البطل الملك داود؛ إذ يمنحه قوة لا تُقهر، وسرعة حركة فيطأ المرتفعات بخطوات واسعة في ثقة بإلهه (تث 33: 29؛عا 4: 13؛ ميخا 1: 3). الله هو الذي يدرب الملك فيحسن استخدام الأسلحة، يهبه الحماية بالترس الإلهي، فلا تخور قوته، يعضده بقدرته الإلهية "يمينه". غير أن تمتع المرتل بنعمة الملوكية وقوة النصرة لا تدفعه إلى الكبرياء والاعتداد بذاته، إذ هو يعلم ضعف بشريته.

لله الذي يمنطقني بالقوة

وجعل طريقي بلا عيب" [32].

إذ يقيم الله الإنسان ملكًا روحيًا يمنطق حقويه بالقوة، فيمتلئ حيوية وحقًا وقداسة! يسير في طريق الله الملوكي الذي بلا عيب كأنه طريقه هو، يحمل قوة الله عاملة فيه وأيضًا بره وقداسته. بهذا ينطلق إلى أرض المعركة بلا خوف، لأنه ليس للعدو - إبليس - موضع في قلبه. الخطية التى نزعت عن الإنسان كرامة الملوكية وسلطانها يحطمها الله المخلص ليرد إليه نعمة الملوكية الكاملة والغالبة.

"ويثبت رجليّ كالإيل،

ويقيمني على أعاليه" [32].

الإيل أو أنثى الظبي مدهشة في حركتها ورشاقتها، تستطيع أن تقفز إلى مسافات كبيرة، وتجري بسرعة عظيمة، ورغم خجلها بطبيعتها لكن عند إثارتها للمباراة تصير مقاتلاً مدهشاً يقاتل بالقائمتين. الاشارة هنا إلى سرعة هذا الحيوان يستخدمها داود النبي ليس فقط ليعلن عما وهبه الله من سرعة الحركة فلا يكون في متناول يد أعدائه، وإنما ليشير

أيضًا إلى هجومه على العدو الشرير[370].

نلاحظ هنا في نعمة الملوكية لا يقف الإنسان مدافعًا ضد العدو وإنما أيضًا يهاجمه، لأنه جندي صالح لحساب ملكوت الله. "يكون الهجوم بالحب والصلاة الدائمة ضد الشر لا ضد نفوس الخطاة". وقد عبّر المرتل عن الصلاة الهجومية والحب الغالب بقوله: "بإلهي أثب السور" [29]؛ أي يقفز بالحب والصلاة إلى مدينة العدو ليحطم الشر وينقذ النفوس الأسيرة.

خلال نعمة الملوكية يتحرك المؤمن كالإيل بسرعة فائقة في محبة المسيح وفي الشهادة له وفي ممارسة كل فضيلة خاصة حب الآخرين، ومع نهاية كل حركة يقيمه الله على مرتفعاته (أعاليه) فلا يلحق به إبليس ولا يمسه شر!

v   "ويثبت رجليّ كالإيل". جعل حبي كاملاً فأستطيع القفز فوق أشراك هذا العالم الشائكة الشريرة. "ويقيمني على أعاليه"، أي يركز نظراتي على المسكن السماوي حتى أبلغ إلى ملء الله (أف 3: 19).

القديس أغسطينوس

مع كل حركة حب وجهاد في الرب يرفعني بتعزياته الإلهية كما إلى جبله المقدس ليعلن لي بهاء مجده داخلي، فأعود من جديد لأدخل في معركة جديدة روحية، لا ضد لحم ودم بل ضد أجناد الشر الروحية في السمويات (أف 6: 12)، لذا يكمل المرتل: قائلاً:

"الذي يُعلّم يديَّ القتال،

وجعل ساعديَّ أقواسًا من نحاس.

ومنحني نصرة خلاصي،

ويمينك عضدَّتني" [34-35].

v   يعلمني الله أن أكون ماهرًا في القتال ضد المقاومين (الشياطين) الذين يهدفون إلى إقامة حاجز يحجبني عن ملكوت السموات.

القديس أغسطينوس

إنها سلسلة لا تنقطع من الحروب، يتبعها نصرات متتالية، وتمتع متجدد بقوة الله الغالبة بنا وفينا. يقول الرسول: "إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية، بل قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2 كو 10: 3-5). ويقول المرتل: "يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات، وأنت لا يقتربون إليك" (مز 91: 7).

2. استسلام الأعداء:

مع كل خبرة جديدة يتشدد قلب المؤمن ليجاهد خلال نعمة الملوكية حتى المنتهى، قائلاً:

"أوسعت خطواتي تحتي

وعقباي لم يضعفا.

أطرد أعدائي فأدركهم،

ولا أرجع حتى يفنوا" [36-37].

v   إذ أتقوى بقوتك لذلك أنطق بالكلمات التالية بجسارة: "أطرد أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى يفنوا"[371].

القديس يوحنا كاسيان

توسيع الخطوات أو مكان الوقوف يعطي ثباتًا وشجاعة لا يمكن أن يهزهما شيء ما.

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن القديس بولس يشبه داود النبي في قتاله ضد عدوه، فكان يجري بسرعة من أمامه. [هكذا كان بولس مقاتلاً سريع الحركة ورشيقًا، وكان داود يوسّع خطواته أثناء تعقبه عدوه، وأيضًا العريس في سفر النشيد يشبه الظبي يقفز بسرعة على الجبال، طافرًا على التلال (نش 2: 8-9)[372]].

ظن العمالقة أنهم غلبوا وانتصروا إذ هربوا بالأسرى والغنيمة بعدما أحرقوا صقلع بالنار، لكن داود النبي استشار الرب وانطلق يتقبهم حتى أدركهم وكسرهم واسترد كل ما أخذوه (1 صم 30). وهكذا إذ نسلك حسب مشورة الله ونستند على نعمته الغنية تهرب الخطايا وتذوب قلوب الشياطين من أمامنا، نلحق بهم ونسترد كل ما قد فقدناه!

بقوله: "لا أرجع حتى يفنوا" يعلن المرتل أنه لم يقف عند نواله نصرة ما أو حتى سلسلة نصرات، إنما يجاهد حتى يبلغ كمال النصرة، حتى يتدمر العدو تمامًا... الأمر الذي لم يتحقق بداود – بصورة كاملة - وإنما بالسيد المسيح ابن داود، الذي غلب مملكة الظلمة، واهبًا هذه النصرة لمؤمنيه، حتى بصليبه لا يُترك في قلوبهم أو أفكارهم أو كلماتهم أو أعمالهم أثرًا للخطية، فيترنم كل واحد منهم قائلاً: "أطرد أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى يفنوا" وكما يقول القديس بولس: "إله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20).

v   لا تكف عن ملاحقتي حتى يفنى شري، وأعود إلى رجُلي الأول، الذي يعطيني صوفي وكتاني، زيتي ودقيقي، ويقوتني بأغنى الأطعمة. إنه هو الذي سيَّج حولي، وأغلق عليّ طرقي الشريرة، حتى أجده بكونه الطريق الحقيقي، القائل في الإنجيل: "أنا هو الطريق والحق والحياة"[373].

القديس جيروم

v   ليس المصارعون وحدهم هم الذين أحيانًا يلقون آخرين أرضًا وأحيانًا يسقطون هم بدورهم، فإن الشياطين أيضًا تصارع ضدنا، أحيانًا تلقينا إلى أسفل وأخرى نلقيهم نحن إلى أسفل. يقول المرتل: "أضيّق عليهم (أسحقهم) فلا يستطيعون الوقوف" [38]، وأيضًا: "عندما يقترب مني الأشرار ليأكلوا لحمي، الذين يضايقونني وأعدائي هم ضعفوا وسقطوا"[374].

القديس أوغريس من بنطس

v   إذا صليت ضد آلامك (شهواتك الشريرة) والشياطين التي تهاجمك، تتذكر ذاك الإنسان القائل: "أطرد أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى يسقط جميعهم. أسحقهم فلا يستطيعون الوقوف، يسقطون تحت قدميَّ إلخ..." تقول هذا في الحظة الحاسمة التي فيها تتسلح ضد خصمك بالاتضاع[375].

القديس أوغريس من بنطس

v   "أذريهم كالهباء أمام وجه الريح" [42]. أحوّلهم إلى غبار، لأنهم رفضوا اغداق نعمة الله عليهم. إنهم مختالون بأنفسهم ومتعجرفون بكبريائهم، فحُرموا من صلابة الرجاء الذي لا يتزعزع، صاروا كغبار يُدفع بعيدًا عن الأرض الصلبة الثابتة.

القديس أغسطينوس

هكذا بعدما أعلن المرتل أن الله هو سرّ قوته ونصرته، فلا يهرب من ساحة القتال بل يهاجم الخطايا ويبث الحرب على الشياطين، يحطم أسوارهم الواهية، ويبدد طاقتهم، ويقتفي آثارهم حتى يهلكهم تمامًا... الآن يكشف عن ضعف العدو المعتدّ بذاته ومتعجرف حتى على الله نفسه.

يصور المرتل حال العدو هكذا:

أ. إنهم هاربون أمامه في غاية الضعف: "يجعل الرب أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك، في طريق واحدة يخرجون عليك، وفي سبع طرق يهربون أمامك" (تث 28: 7).

ب. يسقطون واحد وراء الآخر حتى يفنى الكل [38]، ويستأصلهم الرب [41].

ج. يصيرن في مذلة تحت قدميه.

د. يصرخون وليس من يخلص أو يستجيب [42].

هـ. يصيرون كالهباء ليس لهم قيمة ولا موضع استقرار، يود الكل أن يتخلص منهم؛ ومثل طين الشوارع يدوسهم المرتل [42]. بينما يصير المؤمن كالجبل العالي المستقر المرتفع نحو السماويات يصير العدو كطين الشوارع تحت الأقدام!

3. رئاسة على الأمم:

"نجني من مقاومات الشعب،

وتقيمني رأسًا على الأمم.

الشعب الذي لم أعرفه تعبدّ لي.

وبسمع الآذان أطاعني.

أبناء الغرباء كذبوني.

أبناء الغرباء تعتقوا وتعرجوا من سبلهم" [ 43-45].

لا يمكن أن تتحقق هذه الكلمات بالكامل إلا في شخص ربنا يسوع المسيح، ابن  داود، الذي نزل إلى عالمنا، وصار ملكًا على جميع المؤمنين القادمين من الأمم؛ هو ملك الملوك (رؤ 17: 14). الشعب المذكور هنا هو كنيسة العهد الجديد، أما أبناء الغرباء فهم اليهود الذين صاروا غرباء. لقد أراد السيد المسيح أن يجددهم خلال العهد الجديد، لكنهم تمسكوا بالإنسان العتيق (تعتقوا) (يو 8: 34-59). لهذا لا يدعون بعد شعب الله ولا أمة مقدسة بل حكام سدوم وشعب عمورة، بل فاقوا بهذا إثم سدوم، لذلك قيل: "سدوم مبررة أمامي" (حز 16: 48؛ مرا 4: 6).

v   "وبسمع الآذان أطاعني"؛ لم تراني أعينهم قط، لكنهم بقبولهم الكارزين بي أطاعوا أول نداء لصوتي.

القديس أغسطينوس

v   "أبناء الغرباء تعتقوا". أبناء لا يستحقون أن ينسبوا لي، بل هم غرباء وبحق دعوا هكذا... صار هؤلاء البنون غرباء، هؤلاء الذين أردت أن أجدد شبابهم حسب تدبير العهد الجديد، لكنهم لبثوا في إنسانهم العتيق. إنهم "تعرجوا من سبلهم". يزحفون بقدم واحد (كعرج) مكتفين بالعهد القديم، رافضين العهد الجديد بشدة، فصاروا عُرجًا. حتى في اتباعهم الناموس القديم فضَّلوا تقليداتهم الخاصة بهم عن تقليدات الله؛ حسبوا عدم غسل الأيدي جريمة، وما إلى ذلك من طرق سلكوها، متجاهلين طريق وصايا الله.

القديس أغسطينوس

v   حقًا إنه لأمر يدعونا للعجب، كيف أن الذين نشأوا على (معرفة) الكتب النبوية، الذين كانوا يسمعون موسى كل يوم يخبرهم عشرة آلاف أمرًا يخص مجيء المسيح، ثم جاء الأنبياء الآخرون من بعده، وقد عاينوا المسيح نفسه يصنع المعجزات كل يوم في وسطهم، مكرسًا كل وقته لهم وحدهم، ولم يكن قد سمح بعد لتلاميذه أن يسلكوا في طريق الكرازة للأمم، أو الدخول إلى مدينة السامريين، كما لم يفعل هو ذلك، معلنًا في كل موضع أنه قد أُرسل إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (مت 10: 5)... (أقول) كيف أنهم بالرغم من رؤيتهم للعلامات وسماعهم للأنبياء وكيف كان يذكّرهم المسيح بنفسه باستمرار، مع ذلك صيَّروا أنفسهم عميانًا وأغبياءً تمامًا فإن كل هذه الأمور لم تأتِ بهم إلى الإيمان بالمسيح (مت 15: 24). أما الأمم الذين لم يتمتعوا بشيء من هذه الأمور، إذ لم يسمعوا صوت الوحي الإلهي قط، أو كما يقول قائل، ولا حتى في حلم، بل كانوا دومًا مبلين بشعرائهم الأغبياء، مستعبدين للأصنام والحجارة، ولم يقتنوا شيئًا ذات معنى أو صالحًا لا في عقائدهم ولا في أحاديثهم... وبالرغم من سقوطهم كما إلى أعماق الشر، فجأة كما لو كان بقوة آلية ظهروا أمامنا مضيئين من العلاء، ومن أعلى قمة السماء؟![376].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   قدم الأنبياء الاعلان؛ لكن ما هو هذا "الشعب" الذي كان يجهل الله، إلا شعبنا الذي لم يعرف الله في الماضي؟ والشعب الذي انتبه إلى الله عندما سمع عنه بالآذن، فتحولنا إليه بعدما هجرنا الأوثان؟[377].

العلامة ترتليان

هكذا دُعي اليهود للتمتع بالبنوة لله لكن الذين جحدوا المسيح ورفضو النبوات صاروا أبناء الشيطان... وكما يقول القديس إيريناؤس: [الذين لا يؤمنون ولا يطيعون إرادة الله هم أبناء الشيطان وملائكته، إذ يصنعون أعماله. هذا هو الحال كما أعلن الله في إشعياء: "ربيت بنين ونشأتهم؛ أما هم فعصوا عليّ" (إش 1: 2). مرة أخرى يقول إن هؤلاء البنين صاروا بني الغرباء يكذبون عليّ [45]. فبحسب الطبيعة هم أبناء، إذ هكذا خُلقوا، لكن حسب أعمالهم لم يعودوا أبناء له[378]].

4. حمد وشكر:

تقدم الحرب الروحية خبرات جديدة للنصرة بالرب، تدفع القلب كله إلى حياة التهليل. وكأن تسبيح الرب والتهليل إنما يتحقق خلال الحرب الروحية، فيقول المؤمن المجاهد مع المرتل:

"حيّ هو الرب، ومبارك هو إلهي،

ويتعالى إله خلاصي...

من أجل هذا اعترف لك يارب في الأمم.

وأُرتل لاسمك يا معظم خلاص ملكه.

وصانع الرحمة بمسيحه، داود وزرعه إلى الأبد" [46-50].

هكذا يسبح داود النبي الله الذي وهبه نعمة الملوكية، وسنده بنصرات متوالية. إنه يمجد الله ويرتل لاسمه، مخبرًا بأعماله العجيبة الكريمة، التي رفعته ليعتلي العرش.

هنا يعترف داود كملك أنه "ملك لله"، على خلاف شاول الذي رفضه الله.

ليتنا نتهلل بالله واهبنا نعمة الملوكية، هذا الذي مسحنا بروحه القدوس لنصير ملوكه هو!

 

 

نعمة الملوكية

v   أشكرك يا مخلصي يسوع، يا ملك الملوك.

لقد هاج الأعداء عليّ حتى الموت، أما أنت فوهبتني الحياة والغلبة!

توَّجتني بالمجد والكرامة، واهبًا إياي نعمة الملوكية،

أقمتني ملكًا، وأعطيتني سلطانًا، فلا أعيش بعد أسيرًا في مذلة العبيد!

v   كن ناصري، بك أتبع العدو إبليس وكل أعماله الشريرة حتى أدركهم وبك أفنيهم!

هب لي قوة من لدنك، فأهاجم العدو وأثب على أسواره لأحطمه!

v   مع كل معركة هب لي نصرة تدخل بي إلى التهليل!

لأسبحك كل أيام حياتي وأشهد لك أمام الكل.

v   أجتذبُ الغرباء إليك، فيصيروا معي أهل بيت الله!

<<

 

 

 

 


 

المزمور التاسع عشر

الله يعلن عن ذاته

مناسبة كتابية:

ربما كان داود يتأمل جمال السموات وقت السحر حين أُلهم بكتابة هذا المزمور.

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور يحوي تسبحتين منفصلتين[379] [1-6؛ 7-14]، بينما يؤكد آخرون وحدة المزمور. فهو يظهر أن الله يعلن عن نفسه بإصدار ثلاثة كتب لتثقيف ابن ائه، هي: الخليقة، والكتاب المقدس، والخبرة اليومية أو معاملات الله معنا كل يوم.

تعلن الخليقة عن قدرة الله ومجده، أما كلمته فتعرفنا حب الله الخلاصي من أجل تقديسنا، أي تعلن عن قداسته. ومن خلال خبرتنا اليومية نكتشف العلاقة الشخصية بين الله وكل عضو من أعضاء الكنيسة، التي تتحقق خلال نعمته الإلهية.

هذا المزمور هو تسبحة حمد لإله الكون "الوهيم" [1-6]، الذي يُظهر صدى كلمته السرية وبهاء لاهوته في السماء والأرض. يمجد المزمور الرب "يهوه" الذي له علاقة فريدة بشعبه تحيي كل جانب من جوانب وجودهم وتُضفي عليهم بالبهاء، بكونهم كنيسته الواحدة [7-11] وكأعضاء فيها [12-14].

يقول Stuhlmueller:

[يحمل مزمور 19 تفاؤلاً روحيًا واتجاهًا مسكونيًا قويًا.

1. يتضمن تقديرًا خاصًا للكون في كليته؛ عالمنا يتخلله مجد الله!

2. يجب ألا يفسر سرّ الكون ولا يطبق فقط على حياتنا اليومية خلال القوانين الطبيعية، إذ يلزم ألا يضيع سرّه أو يتلاشى في موكب الحياة. فالمزمور يطلب منا أن نحفظ سرّ الإيمان في كل تعاليمنا وتفسيرنا للكون.

3. يجب أن يوجد صدى (أو تفاعل) بين ليتورجية الكون وليتورجية الهيكل (كأن الطبيعة في شهادتها لعمل الله لا تنفصل عن عبادتنا في الكنيسة).

4. الخطية ليست دائمًا هي ثمرة الإرادة الشريرة، لكنها قد تلقى بظلالها حتى على المثاليات والصلاح في ضمير الإنسان المرهف الحس[380]].

الإطار العام:

1. إعلان الخليقة            [1-6].

2. إعلان الكتاب المقدس    [7-11].

3. إعلان الحياة اليومية     [12-14].

1. إعلان الله في الخليقة:

تحمل خلقة الله العجيبة شهادة له كخالق. يقول القديس بولس: "لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" (رو 1: 20). الخلقة هي الشاهد الأول لله عند البشر، خليقته، بكونها لغة يفهمها الطفل ويستمتع بها الفيلسوف والعالم. لا توجد قطعة شعرية تحمل دلائل ضد الإلحاد أروع وأفضل مما ورد في هذا المزمور. في عودة نابليون من مصر خلال البحر الأبيض المتوسط سمع أحد ضباطه يتفوه بصراحة بكلمات إلحادية، عندئذ أشار نابليون إلى النجوم، وقال: "من صنع هذه؟" ولم يكن للإلحاد إجابة[381].

أعمال الله في الخليقة تشهد لله ليس بكونه القدير وكلي الحكمة فحسب بل بكونه الآب الذي يهتم بالكبائر والصغائر.

قيل إن إلهنا قد أصدر كتابين: كتاب الخليقة فيه نقرأ عن قدرة الخالق ولاهوته؛ والكتاب المقدس الذي يعرفنا إرادة الله[382].

كانت الخطورة الكبرى في العصور الأولى أن يؤلّه الإنسان في ضعفه قوى الطبيعة التي لم يعرف كيف يتحكم فيها؛ أما اليوم إذ يظن الإنسان أنه قادر على ذلك يؤلّه نفسه؛ أما المرتل فقد أدرك بوضوح قوة الله وحكمته في الطبيعة[383].

الأعداد [1-6] هي "مزمور الطبيعة"، يشبه المزمور 8، مع تركيز أعظم على إظهار إبداع الله، متأملاً في شيء من الرهبة جلال الله المعلن في الخليقة. انعكاس فكر كاتب المزمور 8 يكمن بالأكثر في لبعلاقة بين الخالق وخليقته، أما موضوع المزمور (19: 1-6) فقد ركز بالأكثر على إعلان الله في الخليقة. كل الخليقة هي في خدمة الله، واجبها أن تتغنى بحمد الله وأن تكون أداة للاعلان عنه. السموات والجَلَد والنهار والليل كلها شهود وُهبت القدرة على الحديث عن الجلال الإلهي وعظمة عمل الخالق. فالسيد يُعرف خلال عمله[384].

v أعطى الله بواسطة كلمته، للكون ترتيبه وتدبيره، حتى يمكن للبشر أن يتعرفوا عليه بطريقة ما خلال أعماله ما دام هو بطبعه غير منظور. غالبًا ما يُعرف الفنان بأعماله حتى وإن لم يره الشخص[385].

البابا أثناسيوس الرسولي

v ربما تصمت السموات، لكن التطلع إليها يصدر صوتًا أعلى من صوت البوق، يثقفنا لا بسماع الأذن وإنما باستخدام العين، فإن الأخيرة (تقدم معلومات) أكثر تأكيدًا ودقة من الأولى[386].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لا يذكر "الله" في هذا القسم [1-6] إلا مرة واحدة. وقد استخدم إسم "إل EL"، أي القدير، بكونه إسم الله كخالق. أما في الأقسام التالية للمزمور حيث يعلن الله عن ذاته خلال كلمته وخبرتنا اليومية، فيستخدم إسم "يهوه"، الاسم الخاص به كإله يقيم عهدًا. وقد رفض Gaebelein النظريات القائلة بوجود كتَّاب لأسفار موسى الخمسة استخدموا لقب الله "الوهيم" وآخرين استخدموا "يهوه"، وكأنه على الأقل يوجد كتابين لكل سفر أو مصدرين مختلفين للسفر الواحد مصدر الوهيمي والآخر Jehovish، الأمر الذي أثاره النقاد لمحاولة إنكار أن كاتب هذه الأسفار هو موسى النبي. يقول Gaebelein: [في الأصحاح الأول من الكتاب المقدس الذي يحتوي على بيان تاريخي للخليقة، جاء اسم الله "الوهيم" جمع "إل"، بينما في الأصحاح الثاني حيث يُرى الله مع الإنسان - خليقته - أُضيف استخدام "يهوه"[387]].

"السموات تذيع مجد الله" [1]. السموات هي الكتاب الذي يمكن للعالم كله أن يستقي منه معرفته بالله. يكشف علم الفلك عن بعض عجائب السموات غير المدركة. القليل الذي نعرفه عن ملايين النجوم والمجموعات الشمسية يكشف عن مجد الله، كما يقدم لنا شعورًا بالفرح إذ خلق الله الكون كله لأجلنا. فنحن الخليقة الترابة ننظر إلى فوق نحو السموات، متأملين أعمال الله، ممجدين إياه، لا نعيش كالحيوانات متطلعين بأنظارنا إلى أسفل نحو الرض.

v ألا تسمع السموات وهي تبعث صوتًا خلال الرؤية (أي تتحدث معنا خلال تطلعنا إليها)، بينما ينطق النظام العجيب في كل الأمور بأكثر وضوح من بوقٍ؟

ألا ترى ساعات الليل والنهار مترابطة معًا بلا توقف، النظام البديع للشتاء والربيع وغيرهما من فصول السنة كأمر ثابت أكيد، والتزام البحر حدوده رغم دواماته وأمواجه؟ هكذا ترتبط كل الأمور بنظام مع جمالٍ وإبداع، كارزة بالخالق بصوت عالٍ[388]!

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   التناغم الرائع الذي للسموات يعلن عن الحكمة التي تشع في الخليقة وتبرز عظمة مجد الله من خلال الأمور المنظورة[389].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v إن كانت المخلوقات عظيمة هكذا فكم تكون عظمة الخالق؟ إن كان هكذا جمال الأشياء المصنوعة، كم بالحري يكون جمال المهندس الأعظم صانع الكون؟![390].

ثيؤدورت أسقف قورش

يبدأ هذا المزمور بالسموات؛ ويرى القديس أغسطينوس أن السموات هي البشيريين والرسل الذين يغيرون حياتنا الأرضية إلى حياة سماوية بقوة الروح القدس. الجَلَد الذي يخبر بعمل يدي الله، هو الحياة السماوية التي يتمتع بها المخلَّصون.

السموات هي الكنيسة الحقيقية المقدسة هي التي يسكنها المخلص السماوي. إنها تشترك في التسابيح الملائكية وفي الشركة مع السمائيين. بحياتها السماوية تحمل قوة الشهادة لمخلصها المؤثرة أكثر من أي جدال آخر.

v "السموات تحدث بمجد الله" [1]. الإنجيليون القديسون، الذين يسكن الله في داخلهم كما في السموات يعلنون عن مجد ربنا يسوع المسيح، أو ربما المجد الذي قدمه الابن للآب في حياته على الأرض.

v   السموات هي القديسون، الذين يرفرفون فوق الأرض، حاملين الرب.

v إننا عمله، مخلوقون في المسيح يسوع لأعمال صالحة (أف 2: 10)؛ حقًا خلقنا الله ولم نخلق أنفسنا، ليس بشرًا فحسب وإنما خلقنا أناسًا أبرارًا إن كنا هكذا.

القديس أغسطينوس

يقول إشعياء النبي: "إرفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه؛ من الذي يُخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء، لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يُفقد أحد" (إش 40: 26).

v إن كنت تشك في عناية الله سلْ الأرض والسماء والشمس والقمر. سلْ الكائنات غير العاقلة والزروع... سلْ الصخور والجبال والكثبان الرملية والتلال. سلْ الليل والنهار؛ فإن عناية الله أوضح من الشمس وأشعتها، في كل مكان: في البراري والمدن المسكونة، على الأرض وفي البحار... أينما ذهبت تسمع شهادة ناطقة بهذه العناية الفائقة[391].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v حقًا إن السموات بجمالها وعظمتها وما إلى ذلك تُدهش المتطلع إليها، وتجتاز به إلى العجب بالخالق؛ أما بالنسبة للنهار والليل، هل يمكن لهما أن يقدما لنا ذات الشيء؟ بلا شك، لا يقدما ذات الأمر، لكن ما يقدماه ليس بأقل مما تقدمه السموات، مثل التناسق والنظام الذي يتبعاه بدقة[392].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"يوم إلى يوم يبدي كلمة،

وليل إلى ليل يظهر علمًا" [2].

كل الأيام والليالي هي ينابيع تفيض بمجد الله وتعلن مراحم الله ورعايته المتجددة في حياتنا. تفتح قلوبنا بالحب المتجاوب مع حب الله فنسمع صوته الإلهي إلينا بكلمة خاصة بنا، وينير أذهاننا بالعلم الروحي والمعرفة.

مع كل نهار إذ يشرق شمس البّر ينطق المؤمنون بكلمات جديدة تعكس تجديدهم

المستمر وخبرتهم مع الثالوث القدوس. تصير حياتهم ينبوعًا يفيض مياه حية بلا توقف.

لا يعبر يوم إلا ويُظهر الله شهادة واضحة عن قدرته وحنِّوه. يساهم كل يوم في تقديم برهان جديد على أبّوة الله الحانية لنا.

ونحن من جانبنا نشهد لإلهنا نهارًا وليلاً، أعني في الفرج والضيق. نشكر إلهنا على عطاياه، ونصلي إليه بثقة عندما يحل بنا ضيق. النهار والليل ينطقان معًا في حياتنا، معلنين حب الله.

يمكننا أيضًا القول بإننا نمجد إلهنا نهارًا وليلاً، يكون النهار رمزًا للعمل والليل رمزًا للتأمل في الله... نمجده بجهادنا بنعمته وأيضًا بتأملنا في أسراره؛ وإن كان العمل والتأمل يمثلان حياة واحدة متكاملة.

يرى القديس أغسطينوس أن النهار يشير إلى الروحانيين وأن الليل يشير إلى الجسدانيين؛ بالإيمان الحيّ يتمجد الله في هؤلاء وأولئك...

v   "يوم إلى يوم يبدي الكلمة". يعلن الروح للروحيين عن "حكمة الله" غير المتغير في كماله، وأن الكلمة الذي كان مع الله من البدء هو الله (يو 1: 1).

"وليل إلى ليل يظهر علمًا"؛ هذا الجسد القابل للموت الذي يقدم الإيمان إلى غير الروحيين يصرخ إليهم كما لو كانوا واقفين بعيدًا عن المعرفة التي تتبع الإيمان.

القديس أغسطينوس

"ليس أقوال ولا كلام،

الذي لا تُسمع أصواتهم،

في كل الأرض خرج منطقهم،

وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم" [3-4].

تشهد الكنيسة للإنجيل بحياتها أكثر مما بكلماتها. إذ يسكن كلمة الله في حياتنا الداخلية ينطق للآخرين حتى بصمتنا. بالحياة المقدسة في المسيح نعلن عن الأخبار السارة خلال الصمت كما بالكلمات.

v   كل جنس وكل لسان يسمع إعلانات الليل والنهار. لسان يختلف عن لسان، ولكن الطبيعة واحدة وتقدم ذات الدرس بالنهار كما بالليل[393].

ثيؤدورث أسقف قورش

v   من لم يسمع أصوات الرسل وهم يكرزون بالإيمان بكل لسان؟!

القديس أغسطينوس

v بينما في تلك الأيام كان يُكرز بالناموس من دان إلى بئر سبع، الآن "في كل الأرض خرج منطقهم" (رو 10: 18؛ مز 19: 3)، وعَبَدَ الأمم المسيح، وبه عرفوا الآب[394].

القديس أثناسيوس الإسكندري

v   بلغ صوت الرسل إلى كل الأرض، وبلغت أقوالهم إلى أقاصي العالم[395].

القديس جيروم

v   لقد سُمع عنه في كل أقطار العالم وآمنوا به كما سبق فأظهر النبي، قائلاً: "بلغت أقوالهم إلى أقاصي العالم"[396].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بمن آمنت أمم العالم إلا بالمسيح الذي جاء فعلاً؟!

v مرة أخرى يقول داود في المزامير: "تعالوا إلى الله يا مدن الأمم، وذلك بلا شك لأنه "إلى كل الأرض" بلغت كرازة الرسل. قدموا للرب مجدًا وكرامة، قدموا لله ذبائح لاسمه، خذوا ذبائح وادخلوا إلى دياره"[397].

v لديكم نبوة عن عمل الرسل: "ما أجمل أقدام المبشرين بإنجيل السلام، تجلب الأخبار الصالحة، وليس أخبار حرب أو أخبار شر". "في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقطار المسكونة بلغت كلماتهم"، بمعنى أن كلماتهم التي حوت الشريعة الصادرة من صهيون وكلمة الرب الصادرة من أورشليم قد انتشرت كما كتب: "الذين كانوا بعيدين عن بِرّي صاروا قريبين من بِرّي ومن الحق"[398].

العلامة ترتليان

"جعل في الشمس مظلته (مَقدِسَه)،

وهو مثل العريس الخارج من خدره" [5].

الشمس في العبرية كما في الآرامية "مذكر"، لهذا تقارن الشمس بالعريس. السيد المسيح - العريس السماوي - هو شمس البر الذي يشرق والشفاء في أجنحته (ملا 3).

في كبد السماء نصبت الشمس خيمتها، وتبدو كأنها تسير مثل ملك جبار في موكب علني عالمي، تشع ببهائها على مشارق الأرض ومغاربها... إنها كملك يرحل، يضرب خيمته ثم سرعام ما يخلعها ويرحل إلى موضع آخر.

تشرق الشمس بنورها وتبعث حرارتها لتهب حياة، هكذا جاء شمس البر يشرق على نفوس مؤمنيه في المشارق والمغارب ليهبهم إستنارة ودفئًا روحيًا وحياة متجددة على الدوام.

v   إنه هو الذي يعد خيمته - الكنيسة - في الشمس، على مرأى من جميع الناس.

القديس أغسطينوس

v إن كانت (الشمس) تظهر هكذا، لكن (المؤمنين) يظهرون في أكثر مجد، فإن الشمس تشرق لتنير العالم بالنور الطبيعي أما هم فينيرون العالم بطريقة أخرى، أقصد أنهم ينيرونها روحيًا[399].

القديس يوحنا الذهب الفم

الظلمة في العهد القديم تمثل الخطية والتشويش الكامل، لهذا ساهمت الشمس بصفة خاصة في إبراز غلبة الله. على أي الأحوال، فإن الشمس لا تحمل معنى لاهوتيًا، إنما هي أحد خلائق الله التي يعتني هو بها.

v من ثَم، فأنه جاء في المزمور: "كالعريس الخارج من خدره". لقد خطبنا عروسًا له خلال إعادة ميلادنا سريًا، نحن الذين كنا كفتاة ارتكبت الزنا مع الأوثان (حز 23: 37)، وقد غيّر طبيعتنا إلى عذراوية غير قابلة للفساد. مراسيم الزواج لم تكمل بعد؛ لقد زُفت الكنيسة إلى الكلمة، كما قال يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 29). دخلت حِجال العُرسِ السرَّي، وها الملائكة تترقب عودة ملكهم الذي يقود الكنيسة إلى تلك الطوباوية اللائقة بطبيعتها[400].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يرسل شمس البر حرارة روحه القدوس إلى قلوبنا لكي يلهبها بالحب الإلهي.

يليق بنا أن نلاحظ أن المرتل يرى العريس السماوي كالجبار المسرع فرحًا. إنه يهب المؤمن به فرحه الأبدي، بينما يظهر كجبار أمام الشرير الذي لا يقدر أن يلتقي معه أو يرى مخافيه. أما المؤمنون الذين يتحدون مع العريس فيشاركونه سماته: تصير حياتهم عذبة جدًا ومفرحة وفي نفس الوقت ينالون قوة وسلطانًا للغلبة على الأعداء حتى الموت نفسه. في عبادتنا ننعم بعريسنا المرتبك جدًا بحياتنا الداخلية، إذ نتحد نحن معه؛ وفي ذات الوقت نعبده بمخافة.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بإن المؤمن إذ ينعم بالتبني للآب يتشبه بالابن الوحيد، يبعث أشعة روحية في هذا العالم بالمسيح الساكن فيه.

v   ما قيل عن الشمس "كالعريس الخارج من خدره" يمكننا بالحري أن نقوله الآن عن المؤمنين الذين يبعثون أشعة أكثر بهاءًا من الشمس[401].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   لقد نادوا بالحق ذاته الخاص بصعوده إلى الموضع الذي نزل منه، وأنه لا يمكن لأحد أن يهرب من دينونته العادلة[402].

القديس إيريناؤس

مسيحنا شمس البر يبعث دفء المحبة وأشعتها في قلوبنا لتذيب ثليج جفافنا الداخلي الذي أقامته الخطية في داخلنا ليس فقط من جهة الله والناس بل وحتى من جهة نفوسنا ذاتها، فلا نبالي بنموها ومجدها وأبديتها.

v   تبرد محبة الكثيرين من أجل برود خطاياهم المتزايدة، الذين يصيرون جامدين كالثلج، على أي الأحوال إذ يحل دفء الرحمة الإلهية بهم يذوبون[403].

الأب قيصريوس أسقف آرل

يقول المرتل: "يبتهج مثل الجبار... كالعريس الخارج من خدره" يبرز جانبين متكاملين في عمل السيد المسيح الخلاصي هما البهجة والقوة. أنه يبتهج كعريس يقدم حياته مبذولة عن العالم كله ليقيم باشعة محبته عروسه من كل أمة ولسان، هذه البهجة العاملة إنما هي نصرة على عدو الخير والخطية... يدخل المعركة ليقود مؤمنيه إلى حياة الغلبة. وباتحادنا بعريسنا نحمل روح البهجة مع الغلبة، إذ يقيم داخلنا فردوسًا مبهجًا ومملكة فرح وفي نفس الوقت يقيمنا جنودًا أمناء لا نكف عن مقاومة إبليس وأعماله الشريرة بأسلحة الروح التي تعطينا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات العدو.

2. شهادة الكتاب المقدس لله:

إن كان الإنسان لا يقدر أن يعيش بدون الشمس التي خلقها الله لأجله، بل أقام الكون كله لأجله، لكنه بالأحرى يجد في كلمة الله ما هو أهم وأعظم. الطبيعة تحدث الإنسان عن مركزه كمخلوق يحتل المركز الأسمى على الأرض، أما كلمة الله فتعلن عن مركز الإنسان كابن لله. في مديح الناموس إنما يمجد المرتل الله نفسه المتجلي في الناموس.

الأعداد الثلاثة الأولى [7-9] أشبه بقطعة ليتورجية، تمجد ناموس الله بكونه هبة إلهية تنير وتقود. كلمة الله كاملة، أمينة، مستقيمة، نقية...

يقدم المرتل ستة ألقاب لكلمة الله، ربما ليشير إلى ستة أيام العمل، وكأنه يليق بنا في جهادنا اليومي أن ننعم بكلمة الله كما بلقب جديد، وبتذوق جديد. كلمة الله لن تشيخ مطلقًا. أما في اليوم السابع، أي السبت والراحة، ففيها نلتقي بكلمة الله نفسه وجهًا لوجه بطريقة لا يُنطق بها.

ألقاب كلمة الله الستة الواردة في هذا المزمور هي: ناموس الرب، شهادة الرب، فرائض الرب، وصية الرب، خشية الرب، أحكام الرب.

"ناموس الرب بلا عيب، يرد النفوس.

شهادة الرب صادقة، تعلم الأطفال" [7].

يقول القديس بولس: "فإننا نعلم أن الناموس روحي، وأما أنا فجسدي، مبيع تحت الخطية" (رو 7: 14). إن كلمة الله ترد النفس حيث تكشف عن الخطايا وتشير إلى طريق الخلاص منها بنعمة الله المجانية ومن جانب آخر فهي تهب المؤمنين البسطاء حكمة من فوق. "وأنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع" (1 تي 3: 15).

إن كنا قد فسدنا بالخطية فلم يعد فينا أي في جسدنا شيء صالح، كقول الرسـول

بولس، فإن ناموس الرب أو كلمة الله بلا عيب، تحمل النفس الفاسدة إلى الصليب لتنهل من الدم الكفاري، فتصير هي أيضًا بلا عيب.

وراء الكلمة المكتوبة يختفي مسيحنا الذي بلا خطية وحده، الكامل، الذي بلا عيب، نتحد به بروحه القدوس فنحمل سماته فينا ونُحسب في عيني الآب بلا لوم، إذ يرى صورة ابنه الوحيد الجنس مطبوعة في أعماقنا.

يقول القديس مرقس الناسك: [إن السيد المسيح "كلمة الله" مخفي وراء الوصية، فمن يدخل إلى الوصية بحياته العملية إنما يلتقي بالمسيح نفسه].

v   ناموس الرب ليس إلا الرب نفسه، الذي جاء لكي يكمل الناموس، وليس لكي ينقضه (مت 5: 17).

القديس أغسطينوس

v   عرف القديسون أن النفس تتطهر والعقل يستنير بحفظ الوصايا[404].

الأب دوروثيؤوس من غزة

تُعلَن إرادة الله في الناموس لكي تعلم وتخلص، لهذا فإن الناموس هو أساس الثقة الثابتة في حب الله المترفق. هكذا نجد صدى الثقة المفرحة لأولاد الله في كل عبارة من عبارات المزمور.

"شهادة الرب صادقة، تعلم الأطفال" [7].

كلمة الرب صادقة، تدعى "شهادة الرب"، تشهد عن مرارة الخطية، وعن صدق وعود الله بالخلاص التي تُقدم للنفوس الواثقة في الرب، كثقة الأطفال البسطاء في والديهم، الذين يلتقون على صدورهم كما على صخرة الحب، يتمتعون بعهده الإلهي الصادق.

"فرائض الرب مستقيمة تفرح القلب،

وصية الرب مضيئة، تنير العينين عن بعد" [8].

كلمة الرب ليست أوامر ونواهٍ تسبب مرارة للنفس، إنما هي علامة حب بين الله والإنسان، تبعث الفرح الداخلي... لاحظ كيف بدأ المرتل برجوع النفس إلى الله (ترد النفس) ثم تلاها بالتعليم (تعلم الأطفال)، بعد ذلك فرح القلب. عندما تقود الكلمة النفس تردها بالتوبة إلى الحضن الأبوي، فيتعلم كطفل صغير كيف يثق في مشيئة أبيه، ويفرح داخليًا بتحقيق إرادة الله أبيه فيه. أفراح العالم تقف إلى حد ما عند الشفتين وإلى حين أما فرح الرب فيهز أعماق النفس الداخلية، لذا قال "يفرّح القلب". تفيض تعزيات الروح في أعماق الإنسان إذ يجد أنه بكلمة الله قد إرتد إلى الحضن الأبوي، وتغيرت طبيعته من أعماقها، وتمتع بأسرار الله خلال اتحاده معه!

إن كانت الخطية قد أظلمت بصيرتنا الداخلية فصار الله بالنسبة لنا مرعبًا ومخيفًا، نهرب منه كما فعل أبوانا الأولان حين سمعا صوت الله ماشيًا في الجنة، فإن كلمة الله الخلاصية تفرّح القلب وتنزع عنه الحزن القاتل وتنيره بروح الفرح والرجاء فترى في الله إلهها المخلص. تنفتح البصيرة لا لمعرفة الخير والشر وإنما لإدراك وخبرة عربون الحياة الجديدة السماوية والميراث الأبدي. لذلك يترنم داود النبي، قائلاً: "وصية الرب مضيئة، تنير العينين من البعد"، أي تهبهما أبعاد جديدة في النظر... ترفع العينين إلى السماء عينها لتعاين الأمور غير المنظورة.

"خشية الرب زكية، دائمة إلى أبد الأبد.

أحكام الرب أحكام حق وعادلة معًا" [9].

يدعو كلمة الرب "خشية الرب" أو مخافته... وكما سبق فقلنا أن مخافة الرب هنا لا تعني خوف العبيد إنما روح التقوى. فإن كانت الكلمة الإلهية تحملنا للاتحاد مع الله في ابنه الكلمة المتجسد، فإننا إذ ننال - في مياه المعمودية - البنوة لله نحمل خشية البنين الذين يحرصون ألا يجرحوا مشاعر أبيهم المترفق بأولاده. بالمخافة نحرص ألا نخطئ، ونمتنع عن أن نخطئ بفعل النعمة الإلهية، فنثبت في الكلمة الأبدي، ونصير معه وبه خالدين، نعيش معه في سمواته إلى الأبد.

يرى القديس أكلمندس الإسكندري أن الخوف يحفظنا من إرتكاب الخطية وأما الحب فيدفعنا إلى ممارسة الصلاح تلقائيًا كأبناء محبين لأبيهم القدوس الصالح.

v أما بالنسبة لهؤلاء الذين بدافع الخوف يتحولون إلى الإيمان والبر، يبقى فيهم الخوف إلى الأبد. يُولّد الخوف إمتناعًا عن الشر، أما الحب فيدفع إلى ممارسة الفضيلة بالبناء تلقائيًا، حتى يُسمع قول الله: "لست أدعوكم عبيدًا بل أحباءً، ويمكن للإنسان عندئذ أن يتقدم إلى الصلاة بثقة[405].

القديس أكليمندس الإسكندري

لئلا يُساء فهم الخوف فيظن أحد أن كلمة الله تبعث في النفس خوفًا يحطم فرحها، أو إلزامًا يفقدها الشعور بالحرية الإنسانية، ابرز المرتل شوق المؤمن للكلمة وتقديره لها وإحساسه بعذوبتها، إذ يقول:

"شهوات قلبه مختارة أفضل من الذهب والحجر الكثير الثمن،

وأحلى من العسل والشهد.

وأن عبدك يحفظها، وفي حفظها مجازاة كثيرة" [10-11].

الكلمة الإلهية الشاهدة عن أبوة الله وحنانه ليست فرضًا نتغصَّبه، وإنما هي أولاً "شهوة قلب"، تطلبها الأعماق إذ تجد فيها شبعها الحقيقي، وهي الغنى الحق أفضل من الذهب والحجر الكريم، وعذبة أحلى من العسل والشهد، بجانب هذا كله تقدم مجازاة كثيرة... أبدية لا يُعبر عنها. إنها فوق كل غنى العالم وقِيمِه وملذاته الأرضية.

إذ يرتبط المؤمن بكلمة الله التي هي أفضل من الذهب والحجر الكثير الثمن، يصير هو بدوره ذهبًا وحجرًا كريمًا مُمتحنًا بالنار، محفوظًا ككنز إلهي مخفي، يحب كلمة الرب وأحكامه أكثر من حبه لنفسه أو لحياته الزمنية، مفضلاً إرادة الله عن إرادته الذاتية.

v "أحلى من العسل والشهد" [10]. إذ تلتزم النفس بأن تصير عسلاً نقيًا، متحررة من رباطات الحياة المائتة، تنتظر في بساطة بركات الوليمة الإلهية؛ أو أنها تكون في قرص الشهد، ملتحفة بهذه الحياة كما في خلايا شمع العسل التي تملأها دون أن تصير مثلها (أي دون أن تصير شمعًا). وهي في هذا تحتاج إلى معونة يد الله التي تضغط لا لتحطم بل لكي تقطر عسلاً. تصير أحكام الله بالنسبة لمثل هذه النفس أحلى من كيانها هي ذاته، أحلى من العسل والشهد.

القديس أغسطينوس

v   أي شيء أكثر بهاءً وسموًا من المعرفة الإلهية؟! أي شيء أكثر عذوبة وبهجة من كلمات الرب التي هي أعلى من قطر الشهد وعسله؟!

v   يجلب مَنّ كلمة الله لفمك التذوُّق الذي تشتهيه. على أي الأحوال، إذا ما تقبله إنسان ما بغير إيمان، فأخفاه عوض أن يأكله يُدوِّد.

أتظن أننا نصل إلى التفكير بأن كلمة الله تصير "دودة"؟ ليت سماعك هنا لا يقلقك، إنما إصغ إلى النبي القائل في شخص ربنا "أما أنا فدودة لا إنسان" (مز 22: 6). إذ صار هو نفسه مصدرًا لهلاك البعض (بعدم إيمانهم) ووسيلة القيامة لآخرين، هكذا صار المن هو العسل الحلو للمؤمنين ودود لغير المؤمنين[406].

الأب قيصريوس أسقف آرل

سبق فتحدث عن كلمة الله بكونها "خشية الرب" الزكية والثابتة إلى الأبد، تهب للنفس رائحة المسيح الزكية وخلودًا أبديًا بقيامته العاملة فينا، وها هنا يتحدث عن الحب الذي لا ينفصل عن مخافة الرب، الكلمة تهب حبًا يعطي للنفس عذوبة، فتحب كلمة الله أكثر من حياتها الأرضية!

v   إذ تختلط الكلمة بالحب تنطفئ في الحال شهواتنا ونتطهر من خطايانا؛ ويبدو القول "أحلى من العسل" في مجرى الحديث يخص الكلمة[407]...

v عذبة هي الكلمة التي تهبنا نورًا، إنها أثمن من الذهب والحجارة الكريمة، وأشهى من العسل والشهد. كيف لا تشتهيها وهي التي تنير العقل الذي دُفن في الظلمة، وتهب حذاقة لعيني النفس المستنيرة بها؟"[408].

القديس أكليمندس الإسكندري

v إذا ما ترنم شخص بالمزامير مهتمًا فقط بعذوبة الأصوات وتنظيم الكلمات، دون مبالاة بالمعاني تنتعش أذناه، أما كلمة الله فلا تدخل قلبه. بمعنى أنه يمضغ شمعًا نقيًا ولا يتذوق عذوبة العسل قط! [409]

الأب قيصريوس أسقف آرل

المسيح كلمة الله:

حينما نتحدث عن الشريعة أو كلمة الله يليق بنا أن ندرك أن ربنا يسوع المسيح هو كلمة الله السرَّمدي، الحق الأبدي، الذي يعلن لنا الأسرار الإلهية.

v اقبل المسيح، اقبل البصيرة الداخلية، تَقبّل نورك حتى يمكنك أن ترى الله والناس حسنًا. "عذبة هي الكلمة التي تهبنا نورًا، إنها أثمن من الذهب والحجارة الكريمة، وأشهى من العسل والشهد"[410].

القديس أكليمندس الإسكندري

v   لا نعني بكلمات المسيح تلك الكلمات التي نطق بها عندما صار إنسانًا والتحف جسدنا، فقد (تكلم) السيد المسيح قبلاً في موسى والأنبياء[411].

v مخلصنا هو صورة الله غير المنظور؛ إذا قورن بالآب نفسه فهو الحق، وإذا قورن بنا نحن الذين أعلن لهم الآب فهو الصورة التي تأتي بنا إلى معرفة الآب، المعرفة التي ليست إلا للابن، والتي سُرَّ الابن أن يعلنها[412].

العلامة أوريجانوس

v   أتحب المتعة والملذات؟ تطلَّع إلى وصايا الرب، فهي بالنسبة للنفس السوية أحلى من العسل والشهد! [413].

القديس باسيليوس الكبير

3. إعلان الله في خبرتنا اليومية:

هذا القسم عبارة عن صلاة ومرثاة؛ فإنه إذ يتعرف المرتل على الناموس الإلهي كنور يصير أكثر حساسية للخطية حتى بالنسبة للصادرة عن سهو أو بغير إرادة، فيكتشف الإنسان بكلمة الله ظلمات نفسه. فإنه كلما اشتدت الإضاءة صار الظل أكثر وضوحًا.

لقد كشف المرتل عن عظمة المكافأة لمن يحفظ الوصايا... لكن من يقدر أن يتبرر أمام الله؟ من يقدر أن يهرب من السهوات؟... في كل يوم نختبر الله في رحمته كمخلص من الضعفات وغافر للخطايا... هذا ما يؤكده المرتل بقوله:

"وإن عبدك يحفظها، وفي حفظها مجازاة كثيرة.

من يقدر أن يتفهم الهفوات؟!

طهرني يارب من خفياتي

ومن الغرباء اشفق على عبدك" [11-12].

يحدثنا القديس باسيليوس الكبير عن مكافأة حفظ وصايا الرب، قائلاً: [توجد مكافأة عظيمة للذين يحفظون الوصايا، مجازاة جزيلة، أكاليل عدل، مسكن دائم، حياة بلا نهاية، فرح لا يُنطق به، مواضع لا تفنى مع الآب والابن والروح القدس الإله الحق في السموات، لقاء وجه لوجه، طرب في صحبة الملائكة والآباء والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين وكل الذين يرضون الله منذ البدء[414]].

هذا هو المجد العظيم الذي سيُستعلن فينا كأولاد لله حافظين بالحب وصيته... لكنه من يقدر أن يحفظ الوصية؟! بأنفسنا نحن ضعفاء وعاجزون، نحتاج إلى خبرة أعمال محبة الله اليومية معنا، فتشهد نعمته الغافرة للخطايا عن وجوده في حياتنا. يقول المرتل: "من يقدر أن يتفهم الهفوات؟! طهرني يارب من خفياتي، ومن الغرباء اشفق على عبدك" [12]. كأنه يقول: "أنت يارب تجد فيّ الخطايا التى اختفت فيّ. ما أكثر الخطايا التي تحاربني خفيةً كغرباء وتقتل نفسي دون أن أدري لولا مراحمك عليّ؟!" خبرتي اليومية هي التلاقي مع مخلصي غافر الخطية بدمه الكفاري!

v   هكذا يعرف القديسون أن برّ الإنسان ضعيف وناقص ويطلبون مراحم الله على الدوام[415].

الأب ثيوناس

v "من يقدر أن يتفهم أخطاءه؟!... إن أمكن رؤية الظلمة لأمكن فهم الخطايا. الآن عندما نتوب عن خطايانا، عندئذ فقط يمكننا أن ننعم أخيرًا بالنور؛ لأنه إذ يلتحف الإنسان بخطاياه يُقال أن عينيه تظلمّان وتصابان بعمى بالغ، ولا يقدر أن يرى خطاياه، كما هو الحال بالنسبة لعينيك الجسديتين عندما تكونان معصوبتين، فإنهما لا يقدران أن ينظرا شيئًا بسبب العصابة.

القديس أغسطينوس

v من يستطيع أن يتفهم معاصيه؟... قدم أيوب المعروف بصبره الشديد ذبائح عن الخطايا غير المعروفة، أو بالحري عن خطايا ابنائه، واضعًا في إعتباره أنه ربما أخطأ ابناؤه وجدفوا على الله في قلوبهم (أي 1: 5). ونحن نتذكر أيضًا بولس الحكيم جدًا عندما كتب: "فأني لست أشعر بشيء في ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا، ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب" (1 كو 4: 4)[416].

القديس كيرلس الإسكندري

v   "إن لم يتسلطوا عليّ فحينئذ أكون بلا عيب، واتنقى من خطية عظيمة" [13].

لا تخف إن كنت مسيحيًا، لا تخف من تسلّط أي إنسان من الخارج، إنما خف الله على الدوام. خف الشر الذي في داخلك، وشهواتك الدنيئة التي لم يصنعها الله بداخلك إنما هي من صنعك أنت. لقد خلقك الله عبدًا أمينًا، لكنك خلقت لنفسك سيدًا شريرًا في قلبك. حقًا لقد صرت مستحقًا للخضوع للشر، تأهلت للخضوع للسيد الذي خلقته أنت لنفسك، إذ رفضت الخضوع لمن خلقك.

v "واتنقى من خطية عظيمة"؛ أية خطية؟ بالتأكيد الكبرياء. لا توجد خطية أخطر منها تفصل الإنسان عن الله، فقد بدأت الخطية في الإنسان بالكبرياء.

v لأنه ما لم أتبرأ من الخطية العظيمة تكون كلماتي موضع إعجاب في نظر البشرية وليس في نظرك (يا الله). النفس المتكبرة تود أن تشرق في عيني البشر، أما المتضعة فتشرق سرًا حيث يعاينها الله.

إن كان أحد يرضي الناس بعمله الصالح فليفرح لأجلهم أي الذين يسرون بالعمل الصالح لكنه لا يفرح بنفسه (أي لا يفتخر بذاته)، ففي الحقيقة إن ممارسة العمل الصالح مشبع في ذاته (ولا يحتاج الإنسان إلى رضاء الناس).

القديس أغسطينوس

هكذا يرى القديس أغسطينوس أن الخطية العظيمة هي حب إرضاء الناس بالعمل الصالح؛ قد يفرحون بهم فليكن ونحن نفرح بهذا لكن لا نفتخر ولا نُعجب برضائهم إذ الله هو العامل فينا... إن ما يرضينا لا رضى الناس إنما العمل الصالح الذي تهبه نعمة الله فينا. بهذا نسر ونفرح، إذ يقول المرتل:

"وتكون جميع أقوال فمي بمسرة.

وتلاوة قلبي أمامك في كل حين.

يارب أنت معيني ومخلصي" [14].

هكذا يختم المرتل المزمور بالسرور والفرح المعلنين بالفم والقلب، خلال التسبيح العلني والخفي، لأن الله هو معيننا في كل عمل صالح ومخلصنا غافر الخطية!

 

 

 


 

اقبل حياتي شاهدة لك يا الله!

v   لتُقم يارب ملكوتك في داخلي، فتعلن سمواتك فيّ!

هب لي أن أتحدث بحبك وعمل خلاصك خلال حبي وحياتي!

v   أيها العريس شمس البر الجبّار،

هب لنفسي بهجتك فلا ينزع العالم فرحك من أعماقي!

هب لها قوة فتجاهد بنعمتك ضد إبليس وظلمته!

v   اغرس أحكامك فيّ فتشبع نفسي وتغتني بك،

أجدك أثمن من كل العالم، وأشهى من كل عذوبة!

v   إسترني من خطاياي الخفية والظاهرة،

واحفظني من عدو الخير الغريب!

هب لي برك فيمتلئ لساني تهليلاً وقلبي فرحًا!

<<

 

 

 


 

المزمور العشرون

الله يخلص الملك

مناسبة المزمور:

هذا المزمور ملوكي، ليتورجي، ومسيّاني. كان يخص طقس الهيكل للملوك، خاصة في وقت الحرب.

نظمه داود ليُصلى به عند نجاح حملته ضد بني عمون وآرام الذين جاءوا بعدد عظيم من الخيل والمركبات لمحاربته (2 صم 10: 6، 8؛ 1 أي 19: 7). بمعنى آخر، وضع داود المزمور كصيحة قتال، به يحث نفسه والشعب ويدفعهم إلى الصلاة[417].

ربما كان المزمور يُرتل بطريقة ليتورجية، كجزء من ليتورجية الذبيحة، تُؤَدَّى قبل خروج الملك إلى أرض المعركة. فقد اعتاد الشعب أن يجتمع في الهيكل للصلاة، لكي ما يَهَب الله نصرة للملك ولجيشه (أنظر 1 صم 7: 9؛ 13: 9؛ 1 مل 8: 44؛ 2 أي 20: 18 إلخ...)[418]. أما المزمور 21 فيُتلى كخدمة شكر بعد نوال النصرة.

يُرى الملك في المقدس يقدم ذبائح [3]، بينما يجتمع الشعب في الدار الخارجية للصلاة لأجله. فإنه من واجب الشعب الصلاة لأجل ازدهار المسيّا الملك (ازدهار كنيسته المتحدة معه كجسده)، الخارج إلى المعركة ضد إبليس لأجل خلاص البشرية. لقد قدم السيد المسيح نفسه ذبيحة لأجل العالم كله؛ لكن من واجب الكنيسة - كهنة وشعبًا - الصلاة والعمل لأجل خلاص البشر.

يقول ابن عزرا (اليهودي) إن البعض يفسرون هذا المزمور كمزمور خاص بالمسيّا. ويرى كثير من آباء الكنيسة أنه نبوة عن آلام السيد المسيح وأعماله الخلاصية من أيدي أعدائنا، إذ تنتصر مع مسيحها!

هذا الملك الغالب في المعركة هو المؤمن (رؤ 1: 6)، المدعو جندي المسيح. وكما يقول القديس بولس: "فاشترِكْ أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح" (2 تي 2: 3). يلزمه أن يتلو هذا المزمور طول اليوم، مصليًا إلى الله الذي يَهَبه النصرة الروحية في استحقاقات المسيح الذبيح.

يقرن بعض المفسرين هذا المزمور بليتورجية ثابتة، هي ليتورجية بدء العام الجديد حيث يتمجد الله كملك[419] مع بداية كل عام جديد، أي يحسب بدء العام هو عيد تجليس الله ملكًا على شعبه، وفي قلوبهم، كملك غالب حطّم مملكة الظلمة من داخلنا.

التزم داود النبي أن يدخل معارك كثيرة منذ صباه... ومع كل معركة نال خبرة جديدة عبّر عنها بتقديم مزامير، صارت سرّ قوة وفرح ورجاء للمؤمنين في معركتهم ضد إبليس؛ وهكذا يُخرِج الله من الضيقات عذوبة لا للمؤمن وحده بل وللكنيسة كلها.

 هيكل المزمور:

1. تشفع من أجل الملك [1-7].

 * صلاة الجماعة أو الكاهن من أجل الملك [1]، وذلك عند وصوله إلى المقدس.

* تسبحة يترنّم بها حورس المرتلين [2-3]، عند تقديم الذبائح.

* تسبحة يترنّم بها خورس المرتلين [4-5 (أ)] عندما تُحمل الرايات والنُصُب التذكارية في موكب.

* صلاة الجماعة [5 (ب)] عندما يقف الملك في الوسط.

2. صلاة شكر تتنبأ عن نصرة الملك [6-8].

* قول ينطق به رئيس الكهنة أو نبي.

* استجابة الملك [6]: هنا فقط يتكلم الملك، إذ قد تشجع بصلوات شعبه، وتسنده الذبيحة التي قُدِمّت عنه، وتسابيح الخورس؛ لذا ينطق بباعث من الإيمان بعمل الله الأكيد معه.

* تأكيد النصر [7-8] ينطق به رئيس الكهنة أو نبي في حضور الملك وجنوده.

3. ختام [9].

* تسبحة يرتلها الشعب [9]، ربما تتكرّر عدة مرات أثناء هذا الاحتفال.

 الإطار العام:

 1. صلاة نبوية عن المسيح           [1-3].

 2. اشتياق قلب المسيح               [4-6].

 3. نمو ملكوت المسيح               [7-9].

 1. صلاة نبوية عن المسيح:

"يستجيب لك الرب في يوم شدتك" [1]. مسرة الله أن يستجيب صلوات مؤمنيه الذين يثقون فيه، واهبًا إياهم نصرة وحماية وسرورًا.

حياتنا ككل لها وجهان متكاملان، فهي "يوم شدة" وفي نفس الوقت "يوم فرح داخلي". هي يوم شدة بسبب وجود عدو لا ينام، يحاربنا لكي ينتزعنا من أيدي إلهنا. وهي يوم فرح داخلي لأننا ننعم فيها بعربون الحياة الأبدية خلال شركتنا مع المسيح كنزنا وسلامنا.

لقد تعلم داود الملك بما لديه من خبرة كرجل حرب أن يضع ثقته في الله، ليس فقط برفع صلاة لله في مخدعه أو حتى أمام تابوت العهد، وإنما أيضًا بطلبه الصلاة لأجله من الكهنة والشعب، وأن يقدموا ذبائح عنه. وكأن العبادة الشخصية والجماعية متكاملة.

يتعرض أعظم الرجال - حتى الرسل والقديسون والملوك المقتدرون - للألم والضيق، ويحتاجون إلى صلوات الغير عنهم، ليعينهم الله نفسه. ففي الليتورجيات القبطية يصلي الكاهن من أجل الشعب والشعب أيضًا من أجل الكاهن. الكنيسة المصلية معًا     - كهنة وشعبًا - لا يُستهان بها في السماء!

يلتزم كل مؤمن - كاهنًا أو من الشعب - ألا يحتقرَ صلوات الغير لأجله، بل يطلبها في جدّية، حتى من الذين يَبْدون أقل منه في كل الوجوه. غير أن هذه الصلوات لا تفيد كثيرًا - حتى إن قَدَّمها قديسون - ما لم يُصَلِّ الإنسان نفسه أيضًا. فداود كان ملكًا، ورجل حرب، وقاضيًا إلخ... وكان لديه كهنة وأنبياء بل وكان الشعب أيضًا يصلي لأجله، ومع هذا لم يُعْفِ نفسه من الصلاة.

ما هو يوم الشدة؟ إنه اليوم الذي فيه حمل ربنا يسوع خطايانا، محتملاً الموت، موت الصليب، لأجلنا. لقد اجتاز ربنا يسوع هذا اليوم، ومات على الصليب، ودُفن في القبر، وقام ثانية، وصعد إلى السموات، لكي يهبنا شركة مجده... هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، إنه يوم شدة، لكنه مصدر فرح وبهجة.

الحياة الحاضرة هي "يوم شدة"، أو "وادي الدموع"، لأن الكنيسة كعروس للمصلوب تشارك عريسها آلامه، وتصارع بنعمته ضد الظلمة، وتجاهد حتى يتمتع كل واحدٍ بنعمة الخلاص.

"ينصرك إسم إله يعقوب" [1].

سبق أن تحدَّثنا عن أهمية "الاسم"، بكونه يمثل صاحبه ويحمل قوته. فإننا ننعم بالنصرة ليس بواسطة "إله مجهول" كما شاهد الرسول بولس أثناء تجوّله في أثينا، لكننا ننالها (أي النصرة) خلال إله عرفناه، نعرف اسمه، ونختبر سِماته، وننعم بالشركة معه خلال الصليب.

إسم الله ليس تعويذةً سحرية بها ننال الغلبة، وإنما هي تتمتع بالحضرة الإلهية واهبة النعم؛ ترديدنا إسمه إنما يعني ثقتنا في حضرته في داخلنا، ويقيننا أنه وحده يقدر أن يَفْدينا.

أما ذِكْرُهُ "يعقوب" هنا فيعني أن الله العامل فينا والحاضر في حياتنا إنما هو رب الكنيسة كلها، بكْونِ يعقوب أب الأسباط كلها. وكأن المرتل يقول: إن كان لك لقاءٌ شخصيٌ مع الله فلتتيقّنْ أن رب الكنيسة كلها يدافع عنك أنت شخصيًا. ولما كان إبراهيم يمثل "الأبوة" وإسحق "الطاعة" ويعقوب "الصراع" فإن الله الذي ينصرك مجانًا إنما يعمل فيك وأنت تصارع ضد الخطية؛ فهو لا ينصر المتراخين في حياتهم والمتهاونين في جهادهم الروحي... إنه إله كل يعقوب مصارع!

"يرسل لك عونًا من قدسه،

ومن صهيون يعضدك" [2].

قُدْس الرب أو هيكله المقدس على الأرض هو رمز للمُقَدَّسات السماوية، أو سمواته عينها، حيث يسمع الله صلوات شعبه الصاعدة كرائحة بخور طيبة ويستجيب لها. الله القدوس الساكن في السموات يستجيب للطلبات التي تصدر عن قلب مقدس متفقة مع إرادته المقدسة... لذلك يُقال في ذات المزمور: "واستجاب له من سماء قدسه" [6].

إن كان الشعب يصلي لأجل مساندة الملك في حربه، فإن الله القدوس مالئ السماء والأرض يقدّم عونًا للملك من خلال مَقدسه أو من خلال تابوت العهد، كتجاوب أو كتحقيق لوعده الإلهي وميثاقه مع شعبه المقدس المحبوب لديه. والآن إذ قدم السيد المسيح نفسه ذبيحة إنفتحت أبواب السماء أمام الكنيسة لتعيش في السماء عينها أثناء خدمة ليتورجية الافخارستيا، فيرفع روح الله القدوس صلواتنا بل ونفوسنا إلى السماء فتنال العوْن الإلهي. هذا ما دفع المرتل للقول: "ومن صهيون يعضدك"، أي من كنيسة المسيح، صهيون السماوية، حيث يسكن المسيح السماوي الذبيح.

إذا ما أقام الرب ملكوته في داخلنا (لو 17: 21)، نَصيرُ قُدْسه وصهيون الجديد... لذا نقدم صلواتنا لله الساكن فينا لنجد إستجابته السريعة تصدر من أعماقنا، ننعم بعونه، واهبًا إيانا النصرة في حربنا ضد عدو الخير.

تحقق هذا القول في صورة فريدة رائعة مع ابن الإنسان حين أَحْنَي رأسه ليحمل خطايانا؛ فدخل إلى الضيقة، وكانت نفسه حزينة جدًا حتى الموت. وأرسل الآب ملاكًا من السماء يُعْلِن ما للإبن من مجٍد حتى في أَمرّ لحظات الألم. كانت آلامه مجدًا ونصرة لملك الملوك، فيه ننال كملوك نصرة من المقادس في صهيون السماوية!

بقوله: "ومن صهيون يعضدك" يؤكد الوحي الإلهي دَوْر الجماعة المقدسة، وفاعلية صلواتها، فقد تمتع بطرس الرسول ببركة صلوات الكنيسة المجتمعة في العلية التي تصلي بلجاجة من أجله (أع 12: 5 إلخ).

"يذكر جميع ذبائحك،

ويَسْتسْمِن محرقاتك" [3].

يُشير المرتل هنا إلى الذبائح التي كانت تُقدّم أثناء التسبيح بهذا المزمور قبل ذهاب الملك إلى المعركة... تقديم الذبائح يُشير إلى أن سرّ النصرة يكمن في المصالحة مع الله بالدم، والمحرقات علامة الثقة وعربون النصرة؛ إذ يُقدّمُ الكل قلوبهم ذبائح محرقة ملتهبة بنار الحب الإلهي.

والمؤمن في حربه اليومية يجد نصرته في ذبيحة المسيح، وقبول صليبه كقوة الخلاص. يقول الرسول: "ولكننا نكرز بالمسيح مصلوبًا... فبالمسيح قوة الله وحكمة الله... لأني لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع وإياه مصلوبًا" (1 كو 1: 23-24؛ 2: 2).

لنعرف أن الله يقبل محرقاتنا الروحية، إذا ما أشعل في نفوسنا بروحه القدوس نار الحب الإلهي التي تلهب قلوبنا داخلنا، ولا تقدر مياه كثيرة أن تطفئها... يهب داخلنا قوة القيامة ونصرتها على الموت وبهجتها الأبدية.

v   ليت الصليب الذي قدمت عليه ذاتك كمحرقة كاملة لله (الآب)، يتحول إلى بهجة القيامة.

 القديس أغسطينوس

هكذا تحدث المرتل عن السيد المسيح المتألم، الذي دخل في شدة، ليحملنا إلى كنيسته "صهيونه" مقدمًا حياته ذبيحة محرقة لأجلنا... لكي فيه نقدم حياتنا ذبائح مقدسة، الآن يتحدث عنه كملك واهب الخلاص.

 2. اشتياق قلب المسيح:

 "يتمم كل مشورتك" [5].

 ما هي شهوة قلب السيد المسيح؟ خلاص البشر الذي استدعى موته الذبيحي وقيامته وصعوده إلى الأمجاد، ليملك على القلوب.

v   "نعترف لك يارب بخلاصك" [5]. إننا نبتهج، لأنه لم يكن ممكنًا للموت أن يؤذيك بأي حال من الأحوال؛ ولهذا أنت تبرهن لنا أنه لا يقدر أن يؤذينا نحن أيضًا.

 القديس أغسطينوس

كان سُؤْل قلب المسيح - خلاص البشرية - قد تحقق بقيامته، وبقيامتنا نحن به وفيه، فنصير جسده المصلوب القائم من الأموات، نشاركه ميراثه وأمجاده. ونحن أيضًا إذ يصير لنا ذات شهوة قلب السيد المسيح يحقق الآب سُؤْل قلبنا ويهبنا طلبتنا، مٌقدّمًا لنا بهجة الخلاص في حياتنا كما في حياة الغير.

لقد وهب الله داود سُؤْل قلبه، لأن قلبه كان مثل قلب الله، ولم يهدف قط إلاّ إلى ما يُرضيه. وهكذا مَنْ يسلكون حسب مشورة الله وإرادته يتمم الله سُؤْل قلبهم ويحقق لهم إرادتهم، واهبًا إياهم الفرح الحقيقي.

"نعترف لك يارب بخلاصك" [5].

الذين يُثّبتون أنظارهم على خلاص الرب لا ينشغلون بالنصر في ذاته بل بالرب وعمله الخلاصي؛ يبتهجون به ويعترفون له بعمله العجيب المملوء حبًا.

"وباسم إلهنا ننمو" [5] وفي النص العبري: "وباسم إلهنا نرفع رايتنا". ربما يعني رفع رايات النصرة التي تُرفرف أمام الجند. وكأنه في البركة التي يتمتع بها الملك قبل المعركة يُعِلن بهجةً برفع الرايات متأكدًا من عمله معه.

جاءت فكرة رفع الراية عن عادة قديمة سادت في الشرق، وهي أنه في حالة حدوث جريمة قتل، يحمل ابن القتيل أو عائلته نوعًا من الضغينة ضد القاتل وعائلته، وتبقى الرغبة في الأخذ بالثأر إلى أجيال عديدة. يشعر أبناء القتيل وأحفاده بالالتزام بالثأر وإلا فقدوا كرامتهم ورجولتهم. أحيانًا كان يلجأ المطلوب قتله (أي القاتل نفسه أو ابنه) إلى مدينة ما ليطلب الحماية والرحمة من شخص له وزنه وتقديره؛ فإذا ما وافق الرجل وعفا عنه يقوم بمصالحته مع عائلة القتيل. وإذا ما تحقق ذلك تجتمع مجموعة من الرجال، وتجول في المدينة لتُعْلِن هذا النبأ السار بخلاص من كان يُطلَب قتله بحمل مَنْ تمتّع بالعفو راية فوق رأسه، ويصرخ داعيًا المدينة كلها كي تأتي وترى الإنسان الذي باسمه تمتع بالحرية وعُتِق من حكم الموت. هكذا نحن كنا تحت حكم الموت، وقد صرخنا طالبين الخلاص باسم المسيح الحسن، فوهبنا غفرانًا لنفوسنا وخلصنا من حكم الموت الأبدي، لذلك صار علينا التزامٌ أدبيٌ وروحيٌ أن نشهد أمام العالم كله بهذا الخبر السار، معترفين ومبتهجين بخلاصه، ممجدين اسمه لأنه استجاب لتوسلاتنا، فباسم إلهنا نرفع رايتنا، لكي يأتي الجميع ويروا ذاك الذي باسمه نحيا، وننعم بالخلاص العظيم[420].

"يارب خلص مَلِكَكْ واستجب لنا يوم ندعوك" [6].

يرى كثير من آباء الكنيسة أن الملك المنسوب للآب، "مَلِكَهْ" إنما هو السيد المسيح، ملك الملوك، يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [لقد خلص الله المسيح بأن أقامه من الموت[421]].

 3. نُموّ ملكوت المسيح:

"هؤلاء بمركبات، وهؤلاء بخيل

ونحن باسم الرب إلهنا ننمو.

هم عثروا وسقطوا،

ونحن قمنا واستقمنا.

يارب خلص مَلِكَكْ، وإستجب لنا يوم ندعوك" [7-9].

هذه خاتمة رائعة لهذا المزمور المسيّاني، فإننا قمنا فيه. أدركنا الحياة الجديدة بعد موت الخطية. نحن ننعم بالاستقامة خلال صلاحه، فينمو ملكوته خلال خلاصنا.

يكرز الأنبياء على الدوام مُعْلِنين أن إرادة الله لا أن يتنافس شعبه مع الأمم الأخرى، واضعين ثقتهم في أفضل أسلحة الحرب كالمركبات والخيل (تث 17: 16؛ هو 1: 7؛ 14: 4؛ ميخا 5: 9؛ إش 31: 1؛ زك 8: 9؛ مز 33: 16 إلخ؛ 147: 10 إلخ...) إنما سلاحهم هو الرب نفسه. تفتخر الأمم بقوتها الكامنة في المركبات والخيل وكل المظاهر الجذابة، أما كنيسة المسيح فتجد قوتها في عمانوئيل السماوي الذي جاء متواضعًا ووديعًا ليحملنا فيه إلى سمواته.

v   بالصلوات كانوا ينطلقون بالرب[422].

 البابا أثناسيوس الرسولي

v   عندما أراد ربك أن يدخل أورشليم منتصرًا، لم يكن يملك حتى جحشًا، كما جاء في الكتب، هؤلاء بمركبات وهؤلاء بخيل ونحن باسم الرب إلهنا نجد عوننا[423].

 العلامة ترتليان

يمكن أن تحترق المركبات ويموت الخيل فينهار المتكلون عليها أما المتكلون على ذراع الرب الأبدي وإسمه فلا يسقطون قط ولا يُخْزَون بل يتمتعون بالخلاص الأبدي.

بدأ المرتل بالحديث عن آلام السيد المسيح، والدخول بنا إلى كنيسته للتمتع بعمله الذبيحي، ليملك بدمه الثمين على قلوبنا، واهبًا إيانا النصرة والغلبة باسمه وليس بالإمكانيات البشرية... وها هو يختتم المزمور بنصرتنا نحن فيه وإستقامتنا ببره.

 

 

 


 

صلاة

v   أيها القائد الحقيقي، لتدخل بنا إلى معركة الصليب، واهبًا إيانا الغلبة والنصرة على قوات الظلمة.

v   هب لنا التمتع بصليبك، قوة الله وحكمته، فلا نتكل على ذراع بشري، بل على عملك الإلهي!

v   اِمْلك يارب في قلوبنا، وأقِمْ ملكوتك في داخلنا، ولا يكون للعدو موضع فينا!

<<

 

 

 

 


 

المزمور الحادي والعشرين

نشيد نصرة الملك

مزمور ملوكي:

هو مزمور ملوكي وصلاة ليتورجية من أجل انتصار الملك. يشبه المزمور السابق بكونه يركز على الملك؛ وهو يناسب أي احتفال ملوكي أو أي تذكار خاص بالملك. يرى بعض الدارسين أن المزمور السابق يُنشد قبل المعركة، أما هذا المزمور فهو تسبحة حمد لله تُرنَّم بعد المعركة من أجل استجابة الصلاة الواردة في المزمور السابق. وضعة داود الملك وهو في قمة الفرح بروح الشكر لله الذي وهبه النصرة، ربما في معركته ضد بنى عمون في رِبَّه (2 صم 12: 26-31).

يعتقد البعض أن هذا المزمور يعكس احتفالاً في الهيكل قيبل المُضِيّ إلى الحرب كالزمور السابق؛ وأن الاختلاف الأساسى بينهما هو أن المزمور 20 يهتم  بطلب العون والنجاح في الحرب بينما يُشير المزمور 21 إلى دائرة المواهب الإلهية ككل الممنوحة  لمسيح الرب[424].

ينفرد ثيؤدورت باقتراض أن المزمور كُتِب بمناسبة مرض الملك حزقيا وشفائه.

يقول  L. Sabourin: [ربما كان المزمور جزءًا من طقس تتويج الملك (راجع عدد 4 - الترجمة السبعينية)؛ ربما كان الكاهن - في حضرة الملك - يتلو كلاً من تقديم البركات بطريقة تعبدية [2-7] والصلاة [9-13]، بينما يردد الشعب العددان [8، 14] أنتيفون (قرار) مثل (مز 60: 6)... هذا المزمور هو ليتروجية خاصة بتتويج الملك، يشبه في هذا المزامير (5، 16، 23، 27، 42-43، 61، 63، 84، 91، 101)[425].

مزمور مسيّاني:

يقول R.J. Clifford: [بعدما توقف النظام الملكي في إسرائيل بعد القرن السادس ق.م.، صارت لغة (هذا المزمور) مُستِخْدمة عن ابن داود المقبل[426]].

ويقول Gaebelein: [هذا المزمور مسيّاني. يُعلم الترجوم (الصيغة الكلدانية للعهد القديم) والتلمود بأن الملك المذكور في هذا المزمور المسيَّا. قبل العاِلم العظيم المتخصص في التلمود الحاخام سليمان اسحق المعروف باسم راشي (وُلد عام 1040م) هذا التفسير فاقترح أن يُتَرك هذا المزمور لحساب المسيحين لاستخدامه برهانًا على أن يسوع الناصرى هو المسيّا...

لعدة قرون استخدم الطقسيون هذا المزمور بحق في الاحتفال بعيد الصعود، كذكرى لعودة ربنا إلى المجد ودوره كرئيس كهنتنا الأعظم... قبل العصر المسيحي، استُخِدم المزمور دون  شك في العبادة الهيكلية].

بعض أجزاء من هذا المزمور [مثل عدد 4] لا يمكن أن تنطبق حرفيًا إلا على المسيَّا[427]، مع هذا لم يُقْتَبس هذا المزمور قط في العهد الجديد، وإن كان قد أُشير إليه بالتلميح مرتين في (عب 2: 9، 12: 2).

إن كان هذا المزمور هو "نشيد نصرة الملك"، حيث نترنم بحب المسيَّا، ملك الملوك الممجد، الذي يهبنا فيه شركة الأمجاد، فإنه يقودنا إلى المزمور التالي (22)، مزمور "آلام المسيح المجيدة"، يقودنا إلى رابية الجلجثة، ويدخل بنا إلى أعتاب عرشه.

يحثنا هذا المزمور على تكريس حياتنا تكريسًا كاملاً لحساب ربنا يسوع، في طاعة مطلقة لإرادة الله، وفي ثقة شديدة في أمانة الله من نحونا.

الكلمة الاسترشادية (مفتاح السفر):

الكمة الاسترشادية هي "قوة" [1، 13]؛ ويليق بنا هنا أن نشير إلى كلمة أخرى لها صلة بالقوة جاءت في العدد [7]: "وبرحمة (الحب الثابت) العلي لا يتزعزع"، تُفسرّ لنا مصدر كل قوة توجد في الميثاق بين الرب وشعبه، رباط الحب الشديد، الإخلاص خلال دم المسيح الخلاصي، المتأصل في الرب.

الإطار العام:

1. نصرات المسيح الملك الماضية    [1- 7].

2. نصرات المسيح المقبلة             [8- 12].

3. تسبيح وحمد الشعب                [13].

1. نصرات المسيح الملك الماضية:

هذا القسم [1-7] هو شكر من أجل الأمتيازات التي قُدّمت للملك وكما قلنا أن هذا الملك هو ابن داود الذي يصوره المرتل كملك مقاتل يُحارب إبليس وجنوده الأشرار لحسابنا.

ونحن أيضًا كأعضاء جسد المسيح صرنا  ملوكًا محاربين، نتلقى العون من ملك الملوك في حربنا الروحية. لذلك أُستُخِدم الكثير من عبارات هذا المزمور عن القديسين في الليتورجيات مثل  Desiderium cordis euis tribuistiei[428].

أولاً: شكر لله من أجل قوته وخلاصه.

"يارب بقوتك يفرح الملك،

وبخلاصك يتهلل جدًا" [1].

إذ سأل بيلاطس السيد المسيح: "أنت ملك اليهود"، أجابه: "أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟!... أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العاَلم لأشهد للحق" (يو 18: 23-27). إنه ليس مجرد ملك، لكنه "الملك"، الذي ارتفع على الصليب بالحب كعرش له، ليقيم مملكته في القلوب وداخل النفوس. يمكننا القول إن المزمور السابق هو نشيد الملك في البستان حيث يدخل معركة الصليب "يوم الشدة"، مُقدّمًا حياته ذبيحة محرقة، وقد استجاب الآب طلبته وشفاعته الكفارية عن جميع مؤمنيه، الآن يُترنَّم بتسبحة القيامة، بكونها قوة الملك الغالب الموت، واهب الفرح والتهليل لكل المتمتعين بحياته المُقامة.

لم يفرح داود بعرشة ولا بقوة جيشة وإنما بقوة الرب وخلاصه المجانى. ونحن أيضًا إذ نتحد مع ابن داود نملك على أهوائنا، لنعيش بحياته المُقامة، غالبين ومنتصرين. وكما يقول القديس بولس: "لكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهِر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14).

اختبر داود الملك أن كل خلاص إنما يتحقق بالله، متى قدم خلاصًا يُقهر كل عدو.

لماذا يفرح داود بخلاص الله؟

أ. خلاص الله فعَّال، به يظهر كل الأعداء عاجزين عن أن يسببوا لنا ضررًا، إذ لا حول لهم ولا قوة أمام المخلص.

v لما نظر الله الكائن في كل أحد، كيف مسك الشيطان البشر وقادهم في جميع طرقه الممتلئة عثرات... شفق وتحنن هو برحمته التي لا قياس لها، ورأى بحكمته ومحبته التي لا تدرك أن يكسر افتخار الشيطان وشموخه، ويُظهر ويفضح غشه... أتى إلينا وشفانا وشجعنا وقوّانا ونصرنا... وأشركنا مع عظمته، ورفعنا إلى عالمه الحقيقي ومملكته الأمينة[429].

القديس يوحنا التبايسي

v   الآن (بقيامة السيد المسيح) يا أحبائى... قد ذُبح الشيطان، ذلك الطاغية الذي هو ضد العالم كله...

الآن إذ نأكل "كلمة" الآب، وتُمسح قلوبنا بدم العهد الجديد نعرف النعمة التي يهبنا إياها المخلص، الذي قال: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10: 19). لأنه لا يعود يملك الموت، بل تتسلط الحياة عوض الموت، إذ يقول الرب: "أنا هو الحياة" (يو 14: 6)، حتى أن كل شيء قد إمتلأ بالفرح والسعادة، كما هو مكتوب: "الرب قد ملك فلتفرح الأرض"[430].

البابا أثناسيوس الرسولي

لقد صار اسم "يسوع" سرّ قوة للمؤمن وغلبه على الخطية والشيطان وكل قوات الظلمة. يقول العلامة أوريجانوس: [باسمه كثيرًا ما تُطرد الشياطين من البشر، خاصة إن رُدد بطريقة سليمة وبكل ثقة. عظيم هو إسم يسوع!... إسم يسوع يشفي المتألمين ذهنيًا، ويطرد أرواح الظلمة، ويهب شفاءً للمرضى[431]].

ب. يتحقق الخلاص بطرق لم تكن في الحسبان.

ج. يتم الخلاص في أحلك اللحظات؛ الله لا يتأخر لحظة واحدة في تقديم مراحمه، لكنه أحيانا ينتظر حتى اللحظة الأخيرة[432].

د. لم يكن فرح داود بالنصرة في ذاتها بل في قوة الله وخلاصه. لم يفتخر داود بإمكانياته ولا بنصرة جيوشه، معطيًا كل المجد والكرامة لمخلصه.

هـ. كانت انتصارات داود ظلاً لانتصارات ابن داود التي تحققت بالصليب. يقول القديس بولس: "الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزى، فجلس عن يمين عرش الله" (عب 12: 2). كنائب عنا، تألم وصُلب لحسابنا؛ فيه قمنا وفيه ارتفع إنساننا الداخلي إلى السموات معه (أف 3: 6)، لهذا يتهلل السيد المسيح نفسه بخلاص الآب الذي تممه فيه، ولعمله الفدائي... إذ "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16). لذا قيل: "يارب بقوتك يفرح الملك، وبخلاصك يتهلل جدًا". ونحن أيضًا إذ صرنا ملوكًا نفرح بالشركة معه في صلبه، لأن ما يُسِرُّ الملك (المسيح) يُفرّحنا نحن أيضًا (1 صم 3: 16). في المسيح يسوع نتهلل حين نتمتع بعمله الفدائي في حياتنا اليومية وعند رؤيتنا الآخرين يَنْعمون معنا بذات النعمة التي نتمتع بها.

ثانيًا: الشكر لاستجابة الله سُوٌْل قلبنا.

"شهوة قلبه أعطيه،

وسؤال شفتيه لم تعدمه" [2].

يبدأ المرتل بشهوة القلب ثم يُكمل بسؤال الشفتين، لأن شهوة القلب تسبق سؤال الشفتين ويَلزم أن تتفق معه، ليعمل الداخل والخارج حسب إرادة الله... عندئذ نجد استجابة الله السريعة للقلب كما للفم.

لقد صلى مسيحنا بشفتيه: "مَجِدّ ابنك فيُمجِدك ابنك أيضًا" (يو 17: 1)، وجاءت كلماته تتفق مع شهوة قلبه، وقد استُجِيبَت.

v   اشتهي المسيح أن يأكل الفصح (لو 22: 15)، وأن يبذل حياته ليضعها بإرادته ويأخذها أيضًا بإرادته (يو 10: 18)، وقد تحققت شهوته.

القديس أغسطينوس

أعلن مسيحنا شهوة قلبه الداخلية بالصلاة المسموعة، بالكلمات وأيضًا بالآلام... وقد تحققت شهوة قلبه ولا تزال تتحقق في كنيسته إلى أن يتم جهاد كل المختارين وينعموا بشركة الميراث معه.

ثالثًا: الشكر لله الذي يمجد ابنه.

"لأنك أدركته ببركات صلاحك،

ووضعت على رأسه إكليلاً من حجر كريم" [3].

في النص العبري: "لأنك تتقدمه ببركات خير"، فقد سبقت بركات صلاحه أو خيره فأُعْلِنت حتى قبل تجسده، فقد رأى إبراهيم يوم الرب فتهلل وفرح (يو 8: 56)، وتمتع رجال العهد القديم بالخلاص خلال رموزه وظلاله وعلى رجاء موته.

ونحن أيضًا في العهد الجديد تمتعنا ببركات صلاحه، فنلنا الكثير من العطايا الإلهية قبل أن نسأله أو نطلبها مثل نعمة الوجود، وتمتعنا بالإيمان المسيحي، ونوالنا العماد وسمحة الميرون وسكنى الروح القدس في قلوبنا مع أمور كثيره لا تُحصَى وُهِبت لنا كما أنعم لداود بالعرش دون فضل من جانبه. لم يطلب أحد ما مخلصًا إنما هو من قبيل حب الله جاء الوعد بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية. وكأن عطايا الله للبشر هي من قبيل حبه وصلاحه، يبادر بالحب حتى قبلما أن نوجد أو نتعرف عليه.

رأى المرتل مسيحنا مكللاً على الصليب كملك، فقال: "وضعتَ على رأسه إكليلاً من حجر كريم". حسب الظاهر وُضِع على رأسه إكليل شوك لا أحجار كريمة  ليدفع ثمن خطايانا، أما في الداخل فقد توَّجنا معه ملوكًا لنَنْعم بأكاليل سماوية ثمينة.

v إن كانت الملائكة تفرح متى رأت إنسانًا خاطئًا يرجع إلى الله تائبًا، فكيف لا يمتلئون فرحًا عظيمًا عندما يرون الطبيعة البشرية كلها - في بكرها - تصعد اليوم إلى السماء؟![433].

القديس يوحنا ذهبي الفم

"مجده عظيم بخلاصك.

مجدًا وبهاءً عظيمًا جعلت عليه،

لأنك تعطهِ بركة إلى أبد الأبد" [5].

لأجلنا أخلى ذاته عن مجده ولأجلنا تمجّد، نال من الآب الكرامة والمجد (1 بط 1: 17)، المجد الذي كان له من قبل تأسيس العالم (يو 17: 5).

ربنا يسوع - ملك الملوك - يضع التيجان الملوكية على رؤوس مؤمنيه الأتقياء بيده. ما من درجة من الكرامة مهما علت لا يمكن لله أن يرفعنا إليها إذا أراد ذلك؛ فهو يرفع المسكين من المزبلة، ويقيمه وسط الأشراف (مز 113: 7-8) "الملوك الروحيين". فقد أخذ الرب داود من بين أغنامه وأقامه ملكًا متوجًا على أعظم  عرش في المسكونة كلها في ذلك الحين.

في استحقاقات الدم الثمين وهبنا ربنا يسوع المسيح روحه القدوس، الذي يشكل إنساننا الداخلي لنحمل شركة المجد والبهاء بصورة فائقة:

v   الابن يجعل الذين يقبلونه مشابهين له بواسطة الروح القدس[434].

v حينما تتجدد صورتنا بالقداسة يفعل هذا الروح، فنحن في الواقع نتغير إلى صورة الله، وهذا هو ما يقوله الرسول: "يا أولادي الذين اتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" فالمسيح فينا بالروح القدس الذي يجدد شكلنا بحسب الله[435].

v   المسيح يتصور فينا بفعل الروح القدس الذي يرسم في نفوسنا صورة إلهية في البر والقداسة[436].

القديس كيرلس الكبير

رابعًا: الشكر لله من أجل الحياة المقامة.

"حياة سألك فأعطيته،

طول الأيام إلى أبد الأبد" [4].

لعل من أعمق الأسباب لتقديم الشكر لله هو تمتعنا بالحياة الجديدة الغالبة للموت. ربما قدم داود الشكر لله لأنه منذ صباه وحتى شيخوخته تعرض لتجارب كثيرة جعلته حسب المنطق البشري على عتبة أبواب الموت، وفي كل مرة كان خلاصة من الموت هو عطية من قبل الله، وليس بعمل بشري. شعر داود الملك أنه مدين لله بكل حياته. إن انطلقنا إلى ابن داود نجده وقد أطاع حتى الموت موت الصليب تقبل القيامة من الآب مع كونه هو "القيامة"، وبسلطانه وضع نفسه وأخذها... بالطاعة نال إرادة الآب أن يقوم. ونحن أيضًا إذ صرنا أعضاء جسد المسيح القائم من الأموات ننال هذه الحياة الجديدة فيه.

v "حياة سألك فأعطيته"، أي القيامة التي اِنْجلَت في كلماته: "أيها الآب مَجِدّ ابنك" (يو 14: 7)، وقد أعطيتها له. "طول الأيام إلى أبد الأبد"، أي تلك السنين التي تعيشها الكنيسة

في العالم الآن، وستبقى فيما بعد إلى الدهر الذي بلا نهاية.

القديس أغسطينوس

لقد فُسِرَتْ بركة "طول الأيام إلى أبد الأبد"، في العصور اليهودية المتأخرة وبعض المفسرين المسيحين بأنها بركة مسيّانية، تشير إلى المُلْك الأبدي لنسل داود[437].

خامسًا: الشكر لله من أجل البركات الإلهية.

"لأنك تعطيه بركة إلى أبد الأبد" [6].

السيد المسيح المُبارك، مصدر كل بركة؛ بالصليب بسط يديه فاتحًا أحضانه لكل الأمم كي تَنْعَم بالبركات الإلهية؛ فيجد الكل فيه كفايتهم وشبعهم.

سادسًا: شكر لله من أجل الفرح برؤية الله.

"أبهجته بفرح مع وجهك" [6].

نشكر الله من أجل قوّته وخلاصه اللذين يملاّننا فرحًا، وتهليلاً، ومن أجل تحقيق شهوة قلوبنا وسُؤْل شفاهنا في صلواتنا، من أجل المجد الذي نلناه في الداخل باتحادنا معه، ولتمتُّعِنا بالحياة الجديدة في المسيح يسوع، ومن أجل فيض بركاته، أما تاج هذا كله فهو دخولنا إلى ملكوت الفرح بتمتُّعِنا بوجه إلهنا حيث نَنْعم برؤيته.

2. نصرات المسيح المقبلة:

الشكر الحقيقي الذي يقدمه المَلِك والشعب لا يكمن في تمجيد الماضي وإنما بالحري من أجل الثقة في عمل الله معهم في المستقبل. لقد عَلَّم المرتل شعبه أن يتطلعوا إلى الماضي بفرح مُمَجّدين عمل الله معهم حتى يثقوا في الله الذي يهب الخلاص من الأعداء مهما بلغت قوتهم. هو الذي خلصهم ويُخلصهم ويبقى يُخلصهم في المستقبل. لذا يصف المرتل هنا الأعداء وتخطيطاتهم ومصيرهم:

"تظفر يدك بجميع أعدائك،

ويمينك تظفر بجميع مبغضيك

تجعلهم مثل تنور نار في آوان وجهك.

يارب بغضبك تُقلقهم، وتأكلهم النار" [8-9].

إن كان الرب بصليبه قد مزق صك خطايانا، وشّهَّر بعدو الخير وكل قواته؛ عند مجيئه الأخير سيحطم مملكته تمامًا. يجعله كأتون النار لأنفسهم، وذلك " في أوان وجهك"، أي في زمان مجيء الرب للدينونة؛ زمان الغضب.

شَبَّه أعداء الملِك والذين هم أنفسهم أعداء الله، بالعُشْب الجاف والكلأ، الذي يُوقد به في التنور (الفرن)، ويُلقى في نيرانه. وقد تكررت الكلمة المقابلة للتنور oven 15 مرة في النص العبري والكلمة التي تقابل فرن furnace أربع مرات، هذه الصور تُعبّر عن هلاك أعداء الله، إذ يبيدون كقطع خشبية قد زُجَّت في الفرن، فيهلكون تمامًا[438].

وتُستخدم كلمة "نار" في الكتاب المقدس أحيانًا للتعبير عن غضب الله (راجع تث 4: 12؛ 5: 22-25؛ مز 18: 14) وعن يوم الرب الانقضائي (الاسخاتولوجي) (عا 1: 4-14؛ 2: 2-5؛ ملا 3: 2؛ 4: 1)[439]. ويقول سفر الرؤيا عن الأشرار: "يتصاعد دخان عذاباتهم إلى الأبد".

لا يعني غضب الله كراهية أو انتقامًا لنفسه، وإنما يختار الأشرار لأنفسهم أن يكونوا عشبًا زائلاً ويرفضوا أن يَنْعموا بموضع في الحضن الإلهي. إنهم يعدون أنفسهم بمحض إرادتهم ألا يقبلوا مراحم الله ليشتركوا في أمجاده.

"وثمرتهم من الأرض تهلك،

ونسلهم من بني البشر" [10].

جاءت كلمة "ثمرة" في العبرية "أولاد" فالحديث عن الأولاد كثمر هو حديث قديم جدًا (راجع تك 30: 2؛ تث 7: 13؛ 28: 4؛ مز 127: 3؛ 132: 11؛ إش 13: 18؛ مرا 2: 20؛ هو 9: 16؛ مي 6: 7). في المسيح يسوع ربنا تهلك ثمرة إبليس وكل أبنائه، أي الخطايا التي تربض في القلب كما في الأرض. بنعمة الله لا يُتْرك لهم أثر في قلوبنا أو أفكارنا أو عواطفنا، فنقول مع موسى النبي: "لا يبقى ظلف" (خر 10: 26).

إذ يُحوّل الرب قلوبنا إلى السماء تتبدد ظلمة إبليس وكل أعماله، فلا يوجد في داخلنا تراب أو أررض يمكن للعدو أن يركض فيها، لذا قيل "ثمرتهم من الأرض تهلك".

ربما يعني بالأرض الجسد، فلا يكون للعدو ثمر في جسدنا كما لا مكان له في نفوسنا؛ إذ يتقدس الإنسان بكُليّته: الجسد والنفس معًا.

"لأنهم أمالوا عليك شرورًا،

وتشاوروا مشورة لم يستطيعوا إقامتها" [11].

أعداء المسيح أقوياء لكنهم أمامه ضعفاء للغاية. إنهم مملؤون دهاءً وشرًا، يدبرون بالخبث مكائدهم ضده وضد كنيسته، لكنه أخيرًا يفشلون إذ "لا يستطيعون إقامتها". إنهم كالأفعى تحمل سمًّا لكن رأسه مهشم، وكالأسد يزأر لكنه أسير!

يقول الأب قيصريوس أسقف آرل: [إن هذه النبوة قد تحققت عندما زعم الجنود الأشرار أن التلاميذ جاءوا ليلاً وسرقوا جسد السيد المسيح وهم نائمون، لأنهم لو كانوا مستيقظين لحرسوا القبر؟ ولكن إن كانوا نائمين فكيف علموا ما حدث؟[440] بقولهم هذا أكدَّوا القيامة وهم لا يدرون؟

3. تسبيح وحمد الشعب:

"ارتفع يارب بقوتك،

نسبح ونرتل لجبروتك" [13].

جاءت الخاتمة مشابهة للأفتتاحية إلى حد كبير ومماثلة لختام (ذكصولوجية) الصلاة الربانية[441]. هكذا تنتهي آلامنا إلى إعلان مجد الله المفرح في حياتنا وفي لقائنا معه أبديًا!

 


 

صلاة

v   يدك يا إلهي لا تقصر عن أن تعمل في حياة أولادك!

v   أنت الذي خلَّصتَ وتُخلّص وستُخلّص حتى تدخل بنا جميعًا إلى شركة أمجادك.

v   اقبل يارب شكرنا وتهليلاتنا لأنك أتيت وخلصتنا؛

تسمع نبضات قلبنا وتستجيب لكلمات شفاهنا؛

تسكب بهاءك علينا فنصلح لمملكة؛

تهبنا حياتك سرّ القيامة التي لا يُحطمها الموت؛

تُفيض علينا بينبوع بركات لا يجف؛

وأخيرًا تُعلن ذاتك فنعرف ونراك وجهًا لوجه!

v   حَطّم يارب ثمر العدو في قلوبنا،

ولتُقِمْ ملكوتك داخلنا؛

ولتتمجَّد فينا إلى الأبد!

<<

 

 


 

المزمور الثاني والعشرون

آلام المسيح المجيدة

من الآلام إلى الأمجاد:

يعتبر هذا المزمور بالنسبة للمسيحين "قدس الاقداس". استخدم مخلصنا كلماته الأفتتاحية في صلاته على الصليب وهو يروي لنا في شيء من التفصيل الصلب والقيامة وتأسيس مملكة المسيح الروحية من الأمم.

نسمع في هذا المزمور ربنا يسوع - خلال فم داود النبي - يتغنى بتسبحة الألم ليحوّل آلامنا إلى تسبيح! وكما يقول القديس بولس: "ناظرين إلى... يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزى فجلس عن يمين عرش الله" (عب 12: 2).

مزمور مسياني:

هيكل هذا المزمور فريد في نوعة يراه البعض مرثاة لها قوتها الخاصة[442]، ويحسبه آخرون تجميعًا لثلاثة مزامير منفصلة[443]، أو على الأقل لمزمورين: واحد مرثاة [1-21]، والآخر شكر [22-31]. هذان المزموران أو القسمان متمايزان عن بعضهما البعض، لاختلافهم من جهة نفسية المرتل، وأفكاره وأسلوبه[444]. يظن بعض الداريسن أن هذين القسمين كُتبا منفصلين بعد اجتياز المرتل خبرة مُرَّةً رهيبة، وأُضيفا فيما بعد إلى بعضما البعض لاستخدامهما في الهيكل للعبادة، وقد فُسرا معًا كمزمور مستقبلي يحمل فهمًا مسيانيًا[445].

يتطلع آباء الكنيسة إلى هذا المزمور كمزمور مسياني، يروى بتناغم وتوافق أحداث الصلب المؤلمة جنبًا إلى جنب مع أحداث القيامة المبهجة، وأخبار الكرازة بالإنجيل (الأخبار السارة) بين الأمم لأقامة كنيسة المسيح، مملكة المجيدة‍!

لا يمكن لمسيحي أن يقرأ هذا المزمور إلا ويلتقي بالصلب في حيوية وقوة. "النبوة" ربما هي الموضوع الوحيد لهذا المزمور (1 بط 1: 10-11؛ لو 24: 25-26)، إذ يُحسب إحدى النبوات الكاملة عن آلام المسيح واتضاعة ومملكته المجيدة غير المحدودة بين الأمم.

ورد في العهد الجديد اقتباسات من هذا المزمور 13 مرة، منها 9 مرات في قصة الآلام وحدها. وقد اتخذ منه تلاميذ ربنا يسوع المسيح مادة للكرازة بالرسالة الخلاصية لصلب السيد المسيح وموته وقيامته.

مع شعور المرتل بالعزلة التامة والتخلي عنه، غير أنه يعيش في مملكة السلام. لا نجده يُلمِّح وهو متألم إلى خطية ما، ولا يناشد بتبرئة نفسه، ولا يدافع قط ضد اتهامات باطلة، ولا ينفث غضبًا ضد أعدائه. لا نجد ذكرًا مباشرًا للأعداء، ولا طلب اللعنة عليهم كما في معظم المراثي[446].

العنوان:

"لإمام المغنين على أيلة الصبح (سحر الصباح) Aijeleth Sahar؛ مزمور داود".

ماذا يعني تعبير "أيلة الصبح"؟

1. يصف عمل السيد المسيح الفدائي: آلام القدوس وقيامته. إذ تتألم الأيل الجريحة وهي بريئة ليأتي عليها السحر بالفرج. هكذا تألم مسيحنا وجُرح على الصليب، ليعلن مجده فى فجر الأحد بقيامته. مسيحنا مثل غُفْرِ الأيائل على جبال الأطياب (نش 8: 14)، مثل الظبية المحبوبة والوعلة الزهية لدى جميع المؤمنين (أم 5: 19)، ينطق بأقوال حسنة كنفتالي الذي يشبه "أيلة مسبية" (تك 49: 21).

2. بحسب التقليد اليهودي القديم، هذا التعبير يعني الشكناه، أي السحابة المجيدة التي كانت تظهر وسط شعب الله.

بحسب التقليد كان الحمل يُقدم كذبيحة صباحية بمجرد أن يرى الرقيب من فوق قبة الهيكل أشعة الفجر (السحر) الأولى، فيصرخ قائلاً: "انظروا ها هي أشعة النهار الأولى قد سطعت". هكذا يتحقق إشراق الفداء المقدس خلال آلام المسيح حمل الله التي نراها في هذا المزمور[447].

3. يرى آخرون أن هذا التعبير يشير إلى مجرد النغمة التي تستخدم للتسبيح بالمزمور.

أقسام المزمور:

1. المسيح المتألم            [1-21].

2. المسيح الممجد            [22-31].

1. المسيح المتألم:

ورد هنا وصف كامل لقصة الصلب الرهيبة، التي تحققت تمامًا وبطريقة حرفية خلال آلام السيد المسيح.

1. أعلنت كلمات المزمور الأولى عن تكلفة فدائنا:

"إلهي إلهي لماذا تركتني؟! بعيدًا عن خلاصي عن كلام زفيري (عن ثقل خطاياي)" [1].

ربما يقول أحد إن كلمات الأفتتاحية هذه تناقض نفسها، إذ كيف يمكن لأحد أن يقول "إلهي" لذاك الإله الذي ترك عبده؟! إلا أننا لا نشعر أننا متروكون من الغرباء إنما فقط يكون لنا هذا الشعور نحو الملاصقين لنا.

إنها صرخة يائسة اقتبسها ربنا على الصليب، مظهرًا أنه يختبر ما ورد في هذا المزمور.

لقد حُسب ربنا- كمثل للبشرية- كأنه متروك من الآب إلى حين، لأنه صار لعنة لأجلنا (غلا 3: 13)، وصار خطية من أجلنا ذاك الذي لم يعرف خطية (2 كو 5: 21) حتى لا نصير نحن متروكين من الآب أبديًا. جاء في إشعياء "لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة أجمعك، بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة، وبإحسان أبدي أرحمك" (إش 54: 7). شاركنا مخلصنا خبرتنا المُرّة إذ نشعر أن الله تركنا. صارع حتى الموت ليقيم نفسه جسرًا يقودنا خارج ضيقاتنا وينطلق بنا إلى حضن الآب. أُظهر لنا على الصليب مقدار بعدنا عن الله وانفصالنا عنه، هذا الذي هو علّة وجودنا كله.

تدخل بنا هذه الكلمات وجهًا لوجه مع أعماق عمل المسيح غير المدرك الحامل لخطايانا، هذا الذي وضع عليه إثم جميعنا. يسوع الذي صار خطية لأجلنا، وفي خضوع وضع نفسه تحت غضب الآب وكراهيته للخطية. "أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن" (إش 53: 10).

v   لم يكن المسيح متروكًا من الآب ولا من لاهوته كما يظن البعض، أو كما لو كـان

خائفًا من الآلام فانفصل بلاهوته عن ناسوته أثناء آلامه...؛ وإنما كما قلت إنه كان ينوب عنا في شخصه. نحن كنا قبلاً متروكين ومرذولين، أما الآن فبآلام ذاك الذي لا يسوغ له أن يتألم (حسب اللاهوت) أقامنا وخلصنا[448].

القديس غرغوريوس النزيزى

v   ماذا يعني ربنا؟ الله لم يتركه إذ هو نفسه الله... فلماذا استخدم هذه الكلمات لو لم نكن نحن حاضرين (فيه)، لأن الكنيسة هي جسد المسيح (أف 1: 23)؟ ماذا يقصد بقوله: "إلهي إلهي لماذا تركتني" إلا أن يستلفت أنظارنا، قائلاً لنا: "هذا المزمور إنما كُتب عني؟"

القديس أغسطينوس

v   الصلاة التي أنطق بها ليست صلاة رجل بار، إنما تليق بمن حمل الخطايا. من يُصلي هكذا هو ذاك الذي الذي يسُمّر على الصليب إنساننا العتيق الذي لا يُدرك حتى لماذا تركه الله.

القديس أغسطينوس  

v   بكونه إنسانًا يتكلم حاملاً مخاوفي، فإننا إذ نكون في وسط المخاطر نظن أن الله قد تركنا. لهذا كإنسان اكتأب، وكإنسان بكى، وكإنسان صُلب[449].

القديس أمبروسيوس

v   صنع المسيح نفسه هذا (صرخ على الصليب) كي نتعلم أنه حتى النفس الأخير كان يكرم أبيه، وأنه ليس ضد الله[450]

القديس يوحنا الذهبى الفم

أجاب المخلص المصلوب على هذا السؤال بنفسه، قائلاً: "أنت القدوس" [4]. هذه هي الإجابة: القداسة الإلهية؛ لأنه كان يجب أن يسدد بالكمل ثمن الخطية، الثمن الذي لا يمكننا إدراكه.

قداسة الله تكشف الفرق الشاسع بين عظمة الله وبيننا نحن. خلال الصليب صرنا ملتصقين بالله الذي لا يُدنى منه، إذ ننال الشركة مع الابن الذي هو بِرُّنا وتقديسنا، وفيه نصير قديسين.

2. يُظهر المزمور صورة الصليب بآلامه وعاره.

يقول المرتل إن آباءه اتكلوا على الرب [5-6]، أما حالته فميئوس منها، لأنه دودة لا إنسان.

"أما أنا فدودة لا إنسان،

عار عند البشر ومحتقر الشعب" [6].

هذه هي كلمات السيد المسيح الذي صار مهانًا ومُحتقر الشعب. صار في عيني الأعداء مرزولاً من الله، كدودة مدوسة بالأقدام!

الكلمة العبرية المقابلة لـ "دودة" تُستخدم للحشرة الصغيرة cocus التي يستخرج منها الصبغة القرمزية اللون أو الأرجوانية، تنتج عن موت الحشرة. هذا اللون كان لازمًا في خيمة الاجتماع. هكذا مات السيد المسيح حتى تصير خطايانا التي كالقرمز بيضاء كالثلج.

v   "وأما أنا فدودة" ... الآن لا أتكلم كآدم، إنما أنا يسوع المسيح أتحدث باسمى الخاص. لقد وُلدت حاملاً الجسد البشري دون زرع بشر، حتى بكوني إنسنًا أصير فوق البشر؛ بهذا أُخضع الكبرياء البشري بامتثالهم لاتضاعي.

v   لماذا "... لا إنسان"؟ لأنه هو الله. لماذا وضع نفسه هكذا حتى قال إنه "دودة"؟ هل لأن الدودة تولد من جسم دون اتصال جسدي، كما جاء السيد المسيح من العذراء مريم؟ ... فقد وُلد من جسد لكن دون زرع بشري.

القديس أغسطينوس  

استخدم العلامة ترتليان هذه الآية في مناظرته ضد أتباع فالنتنيان. منكري ناسوت المسيح قائلاً: [إنهم ينكرون ناسوت المسيح، هذا الذي أعلن عن نفسه أنه "دورة لا إنسان"، والذي قال عنه إشعياء النبي أيضًا: "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع... وكمستَّرٍ عنه وجوهنا، محتقرٌ فلم نعتدَّ به" (إش 53: 3)[451]].

يرى القديس باسيليوس الكبير في كلمات المرتل داود "أنا دودة لا إنسان" دعوة للاتضاع، إذ يقول: [هل احتقرك (إنسان) واستخف بك؟! أذكر أنك قد خُلقت من التراب (تك 3: 19)... إن دعاك وضيعًا، حقيرًا، كلا شيء، قل في نفسك إنك تراب ورماد. فإنك لست أعظم من أبينا إبراهيم الذي اعتاد أن يستخدم هذا الأسلوب مع نفسه (تك 18: 27). إن قال لك عدوك إنك حقير وشحاذ وتافه، قل في نفسك مع داود: "أنا دودة" وُجدت في الحمأة[452]].

هكذا في اتضاع ندرك حقيقة ضعفنا، لكي بالإيمان نتمتع بكرامة مسيحنا المتضع، ونُحسب بحق أولاد الله المكرمين حتى بين السمائيين!.

v   "عار عند البشر ومحقر الشعب" [6]. اتضاعي جعلي موضع سخرية البشر، فيستطيعون القول باستخفاف وبروح الإساءة: "أنت تلميذ ذاك" (يو 9: 28)، وهكذا يقودون الغوغاء إلى احتقاره.

"كل الذين يرونني يسهزئون بي" [7]. كنت أضحوكة كل من ينظر إليّ.

"يفغرون الشفاه ويُنغِضون الرأس" [7]. صمتت قلوبهم، فنطقوا بشفاههم وحدها.

القديس أغسطينوس  

"يفغرون الشفاه" إشارة إلى فتح الفم أو الضحك... "يُنغِضون الرأس" علامة الاستهزاء بحركة الرأس. في الحركتين استهزاء وسخرية (مت 27: 39؛ مر 15: 29). فقد حسبوه شريرًا، ومجدفًا على الله، كاسر السبت، شرِّيب خمر، نبيًا كذابًا، عدوًا لقيصر، متحالفًا مع سلطان الشياطين.

v   يقول في المزمور: "لأنك أنت جذبتني من البطن" [9]، مشيرًا إلى أنه وُلد بغير زرع بشر، بكونه أُخذ من بطن العذراء وجسدها، لأن أسلوب الولادة (هنا) مختلف عن أسلوب أولئك الذين يولدون عن طريق الزواج[453].

القديس كيرلس الأورشليمي

3. لقد تخلى عنه أصدقاؤه (لا مُعين) [11]. إذ داس المعصرة وحده.

4. يظهر مقاوموه - في المزمور - بوضوح أكثر من أى شيء آخر كعلة لآلامه [6، 7، 8، 12، 13، 16، 17، 18]. استخدم المرتل حديثًا مَجازيًّا لوصف أعدائه: الثيران، الكلاب، الأسود، قادة اليهود الأشرار اضطهدوا السيد المسيح كثيرانٍ وأسود متعجرفة بغيضة، وآخرون أقل منهم في المراكز شبههم بالكلاب، الدنسة، الجشعة، لا يكفون عن الحط منه.

الشيطان نفسه، الأسد، هو العدو الحقيقي: "خلصني من فم الأسد" [21]. هذا المقاوم الخطير الذي له سلطان الموت قد تحطم بالموت (1 بط 5: 8؛ 2 تي 4: 17؛ عب 2: 14).

v   أنا نفسي كنت فريسة الأسد، عندما أمسك بي وقادني للموت، وهو يزأر: "أصلبه أصلبه" (يو 19: 6).

القديس أغسطينوس  

v   "أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني" [12]. هؤلاء هم الشعب وقادته؛ الشعب أو الثيران التي بلا عدو؛ وقادتهم الثيران القوية.

القديس أغسطينوس  

اكتنفته الثيران العنيفة التي من باشان، حيث المراعي الخصبة شرقي عدن، المعروفة بسلالتها القوية وتربية الأغنام (تث 32: 14، عا 4: 1).

5. "وإلى تراب الموت تضعني" [15]: الموت الذي اجتازه كان بحسب إرادة الآب، كعمل طاعة من جانبه.

6. يصف هذا المزمور موت السيد المسيح على الصليب، هذه الوسيلة التي لم تكن متبعة قط عند اليهود،  إنما ابتكرتها الإمبراطورية الرومانية.

هنا يصور لنا هذا الموت الرهيب:

أ. يشير إلى الظلمة [2] التي غطت الأرض عندما صُلب ربنا.

ب. "كالماء انسكبتُ" [14]. عندما طُعن جنب ربنا خرج من الجرح دم وماء.

ج. "انفصلت كل عظامي" [14]. عندما عُلق السيد المسيح على الصليب ارهقت العضلات وانفصلت المفاصل عن مكانها.

v   لا توجد كلمات تصف تمدد جسد (المسيح) فوق الشجرة أفضل من هذه: "أُحصى كل عظامي".

القديس أغسطينوس  

يرى العلامة أوريجانوس أن هذه العظام من الجانب الرمزي تشير إلى تلاميذ السيد المسيح وجماعة المؤمنين فقد تبعثروا في ضعف في لحظات الصلب لكنه بالقيامة اجتمعوا كجسد واحد لم تنكسر منه عظمة واحدة.

v   "تبعثرت كل عظامي" [14]. بالرغم من أن عظام جسمه لم تتبعثر، ولم يُكسر منها واحدة. لكنه إذ تحققت القيامة، قيامة جسد المسيح الكامل الحق، فإنه يجتمع معًا أعضاء جسد المسيح الذين يكونون في ذلك الوقت عظامًا جافة، كل عظم من عظمه، فيلتصق الكل ويرتبط معًا (لأن من كان عاجزًا عن الترابط معًا لن يبلغ الإنسان الكامل)، وهكذا يبلغون إلى قياس ملء قامة المسيح. حينئذ يصير الأعضاء الكثيرون جسد واحد، مع كثرتهم يصير الكل أعضاء الجسد الواحد[454].

العلامة أوريجانوس

يرى كثير من الآباء أن المؤمنين الحقيقيين - عظام السيد المسيح - حتى إن ضعفوا في لحظات الضيق والاستشهاد لكن نعمة الله تسندهم، ولا ينكسر واحد منهم.

عظام السيد المسيح هي إيماننا الداخلي به، فإننا كثيرًا ما نئن عندما تشتد التجربة، صارخين في أعماقنا: "إلى متى يارب تنساني؟!... إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أردد هذه المشورات في نفسي وهذه الأوجاع في قلبي؟" (مز 13: 1-2). كأن الله قد فارقنا أو إيماننا قد ضعف... لكن سرعان ما يعمل الله فينا بنعمته لنكمل صرخات المرتل: "يبتهج قلبي بخلاصك" (مز 13: 5)، معلنين أن عظامه فينا لا تنكسر وإن تبعثرت إلى حين!

د. "ثقبوا يديّ ورجلي" [16].

v   بعدما سمعت النبوات الخاصة بموته، تسأل: ماذا يُقال عن صليبه؟... "ثقبوا يدي ورجلي. أحصى كل عظامي" [16]. هذا عن موت يتحقق برفع الشخص وتعليقه على شجرة، لا يمكن أن يتحقق إلا بالصليب. أيضًا ثقب اليدين والرجلين لا يتم بموتٍ آخر غير الصليب[455].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   "وهو مجروح لأجل معصينا" (إش 53: 5). ويقول المزمور "ثقبوا يديّ ورجلي"، لكي يشفي جراحاتنا بجرحه. "مسحوق" أي "ضعيف"، "لأجل آثامنا" (إش 53: 5). لكي يخلصنا من الإهانة باحتماله الإهانة[456].

القديس جيروم

هـ. "صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي" [14].

v   أحشاؤه ترمز إلى الضعفاء في الكنيسة. كيف صار قلبه كالشمع؟؟ قلبه هو إنجيله، أو بالأكثر حكمته المذخرة في الكتب المقدسة. الكتاب المقدس مغلق لا يفهمه أحد. عندما صلب ربنا ذاب الكتاب المقدس مثل الشمع، فصار حتى الضعفاء قادرين على الدخول إلى معانيه. لذلك انشق حجاب الهيكل (مت 27: 15)، لأن ما كان محجوبًا صار ظاهرًا.

القديس أغسطينوس  

"صار قلبي كالشمع"، ذاب لكي تنطبع فيه صورة غضب الله ضد الخطية التي حملها السيد المسيح لننال الرضى. ذاب قلبي فصرت كشخص ميت، نازعًا قساوة القلب واهبًا إياه لطفًا وليونة.

و. "ويبست مثل شقفة قوتي" [15].

ز. "ولصق لساني بحنكي" [15].

ح. "وهم ينظرون ويتفرسون فيّ" [17].

ط. "ويقسِمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" [18].

v   لقد عرفنا أنه يتألم. عظامه قد أُحصيت، أُستهِزئَ به، ثيابه قد قُسَّمت.

ألقوا قرعة على لباسه، أحاط به الرجال وهم مملؤون غضبًا وعظامه تبعثرت. إننا نستمع إلى القصة ونقرأ عنها في الأنجيل.

القديس أغسطينوس  

لقد عُرَّىَ؛  فإن عار العِرْى هو ثمرة مباشرة للخطية، لهذا تجرد ربنا يسوع من ثيابه عندما صُلب لكي يكسونا بثوب بره، ولكي يسترنا من عار عرينا.

"أنقِذْ من السيف نفسي" [20]. إنه السيف الملتهب الذي للغضب المقدس، الذي يتحرك في كل اتجاه.

2. المسيح الممجد:

يتكون هذا القسم من أغنيتين للشكر متكاملتين [22-26؛ 27-31]. في الأولى يمجد المرتل الرب ويدعو المساكين للمشاركة في الوليمة الذبيحية (ذبيحة التسبيح)، بينما في الثانية يتنبأ عن إقامة المملكة المسيَّانية. إنهما تُظهران حياة المرتل الممتدة، إذ صارت مرثاته صلاة شكر وسط الجماعة العظيمة من "المساكين". إنهما تُعلنان قوة قيامة المسيح ومجدها وبهجتها: فقد تحطم سلطان الظلمة [1-21]. وجاء العيد، وانتشر الفرح وتحققت المملكة اللانهائية.

كما أن الكلمات الأولى للمرثاة [1]. استخدمها السيد المسيح على الصليب. هكذا نُسبت الكلمة الأولى لأغنية النصرة إلى السيد بوضوح (عب 2: 12).

في هذا القسم يشير المرتل إلى الشبع والنصرة الذين يهبهما المخلص في آلامه، بإعلانه عن حضرته وسط كنيسته المملؤة فرحًا وشبعًا:

1. أُُقيمت الكنيسة بإعلان "اسم الله" [22]. قال مخلصنا في صلاته الوداعية: "وعرَّفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26). لقد تعرفنا عليه خلال حبه الإلهي على الصليب.

عمل الكنيسة في كل عبادتها التمتع بالمعرفة الإلهية ومنحها للمؤمنين. فالمعمودية مثلاً تُدعى "سرّ الاستنارة"، وفي الأفخارستيا ننال معرفة عملية جديدة[457].

2. المدعون (للعضوية في كنيسة المسيح) يدخلون في علاقة قرب شديدة للسيد المسيح، فيُحسبون "إخوته".

"أُخبْر باسمك إخوتي،

في وسط الجماعة أسبحك" [22].

بينما رأيناه على الصليب وحيدًا، لا نراه هكذا بعد، بل يظهر وسط إخوته. في يوم قيامته قدم الرسالة المفرحة: "اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يو 20: 17). نسمعه يخاطب تلاميذه كإخوته وذلك في يوم قيامته المجيدة بعدما اجتاز آلامه. فإننا إذ نتقدس بعمله الخلاصي (آلام الصليب)، ليس فقط لا يخجل بل يُسر جدًا أن يدعوهم هكذا "إخوته" (عب 2: 12).

v   إننا أقرباء الرب حسب الجسد، لذا يقول: "أخبر باسمك إخوتي" (عب 2: 12؛ مز 22: 22). وكما أن الأغصان واحدة مع الكرمة (الأصل) وهي منها (يو 15: 1) هكذا نحن أيضًا جسد واحد متجانس مع جسد الرب، ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا (يو 1: 16)، ولنا هذا الجسد كأصل لقيامتنا وخلاصنا[458].

القديس أثناسيوس الرسولي

3. هذه الكنيسة هي جماعة فرح وشكر وتسبيح. نترنم للآب، بصوت المسيح نفسه الساكن في قلوبنا، هذا الذي يمنحنا حياة شاكرة مسبَّحة. يقول: "في وسط الجماعة أُسّبِحُك" [22]. السيد المسيح هو موضع سرور الآب، يُسَرُّ الآب بسماع صوته خلال كنيسته.

v   بفرح أعلن مجدك في أركان كنيستي.

القديس أغسطينوس

4. الكنيسة هي جماعة حب، لأن أعضاءها هم إخوة السيد المسيح. وهي في ذات الوقت جماعة "خائفي الرب" [23]، فإن كان السيد المسيح يدعونا أحباءه إلا أننا نحن نحسب أنفسنا عبيدًا له.

الحب ومخافة الرب هنا متكاملان في حياة المؤمنين. بهما يُعد المؤمنين زرع يعقوب وإسرائيل، وعليه تحل بركة إبراهيم [23].

5. هؤلاء الإخوة الذين ينالون الحب مع مخافة الرب المقدسين يلزمهم أن ينضموا في الجماعة العظيمة [25]، الكنيسة الجامعة. فالكنيسة كمملكة الله يليق بها أن تمتد إلى كل أركان الأرض [27-28].

تنبأ عن خلاص الأمم قائلاً: "تَذكُر وترجِعُ إلى الرب كل أقاصي الأرض" [27]، يأتى العالم ليعبد الرب.

"الجماعية" كموضوع هذا المزمور موحاه من (مز 18: 44) في اختصار، ومن مزمور 87 بأكثر توسع[459].

v   ستتعبد له كل أجناس المسكونة داخل قلوبهم، "لأن للرب المُلْك، وهو المتسلط على الأمم" [28]. المملكة هي للرب لا للإنسان المتكبر، وهو يتسلط على الأمم.

القديس أغسطينوس  

الخلاص الشخصي: الخلاص مقدم للعالم كله، يتمتع به كل عضو في الكنيسة بكونه خلاصه الشخصي. لذا يقول المرتل "ليت نفسي تحيا به" [29].

v   إن نفسي التي تستهين بهذا العالم يبدو كميت في نظر الإنسان، تنسى ذاتها لتعيش في (المسيح).

القديس أغسطينوس  

6. كنيسة مملؤة شعبًا وفرحًا: افتقر السيد المسيح - رأس الكنيسة - وصار مسكينا لأجلنا، لكي يمنحنا غناه وسلامه. "يأكل الودعاءُ ويَشبعون" [26].

يصير المساكين بالروح أغنياء بالبركات الروحية، ويشبع الجياع بالخيرات، لأن السيد المسيح نفسه هو شبعهم!

يرى القديس أكليمندس الإسكندري في العبارة: "تحيا قلوبكم إلى الأبد" [26] أن سرّ الشبع والحياة هي المعرفة الروحية التي وُهبت لنا بالسيد المسيح.

v   الذين يطلبونه بالحق مسبحين الرب يمتلئون معرفة، وتحيا نفوسهم، فإن يُقال عن النفس "قلبًا" من قبيل الرمز، هذا الذي يدبر الحياة[460].

القديس أكليمندس الإسكندرى

7. كنيسة مقدسة، تعلن صلاح المسيح في حياته [31].

8. يليق بالكنيسة أن تستمر حتى النهاية، عبر الأجيال. "تحيا قلوبُكُم إلى الأبد" [26]. لأننا في المسيح يسوع المُقام لن نعرف الموت قط إنما نعيش فيه أبديًا، نشاركه أمجاده.

عندما نترنّم بهذا المزمور نتأمل في آلام السيد المسيح وقيامته، نشاركه صلبه ونبلغ قوة قيامته ومجدها، كمصدر نصرتنا على الموت وتمتعنا بالمجد السماوي.

<<

 

 

 


 

المزمور الثالث والعشرون

مزمور الراعي

أو مزمور الباراقليط

تسبحة ثقة:

يُعتبر هذا المزمور من أعذب ما ورد في سفر المزامير، بكونه تسبحة ثقة؛ فالسمة الغالبة عليه هي اليقين والثقة في الله حيث يرتمي المرتل على صدر الله كطفل وقت السِلْم والسكون[461]. في هذا المزمور يختفي بوق الحرب لتظهر قيثارة السلام التي لا تعود تُصْدِر لحنًا حزينًا بل سيمفونية حب مفرحة تتغنى بالله كراعٍ صالح قائد حكيم وصديق شخصي للنفس البشرية.

يحب اليهود الأرثوذكس هذا المزمور، ويستخدمه اليهود المصلحون Jews Reformed  للعبادة في المجمع.

وجد آباء الكنيسة الأوائل  بهجتهم وسرورهم وتهليلهم فيه، إذ رأوا فيه رعاية الراعي الصالح وعنايتة بقطيعه. حسنًا اختاره القديس أغسطينوس كتسبحة للشهداء[462].

يعتقد كثيرون أن هذا المزمور هو أحد المزامير الأولى التي نظمها داود النبي؛ وتُشكّل عادات حياته الأولى كراعٍ للغنم لتصورات الجزء الأول من المزمور. يُعتَبر داود بحق هو أنسب شخصية تكتب مزمورًا تقويًا رعويًا كهذا[463].

يقول الأسقف وايرز Weiswe: [إن المؤلف اختبر خلال الخدمة الإلهية بركات الشركة مع الله. إذ كان يسترجع حياته الماضية فيراها وقد عبرت تحت رعاية الله اليقظة الساهرة وسط كل أنواع الضيقات. هذه الرعاية الإلهية أو قيادة الراعي تحتضن كل عضو من شعب الله بل وكل الشعب كجماعة. ويمكن لهذه الخدمة الإلهية أن تصير تسبحة حمدٍ لله، حيث قاد الراعي (مز 80: 1) الشعب المتمتع  بالعهد وعَبَر به خلال تاريخ الخلاص، خاصة في نصرة الخروج التي انتهت بما ناله الشعب من سلام في أرض الرب أو أرض الموعد (إش 40: 11؛ 63: 14؛ حز 34؛ مز 95: 7؛ 100: 3)].

مزمور ملوكي ليتروجي:

يرى  A.L. Merrilأن هذا المزمور يصف طقس تتويج الملك، يتضمن موكبًا يبدأ من الهيكل ويستمر إلى الينبوع، وربما يشمل الطوف حول المدينة المقدسة (مز 48: 13 الخ). ربما يُستخدم هذا المزمور في تجليس الملك (مَن نسل داود) أولاً بكون هذا التجليس ليس إلا رمزًا لرعاية السيد المسيح نفسه (ابن داود) الملك الراعي المحب لشعبه، غير المتسلط. ثانيًا، لكي يتأكد الشعب عند تجليس الملك أن الراعي الحقيقي ليس الملِك ولا القيادات المدنية أو الكنسية إنما الله نفسه الذي يرعى الكل ويهتم بالنفس والجسد معًا.

يرى E. Vogt أن هـذا المزمور مرتبط بذبيحة الشكر التي يقدمها زائر للأماكن المقدسة من أجل تمتّعه ببركة معينة، فيكون كمن عَبَر بوادٍ مظلم [4] ليدخل  إلى بيت الله[464]. ومع كل عطية نتمتع بها نرى يدّ الله الحانية ورعايته الفائقة لنا، إذ يقودنا في وادي هذا العالم لنسكن معه أبديًا في مَقْدسه السماوي [6].

ارتباطه بالمزمور السابق:

في المزمور السابق نرى صورة رائعة للراعي المتألم، وهنا نجد صورة مبهجة للقطيع المملوء فرحًا وشَبَعًا.

في المزمور السابق نرى الراعي وقد عُلّق على الشجرة لكي يحمل أتعاب شعبه، ويَعْبر بهم خلال صليبه إلى الأمجاد... هنا يتقدم الراعي قطيعه ليدخل بهم في استحقاقات دمه إلى مراعٍ خضراء، هي فردوسه المشبع للروح، يدخل بهم إلى جداول مياه مُنسابة وسط المراعي، هي جداول روحه القدوس المروي للأعماق الداخلية.

ما كان يمكننا أن نتمتع بهذا المزمور "جوهرة المزامير" ما لم نَتقبَّل  عمل المسيح الخلاصي وندخل إلى المزمور السابق بكونه "قدس الأقداس". ما كنا نختبر عذوبة رعاية المسيح ما لم نتعرف على دمه المهراق لأجلنا.

لا يمكن للنفس أن تترنم "مسكني في بيت الرب طول الأيام" [6]. ما لم يصرخ المخلص: "إلهي إلهي لماذ تركتني؟!" (مز 22: 1). صار متروكًا حتى كما من الآب وهو واحد معه في الجوهر ومساوٍ له، لا ينفصل عنه لكي نصير نحن غير متروكين منه أبديًا.

مزمور سرائري:

يختفي وراء بساطة هذا المزمور العمقُ مع القوة. لقد وجد المسيحيون الأوائل في هذا المزمور رمزًا لأعمال السيد المسيح القدسية السرائرية. لهذا جعلوه من صُلْب ليتورجيا العماد، ففي ليلة عيد القيامة (الفصح المسيحي) كان المعمدون حديثًا غالبًا يترنمون به بعد نوالهم سرى العماد والميرون، وقد لبسوا الثياب البيضاء وحملوا المشاعل، مُسرعين تجاه مذبح الرب بالفرح يشتركون في المائدة السماوية.

ومازالت كنيستنا تترنم بهذا المزمور يوميًا أثناء تسبحة الساعة الثالثة، تذكارًا لحلول الروح القدس على التلاميذ في تلك الساعة، هذا الروح الذي لا يزال عاملاً في الكنيسة، خاصة في الأسرار الإلهية المقدسة.

الخطوط العريضة للمزمور:

يبرز هذا المزمور الله المخلص من جوانب ثلاثة: المخلص كراعٍ صالح، المخلص كقائد يدخل بنا في سُبًل البرّ، المخلص كصديق يستقبلنا في بيته المقدس كل أيام حياتنا.

1. راعيّ [1-3 ( أ )]: يمثل داود ربنا، المسيّا الراعي، يهوه الراعي. يُستَهلُّ المزمور في سطوره الأولى بإلقاء الضوء على أكثر الصور شعبية في الكتاب المقدس: صورة الراعي (تك 49: 24؛ حز 34: 11-16). في لفظة "راعٍ" يستخِدم داود أكثر التشبيهات الإيضاحية التي تكشف عن التصاق الراعي برعيته، فهو يعيش مع قطيعه، وهو كل شيءٍ بالنسبة للقطيع: يقُوته ويغذيه ويقوده ويوجهه ويعالجه ويحميه. نرى في كل تشبيهات المزمور رقة وعذوبة تخترقان القلوب التي تتلامس مع النعمة الإلهية الحانية. فما هو أعذب وأحلى من تقديم الله كراعٍ؟!

2. قائدي في سبُلُ البر [3 ب-4]: السبُلُ التي يسلكها القطيع إما أن تكون مَعيبة أو تُبرّئ اسم راعيها الصالح. تتحقق وعود الراعي وإرادته المقدسة خلال عنايته وحمايته اللتين يُظهرهما المرتل، وهكذا يُعلِن الله عن ذاته خلالهما.

3. صديقي ومضيفي [5-6]: لقد أُعدَّ وليمة عائلية بذبيحة نفسه لكي يُشبِعني ويهبني فرحًا مبهجًا.

راعيّ:

"الرب راعيّ فلا يُعوزني شيء" [1].

اعتادت الأمم الشرقية أن تدعو حكامها وملوكها الصالحين "رعاة".

عندما يدعو الكتاب المقدس الله "ربنا" و "ملكنا" و "الخالق" الخ... فإننا عادة نشعر بقدرته وقوته ومجده في خوف ورعدة، لكن بتَسْميته "الراعي" نتذوَّق بالحري حلاوته ورقّته وتعزيته لنا وعنايته بنا - وبنفس الشيء تقريبًا عندما ندعوه "أبانا".

إنني بلا شك لا أعتاز شيئًا البتة، إذ هو بنفسه يصير طعامي وشرابي وملبسي وحمايتي وسلامي وكل عوني لحياة كلها بهجة. حضوره الواهب النِعَمْ في قلبي يهبني شبعًا وكفاية.

إذ يقبل الموعظ (طالبُ العماد) الرب راعيًا له، ويصير من قطيعه، يشترك في جسده ودمه المبذولين، فماذا يحتاج بعد ذلك؟ في المسيح يسوع لا يحتاج المؤمن شيئًا، إلا ما يجده في المسيح، أو بمعنى أدق يحتاج إلى السيد المسيح نفسه.

هذه هي أحاسيس القديس امبروسيوس[465] وهو يرى الكنيسة - ليلة عيد القيامة- وقد صارت سماءً، وجموع المعمَّدين حديثًا قد نالوا روح التبنّي، يُسْرِعون مع صفوف المؤمنين بالتسبيح والترنيم نحو المائدة الإلهية، يَنْعمون بما تشتهي الملائكة أن تطَّلِع إليه!

v   هناك حِمْلٌ واحد حَمَلْتَه على كتفيك، "طبيعتنا البشرية[466].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يتحدث داود النبي بلغة اليقين: "الراب راعيّ"، فقد صار حملاً لكي يَحِلَّ في وسطنا كواحدٍ منا، لكنه يلتزم في حبه اللانهائي برعايتنا، إنْ اتحدنا به وصرنا حُمْلانا لا ذئاب، فهور راعي الخراف لا الذئاب. لقد دفع دمه الثمين ثمنًا لقبولنا رعايته، به نصير رعيته المحبوبة وهو راعينا الساهر علينا.

يحدثنا العلامة أوريجانوس عن عناية الله ورعايته الفائقة، بكونها رعاية دائمة وشاملة ودقيقة تحتضن كل شيء حتى شعور رؤوسنا، بل ومن أجلنا يهتم الله حتى بالخليقة غير العاقلة:

v   إنه بعنايته يهتم بنا يوميًا، بصفة عامة وعلى وجه الخصوص، علنًا وخفية، حتى وإن كنا لا ندرك ذلك[467].

v   إننا نعترف بعقيدة أكيدة وثابتة، أن الله يعتني بالأشياء القابلة للموت، وليس شيء ما في السماء أو على الأرض ليس تحت عنايته[468].

v   العناية الإلهية تضم الخليقة العاقلة أولاً، ولكن نتيجة لذلك فهي تضم الحيوانات غير العاقلة لأجل نفع الإنسان[469].

v ما يحدث في حياة البشر... لا يتم بمحض الصدفة، ولا بطريقة عشوائية، وإنما بهدفٍ سامٍ محسوب، يشمل حتى شعر الرأس (مت 10: 3). هذا الأمر لا يخص القديسين وحدهم كما يظن البعض، وإنما يشمل كل البشر. فإن العناية الإلهية تمتد لتشمل العصفورين اللذين يُباعان بفلس (مت 10: 29)، سواء فهِمْنا مثل العصفورين بطريقة روحية أو رمزية[470].

v   تحتضن العناية الإلهية كل شيء حتى أن شعور رؤوسنا محصاة لدى الله[471].

العلامة أوريجانوس

والآن ماذا يقدم لنا الراعي؟

1. "في مراعٍ خُضْرٍ يُرْبِضني"

إنه يقود الموعوظين إلى تلك المراعي التي فيها يتهيأون لنوال المعمودية. وإذ ينالون روح التبني تبقى نفوسهم تغتذي يوميًا من مرّعْي كلمة الله الذي لا يجف. هذا المرعى هو إنجيل خلاصنا الذي يردُّنا إلى الفردوس الحق. يرعى الحمَل هناك، وهو حيوان مُجْتر (يأكل كثيرًا ثم يَجْتَرُّ ما أكله ليُعيد مضغه من جديد).

v   المراعي الخضراء هي الفردوس الذي سقطنا منه، فقادنا إليه السيد المسيح، وأقامنا فيه بمياه الراحة، أي المعمودية.

القديس كيرلس الإسكندري

المراعي الخضراء ليست بركات خارجية بل بالحري هي تمتع بِسُكْنَى السيد المسيح فينا، فيهبنا "طبيعة الاكتفاء" في أعماقنا، فلا نكون في عوز. فقد يكون أغنى إنسان في المدينة هو أفقرهم، إذ يفتقد سُكْنَى الراعي في داخله، فيشعر بفراغ داخلي لا يستطيع العالم كله أن يملأه. وربما يكون أفقرُ المؤمنين أغناهم، إذ يكون السيد المسيح نفسه مِلْكًا له، يتقبَّل من يديه الشعور بالكفاية والشبع، بجانب بهجته لمشاركته السيد المسيح في فقره مُتَرجّيًا أن يشاركه أيضًا في مجده.

من أجلنا افتقر السيد المسيح لكي نغتني به؛ وفي فقره لم يشعر قط بالعوز. لقد صنع عجائب ومعجزات لراحة أحبائه لا لمجده الذاتي ولا لراحته الخاصة. بهذه الروح يسلك كل مسيحي ارتبط بمسيحه كعضو في جسده.

مسيحنا يهبنا حياته مَرْعَى لا يجف؛ إذ قد يموت الوالدان الأرضيان في أية لحظة، أما راعينا الصالح فلن يموت!

2. "إلى مياه الراحة يوُرِدني" [2].

إذ ينال القطيع قسطًا وافرًا من الطعام يقتاده الراعي إلى مَجْرَى مائي أو إلى ينبوع يفيض مياها عذبة متجددة ليشرب الكل ويرتوا منها، ويتقوى كيانهم وينتعشوا.

لا يستطيع القطيع أن يذهب إلى ينابيع المياه من تلقاء نفسه إنما يحتاج إلى قيادة الراعي حيث يُورِد قطيعه أو يهديه إلى ما يناسبه.

ما هي مياه الراحة؟ لقد دُعِى الهيكل "بيت قرار" (1 أي 28: 2)، أي "منزل الراحة" أو "مكان الراحة" حيث يستقر فيه تابوت الرب (مز 132: 8، 14). ومن تمَّ فأنَّ ماء الراحة يشير إلى الله الراعي الذي يستضيف المرتل في بيته الخاص به ليُرويه ويهبه راحة.

المعمودية هي بلا شك مياه الراحة، التي ترفع ثقل أحمال الخطية. يقول القديس أغسطينوس: [يوردنا على مياه المعمودية حيث يُقيمنا ويدربنا ويرعانا، هذه التي تهب صحة وقوة لمن سبق له أن فقدهما]. ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إننا في هذه المياه نجد راحتنا[472]، بدفننا مع المسيح في شِبه موته، لكننا لا ندخل إلى الموت بل إلى ظلّه كقول المرتل [3].

v يوجد أيضًا ماء نضعه في جرن نفوسنا، ماء صادر عن الجزَّة المذكورة في سفر القضاة (قض 6: 37)، وماء ورد في سفر المزامير [2]. إنها مياه رسالة السماء.

ليت هذا الماء، أيها الرب يسوع، يأتي إلى نفسي، وإلى جسدي، حتى أنه خلال رطوبة ذلك الغيث (مز 75: 11) تخْضرُّ وديان عقولنا ومراعي قلوبنا. لتأتي عليّ قطراتك فتهبني نعمة وخلودًا.

اغْسل درجات عقلي فلا أخطئ إليك.

اغْسل أعماق نفسي فأستطيع أن أمحو اللعنة، ولا أعاني من لدغة الحية (تك 3: 15) في عَقِبْ نفسي؛ فقد أمرت الذين يتبعونك قائلاً لهم أن يدسوا الحيات والعقارب (لو 10: 19) بأقدام لا يُصيبها ضرٌر. لقد فديْت العالم فَافْدِ نفسَ خاطئٍ واحدٍ[473].

القديس أمبروسيوس

3. "يَهديني إلى سُبُل البِرّ" [3].

في الانتقال من مَرْعّى إلى مَرْعّى يقودني عابرًا بيّ البرية القاحلة الجرداء. إنه يُجنّبُني الشقوق حتى لا تزِلَّ رجلي وينكسر ساقي، أو يقودني بعيدًا عن المناطق المملوءة أشواكًا حتى لا يمسك بالصوف فأرتمي بين الأشواك. حقًا إنه يَهديني إلى السُبُل السليمة بعيدًا عن الحفر والفخاخ. وهو يفعل هذا من أجل اسمه بكوننا نحن جسده.

ما هي سُبُل البِرّ هذه إلا بِرّ المسيح. فإنه يقودني إلى ذاته، بكونه "الطريق". لأدركه كصلاحي الذي يقودني ضد قوة الخطية. يجتذبني إليه بحبال محبته الإلهية، ويهبني شركة طبيعته: القداسة والنقاوة والحب والاتضاع الخ...

مسيحنا هو "سُبُل البر" أو "الطريق" الآمِنُ الذي يحملنا بروحه القدوس إلى حضن الآب دون أن يصيبنا ضرُر أو نعتاز إلى شيء، إنما ننمو في النعمة والحكمة.

v النمو في الحكمة يجده الساعون نحو خلاصهم، فتتحقق رغبتهم خلال فهمهم للحق الذي في الكلمة الإلهية، وسلوكهم في البِرِّ الحقيقي. هذا يقودنا إلى إدراك كيف يكون المسيح هو الطريق.

في هذا الطريق لا نأخذ معنا زادًا ولا مِزْودًا ولا ثوبًا، ولا نحمل عصا، ولا تكون لنا أحذية في أرجلنا (مت 10: 10)؛ فإن الطريق نفسه مُشْبع لكل احتياجات رحلتنا؛ مَنْ

يسير فيه لا يعتاز إلى شيء.

مَنْ يسير فيه يلتحف بثوب يليق بدعوة العرس.

وفي هذا الطريق لا يجد الإنسان ما يُزْعِجه، إذ يقول سليمان الحكيم إنه لا يجد "طريق حية على صخرة" (أم 30: 19). وأنا أضيف أنه لا يجد طريقًا لأي حيوان مفترس. لهذا فلا حاجة إلى عصا مادامت لا توجد آثار خليقة معادية.

وبسبب صلابته يُدعى الطريق "صخرة، حتى لا يمكن لأي كائن ضار أن يَلْحق به[474].

العلامة أوريجانوس

v إنه الطريق الصالح الذي يقود الإنسان الصالح إلى الآب الصالح. يقود الإنسان الذي من كنز قلبه الصالح يُخرِج الصالحات، يقود العبد الأمين الصالح.

حقًا إن هذا الطريق ضيق، إذ لا يقدر كثيرون أن يحتملوا السير فيه، لأنهم مُحبّون لأجسادهم[475].

العلامة أوريحانوس

مسيحنا القدوس هو الطريق الذي يقوم على تقديس نفوسنا، ففي كل الكتاب المقدس تظهر القداسة أساسًا للخلاص. مَنْ يحلم أنه قادر على الدخول إلى السماء دون طهارة القلب وبِرّ الحياة وقداسة الجسد يموت في هذا الوهم ليستيقظ فيجد نفسه في خِزْي وعارٍ أبدي[476].

4. "وأيضًا إذ سرت في وادي ظل الموت،

لا أخاف شرًا،

لأنك أنت معي" [3].

نحن ندخل مع المسيح في موته بغير خوف إذ هو معنا...، ونبقى دومًا نختبر الموت مع المسيح بفرح إن مارسنا سرّ التوبة والاعتراف بمفهومه الحق، أي بتسليم النفس بين يدّي الروح القدوس الذي يُبكّتنا ويُتوّبنا ويردنا إلى سُبُل البرّ لأجل إسمه.

ما هو معنَى ظل الموت؟

أ. بما أن الموت هو أسوأ الشرور في نظر الناس، فإن ظله يُشير إلى زمان الحزن العظيم والظلمة والتجارب، أو قد يعني ظلُّ الموت المعاناةَ من الآلام. فالمتاعب – مهما اشتدت – لا توقف مسيرتنا نحو الأبدية، ولا تُرْهِبنا، ولا تحكم رجاءنا بالخوف، مادمنا نتمتع بالمعية مع المخلّص.

هنا يتحدث المرتل بدقة عجيبة، فهو في حالة "سَيْر"، لا يعرف التوقف... إنه دائم التقدم بخطىً ثابتة في الطريق الملوكي، مهما اشتدت الضيقات.

وهو يسير في "وادٍ" وليس على قمم الجبال... فالسير في الوادي هو عبور في هدوء... إذ يشعر المؤمن بنوع من الهدوء والسلام مع الآمان.

يُدعى الوادي "ظل الموت" وليس "موتًا"، إذ بَطَل سلطان الموت.

أخيرًا ما يشغل قلب المؤمن هو معية الله أو الحضرة الإلهية كعربون للقاء مع الله وجهًا لوجه بعد عبوره الحياة الزمنية.

ب. حديث المرتل يشير إلى نوع من التحالف بين المؤمن والموت نفسه، فهو لا يهابه بل يتحالف معه أو يدخل معه في عهد كي يَعْبر خلاله إلى الحياة الأبدية؛ يحسبه طريقًا للتمتع بالحياة الأخرى.

ج. يُشير ظل الموت إلى شركتنا في موت المسيح، إذ نقبله بفرح لنوالنا قوة قيامته ومجدها. بقوله: "إذ سرت" يقصد سلوك المؤمن أو مَسَار حياته كزمن قصير. فالسيد المسيح الراعي الصالح سار بنفسه في ظل الموت في أيام تجسده، ودخل القبر ذاته حتى نقبل أن نسلك معه ذات الطريق.

v لأنه كما سار الرب في وادي ظل الموت حيث وُجِدتْ نفوس الموتي؛ لكنه قام بالجسد بعد ذلك؛ ومن بعد القيامة صعد بها إلى السموات، فمن الجَلّى أن نفوس تلاميذه أيضًا التي لحسابها عانى الرب كل ما عاناه سوف تنطق إلى ذات الموضع غير المنظور الذي عَيَّنه لهم الله. وهناك تبقى حتى القيامة تنتظر ذلك الحدث. ثم تَسْتَلِم أجسادهم، وتقوم بكليّتها، أي بالجسد، كما قام الرب، وهكذا يأتي التلاميذ إلى حضرة الله[477].

القديس إيريناؤس

v إننا على الدوام نحمل في جسدنا إماتة الرب يسوع وهكذا نحصد الفائدة السريعة: "لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت" (2 كو 4: 11)[478].

العلامة أوريجانوس

5. "عصاك وعكازك هما يُعزيّانني".

العصا هي للقيادة والدفاع أم العكاز فهي للسند.

يرى القديس أكليمندس الإسكندري أنها عصا التعليم، عصا القوة التي أرسلها الرب من صهيون (مز 110: 2): [هكذا هي عصا قوة التعليم: مقدَّسة ومُلَطّفة ومُخلّصة[479]].

v كيف تِخلّص الحكمة نفس الشاب من الموت؟ ما هي نصيحتها له كي لا يموت؟... تقول: "إنْ ضرَبْتُه بعصا لا يموت" (أم 23: 13)... ويخبرنا العظيم داود أن تلك العصا تُعزّى ولا تَجْرح!

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يتطَلَّع القديس أمبروسيوس[480] إلى الرعي الصالح الذي يقودنا بعصاه، ويسندنا بعكازه، هذين اللذين هما ختم صليبه الذي قبِلناه في سِرّ الميرون مُنْعِمًا علينا بمسحة البارقليط (المعزّي) التي تُرهِب الشياطين...

في الشرق الأوسط عادة ما يكون للراعي الآتي:

أ. ثوب بسيط يستخدمه أثناء الرعاية بخلاف ثوبه الذي يحضر به الحفلات أو عندما يشترك في المجاملات... هذا الثوب يُشير إلى إخلاء السيد المسيح ذاته إذ أخلَى ذاته عن مجده ليحمل طبيعتنا البشرية ويحتلّ مركز العبد حتى يضمنا نحن العبيد فيه ويّدخل بنا إلى شركة مجده.

ب. عصا تُسْتَخدم في حماية القطيع من الحيات والحيوانات المفترسة. وهي تُشير إلى صليب رب المجد الذي به حَطَّم سلطان عدو الخير، وقتل الخطية، وأفسد سلطان الموت.

ج. عكاز يستخدمه للاستناد عليه، وأيضًا ليمسك به خروفًا جامحًا يحاول الهروب بعيدًا عن القطيع... يُشير إلى تأديب المخلص مؤمنيه بعصا الأبوة الحانية الحازمة.

د. آنية زيت، ليُطبّب بها جراحات خرافه، تُشير إلى المسحة المقدسة.

هـ. مزمار يعزف عليه ليعلن بهجته بعمله الرعوي، إشارة إلى الفرح في المسيح يسوع، حيث تُسبّحه النفس مع الجسد كما على قيثارة الحب.

و. سكين يستخدمها عند الضرورة، تُشير إلى عمل الروح القدس الذي يفصل الخير عن الشر.

"عصاك وعكازك هما يُعزيّانني": إذ يملك الرب على شعبه بالصليب كما بقضيب مُلْكِه – يثق المرتل كل الثقة في قيادة الراعي الإلهية، حتى إنْ قاده في سُبُل الجبال الخطرة!

6. "تُرتّب قدامي مائدة تجاه مضايقي" [5].

ربما عنى المرتل بأن الله الذي يهتم بنا إذ يرى العدو قائمًا ضدنا يُعِدُّ بنفسه لنا المائدة لكي نأكل في غير عجلة، دون ارتباك أو اضطراب، ويُجْلِسنا لنَنْعم بالقوت دون أن نخاف العدو الذي يَطرِق أبوابنا... إنه يهبنا سلامًا وشبعًا وسط المعركة الروحية بكوننا خاصته المحبوبة!

في حبه لنا يُقدّم لنا المائدة بنفسه بعدما يغسل أرجلنا مع تلاميذه.

الراعي الذي وهب شعبه خروجًا منتصرًا يقدم لهم مائدة أثناء تِرْحالهم ألا وهي المنّ. لقد حاول الأعداء إعاقة الرحلة نحو المسكن الإلهي، لكنهم خزوا حين رأوا نعمة الله المقدمة لشعبه.

في مواضع أخرى في سفر المزامير كثيرًا ما يُقدّم الشكر ويتبعه أو يصحبه وجبة ذبيحية أي مائدة مقدسة (مز 22: 26؛ 63: 6) أو ذبائح (مز 66: 13 الخ؛ 116: 17 الخ). ربما كان مقاومو داود يجولون في الهيكل بينما كان هو يُقدم ذبيحة الشكر لله لذا صار يردد هذه العبارة: "هيأت قدامي مائدة تجاه مضايقي".

يمنحنا ربنا يسوع المسيح مائدة جسده ودمه المبذولين التى تُخزِى الأعداء المقاومين. وكأن وجود عدو الخير لا يُزعجنا ولا يَحرمنا من التمتع بالوليمة المقدسة.

v عندما يقول الإنسان لله: "رتَّبتَ قدامي مائدة"، فإلى أي شيء يُشير سوى هذه المائدة السرائرية الروحية التي رتبها الله لنا؟! رتبها قبالة الأرواح النجسة!

حقًا لأن تلك (مائدة الشياطين) هي اختلاط بالشياطين، أما هذه فهي شركة مع الرب![481].

القديس كيرلس الأورشليمي

v   المائدة السرائرية هي جسد الرب الذي يعضدنا قبالة شهواتنا وضد الشيطان. حقًا يرتعد الشيطان من الذين يشتركون في هذه الأسرار بوقار.

القديس كيرلس الإسكندري

7. "مسحت بالدهن رأسي" [5].

المسيح بالدهن يُشير إلى وجود علاقة شخصية بين الراعي وقطيعه، كما يكشف عن حالة فرح وشبع. قديمًا متى كان الناس في حزن كانوا يغطون أنفسهم بالتراب والرماد، وإذا ما فرحوا كانوا يغتسلون ويدهنون أنفسهم بالزيت (أي 2: 12؛ 42: 16؛ صم 12: 20). وكان مسح الضيوف بالزيت علامة تكريم لهم وترحيب بهم؛ وكأن المرتل يقول لراعيه: "إنك تعاملني كضيف نال القبول عند مائدتك التي أَعْدَدْتَها لي". هذا وقد كانت عادة دهن الرأس شائعة (مز 92: 10؛ عا 6: 6؛ مت 6: 17؛ لو 7: 38، 46).

تحقق مسح هرون كرئيس كهنة أثناء الرحلة في البرية حيث كان الله الراعي قائدًا لشعبه نحو أرض الموعد. بهذه المسحة اعلن الله عن عنايته الإلهية، إذ قبل الله الإنسان خلال الكهنوت كنصيبه الخاص، وقدم نفسه نصيبًا للإنسان.

الآن، في سرّ المسحة (الميرون) يُمْسَح كل مؤمن ككاهن عام ليصير في ملكية الله، ويقبل الله ملكًا له ونصيبه الخاص. خلال هذه المسحة يَتقبَّل من يدّي الله روح الفرحة والبهجة بعمل الروح القدس فيه، بإعلان إنجيل المسيح كأخبار سارة عاملة في حياتهم كل يوم، وكتجديد مستمر وتقديس دائم للإنسان الداخلي وكل أعضاء الجسم لحساب ملكوت الله.

v   مَسَح بالزيت رأسك على الجبهة، لأن الختم الذي أخذته هو من الله، حفر الختم قداسة الله.

القديس كيرلس الأورشليمي

8. "كأس سكرك، ما أمجدها؟!" [5].

تُستخدم الكؤوس في رعاية الغنم؛ والكأس عادة هو كتلة حجرية منحوتة ومجوفة طولها 30 بوصة وعرضها حوالي 18 بوصة وارتفاعها 18 بوصة. توجد الكؤوس في مواضع كثيرة عند الآباء والينابيع المنتشرة في برية يهوذا. يجرف الرعاة الماء ويسكبونه في الكأس، ولأن الكأس تتعرض للشمس يكرر الراعي سَكْب الماء فيها حتى تفيض، فتبرد الكأس، ثم يدعو خرافه لتشرب دون أن يتوقف عن صب الماء. بهذا يتأكد أن الماء يبقى باردًا، وأنَّ لدى الخراف ما يكفيها ويزيد من الماء. حتى إذا ما تراجعت الخراف لتستريح قليلاً يحتفظ الراعي بالكأس ذات الماء الجاري حتى تشرب خرافه ميأهًا عذبة... ربما هذا ما يعنيه النص العبري "كأسي رَيَّا". ولعل هذه الكأس ذات الماء الدائم التجديد يُشير إلى مراحم راعينا الصالح الجديدة كل صباح وخيراته اليومية (مرا 3: 23؛ مز 68: 19)[482].

الإنسان الذي يتقبَّل مع كل صباح مراحم الله وخيراته الجديدة يفيض شكرًا وتسبيحًا حتى وإنْ كانم لا يملك إلا لقمة يابسة، أما مَنْ لا يتلمّسُ هذه البركات فإنه وإنْ اقتنى العالم كله بين يديه تكون كأسه مشققة لا تضبط ماءً.

جاءت الترجمة السبعينية هكذا: "كأس سكرك، ما أمجدها؟!" الخمر تفرح قلب الإنسان كرمز لحضور روح الله واهب النعم، الذي يحيّي نفس المؤمن ويحركها نحو السماء. لقد انسكب الروح على التلاميذ أو على الكنيسة في يوم الخمسين فملأها وفاض كأسها، وظن اليهود أنهم سَكْرَى (أع 2: 15).

v   تُسْكِرنا كأس الرب، إذ تُنْسينا فكرنا (في الزمنيات)، وتقود النفس إلى الحكمة الروحية... إنها تحرر النفس، وتَنزع الغم!... إنها تهب راحة للنفس، إذ تقدم لها فرح الصلاح الإلهي عوض كآبة القلب القائم بسبب ثقل أحمال الخطية[483].

القديس كبريانوس

9. أخيرًا، فإننا ننعم بهذه البركات الإلهية والأسرار المقدسة في بيت الرب، حيث يترنم، قائلاً: "مسكني في بيت الرب مدى الأيام" [6].

هل يحيا الحَمَل في بيت الراعي؟ نعم. حينما وبخ ناثان داود على خطيته قدم له مثلاً خاصًا بالفقير الذي لم يكن لديه سوى نعجة واحدة صغيرة اشتراها ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعًا. كانت تأكل من لقمته، وتشرب من كأسه، وتنام في حضنه، وكانت له كإبنة (2 صم 12: 1-3). هكذا اِقْتنانا الراعي وقَبِلنا كابنته الوحيدة، وأعدَّ لنا في بيته موضعًا، حتى نتعبه أينما ذهب.

يُعلِن المرتل أنه يسكن في بيت الراعي، الكنيسة، أيقونة ملكوته السماوي الأبدي وعربونه. يجد المؤمن بهجته أنْ يتعبَّد ويخدم ويسكن مع ربه المحبوب في الكنيسة وكأنما يسكن معه في سمواته أبديًا. غاية رعايته لنا أن نستقر معه في مَقْدسه الإلهي!

 

 


 

راعيّ الصالح

v   أيها الراعي الصالح،

يا من تملك على القلب بالحب لا بالسلطة،

اِحْملني إلى مرعاك فلا اعتاز شيئًا!

v   صليبك فتح لي مَرْعَي الفردوس، وحَصَّن أبوابه ضد كل عدو!

جنبك المفتوح أفاض له مياه الراحة،   

أغْتسِل بكُليّتِي فأحمل شركة الطبيعة الإلهية بمعموديتك،

وأشرب فتلتهب أحشائي بنار حبك!

v   صرتَ لي الطريق، تحملني إلى حِضْن أبيك!

قدمتَ لي صليبك عصا وعكازًا لحمايتي ومعونتي!

تمسحني بدهنك فأتقدس لك بكُليّتِي

v   تحملني في ضعفي على مِنكبيك!

تقودني وسط آلام الحياة بنفسك،

وأخيرًا تستقر بي في بيتك السماوي لأُوجد معك أبديًا!

<<

 


 

المزمور الرابع والعشرون

ملك المجد يدخل مقدسة

في هذا المزمور إذ يرى المؤمن الله وقد خلق المسكونة وكل ما فيها لأجله يتطلع إلى موكب ملك المجد الصاعد لأجله إلى مقدسه السماوي. تذوب نفس المؤمن حبًا ويلتهب قلبه بنار علوية مشتاقًا أن ينضم إلى هذا الموكب الفريد لكي يعبر خلال أبواب السماء المفتوحة مع مخلصه إلى حضن الآب.

أنه مزمور الحب المجيد، بالحب خلق الله كل شيء لأجل الإنسان، وبه يهبه التقديس لينضم إلى موكب القدوس، وبه يصعد بالإنسان إلى السماء المفتوحة بغلبه الصليب! بمعنى آخر يرى المؤمن الحق متعته وتهليل نفسه في الله بكونه الخالق القدوس واهب الغلبة.

مناسبة المزمور:

1. يعتقد البعض أن هذا المزمور الملوكي الليتروجي (التعبدي)، أُنشد عند إصعاد تابوت العهد من بيت عوبيد آدوم إلى جبل صهيون (2 صم 6: 12-17). يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس أن سبعة خوارس (فرق) من المرتلين والموسيقيين كانوا يتقدمون التابوت في هذه المناسبة، حيث كان المزمور يُرتل بصورة رائعة. كان التابوت وهو يمثل الحضرة الإلهية أو المخلص ملك المجد في موكب يعبر من مناطق نفوذ الملك ليرتفع إلى مدينة الله المقدسة على قمم الجبال العالية.

2. يرى آخرون أن داود نظم هذه التسبحة لتُرنم في مناسبة تكريس الهيكل الذي عرف بروح سليمان ابنه سيبنيه[484].

3. يظن آخرون أن هذا المزمور لم يضعه داود، وهو أنشودة نصرة يترنم به الغالبون عند عودتهم منتصرين، حيث يُفترض صعودهم إلى الهيكل كما كان الرومان يفعلون في العاصمة[485]؛ وهناك يمجدون تابوت العهد واهب النصرة.

علاقته بالمزمورين السابقين:

يوجد نوع من التكامل بين المزامير (22، 23، 24). فالمزمور 22 يعلن عن المسيا باعتباره المخلص المتألم، والمزمور 23 الراعي الصالح الذي خلال عمله الخلاصي يدخل بالرعية إلى الفردوس "المراعي الخضرة" للتتمتع بمياه الراحة وتسكن معه كل الأيام، أما المزمور 24 فيتحدث عن الملك الممجد الذي لا يقف عند سكنى شعبه معه في بيته أو سكناه في وسطهم وإنما يدخل بهم كموكبه المقدس الغالب خلال أبواب السماء المفتوحة، يصعد بهم إلى أمجاده الأبدية السماوية لينعموا بحضن الآب.

بمعنى آخر مزمور 22 هو تسبحة الجلجثة، ومزمور 23 هو تسبحة الكنيسة المفدية، ومزمور 24 هو تسبحة السماء المفتوحة. وبحسب التقليد فإن المزمور 24 يُشد في عيدَيْ القيامة والصعود. وحاليًا في الكنيسة القبطية في ليتورجيا عيد القيامة يدخل الكاهن والشمامسة في حوار مأخوذ عن هذا المزمور يعلن عن مجد المسيح القائم، وانتصاره على الموت، وقدرته على رفعنا معه إلى مجده.

يلاحظ القارئ أيضًا تشابهًا بين هذا المزمور والمزمور 15؛ وإن كانت العبادات مختلفة ربما استخدمت في خدمة الهيكل في ذات الفترة.

التفسير المسيَّاني:

يحوي هذا المزمور نبوة خاصة بصعود رئيس كهنتنا الأعظم إلى بلاط صهيون السماوية وإلى مجد ملكوته. وكأن اصعاد التابوت إلى بيت الله (خيمة الشهادة أو الهيكل) هو رمز لصعود السيد المسيح إلى السماء، وصعودنا نحن فيه كأعضاء مقدسة في جسده.

يبدأ المزمور باعلان ملكوت الرب على كل الخليقة [1-2]، ثم يكشف عن صعودنا إلى مقدس الرب [3-6]، وأخيرًا صعود السيد المسيح إلى السماء [7-10]. بمعنى آخر نزل الملك إلى عالمنا ليحكم خلال الصليب، وهو يقدس حياتنا واهبًا إيانا استحقاق الدخول إلى موضع قدسه، وبصعوده رفعنا إلى سمواته، سائلآً كل خورس السمائيين أن يفتحوا أبواب السماء للبشر. هنا يظهر المخلص كملك محارب، لأن دخولنا إلى السماء يحتاج نصرة على أعدائنا الروحيين. لهذا يدعى الرب هنا: "ملك المجد"، "رب الصباؤوات" أو "رب الجنود" [10].

الهيكل العام للمزمور:

يرى البعض أنه يحتمل أن يكون ترتيب طقس الترنم بهذا المزمور في أثناء الدخول إلى هيكل هكذا:

1. في الموكب: يترنم الزائرون أو خورس الموكب المقطع الأول [عدد 1، 2]. هذا المقطع يمثل تسبحة للزائرين وهم خارج الهيكل في طريق دخولهم إليه، حيث يحتفلون بعظمة الله الخالق.

2. حوار بين قائد المجموعة وحارس الباب:

* قائد المجموعة [3]: يسأل عن السَّمات اللازمة فيمن يصعد إلى بيت الرب.

* حارس الباب [4-5]: يجيب على السؤال مقدمًا السمات الروحية التي تليق بمن يرغب في التمتع ببركة الشركة مع الله في بيته المقدس.

* القائد [6]: يمجد من يتمتع ببركات الرب ونعمة الخلاص.

3. تسبيح الجوقات (الخوارس) قبل دخولهم في الهيكل: الاعلان عن الله بكونه ملكًا. ربما يعنون أنهم إنما جاءوا كموكب ملوكي، يمجدون الله الملك الحق، بحياتهم وسلوكهم الخفي والظاهر... ففي زيارتهم ودخولهم الهيكل يركزون أنفسهم على الله وحده.

* خورس (جوقة) الموكب [7]: يطلبون فتح الأبواب الدهرية، لا من أجلهم وإنما من أجل ملك المجد، إذ هم موكبه.

* خورس الهيكل (صوت من داخل الأبواب) [7]: من هو ملك المجد؟

* خورس الموكب [9]: الرب العزيز (القدير) الجبار، الرب القوي في الحروب... فقد دخل المعركة حتى إلى الجحيم وقام وأقام غنيمته، وها هو يصعد بها إلى سمواته!

* خورس الهيكل [10]: يكرر السؤال: من هو هذا ملك المجد؟

* موكب اللاويين [10]: رب القوات هذا هو ملك المجد.

هكذا يحمل الحوار الرائع كشفًا عن شوق المختفين في المسيح الغالب نحو الصعود معه خلال الأبواب الدهرية، ودهشة السماء عينها أمام عمل رب المجد الخلاصي الذي وهب البشرية أمورًا لا يُنطق بها!

عنوان المزمور:

بحسب الترجمة السبعينية: "لأول أيام الأسبوع"، أي ينشد في اليوم الأول بعد السبت، وهذا ما كان يحدث بالفعل[486].

v   "مزمور لداود نفسه في أول أيام الأسبوع". مزمور لداود نفسه يتناول تمجيد ربنا وقيامته التي تمت باكرًا في أول أيام الأسبوع، ولذلك عرف بيوم الرب.

القديس أغسطينوس

أقسامه:

1. خالق الكل               [1-2].

2. كلي القداسة              [3-6].

3. كلي النصرة             [7-10].

1. خالق الكل:

"للرب الأرض وملؤها،

المسكونة وكل الساكنين فيها.

على البحار أسسها،

وعلى الأنهار ثبتها" [1-2].

تتحدث الآيتان 1، 2 عن قدرة الرب في خلق المسكونة بكونه الخالق والملك والديان. ويُعتبر الخلق في العهد القديم هو أساس سيادة الله على المسكونة كلها أي سيادة جامعية (مز 24؛ 74: 16؛ 89: 11 الخ؛ 95: 4 الخ؛ 1 صم 4: 8) [487].

يُطالب الله - الذي به كان كل شيء - بحقه في الخليقة كلها، لا ليسيطر عليها، وإنما ليضم الكل إليه ويجدد خلقتهم فيملك بالحب على كل المسكونة. لقد جاء يوم تتويجه بالصليب، ليأخذ الأمم ميراثًا له، وأقاصي الأرض ملكًا (مز 2).

عند إصعاد داود تابوت العهد بموكب مجيد وتسابيح وأفراح ارتفع فكره بروح النبوة ليرى كنيسة العهد الجديد التي تضم مؤمنين من كل الأمم ومن كل الشعوب والألسنة، يرى العالم الجديد أو الأرض الجديدة التي تسكن الرب نفسه فيها، فترنَّم قائلآً: "للـرب الأرض وملؤها..." [1].

يقدم لنا المرتل صورة دقيقة عن الكنيسة المقدسة:

أ. الكنيسة هي سكني الله وسط شعبه: "للرب الأرض وملؤها". الكنيسة الكائنة هنا على الأرض إنما هي كنيسة الرب، كل برها وقداستها من عند الرب.

يعترف المؤمنون أنه حتى الأرض ذاتها التي يمشون عليها هي أرض ربهم ومخلصهم وليست أرضهم. للرب حق السيادة والملوكية. حقًا، فقد دُعي إبليس إله هذا العالم، لكن كمغتصب، بمساندة الأشرار أبنائه. أما بالنسبة للمؤمنين فليست له حق حتى على الأرض التي يمشون عليها، لأن الله يقدس حياتهم كلها حتى ملابسهم بل وظلهم، فكانت الأمراض تُشفي بخرق ولفائف القديس بولس والشياطين يخرجون بعبور ظل القديس بطرس على الساقطين تحت سلطانهم. أولاد الله يدركون أنهم إن كانوا يأكلون أو يشربون أو أيا كانوا يفعلون، فإنهم يجب أن يضعوا كل شيء لمجد الله، لأنه يملك على الجميع (1 كو 10: 25-31).

الأرض أيضًا هي رمز لجسدنا الذي خُلق منها، فهي ملك الله، الذي يقدس أرضنا (جسدنا) بكل حواسه وعواطفه وطاقاته كأمور صالحة من عندياته.

v   يقول الكتاب: "للرب الأرض وملؤها"، بذلك يعلمنا أن كل الأمور الصالحة هي من عند الله يقدمها للبشر بقوته الإلهية وقدراته ويقوم بتوزيعها لمساندة الإنسان[488].

القديس أكليمندس الاسكندري

يقول المرتل: "سماء السموت للرب، وأما الأرض فأعطاها لبني البشر" (مز 115: 16). وهبنا الأرض لكي نملك كملوك ووكلاء الله، لكن إذ فقدنا سلطاننا وكرامتنا نزل هو لكي يملك على الأرض كلها، حتى يصلح من شأنها فيه، واهبًا إيانا نعمة الملوكية (رؤ 1: 6).

بالخطية صرنا أرضًا، فجاء ربنا يملك علينا ويسكن فينا كعالم خاص به، فيحولنا من أرض إلى سماء!

إذ يملك السيد المسيح على القلوب لا يقبل قط أن يشاركه ملك آخر في مملكته. إنه يسألنا أن نقدمة له ملء حياتنا بكونها ملكًا خاصًا به، إذ يشتاق من جانبه أن يهبنا حياته.

ب. أعضاء الكنيسة من كل الأمم، من كل المسكونة [1].

لم يكن ممكنًا لليهود أن يقبلوا أبواب الكنيسة المفتوحة أمام الأمم، لذا غضبوا عندما قال الرب لهم: "إن أرامل كثيرة كنَّ في إسرائيل في أيام إيليا حين أُغلقت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر...، ولم يُرسل إيليا إلى واحدة منها، إلا إلى امرأة أرملة، إلى صرفة صيدا. وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في رمان إليشع النبي، ولم يطهر واحدُ منهم إلا نعمان السرياني" (لو 4: 25-26). كما غضبوا على القديس بولس عندما أعلن أمامهم أن الرب قد أرسله إلى الأمم، وأنه في المسيح يسوع ليس يهودي أو أممي (رو 3: 29).

v   كل البشر مِلك الله، لأنه "للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها" [1]. لهذا يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية: "لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومين سيأخذون لأنفسهم دينونة" (رو 13: 1-7)[489].

القديس إيريناؤس

v   المسيح ليس محصورًا في موضع واحد بعينه[490]

القديس جيروم

v   لا يُحاكم مؤمن حسب مكان إقامته إن كان هنا أو هناك بل حسب استحقاقات إيمانه[491].

القديس جيروم

ج. الكنيسة مؤسسة على مياه المعمودية [2]: يقول المرتل: "لأنه على البحار أسسها، وعلى الأنهار ثبتها". في بداية الخليقة كان روح الله يرف على وجه المياه ليخلق ويُبدِع من أجل محبوبه الإنسان، ليتمتع بالإرض وكل إمكانياتها. وفي العهد الجديد يؤسس الرب كنيسته كخليقة جديدة تقوم على بحار المعمودية التي ضمت الأرض الجديدة من كل العالم.

د. كنيسة مقدسة [3-6].

هـ. كنيسة سماوية منتصرة [7-10].

2. كلي القداسة:

الرب خالق المسكونة كلها يقدم حياته المبذولة من أجل خلاص العالم كله، كقول الرسول يوحنا: "هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 2)، فيضم إلى جسده أعضاء من كل الأمم والشعوب والألسنة خلال الإيمان به ونوال البنوة في مياه المعمودية. الآن إذ يعلن المرتل عن الله الكلي القداسة إنما يكشف عن التزام الكنيسة وكل عضو فيها أن يحيا في الحياة المقدسة اللائقة بعريس النفس القدوس.

"من يصعد إلى جبل الرب؟" [3].

 ترفع الكنيسة كما على الجبل (السيد المسيح)، السماوي، البار؛ بكونها الجسد المقدس للقدوس.

v   من يصعد إلى قمة جبل برّ الله؟ أو "من يقوم في موضع قدسه؟" عند بلوغ ذلك المكان المقدس المؤسس على البحار والمُثبت على الأنهار، من يقدر أن يُثبت هذا الأساس؟

القديس أغسطينوس

الحياة الكنسية هي حالة "صعود" مستمرة، لا تعرف التوقف ولا الانحدار. مع كل يوم ينعم المؤمن بخبرة شركة مع السيد المسيح الجبل القدوس، حيث نرتفع بالروح القدوس فيه وننعم بمرتفعات المجد.

لم نصل بعد إلى القمة حيث ننعم بالصورة الكاملة للسيد المسيح مُشَكَّلةً في أعماقنا ومعلنة في حياتنا العملية، لكننا نترجى في يقين أننا نبقي دائمًا صاعدين.

التمتع بالحياة الكنسية الإنجيلية هي نعمة إلهية لا فضل لنا فيها، والثبوت فيها والنمو الدائم هما من عمل روح الله الساكن فيها، لذا يقول المرتل: "من يقوم في موضع قدسه؟" من ذا الذي يقدر أن يبقى هناك؟

يعجز الناموس أن يثبتنا في الشركة مع الله أو حتى الاقتراب منه، لكن نعمة الله الغنية تؤهلنا للوجود في الحضرة الإلهية. روح الله القدوس الذي يحملنا إلى مياه المعمودية لننال البنوة لله ويقدس أعضاءنا بالمسحة المقدسة، يهبنا دموع التوبة غسلآً دائمًا لخطايانا وتطهيرًا لأعماقنا؛ وهو بعينه يهبنا خلال سرّ الافخارستيا الثبوت في المسيح بتناولنا جسده ودمه المبذولين عنا. روح الله يهبنا الثمر الروحي الذي يفرح النفس بالله ويفتح القلب بالحب ليتسع لكل البشرية، ويقدس الإنسان بكليته.

الكنيسة مقدسة [3]، ويلتزم أعضاؤها بالطهارة [4]، لا يفكرون في الباطل [4]، بل في السمويات، ويحبون بعضهم بعضًا. بدون قداسة لا يعاين أحد الرب؛ وحيث لا توجد نقاوة لا توجد كنيسة‍!

الخروف ليست جداءً، حتى وإن اختلطت بالجداء. فعند الله الحظ الفاصل بين القديسين والأشرار، ومتسع اتساع الأرض عينها[492].

يلزم التعبير عن قداسة الكنيسة بالأعمال بجانب المشاعر الداخلية والارادة. لذا يقول المرتل: "الطاهر اليدين (الأعمال)، التقي بقلبه" [4]. إنها تمس علاقتنا بالله وباخوتنا كما بأنفسنا: "الذي لم يأخذ نفسه باطلآً، ولم يحلف لقريبة بغش" [4].

"الطاهر اليدين": في لغة الكتاب المقدس يُحسب طاهر اليدين من لم يدنسهما بالدماء أو بالعنف أو الرشوة أو الربح القبيح أو صنع الشر بأية صورة نحو الله أو الإنسان. الأيادي هي وسيلة لتحقيق الأعمال، لكن الذي يحركها ويحكمها هو القلب، لذا وجب أن يكون نقيًا.

طهارة اليدين لا تعني مجرد التطهيرات الظاهرة؛ لئلا نغسل خارج الكأس والصفحة بينما يبقى الدالخل دنسًا. لا تعني الاغتسال بالماء كما فعل بيلاطس البنطي أثناء محاكمة السيد المسيح.

طهارة اليدين تؤكد مفهومنا للإيمان الحيّ، الإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 6).

"الذي لم يأخذ نفسه باطلآً": يليق بمن يود الصعود إلى بيت الرب أو التمتع بالشركة مع الله القدوس ألا يأخذ نفسه باطلآً، أي لا ينشغل بملذات العالم الباطلة، إنما تنسحب نفسه إلى السماويات، إلى الأفراح الأبدية.

"ولم يحلف لقريبة بغش" علامة الحياة المقدسة في المسيح الحق، أن تكون كلمة المؤمن صادقة وأقوى من أي قسم. ينطق بالحق لأنه متحد بالمسيح الحق، وقد صار ابنًا للحق. أما من يرتبط بإبليس الكذاب وأبي الكذابين فإنه غالبًا ما ينطق بالكذب حتى وإن حلف بقَسَم.

الآن ما هو ثمر هذه الحياة الكنيسة المقدسة؟

"هذا ينال بركة من الرب،

ورحمة من الله مخلصه.

هذا جيل الذين يطلبون الرب

ويبتغون وجه إله يعقوب" [5-6].

المؤمنون الذين يسلكون في حياة مقدسة يصعدون إلى جبل الرب ويثبتون في موضع قدسه، يبدأون بالروح ولا يكملون بالجسد بل يلتهبون بالروح وينمون.

إنهم "ينالون بركة من الرب"، فهم لا يصعدون لكي يعطوا بل ينالوا؛ إن قدموا قرابين إنما هي من عند الرب، مما أعطاهم... لكنهم ينالون السيد المسيح نفسه برّهم وفرحهم وشبع نفوسهم ومجدهم الأبدي.

ينالون رحمة من الله مخلصهم، فيختبرون الرحمة خلال عمل الله الخلاصي... يتمتعون بالله كمخلص لهم، ليس فقط يغفر لهم خطاياهم إنما يقبلونه هو شخصيًا مجدًا لهم!.

يُحسب المؤمنون جيلآً طالبًا الرب ومبتغيًا وجه إله يعقوب... بصعودهم بيت الرب يزدادون عطشًا نحو الله، فيطلبونه لا لأجل عطاياه وإنما لمعاينته وجهًا لوجه.

يقول القديس أغسطينوس: [إنهم يطلبون وجه هذا الإله الذي أعطى حق البكورية للإبن الأصغر (يعقوب) (تك 25: 23)]. بمعنى أننا نطلب وجه الله الذي هو ربنا يسوع المسيح، إذ ونحن صغار جعلنا كنيسة أبكار، لنا حق الميراث الأبدي.

يرى القديس أكليمندس الإسكندرى أن داود قد أوضح أن الله هو مخلصه، وقد دُعي وجه إله يعقوب لأنه هو رسم جوهر آلاب (عب 1: 3) الذي أعلن الحق الخاص بالآب، موضحًا الحقيقة أن القدير هو الله الواحد الوحيد الآب الذي لا يعرفه إلا الابن ومن يُعلِن له الابن (مت 11: 27) [493].  

3. كلي النصرة:

بعدما قدم المرتل الله بكونه الملك الخالق [1، 2] والملك القدوس [3-6] يقدمه الملك المجيد الغالب، الذي تنفتح أو ترتفع أمامه الأبواب الدهرية [7-10].

"ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم.

وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية

ويدخل ملك المجد" [7].

يبدو أن داود النبي وقد رأى إصعاد التابوت إلى جبل صهيون تطلع بعين النبوة إلى الرب الذي صار إنسانا يصعد إلى سمواته، صهيون الأبدية؛ فاستخدم لغة عسكرية ليرحب بالرب في نصرته. هذا التصوير مقتبس عن تقليد مبكر بأن الرب ملك محارب يقهر أعداء شعبه، هذا الذي اخرج شعبه سالمًا من عبودية فرعون وعبر بهم البرية (عد 10: 35-36) ودخل بهم إلى أرض الموعد.

يقدم لنا سفر الرؤيا في أكثر من موضع تصويرًا رائعًا للمخلص واهب النصرة لشعبه:

"فنظرت وإذا فرس أبيض، والجالس عليه معه قوس، وقد أُعطى إكليلآً، وخرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2).

"ثم رأيت السماء المفتوحة، وإذا فرس أبيض والجالس عليه يُدعى أمينًا وصادقًا، وبالعدل يحكم ويحارب، وعيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفة إلا هو... والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل أبيض لابسين بزًا أبيض ونقيًا" (رؤ 19: 11-14).

لقد تجسد كلمة الله لكي يدخل إلى عالمنا كمحارب، يحارب باسمنا ولحسابنا، وفي كل معارك صار يغلب. في معركة الصليب شهّر بالعدو وحطم سلطانه، وأُعلنت تمام نصرته بقيامته وصعوده إلى السماء، حيث انطلق ملك المجد يحملنا فيه إلى سمواته.

يقول القديس أغسطينوس: [إن المرتل يشير في هذا المزمور إلى صعود المخلص بالجسد إلى السماء يُنادي الملائكة المرافقون للصاعد إلى السماء، على القوات الملائكية والسلاطين المسئولين عن الأبواب لكي يفتحوا تلك الأبواب السماوية فيدخل ملك المجد. أنهم يخاطبون الأبواب التي تفتح على الأبدية.

وبصعود السيد المسيح انفتحت الأبواب السماوية أمام المؤمنين، لأن رأسهم السماوي قد صعد، وحيث يوجد الرأس يكون الجسد أيضًا.

"ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم.

وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية.

ويدخل ملك المجد" [9].

لا يمكن لأبواب الهيكل أن تُسمى "الأبواب الدهرية". لذا يلزمنا أن نبحث عن مفهوم أسمى من مجرد إصعاد تابوت العهد إلى صهيون. فإن لغة النبي تسمو إلى ما هو أعظم مما نراه هنا على الأرض. لقد عبر بفكره إلى الأمور التي قدم تابوت العهد وخيمة والهيكل ظلالآً لها، إذ كانت هذه رموزًا للسيد المسيح والسماء. إصعاد التابوت إلى جبل صهيون ليس إلا ظلآً باهتًا لصعود السيد المسيح ملك المجد إلى حيث يستقبل الذين تفتح لهم السموات أبوابها الدهرية[494].

v   أغلق المسيح أبواب الموت، وفتح لنفسه السموات، محققًا وعده الإلهي: "افرحوا، أنا قد غلبت العالم" (مز 16: 33). وقد دُفع المجد بالكامل... حينما صارع الرب الموت وغلب ظافرًا به.

ارتفعي أيتها الأبواب: أبواب العدالة الدهرية والمحبة والتعاطف، حيث تتحد النفس مع الله الواحد وحده الحقيقي، وترفض أن تمارس عبادة الزنا لتلك الآلهة العديدة الزائفة.

"ويدخل ملك المجد". أجل، يدخل ملك المجد هذا الذي يجلس عن يمين الآب يشفع من أجلنا.

القديس أغسطينوس

v   هنا لم تُغلق عنه (عن المسيح) الأبواب، إذ هو الرب وخالق الجميع، لكن كُتب ذلك لأجلنا، نحن الذين أُغلق عنهم باب الفردوس. ومن ثَمَّ فمن خلال العلاقة الجسدية، بسبب الجسد الذي أخذه، قيل عنه: "إرتفعي أيتها الأبواب" فإنه "يدخل" كما لو أن إنسانًا ما يدخل. لكن من جهة لاهوته قيل من الجانب الآخر: "الكلمة كان الله" فهو الرب وملك المجد[495].

v   رُفعت أبواب السماء لتنظر ذاك "القادم من آدوم" (إش 63: 1)[496].

v   لم يكن الكلمة ذاته محتاجًا إلى فتح الأبواب، فإنه رب الكل؛ وما كان يمكن لأي عمل أن يُعاق أمام صانعه، لكننا نحن احتجنا إلى ذلك. هو حمل الجسد الخاص بهم (بالبشر)، لأنه إذ قدم جسده للموت نيابة عن الجميع، هكذا به مهَّد لنا الطريق إلى السموات مرة أخرى[497].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   يقول العريس: إن كنت ترغب أن تُفتح الباب وأن ترتفع أبواب نفسك ليدخل ملك المجد، يلزمك أن تقبل اشتياقاتي في نفسك. كما يقول الإنجيلي: "من يصنَع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي" (مت 12: 50). يليق بك أن تقترب إلى الحق، وتصير شريكه حتى لا تنفصل عنه.

القديس غريغوريس أسقف نيصص

v   من بين ما قيل عنه أنه هجع واستغرق في النوم، كما قيل عن استيقاظه ثانية لأن الرب عضده (مز 3: 5) هو الذي يأمر الرؤساء في السماء ليفتحوا الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد، معلنا مُقدمًا عن قيامته من الأموات... واستقباله في السماء[498].

" من هو هذا ملك المجد؟

رب القوات (الصباؤوت) هذا هو ملك المجد" [10].

هذا الحوار الرائع الذي دار في المزمور يكشف أنه لا يستطيع أحد أن يعبر الأبواب الدهرية، ويدخل المقادس السماوية، إلا الرب القوي الجبار، رب الجنود أو القوات، ملك المجد. له وحده تفتح أبواب المدينة السماوية، الأبواب الدهرية، أبواب الهيكل التي لم تُصنع بأيٍد بشرية. أنه يهوه المخلص، القدير، رب الأرباب وملك الملوك (رؤ 1: 8؛ 19: 16)، القادر في الحروب، رئيس خلاصنا الذي لا يُقهر.

(رب الصباؤوت) لقب مجيد خُص به الرب مرتين في في العهد الجديد (رؤ 9: 29 ؛ يع 5: 4).


 

الأبواب المفتوحة

v   افتح أبواب قلبي لتدخل وتملك، يا من تفتح أبواب السماء أمامي!

v   أيها القدوس وحدك قدسني بروحك،

فأتأهل للسكنى في جبل قدسك،

وأثبت في موضع قدسك!

v   أيها الصاعد إلى سمواتك، أرفع قلبي إلى عرش نعمتك!

اقبلني في موكب نصرتك فأعبر معك وبك الأبواب الدهرية!

v   يارب الصباؤوت، ملك المجد،

اسكب بهاءك على نفسي،

فتصير ملكة وتصلح لمملكة (حز 16).

<<

 

 

 

 


 

المزمور الخامس والعشرين

الرب معلمنا

هو أحد المزامير المرتبة ترتيبًا أبجديًا، حيث تبدأ كل آية بحرف مختلف من الأبجدية العبرية المشتملة على 22 حرفًا[499]، غير أن الترتيب الهجائي لهذا المزمور ليس كاملاً، فيظهر عدم الانتظام في الآيات (2، 5، 18، 22).

يمكن تصنيفه مع مزامير الحكمة وأيضًا مع المراثي الشخصية، خصوصًا حين يكون الإنسان حزينًا بسبب شعوره الشخصي بالعزلة والاضطهاد.

من الواضح أن داود النبي كتبه في أواخر أيامه، لأنه يتحدث عن خطايا صباه [7]، ويشير إلى شدائد كثيرة لحقت به وإلى أعداء كثيرين يقفون ضده. يعتقد البعض أنه نظمه أثناء تمرد أبشالوم ضده؛ ويظن بعض الدارسين الرافضين نسبته لداود، والمتجاهلين ما ورد في عنوانه، أنه يخص حالة الأسر البابلي حيث شكوى الأسرى من قهر أعدائهم[500].

يُعتبر هذا المزمور مثالاً طيبًا لكيفية الصلاة لله في تضرعات يومية، منه نتعلم[501]:

- ماهية الصلاة [1، 15]، رفع القلب والعينين إلى الله.

- ما الذي ينبغي أن نصلي لأجله: طلب غفران الخطية [6، 7، 18]، توجيهنا نحو طريق الألتزام [4، 5]، طلب عطف الله [16]، الخلاص من أتعابنا [17، 18]، وحفظنا من أعدائنا [20، 21]، وخلاص كنيسة الله [22].

- كيفية تضرعنا لله في الصلاة: ثقتنا في الله [2، 3، 5، 20، 28]، مرارتنا وظلم أعدائنا لنا [17، 19]، إخلاصنا [21].

- ما هي المواعيد الثمينة المقدمة لنا لتشجيعنا على الصلاة، لإرشادنا وتوجيهنا [8، 9، 12]، ومنافع العهد مع الله [10] وبهجة الشركة معه [13، 14].

المسيح المعلم:

لهذا المزمور طابعه الخاص، إذ يتحدث عن السيد المسيح بكونه المعلم، وقد ركز على سمة المعلم كما كشف لنا عن دور التعليم في حياة المؤمنين. فالمعلم - في عينيّ داود المتالم - لا يقدم معلمومات عقلانية أو معرفة ذهنية مجردة، إنما هو أولاً وقبل كل شيء مخلص وأب وراعي وصديق وطبيب.

كان داود النبي يعاني من الشعور من العزلة، إذ صرخ: "انظر إليّ وارحمني، لأني ابن وحيد وفقير أنا"... شعور بالعزلة مع العوز أو احساس بالنقص!

عانى أيضًا من الخطايا خاصة تلك التي لحقت به أيام صباه: "خطايا شبابي وجهلاتي لا تذكرها".

أدرك أيضًا أنه محاط بأعداء يستهزئون به: "لا تُضحك بي أعدائي"، "انظر أعدائي، فإنهم قد كثروا وبغضًا ظلمًا أبغضوني".

في مرارته شعر بمرارة الشعب ككل: "يا الله انقذ إسرائيل من جميع شدائده".

بمعنى آخر كان داود محتاجًا إلى المعلم الحقيقي ابن داود الذي وحده يحل كل مشاكله ومشاكل الشعب:

- فهو معلم شخصي لكل مؤمن خاصة المتألم، وهو معلم الجماعة ككل ينقذها من شدائدها.

- معلم مُشبع، فيه كل الكفاية ينزع عن النفس شعورها بالعزلة، بحلوله داخلها، ويعالج شعورها بالفقر إذ افتقر ليغنيها بذاته كنز الحكمة والمعرفة.

- معلم قادر أن يغفر الخطايا ويستر بدمه الآثام.

- معلم قوي، يحصن النفس ضد الأعداء الروحيين غير المنظورين.

الكلمات الاسترشادية (مفتاح المزمور):

1. مع أن هذه القصيدة هي شكوى لكن الفكرة الأساسية فيها هي "طرق الرب" التي يتضرع المرتل طالبًا أن يتعرف عليها ويسلك فيها[502].

2. الكلمات الاسترشادية الأخرى هي "إياك انتظرت النهار كله"، لأن الذين يعترفون بأن الرب هو معلمهم ينتظرونه ليرشدهم إلى سبله الملوكية.

يقول القديس أغسطينوس: [يتحدث المسيح هنا باسم كنيسته، لأن مضمون المزمور ينطبق بالحرى على الشعب المسيحي الذي رجع فعلاً، إلى الله].

أقسامه:

1. الصلاة والاتكال على الله [1-3].

2. الرب مخلّصي ومعلمي            [4-21].

أ. يهبني المعرفة.

ب. يدربني في الحق.

ج. يقدم لي كنز الوعود والعهود.

د. غافر خطاياي.

هـ. يهبني استقرارًا في الخير.

و. ينقذني من الشباك الخفية.

يُعرّف داود الصلاة بأنها رفع نفسه إلى الرب، فقد اعتاد أن يرفع نفسه وقلبه إلى الله مع رفع يديه وعينيه، تشترك النفس مع الجسد، والقلب مع الفكر... يتقدم الإنسان بكليته كحمامة تطير لتستقر في حضن الله. أما من يرفع يديه وعينيه دون قلبه فيسمع توبيخ الرب إليه مع شعب بني إسرائيل: "هوذا الشعب قد أقترب إليّ بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فقد أبعده عني" (إش 29: 13). الصلاة هي رحلة صعود كما على سلم يعقوب، تاركين وراءنا كل الهموم والمتاعب لتحلق النفس على قمة السلم وتتمتع بالحضن الإلهي.

الصلاة ليست واجبًا نلتزم به ولا رسميات، لكنها تحرير القلب من التراب، ليرتفع من مجد إلى مجد... يبقى الإنسان بجسده على الأرض أما قلبه فينطلق بجناحي الروح القدس كحمامة تطير في السماويات.

بالصلاة يختبر المؤمن في كل يوم أنه غريب على الأرض، يعيش تحت الآلام، محاط بالأعداء، لكنه متهلل بالروح، سعيد بعربون السماء، ينعم بخبرات جديدة في شركته مع الله.

v   الصلاة هي رفع العقل إلى الله.

الأب يوحنا الدمشقي

v   الصلاة هي تحول القلوب اللحمية إلى قلوب روحانية، والقلوب الفاترة إلى قلوب غيورة، والقلوب البشرية إلى قلوب سماوية.

القديس يوحنا ذهبي الفم

v   يا من وقفت لتصلي اعط قلبك لله. قلبك الحقيقي الذي به تحب: به تحب أولادك، وبه تحب أباك وأمك، وبه تحب أصدقاءك ومريديك، وبه تحس عذوبة الحب الطاهر بغير رياء.

الأب يوحنا كرونستادت

في كل ليتروجيا أفخارستيا يطلب الكاهن من الشعب: "ارفعو قلوبكم"، فيجيبونه: "هي عند الرب".

v   يُطلب منكم أولاً: "ارفعوا قلوبكم"، فإن هذا يليق بأعضاء السيد المسيح. إذ تصيرون أعضاء المسيح، أين هو رأسكم؟... إنه في السماء! لذلك عندما يُقال لكم: "ارفعوا قلوبكم"، تجيبون: "هي (رُفعت) عند الرب".

رفع القلب عند الرب هي هبة إلهية، فلكي لا تنسوا هذا لقوتكم أو استحقاقكم أو أعمالكم، لهذا بعدما تجيبون: "هي رُفعت عند الرب" يقول الأسقف أو الكاهن الخديم: "فلنشكر الرب"، إذ ارتفعت قلوبنا عنده.

فلنشكره، لأنه لو لم يهبنا نعمته لبقيت قلوبنا متشبثة بالأرض.

ها أنتم تشهدون بذلك، إذ تقولون: "مستحق وعادل"، أي نشكر ذاك الذي رفع قلوبنا إلى حيث يوجد رأسنا[503].

القديس أغسطينوس

عمل العدو أن يمزح نفسي في الترب بالشهوات الدنسة؛ وقد انجرفت نفسي إلى هذا الضعف البشري، لذا فأنا في حاجة إلى العون الإلهي ليرفع نفسي.

2. استخدم لفظ "اتكال" في بداية المزمور، لكن نفس الاتجاه أو الروح عبر كل المزمور عند حديثه عن الله [5، 8-10، 14 الخ]. وبتأكيده انتظاره الرب [3، 5، 21]. فالانتظار معناه قبول توقيت الرب وبالتالي حكمته. هذا ما يميز موقف داود عن موقف شاول من نحو الله (1 صم 26: 10 الخ؛ 13: 8-14)، وموقف إشعياء عن موقف الشعب (إش 30: 15- 18).

كلما كثرت متاعبنا تزذاذ ثقتنا في الله، إذ يجب أن تدفعنا المخاطر بعيدًا عن ذواتنا، فسعى طالبين عون الله. يشهد ضمير داود له بأنه لا يتكل على ذاته ولا على أي مخلوق بل على إلهه، فلا يتزعزع ولا يخزى بهذا الاتكال.

"جميع الذين ينتظرونك لا يخزون.

ليخز الذين يصنعون الإثم باطلاً" [2-3].

ليست الضيقات هي التي تجلب الخزى والعار بل صنع الإثم.

كان داود في مرارة بسبب اضطهاد الأعداء له لكنه كان في مجد، لأنه يتكىء على صدر الله مخلصه، فيحول الضيق إلى خبرة شركة مع الله. أما الأعداء فكانوا يخططون لقتل داود بلا سبب، أي يصنعون الإثم باطلاً، ومع ما لهم من امكانيات وسلطان بشري كانوا في خزي.

إن كانت الخطية تجلب العار، فبالتوبة يرد لنا الله مجدنا الداخلي، فلا نخزى. ليس في الكتاب المقدس من وعد سلبي أكثر قيمة وأهمية من أن شعب الله لا يسقط في خزي أو عار.

"لا تُضحك بي أعدائي" [2].

كان الأعداء يُعيّرون داود، حاسبين أنه في ضعف، لن يفلت من أيديهم.

v   لا تدعهم يشمتون بي هؤلاء الذين نصبوا فخاخًا بمقترحاتهم السامة المميتة، والذين في سخرية يصرخون: "نعّمًا، نعّمًا" فيسحبونني في سخرية. لكن "جميع الذين ينتظرونك لا يخزون"

القديس أوغسطينوس

2. الرب مخلصي ومعلمي:

أ. يهبني المعرفة.

"اظهر لي يارب طرقك، وعلمني سبلك،

اهدني إلى عدلك وعلمني.

لأنك أنت هو الله مخلصي،

وأياك انتظرت النهار كله" [4-5].

يُصلي المرتل إلى الله في جدية لكي يظهر له الطريق ويعلمه ويدربه بروح الحب الأبوي كمخلص، أما من جانبه فهو ينتظر كل النهار ليتعرف على سبل الله ويسلك فيها بروح الطاعة. يدعوه المرتل معمله أو مدربه الرحوم الأبدي الذي يدخل به إلى سبله المقدسة.

يتباهى الخطاة بطرقهم، أما المتواضعون فيقولون مع السيد المسيح: "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (مت 26: 39). من الحكمة أن نلتجىء إلى الله ليكشف لنا إرادته، ونحسبها رحمة عظيمة أن ربنا كإله خلاصنا يهبنا أن نتفهم مشيئته وندركها، هذه التي يعلنها لنا في الكتاب المقدس وخلال عنايته الإلهية.

ما أحسن أن نسلم كل طرقنا لله، أن نتوسل إليه لكي يعرفنا طريقه، ويأخذ بيدنا الضعيفة ويقودنا بنفسه، نتوسل إليه أن يعمل كل شيء من أجلنا، فنعيش نحن لأجله. ما أضعفنا! بدونه لا نستطيع أن نعرف الطريق ولا أن نجدها أو نسلك فيها.

v   الحق أن القديسين لا يقولون بإنهم بلغوا الطريق الذي يسلكونه بتقدم وكمال في الفضيلة بجهادهم الذاتي، وإنما بفضل الله، قائلين: "دربني في حقك" [5] [504].

القديس بفنوتيوس

المسيحي في نظر مدرسة الإسكندرية هو غنوسي، أي مؤمن صاحب معرفة  gnosis روحية، يشتاق إليها ويطلبها من الله كهبة إلهية.

v   يجب على الغنوسي أن يكون غزير المعرفة[505].

v   قد يقول قائل بأن اليونانيين اكتشفوا الفلسفة خلال الفهم البشري، لكننى أجد الكتاب المقدس يقول بإن الفهم هو من عند الله، لذلك يصرخ المرتل، قائلاً: "أنا عبدك فهمني" (مز 119: 125) [506].

القديس أكليمندس الإسكندري

خلال هذا المفهوم ارتبطت دراسة الكتاب المقدس في ذهن آباء الكنيسة الأولى بالعبادة، فلا إدراك لمفاهيم كلمة الله ولا تمتع بمعرفة أسرار الإنجيل دون الصلاة والطلبة مع الشكر والتسبيع لأجل ما يهبه الله لنا من معرفة.

كان كثير من معلمي مدرسة الإسكندرية يقضون أغلب ساعات النهار في التدريس، بينما يقضون اغلب لياليهم يقرأون الكتاب وهم راكعين للصلاة. أحيانًا إذ يجدوا عبارة غامضة أثناء التدريس يطلبون من تلاميذهم الاشتراك معهم في الصلاة لكي يهبهم الله فهمًا واستنارة ومعرفة.

 وفي العبادة، خاصة في الاشتراك في ليتروجيا الأفخارستيا، تشكر الكنيسة الرب من أجل ما يهبها من معرفة:

v   نشكر يا أبانا،

من أجل الحياة،

والمعرفة التي أعلنتها لنا بيسوع ابنك،

لك المجد إلى الأبد[507].

الديداكية

v   هب لأجسادنا نموًا في النقاوة،

ولنفوسنا نموًا في الفهم والمعرفة...

خلال تناولنا الجسد والدم[508].

القديس الأسقف سرابيون

ب. يدربني في الحق:

"علمني سبلك.

اهدني إلى عدلك وعلمني" [4-5].

يكشف الرب الحق ويقدس أفكارنا، فنبقى في حق الله، وننال التدريب والارشاد من السماء، هكذا تتحول المعرفة الإلهية إلى تدريب حيّ في حياتنا وحياة معاشة، ولا تكون مجالاً للحوار والمناقشة الفلسفية البحتة.

يدربنا الرب نفسه في الحق، فنجد تعاليمه عملية [5]. وكأن طريقه أو سبيله هو أسلوب الحياة التي ترضيه. نحن ننال هذه الحياة بدخولنا مع الله في عهد نعمته، متقبلين ارشاده الإلهي ومتمتعين بنعمته.

v   يتذوق الغنوسي إرادة الله، فلا ينصت للمكتوب بأذنيه إنما بنفسه.

v   الغنوسي كمحب للحق الواحد الحقيقي يكون إنسانًا كاملاً، صديقًا لله، ويُحسب ابنًا.

القديس أكليمندس الإسكندري

ما أسهل أن يدرب الإنسان الطيور لتتكلم والحيوانات المفترسة لتصير أليفه، أما نفسه فلا يقدر أحد أن يدربها إلا الله وحده، مدرب النفوس البشرية، ومقدس الأجساد، وضابط الفكر بروحه القدوس.

v   كل الحكمة والفهم هما منه، ومعرفة كل الخير تأتينا من فوق من العرش العلوي الفائق، كما من ينبوع. وما من إنسان يقدر أن يفعل شيئًا يستحق المديح ما لم ينل قوة منه؛ وهو يعلمنا ذلك بنفسه، قائلاً: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا"[509].

v   ينبوع كل بركة هو المسيح، "الذي من الله قد صار لنا حكمة"، لأننا فيه نصير حكماء مملوئين بالمواهب الروحية. الآن كل من هو ذي عقل راجح يؤكد أن معرفة تلك الأمور التي بها نتقدم في كل طريق للحياة المقدسة الفائقة ونتقدم في الفضيلة، هو عطية من الله، وقد أعطانا الله أن يؤهلنا حسنا للغلبة.

نجد إنسانًا يطلب ذلك من الله، قائلاً: "اظهر لي يارب طرقك، علمني سبلك". الآن، فإن السبل التي تقود أولئك إلى التقدم في الحياة التي بلا فساد هؤلاء الذين يتقدمون فيها بشوق بالغ هي سبل متعددة، إحداهما على وجه الخصوص: الصلاة، وهي نافعة لمن يمارسها. وكان المخلص نفسه حريصًا أن يعلمنا ذلك بتقديم نفسه مثالاً موضوعًا أمامنا، حتى نجاهد مقتدين به. لأنه كما هو مكتوب أنه قال مثلاً كي يصلي الناس على الدوام ولا يملوا[510].

القديس كيرلس الإسكندرى

إن كان من جانب المعلم الإلهي العطاء بفيض، يهب الاستنارة والفهم مع الارشاد والتدريب للتمتع بمعرفة وممارسٍة حقه كحياة معاشة، فعلينا من جانبنا أن نلتزم بروح الوداعة والاتضاع، فتتهيأ نفوسنا لقبول عطاياه الروحية، إذ يقول المرتل:

"يهدي الودعاء بالحكم،

يعلم الودعاء طرقه" [9].

كل خدام الله الحقيقيين هم مساكين بالروح، متضعون، ودعاء، منسحقوا الفكر والقلب بسبب خطاياهم السابقة وجهالاتهم، أيضًا بسبب ضعفاتهم الحاضرة، طالبين من الله عمل نعمته الإلهية التي تحفظهم مستقبلاً من الخطية. بهذا الروح الوديع يتمتع الودعاء بعمل الله وعطاياه.

v   تُستعلن الأسرار للودعاء والمتضعين. هذا يعني أن الودعاء يتأهلون لنوال روح الاعلان في نفوسهم يفسر لهم الأسرار. لهذا يقول القديسون بإن الوداعة تكمل النفس بالاستعلانات الإلهية[511]

مار اسحق السرياني

v   حقًا إن الاتضاع لهو شيء عظيم، لأن كل صلاح إنما يتقدمه الاتضاع؛ وبممارسته تختصر الرحلة... لأن الاتضاع وحده يحضرنا إلى الحياة الروحية حتى وإن كان ببطء[512]

الأب دوروثيئوس من غزة

ج. يقدم لي كنز الوعود والعهود:

"اذكر يارب رأفاتك ومراحمك،

لأنها ثابتة منذ الأبد...

جميع طرق الرب رحمة وحق،

للذين يبتغون عهده وشهادته" [6، 10].

المزمور كله مزيج من صرخات القلب الخارجة من أعماق المرتل والوعود الإلهية، فإنني لا أستطيع أن اصرخ إلى إلهي ما لم اكتشف كتابه ككنز يضم وعود الله الصادقة والأمينة. وكما أصرخ قلبيًا اتمتع باستنارة فاكتشف بالأكثر الوعود الإلهية كوعود شخصية تخص حياتي... إنها سلسلة من صرخات القلب والتعرف على وعود الله وعهده مع كنيسته التي أنا عضو حيّ فيها.

في هذا المزمور يتحدث المرتل عن المعلم العجيب الذي يقدم له رأفاته ومراحمه ليست كأمور خارجية إنما هي من صميم سماته الإلهية، إذ هي أزلية.

الله هو المعلم الأب، طبيعته حب، لا يحتاج إلى من يذكره بمراحمه، لكن داود النبي يقول: "أذكر يارب رأفاتك"... إنه يُسر بأن يطالبه الابن بحقه في المراحم والرأفات، بكونه منبع الحب الأزلي. إذ نصرخ: "اذكر يارب" إنما ينير هو أعماقنا لنذكر نحن رأفاته ومراحمه، يعلنها لنا، فنطلبها بروح النبوة الواثقة والمترجية دون يأس.

ينبوع الحب الأزلي، مصدر الرأفات والمراحم، يقدم لنا عهدًا، بدأ مع آدم، ووضع عند تجديد العالم بعد الطوفان مع نوح، وتأكيد مع إبراهيم أب الآباء... وأخيرًا تحقق في أكمل صورة على الصليب، حيث كتب الرب ميثاقه في جسده بالدم الثمين، عهد الرحمة والحق... على الصليب تعانق الحب الإلهي مع العدل، وانكشفت رحمة الله التي لا تنفصل قط عن عدالته. لذا يقول المرتل: "جميع طرق الرب رحمة وحق للذين يبتغون عهده وشهادته" [10].

طرق الرب رحمة وحق لمؤمنيه الحقيقيين الذين يطلبون عهده ليحفظوه، ويكونوا أمناء في ارتباطهم به، ليصيروا بالحق ملكًا له. هؤء يبتغون الحياة المقدسة والطاعة للوصية الإلهية، مجاهدين وساعين لإدراك ذلك بقوة القدوس. أما إذا أخطأوا عن ضعف فهذا لا يحرمهم من تمتعهم بمواعيد العهد.

يرى القديس أغسطينوس أن الذين يبتغون العهد الإلهي ينعمون بالرحمة التي أعلنها ربنا ذبيحة نفسه في مجيئة الأول وأيضًا ينعمون بالحق الذي سيعلنه في مجيئه الثاني، في يوم المجازاة... وإن كان الحق يرافق الرحمة والرحمة تلازم الحق.

v   لأن أولئك الذين في وداعة ولطف يبحثون عن العهد الذي به افتدانا ربنا إلى جدة الحياة بدمه، ويدرسون شهاداته في الأنبياء والإنجيليين، هؤلاء يدركون رحمته في المجيء الأول وحقه في مجيئه الثاني.

القديس أغسطينوس

د. غافر الخطاياي:

هذا المعلم الفريد الذي أعلن حبه الأزلي خلال عهده ومواعيده التي تجلب خلال ذبيحة الصليب، وحده قادر أن يغفر خطاياي، لذا يقول المرتل:

"خطايا شبابي وجهالاتي لا تذكر،

كمثل رحمتك أذكرني أنت من أجل صلاحك يارب،

لأنه صالحًا ومستقيمًا هو الرب.

لذلك يصنع ناموسًا للذين يخطئون في الطريق" [7-8].

ما كان يمكن لداود النبي أن يعترف بخطاياه وجهالاته، خاصة التي ارتكبها في أيام شبابه لو لم يكشف له الرب عن رأفاته ومراحمه الأزلية. حب الله وأبوته الحانية هما

سندنا في الاعتراف بخطايانا.

يطلب داود النبي من المعلم ألا يذكر خطاياه وإنما يذكره هو كخليقة الله المحبوبة لديه، والتي لها تقديرها الخاص لا لفضل فيها وإنما من أجل مراحم الله وصلاحه ولأجل اسمه القدوس. طلب اللص اليمين من المعلم الحق أن يذكره متى جاء في ملكوته، فلم يذكر جرائمه ولا خطاياه، بل حمل نفسه إلى الفردوس، مبّررة في استحقاقات الدم الثمين. هكذا إذ نطلب من الرب أن يذكرنا يجيب قائلاً: "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها" (إش 43: 25).

لا يسأل داود النبي من أجل غفران خطاياه التي ارتكبها سابقًا في شبابه فحسب وإنما لأنه يعرف ضعفه يطلب من أجل خطاياه الحالية لأنها كثيرة. وهو في هذا يحتمي في اسم الله القدوس كي لا يرجع خائبًا، إذ يقول: "من أجل اسمك يارب تغفر لي خطيئتي لأنها كثيرة" [10].

من يبتغي عهد الله منتظرًا المكافآة الأبداية، يعترف بكثرة خطاياه طالبًا المغفرة، لا من أجل استحقاق شخصي، وإنما لأجل اسم الرب ورحمته. خطاياه الكثيرة تحتاج إلى فيض من النعمة الإلهية.

طريق التوبة ضيق لكنه آمن، به نرجع إلى الله أبينا، وننعم برأفاته.

v    (طرقك) ليس بواسعة ولا تقود الكثيرين إلى الهلاك؛ علمني الطرق الضيق التي لك والتي يعرفها قليلون (مت 7: 13).

* دربني في حقك" فاتجنب الخطأ.

"علمني"، فإنني بذاتي لا أتعلم إلا البطلان.

"لأنك أنت هو الله مخلصي، وإياك انتظرت النهار كله". منذ أن طردتني من الفردوس (تك 3: 23)، سافرت إلى كورة بعيدة (لو 15: 13)، ولم استطع العودة إليك ما لم تتقابل أنت مع الشارد. وخلال رحلة حياتي في الأرض تعتمد عودتي إليك على مراحمك: "أذكر يارب رأفاتك" [6].

أذكر يارب أعمالك التي تفيض إنعامًا، لأن الناس يتهمونك بأنك على ما تبدو أنك نسيتنا!...

فوق هذا كله لا تنسي أن مراحمك هي منذ الأزل. حقًا إنها لا تنفصل عنك.  منذ خضع الخاطئ الساقط للباطل لم تتركه بدون رجاء (رو 8: 20). لقد أغدقت على خليقتك

بالكثير من تعزياتك العظيمة.

القديس أغسطينوس

هـ. يهبني استقرار في الخير:

بروح الوداعة ننعم بالتوبة ونغتصب مراحم الله ونختبر أبوته الغافرة الحانية، وبمخافة الرب تصير إرادتنا الإلهية. والطريق الذي نختاره برضانا هو طريقه... لذا لا تجد النفس نفسها في صراع بين إرادة شريرة في داخلها ووصية صالحة إلهية، إنما توافقًا وانسجامًا بين أعماقها وطرق الرب فتثبت في الخير الإلهي، وتستقر وتبيت فيه. هذا ما عبّر عنه المرتل بقوله:

"من هو الإنسان الخائف من الرب؟

يضع له ناموسًا في الطريق التي ارتضاها.

نفسه في الخيرات تثبت (تبيت)،

ونسله يرث الأرض" [12-13].

ربما كان المعنى هكذا: "أرني إنسانًا يخاف الرب بروح التقوى أيّا كان، فإن الله يختار له طريقًا يرشده فيه يجد فيه المؤمن رضاه. الله يقدم طريق وصيته لخائفيه الذين يجدون هم أيضًا مسرتهم فيه. بالمخافة الإلهية اختار شاول المجدف والمُضطهد أن يُصلي ويتعبد ويكرز ويُضطهد كرسول... وذلك بفضل النعمة الإلهية.

من يخاف الله يستقر في الطريق الملوكي فلا يخاف أحدًا ولا يخشى شيئًا، بل تثبت نفسه وتستقر كما بين ذراعي الرب، ليس هو وحده وإنما يحمل معه من يجتذبهم إلى الحياة الإنجيلية المقدسة، يُحسبون كنسل له يتمتعون بالكنيسة كأرض مقدسة في هذا العالم. لذا يقول المرتل: "ونسله يرث الأرض" [13].

لا يقف الأمر عند استقرار نفسه ونفوس مخدوميه في الأحضان الإلهية وإنما يتمتع خائف الرب بمجد الرب وقوته، كقول المرتل "الرب عزَّ لخائفيه" [14]. يصير الله نفسه عزّه وقوته.

v   قد يبدو الخوف لائقًا فقط بالضعيف، لكن الرب يعضد خائفيه بقوة. اسم الرب الممجد في العالم يسند المتطلعين إليه والراجعين إليه في كل الأمور؛ فهو يجعل عهده مستعلنًا لهم، لأن الأمم وأقاصي المسكونة هي ميراث المسيح.

القديس أغسطينوس

في النسخة العبرية قيل: "سرّ الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم" [14]، وفي الترجمة السبعينية: "الرب عزُّ لخائفيه، واسم الرب لأتقيائه، وعهده يوضحه لهم" [14]. إنه يكشف لهم عن أسرار الله ومشوراته وعهده مع شعبه، كأنهم خاصته المقربة إليه جدًا. وإذا كان داود النبي واحدًا من خائفي الرب، يشتاق أن يُقاد مع أصدقاء الله في الطريق الملوكي.

في اختصار يقدم المعلم الإلهي لخائفية البركات التالية:

- طريقًا ملوكيًا ووصية مقدسة ترضي نفس خائف الرب.

- استقرارًا في الله الخير الاعظم.

- ميراثًا مقدسًا لمخدوميه.

- كشفًا عن الأسرار الإلهية كصديق شخصي لله.

و. ينقذني من الشباك الخفية:

"عيناي تنظران إلى الرب في كل حين، لأنه يجتذب من الفخ رجليّ" [15].

الذين يثبّتون عيونهم على الرب دائمًا لن تبقى أرجلهم في الفخاخ طويلاً. بنعمة الله تهرب نفوسنا من الشبكة التي تربكها في اهتمامات العالم وملذاته الشريرة، فتستريح مع فادينا الممجد.

v   لا أخاف شيئًا من مهالك الأرض طالما لا أحدق طويلاً في تلك الأرضيات، لأن ذاك الذي أُثبت عليه عيناي يخرج من الفخ رجلىّ.

القديس أغسطينوس

إذ نركز أنظارنا على التراب نسقط في الفخاخ المخيفة، أما إن ركزناها على السماوي فإنه يرفعنا بروحه القدوس فلا نسقط في الفخ، وإن كنا قد سقطنا قبلاً يرفعنا منها إليه.

الله حاضر في كل مكان، لكن عيوننا لا تقدر أن تنظراه على الدوام ما لم تستنر به... لذا يقول المرتل: "بنورك يارب نعاين النور".

ز. يخلصني من العزلة:

"أنظر إليّ وارحمني،

لأني ابن وحيد وفقير أنا" [16].

يشعر داود النبي أنه وحيد وبائس في ضيقته، لأن خدامه وجيشه لا يقدرون على إنقاذه. في ضيقته يشعر أن والديه قد تركاه، وليس من يقوى أن يخلصه سوى ربه.

لعل أول المشاكل التي يُعاني منها الإنسان هو شعوره بالعزلة والوحدة، حتى وإن أحاط به الناس من كل جانب، بل أحيانًا وهو في أحضان أبويه. إنه محتاج أن يلتفت الرب نفسه إليه، يدخل إلى قلبه، ويملأ فراغه، فلا يشعر بالعزلة ولا بالفقر.

سبق المرتل فقال: "عيناي تنظران إلى الرب في كل حين"، والآن يقول: "انظر إليّ"، فإنه يتطلع في أعماقه نحو الرب على الدوام إنما يرى الله متطلعًا إليه. تطلع سمعان بطرس إلى السيد المسيح أثناء محاكمته فرآه يتطلع إليه... حينئذ صار يبكي بكاءًا مرًا. نظراته تلين القلب، وتعطي النفس انسحاقًا وتوبة، وتفجر ينابيع دموعنا المقدسة.

ح. يخلصني من الأعداء:

نظرات الرب تهبنا توبة ورحمة لنتخلص من العدو الداخلي، الخطية. لذا يكمل المرتل طلبته:

"أحزان قلبي قد كثرت.

اخرجني من شدائدي...

واغفر ليّ جميع خطاياي" [17-18].

يشعر المرتل بثقل الخطية المقاومة له لذا يصرخ طالبًا الخلاص منها، كما يطلب الخلاص من الأعداء الخارجيين أيضًا: "أنظر إلى أعدائي، فإنهم قد كثروا وبغضًا ظلمًا ابغضوني" [19]. فإن هذا هو عمل المعلم – الراعي الصالح – إنه يهتم بالخراف التي في وسط ذئاب. أنه لا يهلك الذئاب بل يقتل طبيعتها الشريرة فتصير حملانًا، أو كما يقول النبي: "فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي... والبقرة والدبة ترعيان" (إش 11: 6-7).

ط. يهبني الكمال:

عمل المعلم القدوس الكامل أن يهبنا الحياة المقدسة الكاملة: "احفظ نفسي ونجني...

الذين لا شر فيهم والمستقيمون لصقوا بي" [20-21]. يتقدس المؤمن ويرتبط بالنفوس المقدسة كرعية واحدة مقدسة للراعي القدوس.

3. قرار يُردده الخورس:

كان داود النبي جادًا جدًا في طلبه أن يخلصه الرب من ضيقاته... لكنه وسط آلامه لم ينس آلام الجماعة ككل. صلى لأجل نفسه وها هو يطلب من أجل الجماعة لكي ينقذها، إسرائيل الجديد، الذي ليس هو بدولة إسرائيل بل كنيسة العهد الجديد.

v   "يا الله انقذ إسرائيل من جميع شدائده"

خلص شعبك، لا من الضيقات التي تحاصرهم من الخارج بل أيضًا ومن تلك التي يعانون منها في الداخل، لأنك أنت يا الله قد أعددت شعبك لينعموا برؤيتك.

القديس أغسطينوس

أيها المعلم عرفني طريقك

v   عرفني يارب طريقك لأثبت فيك!

دربني في حقك فاتمتع بملكوتك!

احملني إلى صليبك فأتمتع بعهدك الأبدي!

اغفر خطاياي، وهب لنفسي استقرارًا!

احماني إليك أيها الخيّر الأعظم.

v   ثبت نظراتي فيك، ولتتطلع أنت إليّ!

ارفعني عن التراب، ولا تترك رجليّ في الفخاخ!

v   خلصني من عزلتي وانزع عني بؤسي،

فأنت شبعي وكنزي!

v   خلصني من خطيتي،

وانزع عداوة الأعداء فيصيروا لي أحباء!

v   هب لي كمالاً واستقامة مع شعبك!

اعطِ خلاصًا لكل كنيستك، وراحة لشعبك!

<<

 


 

المزمور السادس والعشرون 

السلوك بالاستقامة

مناسبة المزمور:

هذا المزمور كمزمور البراءة  Psalm of innocenceوكمرثاة شخصية لمن اتهم ظلمًا بجريمة خطيرة يمكن أن يرتبط بالمزمورين 7 و 17.

يعتقد البعض أن هذا المزمور قيل أثناء ثورة أبشالوم ضد أبيه داود أو اضطهاد شاول له، بسبب وشايات أناس السوء (مجمع الأشرار) والمنافقين (الماكرين) [4]. ففي هاتين المناسبتين صوّر الأعداء داود كإنسان شرير جدًا، واتهموه زورًا بعدة جرائم، أهمها:

1. خيانة وطنه وأمته، إذ اضطر إلى الهروب إلى أمم أخرى.

2. استخفافه بالعبادة الجماعية والتمتع بالسكنى في بيت الرب... لأنه هرب من وسط الشعب.

3. اشتراكه مع الوثنيين في عبادتهم الوثنية وممارساتهم الخاطئة.

4. يظن البعض أن داود اتهم بتدبير مقتل ايشبوشث بن شاول بيد بعنة وركاب (2 صم 4: 5-12)، لذلك وجه هذا النداء للسماء يعلن تبرئته عن هذه الجريمة.

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور هو مرثاة جماعية، يتحدث المرتل بصيغة المفرد كممثل للجماعة بكونها وحده واحدة[513].

يُحتمل أن يكون هذا المزمور، تسبحة الكهنة الذين بحسب الطقس كانوا يغتسلون قبل تقديمهم الذبائح كما جاء في (خر 30: 20، 21) "عند اقترابهم إلى المذبح للخدمة ليوقدوا وقودًا للرب، يغسلون أيديهم وأرجلهم لئلا يموتوا".

يقول بعض الدارسين أن ما ورد هنا ليس تنبيهًا للكهنة وإنما هو صوت الشخص الزائر لبيت الرب يعلن أنه قد حقق تمامًا شروط قبوله بالمقدس[514]. هذا المزمور يُناسب من ينشد حماية الله أثناء دخوله الهيكل[515].

الاحتجاج من أجل براءة (الداخل إلى الهيكل) يمكن اعتباره طقسًا فعالاً يُمارس قبل دخول الهيكل أو على الأقل قبل الاسترسال في ممارسة الشعائر الدينية في الهيكل، فيه اعتراف شخصي يؤهله للاشتراك في العبادة، كما يُحسب أيضًا كإحدى الصلوات الجماعية، حيث تعلن الجماعة ككل استعدادها للعبادة المقدسة. كثير من عبارات هذا المزمور يمكن الترنم بها باسم الجماعة.

هذا ويعبر المرتل هنا عن المعنى الباطني للطقس، ألا وهو الفرح أمام الله الذي لا يُقترب منه إذ يقترب هو إلينا[516].

مزمور مسياني:

يرمز داود النبي في هذا المزمور إلى ملكنا يسوع المسيح الذي صار عارًا للبشر.

ربنا يسوع المسيح هو خير من يتلو احتجاج البراءة هذا بكونه "رئيس كهنة... بلا شر، بلا دنس، قد انفصل عن الخطاة" (عب 7: 26)، ويمكننا أن نتلوه نحن أيضًا عندما نكون في شركة مع السيد المسيح. يقول القديس أغسطينوس: [داود هنا يمثل لا الوسيط الإنسان يسوع المسيح (فحسب)، بل الكنيسة كلها القائمة بالكمال في المسيح].

المزامير (26-28):

يترأى بيت الرب في المزامير (26، 27، 28).

ففي المزمور 26 يقترب العابد إلى لله بالنقاوة والتسبيح مع الاخلاص في التمتع بجمال هيكله؛ وفي الأعداد الأخيرة يعلن عن بهجته وتهليل قلبه إذ دنا من الرب.

وفي المزمور 27 يرى في هذا البيت ملجأ له من أعدائه، والمكان الذي يتراءى له الرب فيه، فيلتقي معه وجهًا لوجه.

وفي المزمور 28 يقدم المرتل تضرعاته، باسطًا يديه، متوسلاً وهو متجه نحو قدس الأقداس ليتلقى إجابة الرب لسؤاله.

أقسام المزمور:

1. دفاعه عن كماله                             [1-3].

2. دفاعه عن تركه الشعب وبيت الرب          [4-8].

3. طلب الخلاص والرحمة                     [9-12].

1. دفاعه عن كماله:

تصف الآيات [1-3] إنسانًا سلك بكمال؛ لذا يرى البعض أن لغة هذا المزمور تبدو غريبة وغير جذابة بالنسبة لكثير من المسيحيين[517]، إذ يظنون أن ثقة المرتل هذه تقوم على اتكاله على الأنا والبر الذاتي وأعماله الصالحة الذاتية، ينتقدونه بسبب افتخاره، ويقارنوه بالفريسي المذكور في مثل الفريسي والعشار (لو 18: 9 الخ) [518].

يجدر بنا ملاحظة الآتي:

1. الكمال هنا يعني مجرد تبرئته من الاتهامات الموجهة إليه والسابقة الاشارة إليها. كما يعني أيضًا أنه بصلاح قلبه وبنواياه الصادقة كان خاليًا من كل نية شريرة، إنما يسلك بنقاوة وبراءة. هكذا وصف الرب نفسه سلوك داود عندما ظهر لسليمان في المرة الثانية، إذ ذكَّره بداود أبيه بالكلمات التالية: "وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلبه واستقامة، وعملت حسب كل ما أوصيتك، وحفظت فرائضي وأحكامي، فإني أقيم كرسي ملكك" (1 مل 9: 4-5). سلك داود بكمال بالرغم من كونه خاطئًا وابتعد عن أن يكون كاملاً، أما ابنه سليمان فسقط بائسًا. لكنه يوجد ابن آخر لداود، هو أصل داود وذريته، ابن داود وربه، ربنا يسوع المسيح؛ هو بلا خطية، وكما قال بنفسه: "أن رئيس هذا العالم آت وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30). هو وحده يقدر أن يقدم هذا الاحتجاج بطريقة كاملة!

2. يرى البعض أن طلبة المرتل: "احكم لي" إنما تعني "دافع عني"[519]. المعنى الفعلي هو: "احكم لكي تدافع عني"؛ فإنه يُحكم على المؤمنين الأبرار ظلمًا حتى الذروة، لكن لهم الله وحده، ديّان الكل، ومخلصهم والمحامي المدافع عنهم.

3. في الآية [11]: "وأنا بدعتي سلكت، انقذني وارحمني" لم يغب عن المرتل حاجته الملحة إلى الفداء، واعتماده على نعمة الله ورحمته[520].

إن كان داود النبي يطلب من الله أن يفحص قلبه وكليتيه، هذا لا يعني نوعًا من الكبرياء، لأن ما يفعله داود من برّ هو عطية إلهية، إذ يقول: "على الرب توكلت فلا أضعف".  ونحن أيضًا من جانبنا انكارنا حقيقة عمل السيد المسيح في حياتنا كأولاد لله لا يحسب ذلك اتضاعًا، إذ يليق بنا أن نشهد عن قوة الله ومحبته باستعلان عمله الخلاصي الكفاري فينا، فنشهد بالكلام كما بالسلوك.

4. في دفاع المرتل عن نفسه ربما قصد رفع العثرة عن الشعب حتى لا يهلكوا بسببه.

بالمثل نرى القديس بولس لم يشأ أن يدافع عن نفسه ولا أن يفتخر بنفسه، إذ يقول: "وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم فيّ منكم أو من يوم بشر" (1 كو 4: 3)، "نحن جُهال من أجل المسيح وأما أنتم فحكماء في المسيح؛ نحن ضعفاء وأما أنتم فأقوياء، أنتم مكرمون وأما نحن فبلا كرامة" (1 كو 4: 10)، لكنه إذ شعر أن الاتهامات الموجهة ضده وضد حقه في الرسولية وضد تعاليمه الإنجيلية اضطر أن يدافع بقوة، قائلاً: "اقبلوني ولو كغبي لأفتخر أنا أيضًا قليلاً" (2 كو 11: 6)، "قد صرت كغبي وأنا أفتخر" (2 كو 12: 11).

"احكم لي يارب

فإني بدعتي سلكت.

وعلى الرب توكلت فلا أضعف" [1].

لم يكن أمام داود النبي – وقد وجه إليه الأعداء اتهامات باطلة تمس إيمانه وحياته وتعثر شعبه فيه – إلا أن يستغيث أمام محكمة العدل الإلهي، حيث يقوم بالفصل في الأمور الله نفسه فاحص القلوب والعالم بكل الظروف الخفية والظاهرة، وها هو يقدم ضميره شاهدًا على نقاوة قلبه واخلاصه.

يؤكد المرتل أنه حفظ ضميره صالحًا، ووضع رجاءه واتكاله على الرب، لهذا يتوسل من أجل أن يتفحص الرب قضيته، طالبًا منه أن يكون قاضيًا بينه وبين الذين يتهمونه. أنه لا يستطيع أن يبرر نفسه أمام اتهام الخطية، لكنه خلال الحب الإلهي يستطيع الله أن يبرره من الاتهامات الباطلة. الله هو الشاهد على صدق قلبه ونواياه.

يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يقول: "على الرب توكلت" لأنه أتهم بأنه قد صار في شركة مع الوثنيين، مستهينًا بخدمة بيت الرب الجماعية... كأنه يقول لست أتكل حتى على أي ذراع بشري سواء لمؤمن أو غير مؤمن، إنما اتكالي هو على الرب وحده. إن كنت أعيش مع الوثنيين الأشرار بالجسد لكنني بالروح منفصل عنهم، لأني لا اتكل عليهم ولا على غيرهم.

v   الرغبة في أن يُحاكم الإنسان أمر خطير وجاد ويصعب أن يفكر الإنسان فيه من جهة نفسه، فما هي هذه المحاكمة التي يتوق إليها؟ انفصاله عن الأشرار...

ما معنى العبارة: "وعلى الرب توكلت"؟ من يترنح بين الأشرار هو إنسان لا يضع ثقته في الرب، فإن مثل هؤلاء (الأشرار) يثيرون شقاقات... هل وضعت ثقتك في إنسان؟ إذن، فإنك ستتذبذب كلما تذبذب هذا الإنسان، وتسقط عندما يسقط الإنسان، لكنني إذ توكلت على الرب أبقى ثابتًا.

القديس أغسطينوس

"ابلني (افحصني) يارب وجربني،

إحمِ قلبي وكليتيَّ" [2].

 جاءت الكلمة المرادفة للفحص هنا بما يخص امتحان المعادن وفحصها بالنار (مز 12: 6؛ 17: 3)؛ فقد اشتاق المرتل أن يمتحنه الله مرة ومرات، إذ يعلم براءته فيما نُسب إليه باطلاً، طالبًا من الله أن يثبت ذلك بنفسه ويعلنه[521]، فإن الفحص الإلهي إنما يزيده تزكية وبهاءً ومجدًا.

v   إذ أخاف لئلا تفلت مني بعض الأخطاء السرية امتحني يارب وجربني. اكشف (ما بداخلي) ليس أمامك يا من ترى كل شيء، بل أمام نفسي وأمام العبيد زملائي... أعطِ داوءً لرغباتي وأفكاري الدفينة حتى تطهر كما بلهيب.

v   افحص رغباتي الدفينة بالنار، جرب أفكاري، امتحن أفكاري مؤكدًا أنها لا تعيش في الشر، وأن الشر لا يثيرها.

أية نيران تفحص قلبي؟ نار كلمتك.

أية نيران تجرب قلبي؟ لهيب روحك.

هذه هي النار وُصفت في موضع آخر بالكلمات: "لا شيء يختفي من حرها" (مز 19: 7). كما قال الرب بدوره عن هذه النار: "قد جئت لألقي نارًا على الأرض" (لو 12: 49).

القديس أغسطينوس

v   من أجل هذا التطهير الواهب الحياة يُصلي داود، قائلاً: "جربني يارب وامتحني، افحص كليتي وقلبي"[522].

الأب ثيؤدور

في الوقت الذي فيه يعلن المرتل اقتناعه ببرائته التي بلا شك هي ثمرة عمل الله في حياته نجده يطلب رحمة الله التي لا تفارق عينيه.

"لأن رحمتك أمام عينيّ هي،

وقد أرضيتك بحقك" [3].  

يتذكر داود النبي مراحم الله في الماضي، وهو يُعوّل عليها في حاضره وأفكاره الحالية، ويترجاها في أيامه القادمة. تقواه (أو براءته) تقوم على أساس الآراء الصحيحة الخاصة بسمات الله وعنايته الإلهية نحو شعبه بوجه عام ونحو داود بوجه خاص، ومن ثم كان الفيض المبهج للتقوى والرحمة والرأفة المملؤة حبًا، لهذا كان داود في كل أفكاره يركز على هذا الجانب من شخصية الله[523].

بقوله "أرضيتك (ابتهج) بحقك" ربما يشير المرتل إلى اتهامه بعبادة الأوثان، فيعلن أنه وإن كان قد اضطر إلى الهروب من وسط شعبه إلى شعب وثني لكنه لم يحد قط عن الحق الإلهي إلى زيف الأوثان، علاوة على أنه يبتهج من أعماق قلبه بالله الحقيقي.

2. دفاعه عن تركه الشعب وبيت الرب:

"لم أجلس مع محفل باطل،

ومع مخالفي الناموس لم أدخل.

أبغضت مجمع الأشرار،

ومع المنافقين لم أجلس" [4، 5].

جميع الأمم تتفق في أن الناس يُعرفون من أصدقائهم الذين يختارونهم. إن كان داود النبي قد اضطر إلى الهروب من وسط شعب الله إلى بلد وثني، لكن ليس له رفقة مع أعمال الظلمة غير المثمرة ولا يماثل الأشرار في خطاياهم. حقًا أن الوثنيين هم محفل باطل ومخالفوا الناموس ومجمع أشرار ومنافقون، وقد التجأ إليهم لكنه لا يحمل شركة عمل أو فكر معهم؛ لم يجلس معهم في مشوراتهم ولم يدخل معهم في عهود ولا أحب تصرفاتهم.

وجودنا في العالم يُلزمنا إلا نعتزل بالكلية أهل العالم، وإلا كان يلزمنا الخروج من العالم (1 كو 5: 10)، لكن يجب ألا نشاركهم فكرهم الشرير وتصرفاتهم الدنسة.

يجب أن يُنزع الدنس فنصير في حضن الله ونحب السكنى في بيته، حيث يوجد مجده. يلزم اعتزال الأشرار (من جهة شرهم) حتى ندخل حضرة القدوس. لهذا وُضعت المرحضة بين خيمة الاجتماع والمذبح، ليغسل فيها الكهنة أيديهم وأقدامهم قبل اقترابهم من المذبح والخيمة (خر 40: 30-32).

v   "لم أجلس مع محفل باطل" [4]... إلى أي شيء يرمز الجلوس؟ أن يكون الشخص بقلب واحدٍ مع من يعاشرهم. إن لم يكن قلبك هناك على الرغم من وجودك معهم، فأنت لا تجلس معهم، أما إن كان قلبك هناك فأنت تجلس معهم حتى وإن كنت غائبًا عنهم (بالجسد)

القديس أغسطينوس

كان داود النبي محرومًا من شعبه ومن بيت الله بهروبه إلى بلد وثني، لكنه كان بقلبه يجلس مع أتقياء شعبه ويشارك العابدين بالروح والحق.

هرب الابن الضال من بيت أبيه يطلب الجلوس في محفل الأشرار، فإذا به يشارك الخنازير خرنوبهم، وإذ رجع بقلبه إلى حضن أبيه تمتع بمحفل بهيج وكريم.

"لنهرب من محافل الأشرار، لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم" (رو 1: 18)، ولنعتزل جماعتهم لئلا نسقط تحت الضربات معهم (رؤ 18: 4)... ونحرم من المحفل السماوي أو الوليمة الإلهية.

اعتزالنا الأشرار قد يدفعهم إلى التوبة عن شرورهم، أما اختلاطنا بهم في شرورهم وتهاوننا في تقديس حياتنا، فبجانب ما يسببه لنا من هلاك، لا يعطيهم فرصة أن يفطنوا إلى خطورة حالتهم.

"أبغضت مجمع الأشرار" [5]. ربما يجد البعض في هذا التعبير نوعًا من القسوة؛ لكن المرتل وقد تلامس مع الله الحالّ في مجمع الآلهة (الأبرار) يدرك أن الشيطان يحل في مجمع الأشرار كمجمع خاص به ليستخدمهم أدوات عمله وآلات موت لحساب الشر. وكأن المرتل يعلن أنه قد اختار كنيسة الله لينعم بالحضرة الإلهية مبغضًا مجمع الشيطان، اختار جماعة القديسين لا مجلس الأشرار، اختار أورشليم العليا لا بابل الزانية، اختار نسل المرأة ليرفض نسل الحية... فإنه لا شركة بين النور والظلمة!

كاهن روحي:

لم يكن داود النبي كاهنًا ولا لاويًا... لكنه وقد التزم بالهروب من وسط شعبه ومن العبادة الجماعية في بيت الرب المقدس يُعلن من الجانب السلبي أنه لا يشترك مع الأشرار مخالفي الناموس المنافقين حياتهم الشريرة؛ وأما من الجانب الإيجابي فقد أدرك أنه وهو اشبه بالطريد يحضر بقلبه ليس فقط وسط شعب الله وإنما يشارك الكهنة خدمتهم المقدسة، إنه حاضر بالروح في الخيمة يغسل يديه مع الكهنة لا بمياه المرحضة وإنما بنقاوة القلب الداخلي، ويطوف حول المذبح لا بجسده وإنما بشوقه الداخلي وحبه الناري الملتهب، يسمع التسبيح السماوي بأذنيه الروحيتين، ويتحدث عن عجائب الله... وكأنه لا توجد قوة ما أن تمنعه من التمتع بجمال بيت الله والوجود في موضع مسكن مجد الله. هذا ما عبّر عنه بقوله:

"أغسل يديَّ بالنقاوة.

وأطوف بمذبحك يارب.

لكيما أسمع صوت تسبيحك،

وانطق بجميع عجائبك

يارب أحببت جمال بيتك

وموضع مسكن مجدك [6-8].

تدل هذه العبارة على أنه حفظ نفسه من خطية عبادة الأوثان. كان داود النبي يغسل يديْ نفسه أمام الله قلبيًا، كما كان ملاصقًا لمذبح الله الروحي.

كانت عادة الكهنة أن يطوفوا حول المذبح أثناء تقديم الذبيحة، وغالبًا ما كان مقدموا الذبيحة أيضًا يمارسون ذات الفعل من بُعد، مشيرين بهذا إلى اجتهادهم وجديتهم بخصوص ما يُفعل (تقديم الذبيحة عنهم)، وأنهم يصغون بجدية إلى خدمة الرب[524].

كان غسل الأيدي عملاً رمزيًا للنقاوة، لكن غالبية اليهود ركزوا كثيرًا على ذات الفعل في ذاته. فقد قيل بين اليهود: "كل من يحتقر غسل الأيدي يُقطع من المجمع، ويصيبه الفقر، وسوف يُنتزع من العالم!" وفي قول آخر: "كل من كان له مقعد في أرض إسرائيل، ويأكل طعامه العام بطهارة (يدين)، وينطق باللغة المقدسة، ويردد صلواته صباحًا ومساءً، فليتيقن أنه سينال حياة الدهر الآتي". ويخبرنا اليهود أن أحد أفاضلهم R.Aquiba إذ كان في السجن ولم يكن لديه ماء كافٍ ليشرب ويغسل يديه اختار أن يمارس العمل الأخير، قائلاً: "من الأفضل لي أن أموت عطشانًا عن أن أتعدى التقليد"[525].

ربما عنى داود النبي بغسل يديه بالنقاوة إظهار براءته من الاتهامات الموجهة ضده، ومن الجرائم التي نُسبت إليه ظلمًا. ونحن أيضًا إذ نلتقي بالسيد المسيح المصلوب نغسل أيدي نفوسنا من الماء والدم اللذين يفيضان من جنبه، فإن مياه العالم كله لا تقدر أن تُطهر الأعماق، بل مياه المعمودية المرتبطة بالإيمان بدم المسيح الكفاري تجدد طبيعتنا وتُطهر أعماقنا.

مادمنا في العالم نحتاج إلى غسل مستمر خلال التوبة "المعمودية الثانية"، وذلك بفعل كلمة الله وروحه القدوس. كلام الله روح وحياة... قادر أن يخترق النفس إلى أعماقها ليهبها نقاوة وتقديسًا...

v   "أغسل يديَّ بالنقاوة"، وليس بماءٍ منظور.

إنك تغسل يديك عندما تنجز أعمالك خلال أفكار مقدسة ونقية في عينيْ الله، فإنه يوجد مذبح أمام عينيْ الله، الذي يدخل إليه الكاهن (المسيح) الذي قدم نفسه أولاً ذبيحة من أجلنا. هذا المذبح عالٍ، لا يستطيع أحد أن يدركه إلا من يغسل يديه بالنقاوة.

القديس أغسطينوس

v   تلاحظون أن الشماس يقدم ماءً للكاهن ليغتسل كما أيضًا للكهنة الذين هم حول المذبح الإلهي؛ وهو بالتأكيد لا يقدمه بسبب افتقادهم للطهارة الجسدانية، فليس هذا هو السبب، إذ نحن بلا دنس جسدي عند دخولنا الكنيسة. لكن الغسل هو رمز للنقاوة من كل أعمال خاطئة وتعديات؛ فاليدان هما رمز للعمل، وبغسلهما ندخل إلى الطهارة والسلوك بلا لوم. ألم تسمعوا تلك الافتتاحية المطوّبة لهذا السرّ ذاته، إذ يقول: "أغسل يدي وسط الأبرياء فأطوف بمذبحك يارب"؟ فغسيل الأيدي هو من ثم رمز للحصانة ضد الخطية[526].

القديس كيرلس الأورشليمي

إذ يتمتع المؤمن بنقاوة القلب وطهارة اليدين، أي قداسة الأعماق والأعمال، تستطيع أذناه الداخليتان أن تسمعا صوت التسبيح الملائكي وتتجاوب معه بالفرح الداخلي وتهليل النفس ولهج اللسان بالتسبيح والتماجيد حيث يعلن الإنسان بحياته الداخلية وسلوكه عن عجائب الله معه، فيقول:

"لكيما أسمع صوت تسبيحك،

وانطق بجميع عجائبك" [7].

لعل داود النبي يُريد أن يقول بأنه وسط كل افتراءات الأعداء لا تميل اذناه إلى كلماتهم ولا ينشغل فكره حتى بالدفاع عن نفسه أمامهم، لأن صوت التسبيح المفرح يملأ كل كيانه ويشبع حياته، فعوض الشكوى ضد الأعداء أو التذمر على ما يحل به، يتحدث عن كل أعمال الله العجيبة التي ترفعه كما إلى الحياة السمائية بالروح القدس.

يرى القديس أغسطينوس أن الآية "لكيما أسمع صوت تسبيحك" تعني أن صوت الروح القدس في تماجيد الكنيسة يعلمني كيف أُمجدك. كما يقول أيضًا: [إن تسمع الله لا يعني أن تلتقط الأصوات المسموعة. كم من أناس صُمّ لا يسمعون الله! يلزمك أن تسمع صوت التمجيد هكذا بأنك لا تمجّد ذاتك قط، مهما كُنت صالحًا. الاتضاع يجعلك صالحًا والكبرياء يجعلك خاطئًا[527]].

v   لكيما أسمع صوت التسبحة"... كثيرون لهم آذان، لكنهم ليست تلك الآذان التي تحدث عنها يسوع عندما صرخ قائلاً: "من له أذان للسمع فليسمع" (مت 13: 9)...

أن تسمع صوت التسبحة يعني أن تدرك داخليًا أن كل ما كان فاسدًا فيك بالخطية مصدره ذاتك، وأن كل ما هو جيد، كل ما يُعمل للصلاح مصدره الله. هكذا يجب عليك أن تسمع صوت التسبيح بأن لا تمجد ذاتك قط، مهما كانت فضيلتك وإلا تصير ملومًا...

القديس أغسطينوس

تتقدس الآذان الداخلية فتسمع صوت التسبيح، عندئذ ينفتح لسان القلب ليشترك في تمجيد الله والحديث عن كل عظائمه دون أن ينسب مجدًا ما للذات أو الأنا. وأيضًا تتقدس البصيرة فتعاين مجد بيت الرب، عندئذ ينفتح القلب بالحب مشتاقًا أن يكون له موضع في مسكن مجده، إذ يقول المرتل:

"يارب أحببت جمال بيتك،

وموضع مسكن مجدك" [8].

يقصد داود النبي بالبيت هنا الخيمة، لأن الهيكل لم يكن قد بُني بعد. وكأن داود الطريد يشتهي ألا يُحرم من الخيمة المقدسة وتابوت العهد رمز الحضرة الإلهية، وألاّ يُطرد من بين شعب الله، وفي نفس الوقت يطلب بيت الله المقدس والبهي في أعماق قلبه!

v   يتجلى جمال بيت الله في الذين كُللوا بجمال القداسة داخل الكنيسة[528].

القديس أثناسيوس الرسولي

v   هذا الحب (حبنا لله) بدونه لن يقوم التركيب الخاص بالبناء الروحي الذي مهندسه بولس، مهما كانت المهارة ممتازة؛ ولا نستطيع أن يكون لنا المنزل الجميل الذي اشتاق إليه الطوباوي داود في قلبه لكي يُنقيه للرب، قائلاً: "يارب احببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك" [8].

بدون الحب يقيم الإنسان في قلبه – بغير بصيرة – منزلاً غير جميل لا يليق بالروح القدس، ولا يكون له شرف استقبال القدوس الذي يقطن (في القلب)، إنما يسقط في الحال وينهدم البناء في بؤس[529].

الأب إبراهيم

v   يشتهي الله أن نصنع له مسكنًا، واعدًا إيانا برؤيته كمقابل لذلك... أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة... بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه[530].

العلامة أوريجينوس

3. طلب الخلاص والرحمة:

بعد أن قدم داود النبي البراهين على كماله، يُصلي بحرارة حتى لا يُدفع بقوة ليكون بعيدًا عن جماعة شعب الله الذين هم موضع أمانة الله وحبه، فيُحسب كمجرم بين الخطاه وسافكي الدماء الذين تدنست أيديهم بالشر وامتلأت رشوة[531]، وبالتالي لا يكون مصيره مع الأشرار. رجاؤه في الله ألا يسمح له أن يُعاني مع الذين انفصل عن مجتمعهم. لقد اشتهى ألا يكون له نصيب مع الأشرار في وجوده ولا حتى في مجرى حياته المؤقته (الزمنية) ولا في نهاية حياته الموقرة ولا في وجوده بعد القبر! الاسباب التي دفعته إلى مثل هذه الصلاة تكمن في الاختلاف من جهة السِمات والطلبات والاشتياقات والعادات والغايات والمقاصد والأهداف بين القديسين والخطاة. فهم لا يحملون فكرًا متشابهًا، ولا شعورًا مماثلاً، ولا يتحدثون بذات الكلمات، وليس لهم ذات السلوك، ولا يعيشون بذات النمط، ولا يمشون بنفس الطريقة، أو يرتحلون في نفس الطريق، لذلك اشتاق داود أن يكون موضوع تذكر الله وعنايته ولكن ألاّ يجتمع مع الأشرار[532].

v   "فلا تهلك مع المنافقين نفسي" [6]. لا تهلك نفسي التي أحببت بيتك بكل جماله مع أولئك الذين يبغضوك. ولا تفنى حياتي مع رجال الدماء مع من يحتقر جاره، فإنه بكلى الوصيتين يتجمل بيتك (في داخلي).

القديس أغسطينوس

المنافقون ورجال الدماء هنا هم الذين يتعبدون لآلهة كثيرة وللأوثان.

لا يجد المرتل مسرته في صحبة الأشرار، إنما في عبادة الله في اجتماعات شعب الله. إنه يعزل نفسه عن الأشرار وفعلة الأثم وعن تجمعاتهم، ومن الجانب الآخر يؤكد ولاءه للرب وللعبادة التي تُقدم لمجده وأن يكون عضوًا في شعب الله، إذ يقول:

"فلا تهلك مع المنافقين نفسي،

ولا مع رجال الدماء حياتي،

الذين في أيديهم الإثم،

يمينهم امتلأت من الرشوة.

وأنا بدعتي سلكت،

انقذني وارحمني

لأن رجلي وقفت في الاستقامة،

في الجماعات أباركك يارب" [9-12].

كأن داود النبي يقول للرب إنه لا تشغلني اتهامات الأعداء الباطلة والظالمة، إنما ما يشغلني أن تحميني وأنا طريد من الجو الوثني الذي اضطررت أن أعيش فيه بجسدي وليس بقلبي. لا تسمح أن أكون شريكًا للمنافقين والمجرمين والأثمة والمرتشين في حياتهم ولا في مصيرهم؛ حياتهم غير حياتي، وهدفهم غير هدفي. على النقيض منهم اسلك بدعة، أي أسير في طريقك بروح الوداعة والاتضاع، اتكئ على خلاصك واترجى مراحمك... رجليّ لا تقدران أن تقفا إلا في الاستقامة، في طريقك الملوكي، حتى تدخل بيّ إلى حياة التسبيح والفرح مع الجماعة المقدسة.

من الجانب السلبي لم يطق المرتل الشركة مع الأشرار هنا، لا يحتمل روح النفاق ولا سفك الدماء ولا الرشوة أو الظلم فكيف يحتمل أن يكون مصيره الأبدي معهم... كأنه يقول لا تجمعني هناك معهم مادمت لم اجتمع هنا معهم في ظلمهم وإثمهم، بل "لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كأخرتهم" (عد 23: 10). أما من الجانب الإيجابي فبرفضه شر الأشرار يعلن رغبته في خلاص الرب العظيم ومراحمه حيث تتقدس نفسه بالدم الثمين ويجد رجليه تقفان في الاستقامة، أي في برّ المسيح وعطاياه ووعوده الإلهية فتنطلق أعماقه بالتسبيح الداخلي على مستوى الجماعة المقدسة كعضو في كنيسة المسيح الواحدة.

يُعلّق القديس أغسطينوس على تعبير "يمينهم امتلأت من الرشوة" قائلاً: [الله وحده هو الذي يرى من يقبل الرشوة أو يرفضها]، مقدمًا مثلاً لذلك أنه أحيانًا تمتد يد القاضي لتمتلئ رشوة لا من الغني بل ومن الفقير، كأن ينتهك حرمة العدالة وينطق بحكم ظالم مخالف للحق لحساب الفقير، لا لشيء إلا لخوفه من لوم الناس له. فالرشوة هنا هي حبه للمديح والكرامة لا للمال، على حساب الحق.

يُقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين من تمتلئ أيديهم بالدنس والرشوة وبين من له يدان طاهرتان يرفعهما إلى السماء فيقول: "لتكن رفع يديَّ ذبيحة مسائية"[533].

أخيرًا يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يشترك مع الجماعة المقدسة في التسبيح للرب يجمعه حبه لاخوته مع حبه لله!

 


 

أحكم ليّ يارب...

v   أنت هو برّي، أنت هو مكافأتي...

ليحكم العالم ضدي، أما أنت فشفيعي والديّان!

v   هب لي ألا أفكر في اتهامات البشر،

بل أن أُرضيك وأحيا معك.

v   إني لا أشارك المنافقين أفكارهم ولا غاياتهم ولا سلوكهم ولا اجتماعاتهم،

فلا تسمح لي أن يكون مصيري الأبدي معهم!

v   أحببت جمال بيتك، فلتزين بروحك القدوس قلبي مسكنًا لك!

v   احملني إلى طريق الاستقامة، طريق برك،

فأُشارك القديسين والسمائيين تسابيحهم لك!

<<

 

 

 

 

 


 

المزمور السابع والعشرين

الثقة في الرب

وحدة المزمور:

يرى بعض الدارسين مثل الأسقف وايزرWeiser  أن هذا المزمور يتألف من جزئين [1-6؛ 7-14]، يختلفان عن بعضهما في الأسلوب والمحتوى. الجزء الأول هو أنشودة قوية تعبر عن الثقة في الله التي لا تتزعزع، أما الجزء الثاني فهو صلاة مرثاة لشخص هو في أشد الحاجة إلي العون الإلهي في وسط محنته.

يرى آخرون وجود تناغُم بين الجزئين، فالمرتل الذي يهدده جيش من الأعداء والخصوم حتى وإن تكاتف الكل ضده؛ إنه يعتقد بأن كل عون بشري يختفي لذا يرجع إلى الثقة في الله وحده الذي هو نوره وعونه وحصنه، خاصة في قدس هيكله حيث يطلب عون الله المقدس. في ضيقته يسأل المرتل أن يعيش كل أيام حياته في بيت الله، يختبر عذوبة الله ويعاين جمال هيكله فهو يطلب ما هو أعظم من الحماية من الأعداء، إنه يطلب من الله الوقوف في مدينته والتمتع بوجهه وإدراك فرح بيته.

مناسبته:

يرتبط هذا المزمور باضطهاد شاول لداود؛ أو بالفترة التي هرب فيها داود من وجه ابنه أبشالوم؛ أو تلك التي كان يصارع فيها مع الفلسطينيين، حينما تورط كثيرًا بين أعدائه وكان على وشك أن يُقتل على يد عملاق لو لم يتقدم أبيشاي في اللحظة الحاسمة لينقذه. كان داود الملك في ذلك الحين شيخًا واهنًا، وإن كان قد احتفظ بشجاعته كما كان عليها من قبل، لكنه فقد رشاقته وقوة الشباب الجسدية؛ إذ كان الشعب مهتمًا ألا يفقد ملكه وقائده جاءوا إليه ليحلفوا له، قائلين: "لا تخرج معنا إلي الحرب ولا تطفئ سراج إسرائيل" (2 صم 21: 17)[534].

العنوان:

"لداود، قبل أن يُمسح"

مُسح داود ثلاث مرات (1 صم 16: 13؛ 2 صم 2: 4، 5: 3) المرة الأولى وهو صبي، مُسح خفية في بيت أبيه دون أن يعلم الملك شاول ودون معرفة الشعب، في المرة الثانية مسحه رجال يهوذا علانية، وفي الثالثة أُقيم ملكًا على كل الأسباط. في هذا كان داود رمزًا لابن داود، المسيا المخلص.

1. منذ الأزل مُسح الكلمة مخلصًا وفاديًا للبشر، قبل خلقتنا وسقوطنا.

2. جاء الملك ليملك على شعبه الذين هم خاصته.

3. أعلن ملكوته في كنيسته الممتدة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.

v   هكذا كان عنوان المزمور: "مزمور لداود قبل مسحه"... كانت المسحة آنذاك خاصة فقط بالملك والكاهن. إذ كان هذان الشخصان وحدهما ينالان المسحة المقدسة، وفيهما كان الرمز الذي تحقق في الآتي ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت، المسيح الواحد الحامل الوظيفتين. وقد دُعى "المسيح"، لأن الله (اللآب) قد مسحه. لم يُمسح رأسنا فقط، بل ومُسحنا نحن جسده. الآن هو الملك لأنه يقودنا ويرشدنا، وهو الكاهن لأنه يشفع فينا (رو 7: 22). وهو أيضًا الكاهن الوحيد والذبيحة في نفس الوقت، لأن الذبيحة التي قدمها لله الآب لم تكن سوى نفسه...

كلنا نشترك في المسحة وفيه... لهذا فإن المزمور هو صلاة إنسان يتوق إلى هذه الحياة، ويطلب بلجاجة من أجل نعمة الله التي تكمل فينا في النهاية.

القديس أغسطينوس

أقسامه:

1. ثقة في الرب                      [1-3].

2. حصانة في كنيسة المسيح [4-6].

3. صلاة برجاء                      [7-13].

4. نصح وإرشاد                      [14].

1. ثقة في الرب:

شكل هذه القطعة الشعرية [1-6] ومحتواها يشبه ما ورد في المزمور 23. يحمل المرتل نظرة مُخيفة لحشد من الجيوش يتكاتف ضده، لكن هذه النظرة تبتعها رؤية الرب، الذي فيه يجد المرتل النور والخلاص والقوة. الرب نفسه الذي هو الخير المطلق نصيب المرتل، وهو الكل في الكل بالنسبة له، وهو نوره وبهحته، سلامه وخلاصه، قوته وملجأه. يعبر المرتل عن ثقة بلا خوف في الله تُمكنه ليس فقط من مواحهة كل المخاطر التي تحدق به وإنما أيضًا بها يجد عذوبة وبهجة خلال التجارب.

"الرب نوري ومخلصي ممن أخاف؟!

الرب عاضد حياتي ممن أجزع؟!" [1].

لا يستطيع أحد أن ينطق بهذه الكلمات إلا من كفّ عن اتكاله على أصدقائه من بني البشر، علاوة على توقفه عن اعتماده على ذاته، يُقابل هذا اتكاله الكامل وثقته المتناهية في الله دون شروط، في تسليم كامل تحت كل الظروف. هذا الاستقلال عن كل ما هو بشري يجعل الإنسان متحررًا من أي خوف. غير أن هذه الثقة لا توهب إلا لمن يرى في الله كل شيء، يجد فيه غايته القصوى في ظروف حياته العملية الواقعية[535].

يثق المؤمن أن كل سمات الله تُناسب حمايته وتمتعه هو بالمجد الأبدي، لهذا يتحدث عن الله هكذا: "نوري، مخلصي، عاضد حياتي". يبدأ المزمور بالاعلان عن الله بكونه نورنا وخلاصنا وحصن حياتنا بصفة شخصية... فيه يخلص المؤمن شخصيًا من أعدائه الروحيين فتستنير بصيرته الداخلية لمعاينة الأمجاد السماوية.

النور رمز طبيعي لكل ما هو إيجابي، من الحق والصلاح إلى الفرح والبهجة (مز 43: 3؛ إش 5: 20؛ مز 97: 11؛ 36: 9). إذ نتمتع بالله نورًا لنا لا حاجة أن نخشى أحدًا أو شيئًا ما، فالنور يبدد الظلمة: "إن كان الله معنا، فمن علينا؟!" (رو 8: 31).

يقدم لنا المرتل أقول إنسان مختبر، يترنم خلال حياته وخبرته الشخصية مع الله. فقد أحاطت به الجيوش، وبالإيمان غلب وانتصر. حين حاصرته الجيوش من كل جانب فصار كمن هو في وسط ضباب كثيف اكتشف أن "الله نور وليس فيه ظلمة البتة" (1 يو 1: 5)، بنوره عاين النور. إنه يسمع صوت الرب القائل: "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12). لن يستطيع الضباب أن يخدعنا، إذ يشرق علينا شمس البر، واهبًا إيانا الشفاء بأجنحته، مخلّصًا إيانا من الشر، لنردد قائلين: "هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا" (إش 12: 12). كلما تكاتفت قوى الظلمة ضدنا ازداد حنيننا إلى شمس البر، واكتشفنا عمله الخلاصي في حياتنا عمليًا.

يهبني النور الحقيقي نور المعرفة، فاكتشفه مخلصي من خطاياي، واختبره قوتي ضد الشر. هذا هو عمل الله مخلصي في حياتي: يهبني نور معرفة وخلاصًا وقوة!

v   أنه ينيرني، فتبددي أيتها الظلمة! إنه يخلصني، فوداعًا يا كل الضعف!

v   الله يهبني كلاً من معرفة ذاته (النور) والخلاص، فمن ينتزعني عنه؟!... الرب يطرد كل هجمات عدوي، الخفية والظاهرة، فلا أخاف أحدًا!

v   نعم يا إلهي... في غياب نورك ظهور للموت، أو بالحري مجيء للعدم.

v   يالشقائي... لقد سادت عليّ الظلمة، ومع أنك أنت النور، إلا أنني حجبت وجهي عنك!

v   آه! قل هذه العبارة: "ليكن نور"، عندئذ أستطيع أن أعاين النور، وأهرب من الظلمة؛

أعاين الطريق وأترك طريق الضلال؛

أرى الحق وابتعد عن الباطل؛

انظر الحياة وأهرب من الموت؛

إشرق فيّ يا إلهي، فأنت نوري واستنارتي...

v   أيها النور الأسمى، تعجل بالاشراق فيّ أعمى يُريد أن يصير ملكًا لك!

القديس أغسطينوس

وهبنا الله ذاته نورًا فتستنير بصيرتنا الداخلية وتكتشف في الله خلاصها وقوتها:

v   هو قوتنا، به ننال النصرة، لأنه يعطينا السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات العدو[536].

القديس كيرلس الكبير

v   إن كنت عادلاً لا يستطيع أحد أن يخيفك. إن كنت تخاف الله لا تخاف آخر، "الصديق كأسد يثق في نفسه" (راجع أم 28: 1)[537].

الأب قيصروس أسقف آرل

v   إلهي... أنت حياتي، أنت خالقي، أنت نوري، أنت مرشدي، أنت حصني ووجودي... ارحمني وأقمني...

يا الله إلهي... أنت نسمات حياتي، أنت صلاحي، قوتي، عزائي في يوم الضيق.

تطلع إلى كثرة أعدائي وخلصني من أيديهم، فإلى أين يهربون من وجهك أولئك الذين يمقتوك؟! أما أنا فبك وفيك أحيا.

v   أيها الكلمة... ليتني التصق بك، ففيك يكون حفظي...

أنت خلقتني، فلتتكرم وتعيد خلقتي.

أنا أخطأت، فلتفتقدني،

أنا سقطت، فلتقيمني،

أنا صرت جاهلاً، فلتحكمني،

أنا فقدت البصر، فلتعد ليّ النور!

القديس أغسطينوس

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الكتاب المقدس يقدم لنا الرب بألقاب كثيرة ليشبع كل احتياجاتنا. هو نورنا، وخلاصنا وحصننا كما جاء في هذا المزمور، وهو الخبز النازل من السماء والباب والطريق والحق والحياة الخ...

v   لا يدعو داود الله في كل مرة بنفس الاسم أو بذات اللقب؛ لكنه أثناء حربه وعند نصرته يقول: "أحبك يارب يا قوتي، الرب ترسي"؛ وحينما يخلصه الله من محنة وظلمة تحيط به يقول" "الرب نوري ومخلصي". يدعوه حسب الحال الذي عليه في ذلك الوقت، تارة يدعوه خلال محبته الحانية وأخرى خلال عدله، وتارة خلال قضائه البار[538].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"عندما يقترب مني الأشرار ليأكلوا لحمي،

الذين يضايقونني وأعدائي هم ضعفوا وسقطوا.

وإن يحاربني عسكر فلن يخاف قلبي.

وإن قام عليّ قتال فبهذا أنا أرجو" [2-3].

اقترب إليه الأشرار ليأكلوا لحمه ويفنوه، وكان أعداؤه قادرين، لكن إلهه القدير هو أقدر منهم. لقد اعتاد الأشرار أن يذبحوا شعب الله ويأكلونهم كخبز (مز 14: 4). هم فاعلوا شر (26: 5)، يؤذون (إر 25: 6) ويضرون (1 صم 26: 21) ويضغطون (مز 44: 2)، يسببون ضيقًا (أم 4: 6) ويغيظون الآخرين (عدد 20: 15)[539]... فما هو موقف القدير؟ أنه لم يمنعهم من ممارسة شرهم قسرًا، إنما بحبه الخلاصي قدم جسده الواهب الحياة مأكلاً، حتى نتقبل نحن أعضاء جسده أن نقدم أجسادنا طعامًا لاخواتنا في البشرية بروح الحب الباذل، يأكلوننا فيتحولون من ذئاب مفترسة إلى حملان وديعة. لهذا يقول ربنا يسوع لتلاميذه: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب" (مت 10: 16).

إذًا ليأكل الأشرار لحمي، فإن المسيح الساكن فيّ قادر أن يُحوّل حياتهم الشريرة إلى حياة مقدس... يعرف كيف يصيرني إناءّ يحمل آلامًا من أجل المسيح. لقد كان شاول الطرسوسي مضطهدًا للكنيسة يأكل لحوم أبنائها، لكنه أخيرًا تحول إلى بولس الرسول الذي قيل عنه: "لأني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي" (أع 9: 16). أكل الوثنيون لحم القديس مرقس بالإسكندرية حتى سال دمه في شوارعها، فتحولت الإسكندرية إلى مدينة مقدسة تضم كنيسة المسيح الحية.

v   "عندما يقترب مني الأشرار ليأكلوا لحمي" [2]. حينما يقترب الأشرار ليتعرفوا عليّ ويهينونني ويتبجحون عليّ لأنني أسعى نحو ما هو أفضل ليس فقط يزعجون نفسي بأسنانهم اللعينة بل وأيضا يضايقونني بالرغبات الضآلة... يعثرون ويسقطون...

v   ما معنى "لحمي"؟ إنها غرائز طبيعتي الدنيا. ليثر (الأشرار) ويسعوا ضدي فإنهم إنما يُفنون فيّ ما هو مائت (شهواتي الجسدية)، لكن يبقى فيّ ما لا يستطيع مضطهديّ بلوغه، الهيكل الذي يسكن فيه إلهي.

القديس أغسطينوس

إذًا فليقترب العدو مني وليثر ضدي، فإنه إنما يأكل لحمي، أي خلال حربه ضدي لا يقدر أن يقتحم حياتي الداخلية- ملكوت السموات القائم فيّ- إنما يدخل بيّ إلى الضيق الجسدي أو النفسي إلى حين لأخلع الشهوات الجسدية واجتاز طريق المسيح الضيق

بطهارة ونقاوة.

"وإن يحاربني عسكر (جيش) فلن يخاف قلبي" [3]. ما من قوة بشرية اجتمعت وتآمرت ضد إله القوات (دا 11: 38)، وما من حشود جيوش إلا وصارت في نظر الله كعشب الجندب؛ فإن عناية الله غالبًا ما تحارب ضد الجانب الأقوى (الظالم) (جا 9: 11)[540].

v   الإمبراطور إذ تحرسه قواته لا يخاف شيئًا، هكذا يحمي الأموات المائت فلا ينزعج؛ فهل إذا ما حرس غير المائت يخاف الأخير وينزعج؟!

القديس أغسطينوس

الجيوش لا ترهب المؤمن لأنه يحتمي بالله السرمدي غير المائت، يرسل ملائكته لحراسته، بل ويكون هو نفسه ستر له (مز 32: 7).

المؤمن وقد استنار بالروح القدس لا يخشى حتى الشيطان وكل جنده أو جيوشه. إنه يؤمن بالله الذي يبيد قوات الظلمة بصليبه، فلا يكون لعدو الخير ولا للخطية سلطان في قلبه، إذ ينعم بملكوت الله في داخله.

2. حصانةً في كنيسة المسيح:

إذ تكدست الجيوش حول داود وجد في الله وحده الملجأ الأمين... وعوض التفكير في مقاومة الأعداء انسحب قلبه إلى بيت الرب، إلى كنيسة المسيح التي يقيمها روح الله داخله، وإلى العبادة الجماعية المقدسة، حيث يتمتع بعذوبة سكنى الرب في القلب كما في وسط الجماعة. هذا ما عبّر عنه المرتل بقوله:

"واحدة سألت من الرب، وإياها ألتمس:

أن أسكن في بيت الرب سائر أيام حياتي.

لكي أنظر نعيم الرب، واتعاهد هيكله المقدس.

لأنه أخفاني في خيمته في يوم مضراتي؛

سترني في ستر مظلته.

وعلى صخرة رفعني

والآن هوذا قد شرف رأسي على أعدائي.

طفت وذبحت في مظلته ذبيحة التسبيح،

اسبح وأرتل للرب" [4-6].

إن كان هدف عدو الخير أن يثير حولنا القلاقل لكي يشغلنا بها عن إلهنا القدوس، فلا ننعم بالشركة معه، فإن المؤمن الحقيقي - بروح الحكمة - ينسحب قلبه إلى كنيسة الله أو إلى بيت الله معلنًا شوقه أن يوجد مع الله كل أيام حياته.

ماذا أعلن النبي وسط آلامه؟

أ. عدم انحرافه عن هدفه: بناء بيت للرب ليسكن هو أيضًا مع الرب.

ب. تأمله وبهجته في الرب، الحال في هيكله المقدس.

ج. حمايته في خيمة الرب، واختفاءه في ستر مظلته.

د. ارتفاعه على الصخرة.

هـ. غلبته على أعدائه.

و. تقديم ذبائح الهتاف والتسبيح.

أ. عدم انحرافه عن هدفه: كانت أشواق داود النبي والملك تتركز في بناء بيت الرب، بقصد السكنى الدائمة بالقلب في المقادس الإلهية، وكما يقول هنا إن رغبته الوحيدة واشتياقه الوحيد الذي يملأ قلبه، وفيه تتجمع كل الاشتياقات الأخرى وتتحقق: أن يعيش في شركة دائمة مع الرب ما أمكن، عندئذ يملك كل شيء[541].

اشتاق إلى السكنى في بيت الرب ليعبده ويتمتع بحمايته. هذا ويلاحظ أن الكهنة أنفسهم لم يقيموا بالفعل في الهيكل؛ لهذا لم يقصد المرتل السكنى بالمفهوم الحرفي، إنما عنى به السكنى الروحية. يُريد أن يسكن قلبه هناك ككاهن روحي لله.

بالرغم من أن المرتل يبدأ مزموره بالاعلان عن علاقته الشخصية مع الله بكونه نوره ومخلصه وحصن حياته، نراه هنا يعرفه من خلال الجماعة (بيت الرب)، فهو محب جدًا لبيت الرب وللعبادة العامة الليتروجية[542]. وكأنه لا انفصال بين حياة الإنسان الخاصة مع الله وعلاقته به خلال الجماعة المقدسة.

يشتهي المرتل أن يسكن في بيت الرب سائر أيام (وليس ليالي) حياته. لقد وجد المرتل في الرب نوره الذي به تنقشع ظلمة ليله، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن حياة المرتل خاليه من الليالي، ولا مكان للظلمة فيها].

v   ها أنتم ترون ما أحبه أنا... إنه لمشهد عجيب أن أُعاين جمال الرب نفسه!

عندما ينتهي ليل (المرتل) يشتاق أن يستريح إلى الأبد في نور الله. فلا يكون ليلنا بعد، إذ يشرق الصبح بفجره علينا.

القديس أغسطينوس

يُلاحظ أن المرتل يدعو الكنيسة هنا بأسماء وألقاب متعددة، كل لقب له هدفه:

- بيت الله: يشير إلى سكنى الله وسط شعبه، وسكنى المؤمن مع الله.

- هيكله المقدس: يشير إلى القداسة كجمال القدوس، بها ننعم برؤية الله، والنظر إلى نعيمه.

- خيمته: يشاركنا تغربنا في العالم، له خيمته، حيث يقيم معنا، ويرحل معنا، حتى يحملنا إلى سمواته... كان مجد الرب يحل في الخيمة المقدسة!

- مظلته: يستر علينا من حرّ التجارب.

- صخرة: يرفعنا فيه فلا تتسلل الحية إلينا، حيث لا تستطيع الزحف الصخرة الملساء.

ب تأمله وبهجته في الرب الحّال في هيكله المقدس:

"لكي أنظر نعيم الرب، واتعاهد هيكله المقدس" [4]. الله القدوس يسكن في هيكله المقدس، يفيض على كنيسته بالحياة المقدسة، لينعم المؤمن بالقدسة التي بدونها لا يقدر أحد أن يُعاين الله.

النفس التي تتقدس للرب تحسب هيكلاً له، عذراء عفيفة للمسيح. وكما يقول القديس جيروم: [طوبى للنفس؛ طوبى للعذراء التي لا يوجد في قلبها موضع للحب سوى حب المسيح، لأنه في ذاته هو الحكمة والطهارة والصبر والعدل وكل فضلية أخرى].

ج. حمايته في خيمة الرب:

"لأنه أخفاني في خيمته في يوم مضراتي؛

سترني في ستر مظلته".

يرى القديس أغسطينوس خيمة الرب أو مظلته تشير إلى تجسده، حيث أخلى ذاته وأخفى لاهوته حتى يُتمم عمل الخلاص بالصليب فنختفي فيه من كل سهام العدو ونستتر به من عار الخطية.

v   لأنه أخفاني في تدبير كلمته المتجسد خلال التجربة التي تعرضت لها حياتي المائتة. سترتني في ستر مظلته، حماني منذ أن ملك في قلبي الإيمان الذي يُبررني (رو 10: 10).

على صخرة رفعني، لكي يقودني إلى الخلاص بالمعرفة المكشوفة التي لإيماني؛ فقد جعل إيماني كحصن منيع متأسس على قوته.

القديس أغسطينوس

مظلة المسيح التي يُخبئني فيه هي جسده القائم من الأموات، الذي فيه أحتمي من طبيعتي الفاسدة بالسكنى فيه. مكتوب: "في ذلك اليوم أقيم مظله داود الساقطة" (عا 9: 11).

v   المظلة هنا تشير إلى الجسد المقدس المكرم، هيكل الله، المولود من العذراء، الذي يسكن فيه المؤمن كرفيق لجسد الرب... فقد أخذ لنفسه طبيعة كل جسد، وإذ صار بهذه الطريقة الكرمة الحقيقية جمع في نفسه عنصر كل فرع[543].

القديس هيلارى أسقف بواتييه

يوجد ارتباط بين الخيمة والمظلة، حيث كلاهما يشيران إلى مرافقة الرب لنا أثناء تغربنا في هذا العالم؛ الأولي كانت تُنصب وسط المحلة أثناء رحلات الشعب في البرية، وفيها يحل مجد الرب... وكأنه يسكن وسط شعبه أثناء السلام ليشرق بمجده وببهائه عليهم. أما المظلة الملوكية فترتفع وسط محلة الجيش وحولها جبابرة البأس يحرسون طول الوقت، وكأن المؤمن يعيش في حياته الملك المحارب وجنوده السمائيين. وكأن المسيح حاّل في حياتنا تحت كل الظروف ليهبنا مجده ونصرته.

الخيمة تتحدث عن الذبيحة حيث يحمي الدم المقدس المؤمنين من الخطية، والمظلة تتحدث عن ضرورة الجهاد الروحي بقيادة المخلص نفسه. كأن الخيمة والمظلة يمثلان وحدة الإيمان والجهاد أو الأعمال في حياتنا الجديدة في المسيح يسوع موضوع إيماننا وقائد جهادنا الروحي.

د. ارتفاعه على الصخرة:

ما هي الصخرة التي يرفعني عليها الرب إلا الإيمان الحيّ به، الذي هو أساس الكنيسة، وعليه وتُبني النفوس المقدسة كهيكل مقدس للرب لا تقدر العواصف أن تهز أساساته!

لا تستطيع الحيه أن تزحف على الصخرة الملساء، وهكذا إذ يرفعنا مسيحنا فيه يستحيل على العدو القديم أن يتسلل إلينا.

كثيرًا ما تحدث النبي عن السيد المسيح كصخرة (مز 18)، الصخرة التي تفيض ماء الحكمة التي تَروي النفس وتسندها في غربتها وفي جهادها المستمر الروحي.

هـ غلبته على أعدائه:

"والآن هوذا قد شرف رأسي على أعدائي" [6].

إذ يجد المؤمن حماه في مظلة الرب الملوكية يرتفع رأسه على أعدائه، في ثقة من النصرة الأكيدة التي ينالها تحت قيادة الرب.

في بيت الله لا نحتمي فقط من الأعداء الأشرار، بل وننال كرامة، إذ ترتفع رؤوسنا ونقدم ذبائح التهليل والتسبيح. فيه تتيقن قلوبنا من النصرة الكاملة، لذا نرفع رؤوسنا بفرح واعتزاز مع أننا نرى نفوسنا وقد أحاط بها الأعداء من كل جانب يهددوننا.

كان يُنظر إلى الهيكل كموضع أمان (2 مل 11: 3؛ نح 6: 10)، سر أمانه ليس حصونه وحوائطه وإنما الله الساكن فيه، والشركة معه التي تُختبر داخله.

و. تقديم ذبائح الهتاف والتسبيح:

في بيت الرب تتهلل نفوسنا بالله الذي نتعرف عليه وننظر بهاء قداسته، نحتمي به وننعم بنصرته، نقترب إليه ونختبر معيته في حياتنا... تتحول أعماقنا إلى قيثارة روحية يعزف عليها روح الله تسابيح الحمد والشكر، رافعين رؤوسنا على العدو الشرير والمقاوم!

v   نقدم ذبيحة التهليل، ذبيحة السرور، ذبيحة الفرح، ذبيحة الشكر، التي لا يُعبر عنها. لكن أين نُقدمها؟ في خيمته، في الكنيسة المقدسة... هنا توجد اشارة إلى مجد الكنيسة.

بالنسبة للحاضر يلزمنا أن نئن، يجب علينا أن نُصلي. الأنين هو نصيب البائسين، الصلاة هي نصيب المحتاجين. سوف تمضي الصلاة ليحل محلها التسبيح، ينتهي البكاء ويحل محله الفرح.

القديس أغسطينوس

3. صلاة برجاء:

"استمع يارب صوتي الذي به دعوتك.

ارحمني واستجب لي.

فإن لك قال قلبي:

طلبت وجهك،

ولوجهك يارب التمس.

لا تصرف وجهك عني،

ولا تمل بالرجز على عبدك" [7-9].

أحاط بالمرتل أعداءه فصار يُصلي طالبًا العون من الله نوره، لكنه إذ يُعاين النور الإلهي ينسى أعداءه، سائلاً الله أن يشرق عليه، فينعم بوجه الله.

في النص العبرى: "قلت: اطلبوا وجهي"، ربما تذكّر داود النبي الدعوة المملؤة نعمة أو الوعد الإلهي أننا إن طلبنا وجهه لا يحجبه عنا.

بينما كان المرتل معذبًا بالتفكير في الضيق الذي جلبه على نفسه خلال الخطية، تشرق في مخيلته ذكريات كنور وسط الظلام، ويستدعى في ذاكرته تلك العهود التقليدية التي يلتزم بها وكلمة الله التي تعبّر عن الوصية والوعد في آن واحد: "اطلبوا وجهي"[544].

عوض الارتباك بالأعداء وتهديداتهم ينشغل المرتل بوصية الله ووعده، يوصينا أن نطلب وجهه، وتحسب هذه الوصية وعدًا، إذ يحقق لنا طلبتنا فننعم بالتطلع إليه.

حجب وجه الله أو اخفاؤه يعني رفضه كقاضي أن يستمع إلى قضيتنا وأن يحكم بخلاصنا. ربما يُريد المرتل القول: إنني أعرف أن خطاياي كثيرة التي تحجب وجهه عني، فأنت ترفضني بسبب عدلك وبرك، لكنك إله رحوم قادر أن تخلص.

v   حجب وجهه بسبب خطايانا لا يعني انصرافه عنا في غضب؛ فقد يحوّل وجهه عن خطاياك لكنه لا يحوله عنك شخصيًا.

القديس أغسطينوس

أننا نصرخ مع المرتل ألا يعود فيذكر خطايانا بل يذكر نفوسنا الخاطئة لتتقبل بالتوبة رحمته، وإلا يحجب وجهه عنا بل عن خطايانا فنرجع إليه، نراه ويرانا! لذا يكمل المرتل صلاته، قائلاً: "لا ترفضني يا الله مخلصي" [9].

v   "لا ترفضني يا الله مخلصي" [9]. لا تستخف بجسارة مائت يطلب الأبدي، لأنك أنت يا الله تشفي الجرح الذي تركته خطيتي.

القديس أغسطينوس

إذ يُصلي المرتل يشعر بالعزاء، وأنه مرفوع بالنعمة الإلهية مع أن أصدقاءه قد أداروا له ظهورهم، إذ حسبوا ضيقته تأديبًا من قبل الله؛ وربما أبوه وأمه أيضًا قد تركاه لنفس السبب، لكنه يوجد نور يبهجه في عزلته وهو أن الله يقبله ويضمه إلى صدره ويحتضنه، كإبن له يحمله على ذراعيه. محبة الله تسمو فوق كل محبة، حتى فوق المحبة الوالدية.

"فإن أبي وأمي قد تركاني، وأما الرب فقبلني" [10]

من الصعب أن نتصور ترك الأب والأم لطفلهما، لكنه حتى أن ضاقت بهم الظروف وتخليا عنه، يوجد الآب السماوي الذي يضمه إليه ويرفعه فوق الأعداء، ويدخل به إلى الأحضان الأبدية. لقد تركت هاجر ابنها تحت أحد الأشجار ليموت من العطش ومضت وجلست مقابله من بعيد، أما الرب فسمع لأنين الغلام وفتح عن عيني الأم لتبصر ماء بئر يروي الغلام. هكذا أيضًا ترك الأبوان موسى في النهر والرب ضمه إذ أرسل اليه ابنه فرعون تتبناه.

لم نسمع عن داود النبي أن والديه غضبا عليه، لكنه ربما قصد عجزهما عن تقديم معونة له في وقت الشدة. يرى البعض أن الأب والأم هنا يمثلان الأصدقاء الأعزاء والقريبين منه الذين سحبوا ثقتهم فيه وتقديرهم له[545].

v   "فإن أبي وأمي قد تركاني" [10]. لأن مملكة هذا العالم، ومدينة هذا العالم، اللتان قدمتا لي ميلادي الزمني المائت قد خذلاني، لأني طلبتك واستخففت بما يقدمانه لي. إنهما يعجزان عن تقديم ما اطلبه، وأما الرب فقبلني. الرب القادر أن يهبني ذاته يهتم بي ويرعاني...

v   لقد جعل المتكلم هنا من نفسه طفلاً صغيرًا أمام الله، فقد اختاره ليكون له أبًا وأمًا. إنه أبوه لأنه خلقه، وهو أمه لأنه يهتم به ويُربيه ويقوته ويرضعه ويقول بتمريضه.

لنا أب آخر وأم أخرى... فحينما كنا عديمي الإيمان، كان الشيطان أبانا (يو 8: 44)، وكانت لنا أم أخرى (هي بابل)... لكننا تعرفنا على أب هو الله... وأم هي أورشليم السماوية، الكنيسة المقدسة التي جزء منها لا يزال متغربًا على الأرض...

بعيدًا عن الأب والأم، أي بعيدًا عن الشيطان وبابل، يستقبلنا الله كأولاده ليعزينا بأمور لا تفنى، ويباركنا بالباقيات...

المسيح رأسنا هو في السماء؛ ولا يزال أعداؤنا قادرين على الهياج ضدنا، إذ لم نرتفع بعد عن متناول أيديهم، لكن رأسنا هناك في السماء فعلاً، وهو يقول: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟‍" )أع 9: 4)، موضحًا أنه هو فينا نحن الذين أسفل (على الأرض)، لكننا في نفس الوقت نحن فيه في العلا، إذ "يرفع رأسي على أعدائي" [6].

القديس أغسطينوس

إذ يعلن المرتل عجز والديه عن مساندته أو حتى ملازمته أثنا الضيق، وجد في الله الأبوة السماوية الحانية القادرة أن تخلصه من أعدائه، وترد له كرامته فيرفع رأسه عليهم. أنه مازال على الأرض، يدخل دومًا في صراع مع العدو الروحي، وهو في هذا لا يحتاج إلى خريطة نرشده في معركته بل إلى قائد يمسك بيده، ويخيفه فيه، ويجتاز به أرض المعركة، واهبًا إياه روح النصرة، لذا يقول: "اهدني في سبيل مستقيم من أجل أعدائي" [11]. يتقدم السيد المسيح كمرشد وطريق في نفس الوقت، يسند المؤمن ليجتاز الطريق الملوكي الضيق، طريق الصليب، بلا توقف ولا تراجع.

v   اهدني الاستقامة في الطريق الضيق، فإنه لا يكفي أن أبدأ، إذ لا يكف الأعداء عن مضايقتي حتى أبلغ غايتي.

"لأنه قد قام عليّ شهود ظلمة، كذب الظلم لذاته" [12].

لا يقدم الظلم التهنئة لنفسه إلا بتحقيق البطلان الذي له، لكنه أخفق في إزعاجي، لذلك صار لي الوعد بمكافأة أعظم في السماء: "وأنا أؤمن إني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء" [13].

القديس أغسطينوس

وجد الظلم له شهود كثيرين ووجدت أنا بالإيمان الله أبًا وأمًا وسندًا لي. ينتهي الظلم ببلوغ غايته وهو البطلان والدمار، وأبلغ أنا غايتي إذ أُعاين ما وعدني به الله من بركات في السماء "أرض الأحياء". يتكئ الأشرار على الظلم فينهارون معه، واتكئ أنا على الإيمان فارتفع به إلى أرض الأحياء.

ما هي أرض الأحياء؟

v   لست أظن أن النبي يدعو هذه الأرض أرض الأحياء، إذ يرى أنها لا تُعطي إلا الأمور الزائلة، وينحل فيها كل ما يصدر عنها. لكنه عنى بأرض الأحياء تلك التي لا يقترب منها موت ولا يطأها سبيل الخطاه ولا موطئ للشر فيها[546].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v   بالمعمودية صرنا نحن أرض أحياء لا أرض أموات، أعني الفضائل لا الرذائل. لكن يكون هذا صحيحًا إن كنا لا نعود إلى حمأة الرذائل بعد نوالنا المعمودية، وإن كنا بعدما نصير أرض الأحياء لا يكون للدم موضع فينا، أي أعمال الشر المُلبس الموت[547].

الأب قيصروس أسقف آرل

v   يليق بهذه الأرض أن تُشتهى لا بشكل أرض بلا حياة، بل بطريقة سماوية، وبقلب يقظ، لأنها الأرض التي إلتهب حب المرتل شوقًا إليها، فرنَّم في فرح. وإذ يقول في مزمور آخر: "أنت هو رجائي، وحظي في أرض الأحياء" (مز 142: 6) [548].

القديس أغسطينوس

v   لأن أرض الأحياء هناك، فمن المؤكد أن أرض الموتى هنا‍‍!

v   لأن الخيرات هناك، حيث الحياة الأبدية، الحياة التي بلا خطية. يقول في موضع آخر: "نمتلئ من خيرات بيتك"[549].

القديس أمبروسيس

4. نصح وإرشاد:

"اصطبر للرب، تقوَّ، وليتشدَّد قلبك، وانتظر الرب" [14].

إذ يعلمنا المرتل حياة الصلاة مع التوبة لننعم بالغلبة على الأعداء والتمتع بجمال هيكل الرب ورؤية وجه الرب نفسه، يعود فيؤكد الحاجة إلى الثقة في الله، فنصطبر للرب ونترقب عمله فينا، ننتظره بإيمان بقوة اليقين، متأكدين من أبوّته الحانية الواهبة كل بركة سماوية.

v   تحمّل برجولة النيران التي تُطهر شهواتك، وفي شجاعة تلك التي تُطهر قلبك. لا تظن أن ما لم تنله بعد لا تحصل عليه. ولا تخور يائسًا مادمت تتأمل الكلمات: "انتظر الرب".

القديس أغسطينوس

أبي وأمي قد تركاني

v   إذ يحشد العدو جيوشه ضدي أشعر بالظلمة،

يفارقني الأحباء والأصدقاء،

أبي وأمي يتركاني،

أما أنت فمخلصي، سندي، ونصرتي.

v   بك استنير فلا أخاف قوات الظلمة!

في بيتك أسكن فتستريح نفسي!

هيكل قدسك يرفعني إلى سمواتك!

وفي خيمتك أسبح متهللاً مع ملائكتك وقديسيك.

v   طلبت وجهك فلا تحجبه عني!

احجبه عن خطاياي أما نفسي فتنتظرك!

v   يتحصّن الأشرار بالظلم الذي لن يدوم!

واتمتع بك أنت مكافأتي ومجدي!

<<

 


 

المزمور الثامن والعشرون

مسيحنا في الجب

مزمور مسيَّاني:

حينما عانى النبي داود من الألم، وشعر أنه منحدر إلى الحفرة (الجب)، رأى بروح النبوة السيد المسيح، مخلصنا، داخلاً إلى الجحيم ليحطم أبوابه، ويفتدي منه مؤمني العهد القديم الذين رقدوا على الرجاء. لقد رأى مخلص العالم، الذي قبل بإرادته أن يبذل ذاته من أجل البشر. بمعني آخر كان داود النبي يردد هذا المزمور باسم "ابن داود" وهو يقدم في شيء من التفصيل خبرة داود الحرفي (التاريخي)، وفي نفس الوقت كان يقدمه رمزًا للسيد المسيح العظيم، القادم، ومن ثم نعتبر هذا المزمور مسيانيًا رمزيًا. إنه في الواقع يمثل طلبة يقدمها رئيس كهنتنا الأعظم لحسابنا.

يقول القديس أغسطينوس عن هذا المزمور: [إنه صوت الوسيط، الذي كان ذراعه قويًا في صراعه مع آلامه. الشرور التي يبدو أنه يصبها على أعدائه ليس بلعناتٍ، وإنما بالحرى هي إعلان عن عقابهم. هكذا أيضًا في الإنجيل، عندما يتحدث ربنا عن المدن التي شهدت المعجزات التي صنعها ولم تؤمن به (مت 11: 20)، لم ينزل بها اللعنات (أناثيما)، وإنما في بساطة أشار إلى ما سيحل بها من عقوبات].

يصنف جانكل  Gunkelهذا المزمور كمرثاة شخصية، أما موفينكل  Mowinckel فيعده مرثاة جماعية قومية، ويعتبره تورناي  Tournayمزمور شكر[550]، ويحسبه آخرون مزمورًا ملوكيًا[551].

تحوي هذه المرثاة صرخة صادرة من عمق الضغطة، تعكس خطرًا هائلاً يلحق بداود يقترب به من الموت؛ وهي تمثل صلاة من أجل دينونة الأعداء، وتسبيحًا من أجل الخلاص المرتقب، وشفاعة من أجل جميع شعب الله.

يمثل هذا المزمور إيفاءً بنذر داود الذي حوّلت كثرة أحزانه إلى "مرتل إسرائل الحلو"، في وسط الألم ينذر أن يقدم تسبحة مفرحة للرب كذبيحة تسبيح ويفي بالنذر قلبما تتحقق استجابة صلواته.

ضيقات داود حولته إلى مرتل عذب، يعرف - بروح الثقة - أن يلجأ إلى الله بصرخات قلبية فعّالة ومقبولة، يكره الشر ويخشاه، يتسع قلبه لإدراك خلاص الله له ولكل شعبه، فينسى همومه الخاصة طالبًا من أجل بركة شعب الله ونموّه. بمعني آخر لم تحوّل الضيقات داود إلى الكآبة أو التذمر بل إلى اتساع القلب بالحب وارتفاع الفكر إلى السماء ليحيا متهللاً بلا انقطاع!

الإطار العام:

1. ابتهال                    [1-2].

2. تضرع وثقة             [3-5].

3. شكر وتسبيح             [6-7].

4. تشفع وحب              [8-9].

1. ابتهال:

تُليت هذه الصلاة في الهيكل أمام التابوت، بواسطة إنسان ربما كان مريضًا أو كان يعاني من متاعب الأشرار. وُجهت الصلاة نحو أعماق الهيكل - قدس الأقداس - حيث يتربع الرب على التابوت (1 مل 8: 6-7). بحسب النص العبري والترجمة السبعينية يُنسب هذا المزمور لداود النبي. يرى البعض أن حزقيا الملك قدم هذه الصلاة حينما أوشك على الموت.

لقد شعر داود النبي الذي أحدق به خطر داهم بأنه قد صار الضعف ذاته، لكنه قادر أن ينجو حتى من الجب (الهاوية)، من الانحدار نحو ظل العالم السفلي، وذلك بخلاص الله.

"إليك يارب صرخت.

إلهي لا تصمت عني،

لئلا تسكت عني

فأشابه الهابطين في الجب" [1].

ما معني صمت الله؟

1. هذا يعني أن الله لا يعود يصمت، وإنما يتكلم لأجل فرح عبده ولإرباك الأعداء الأشرار. إنها صلاة للاستماع، أي كي يستمع الله لنا ويستجيب!

2. كما تعني أيضًا أنه بصمت الله نفتقد كلمته، حياتنا، الذي خلق المسكونة كلها لأجلنا، وخلصنا بصليبه. فإن من لا يتمتع بالشركة مع السيد المسيح، كلمة الله، لا يقدر أن يسمع الآب ولا أن يتعرف على إرادته الإلهية؛ فيكون الله بالنسبة له صامتًا. مثل هذا مصيره جب الموت! ما أرهب صمت الله!

3. الله لا ينفصل قط عن كلمته، أما بالنسبة لغير المؤمن فيسوع ليس بكلمة الله... وكأنه بعدم إيمانه يحرم نفسه من الصوت الإلهي ويُحسب الله بالنسبة له صامتًا!

4. الله - في حبه - دائم الحديث مع الإنسان محبوبه؛ فالإنسان الروحي يسمع الصوت ويستجيب، أما الجسداني فيظنه صامتًا. لقد تحدث الله، فسمعه الطفل صموئيل، أما عالي معلمه، الكاهن المختبر فلم يستطيع أن يسمعه. المؤمن صاحب الأذنين المختونتين يسمع كلمة الله موجهة إليه شخصيًا طول النهار، أما الآخرون فيحسبون الله صامتًا لا يستجيب لصلاتهم ولا لتضرعاتهم. لقد سأل المرتل من أجل استجابة إلهية شخصية، إذ يقول: "لئلا تسكت عني، فأشابه الهابطين في الجب". إنه يعلم بأن الله لن يكون صامتًا، فكان خوفه يكمن من نفسه، لئلا يكون أصم فيبدو له كأن الله صامت. لقد اعتاد أن يصرخ من قلبه بكلمات لا يُنطق بها، مترقبًا صوت الله في قلبه كرسالة شخصية تمس حياته.

5. ويذكرنا صمت الله حيال مريض ما بما ورد في إنجيل (لوقا 7: 7): "قُلْ كلمة فيبرأ غلامي"، وفي (لو 5: 12): "يا سيد، إن أردت تقدر أن تُطهَّرني".

لقد جاء كلمة الله ليحقق خلاصنا من الجحيم بأعماله الخلاصية التي تعلن عن الحب الإلهي حتى خلال الصمت. فنذكر العبد المتألم في إشعياء، كلمة الله الذي "لا يصيح ولا يرفع صوته" (إش 42: 2)؛ كما نذكر صمت ربنا يسوع المسيح أثناء آلامه أمام مجمع السنهدريم، وأمام بيلاطس، إذ كان ساكتًا لم يُجب بشيء! (مر 14: 61؛ 15: 5).

6. يرى القديس أغسطينوس في كلمات المرتل أنها كلمات السيد المسيح حينما سُمّر على الصليب، إذ ظن غير المؤمنين أن الله قد تركه وأنه ينحدر في الجب أبديًا.

7. إذ كان المرتل يصلي لأجل تقدمه الروحي وبنيان مملكة الله داخل نفسه، آمن بأنه ما لم ينل استجابة لصلاته يُحسب ميتًا، منحدرًا في أعماق الجحيم (الحفرة). لقد وثق في قوة الله القاهرة للموت. إنه لم يخفْ الموت في حدّ ذاته، لكنه خشى الموت قبل الأوان، أي أن يموت قبل تحقيق رسالته التي لأجلنا خُلق ودُعى من قبل الله.

في اختصار عندما يبدو كأن الله قد سدَّ أذنيه عن أن يسمع لنا، أو صمت ولم يستجب لصلواتنا، يلزمنا ألا نكف عن المثابرة في الصلاة حتى ننعم بحقنا في الاستجابة، أي حق إصعادنا كما من الجحيم للتمتع بقوة الحياة المقامة. صمت الله هو موت لنا، وحديثه معنا هو متعة بالحياة الجديدة المقامة في كلمة الله القائم من الأموات!

"استمع يارب صوتي تضرعي

إذ أبتهل إليك،

وإذ أرفع يديّ إلى هيكل قدسك" [2].

المرتل الذي يبتهل إلى الله طالبًا منه أن يتحدث معه شخصيًا ولا يسكت عنه، يجد خلاصه في الله السكن وسط شعبه، لهذا يرفع يديه نحو هيكل الله المقدس. حقًا لم يكن الهيكل قد بُني بعد! لكنه كان يعني بهيكل قدسه التابوت وكرسي الرحمة كعرش الله حيث كان يسكن بين الكاروبين، ومن هناك اعتاد الله أن يخاطب شعبه. جاء في (خر 25: 22): "وأنا أجتمع بك هناك، وأتكلم معك من على الغطاء، من بين الكاروبين اللذين على تابوت الشهادة". يشير كرسي الرحمة إلى السيد المسيح، كلمة الله، الذي يعلن عن الآب، والكفارة (يو 1: 1؛ 14: 9؛ رو 3: 25؛ 1 يو 2: 2). الآن كما في الصلاة هكذا بالإيمان نتطلع إلى السيد المسيح ، هكذا كان أتقياء العهد القديم يتطلعون بعيونهم الطبيعية نحو كرسي الرحمة[552].

رفع الأيدي إيماءةً قديمة عامة في الصلاة والتضرع والتوسل (مز 44: 20؛ 63: 4؛ 88: 9 ،141: 2؛ 143: 6)، تشير إلى الرغبة في التمتع بالبركات السماوية، والكشف عن الشعور بالعوز إلى السمويات حيث لا تستطيع الزمنيات أن تملأها. كما يرمز بسط الأيدى ورفعهما إلى الإيمان بالسيد المسيح المصلوب ومشاركته صليبه واهب الغلبة، فما كان ممكنًا للشعب قديمًا أن يغلب عماليق دون رفع يّديْ موسى النبي. وقد اعتاد الفنان القبطي أن يصور القديسين باسطين أيديهم ليعلن أن سرّ نصرتهم وقداستهم هو التصاقهم بالمصلوب كرجال صلاة حقيقيين.

ما ورد في الآية [2] إنما هي كلمات السيد المسيح المدفون، إذ ظنه اليهود أنه قد انحدر إلى الهاوية أبديًا مع فاعلي الشر؛ لكنه بالحقيقة نزل إلى الجحيم ليُصعِد الذين ماتوا على الرجاء مترقبين عمله الخلاصي.

يقيم العلامة أوريجانوس مقارنة بين إرميا النبي الذي أُلقى في جب ملكي في دار السجن، حيث غاص في الوحل (إر 38: 6)، والقديس بطرس الذي صعد إلى السطح، وهناك نظر رؤيا إلهية. يقول العلامة أوريجانوس: [إن واجبنا كمؤمنين روحيين أن نصعد مع كلمة الله بالروح القدس لننال معرفة حقة ورؤى إلهية، ولا ندع كلمة الله أن تُلقى في الجب خلال أفكارنا الجسدانية وشهواتنا الشريرة. لقد أخذ عبد ملك ثلاثين رجلاً معه ورفعوا إرميا من الجب، بالقاء ثياب بالية إليه ليضعها تحت إبطيْه تحت الحبال (إر 38: 12). من هو عبد الملك هذا إلا ربنا يسوع المسيح الذي صار عبدًا ليرفع أفكارنا وطبيعتنا من عمق الهاوية خلال الكنيسة (30 رجلاً) باتضاعه (الثياب البالية)؟! يليق بنا أن نقبل فقر ربنا يسوع المسيح لكي نُرفع إلى فوق ونرتدي الثياب السماوية الملوكية أبديًا. هكذا نجلس عن يمين الملك السماوي الذي نزل إلى الحفرة كي لا ننزل نحن إليها].

2. تضرع وثقة:

تعرَّف المرتل على الإيمان والرجاء كمصدر نصرة وغلبة لا على الأعداء من أجل مطامع شخصية، وإنما على الأعداء الخفيين لئلا ينحصر عن طريق الحق فيشارك الأشرار شرهم، مستخدمًا ذات فنونهم من خداع وغش، فيكون نصيبه مع نصيبهم. إنه يطلب من الله بإيمان ألا يتركه لذاته حتى لا يهلك معهم، قائلاً:

"لا تجذب نفسي مع الخطاة

ولا تهلكني مع فاعلي الإثم،

المتكلمين بالسلام مع أصحابهم،

والشرور في قلوبهم" [3].

يطلب المرتل من الله ألا يحصيه مع الأشرار الذئاب والحيات المخادعين، المنافقين، المحتالين والمرائين. فإن الله بكونه الراعي الصالح الحقيقي يعرف أن المرتل هو حمل وليس ذئبًا في ثوب حمل.

المرتل الحقيقي لهذا المزمور هو ربنا يسوع المسيح الذي أُحصى مع الأثمة (إش 53: 12)، وقد حمل خطايا العالم كله (1 يو 2: 2). ودخل بسببنا إلى الجحيم، لكن نصيبه ليس مع الأشرار، لأنه لم يصنع شرًا ولا وُجد في فمه إثم. نزل مع الأشرار لكي يفصل المؤمنين الحقيقيين عن الأشرار غير المؤمنين، فيحمل مؤمنيه كغنائم على كتفيه،

ويصعد بهم من الجحيم إلى حضن الآب يشاركونه أمجاده الأبدية.

إن كان مسيحنا حلَّ بين الخطاه، ولم يشاركهم شرهم، بل قدَّم حياته مبذولةً لكي يحملهم من الشر إلى الحياة المقدسة، هكذا يليق بنا نحن أعضاء جسده ألا نحتقر الخطاه بل الخطية، نعتزل الشر ذاته، فنعيش في العالم ولكن كمن في السماء يحملنا روح الله القدوس إلى هيكله مقدسًا حياتنا، حتى لا يكون مصيرنا مع الأشرار.

في العالم لا يُفصل الأبرار عن الأشرار، لكنه يليق بكنيسة الله المقدسة ألا يكون بها أشرار، يلزمها أن تعزل الخميرة الفاسدة (1 كو 5: 7) لكي تبقى هي خميرة مقدسة قادرة أن تقدس الكثيرين في الرب. رآها المرتل: "جميلة الارتفاع" (مز 28: 2)، سِرّ جمالها أنها ترتفع كما إلى السماء، لها طريقها الملوكي الذي لا يَعبُر فيه شرير‍! هكذا يليق بالكنيسة أن تعتزل الشر (إش 52: 11)، تنسى شعبها وبيت أبيها القديم إبليس، لأن ربها يشتهي حسنها (مز 45).

v   ينصح بولس قائلاً: "اعزلوا الخبيث من بينكم"، "حتى يُرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل" (1 كو 5: 2، 13). إنه أمر مرعب، ومرعب حقًا، هو مجمع الأشرار، فإن وباءهم ينتقل بسرعة ويؤثر على من يتعاملون معه كمن هم مرضى... "فإن المعاشرت الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 15: 33)... ليته لا يكون لأحد صديق شرير.

القديس يوحنا الذهبي الفم[553]

من هم هؤلاء الأشرار الذين يُريد المرتل اعتزال حياتهم لكي لا يشاركهم مصيرهم الأبدي؟

يركز المرتل على المنافقين المخادعين الذين يتكلمون بالسلام بينما يربض الشر في قلوبهم، هؤلاء الذين لهم الكلمات الناعمة المعسولة التي تحمل شكل الحب لكي يصطاد العدو بها نفوس البسطاء. هؤلاء أكثر خطرًا من الوحوش المفترسة!

لعل المرتل قد تطلع بعين النبّوة نحو يهوذا الأسخريوطي الذي سلم سيده بقبله مع كلمة سلام.

v   من هو الخروف الذي قلب نفسه ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح؟!

v   لماذا بالغش نسيت تلك الموهبة التي أعطاك إياها ربنا كما أعطى بطرس ويوحنا؟!

v   ارتعبوا أيها الحكماء من القبلات الغاشة، فإنه بواحدة منها عُّلق ابن الله على خشبة.

القديس يعقوب السروجي

v   الخبث علم بل حرفة شيطانية خالية من الصدق، يتوهم صاحبه أنه يخفيه من أكثر الناس.

المراءاة سجية محبوكة بكل أنواع الحيل يظهر فيها الجسد بمظهر منافٍ لما في النفس.

البراءة سجية نفس سليمة، مطمئنة، بعيدة عن أي تحايل...

عديم الخبث هو من كانت نفسه نقية كما فطرت، ويعمل بوحي تلك النقاوة...

الخبث نبي كاذب.

القديس يوحنا السُلّمي[554]

على أي الأحوال، من يحرص ألا يشارك الأشرار شرورهم يحق له الرجاء ألا يشاركهم عقاباتهم.

"إعطهم كحسب أعمالهم

ومثل خبث صنائعهم.

واعطهم نظير أعمال أيديهم.

جازهم كأفعالهم" [4].

ليست هذه لغة ألم وانتقام، ولا هي باللغة التي تتعارض مع الصلاة من أجل أعدائنا، وإنما هي نبوة خاصة عن هلاك المهلكين. يعرف المرتل أن البشر يحصدون حتمًا ما يزرعونه وليس شيئًا آخر. ويرى الأسقف وايزر  Weiserأن أعضاء الجماعة التي دخلت مع الله في عهدٍ، أرادوا التعبير عن انفصالهم فعلاً وعملاً عن العناصر الجائرة التي في وسطهم (تث 27: 11 الخ).

علّة خبثهم وخداعهم العمى الذي أصاب بصيرتهم الداخلية، فلم يتسلموا بصمات حب الله في أعمال خليقته وخلاصه والأحداث الجارية، فحرموا أنفسهم من الله مصدر بنيانهم، ليفقدوا حتى ما نالوه بالطبيعة، وعوض السمُو ينحطون، وعوض البناء يُهدمون. تُنزع نعمة الله عنهم فينحلون تمامًا.

"لأنهم لم يفهموا أعمال الرب،

ولا صنائع يديه.

تهدمهم ولا تبنيهم" [5].

يحصد غير المؤمنين ثمر خبثهم وشرهم وعماهم الروحي؛ خداعهم يخدعهم فيهلكون.

3. تمجيد وتسبيح:

"مبارك الرب الإله،

لأنه سمع صوت تضرعي" [6].

إذ قدم داود النبي صلاة قلبية روحية أدراك أن الخلاص أو ما هو أعظم (الخلاص الأبدي) ليس ببعيد عنه. لقد اقتنع أن الرب سمع له ولم يسكت عنه، لذلك صاغ تسبيحة شكر لله. فبإيمان صلى [1-2]، وبذات الإيمان يقدم شكرًا، لأن من يُصلي بإيمان يفرح في الرجاء.

يليق بنا أن نثق في كلمات الله نفسه: "ويكون أني قبلما يدعون أنا أُجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا اسمع" (إش 65: 24). خلال هذه الثقة نمزج صلواتنا وتضرعاتنا بالتشكرات والتسابيح لله الذي بالتأكيد يسمع لنا.

يسأل القديس مار اسحق السرياني أن نُصلي حسب إرادة الله لكي يُجيب صلواتنا، إذ يقول:

[لا نطلب من الله أمرًا ما هو بالفعل سبق وفكر أن يهبه دون سؤال، ليس فقط لنا نحن أهل بيته وأصدقاءه المحبوبين لديه، بل ويعطيه للغرباء عن معرفته. يقول: "لا تكرروا الكلام باطلاً كالوثنيين" (راجع مت 6: 7)... "لكن أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 6: 33)...

وإن كان يجب أن تطلب أمرً ما وهو - يبطئ في الاستجابة لا تحزن، فإنك لست أَحكم من الله. فإن هذا يحدث بالنسبة لك لأنك غير مستحق أن تنال طلبتك، أو لأن طرق قلبك لا تتفق مع طلباتك (وإنما تضادها)، أو لأنك لم تبلغ بعد القامة التي تؤهلك لنوال العطية التي تسألها. إذ يلزمنا ألا نندفع نحو بلوغ قامات عظيمة قبل الأوان، حتى لا يُساء إلى عطية الله بسبب نوالنا إياها بسرعة. فإن ما نناله بسرعة نفقده بسهولة، أما ما ناله بتعب فنحتفظ به بعناية[555]].

إذ نال داود طلبته، لأنها طلبة روحية، تخص خلاص نفسه وبنيان الجماعة وهلاك الشر، طلبة تليق بقامته الروحية، لهذا تمتع ببركة الرب في قلبه، وانفتح لسانه يبارك الرب.

من يقدر أن ينطق بالكلمات "مبارك الرب الإله"، إلا ذاك الذي يمتلئ قلبه ببركة الرب؟ من ينال البركة يشعر بالله المبارك واهب البركات؛ ومن يتمجد في داخله يقدر أن يمجد الله، ويختبر قوة الروح، يسبح الرب واهب القوة!

"الرب هو عوني وناصري

عليه اتكل قلبي فأعانني

وله أزهر جسدي" [6].

اتكل قلبه، أي الإنسان الداخلي ككل، لهذا صار كيانه كله متهللاً[556]. القلوب التي تثق تتهلل في الرب.

أثناء الضيقة يظن الإنسان أن حياته أكثر الليالي طولاً وظلامًا، لكن بالإيمان يشرق السيد المسيح على ليله ويحّوله إلى نهار مفرح، محولاً الظلمة إلى النور. لهذا تمتزج مراثي داود بذبائح الشكر.

v   من يسير في طريق الرب يشكره على كل ما يحل به، ويلقي باللوم على نفسه[557].

مار اسحق السرياني

4. تشفع وحب:

المرتل في ضيقه لا يؤمن فقط أن خلاص الله قد أحال حزنه فرحًا، وتضرعه شكرًا، بل أيضًا حّوله إلى شفاعة. ها هو ينسى ضيقه ليطلب من أجل بنيان شعب الله. أنه لم يستطع أن يفرح بخلاصه دون الاعتراف بانشغاله بالجماعة.

"بإرادتي أعترف له.

الرب عزٌّ لشعبه،

وهو موآزر خلاص مسيحه.

خلص شعبك، وبارك ميراثك.

ارعهم وارفعهم (احملهم) إلى الأبد" [8-9]

يعمم المرتل خبرته، مطبقًا إياها على شعب الله الذي يحميه يهوه[558]. إنه يعتقد أيضًا بأن ما هو لنفع الملك بالتأكيد يمس الشعب كله. بالتأكيد ما هو لنفع عضو أو لخسارته له فاعليته على الجسد كله.

يقول داود "شعبك"، ناسبًا إياهم لله وليس لنفسه. إنهم نصيب الرب، والرب قوّتهم وخلاصهم.

يسأل داود الله عن شعبه للتمتع بالعطايا التالية:

أ. الخلاص: أن ينقذهم من أعدائهم. فنحن لا نستطيع أن نتمتع بالشركة معه ما لم يهبنا النصرة على "الأناego "، والخطايا والشيطان.

ب. البركة الصادرة عن الله فيتباركون. لا يكفي خلاصنا من الأعداء الروحيين، وإنما نحن في حاجة إلى تذوق عذوبة الله نفسه، إذ هو برّنا، وقداستنا، ومجدنا، وفرحنا.

ج. الاهتمام بنا ورعايتنا، إذ يقوتنا في مرعاه السماوي، أي في كنيسته. يقدم لنا الخبز السماوي، الجسد الافخارستي، ودم المسيح الافخارستي، مع مواهب الروح القدس.

د. الارتفاع فوق الأعداء، وفوق المخاوف والمخاطر إلى التمتع بالميراث الأسمى والمجد الأبدي. إنه يرفعنا إلى الأبد. إنه لا ينتزع الآلام من حياة المؤمنين، لكنه يرفعهم فوق كل ضيقة وحزن لينعموا به حتى في تجاربهم.

تطلع الشعب إلى داود بكونه راعيهم، وتوقعوا منه أن يحملهم، وهكذا فعل، وذلك فقط لأنه هو نفسه كان محمولاً، ونحن إن كنا محمولين بالآب في حضنه في المسيح يسوع بقوة الروح القدس، نستطيع أن نحمل بدورنا الغير إلى نفس الموضع لا بقدرتنا الذاتية وإنما بالنعمة الإلهية. فلا يستقر الثقل كله على اكتافنا بل على أكتاف ذاك الراعى الصالح الواحد وحده.

إنه ليس عمل القادة الروحيين وحدهم أن يصلوا عن الشعب، وإنما هو عمل كل عضو أن يُصلي لأجل أورشليم [9]؛ وعمل الآباء أن يصلوا عن الأبناء، كما الأبناء عن الآباء، والكهنة عن الشعب كما الشعب عن الكهنة. فخلال الصلاة مع الحب والعمل الصالح يستطيع طفل أن يحمل العالم كله في المسيح.

هذه الشفاعة نطق بها أيضًا المسيح القائم من الأموات خلال دمه الكفاري، وذلك لبنيان شعبه، واهبًا لهم الحياة المقامة.

هكذا بدأ المزمور بالتضرع أن يسمع الله للمرتل، لأجل بنيان نفسه وهدم الشر، وتحول التضرع خلال الإيمان إلى تسبحة شكر لله سامع صلوات مؤمنيه، وانطلق المرتل يشفع عن كل المؤمنين خلال خبرته العذبة مع الله باتساع قلب.

 

 


 

خلصني من جب الهاوية

v   يا من نزلت إلى الجحيم لأجلي،

ارفعني من جحيم الأنا، واعتقني من حفرة الخطية!

v   لتنصت أيها الكلمة الأزلي إلى صراخي،

ولتحملني بالحب على كتفيك،

أنت راعيّ الصالح!

v   علمني أن أحمل بالحب كل نفس،

كما تحملني أنت بحبك!

دربني بروحك القدوس كي أصلي لأجل كل نفس،

لكي يعيش الكل في أحضان الآب أبديًا.

<<

 


 

المزمور التاسع والعشرون

عاصفة رعدية

أو صوت الرب

يسيطر على هذا المزمور الشعور بسيادة الرب وسلطانه؛ فيُفتتح بمشهد سماوي، حيث تقدم الكائنات العلوية المجد منسجمًا مع صوت الرعد العنيف الصادر عن الكائنات الطبيعية.

المناسبة:

جاء في الترجمة السبعينية أن هذا المزمور يُنشد بمناسبة عيد المظال القدسي؛ ذلك العيد الذي كانوا يبتهجون فيه بنهاية الحصاد (خاصة العنب والزيتون)، كما يُصلى به لكي يرسل الرب مطرًا ليكسر أثر فصل الجفاف (زك 14: 16-18). ويربط التلمود[559] مزمور 29 بعيد الخمسين أو عيد الأسابيع.

يرى البعض أن داود النبي قد وضع هذا المزمور بعد انتهائه من تحضير الخيمة وخروجه منها[560]. ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن ما جاء في عنوان المزمور: "في طريق المظلة" إنما يشير رمزيًا إلى اليهود الذين كانوا يخدمون في المظلة وخلال الظل – ظل الناموس والنبوات – حتى خرجوا منها، فيدخل الأمم إلى الإيمان عوضًا عنهم[561]. ويرى ثيؤدورس أن المظلة هنا هي الجسد الذي تسكنه النفس، والخروج منه إنما الرحيل من هذا العالم الزائل، وكأن المزمور يعلمنا التأهب للسفر والرحيل إلى الوطن السماوي[562]. ويرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور يعبر عن تطهير الكنيسة، وحفظها في هذا العالم مقدسة حتى تخرج منه.

هكذا نرى الآباء يتطلعون إلى المزمور بكونه مزمور عمل الله المجيد الذي يَهُبُّ بروحه القدوس كعاصفة رعدية، تزلزل أعماق النفس وتُعدّها للخروج من هذا العالم بحياة مقدسة تمجد الله... إنه مزمور مجد الله العامل في شعبه ليدخل بهم إلى الشركة أمجاده.

ربما كان داود النبي يرقب عاصفة مرعبة حلَّت فجأة، من جبال لبنان في الشمال إلى برية قادش جنوبًا، وما نَجم عنها من فزع وقنوط، بما أثارته من رعد وبرق خاطف باهر، وضراوة وعنف وحرائق لبعض العناصر. على أن الأمر لا يقف عند العلامات الخارجية والظواهر الطبيعية، بل تُفهم على أنها شهادة ذاتية عن الله إله تاريخ الخلاص.

يدوي المزمور 29 مع أصوات العواصف الشتوية الرهيبة، من خلال البيئة التي عاشها الشعب. إنهم يدركون أن الله كالعاصفة التي لا تحل في الطبيعة فحسب وإنما تجتاز النفس. إنه يحل في نفوسنا حتى أثناء العواصف الداخلية.

كان داود النبي إنسانًا رقيق الحس، مرهف المشاعر جدًا، يعرف كيف يعزف على أوتار قلبه أنشودة حب الله، تحت أي ظرف، وف كل مناسبة. إذا ما تطلع إلى السماء الصافية يقول: "السموات تحدث بمجد الله"، وإن شاهد عاصفة رعدية وثورة في الطبيعة يتلمس مع كل رعد أو برق صوت الرب الفعّال في حياة البشرية. إن دخل في ضيق تلامس مع الله مخلصه، وإن جاءه الفرج تمتع بعربون الفرح السماوي. إن طرده الأعداء تلمس مدينة الله ذات الأبواب المفتوحة بالحب، وإن عاد إلى شعبه أنشد بجمال بيت الرب.

صوت الرب الفعّال:

في هذا المزمور نجد "صوت الرب" يتكرر سبع مرات، أشبه بسبع موجات متعاقبة من الرعود؛ مصورًا قوة الكلمة وفاعليتها في حياة بني البشر. صوت الرب هو الكلمة المتجسد الذي نزل إلى العالم ليُقيم من تلاميذه أبناء الرعد أداة فعالة للتمتع بالحياة الإنجيلية الجديدة، حيث تتزلزل طبيعتهم القديمة وتنهار وتقوم الطبيعة الجديدة الحاملة صورة المسيح الكلمة، تنعم بالبركة والعّز والمجد.

"الله في العاصفة"، لا في الطبيعة فقط وإنما في عاصفة النفس الداخلية أيضًا؛ إنه في أعماقنا يعلن عن ذاته خلال العواصف التي تجتاح طبيعتنا الداخلية. كلمة الله جاء ليدخل النفس ويثير فيها ثورة داخلية ضد الشر ليُحطم فينا الإنسان العتيق ويهبنا الإنسان الجديد.

إنها أيضًا عاصفة تجتاح الجماعة ككل، خلالها يعلن عهده مع شعبه الذي لا يقوم على وضع رقعة جديدة على ثوب عتيق، وإنما على التغيير الكامل والمتجدد، لذلك يظهر اسم الله "يهوه"، اللقب الخاص به في علاقته بشعبه 18 مرة في هذا المزمور القصير. هذا اللقب يعلن حضوره وسط شعبه، فهو حقًا يتمجد لا خلال قدرته في الطبيعة فحسب وإنما بالحري بحضوره وسط أولاده.

علاقته بالمزمور 28:

يأتي هذا المزمور في وضعه المناسب بعد مزمور 28 حيث يصرخ المرتل: إلهي لا تسكت عني، لئلا تسكت عني فأشابه الهابطين في الجب" (28: 1). يستجيب الرب لهذه الصرخة فيقدم صوته الفعّال كعاصفة تجتاح أعماقه وتغيّر طبيعته.

ويتشابه المزموران في خاتمتهما حيث يُعطي الرب شعبه قوة (عزة) ويباركهم بالسلام.

الإطار العام:

1. دعوة إلى العبادة                   [1-2].

2. العاصفة وصلاح الله              [3-9].

3. سيادة الله على العالم               [10].

4. نَعم الله على كنيسته                [11].

1. دعوة إلى العبادة:

"قدموا للرب أبناء الكباش.

 قدموا للرب مجدًا وكرامة.

 قدموا للرب مجدًا لاسمه.

 اسجدوا للرب في دار قدسه" [1-2]

فسّر داود النبي كل قصفة رعد كدعوة موجهة إليه كما إلى الآخرين أن يقدموا مجدًا وكرامة لله.

من هم أبناء الله؟

أ. يرى البعض أنه يشير إلى الطغمات السمائية المقدسة التي تُحسب كأبناء لله، وفي نفس الوقت يشير إلى العاملين في الهيكل بأورشليم بكونه ظلاً للملكوت السماوي.

ب. يرى آباء الكنيسة أن أبناء الله هم المسيحيون الذين جاؤا من كل الأمم والقبائل ليقدموا حياتهم ذبيحة حب لله، هؤلاء الذين أوصاهم الرب أن يدعو الآب أبًا لهم، قائلين: "أبانا الذي في السموات" (مت 6: 9).

يدعو المرتل أبناء الله (ايليم = القدير) أن يقدموا أبناء الكباش الصغيرة كرامة مجدًا للرب ولاسمه، هؤلاء هم المؤمنون الذين نالوا التبني للقدير بالمعمودية، وقبلوا الروح القدس، روح القوة والسلطان.

ماذا يمكن للطغمات السمائية أو للمؤمنين أن يقدموا لله إلا حياتهم علامة حب له، استجابةً لحبهِ لهم، كأبناء محبين له.

يقدم أولاد الله مجدًا وكرامة لله، ما هو هذا المجد إلا التمتع بجمال الله الفريد الذي هو قداسته، وإعلان نصرتنا على الخطية بقوة نعمته. فإن كان الله كلّي القداسة، فإننا لا نقدر أن نمجده إلا بالحياة المقدسة وشركة الطبيعة الإلهية وخبرة عمل نعمته الفائقة.

v   قدموا أنفسكم للرب، أنتم الذين ولدكم في الإنجيل الرسل قادة القطعان (1 كو 4: 15)...

اسجدوا للرب في قلوب مقدسة، محبة للكل، لأنكم أنفسكم موضع مسكنه الملوكي المقدس.

القديس أغسطينوس

v   "قدموا للرب أبناء الله، قدموا للرب تقدمة كباش"، أي (تقدمة) الرسل و(تقدمة) المؤمنين. لنقتدِ بمخلصنا الذي دُعي هو نفسه بالراعي والحمل والكبش، الذي ذُبح لأجلنا في مصر (خر 12: 6)، والذى أُمسك بقرنيه في العليقة (تك 22: 13) فدية عن اسحق. لنقل: "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يربضني، وإلى مياه الراحة يوردني" (مز 23: 1-2)[563].

القديس جيروم

هكذا نمجد الله بأن نتقدم لله كذبائح حية، نتمثل بمخلصنا الذي في حبه وهو الراعي صار الحمل الذبيح عنا. نسلم حياتنا ذبيحة فيرعانا ويروينا ولا يعوزنا شيء‍!

اعتاد داود الملك أن يقدم نفسه لإلهه، ناسبًا قوته ونصرته وكرامته لله. اعتاد أن يحضر تاجه وقضيب ملكه وسيفه ومزماره بين يدي الله، ليستخدم كل إمكانياته ومواهبه لمجد الله وتسبيحه.

ماذا يعني بقوله: "قدموا للرب أبناء الكباش"؟

هذه العبارة أيضًا لا يمكن تفسيرها حرفيًا إنما تحمل نبوة عن الإيمان المسيحي، فإننا إذ وُلدنا من آباء كانوا يعبدون الأصنام، أصنام الكباش والحيوانات الأخرى، صرنا بالإيمان - نحن أبناء الكباش - أبناء لله، إذ تركنا عبادة الكباش وآمنا بالله الحقيقي الحيّ. نحن أبناء الأمم صرنا أبناء لله، كقول المرتل: "عوض آبائك صار بنوك" (مز 45: 16).

يرى البعض أن "أبناء الكباش (الذكور)" لا يمكن تفسيرها حرفيًا، فإنه يمكن لكبش ذكر واحد أن يسبب إنجابًا لنعاج كثيرة، فلا يمكن للكبش الصغير المولود أن يُنسب إلى كبش معين، وإنما يمكن نسبته للنعجة التي وُلد منها، لأن القطيع كله غالبًا ما يكون به كبشين أو ثلاثة فقط، بين نعاج كثيرة... ويختلط الكل معًا دون تمييز بين نعاج أو أخرى تحمل من كبش معين.

يرى القديس باسيليوس[564] أن الكبش هو الذي يتقدم القطيع ويرشده للمراعي والمياه والحظائر، فهؤلاء يرمزون إلى الرؤساء، المتقدمين على رعية السيد المسيح، لأنه بتعاليمهم يرشدون الخراف الناطقة إلى المراعى والمساقي الروحية؛ وأنهم مستعدون لنطاح الأعداء بقرني العهدين القديم والجديد، ليجتذبوهم بكلمة الله إلى الحياة الصالحة التقوية. بهذا يصيّرونهم أبناء لهم، يقربونهم لله، ليقولوا: "ها نحن والأولاد الذين أعطانيهم الله".

في النسخة السبعينية تتكرر كلمة "قدموا" أربع مرات، ليكمل المرتل: "اسجدوا للرب في دار قدسه" [2]. وكأن المرتل يدعو المؤمنين أينما وُجدوا في أربعة أركان العالم: "الشمال والجنوب والشرق والغرب" أن يقدموا حياتهم تقدمة حب لله، دون تجاهلهم لقدسية اجتماعهم معًا في حضرة الرب في دار قدسه أو في بيته المقدس. أينما وُجدنا، وتحت كل الظروف، نرتبط بصليب ربنا يسوع، لنقدم حياتنا مبذولة لأجل الله والناس.

لنسجد له في دار قدسه... يرى القديس باسيليوس الكبير أن دار قدسه هي الكنيسة الواحدة المقدسة وليست مجمع اليهود الذين بسبب خطيتهم صارت دارهم خرابًا، واحتلت الكنيسة مركزها، حيث فيها نلتقي بالله لنسجد له بالروح والحق، وخارجها لا يليق بنا أن نسجد. هذا ويرى القديس باسيليليوس أيضًا أن كثيرين يُصلّون في الكنيسة وعقولهم مشغولة بالأباطيل، فلا يكونوا في دار قدسه. كما يقول: [المتقدم في الإلهيات يقدم مجدًا وكرامة الله].

يرى القديس أغسطينوس أن دار قدسه هي السماء، ندخلها لنسجد لله حين يرتفع قلبنا إلى السماء ونحن بعد على الأرض. هذا لن يتحقق إلا بعمل الروح القدس فينا، القادر وحده أن يحمل إنساننا الداخلي إلى السماء، فيقول: "أجلسنا معه (مع المسيح) في السماويات"؛ لهذا نُصلي في الساعة الثالثة، حيث نذكر حلول الروح القدس على الكنيسة، قائلين: "إذا ما وقفنا في هيكلك نحسب كالقيام في السماء".

2. العاصفة وصلاح الله:

إن كانت العاصفة تشير إلى نبوات العهد القديم، فإن صوت الرب يُسمع خلال نبواتهم. وقد تكررت عبارة "صوت الرب" هنا سبع مرات.

أ. "صوت الرب على المياه.

إله المجد أرعد

الرب على المياه الكثيرة" [3].

يعلق القديس هيبولتيس الروماني على هذه الكلمات بقوله: [أي صوت هذا؟ إنه: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت[565]]. فعلى مياه المعمودية نسمع صوت الله القدير الذي يعلن بنوّتنا له. لهذا يُستخدم هذا المزمور في طقس قداس المعمودية عندما يحرك الكاهن الماء بالصليب بعد سكب الميرون في جرن المعمودية.

ويرى القديس أغسطينوس أن هذه المياه هي الأمم التي قبلت "صوت الرب"، إذ يقول: [حينما جعل ربنا يسوع المسيح صوته مسموعًا خلال الأمم المملوءة رهبة، حولهم إلى شريعته وجعل مسكنه فيهم].

يتحدث إشعياء النبي عن هذه المياه الكثيرة، قائلاً: "آه ضجيج شعوب كثيرة تضج كضجيج البحر وهدير قبائل تهدر كهدير مياه كثيرة، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدًا، وتُطرد كعاصفة الجبال أمام الريح وكالجل أمام الزوبعة. في وقت المساء إذا رُعب، قبل الصبح ليسوا هم. هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا" (إش 17: 12-14).

انتهر الرب هذه المياه الكثيرة بأن أرعد بصوته على الأمم فهربت بعيدًا كشعوب وثنية وصارت كلا شيء، لكنها عادت كنيسة قوية مجيدة، لا تحمل دوامات البحار ولا تياراته الجارفة ولا ملوحته، بل جاءت كنيسة تحمل طاعة المسيح ووداعته ولطفه.

المياه الكثيرة تشير أيضًا إلى الآلام والضيقات التي تحل بالمؤمن حتى تكاد أن تبتلعه، إذ يقول المرتل: "انقذني ونجني من المياه الكثيرة ومن أيدي بني الغرباء" (مز 144: 7). يرعد صوت الرب  عليها فيحول آلامنا إلى أمجاد... تصير آلامنا شركة معه في آلامه وصلبه وطريقًا للتمتع بقوة قيامته ومجده (رو 8: 17).

المياه الكثيرة أيضًا تشير إلى طاقاتنا وإمكانياتنا من عواطف وأحاسيس ومشاعر ودوافع وقدرات ومواهب... هذه التي أفسدناها فصارت كمياه بحار مالحة تكتنف نفوسنا وتغرقها، وإن تقدمت بكلمة الله تصير ماء نهر عذب يُفِّرح مدينة الله التي هي قلوبنا. يقول يونان النبي: "لأنك طرحتني في قلب البحار، فأحاط بي نهر" (يونان 2: 3). حين تُرك يونان لإمكانياته البشرية التي هي عطية إلهية أفسدها الإنسان -  صار مطروحًا في قلب البحار، كاد أن يهلك غرقًا في أعماق المياه المالحة... لكن كلمة الرب حوّلت هذه الطاقات لبنيانه فصارت البحار نهرًا عذبًا لا يكتنفه بل يحوط به ليسقي أرضه بعذوبة سماوية، تحول جفاف نفسه إلى جنه مثمرة. عوض أن يئن من المياه، قائلاً: "خلصني يا الله فإن المياه قد دخلت حتى إلى نفسي؛ تورطت في حمأة الموت ولم يعد لي استطاعة بعد. ذهبت إلى أعماق البحر وغرقني العاصف" (مز 69: 1)، يسبح الله متهللاً من أجل الأنهار التي تجري من بطنه كقول السيد المسيح: "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 28). يقول المرتل: "مجاري الأنهار تفرح مدينة الله" (مز 46: 4) .

يرى كثير من الآباء أن صوت الرب الذي أرعده على المياه الكثيرة إنما يُشير إلى حدث عماد السيد المسيح، الذي فيه شهد الآب عن الابن المتجسد أنه محبوبٌ لديه، موضع سروره، لكي نسمع جميعًا باتحادنا فيه صوت الآب الذي يفتح أحضانه ليستقبلنا كأبناء له.

حينما يسكب الكاهن الميرون على مياه المعمودية يحرك بالصليب المياه وينطق بهذه الكلمات كما سبق فأشرنا، ليعلن أن صوت الآب قائم على الدوام يسـتقبل المعمدين

الذين صاروا أعضاء جسد المحبوب، يتمتعون بشركة أمجاده.

v   أرعد إله المجد حينما شهد الآب للابن، قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17)[566].

القديس جيروم

ب. "صوت الرب بقوة،

صوت الرب بجلال عظيم" [4].

إذ جاء الكلمة الإلهي أعلن بالضعف ما هو أعظم من القوة، فقد ارتفع بالجسد على الصليب، حاملاً عارنا، لنحمل نحن قوته وجلاله عاملين في حياتنا.

أعلن أيضًا كلمة الله أو صوت الرب سكناه في كنيسته، فكان يُجرى على أيدي الرسل عجائب كثيرة؛ وبقوة تكلم بهم ليجتذب الأمم من الفساد إلى الحياة الجديدة المجيدة، الحياة الإنجيلية المفرحة، حياة مقدسة في الرب.

يتهلل المرتل بعمل صوت الرب القوي والمجيد بعدما تحدث عن عمله في المياه الكثيرة. وكأن المؤمن يختبر صوت الرب بقوة وجلال عظيم في حياته اليومية بعدما يدخل إلى مياه المعمودية ليتقبل البنوة لله وعطية روحه القدوس الذي يجدد حياتنا ليجعلنا على صورة الله.

v   هذا تجديدنا، يجعلنا على صورة الله من جديد، وذلك بغسل التجديد والروح القدس الذي يُجددنا فنصير أبناء الله، نصير خليقة جديدة مرة أخرى بشركة الروح، ويخلصهما مما كان عتيقًا[567].

القديس باسيليوس الكبير

v   تغسلنا المعمودية من كل عيب وتجعلنا هيكل الله المقدس، وتردنا إلى شركة الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس[568].

القديس أكليمندس السكندري

صوت الرب على المياه يُرهب الشياطين ويعطي قوة وسلطانًا للمؤمنين؛ يُحطم طاقات الظلمة ويهبنا الاستنارة فنعيش بروح القوة والمجد الداخلي لا روح الفشل واليأس.

ج "صوت الرب يُحطم الأرز

الرب يكسر أرز لبنان

ويسحقهم مثل عجِل لبنان

والحبيب مثل ابن ذوي القرن الواحد" [5-6].

صوت الرب في الرعد، غالبًا ما يكسر شجر الأرز، حتى أرز لبنان أقوى أنواعه وأكثره صلابة. رياح العاصفة تقتلعه أحيانًا بجذوره وتحطم قممه العالية المتشامخة، فتنبطح أرضًا.

تمثل هذه الأشجار النفوس المتشامخة المعتدة بذاتها، فقد جاء صوت الرب أو كلمة الله المتجسد ليدخل بهذه النفوس إلى حياة الاتضاع خلال حزن التوبة.

وقد أختار الله ضعفاء العالم ليخزى بهم الأقوياء (1 كو 1: 27)... لكي يتمتعوا هم أيضًا بذاك القدير الذي صار لأجلهم في صورة ضعف.

v   "صوت الرب يحطم الأرز". بالتوبة يكسر الرب أولئك الذين يمجدون ذواتهم بشرف أصلهم الزمني، والذين يقفون في خجل حينما يختار أدنياء هذا العالم ليُطهر فيهم قوته الإلهية.

القديس أغسطينوس

يرى البعض أن الأرز هنا يشير إلى عبادة الأوثان حيث معابدها الشاهقة وتماثيلها الضخمة لكن بلا ثمر روحي ولا نفع كالأرز المتشامخ بلا ثمر. جاء كلمة الله المتجسد ليقتلع العبادة الوثنية ويحول الأمم إلى ملكوته، ملكوت الوداعة المفرح والمثمر.

ليس ما يُحطم كبرياء قلبي ولا ينتزع محبة العالم (الوثنية) وكل خطية إلا صوت الرب، أي التمتع بالسيد المسيح، الكلمة الإلهي المُختفي وراء كلمات الكتاب المقدس. لأطلبه في إنجيله وأنعم به، فيُقيم مملكته فيّ، ولا يقترب إليها عدو، ولا تشترك معها خطية ما.

صوت الرب يسحق أشجار لبنان "مثل عجل لبنان"؛ أي كما سحق موسى النبي العجل الذهبي الذي صنعه بنو إسرائيل وتعبدوا له (خر 32: 20). عوض هذا الإله الوثني (العجل الذهبي) ينعم المؤمن بـ "الحبيب مثل ابن ذوي القرن الواحد" [6]. أي بالسيد المسيح الابن الحبيب الوحيد الجنس، القوى والقدير. (القرن يشير إلى القدرة على الخلاص).

إذ ندخل مياه المعمودية نلتقي مع صوت الرب الذي يُحطم فينا تشاخ إنساننا العتيق، أو يحطم عمل إبليس المتعجرف، أرز لبنان المزروع داخلنا، ويهلك العجل الذهبي، أي كل تعلق زمني وعبادة للزمنيات، ويقوم كلمة الله الوحيد الجنس فينا، في إنساننا الداخلي الجديد.

v   "صوت الرب يكسر الأرز"، لأن المسيح اعتمد، أما الشياطين الذين كانوا قبلاً متغطرسين ومتكبرين فقد تحطموا وانكسروا في هاوية الهلاك. يكسرهم الرب مثل أرز لبنان، ويُحطمهم مثل عجل! قاذفًا في الهواء بأشلاء الأشجار، ومبعثرًا بالقِطع (التي للعجل) بعيدًا.

v   ماذا يقول المزمور عن المخلص؟ "الحبيب مثل ابن ذوي القرن الواحد". إن ربنا حبيبنا ومخلصنا هو ابن وحيد القرن، ابن الصليب الذي يرنم له حبقوق، قائلاً: "الاشعة تشرق إيمانًا من جواره، وهناك استنار قدرته" (راجع حب 3: 4). فبعدما صُلب ذاك الحبيب تحققت النبوة الواردة في المزمور: "صوت الرب يقدح لهيب النار" [7]. لأنه عندما طهّرنا المسيح انطفأت نار الجحيم[569].

القديس جيروم

v   بالمعمودية المقدسة ينعتق الإنسان من سلطان إبليس ويصير مولودًا من غير نطفة مثل ناسوت المسيح، لأن الروح القدس يقدسه من ميلاد النطفة، فلا يبقى للشيطان سلطان عليه مادام روح المسيح فيه[570].

الأنبا ساويرس أسقف الاشمونين

v   الذي يعتمد للمسيح لا يولد من الله فقط بل يلبس المسيح أيضًا (غلا 3: 27). لا نأخذ هذا بالمعنى الأدبي، كأنه عمل من أعمال المحبة، بل هو حقيقة. فالتجسد جعل اتحادنا بالمسيح وشركتنا في الألوهة أمرًا واقعًا[571].

القديس يوحنا ذهبي الفم

يربط القديس أمبرسيوس بين السيد المسيح الابن الحبيب، وحيد القرن وبين القديسين كوحيدي القرن، قائلاً:

[يُدعى القديسون وحيدي القرن... فإن هذا النوع من الحيوانات يحسبون قد بلغوا حالة أعظم من النضوج بظهور القرن فيهم. وهكذا أيضًا عندما يبدأ القرن أن يظهر في رأس النفس يبدو كأنها تبلغ إلى حالة أعظم من النضوج في الفضائل، وهكذا ينمون حتى يبلغوا إلى الملء.

بهذا القرن سحق الرب يسوع الأمم، لكي تدوس على الخرافات وتنال الخلاص، كقوله: "أضرب وأشفي"... ولهذا كانت الحيوانات الطاهرة حسب الشريعة هي ذات قرون، لأن الناموس روحي؛ فمن يطرد إغراءات هذا العالم بكلمة الله وحفظ الفضيلة يكون كمن هو مُصان بقرون على رؤوسهم، كما بأسلحة[572]].

مسيحنا وحيد القرن، حطم بالصليب شر الأمم ليقتنيهم أعضاء جسده، ونحن وحيدوا القرن، نحطم الشر بالروح القدس بقوة صليب ربنا يسوع المسيح لنحيا كاملين فيه.

د. "صوت الرب يقطع لهيب النار" [7].

العواصف الشديدة أحيانًا تشعل نيرانًا خاصة في الغابات وأحيانًا تطفىء بمياهها النيران. صوت الرب يشعل بروحة القدوس نار الحب الإلهي، إذ يقول: "جئت لألقي نارًا على الأرض؛ فماذا أريد لو اضطرمت؟" (لو 12: 49)، هذه النيران تبتلع نيران الشهوة التي فينا وتقطعها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالنار تنطفئ النار؛ بنار الروح تنطفئ نار الشهوات!].

يرى القديس باسيليوس الكبير أن صوت الرب في يوم الدينونة يقطع لهيب النار بالنسبة للأبرار فيبقى ضوؤها، أما بالنسبة للأشرار فيبقى حريقها بلا ضوء. أما كلمة "يقطع" فتعني هنا يفصل أو يميز أو يفرز، لأن صوت الرب يفصل الأبرار عن الأشرار في يوم الدينوية، فيتمتع الأبرار مباركوا الآب بالميراث المجيد ويُلقى الأشرار في النار المعدة لإبليس وملائكته.

v   أعتقد أن النار المعدة لعقاب الشيطان وملائكته تنقسم بواسطة صوت الرب. وهكذا توجد قدرتان في النار، قدرة للإحتراق وأخـرى للإنارة. قوة عقاب النار الصارمة تنتظر مـن

يستحقون الحرق، أما إشعاعاتها واهبة الاستنارة فتُحفظ ليتمتع بها الفرحون[573].

القديس باسيليوس الكبير

هـ. "صوت الرب يُزلزل القفر،

صوت الرب يُزلزل برية قادش" [8].

قبلاً [5-7] كان المرتل يتحدث عن العاصفة التي تصطدم بجبال لبنان الممتدة مئات الأميال شمالاً وجنوبًا في منطقتين منفصلتين، حيث كانت أشجار الأرز الثمينة التي استخدمها آنذاك سليمان في مشاريعه للبناء (1 مل 5: 6-10؛ 6: 15؛ 7: 1-3، 11-12)، وكانت ترمز للتشامخ (إش 10: 33-34، زك 11: 2). الآن [8-9] تزحف العاصفة في طريقها إلى القفر، برية الصحراء العربية شرق الجبل المواجه للبنان حيث تتزلزل البرية كلها. وقد جاءت كلمة "يُزلزل" في العبرية بتصوير المرأة وهي في حالة مخاض الولادة.

جاء الكلمة الإلهي - صوت الرب - إلى العالم الذي كان كالبرية القفر التي بلا ثمر ليزلزله، فيهتز من أعماقه ويكون كالمرأة التي تئن وتتمخض لكنها تعود فتفرح بإنجابها طفلاً حيًا يُبهج حياتها. رأى إشعياء النبي العالم برية تمتعت بالعصر المسيَّاني كعصر مياه حية فصارت جنة مثمرة، إذ يقول: "فتصير البرية بستانًا... فيسكن في البرية الحق والعدل في البستان يقيم... ويسكن شعبي في مسكن السلام وفي مساكن مطمئنة وفي محلات أمينة" (إش 32: 15– 17).

"صوت الرب يُزلزل برية قادش" [8]. برية قادش تلك التي عبرها الشعب قبل دخولهم أرض الموعد، وهي تشير إلى الإنسان قبل تمتعه بالوعد الإلهي، ودخوله إلى كنيسة العهد الجديد، أرض الراحة. مثل هذا الإنسان يحتاج إلى أن يحل فيه كلمة الله بالإيمان ليحوّله من برية قادش إلى كنعان الجديدة.

v   صوت الرب يزلزل إيمان الأمم الذين كانوا قبلاً بلا رجاء، بلا إله في العالم (أف 2: 12)، حيث لم يكن لهم نبي ولا كارز بكلمة الله، وكأنهم كانوا موضعًا لا يسكنه أحد (قفر). ويزلزل الرب برية قادش، عندئذ يجعل الله كلمة كتابه المقدس معروفة تمامًا، هذه التي تركها اليهود الذين لم يفهموها.

القديس أغسطينوس

v   "صوت الرب يُزلزل البرية". البرية هي الكنيسة التي كانت قبلاً بلا أولاد، وبالكرازة بالمسيح تزلزلت هذه البرية واهتزت، وحان وقت طِلْقِها، فولدت، وفي يوم واحد أنجبت أمة بأكملها (إش 66: 7)! تلك التي كانت تُدعى قبلاً: "برية قادش" أي برية القداسة، وذلك بقدر ما كانت حُبلى بالفضائل، فصارت تلد الأيائل، وترسل قديسيها في أفواج وحشود ليقتلوا الحية على الأرض، مستخفين بسُمّها. إثناء ركوضهم في العالم، كارزين بإنجيل المسيح في هيكله يقول جميعهم: "المجد لله!"[574].

القديس جيروم

و. "صوت الرب يرتب الأيائل ويكشف الغياض" [9].

جاء في النص العبري: "يُولّد الأيائل"، وكأن العاصفة في عنفها ترعب الأيائل، فترقد وتضع صغارها قبل موعد الولادة. أما في النسخة السبعينية، فجاءت "يرتب الأيائل"، فقد جاء كلمة الله لكي يُرتب نفسياتنا المضطربة ويرد لنا سلامنا الداخلي. الأيائل بطبعها قطيع مشتت لا يستقر على حال، معروف برعونته وعدم رويته...

"صوت الرب يكشف الغياض" [9]، إذ بمجيء المتجسد انكشفت لنا أسرار الكتب الإلهية وخفاياها، هذه التي كانت مخبأة في الظلال.

عند حلول العاصفة تختفي ظلال الغابات الكثيفة أمام وميض البرق وتنكشف الكهوف والمغائر المظلمة، فلا يقدر إنسان أن يختفي. هكذا إذ جاء صوت الرب إلى الجنة لم يكن ممكنا لآدم وحواء أن يختفيا بين الأشجار ولا لأوراق شجرة التين أن تسترهما؛ بل انفضحا وتعريا حتى أمام نفسيهما. كلمة الله؛ السيد المسيح، يشرق علينا بروحة القدوس فيفضح حياتنا أمام أنفسنا، ويبكتنا على خطايانا، لنتقدم إليه كمرضى يطلبون شفاء النفس والجسد.

v   تحتاج النفس إلى السراج الإلهي، وهو الروح القدس، الذي يُنير البيت المظلم، وإلى شمس البرّ الساطعة التي تُضيء وتشرق في القلب، وتحتاج إلى الأسلحة التي تغلب بها في المعركة.

القديس مقاريوس الكبير

يُقال أيضًا إن الرعد يكشف عن حيوانات الغابة التي تصير في هرع فتهجر عرينها ومخابئها ومن ثم يُمكن اكتشافها وصيدها... وكأن صوت الرب الذي يكشف لنا أسرار الكتاب المقدس، والذي يعلن لنا عن أعماقنا الخفية، يظهر لنا العدو الشرير "الحيوانات المفترسة" ويعطينا قوة لمقاتلته.

3. الرب الملك الأبدي:

"وفي هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد

الرب يسكن في الطوفان

الرب يجلس ملكًا إلى الأبد" [10].

الآن قد حلَّ كلمة الله المتجسد في برية هذا العالم ليقيم من أبناء الكباش أبناء لله [1]، محوّلاً المياه الصالحة الكثيرة إلى نهر عذب، أي جماعة الأمم الوثنية إلى كنيسة الله المقدسة [3]، محطمًا تشامخ الإنسان (أرز لبنان)، قاطعًا لهيب نار الشهوات الزمنية، مزلزلاً البرية القاحلة ليُعطينا روح الاتضاع بنار روحه القدوس فنتحول من قفر البرية إلى فردوس مثمر [8]؛ يرتب أيائلنا الهائجة وكاشفًا أعماقنا المضطربة ليهبنا سلامه ويعطينا فهم أسراره الإلهية [9]... يحوّل حياتنا إلى هيكله المقدس الذي ينطق بأمجاده الفائقة: "وفي هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد". ما هو هذا الهيكل إلا كنيسة المسيح المقدسة التي تجمعت من كل الأمم المملؤة عارًا لتصير في المجد؟! هناك يملك الرب على نفوس مؤمنيه، "يسكن في الطوفان"، أي يسكن في مياه المعمودية، ليحل في قلوب من ينالوا العماد بكونهم هيكل الله المقدس.

v   "في هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد" [10]. في كنيسته، كل الذين نالوا التجديد على رجاء الحياة الأبدية، يُباركون الله، كل حسب عطيته وموهبته التي نالها من الروح القدس.

v   يسكن الرب أولاً طوفان هذا العالم بحضوره في القديسين الذين يحفظهم في الكنيسة كما في فلك (تك 7). "الرب يجلس ملكًا إلى الأبد" [10].

هناك يجلس متوجًا كملك على مختاريه إلى الأبد.

القديس أغسطينوس

4. نِعم الله على كنيسته:

"الرب يُعطي شعبه قوة،

الرب يبارك شعبه بالسلام" [11].

إن كان صوت الرب قد جاء ليعلن فاعليته في حياة البشرية، يحوّل قفر العالم إلى فردوس كنيسته، فقد جاء لأجلنا نحن شعبه ننال قوته وبركته وسلامه!

v   "الرب يُعطي شعبه قوة"، لأنه يليق بالرب أن يمنح شعبه الشجاعة في صراعهم ضد عواصف هذه الحياة وبراكينها. إنه لم يعدهم بالهدوء في هذا العالم السفلي!

"الرب يبارك شعبه بالسلام" [11]. الرب نفسه الذي يبارك شعبه هو الذي يمنحهم السلام فيه، قائلاً: "سلامي أنا أعطيكم، سلامي أنا أترك لكم" (يو 14: 27).

القديس أغسطينوس

ختام هذا المزمور يؤكد لنا أن العاصفة لابد أن تعبر ليتمجد الله الملك الذي يؤكد حبه لكنيسته وقت الضيقة، واهبًا إياها قوة وبركة وسلامًا، إن سلّمت حياتها بين يديه واستعانت بصوت الرب ومواعيده كسند وخلاص لها.


 

ما أعجبك أيها الكلمة!

v   أيها الكلمة الإلهي...

يا من اقمتنا نحن أبناء الكباش أبناءً لله،

اقبل تمجيدًا وتسبيحنا، وحياتنا، ذبيحة شكر لله،

v   ما أعجبك أيها الكلمة الإلهي!

أنت تحول مياه خطاياي المهلكة وتيارات شهواتي إلى مياه عذبة!

ترعد على مياه المعمودية بروحك فتهبني سكناك فيّ!

تهبني قوتك وتسكب جلالك داخلي!

تُحطم تشامخي (أرز لبنان) وتهبني وداعتك!

تقطع لهيب نار خطاياي بنار روحك المحييّ!

تُزلزل قفر اعماقي لتقيم فردوسك في داخلي!

تهب سلامًا وبنيانًا لأعماقي فتترتب الأيائل (أفكار وطاقات نفسي المضطربة).

تشرق عليّ فاكتشف ضعفي واتمتع بنعمتك بتوبتي.

v   لتجلس في قلبي كملك ولتهبني قوة وبركة وسلامًا

تعال أيها الملك إليّ واحملني إليك!

<<

 

 

 


 

المزمور الثلاثون

شكر للخلاص من الموت

ولتدشين بيت داود

نبدأ بسلسلة صغيرة من مزامير الشكر [مز 30-34]، أولها هذا المزمور، فيه اعتراف بالجميل وشكر من أجل شفاء مفاجئ وربما بطريقة معجزية تمتع به شخص مصاب بمرض خطير. فإن الآيتين [3، 9] تشيران بصراحة إلى الموت والقبر[575]، وإلى الشفاء الرائع الذي بعث شكرًا مملوءًا فرحًا، كما أثار المرتل ليبرز الدروس التي تعلمها من آلامه.

بحسب عنوان المزمور فأنه قد أُنشد به عند تدشين بيت داود.

يزعم البعض أن العلاقة بين هذا المزمور كشكر لأجل الشفاء من مرض خطير وتدشين قصر داود، علاقة غامضة، لكن في الحقيقة توجد علاقة وطيدة بينهما. فقد قاست طبيعتنا الصالحة من مرض شديد، إذ فقدت صورة الله والتمثّل بخالقها، وكان عمل المخلص أن يشفيها ويعيد لها جمالها الأصيل الأول، مجددًا خلقتها ليقيمها قصرًا له أو مقدسًا مكرسًا لله.

أما الآراء الخاصة بوضع هذا المزمور ومناسبته فهي كالآتي.

1. يعتقد البعض أن وُضع للاحتفال بالشفاء من مرض عضال. كان توقع الموت المبكر يبدو مرعبًا للغاية، ربما لأن المرتل كان صغير السن ينتمي إلى جماعة خدام الهيكل الذين يخدمون إله الحياة عن قرب (مز 16)[576].

2. يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن هذا المزمور أنشده داود النبي لما عرف أن الرب قد غفر إثمه، وتجددت بالتوبة نفسه الكائنة في بيت الرب والتي هي ذاتها بيت الله.

3. يرى القديس غريغوريس أن هذا المزمور هو نبوة عن ما حدث مع حزقيا الملك إذ خلصه الله من سنحاريب (2 مل 19)، وأمدّ عمره 15 عامًا (2 مل 20)، وأنقذ الهيكل من نيران الأعداء. يراه أيضًا نبوة عن ربنا الذي جدد طبيعتنا البشرية بكونها بيته الخاص به وذلك بقوة قيامته[577]. يتطلع كثير من الآباء إلى المزمور بمنظار باطني (سرَّي)، متطلعين إلى البيت أنه ذاك الذي جدده السيد المسيح، مؤكدين أنه إنما يعالج موضوع تجديد الطبيعة الشرية بقوة قيامته، وأن المرض هنا يخص النفس، حلَّ بها خلال السقوط في الخطية، وأن الشفاء أيضًا هو شفاء النفس بعمل المسيح الخلاصي.

4. أُعدّ نبويًا لأجل تدشين الهيكل الأول، لكنه لا يوجد برهان على ذلك ولا حتى مجرد احتمال. يرى  plumer أن أفضل الآراء هي أن المزمور قد نُظم لتدشين المذبح في يبدر أرونة اليبوسي على جبل المُريَّا موضع بناء الهيكل (2 صم 24: 18-25؛ 1 أى 18: 30)، وقد دعاه داود النبي "بيت الرب" (1 أى 22: 1) [578].

5. أستخدم المزمور لتدشين قصر داود نفسه، الذي بُني بخشب حيرام (2 صم 5: 11؛ 1 أى 14: 1). هذا يتفق تمامًا مع عنوانه ومع تصرفات اليهود التقوية (تث 20: 5)؛ فقد حمل داود النبي ذات المشاعر التقوية الواردة في المزمور عند إقامته في بيته، كما جاء في (2 صم 7: 2) [579]. إذ ينبغي علينا أن نكرّس لله البيوت التي نعيش فيها ونقيم كمقياس صغيرة. يلزمنا أن نكرّس أنفسنا وعائلاتنا وكل شيءونها بوقار تحت رعاية الله، وأن نطلب حضرته وبركته.

6. يقول الأسقف وايزر Weise: [إن هذا المزمور - حسب عنوانه - كان يُستحدم في تدشين (هانوكه) الهيكل الذي كان يحتفل به سنويًا، كتذكار للعودة إلى العبادة في الهيكل الذي سبق فدمره انتيخوس ابيفانيوس. منذ عام 165 ق.م فصاعدًا صار الاحتفال يُقام في ذات الموعد كتذكار للخلاص المعجزي من سيطرة الآراميين (السوريين) (1 مك 4: 52 الخ، يو 10: 22)]، لكن كما يقول وايزر إن المزمور لم يكن قد وضع أساسًا لهذا الغرض.

7. يرى بعض الدارسين أن داود وضع هذا المزمور بعد خلاصه من موت مرتقب عندما أدّبه الله لأنه قام بإحصاء الشعب (2 صم 24).

إننا لم نسمع عن داود أنه عانى من مرض خطير كما حدث مع حزقيا الملك، وأنه صرخ إلى الرب فاستجاب له في ذلك الأمر، وأعاد له صحته وقوته، لهذا فان ما ورد في المزمور رمزيٌّ ونبويْ. يكشف لنا كيف أن ابن داود الذي قام من بين الأموات، كما لو كان قد برأ من جراحاته وخلص من الموت، قد أسس بيته الجديد، أي الكنيسة. وقد قيل: "مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا" (إش 53: 5).

v   إننا نمجد الله عندما ندشن في نفوسنا بيتًا لله، لأن عنوان المزمور هو "مزمور أُنشودة، لتدشين بيت داود"[580].

العلامة  أوريجانوس

v   إنها أغنية القيامة المفرحة التي جددت الجسد، لا جسد ربنا فحسب بل وكل الكنيسة، وقد أبدل حال الجسد إلى الخلود. في المزمور الأخير نجد الخيمة التي يجب أن نقطن فيها - إذ فيها خيرنا - قد كملت، وقد جاء هذا المزمور يختص بتدشين البيت الذي يبقى أبدياً فى سلام لا يتحطم!

القديس أغسطينوس

العنوان:

"مزمور أغنية تدشين البيت لداود".

1. الاسم المزدوج "مزمور أغنية" أو "مزمور وأغنية"  يعني استخدام آلة وترية (مزمور) مع آلات أخرى (أغنية) عند إنشاده في الهيكل.

يرى بعض الدارسين أن ذلك يعني استخدام الصوت مع الآلات الموسيقية ممتزجة معاً أثناء خدمة الهيكل. القول "مزمور أغنية" يعني الآلة الموسيقية تسبق الصوت، أما إذا قيل: "أغنية مزمور" يعني أن الصوت يسبق استخدام الآلات الموسيقية.

2. من جهة نسبة المزمور لداود النبي يقول Gaebelein: [أولئك الذين يتجاهلون العنوان وينكرون نسبة المزمور لداود، يعتقدون أن الكاتب ربما إرميا حينما رُفع من الجب. جاء هذا التفسير معتمدًا على العبارة: "لأنك نشلتني" وتعني حرفيًا: "أنت رفعتني أو سحبتني إلى فوق". لكن الأمر لا يحتاج إلى التفسير الحرفي لتعني انتشال من جب، بل هو تعبير مجازي يشير إلى الرفع من أعماق الحزن والضيق]. ونحن من جانبنا نحتاج إلى هذا المزمور لنكشف بروح الصلاة حضرة الله السامع لتضرعاتنا وشكوانا وسط اجتماعنا الليتورجى.

الإطار العام:

1. التسبيح لأجل الشفاء                [1-3].

2. دعوة للتذكر                       [4-5].

3. تطلع إلى الخبرة الماضية          [6-10].

4. تجديد التسبيح                      [11-12].

1. التسبيح لأجل الشفاء:

هدف المرتل واضح وهو أن يمجد الرب لأنه خلصه من الهاوية ومن القبر؛ ناسبًا الخلاص كله لله.

إنها أنشودة القيامة التي تغنى بها مسيحنا القائم من الأموات. ونحن أيضًا       أعضاء جسده نترنم بها إذ ننعم بحياته المقامة. يقول القديس أغسطينوس: [أغنية النصرة هذه التي يترنم بها المسيح اليوم تصير أغنيتنا نحن فيما بعد].

1. "أعظمك يارب لأنك احتضنتني،

ولم تشمت بي أعدائي" [1].

كان داود شاكرًا، لأن قيامه لم يكن بمجهودات البشر، فأنه لم يكن يصعد على سلم من صنع البشرية، بل الله هو الذي رفعه.

يرى أنثيموس أسقف أورشليم أنها نبوة عن حزقيا الذي نجا من أعدائه، وفي نفس الوقت هي صلاة شكر ترفعها الطبيعة البشرية التي خلصت من الشياطين ومن الموت وذلك بصليب السيد المسيح.

أسبح عظمتك يارب لأنك وهبتني الحياة المُقامة، لم يُعد يشمت بي أعدائي، لأنه حتى الموت لا يقدر أن يقتنصي.

v   ارتبك الشيطان وملائكته عند قيامة ربنا. رئيس الموت دخل إلى الموت عندما رأى الموت يُقهر!

القديس أغسطينوس

v   قيامة الابن عتقت الشعوب من الضلالة...

v   قام ابن الله من القبر بالمجد العظيم، فاستضاءت المسكونة بقيامته.

مار يعقوب السروجي

"ولم تشمت بي أعدائي" [1].

يوجد في الخلف أعداء يفرحون عندما يتألم الأبرار، بل ويشتهون لهم الموت. كلنا لنا أعداء أشرار يتربصون بنا كصقور خاطفة؛ وليس شيء يسرهم مثلما يرون بعضنا يتعثر ويسقط، ليشمتوا بنا. إنهم يكرهون الصديقين ويشمتون بهم... "لأنكم لستم من العالم، بل أنا أخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يو 15: 19).

حينما أخطأ داود الملك وأحصى شعبه ليفتخر بقدرته وإمكانياته، طلب الله منه أن يختار أحد تأديبات ثلاثة، وإذ ضاق به الأمر جدًا قال: "فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسان" (2 صم 24: 14). ما أرهب أن يسلمنا الله في يد إبليس أو في يد إنسان عدو! مبارك هو الرب الذي يحفظنا من الأعداء!

2. "ياربي وإلهي، صرخت إليك فشفيتني" [2]. نحن نرى أن الكتاب يربط بين المرض والصحة بعلاقتنا بالله، وبالخطية والفضيلة. يلخص سفر التثنية ذلك بالقول: "أنا أميت وأحييّ، سحقت وأنا أُشفي" (تث 32: 39).

يُستخدم الشفاء للتعبير عن إصلاح القلب الشرير (إش 6: 10)، ومعالجة الكسور (مز 60: 2)، وشفاء الناس من الانحراف الروحي (إر 3: 22)، وعزاء الحزانى (مز 147: 3)، وإصلاح الوعاء الفخاري المكسور (إر 19: 11). وربما يقصد بالشفاء الخلاصي من وباء يصعب توقفه، وذلك كما قال الله للملاك المهلك: "كفى. الآن ردّ يدك" (2 صم 24: 16).

الله هو طبيب النفس والجسد، في يده شفاء كياننا كله، يقول: "إني أنا الرب شافيك" (خر 15: 26). هو صانعنا وطبيبنا، ويقدر أن يرد لنا صحتنا المعتلة. بلمسة هدب ثوبه برئت نازفة الدم، وبكلمة كانت تخرج الأمراض!

حمل الرب جراحاتنا ليشفينا منها خلال جسده المجروح، وإذ قام من الموت أبتلع الموت إلى غلبة (1 كو 15: 54).

v   دعوتُك يارب إلهي، ولم أعد بعد مثقلاً بالجسد الوهن الخاضع للمرض والموت.

القديس أغسطينوس

3. وهبتني النصرة على الهاوية:

    "يارب أصعدت من الجحيم نفسي

    وخلصتني من الهابطين في الجب" [3].

الله كمخلص يحملنا من حفرة الخطية، وينتزعنا من هوة اليأس، يرفعنا من المزبلة، ويدخل بنا بنعمته إلى عرش نعمته، هو الذي أنقذ إرميا من جب الوحل الذي في دار السجن، وهو الذي خلص يوسف من البئر ليقيمه ممجدًا في أرض غريبة!

نزل إلى الجحيم وهبط كما في جب لكي ينقذنا من سلطان الظلمة، ويدخل بنا إلى مملكة النور.

يتحدث المرتل بلغة اليقين: "شفيتني"، "أصعدت من الجحيم نفسي"، "خلصتني من الهابطين في الجب". إذ لم يتطرق الشك قط في ذهن داود النبي من جهة عمل الله الخلاصي معه. ولعل لغة اليقين تقول على أساس الخبرة الواقعة حيث ننعم هنا بعربون الأبدية في حياتنا اليومية. الشفاء المرتقب الذي يتحقق بالشركة في الأمجاد الأبدية ننعم بعربونه الآن بخبرتنا للحياة الجديدة المقامة. نختبر المجد الداخلي، والحياة السماوية، والشركة مع السمائيين... فنقول مع الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات" (أف 2: 6).

4. يسأل المرتل القديس أن يُشاركوه أسلوبه التقوي المفرح في التسبيح والشكر وتمجيد الله. فإن من يحب الله من كل قلبه ويشكره باخلاص يود أن يشترك الكل معه في ذات العمل [4].

2. دعوة للتذكر:

في الدعوة الإستهلالية [1-3]، نلتقي بالإسم الإلهي "يهوه = الرب" ثلاث مرات، ومع كل مرة نجد باعثًا شخصيًا للمرتل لكي يقدم شكرًا للرب؛ تأتي الآيات [4-5] كدعوة موجهة نحو الجماعة لكي يشترك الكل معًا في التعبير عن عرفانهم بالجميل. هكذا لا يفصل المرتل عبادته الخاصة عن العبادة الجماعية، وحياته التقوية عن الحياة الكنيسة المقدسة.

"رتلوا للرب يا جميع قديسيه

واعترفوا لذكر قدسه" [4].

اختبر داود النبي حياة التسبيح والفرح في الرب، وها هو يدعو قديسي الرب

مشاركته هذه الحياة الملائكية بتذكرهم أعماله القدسية عبر التاريخ وفي حياتهم، إذ يعلن الرب قداسته الفائقه خلال معاملاته معهم.

يدعو المرتل المؤمنين قديسين، لأن القداسة تخص الله وحده، يهبها لشعبه ليمارسوا الحياة المقدسة. لقد وهبنا ربنا يسوع المسيح روحه القدوس كروح التقديس واهب جميع الخيرات الذي يوحدنا معًا كجماعة تسبيح مقدسة!

إن كانت الخطية تفسد سلام القلب، وتحجب النفس عن الفرح، وتحدر الإنسان عن الشركة مع السمائيين الدائمي التسبيح لله، فإن ثمر الروح القدس الذي يرفعنا إلى الحياة السماوية هو الفرح الداخلي، فيضرب على أوتار حياتنا ليعزف سيمفونية حب مفرحة. إنه يهبنا القداسة فنرتل بالقلب واللسان متذكرين معاملات الله معنا، وممجدين قداسته العاملة فينا. بمعنى آخر لا يفصل بين القداسة وحياة التسبيح.

إذ يدعو المرتل الجماعة المقدسة أن تذكر قدس الله أو قداسته أو أعماله المقدسة، يركز على عمل الصليب والقيامة بكونهما عمل خلاصي فائق يُنتزع خلاله سخط غضب الله ليحل رضاه، ويُنتزع الحزن والبكاء ليحل الفرح والسرور.

"لأن سخطًا في غضبه وحياة في رضائه.

بالعشاء يحلّ البكاء، وبالغداة السرور" [5].

ربما يشير المرتل هنا إلى التأديب الذي حلّ به بسبب إحصائه للشعب، حيث حلَّ الوباء بالشعب وأُعلن غضب الله وسخطه، لكنه ردّ الملاك المهلك سيفه كأمر الرب قبل أن تكمل أيام التأديب. عندئذ بنى داود مذبحًا للرب، وأصعد محرقات وذبائح سلامة واستجاب الرب من أجل الأرض (2 صم 24: 25).

في النص العبري: "لأن للخطية غضبه"؛ غضب الله إنما هو للخطة، حيث مقاصده التعليم لا الهلاك، دافعه في الغضب لا الانتقام الشخصي وإنما تقديم نعمته للتأديب لكي تعينهم على ترك طرقهم المعوجة والسير في طريق البر[581].

v   "لأن سخطًا في غضبه"، لقد نزع عنكم عقوبة الخطية الأصلية التي كفرتم عنها بالموت؛ "لكن حياة في إرادته"، فقد وهبكم الحياة الأبدية التي نلتموها دون أدنى مجهود ذاتي من جانبكم، إذ صارت حسب مسرته الصالحة (في رضائه).

القديس أغسطينوس

يقول Hengstenberg: [في النصف الثاني للآية الخامسة تشخيص للبكاء وتشبيه بشخص يتجول، يترك المسكن الذي جاء إليه في العشاء ليرحل في الصباح ويحل محله ضيف آخر يصل إلى المسكن هو الفرح[582]].

إذ تحجب الخطية النور عن قلوبنا لتحل ظلمة الغروب يقتحم البكاء خيمتنا ليقطن فيها، حاسبًا نفسه صاحب موضع، يقطن خيمتنا على الدوام ولا يفارقها، لكن شكرًا لشمس البر الذي أشرق على حياتنا ليبدد ظلمتها، محولاً غروبنا إلى نهار منير، فيرحل البكاء ويحل الفرح الداخلي في قلوبنا أبديًا. هكذا قيل للعروس: "إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال أذهب إلى جبل المُرّ وتل اللبان" (نش 4: 6).

لقد حطم عريسنا المشرق ظلمة العشاء بنعمته، ليحوِّل حياتنا إلى عرس مفرح وعيد غير منقطع وأفراح مجيدة!

في الغروب حلَّ البكاء حيث أعلن الرب بصليبه مرارة الخطية التي حملها عنا، وفي الصباح قام من الأموات ليهبنا برّه المفرح وحياته المقامة.

في الغروب هدد ربشاقي حزقيال أنه سيدمر أورشليم. "وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش أشور مئة ألف وخمسة وثمانين ألفًا؛ ولما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جثث ميتة" (2 مل 19: 35). في المساء كان الشعب يبكي، وفي الصباح فرحوا بخلاص الله.

إنها نبوة عن عمل ربنا الخلاصي، ففي المساء مات، وفي الصباح قام من الأموات يهبنا فرحه.

يقول أنثيموس أسقف أورشليم: [إن ربنا يسوع المسيح هو ابن البر الذي رفضه اليهود، فصاروا كمن هم في مساء محرومين من النور الإلهي والفرح، أما المسيحيون فيؤمنون بالمسيح، صاروا كمن في صباح مملوئين بالفرح.

كلمة "مساء" في العبرية لا تعني "المساء المظلم"، "مساء مستمر"، وإنما يعني "الغروب an evening"[583].

v   "بالعشاء ينصب البكاء خيمته" حلَّ هذا المساء evening عندما إنطفأ نور الحكمة في الإنسان الخاطي وسقط تحت حكم الموت؛ منذ ذلك المساء المحتوم، التزَم شعب الله بسكب الدموع وسط التعب والتجارب، مترقبًا حلول نهار الرب. يليق بالإنسان أن ينتظر حتى الصباح ليشهد لفرح قيامته التي أنبعث نورها في باكورتها الأولى عندما قام ربنا عند شق الفجر.

القديس أغسطينوس

v   بالنسبة لربنا كان العشاء هو وقت دفنه، وشاهد صباح اليوم الثالث قيامته. أنتم أيضًا قد دفنتم في العشاء في الفردوس، وفي اليوم الثالث أيضًا قمتم. كيف تم ذلك في اليوم الثالث؟ نلخص الزمان كله هكذا:

كان هناك يوم واحد قبل الناموس؛

ثم جاء يوم ثانٍ تحت الناموس،

فيوم ثالث تحت النعمة. ذاك اليوم الذي عينه وأظهره رأسنا نفسه خلال الثلاثة أيام، يجب إعادة تطبيقه أيضًا بالنسبة لكم...

والصباح هو زمن الرجاء والفرح؛ أما الوقت الحاضر فهو زمن الاحتمال والمحن.

القديس أغسطينوس

3. تطلع إلى الخبرة الماضية:

تمثل الآيات [6-12] تغييرًا مفاجئًا في طابع المزمور حيث يروي المرتل ما أصابه من مرض مهلك، مصليًا طالبًا العون الإلهي.

يروي المرتل خبرته في شيء من التفصيل؛ فيتحدث عن الزمان الذي كان فيه آمنا في ثقة بالنفس، متخيلاً أنه لا يمكن أن يتزعزع [6]، وإذ أخفى الرب وجهه عنه، أي غضب عليه، صار المرتل محرومًا من نعمة الله ورحمته، لأنه اتكل على ذاته؛ عندئذ أدرك أنه اقتنى غضب الله. فبإغضاب الله نجلب على أنفسنا السخط والدينونة، "لأن أجرة الخطية هي موت" (رو 6: 23)، بينما بصنعنا مشيئته نجد حياة وصحة وسعادة (1 يو 2: 17؛ 3: 14؛ رو 14: 17). لقد صرخ المرتل إلى الرب وتضرع إليه [8]، ربما لأنه كان مُحاطًا بأعداء هددوه بالموت والهلاك. كان الله هو ملجأه الوحيد، فدعاه ليكون معينًا له؛ فجاءت الاستجابة. من خلال الحب الإلهي نال قوة وجمالاً داخليًا [7]، فتحـول

نوحه إلى فرح، ومسوحه إل ثياب مفرحة تستره [11].

ما هي خبرة معلمنا داود النبي؟ حينما كان النصر حليفه وكل الإمكانيات بين يديه اتكل على قدراته، قائلاً: "إني لا أحول إلى الدهر"، وإما في وقت الضيق فكان يصرخ إلى الرب ويتضرع [8]. فبالضيق نقترب جدًا من الله.

v   لنأخذ مثلاً أحد القديسين، ولننظر ماذا كان حاله حينما كان في نعيمه وأيضًا حين صار في ضيق؟ هل ننظر إلى داود نفسه؟ حينما كان في نعيم وفرح بسبب انتصارات عدة وغلبته وأكاليله وبذخ حياته وثقته، انظر ماذا قال؟ وماذا فعل؟ "إني لا احوّل إلى الدهر" [6]. لكنه حينما حلت به الضيقة، فلنسمع ماذا كان يقول: "وإن قال هكذا إني لم أسرَّ بك فهانذا فليفعل بي حسبما يحسن في عينيه" (2 صم 15: 26)[584].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"أنا قلت في نعيمي إني لا أحوَّل (اتزعزع) إلى الدهر" [6].

الذين يظنون أنهم في طمأنينة أو في نعيم، متكلين على قوتهم وكرامتهم وثروتهم، يحسبون أنفسهم أنهم لن يتزعزعوا، لكنهم في الواقع يبنون حصونهم على رمال فتنهار.

يرى القديس باسيليوس الكبير أن سقوط داود في الخطية جاء نتيجة كبريائه، إذ ظن أنه في طمأنينةٍ. داود الذي اعتاد أن ينسب طمأنينته الكبرى ونعيمه إلى قوة الله ومحبته سقط في ضعفه في المجد الباطل حين أحصى شعبه. رآه يوآب على وشك السقوط فحذره بأمانة من ذلك (2 صم 24: 3)، لكنه لم يصغ له. عمل الإحصاء في ذاته لم يكن شرًا، كما هو واضح من الكتاب المقدس ذاته (خر 30: 12)، لكن إجراءه بدافع الكبرياء والمجد الباطل كريه جدًا لدى الله.

من يجد طمأنينة ونعيمه في الأمور الزمنية يمتلئ كبرياءً فيتزعزع ويهلك، أما من يجد في مسيحه فرحه ونعيمه فبالحق يثبت فيه ولا يتزعزع إلى الدهر. يقول العلامة أوريجانوس: [إن النفس التي في طمأنينة حقيقية لا يمكن أن تتزعزع؛ ربنا هو طمأنينتنا، فيه لن نتزعزع قط، بل نشاركه مجده إلى الأبد. هو يهبنا نجاحًا في كل أوجه حياتنا، وبدونه لا ننعم بقوة ولا حكمة ولا فرح ولا ثبات.

إذ سقط داود في التجربة وأدرك أن أفكاره كانت خاطئة، صار ينسب كل نجاح حلَّ به قبلاً وكل مجد داخلي وخارجي بل وكل جمال روحي إنما هو ثمرة رضا الله، تم كمشيئته الإلهية وبقوته، إذ يقول:

"يارب بمشيئتك أعطيت جمالي قوة.

صرفت وجهك عني فصرت قلقًا" [7].

 إن كان داود قد اعتلى العرش ونال نصرات متتالية، فهذا هو عمل مشيئة الله، لكن الآن إذ يصرف الله وجهه عنه يتزعزع ويمتلئ قلقًا حتى يرجع إلى نفسه ويعود بالتوية إلى إلهه.

وما نقوله عن داود تحقق بالنسبة للبشرية أيضًا، فقد وهبها الله قوة وصلاحًا وسلطانًا وجمالاً، وإذ ظن الإنسان أن لا يتزعزع، كسر الوصية، ففقد كل جمال داخلي وانهار بروح القلق والاضطراب.

v   مع أنني كنت جميلاً بالطبيعة، لكنني مُت بالخطية، بخداع الحية.

لقد أضفت إلى الجمال الذي أعطيتني إياه حينما خلقتني أولاً قوة كي أتمم مشيئتك[585].

القديس باسيليوس الكبير

هذا الجمال الروحي بكوننا على صورة الله ومثاله، وهذه القوة التي وهبتنا لطاعة وصيتك، قد ضاعا بكبرياء قلبنا... لقد صرفت وجهك عنا فدخلنا في حالة قلق!

يتحدث الأب دوروثيؤس من غزة عن هذا الجمال الذي يهبه الله للنفس، قائلاً: [لننقِ ولننظف الشَّبَه (الله) الذي نلناه. لننزع عنه تراب الخطية ليظهر بكل جماله بالفضائل... فإن الله يريد منا ما أعطاه إيانا بلا دنس ولا غضب أو عيب (أف 5: 27)[586]].

الآن إذ حجب الرب وجهه عن داود الذي أساء إلى الجمال والقوة الذين وهبهما له الله، لم يكن أمامه إلا أن يصرخ إلى واهب العطايا.

مهما بلغت خطايانا فإن مراحم الله تنتظرنا لكي ترد إلينا بهاء الله فينا. إن كان الله يحجب وجهه فإلى حين لكي نصرخ إليه، فيتجلى في داخلنا ونراه عاملاً فينا. إنه حتى بحجب وجهه يريد أن تزداد صلواتنا حرارة وإيمانًا وثقة فيه!

لا يقف الأمر عند الصلاة إنما وسط هذا الضيق يطلب المرتل أن يفتح الله قلبه للتسبيح والاعتراف له. فقد علم أنه مادام الإنسان في الخطية، أي هابطًا إلى الهلاك وملتحقًا بالتراب لا ينتفع هو شيئًا ولا يقدر أن يسبح الله.

"أية منفعة في دمي إذا هبطت إلى الهلاك؟!

هل يعترف لك التراب؟! أو يخبر بحقك؟!" [9].

كان يقول في صراحة الحب: ماذا تنتفع إن سُفك دمي أو هلكت؟! أما تفقد أحد أحبائك الذين يُسبّحون لك ويمجدونك؟، حينما افقد طبيعتي السماوية وأصير ترابًا، هل يمكن لحياتي أن تعترف بحبك أو تعلن عن حقك يا صانع الخيرات؟!

إنه عتاب الحب فيه يستجدي بدالة مراحم الله ويطلب تحقيق مواعيده الإلهية.

يرى القديس أثناسيوس الرسولي في هذا القول نبوة عن السيد المسيح الذي نزل إلى القبر لكن ليس بلا منفعة، لأنه ربح العالم كله. بنزوله ردّ لنا بهجة الخلاص[587].

لعلَّ المرتل أدرك هذا العمل الخلاصي، إذ أضاف:

"سمع الرب فرحمني،

الرب صار لي عونًا" [10].

بهذا المنظار يرى القديس أمبروسيوس الرب مخلصًا لمؤمنيه لا ديّانًا مرعبًا لهم، إذ يقول: [هل يمكن للمسيح أن يدينك وقد خلصك من الموت وقدم نفسه (ذبيحة) لأجلك عندما عرف أن حياتك هي ما تقتنيه بموته؟ أما يقول: "أية منفعة في دمي" إن كنت أدين ذاك الإنسان الذي أنا أخلصه؟ علاوة على هذا فإنك تفكر فيه كديّان ولم تفكر فيه كشفيع، هل يمكن أن يُصدر حكمًا عنيفًا وهو ذاك الذي يطلب دائمًا أن تُهب لنا نعمة المصالحة مع الآب؟[588]].

 لقد سمع الرب صلاتي فرحمني بنزوله إلى الجحيم كي يكون لي عونًا، يحملني من هناك ويدخل بي إلى ملكوته، أو يقيم ملكوته في داخلي، فأسحبه قائلاً:

"رددت نوحي إلى فرح لي.

مزقت مسحي ومنطقتني سرورًا" [11].

لم يصمت المرتل، إذ أراد أن يعرف كل أحد ما حدث في حياته من تغير، من نوح إلى فرح أو رقص، ومن ارتداء المسوح إلى التمنطق بالبهجة والسرور، ومن الصمت إلى التسبيح[589].

لقد أبدل داود ثوب التوبة الذي يحوط بجسده مثل مسوح بثوب عرس يتمنطق به؛ صارت له ثياب عيد ليشترك في احتفال بهيج ورقص روحي (مز 118: 27؛ 149: 3). تغيير الملابس الخارجية تكشف عن تغيير داخلي في نفس المرتل استجيبت صلاته، فتحول من التوبة إلى الشكر والفرح[590].

v   ما هي هذه المسوح؟ إنها الإماتة! فقد كانت المسوح تُنسج من شعر الماعز والجداء، كلاهما حُسبا من الخطاة (مت 25: 32). لقد لبس الرب كواحدٍ من جنسنا المسوح لكن ليس كعقاب له... ذاك الذي لم يفعل شيئًا ما يستحق الموت، ارتدى بإرادته جسدًا قابلاً للموت من أجلنا.

القديس أغسطينوس

يوجد وقت للبكاء، ووقت للنوح، ووقت للضحك (جا 3: 4). فقد بكى ربنا يسوع وأذرف الدموع، ذاك الذي هو ينبوع الفرح الأبدي. يلزمنا أن نعرف من نحن الذين نشاركه بكاءه ونوحه. بالتوبة الصادقة والصراخ لأجل خلاص كل نفس، ومع كل تطلع إلى نعمة الله العاملة في حياته وفي حياة الآخرين تتهلل نفسه. هكذا يمتزج الحزن مع الفرح؛ كل حزن يتحول إلى بهجة وفرح في الرب.

v   إنه يترقب مراثينا هنا، أي في هذا الزمن، كي يهبنا الأبدايات.

إنه يترقب دموعنا لكي يفيض علينا بصلاحه[591].

القديس أمبروسيوس

v   عطية السرور هي المسيح (نفسه)[592].

القديس أمبروسيوس

الشكر لك أيها المسيح، فإنه لا سفير ولا رسول، بل أنت بنفسك خلصت شعبك. نزعت عني مسحي ومنطقتني سرورًا.

القديس أمبروسيوس

إذ يتمتع المرتل بروح الفرح، بل بالسيد المسيح نفسه بكونه هو السرور أو البهجة، يملأ النفس شعبًا وتهليلً، يقول:

"لكيما يرتل لك مجدي ولا أندم

ياربي وإلهي إلى الأبد أعترف لك" [12].

ليس عجيبًا أن يقول: "يرتل لك مجدي"، فإنه إذ يهبنا الله مجدًا يتمجد هو فينا. تمجيد الله ليس تسبيحًا بالكلمات وإنما هو إعلان عن عمله فينان حيث يرفعنا من المزبلة إلى المجد، أو من جحيم الخطية إلى فردوس ملكوته المفرح.

التسبيح هو من صميم عمل المؤمن أيّا كان مركزه في الكنيسة، فإنه حتى في وسط أحزاننا يليق بنا أن نخصص وقتًا للتسبيح يكشف عن حياة الفرح الداخلي وسط الآلام. هذا ما عناه المرتل بقوله "ولا أندم" أو "لا أسكت"، إذ يفيض التسبيح من المؤمن الحقيقي بلا توقف.

يختتم المرتل مزموره بالالتزام بالاعتراف بالحمد لله بكونه ربه وإلهه الذي يهتم به شخصيًا. كأنه عوض الموت الذي لحق به والذي من أجله صرخ، صار في حياة جديدة على مستوى سماوي لا تعرف إلا التسبيح تحت كل الظروف.

 


 

أقم بيتك في داخلي

يا واهب الحياة

v   يا واهب القيامة أقم حياتي من الموت،

قدّس قلبي مسكنًا لك.

حوّل قبري الداخلي إلى مقدس لك!

v   نزلتَ إلى الجحيم لكي تحملني من هوة الخطية إلى فردوس برك.

v   أذكر أعمالك معي ومع كل شعبك،

فينفتح قلبي بالتهليل ولساني ينطق بالتمجيد!

v   أنت سرّ جمالي وقوتي،

دخلت إلى الحزن بالصليب لتحملنا بقيامتك إلى الفرح.

v   في مساء هذا العالم يحّل بنا حزن التوبة،

فيشرق مسيحنا على حياتنا بفرح بره.

v   انزع عني مسوح المرارة، ولتعطني ذاتك ثوب بر مفرِّح،

حول حياتي بمجدك إلى تسبيح بلا انقطاع.

<<

 

 

 


 

المزمور الحادي والثلاثون

في يديك استودع روحي

في مقال للقديس أغسطينوس عن المزمور 31 كتب: [إن كان المزمور يُصلي صلوا أنتم؛ وإن كان يحزن احزنوا؛ وإن كان سعيدًا افرحوا؛ وإن كان يترجى فليكن لكم رجاء؛ إن كان يخاف خافوا! لأن كل ما هو مكتوب هنا إنما هو مرآة نرى فيها نفوسنا[593]].

مناسبته:

المزمور هو صلاة مرثاة بسيطة مع شكر لإنسان يئن من مرض لسنوات طويلة [9]، يضطهده أعداء متشامخون [21]، يطلب الحماية في الله من مواجهة تهديد موت عنيف [5، 13] [594].

حدد البعض مناسبة هذا المزمور أنها تمرد أبشالوم؛ وظن آخرون أنها هروب داود إلى قعيلة المسجل في (1 صم 23: 1-12)؛ أو أثناء اضطهاد شاول المرير له بعد هروبه إلى قعيلة حيث كان في برية معون (1 صم 23: 13-26)؛ وقد عانى داود من التعب والأحزان [9]، ومن الضعف [10]؛ والتوبيخ [11]، والشعور بالعزلة [12]، والخوف المروّع والخطر [13]. لقد آمن أنه في كل ظروف التعب، الله هو ملجأه.

في الواقع يمثل هذا المزمور الصراع الدائم الذي يُعاني منه المؤمنون أو الكنيسة ككل في ظل هذا العالم الحاضر، والخلاص والنصرة اللذين يتبعان هذا الصراع على وجه اليقين[595].

إن كان داود قد صرخ إلى الرب في ضيقته بسبب اتفاق أهل قعيلة مع شاول على تسليمه، قائلاً: "في يديك استودع روحي"؛ فإن هذه هي صرخة ابن داود الذي إذ حمل خطايا العالم كله على كتفيه، سلمته لعار الصليب (لو 23: 46)، الذي يتبعه مجد القيامة. إنها صرخة كل تقي في كل جيل حين يحدق به الضيق من كل جانب، فيحوّل الله صرخته المرة إلى ترنم وتسبيح!

طبيعة آلام المرتل العامة - خاصة في الأعداد [1-8]، تجعل من هذا المزمور صوتًا لكثير من المتعبدين عبر القرون[596].

يزعم البعض أن إرميا هو كاتب المزمور بالرغم من العنوان القديم له يخبرنا أنه لداود. أما سبب ذلك فهو أن أجزاءً كثيرة من المزمور تتفق مع خبرات إرميا النبي (قارن آية 4 مع إر 17: 18؛ 10 مع مراثي 1: 20؛ 11 مع إر 20: 8، 18 مع إر 17: 18؛ 23 مع مراث 3: 64). هذا وتعبير أن الخوف حوله [13] قد تكرر ست مرات في كتابات إرميا النبي. على أي الأحوال فإن داود وإرميا كانا قديسين، وتألما آلامًا مبرحة؛ وكلاهما وثقا في الله على ذات المستوى، فكانت لهما ذات الخبرة، مما قادهما إلى استخدام تعبيرات مشابهة.

العنوان:

"حتى النهاية، مزمور لداود في حالة دهش".

سبق أن تحدثنا عن تعبير: "حتى النهاية" كعلامة عن السيد المسيح بكونه نهاية وكمال الناموس والأنبياء.

يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "دهش" هنا تعني "نشوة تتحقق خلال استعلان إلهي"، إذ يقول:

[هكذا كان دهش القديسين الذين أعلن لهم الله عن أمور خفية تتعدى أمور هذا العالم. هذه هي النشوة الفعلية أو الدهش الذي وصفه بولس في حديثه عن نفسه: "لأننا إن صرنا مختّلين (في دهش عقلي) فالله، وإن كنا عاقلين فلكم" (2 كو 5: 13-14)... فأن (الله) دائمًا يرى ما نراه نحن، فقط عندما تكون النفس في دهش؛ إنه وحده يكشف لنا أسراره].

الإطار العام:

1. الله ملجأي               [1-8].

2. طلب الخلاص           [9-18].

3. الحياة غالبة الآلام        [19-22].

4. تسبحة ليتورجية تعليمية [23-24].

1. الله ملجأي:

"عليك يارب توكلت (وترجيت)

فلا تحزني إلى الأبد.

بعد ذلك (ببرِّك) نجني وانقذني" [1]

في النص العبري: "فيك يارب أترجى وأتكل"، وقد جاء الفعل "أترجى" في زمن الديمومة، أي أن الفعل مستمر حتى الآن. وعلى الرغم من أننا لا نركز أنظارنا على حادثة معينة في حياة داود تخص هذا القول، إلا أنه من الواضح أن المزمور يتعلق بخطر معين أحدق بداود، وربما يتعلق بعدة مخاطر حلت به[597].

في القسم الافتتاحي للمزمور، يضع المرتل ثقته في عدل الله أو بره، بمعنى أن الرب عادل في تحقيق مواعيده الخاصة بغفران الخطايا وحماية مؤمنيه، لن يتنكر لها. إنه عادل، لن يتخلى عمن وضع كل اتكاله عليه وثقته فيه.

يتكل المرتل على برّ الله؛ البر بالتأكيد هو فوق الأمانة، لكن بدون الأمانة لا يوجد برّ. البّر هنا هو برّ الله لا برّ داود.

 إننا نجد ملجأنا في الله، لأنه (المكان) الخفي الذي إليه نهرب من الخطية بكونها عدو لنا، فننال برّه، هو صخرة صلدة، بيت للدفاع، قلعة حصينة ومأوى أكيد. بهذا لن تهزنا التجارب ولا نفقد سلامنا الداخلي.

v   الإنسان الذي يكرّس نفسه لله مرة وعلى الدوام، يعبر الحياة بعقل مستريح[598].

القديس مار إسحق السرياني

1. المسيح برنا وقداستنا (1 كو 1: 30).

نصرخ مع المرتل: "على الرب توكلت" ليس فقط وسط متاعب هذه الحياة، وإنما وسط معركتنا ضد الخطية، فهو وحده ملجأ لنا من الخطية، ليس فقط يغفر لنا خطايانا، أو يحمينا منها، وإنما يهبنا حياته عاملة فينا، فنحمل برَّه وقداسته بفضل عمل روحه القدوس فينا. "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة؛ الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17).

v   أول كل شيء - كما نعرف - هو الله، بدء كل عمل صالح وفي وسطه ونهايته[599].

القديس مرقس الناسك

2. المسيح هو صديقنا المقرَّب. يقول القديس أغسطينوس: [إنه هو أُذن الآب الذي يميل إليّ أنا شخصيًا ليصغي إليّ بتجسده وصلبه. أية رحمة أعظم من أن يعطينا ابنه الوحيد الجنس، لا ليعيش بيننا فحسب، وإنما ليموت لأجلنا؟! "أمِل إليّ أذنك"[2]].

إمالة الأذن تعني الاستعداد لسماع حتى الهمسة. يسمع الآب تنهدات القلب الخفية ويستجيب بكلمته المتجسد المبذول على الصليب.

لقد ظن الفلاسفة أن الله خلق الكون وحركه، تركه يتحرك طبيعيًا خلال قوانين الطبيعة، ليبقى في سمواته معزولاً عن خليقته. أما المرتل فيرى الله يميل بأذنه إلى قلب كل إنسان ينصت إليه ويستجيب بالحب العملي. إنه لن يتأخر لحظة عن الإنصات إلى أنَّات كل مسكين.

3. المسيح، إلهي، هو حمايتي وبيت ملجأي [2]، لذا يسأل المرتل إلهه أن يخلصه سريعًا، قائلاً:

"أمل إليّ سمعك، واسرع إلى خلاصي

كن لي إلهًا وعاضدًا وبيِت ملجأ لتخلصني" [2].

قبل أن يطلب المرتل الخلاص من الضيق يعلن اعتزازه بالله بكونه إلهه، وكأنه خاص به. انتساب الله إليه وهو إلى الله هو كل شيء بالنسبة له، وهو سرّ خلاصه.

شعر المرتل كأن فخًا قد نصبه له الصياد مخفيًا وسط الأحراش، وها هو ينتظر مصيره، لكنه يجد الله إلهه هو ملجأ له، يفتح له مقدسه ليحميه من مضطهديه[600].

يرى مار اسحق السرياني أن المؤمن لا ينتظر وقت التجربة ليلجأ إلى الله، بل يطلب الله أولاً، فيكون ملجأه متى حلت ضيقة.

v   قبل أن تبدأ الحرب ابحث عن حليف؛

قبل السقوط في مرض ليكن لك طبيبك؛

قبل أن تحل عليك الأمور المحزنة صِلّ، ففي وقت أحزانك تجده وهو يسمع لك[601].

مار اسحق السرياني

v   كن يا الله حمايتي "وبيت ملجأ لتخلصني"، كمقدس أكيد أطير إليه لأجد سلامه.

v   أنت هو بيت ملجأي، إليك أركض. فإنني أين أهرب منك؟

هل الله غاضب عليك؟ أين تختفي منه؟... لكي تهرب من الله، أسرع إلى ربك! في الحقيقة لا توجد بقعة تهرب إليها من الله. ففي عيني القدير، كل شيء مكشوف وعريان، لذا يقول المرتل: "كن بيت ملجأ لي".

اجعلني معافًا فأطير حولك؛ فإنك ما لم تجعلني معافًا لا أقوى حتى على المشي، فكيف أقدر على الطيران؟!

القديس أغسطينوس

4. المسيح قوتي:

"لأنك أنت هو قوتي وملجأي.

فمن أجل اسمك تهديني وتعولني" [3].

يعلن المرتل المتألم للمرة الثانية عن ثقته الكاملة في الله بالنسبة له شخصيًا، إذ يكرر المرتل ياء الملكية: "قوتي، ملجأي".

v   أنت قوتي في احتمال مضطهديّ، وملجأي الذي إليه أهرب منهم.

القديس أغسطينوس

v   الإيمان الثابت برج حصين، فبالنسبة للمؤمن المسيح هوكل شيء[602].

مار اسحق السرياني

إنه ملجأي، فيه أجد راحتي وأماني، لكن هذا لا يعني أنه ليس لي دور إيجابي في حياتي، إذ يقدم نفسه لي "قوتي" لكي أجاهد وأعمل معه وبه.

5. المسيح قائدي وراعيَّ (يقوتني):

"فمن أجل اسمك تهديني وتعولني" [3]

v   قائدكم نفسه الذي ارتضى أن يُجرب لأجلكم، قد وضع نفسه أمامكم مثالاً بسلوكه الشخصي.

v   هو يعولني لأتقوى فأتناول طعام الملائكة، هنا على الأرض؛ ذاك الذي وعدنا بالطعام السماوي يقوتنا باللبن متشبهًا بالأم الرؤوم، لأنه هكذا تُرضع الأم طفلها وتنقل من جسمها الطعام الذي يُناسب الرضيع.

القديس أغسطينوس

إذ أحاط به العدو وسقط المرتل في ضيقات كثيرة، لم يجد في إلهه المخلص له من الضيقات فحسب، وإنما القائد الغالب لحسابه والراعي المتحنن على رعيته. أنه يعولنا كخالق مهتم باحتياجات أجسادنا ونفوسنا وأرواحنا وعقولنا الخ...

إن جعت تجده طعامك السماوي؛

وإن تعريت يغطيك بدمه فيسترك أبديًا؛

وإن أحاط بك الأعداء قاد المعركة الروحية بنفسه،

وإن تُهتَ قدم نفسه الطريق والحق،

وإن مُت فهو قيامتك.

لن يشعرك بحرمان قط؛ هو الطبيب والعريس والصديق والباب والحياة والفرح والغنى الخ...

6. المسيح يخلصنا من الفخاخ السرية التي ينصبها الأعداء لنا.

"تخرجني من هذا الفخ الذي أخفوه لي،

لأنك أنت ناصري" [4].

كان أعداء داود النبي أقوياء، وعنفاء، وماكرين؛ إذ عجزوا عن تحطيمه بالعنف استخدموا الخداع والمكر لاصطياده كما في فخ. لقد شبه نفسه مرات كثيرة كعصفور في فح، لكن الله يكسر الفخ ليُنجيه.

ما دام الله يهبنا روحه القدوس عاملاً فينا فلنطِر كما إلى السماء عينها، فلا يقدر عدو الخير أن يصطادنا بفخاخه المخفية على الأرض. لنرتفع بروحه إلى الحياة العلوية فلا يحطمنا العالم بأشراكه!

v   رأسنا فوق، وهو حرّ. لنلتصق به بالحب، حتى نتحد معه بالأكثر فيما بعد بالخلود. لنعلن جميعًا: "تخرجني من هذا الفخ الذي أخفوه لي، لأنك أنت حمايتي".

القديس أغسطينوس

7. المسيح حافظ روحي:

"في يديك استودع روحي.

لقد فديتني يارب إله الحق" [5].

هذه الكلمات الأخيرة التي نطق بها المخلص عند موته بالجسد (لو 23: 46)، تخص كل مؤمن. إنها معين قوي وسند له في ساعة موته.

ثقة المرتل البسيطة وبرهانه هذا عليها، التي بها يستودع حياته كلها بين يديْ إلهه، تشبه ما ينطق به إنسان يتنفس الصعداء عندما يبلغ حماية حصون قلعة بعد معركة حامية ويشعر بأنه قد زال عنه الخطر[603]. لقد نطق بها القديس اسطفانوس (أع 7: 58)، وهو يُرجم، فقد شعر بالأمان عندما رأى السموات مفتوحة وابن الإنسان قائم عن يمين العظمة، كمن يُرحب به ويدخل به إلى الفردوس. لم يرتبك أمام الحجارة التي تنهال عليه، ولا خشى الراجمين، بل تحنن عليهم وطلب لأجل غفران خطاياهم، لعلهم يتمتعون بما يناله هو.

كما استودع المرتل روحه وحياته بين يدي الله، هكذا يرى المؤمن وسط آلامه، أن إنسانه الخارجي يُفني بينما الداخلي - الذي يحتضنه الرب بنفسه - يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16).

أخيرًا، فأن المرتل لا يكتفي بالجانب السلبي أن يخرجه من الفخاخ الخفية المنصوبة له، لكنه في عوز إلى الدخول في الأحضان الإلهية، ليعيش مطمئنًا ومتهللاً! هناك في الأحضان الأبوية ندرك مفهوم الفداء لا كخلاص من الخطة (العدو) فحسب وإنما متعة بالله نفسه، الأمر الذي لن يتحقق بمجهود ذاي أو بشرى إنما هو عمل الله في المؤمنين المجاهدين قانونيًا، بالروح والحق. لذا يقول المرتل:

"لقد فديتني يارب إله الحق.

أبغضت الذين يحفظون الباطن مجانًا.

وأنا عليك يارب توكلت" [6].

8. المسيح مصدر فرحي وبهجتي:

"أتهلل وأفرح برحمتك.

لأنك نظرت إلى تواضعي،

وخلَّصتَ من الشدائد نفسي" [7].

ثمر الخلاص من الأعداء (الخطايا) والدخول إلى الحضرة الإلهية هو الفرح الداخلي والسلام الحقيقي، حيث تلهج النفس بحب الله الذي رفعها من المذلة وأنقذها من الشدائد. لقد أدرك المرتل وسط آلامه معاملات الله السابقة معه، فتأكد من صدق مواعيده، وشعر أنه وإن سمح له الله بالشدائد لكنه دائم النظر إليه. إنه يبصره ويزن شدائده، ويضع لها حدودًا، إذ يعرف بحكمته السماوية وأبوته إمكانية احتمالنا، وما هو لنفعنا. يشبه الفخَّاري الذي لا تفارق عيناه الآنية التي في النار، ويعرف درجة الحرارة المناسبة لكل إناء، والمدة التي يبقى فيها داخل الفرن.

أبّوة الله ورعايته الدائمة وتخطيطاته هي سرّ فرحنا!

v   الفرح في الله أقوى من الحياة الحاضرة؛ من يجده ليس فقط لا يدقق في فحص الآلام، بل ولا حتى يفكر في حياته، ولا يرتبك بشيء قط، ذلك إن تأهل بحق لهذا الفرح[604].

مار اسحق السرياني

ولقد أدرك المرتل أن هذا الفرح النابع عن الثقة في الله والتمتع بخلاص النفس من الأعداء الحقيقيين - أرواح الشر في السمويات والخطايا - هو عطية توهب خلال الاتضاع، إذ يقول: "لأنك نظرت إلى تواضعي".

v   بأمر واحد فقط يمكنك أن تهزمهم (أي الشياطين)، بالاتضاع. ما أن تقتنيه حتى تنحل كل قوتهم[605].

v   كنز الاتضاع داخلك، هذا هو الرب (نفسه) [606].

مار اسحق السرياني

9. المسيح مصدر التحرّر حتى من الموت.

"لم تحبسني في أيدي العدو

أقمت في السعة رجليَّ" [8].

إن كان داود النبي قد فلت من يديْ شاول عندما تآمر أهل قعيلة عليه، فقد أدرك في هذا عربونًا لنعمة الحرية التي ينالها المؤمن من الله مخلصه، الذي به نفلت من يديْ إبليس ونهرب من جحيمه، لندخل إلى سعة الفردوس ورحبه. إنه يفك قيود المقطره لتجري أقدامنا في طريق الله الملوكي بخطوات سريعة، فلا يلحق بنا العدو مرة أخرى.

إن كان طريق الخلاص ضيق، لكن ما أن نمد أرجلنا فيه حتى نجده متسعًا ورحبًا، على خلاف طريق الشر يبدأ بالاتساع لكنه متى دخله إنسان أغلق عليه ونُزع عنه سلامه الداخلي وحُطمت حياته! نير المسيح حلو وعذب، أما فرح العالم فمرُّ وقاتل!

اختبر المرتل وسط آلامه "السعة"، سعة طريق الرب وسعة قلب المؤمن. فإنه إذ يلمس عمل الله وحبه وسط الضيقات يتسع قلبه للمتألمين والمجروحين والمحتاجين، بل وحتى لمضايقيه. الآلام التي تحطم غير المؤمن فتزيده أحيانًا كفرًا ومرارة، تهب المؤمن الحقيقي خبرة الحب للغير واتساع القلب، إن أمكن للعالم كله... فيصير المؤمن كمخلصه الذي بسط ذراعيه وسط آلام الصليب ليحتضن العالم كله بحبه الإلهي! هذه هي الحرية التي يهبها المخلص لمشاركيه في الآلام، حرية الحب للغير ولله دون حوف حتى من الموت!

v   "لم تحبسني في أيدي العدو" [8]... إننا نتوق أن نبلغ ملكوت الله لكن ليس بالموت؛ لكنه بالضرورة يخبرك: عليك أن ترحل في هذا الطريق. هل تتردد أيها الإنسان المائت في أن تسلك هذا الطريق الذي سلكه الله لأجلك؟

كلنا مدعوون للموت، فإن متنا ميتة صالحة نتحرر من يديه. لكن من يموت ميتة شريرة (أي يموت في شره)، في خطاياه، يُحبس في يديْ الموت، لينال في اليوم الأخير لعنة إلى الأبد. الله ربنا يحررنا من يديْ عدونا الذي يحبسنا خلال شهواتنا (رو 8: 1-13). لكن إذا ما كانت شهواتنا قوية ومنضبطة تصير لازمة وضرورية؛ وحينما تحررنا قوة الله حتى من الضروريات ماذا يمكن للعدو أن يحبس فينا؟

v   "أقمت في السعة رجليَّ" [8]. الطريق دون شك ضيّق (مت 7: 14) بالنسبة للعامل، أما بالنسبة للمحب فهو متسع. الطريق نفسه الضيق يصير رحبًا!

v   "أقمت في السعة رجليَّ". إن قيامة ربي التي أنا متيقّن منها، ووعده لي (بالقيامة) يحرر حبي من قيود الخوف، لهذا يتقدم حبي أكثر فأكثر إلى السعة في أبعاد الحرية.

القديس أغسطينوس

2. طلب الخلاص:

يستهل المرتل هذا القسم بالتضرع المعهود أن ينعم عليه الرب بالرحمة. بينما يصف القسم السابق مراحم الله في الماضي، يتحدث هذا القسم عن امتدادها والحاجة إليها في الحاضر.

يُعزي المؤمنون المتاعب التي تحل بأجسادهم ونفوسهم إلى خطاياهم، لهذا يضرعون إلى الله غافر الخطايا.

"ارحمني يارب فإني حزين.

تكدّرت بالغضب عيناي ونفسي وبطني" [9].

تُلائم هذه الكلمات خبرة القديسين المتألمين في كلا العهدين، إذ يعترف الكل بضعفاتهم، وبالتالي حاجتهم إلى مراحم الله. الخط الواضح في حياة جميع القديسين هو الصراحة، خاصة مع الله، إذ هنا يعلن الرسول عن نفسه أنه حزين، يحتاج إلى عون إلهي.

يصرخ المرتل طالبًا الرحمة، مستنجدًا بالله من خطاياه، خاصة الغضب، فإن العدو بكل طاقاته لا يقدر أن يُحطمه أما غضبه على الغير فيُحطم بصيرته الداخلية (عينيه) ونفسه حتى بطنه أي جسده.

v   لأنه طالما يبقى ذلك الغضب في قلوبنا، ويعمي بظلمته المضرة عين النفس، لن نقدر أن نقتني حكمًا عادلاً أو تمييزًا ولا نحظى بالبصيرة التي تنبع عن نظرة مخلصة، أو عن نضج المشورة، كما لا نستطيع أن نتمتع بشركة الحياة أو نستعيد البر، أو حتى تتوفر لنا القدرة على التمتع بالنور الحقيقي الروحي، لذا يقول: "تكدرت بالغضب عيناي". هكذا لا نقدر أن نشترك في الحكمة حتى ولو حُسبنا بالإجماع أننا حكماء، لأن "الغضب يستقر في حضن الجهلاء"[607].

القديس يوحنا كاسيان

يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم[608] عن بركة "الغضب" إن وجه في طريق الحق، إذا ما غضبنا على خطايانا وألقينا باللوم على أنفسنا لا على الغير. ويشبهه بالسيف الذي يجب حفظه لاستخدامه بطريق لائق[609].

لقد دخل المرتل في متاعب كثيرة من الأعداء الخارجيين ومن ضعفاته حتى تمررت كل حياته، لكن حضرة الله والثقة فيه والتمسك بمواعيده، هذه جميعها تحوّل حياته من المرارة إلى العذوبة.

لقد صوّر لنا المرتل الحزن الشديد الذي يلاحقه، هكذا:

أ. لحق الضرر ببصيرته ونفسه وجسده [9]، أي بكيانه كله... فالحاجة ملحة إلى تدخل الخالق نفسه كمخلص له.

ب. كادت حياته أن تفنى بوجع القلب وسنيه بالتنهدات [10]: عُرف داود من صباه بالشخص الشجاع الذي لا يهاب الموت؛ قاتَل أسدًا ودبًا، وحارب جليات الجبار... وفي هذا كله لم يفارقه مزماره، ولم تنزع عنه بهجة قلبه. لكنه في لحظات يشعر كأن حياته كلها آلام قلبية خفية، لم يقتنِ من سنيه إلا التنهدات العميقة.

غالبًا ما ينسى الإنسان - وقت محنته - الأيام الهادئة المفرحة، حتى ليحسب عمره سلسلة لا تنقطع من الأوجاع... لكن داود النبي حوّل حتى هذه المشاعر المُرّة إلى مزامير فيها تمتزج المراثي بالتسابيح، والتضرعات بالشكر، والصراخ بالتهليل.

ج. اهتزت قوته وأصاب الانحلال هيكله العظمي، وكأنه لم يعد بعد فيه رجاء حسب الفكر البشري، إذ يقول: "ضعفت بالمسكنة قوتي، واضطربت عظامي" كأنه يقول: صرت مسكينًا يستحق حالي الرثاء إذ زالت عني كل قوة للحركة، وصار حالي لا علاج له لأنه هزَّ كل كيان عظامي.

د. صار المرتل عارًا وخزيًا في أعين جميع أعدائه؛ وفزع الأقرباء والأصدقاء من رؤيته... حسبه الكل كميت فهربوا منه، متطلعين إليه أن لا موضع له بينهم، وإنما يلزم دفنه خارج المحلة. صار في أعينهم كإناء خزفي مكسور يُلقى خارجًا بغير ترفق أو عناية... بهذا صار يُعاني من الشعور بالعزلة أو الوحدة.

"صرتُ عارًا بين جميع أعدائي،

ولجيراني جدًا،

الذين كانوا يبصرونني هربوا عني خارجًا" [11]. 

هرب الكل منه، إذ تطلع إليه الأعداء في ضيقته وحسبوه إنسانًا رديئًا، حلَّ عليه غضب الله؛ فصار بؤسه مادة غناء لهم وعلّة سرورهم وسخريتهم! أما حدث هذا مع السيد المسيح نفسه الذي أسلموه للمحاكمة ظلمًا، وكانوا يستهزئون به ويسخرون منه، ويبصقون على وجهه؟! يقول عنه النبي: "مُحتقر ومخذول من الناس... مُحتقر فلم نعتد به" (إش 53: 3).

أما ما هو أكثر قسوة، فهو أن الأصدقاء قد خشوا الالتصاق بداود حتى لا يُحسبون معه خونة لشاول الملك ولبلده، ولئلا يكون مصيرهم كمصير أخيمالك الكاهن وأهل بيته لقبوله داود ورجاله وتقديم المساعدة لهم دون علمهم بموقف شاول منه. الذين كانوا يُبجلون داود وهو في قصر الملك صاروا غرباء عنه.

ألم يتحقق هذا كله بصورة أكثر ألمًا مع السيد المسيح، حيث أنكره بطرس الرسول ثلاث مرات، وخانه يهوذا، وتركه التلاميذ وهربوا... وبقى على الصليب يجتاز المعصرة وحده.

لقد شارك الرسول بولس سيده قائلاً: "لنخرج خارج المحلة ونحمل عاره"... حين تركه الأصدقاء والأحباء لم يتحطم، بل حسب ذلك مجدًا أن يُشارك مسيحه وحدته وعاره!

في وسط الشعور بالعزلة واليأس كان الله وحده هو صديقه، وانصبَّ رجاؤه في رحمة الله وحدها، إذ هو وحده قادر أن يخلصه من العزلة المؤلمة.

تقتل الآلام نفس غير المؤمن، بشعوره بالعزلة، أما المؤمن فيجدها طريقًا للتمتع باستجابة الله له في حنوٍ، والتمتع بالحضرة الإلهية، في الوقت الذي فيه يتركه أصدقاؤه الأرضيون ويغلقون قلوبهم أمامه. بمعنى آخر بينما يُعاني من العزلة فيصير كميت، يعلن الله عن ذاته في داخل نفسه ليختبر الحياة المقامة: "نُسيت مثل الميت من قلبهم... لينر وجهك على عبدك" [12، 16].

هـ. لم يقف الأمر عند سخرية الأعداء منه وخوف الأصدقاء من الالتقاء معه، بل اجتمعت قوى الشر لمقاومته ليحبكوا التآمر ضده، إذ لم يقبلوا بأقل من رقبته.

"اجتمعوا عليّ جميعًا،

تآمروا في أخذ نفسي" [13].

إنه من المحزن حقًا أن يجتمع الشر معًا بروح الوحدة لاتفاقهم على أمر واحد، هو مقاومة أولاد الله، كما سبق فاجتمعت القيادات اليهودية الدينية مع قوى الدولة لصلب رب المجد يسوع. يقفون صفًا واحدًا ليعملوا معًا، بجدية وحكمة بشرية، بينما كثيرًا ما يدبُّ الشقاق بين المؤمنين ويسلكون بروح التراخي والتهاون. وكما سبق فقال السيد المسيح إن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم.

في كل هذه المتاعب تعلّم المرتل الاستمرار في صراعه في الصلاة دون ملل، متمسكًا بثقته في إمكانية خالقه وحبه له. لقد سلبه الأعداء سمعته الطيبة، وحرموه الشعور بأمان الجماعة، لكنهم لم يقدروا أن ينزعوا عنه تعزيته ولا أن يحرموه التصاقه بالله. لهذا إذ يقول: "وأنا يارب عليك توكلت" [14]، يكمل: "قلت أنك أنت هو إلهي وفي يديك حظي". أنت إلهي الشخصي الذي يعرف أسرار حُبي الداخلي، والذي في يديه كل حياتي وعمري!

مرة أخرى لا يقف المرتل عند طلب الخلاص من الأعداء المطاردين إياه [15]، وإنما يقول: "لينر وجهك على عبدك، وخلصني برحمتك يارب" [16].

أنا عبدك ولستُ عبدًا للناس، لا أطلب مديحهم ولا رفقتهم ولا مكافأتهم، إنما أطلب وجهك ينير في قلبي فأستنير. ويرى القديس أمبروسيوس أن هذا "العبد" هو كلمة الله الذي تجسد وصار لأجلنا عبدًا، فقد حمل آلامنا دون أن ينفصل عن أبيه، بكونه كلمته.

v   كلمة "عبد" تعني الإنسان الذي تقدس فيه، الإنسان الذي مُسح فيه. أنها تعني ذاك الذي صار تحت الناموس، ووُلد من العذراء... يقول: "طُرحت وانحنيت إلى الانقضاء" (مز 38). من هو هذا الذي انسحق (انحنى) إلى الانقضاء سوى المسيح، الذي جاء لكي يُحرر الجميع بطاعته؟![610]

القديس أمبروسيوس

بالآلام نختبر الاتضاع والصلاة الدائمة، وهما طريقا التمتع بإشراقات وجه الله علينا.

v   كن مرذولاً في عيني نفسك، فترى مجد الله في داخلك، فإنه حيث يوجد الاتضاع، هناك يسكن الله.

إن كان لك اتضاع في قلبك، يُظهر الله مجده فيه[611].

مار اسحق السرياني

v   الصلاة تجعل الراهب مساويًا للملائكة، إذ تكون رغبته هي أن يرى وجه الآب الذي في السموات[612].

الأب أوغريس

يرى بعض اليهود أن صرخة المرتل هنا: "لينر وجهك" هي صرخة طلب مجيء المسيا الذي يُخلص الإنسان من الشر.

بينما يدخل المرتل خلال الآلام إلى الاستنارة بمجد الله بروح الاتضاع والصلاة، إذا بالأشرار ينحدرون إلى أعماق الجحيم بالنفاق والخداع والكذب. يتكلم قلب التقي المتألم فيرتفع إلى مجد السماويات بينما يتكلم لسان الشرير الغاش فينحدر بالكبرياء إلى الهلاك.

"يخزى المنافقون ويساقون إلى الجحيم

ولتصر خرساء الشفاه الغاشة المتكلمة على الصديق بالإثم والكبرياء والمحتقرة" [17-18].

يصمت الأشرار في رعب وخوف حين تتبدد كل مؤامراتهم؛ فيرتفع الأتقياء المتألمون، بينما ينحدروا هم في الجحيم... اللسان الكاذب يعجز عن أن يتكلم!

v   إن صنت لسانك يا أخي يهبك ندامة في القلب، فترى نفسك، وهكذا تدخل إلى الفرح الروحي. أما إذا غلبك لسانك - فصدقني فيما أقوله لك - فإنك لن تقدر أن تهرب من الظلمة[613].

مار اسحق السرياني

3. الحياة الغالبة للآلام:

يا لعظم صلاح الله وعذوبته اللانهائية! فإن تذكّر المراحم في الماضي والتأكد من استمرارية عون الله، يبعث فينا روح التسبيح والشكر.

الله حاضر دائمًا حتى في اللحظات التي يبدو فيها كأنه غائب تمامًا. الثقة في الله لا تقودنا إلى عدم الألم، وإنما تقودنا إلى التمتع بالحضرة الإلهية وسط الآلام، فنرتفع فوق الألم، وهكذا نتحول من التضرع إلى الرجاء، ومن الثقة إلى اليقين، ومن الإيمان إلى المعاينة، ومن الرثاء إلى الشكر والحمد لله. فإننا إذ ننعم بالاستجابة الإلهية ينفجر القلب شكرًا وتسبيحًا.

هذه الثقة لا تنزع الألم عن حياتنا بل ترفعنا فوق الألم، فنصير كمن يسير مع السيد المسيح على المياه، لا ننشغل بها بل بعريسنا السماوي المرافق لنا. خلال سيرنا معه فوق تيارات الألم ندخل إلى عذوبة الحوار مع عريسنا، والتمتع بحلاوة صلاحه، إذ يقول المرتل:

"ما أعظم كثرة صلاحك (حلاوتك) يارب

الذي ذخرته للذين يخافونك.

وصنعته للمتكلين عليك

تجاه بني البشر" [19].

v   "ما أعظم صلاحك (عذوبتك) غير المتناهٍ يارب" [19]. عند هذا الحد، تنطلق من النبي صرخة تعجب ودهشة من أجل غنى عذوبتك يا الله خلال استعلانات متنوعة؛ تلك العذوبة التي ذخرتها للذين يخافونك.

إنك بعمق تحب حتى الذين توبخهم، وذلك خشية أن يعيشوا حياة الإهمال في غير مبالاة، لذلك تحجب عذوبة حبك عن الذين يكون خوفك لصالحهم.

"وصنعته للمتكلين عليه تجاه بني البشر" [19]؛ لكنك جلبت هذه العذوبة في كمال للذين يتكلون عليك، فإنك لن تحرمهم مما تاقوا إليه طويلاً حتى المنتهى.

"تجاه بني البشر"؛ إنك لا تمنعها عن بني البشر الذين لا يعيشون بعد حسب آدم بل حسب ابن الإنسان.

القديس أغسطينوس

v   "تخفيهم بستر وجهك" [20] أي مقام هو هذا؟ إنه لم يقل "تخفيهم في السماء"، أو "تخفيهم في الفردوس"، أو حتى "تخفيهم في حضن إبراهيم"... فإن كل شيء يُحسب بلا قيمة إن كان خارجًا عن الله.

ليت ذاك الذي يحمينا في رحلة هذه الحياة هو نفسه يكون مسكننا عندما تنتهي هذه الحياة.

"من مقاومة الناس" [20]، فإنه ما من مقاومة يخفونها هناك - أي في ستر وجهك - ينزعجون.

 "تظللهم في مظلتك" [20]. ما الذي تشير إليه المظلة؟ إنها كنيسة هذا الدهر. إنها على شكل خيمة، لأنها راحلة عن هذه الأرض. فإن المظلة هي الخيمة التي يستخدمها الجنود حينما يقيمون لهم معسكرًا. الخيمة ليست بيتًا (مستقرًا)! حاربوا اذن في المعركة (الروحية) كغرباء، حتى أنكم بعد أن تستظلوا في مظلته يرحّب بكم بالمجد في بيتكم الحقيقي. ففي السماء يدوم بيتكم أبديًا، إن عشتم حياة صالحة في خيمتكم هنا على الأرض.

القديس أغسطينوس

لمن هذه العطايا الفائقة؟ اجتياز الألم بروح النصرة والغلبة، والتمتع بعذوبة صلاح الله، الدخول في مظلة الله لللاختفاء في ستر وجهه حتى يعبر بمؤمنيه إلى البيت الأبدي المصنوع بغير يد، دون مبالاة بمقاومة الناس. هذه العطايا، كما يقول المرتل، قد ذخرها الله لخائفيه المتكلين عليه [19]. إنه يعطي خائفيه عربون هذه العطايا ويذخر لهم كماله - التمتع بكمال عذوبة الله ورؤية وجهه الإلهي والتمتع بالبيت الأبدي - لنوالها في يوم الرب العظيم.

فمن جهة الرجاء أو الاتكال على الله يقول مار اسحق السرياني: [الرجاء الإلهي يرفع القلب[614]]. ومن جهة خوف الله فيقول:

v   خوف الله بدء كل فضيلة، وقد قيل إنه ابن الإيمان. يُزرع في القلب عندما ينسحب ذهن الإنسان من ارتباكات العالم لكي يُحدّ من تجوّل الأفكار إلى التأمل في إصلاح الأمور المقبلة.

v   خوف الله هو بدء حياة الإنسان الحقيقية. لكن خوف الله لا يقبل أن يقيم في نفس مشتتة في أمور خارجية.

مار اسحق السرياني[615]

بالرجاء في الرب بثقة مع التمتع بخوفه ننعم بعذوبة حبه ونختبر حلاوة صلاحه في هذا العالم، لنتمتع بالكمال في الدهر الآتي:

يختم المرتل هذا القسم بالتسبيح لله من أجل معاملاته معه، قائلاً:

"مبارك الرب لأنه عجَّب مراحمه في مدينة حصينة.

وأنا قلت في تحيّري:

أترى طُرحت من قدام عينيك؟!

لذلك سمعت يارب صوت تضرعي

إذ صرخت إليك" [21-22].

إذ تمتع بالبركات الإلهية السابق الحديث عنها يسبح الرب الذي جعل من مدينة حصينة تشهد لعجائب مراحم الله الفائقة، معترفًا أنه في وقت ضيقته شعر في لحظات ضعفه أنه قد طُرح من قدام عينيه. حسب أن الله قد تجاهله أو طرده من قدامه... لكنه سرعان ما اختبر صوت الرب السامع لصرخات القلب والصانع عجائب مع خائفيه.

إن عبر بنا فكر شك أو ضعف إيمان لا نتوقف عن الصلاة بلجاجة حتى نحمل ذات خبرة المرتل، أن الله يبقى أمينًا في مواعيده بالرغم من عدم أمانتنا!

4. تسبحِة ليتورجية تعليمية:

إذ اختبر المرتل عذوبة صلاح الله وسط آلامه، فتحوّلت مرثاته إلى تسبيح وشكر، يدعو الجماعة المقدسة أن تتمتع بذات الخبرة، يدعوها لمحبة الله، والثقة في عدله وبره وأن يمتلئوا بالشجاعة وليقوَ قلبهم خلال اتكالهم عليه.

"حبوا الرب يا جميع قديسيه،

لأن الرب ابتغى الحقائق

ويجازي الذين يعملون الكبرياء بإفراط.

تشجعوا وليقوَ قلبكم يا جميع المتكلين عليه" [23-24].

خلال هذه التسبحة الجماعية يتعلم المؤمنون الالتزام بحب الله في شجاعة، فإن كان المرتل قد تحدث عن بركات مخافة الرب، فإن المخافة الحقة لا تنفصل عن حب الله. ومن يخاف الله يلزمه أن يُقوي قلبه ولا يخاف الناس.

 


 

في يديك استودع روحي

v   في وسط آلامي تعلن ذاتك لي يا إلهي.

أراك أنت بري وقداستي،

تبدأ معي طريق القداسة وتجتازه معي حتى أبلغ كماله!

v   أجدك صديقي العجيب،

حين يهرب الكل عني،

تميل بأذنك لتسمع تنهدات قلبي الخفيّة!

v   تفتح لي أبواب حبك، فأنت بيت ملجأي.

أنت إلهي وعضدي ضد كل تجربة!

v   أنت قوتي... بك ومعك أعمل لحساب ملكوتك فيّ!

أنت قائدي، تهديني إلى الطريق الملوكي.

أنت راعيّ، تقوتني بجسدك ودمك المبذولين.

تهب لي روحك أنهار مياه تروي وتفيض!

v   أنت مخلصي...

ترفعي كما إلى سمواتك،

فلا أسقط في فخاح العدو الخفية!

v   أنت حافظ نفسي،

تجدد إنساني الداخلي مع فناء الخارجي،

تهبني بروحك القدوس صورتك داخلي!

v   أنت هو فرحي وبهجة قلبي،

ترفعني فوق الآلام،

وتهبني عذوبة صلاحك.

v   أنت محرري حتى من الموت،

أعبر خلال ظل خيمتك إلى البيت السماوي.

تحول القبر الضيق إلى سعة فردوسك!

v   في وسط آلامي حسبت أنك طردتني من أمام عينيك،

فإذا بي أراك الصديق الملازم لي.

عيّرني الأعداء وتركني الأصدقاء،

أما أنت فتلتصق بي في محنتي.

v   تآمر الكل ضدي،

أما أنت فجعلتني مدينة حصينة.

v   أسبحك وأبارك اسمك؛

ليت كل نفس تشترك معي في حمدك!

<<

 


 

المزمور الثاني والثلاثون

الفرح بالغفران

مزمور الصراحة والاعتراف بالخطية:

هو مزمور التوبة الثاني، يدعوه بعض الدارسين مع المزامير (51، 130، 145) مزامير بولسية (تحمل فكرًا يشابه فكر الرسول بولس)، إذ تتحدث بقوة عن عمل الله الخلاصي في حياة الخاطي التائب.

إنه جوهرة الجمال الروحي وتدبير الله الخلاصي. بينما تحتشد الدموع والعبرات والأسى في المزمور السادس، أول مزامير التوبة، نشعر هنا بمدى الراحة التي يتمتع بها الخاطي الذي لا يكتم خطيته، بل يقول: "أعترف للرب بإثمي" [5]. فالخطية الرئيسية هنا ليست العصيان وإنما بالحري الرياء. فمفتاح المزمور هو كلمة "أكتم" أو "لا أكتم" [5]. فعندما رفض المرتل أن يكشف عن إثمه يقول: "أنا سكت فبُليت عظامي، من صراخي طول النهار" [3]. وإذ كشف له الله عن الخطية غُفرت، وطلب المرتل إلا يكون "في فمه غش" [2]، سائلاً أن تحيط به رحمة الله [12] أو حب الله الذي يقيم عهدًا مع شعبه ويود خلاصهم.

صلى داود النبي المزمور الحادي والخمسين بعدما أشار إليه ناثان بأصبعه، قائلاً: "أنت هو الرجل" (2 صم 12: 7)، فكان المزمور اعترافا من داود بخطيته؛ ثم ترنم بهذا المزمور إذ اختبر بركات غفران خطيته الموجهة ضد الله نفسه وضد بتشبع وأوريا الحثي. وكأن هذا المزمور يأتي بعد المزمور 51 بحسب الترتيب التاريخي.

أُستخدم بعد ذلك في العبادة الجماعية كما يظهر من الأية [11]: "كثيرة هي ضربات الخطاة، والذي يتكل على الرب الرحمة تحيط به".

حسب طقس بعض الكنائس البيزنطية يتلو الكاهن هذا المزمور ثلاث مرات كنوع من التطهير الشخصي والأستعداد لخدمة سرّ المعمودية.

أما اليهود الـ Ashkenazi الذين من أصل شرق أوربا، فيتلون المزمور كصلاة مسائية في ثاني أيام الأسبوع (الأثنين).

يعتقد Grotius أن المزمور قد وُضع ليُرنم به في يوم الكفارة.

قيل إن هذا المزمور هو المزمور المفضل جدًا لدى القديس أغسطينوس؛ اعتاد أن يُصليه بقلب حزين وعينين باكيتين. عندما اقترب القديس من الرحيل من هذا العالم طلب أن يُكتب هذا المزمور - مع بقية مزامير التوبة - بحروف كبيرة على لافتة ضخمة، وتوضع مقابل سريره، وكان يردد كلمات هذه المزامير بقلب منسحق مع أنفاسه الأخيرة.

هيكل المزمور:

يرى بعض الدارسين أن بُنية هذا المزمور هكذا:

« بركة ينطق بها الكاهن على الشخص المتمتع بغفران خطاياه [1-2].

« سيرة شخصية تكشف عن مدى متاعب كتمان الإنسان لخطيته، والسلام الذي يحل به بالاعتراف بها [3-5].

« نصيحة وعظية يقدمها الكاهن من واقع خبرة الخاطي، أو ربما تكون قرارًا يردده جوقة المرتلين في الهيكل [6-7].

« أقوال تعليمية يرددها الكاهن باسم الله مع التشديد على الجانب التعليمي [8-10].

« أغنية تسبيح ختامية وشكر، تنشدها الجماعة كلها.

العنوان:

جاء العنوان في الأصل العبري "Mashil"؛ يعتقد البعض أنها اسم النغمة التي تُستخدم في التسبيح بالمزمور. ويعتقد البعض أنها اسم آلة العزف المستخدمة، وآخرون يرون أنها لفظ مشتق من فعل موجود في الأية [8] يعني: "يعلِّم، يكون حكيمًا، يضع في الأعتبار، يفهم". وقد جاء العنوان في النسخة السبعينية هكذا: "فهم لداود".

تكررت هذه اللفظة في عناين 13 مزمورًا (32، 42، 44، 45، 52، 53، 54، 55، 74، 78، 88، 89، 142)، ستة منها على الأقل نظمها داود.

أقسامه:

1. الغفران الإلهي           [1-6].

2. الحماية الإلهية           [7].

3. الأرشاد الإلهي           [8-10].

4. الفرح الإلهي             [11].

1. الغفران الإلهي:

"طوباهم الذين تركت لهم آثامهم

والذين سترت خطاياهم

طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة (معصية)

ولا في فمه غش" [1-2].

أ.  بخصوص كلمة "طوبى" التي تكررت في الأيتين [1، 2] راجع تعليقنا عليها في المزمور الأول، حيث رأينا أن التطويب نناله في السيد المسيح كلمة الله.

هذا المزمور يُعرف في العبرية "مزمور أشير"، وأشير هو اسم أحد الأسباط ومعناه "السعيد" أو "المطوّب".

المزمور الأول يكشف عن تطويب الإنسان الذي يرتبط بكلمة الله في أفكاره وفي قلبه وفي سلوكه العملي، أما هنا في مزمور أشير فنقرأ عن التطويب الممنوح لمن ينال بالتوبة غفران خطاياه، وتستر نعمة الله آثامه. إنه مزمور كل إنسان انحرف في ضعفه وضل الطريق، ثم سحبته نعمة الله، ليكون صادقًا مع نفسه ومع الله، يعترف بخطاياه.

المزمور الأول يعلن عن تطويب الحياة التأملية السامية غير المنعزلة عن السلوك اليومي، أما مزمور أشير فيعلن عن تطويب النفس المنسحقة بالتوبة، التي تعرف كيف تعبر بروح الله إلى عرش الله تغتصب الغفران.

المزمور الأول مزمور حافظ الناموس بالروح والحق، ومزمور أشير مزمور كاسر الناموس الذي تفاضلت عليه نعمة الله لينال برّ المسيح الكامل.

المزمور الأول يتحدث عن السيد المسيح الذي بلا خطية واهب التطويب، ومزمور أشير هو مزمور المسيحي الذي ينعم بالتطويب خلال اتحاده بمسيحه.

ب. أُشير في هذين العددين إلى أربعة ألفاظ عن الشرور:

أولاً: الأثم، في العبرية pesha، وتعني "تجاوز حد معين"، أو "فعل أمر ممنوع". تشير ضمنًا إلى التمرد ضد رئيس شرعي أو ضد ضمير الإنسان.

ثانيًا: الخطية أو hataah، تعني الخطأ في إصابة هدف ما أو علامة معينة، أو الابتعاد عن سبل الله كسهم طائش يخطئ الهدف.

ثالثًا: المعصية أو awon، تعني الانحراف عن مسار محدد أو عن وضع معين. تشير إلى اعوجاجٍ كما يحدث لشجرة معوجة بسبب ريح عاصف أو نتوء حدث في الأرض بسبب زلزال؛ من ثم فهي تعني حدوث شيء ضد النمو الطبيعي. هذا اللفظ يشمل كل هذه المعاني معًا.

رابعًا: الغش؛ تدل الكلمة على الزيف والخداع والمكر... الخ.

علاج هذه الشرور الأربعة يحتاج إلى ثلاثة أمور:

أولاً: المغفرة: الكلمة العبرية الأصلية تعني "رفع"، مثلما يُرفع الحِمْل الثقيل عن كاهل إنسان ينوء تحته. إن كانت الخطية هي تعدي على الناموس وعصيان للوصية الإلهية، فقد جاء السيد المسيح لا ليحمل مصراعي باب المدينة على كتفيه كما فعل شمشون، وإنما ليدفع حياته على الصليب ثمنًا ليحمل ثقل خطايانا، محررًا إيانا منها. جاء ليدعونا نحن المتعبين والثقيلي الأحمال إلى التمتع براحته (مت 11: 28).

جاءت الترجمة السبعينية هكذا: "طوباهم الذين تُركت لهم آثامهم" [1]. فإننا إذ عجزنا عن حمل خطايانا التي أُجرتها موت أبدي، تركناها لذاك القادر وحده أن يدفع الثمن عنا بإرادته ومحبته الإلهية.

ثانيًا: الستر: "والذي سُترت خطاياهم" [1]. لا يعني الستر هنا تجاهل الخطية، وإنما تعني أننا إذا لبسنا برّ المسيح بالصليب، صار بره عوض خزي خطايانا.

كما يتغطى تابوت العهد بكرسي الرحمة، حيث منه يتحدث الله مع شعبه، هكذا بالصليب يتغطى قلبنا كمسكن إلهي، لندخل مع الله في حوار الحب الدائم، واثقين أنه قد تغطى كل ضعف فينا لنحمل فينا حياة المسيح وقداسته ويحق لنا بروحه القدوس أن ننعم بالشركة مع الأب والدخول إلى عربون أمجاده.

ثالثًا: البراءة أو التبرئة من الأتهام: "لم يحسب له الرب خطيئة، ولا في فمه غش" [2].

لم يقل أنه بلا خطية، فإنه لم يوجد إنسان هكذا بعد السقوط إلا كلمة الله المتجسد، الذي من أجلنا صار إنسانا وهو العليّ. في الضعف نخطئ، لكن بالإيمان العامل بالمحبة لا تُحسب علينا الخطية، إذ يسدد هو الثمن. وكما يقول الرسول: "إذ نحن نحسب هذا، إنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذًا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع... ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة، أي أن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، وغير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة"، (2 كو 5: 14-19).

الخاطي الذي يتمتع بغفران خطاياه والستر عليها بدم المخلص ويُحسب كبريء لا يحمل في قلبه ولا في فكره ولا في فمه غشًا. يقبل الشركة مع المسيح "الحق"، فيكون صادقًا مع نفسه في توبته واعترافاته كما في إيمانه وثقته بالله وفي عبادته وتسابيحه وتشكراته، أمينًا في علاقته مع الله يصارحه بكل ما يجتاز حياته من ضعفات أو من خبرة القوة الروحية، من حب لله أو مخافة له، من رغبة في خدمته وحنين عميق نحو الانطلاق ليكون معه؛ مخلصًا مع الغير، لا يعرف الرياء، ولا الغش، يحب إخوته لكن ليس على حساب الحق؛ يترفق بهم لكن في حزم!

في الكتاب المقدس تشير كلمة "غش" دائمًا إلى الخطية، لأنها مخادعة، وباطلة وكاذبة، فلا أمانة في الخطأ. إن كان المتعدي نزيهًا في نظر الناس، لكنه يخدع نفسه، ويسلب الله، ويكذب على القدير، ويحتال على خالقه، بمحاولته الوثب لاعتلاء طريق آخر غير المسيح فيكون لصًا وسارقًا[616].

اقتبس القديس بولس الآيتين [1، 2] في (رو 4: 6-8)، ليختم تأكيده أنه لا نفع لأعمال الناموس الحرفية في ذاتها كختان الجسد لنوال الغفران، إنما الحاجة إلى عمل الله الداخلي ليصلح ما قد صار منحرفًا عن مساره الطبيعي.

إذ سمع داود النبي من ناثان النبي: "الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك؛ لا تموت!" (2 صم 12: 13). أدرك أن غفران الخطايا هبة مجانية يقدمها الله لمؤمنيه خلال محبته العملية الباذلة، "لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا" (1 بط 4: 8). ونحن أيضًا قد تمتعنا بهذه العطية خلال مياه المعمودية، حيث نُدفن مع مسيحنا ونقوم معه في جدة الحياة نحمل حياته المُقامة، كأعضاء مقدسة في جسد المسيح. لذا يرى كثير من آباء الكنيسة أن المرتل هنا يتحدث عن نعمة المعمودية.

v   يليق بي أن أرشد الذين هم على وشك التأهل لنوال الهبة الملوكية (المعمودية) في هذا الأمر، لتقدروا أن تعرفوا ما من خطية مهما تعاظمت يمكنها أن تصمد أمام صلاح السيد. حتى إن كان إنسان زانيًا أو مستبيحًا أو متخنثًا أو شاذًا في شهواته أو ملتصقًا بداعرات أو لصًا أو مخادعًا للغير أو سكيرًا أو عابد وثن، فإن قوة هذه الهبة وحب السيد هما عظيمان بالقدر الكافي الذي يجعل كل هذه الآثام تختفي، وتجعل الخاطي أكثر بهاءً من أشعة الشمس، فقط إن أظهر شهادة على حياة صالحة.

v   إنه الإيمان بالثالوث القدوس هو الذي يهب غفران الخطايا؛ إنه هذا الاعتراف الذي يهبنا نعمة البنوة[617].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بهذا تعرفون مدى فقركم أنتم الذين قبلكم السيد؛ كيف يستر عريكم بنعمته؛ وكيف يسربلكم بالمسحة برائحة الأعمال الصالحة؛ كيف يجعلكم بالزيت تشرقون بنور ساطع؛ وكيف تتخلون عن فسادكم في جرن الغسل؛ وكيف يرفعكم الروح القدس إلى حياة جديدة. كيف يكسو جسدكم بالثياب البهية، وكيف تشير المصابيح التي تمسكونها بأيديكم إلى استنارة النفس؛ وكيف يرفع داود صوته إليكم مترنمًا بأغنية النصرة: "طوباهم الذين غفرت لهم آثامهم، الذين سترت خطاياهم"[618].

الأب بروكلس من القسطنطينية

v   ليس من إنسان لم يكن خاطئًا، كما نترنم كثيرًا، قائلين: "طوبى للذين غفرت لهم آثامهم". لا نقول: "طوبى للذين لم يقترفوا خطية" بل "للذين غفرت لهم آثامهم". إن بحثت عن إنسان لم يرتكب إثم لن تجده؛ فكيف إذن يمكن أن يطوَّب؟ إنه يُطوَّب إن غُفرت آثامه، وسُتر ما قد اقترفه[619].

الأب قيصريوس أسقف آرل

بالمعمودية ننال غفران الخطايا ونتأهل لبدء حياة جديدة مقدسة، لكن في الطريق إذ نتعرض لضعفاتٍ، تبقى مراحم الله تنتظر توبتنا - المعمودية الثانية - لتقدم لنا الغفران.

v   كل الراغبين فيها (أي في نوال المغفرة) يمكنهم نوال رحمة من الله، وقد سبق فأخبرنا الكتاب المقدس إنهم يطوّبون، قائلاً: "طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطية، أي تاب عن خطيته ليتقبل مغفرتها من الله"[620].

القديس يوستين الشهيد

هذا التطويب الذي ننعم به خلال المعمودية والتوبة المستمرة، يُقدم لنا كأولاد لله محبوبين لديه، نعلن عن صدق بنوتنا له بالطاعة للوصية والتجاوب مع حبه.

v   طوبانا أيها الأحباء إن حفظنا وصايا الله في تناغم مع الحب. فخلال الحب تُغفر لنا خطايانا، إذ كُتب: "طوباهم الذين تُركت لهم آثامهم، والذين سُترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة، ولا في فمه غش". هذا التطويب يحلّ بالذين اختارهم الله خلال يسوع المسيح ربنا[621].

القديس أكليمندس الروماني

يرى العلامة ترتليان أن التطويب المقدم للمتمتعين بالمعمودية التي تُحسب شهادة بدون سفك دم، حيث يقبل المؤمن الدفن مع السيد المسيح، مؤمنًا بعمله الخلاصي، مقدمِّ أيضًا للشهداء الذي سُفك دمهم من أجل الإيمان دون أن تكون لهم فرصة نوال المعمودية [يدعو البعض الاستشهاد معمودية الدم].

v   من ثم قد عيّن كمصدر ثانٍ للتعزية، ووسيلة أخيرة للعون هي معركة الاستشهاد والعماد... إذ يتحدث عن سعادة الإنسان الذي يشارك في هذه الأمور، إذ يقول داود: "طوباهم الذين تركت لهم آثامهم، والذين سُترت خطاياهم؛ طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة". فإنه لا يُحسب شيء ضد الشهداء الذين بذلوا حياتهم بمعمودية الدم[622].

العلامة ترتليان

هكذا ننال غفران الخطايا خلال المعمودية كما في التوبة الصادقة والطاعة بالحب للوصية وإحتمال الشهادة؛ يقوم هذا الغفران على أساس دم السيد المسيح واهب المغفرة.

v   يقول داود: "طوباهم الذين تركت لهم آثامهم، والذين سترت خطاياهم؛ طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة"، مشيرًا إلى أن غفران الخطايا الذي أعقب مجيئه، هذا الذي "مزق صك خطايانا"، وسمَّره بالصليب (كو 2: 14) كما بشجرة، صرنا مدينين لله، هكذا بشجرة (بالصليب) ننال غفران الخطايا ومحو الأثام[623].

القديس إيريناؤس

على طريق التوبة والاعتراف.

"أنا سكت فبُليت عظامي

من صراخي طول النهار...

أظهرت خطيئتي، ولم أكتم إثمي.

قلت أعترف للرب باثمي.

أنت صفحت لي عن نفاقات قلبي" [3-6].

يروي لنا داود النبي عن خبرته، كيف حاول أن يخفي خطيته، وكيف صمت عدة شهور، ربما حوالي السنتين بعد سقوطه مع بتشبع زوجة أوريا الحثي. فقد وُلد الطفل الذي كان ثمرة الخطية قبل زيارة ناثان له (2 صم 11: 27؛ 12: 14). كان مدركًا لخطيته، لكنه لم ينهض طالبًا المغفرة؛ ولم يكن له سلام أو راحة، فقد بدأت عظامه تشيخ وتُبلى، واكتشف أنه يلزمه أن يتوب طالبًا الصفح عن خطاياه والاعتراف في حضرة ذاك الذي يرى كل شيء ولا يخفى عليه شيئًا ما.

أ.  صمت قاتل: "أنا سكت فبُليت عظامي" [3].

ربما ظن داود النبي أن الزمن كفيل بعلاج الخطأ، فقد أخطأ في حق الله وحق نفسه كما في حق بتشبع وزوجها وفي حق شعبه وجيشه، ولم يكن - في نظره - علاج للموقف سوى الصمت والكتمان. كان صامتًا من الخارج، ويبدو أن كل شيء يسير في وضعه الطبيعي، لكن عظامه في الداخل بدأت تشيخ وتُبلى، إهتز كيانه الداخلي وهيكله العظمي....

كثيرًا ما يخطر بفكر الإنسان أن يؤجل اعترافه حتى يتحسن حاله، لكن التأجيل في الواقع هو سكوت خارجي عن الخطأ، وتخدير للنفس لترك الخطية تملك في الأعماق مدة أطول في الظلمة حتى تتمكن بالأكثر على استلام مركز قيادة الحياة الداخلية؛ أما ثمر ذلك فهو اهتزاز هيكل الإنسان الداخلي.

v   "أنا سكت فبليت عظامي" [3]. إذ لم تقدم شفتاي اعترافا لخلاصي، خارت قواي، وتحولت إلى الشيخوخة الواهية. "من صراخي طول النهار" [3]، فقد نطقت بشكاوي ضد الله مملوءة تجديفًا، وذلك للدفاع وتبرير خطاياي.

v   يبدو الأمر متناقضًا، فمن جهة التزم بالصمت، ومن جهة أخرى لم يصمت. لقد صمت عما يجلب له الضرر. صمت عن الاقرار بخطيته والاعتراف بها، ولم يصمت متحدثًا جهارًا بتهور (تبرير خطاياه).

القديس أغسطينوس

v   تذكروا ذاك الذي قال بلسان إشعياء: "حدّث بخطاياك أولاً لكي تتبرر" (راجع إش 43: 26).

إذكروا أيضًا أنه سيوبِّخ من لا يفعل ذلك (أي من لا يقر بخطاياه)، إذ يقول: "هأنذا أُحاكمك، لأنك قلت لم أخطئ" (أر 2: 25).

افحصوا كلمات القديسين، إذ يقول أحدهم: "الصديق يتهم نفسه في بداية كلامه"، ويقول آخر: "اعترف متهمًا نفسي بخطاياي أمام الرب، وهو يغفر إثم قلبي"[624].

القديس كيرلس الكبير

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، إن الله يفتح أمامنا العديد من السبل ليمحو آثامنا، من بينها التزامنا بالاعتراف بخطايانا والاقرار بها وتذكرها على الدوام ومحاسبتنا لانفسنا[625]. فالإنسان بحق يقف أمام الله ويخضع له إن كان مخلصًا بالتمام مع نفسه معترفًا بطبيعته الخاطئة. في نفس الوقت يكتشف ويختبر الله كغافر للخطايا وواهب الطبيعة الجديدة.

ليس من طريق آخر أمام الله سوى أن يبدأ الإنسان بالاعتراف بخطاياه، قائلاً مع إشعياء النبي: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين" (إش 6: 5).

قبل الاعتراف تهددت صحة داود بالسقم الشديد والانهيار، وشاخت عظامه، وبليت بالأنين، وصارت نفسه كأسد جائع يزأر في البرية: "من صراخي طول النهار" [3].

كثيرًا ما يحدثنا الآباء عن خبراتهم بخصوص الاعتراف:

v   الفكر الخاطئ يضعف بمجرد كشفه كالأفعوان الدنس الذي ينسحب من كهفه المظلم المخفي، ويهرب مفتضحًا.

فالأفكار الشيطانية يكون لها سلطان علينا بمقدار ما تختبئ في قلوبنا[626].

الأب موسى

v   الشيء الذي يستحي الإنسان من كشفه وإظهاره هو دليل على أنه رديء، وأنه تجربة شيطانية.

القديس يوحنا كاسيان

v   لا شيء يكرهه الشيطان مثل أن تنكشف حيله.

الأب دوروثيؤس

ب. الخطية وأشواك البرية: إذ صمت ولم يعترف مقدمًا تبريرات لنفسه تحولت حياته إلى برية قاحلة لا تتمتع بمياه النعمة الإلهية، فأنبتت شوكًا وحسكًا كثمر طبيعي للخطية.

"لأن يدك ثقلت عليّ بالنهار والليل.

رجعت إلى الشقاء عندما انغرست الأشواك فيّ" [4].

في النص العبري جاء الجزء الأخير: "تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ".

إن كان بأصبع الله - يشير إلى الروح القدس - واضع الناموس، فإن يده تسندنا لنحيا حسب شريعته ووصيته. لكن إذ نكتم عصياننا ونخفي خطايانا تصير يده المعينة ثقيلة جدًا على ضمائرنا، لا نستريح نهارًا ولا ليلاً. اليّد الإلهية التي تتقدم لتحملنا إلى سمواته وترفعنا إلى حضنه تقف ضدنا، فكيف نقدر أن نحتملها؟

اليد الإلهية سندت إيليا فشدَّ حقويه وركض أمام آخاب حتى جاء إلى يزرعيل (1 مل 18: 46)، هي بعينها ثقلت على الأشدودين جدًا فصعد صراخهم إلى السماء (1 صم 5: 11-12).

ثقلت يدّ الله على داود لتأديبه بروح الأبّوة، فقد مات سريعًا الطفل الذي وُلد من امرأة أوريا الحثّي، وجاءت فضيحة ابنته ثامار مع أخيها أمنون عارًا لبيته الملوكي، وقُتل ابنه أمنون المحبوب لديه جدًا بواسطة أخيه أبشالوم، كما تمرد أبشالوم عليه وأخيرًا قُتل أبشالوم في الحرب.

لقد ثقلت يدّ الله على داود لتتمرر الخطية في فمه، واحتضنته اليد الأخرى كي تسنده وسط مرارته. وكما جاء في النشيد: "شماله تحت رأسي ويمينه تُعانقني" (نش 2: 6). قد يحرمنا من بعض البركات الزمنية لكي يؤهلنا للتمتع بالمجد الأبدي؛ يدخل بنا إلى الضيقة لكي نجد فيه وحده عوننا.

كان داود النبي قبل السقوط دائم النمو، متهللاً حتى في لحظات الضيق، لأن يدّ الرب كانت تسنده؛ أما وقد انخدع بالخطية، وكتمها داخله فقد رجع إلى الشقاء. تحوّلت رطوبته إلى يبوسه، أو جنته الداخلية التي يجري فيها نهر ماء حيّ إلى برية قاحلة، أو إلى مصباح بلا زيت كالعذارى الجاهلات (مت 25: 3). صار قلبه صحراء تنبت أشواكًا، إذ يقول: "انغرست الأشواك فيّ" [4].

v   ترون في كل موضع في الكتاب المقدس أن الخطايا تُدعى (أشواكًا). يقول داود: "لأن يدك ثقلت عليّ بالنهار والليل. رجعت إلى الشقاء عندما انغرست الأشواك فيّ" [4]. لأن الشوكة لا تحل بنا فقط من خارج، وإنما تنغرس فينا، فإن لم نخرجها بالكامل منا. فالقليل الذي يبقى منها يؤلمنا كما لو كانت الشوكة كلها مغروسة فينا. ولماذا أقول: "القليل الذي يبقى منها"، فأنه حتى وإن خرجت الشوكة فأنها تترك ألمًا في الجرح لمدة طويلة، تحتاج إلى تكثيف العلاج والعناية بالجرح حتى نشفى تمامًا. فإنه لا يكفي مجرد نزع الخطية، إنما توجد حاجة إلى شفاء أثر الجرح[627].

القديس يوحنا الذهبي الفم

ج. كشفه عن خطيته: لم يكن ممكنًا لبريّة قلبه أن تتقبل نعمة الله الغنية، لتفيض عليه ينابيع مياه حب الله وتحوّلها إلى جنة ما لم يكشف عن خطيته ويعترف بها.

أظهرتُ خطيتي، ولم أكتم إثمي" [5].

كان لابد أن تمتد يدّ الجراح بالمشرط لتفتح القروح فيظهر ما في داخلها، ويخرج كل فساد فيها. إن كان الكبرياء يعوقنا عن الاعتراف بخطايانا فالاتضاع هو طريق الاعتراف الحق، خلاله ننال غفران الخطايا. وكما أن الاتضاع يحثنا على الاعتراف، فالاعتراف بدوره يصلب الإرادة الذاتية، ويعلّم النفس الاتضاع، وينزع عنها كبرياءها الخفي. وإذ تتعلم النفس الاتضاع الحقيقي تكون قد التقت بالمحبة، والمحبة تستر كثرة من الخطايا. وبقدر ما تهرب من الاعتراف تقترب من الكبرياء وتبتعد عن المحبة فتفقد سلامها.

v   "المحبة تسترة كثرة من الخطايا" (1 بط 4: 8). المحبة وحدها هي التي تمحو الخطايا، ولكن إن كان الكبرياء يزيل المحبة، فالاتضاع يقويها، وهي تمحو الخطايا.

يسير الاتضاع جنبًا إلى جنب مع الاعتراف، وهو الذي يدفعنا إلى الاعتراف بأننا خطاة، ليس مجرد اعتراف باللسان هروبًا من الكبرياء أو خوفًا من غضب الناس عندما يروننا ندّعي البرّ...

أُتريد أن يغفر لك الله؟ اعترف، فتستطيع القول: "استر وجهك عن خطاياي" (مز 50). قل له أيضًا: "لأني عارف بمعاصيَّ"؛ "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل أن يغفر لنا خطايانا، ويطهرنا من إثم. إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذبًا وكلمته ليست فينا" (1 يو 1: 9-10)[628].

القديس أغسطينوس

v   إن كنا نفعل ذلك ونكشف خطايانا، لا لله وحده فقط، بل وللقادرين على علاج جراحاتنا وآثامنا، فسَتُمحى خطايانا بواسطة ذاك الذي يقول: "قد محوتُ كغيم ذنوبِك، وكسحابة خطاياكِ" (إش 44: 22) [629].

العلامة أوريجانوس

v   دِنْ نفسك على خطاياك. هذا يكفي بالنسبة لسيدك كدفاع عن نفسك. لأن من يُدين خطاياه، بصعوبة يسقط فيها ثانية.

ايقظ ضميرك، مُتهمك الداخلي، فلا يوجد من يتهمك في يوم الرب للدينونة[630].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   الناموس معين لي. فقد بدأت اعترف بما كنت انكره قبلاً (أنني خاطي)، بدأت أعرف خطيتي ولا أتستر على ظلمي. بدأت أعلن ظلمي للرب ضد نفسي، وأنت غفرت آثامي قلبي[631].

القديس أمبروسيوس

يقول داود إنه لم يكتم خطيته [5]، إذ يعرف أن من يكتم خطيته لا يخدع الله بل يخدع نفسه، فيُحطمها. إنه لم يرد أن يسلك بحماقة مثل هؤلاء الأطفال الذين يتوهمون أنه لا يراهم أحد إذا ما وضعوا أيديهم على أعينهم وغطوها، لا يرون هم أحدًا.

د. تمسكه بحياة الصلاة: لم يكن ممكنًا للخاطي أن يتمتع بالاعتراف بخطيته ما لم يمارس الصلاة، فقد أدرك المرتل أن جميع القديسين هم رجال صلاة، وأن الصلاة هي أنفاس خائفي الله ، لذا يقول:

"من أجل هذا تبتهل (يُصلي) إليك كل الأبرار في أوانٍ مستقيم" [6].

وحسب النص العبري: "لهذا يُصلي لك كل تقيَّ في وقت يجدك فيه". فإن الله يود أن يُجد، واهبًا اتقياءه الخلاص من الضيقات كما في وسط طوفان مياه كثيرة. يقول المرتل: "بل في طوفان مياه كثيرة لا يقتربون إليك" [6]. مادمنا نطلب الله نجده، فلا تقدر ميازيب الغمر العظيم أن تقترب إلينا.

الخلاص متوقف على وجود الله أو حضرته فينا، الأمر المتوقف على إخلاصنا في الصلاة، فننعم بلذة حلوله ونتمتع بعمله الخلاصي.

2. الحماية الإلهية:

"أنت هو ملجأي من الضيق المحيط بي.

يا بهجتي انقذني من المحيطين بي" [7].

الله الذي يغفر خطايانا خلال اعترافنا، ويبررنا، هو ستر لنا؛ هو موضع اختبائنا، فلْك النجاة؛ فيه لا تقدر مياه طوفان الدينونة أن تقترب إلينا [6]. ذاك الذي غفر خطايانا لا يتركنا لأنفسنا، بل يمنحنا حمايته. واجبنا أن ننطلق إليه بروحه القدوس لننعم بنعمته.

v   "أنت هو ملجأي من الضيق المحيط بي". أنت هو ملجأي من ضغط الخطية التي أدمت قلبي. "يا بهجتي انقذني من المحيطين بي". بهجتي بالكامل هي فيك، خلصني من الأحزان التي جلبتها خطاياي عليّ.

v   "يا بهجتي خلصني". إن كنت مبتهجًا بالفعل، فلماذا تطلب الخلاص؟... هل تبتهج وتئن في وقت واحد؟ أجل، أنني ابتهج وأئن. ابتهج في الرجاء، وأئن من أجل الحال الذي أنا فيه حاليًا.

القديس أغسطينوس

3. الإرشاد الإلهي:

الله الغافر للخطايا والملجأ الأمين للنفس هو مرشدنا المستعد أن يقود أولاده في

طريقه الملوكي، طريق البر الداخلي؛ متطلعًا إلينا، لا تفارقنا نظرات عينيه مادمنا نحن نتطلع إليه.

"سأفهّمك وأعلِّمك الطريق التي تسلك فيها

وأنصب عليك عينيّ" [8].

v   المزمور نفسه يُدعى "مزمور للفهم"...

سأعطيك فهمًا لكي تعرف ذاتك دائمًا، وتتهلل على الدوام في فرح الرجاء أمام الله حتى تبلغ موطنك، حيث لا يوجد رجاء بل تكون في الحقيقة الواقعة.

"وانصب عليك عينيّ" [8]. لن أحول عيني عنك، لأنك أنت أيضًا من جانبك لا تحوّل عينيك عني.

القديس أغسطينوس

"لا تصيروا كالفرس والبغل اللذين لا فهم لهما.

بلجام وحكمة تكبح فكوك الذين لا يدنون إليك" [9].

إذ يسلم الإنسان حياته لله يقوده الرب في طريقه، واهبًا إياه روح الحكمة والفهم، وإذ يثبت المؤمن عينيه على الرب يثبت الرب عينيه عليه. أما من يرفض مشورة الله فيصير بلا فهم، ويحسبه المرتل كحيوان، لأن الفهم لأو التعقل هو الذي يميزنا عن الحيوانات غير العاقلة. بالمسيح يسوع – حكمة الآب – نرقى لنكون كملائكة الله، وباعتزالنا الله نفقد حتى بشريتنا!

يكفي الإنسان أن يتطلع إلى ابنه الفهم بنظرةٍ ما، فيتدارك الابن خطأه، أما الفرس وبالغل فلا تكفيهما نظرات عين سيدهما بل يحتاج إلى لجام وزمام لاقتيادهما. النفس المتضعة تكتفي بنظرات مخلصها فتبكي مع سمعان بطرس الذي لم يحتمل نظرات سيده اثناء محاكمته؛ أما المتكبر فيستخدم الله معها لجام الضيقات القاسية لعلها ترجع وتدنو منه بالتوبة، وتعرف طريق خلاصها. لذا يكمل المرتل، قائلاً:

"كثير هي ضربات الخطاة،

والذي يتكل على الرب الرحمة تحيط به" [10].

v   بلجام وزمام يكبح فكوك الذين لا يدنون منك، لأنه تحت ضغط الظروف كما قلت يحنون

بالضرورة رقابهم لله ولو بغير إرادتهم[632].

القديس كيرلس الكبير

v   حقًا، كان الإنسان في مركز مكرَّم، لكنه سقط في الرذيلة، كما حدث مع شمشون الذي تركته الفضيلة، وتخلت عنه الحكمة والنعمة، فعوقب بالعمى والمهانة. إن حرم الإنسان نفسه من نور العقل يتأهل لعمل الحيوانات[633].

الأب قيصريوس أسقف آرل

4. الفرح الإلهي:

"افرحوا أيها الصديقون بالرب

وابتهجوا وافتخروا يا جميع مستقيمي القلوب" [11].

إن كان الغم هو نصيب الأشرار، فإن الفرح المضاعف هو نصيب الصديقين، مستقيمي القلب أما سرّ الفرح فهو "الرب". إنهم يفرحون بالرب كغافر للخطايا، كملجأ لهم، كقائد حياتهم، وكمصدر مجدهم. فرحهم هو بالرب لا بالغنى الزمني والأمور الأرضية.

بدأ المزمور بتطويب من غفرت آثامهم وانتهى بالبهجة بالرب وليس بالغنى أو بالخلاص من الألم. بغفران خطايانا تصير قلوبنا مخلصة وأمينة لله ويعلن الرب ملكوته المفرح فيه.


 

اغفر لي خطاياي

v   لينر روحك القدوس قلبي،

فلا اكتم خطاياي بل اعترف بها!

v   هب لي دموعًا نقية، فأسكبها أمامك.

امسك بيميني فأتمم وصيتك.

اهدني في طريقك فامتلئ بحكمتك وفهمك!

استر عليّ بدمك الثمين، ولا تحسب عليّ خطاياي.

v   بك أتمتع بالحكمة، وبدونك أهلك بالغباوة!

بك امتلئ فرحًا، وبدونك يأسرني الغم!

بك تستريح نفسي أبديًا، وبدونك لا أجد راحة

v   تكفيني نظرات عينيك فأعرف إرادتك وأرجع إليك!

اجتذبني بحبك وفرّح قلبي بنعمتك!

<<

 

 

 


 

المزمور الثالث والثلاثون

ترنيمة نصرة وفرح

ارتباطه بالمزمور السابق:

من الواضح أن هذا المزمور كُتب كتكملة للفكر الوارد في المزمور السابق، حيث يكشف عن أسباب إضافية لتهليل الأبرار وفرحهم في الرب.

في المزمور السابق يعلن المرتل التطويب لمن نال المغفرة عن خطاياه خلال المعمودية كما بالتوبة المستمرة والاعتراف، وقد خُتم المزمور بدعوة شعب الله المتكل عليه أن يفرحوا بالرب ويبتهجوا ويهتفوا؛ الآن يقدم لنا مزمور تسبحة يتحدث فيه عن حال المؤمن التائب وقد تفجرت في داخله ينابيع التسبيح والفرح الداخلي كعطية إلهية. يقول السيد المسيح: "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14). وكأننا لا نستطيع أن نختبر عذوبة التسبيح ما لم نسلك طريق التوبة ونعيشها.

إن كان المزمور السابق هو مزمور التوبة فأنه ينتهي بالدعوة إلى الفرح والبهجة والهتاف، أي إلى حياة التسبيح؛ بينما هذا المزمور وهو مزمور تسبيح ينتهي بالطلبة: "فلتكن رحمتك يارب علينا" [19]، أي طلب رحمة الله غافر الخطايا. وكأنه لا انفصال بين حياة التوبة وحياة التسبيح؛ هما حياة واحدة متكاملة، طريق الله الملوكي الواحد!

مزمور تسبيح حكمي ليتورجي:

إن كان أنقى أنواع الترنم هو التسبيح لله لأجل ذاته ومن أجل معاملاته مع شعبه، فإن هذا المزمور يُحسب مثلاً رائعًا للتسبيح. إنه سيمفونية تسبيح مجيدة مقدمة للرب الخالق والسيد والديّان والمخلّص[634].

رُبما قدم المزمور كتسبحة شكر من أجل التمتع بغلبة أو نصرة؛ أو تذكارًا لأعمال الله المجيدة في البرية بعد عبور البحر الأحمر، وذراعه الرفيعة مع شعبه. إنه أغنية حب يترنم بها كل قلب يختبر أعمال الله العجيبة معه، ورعايته الخاصة... يتطلع من السماء منشغلاً بمن هم في الأرض، يحتضنهم بالحب ليحملهم إلى سمواته!

اعتاد عازفوا الموسيقى في الهيكل أن يسبحوا بهذا المزمور كما على لسان السمائيين والأرضيين؛ يُعلنون عن فرح السمائيين بخالقهم واهب القوة، وعن إيمان الأرضيين الذين يمجدون الخالق المهتم بهم. تتناغم أعمال الخلق بكلمة الله مع أعماله عبر التاريخ ليخلص بذراعه الرفيعة.

يبدأ المزمور كما ينتهي بتقديم عنصرين من عناصر العبادة: تقديم ذبيحة شكر لله الملك العظيم والمجيد، والثقة فيه حيث يترجى الكل باتضاع في خلاصه.

ويمكن اعتبار مزمور التسبيح هذا حِكمي تعليمي، وفي نفس الوقت ليتورجي. يرى البعض أنه تسبحة خاصة بالأعياد، وُضع من أجل العيد الخاص بعقد ميثاق مع الله، يُحتفل به في بدء السنة الجديدة. إنه يمجد خطة الله العظيم في عنايته بشعبه، الأمر الذي يهب رجاءً في المستقبل. أنه تسبحة جديدة [3] تستخدم في المناسبات الخاصة بتجديد العهد مع الله.

كلمة الله في العهد القديم:

كلمة الله - كما هو مُعلن هنا - كائن يُعتمد عليه، محب، وأمين، يحقق كل مطالب واحتياجات الكون المخلوق خلال كنيسته. يجدد الكلمة حياتنا، خاصة خلال كلمات كتابه المقدس التي تُتلى مرة فأخرى في الاجتماعات الليتورجية.

البنية الليتورجية:

يقترح البعض البنية الليتورجية التالية:

«  دعوة للتسبيح ترنمها الجماعة كلها [1].

«  آيات [2-3] يتغنى بها خورس أول.

«  بواعث التسبيح:

    آيات [4-5] يرنمها خورس ثانٍ.

    آيات [6-9] يرنمها الخورس الأول.

    آيات [10-12] يرنمها الخورس الثاني، مُقتبسة عن التاريخ البشري بخصوص الأمم.

    الآيات [13-19] يرنمها الخورس الأول، مقتبسة عن التاريخ البشري بخصوص أشخاص.

« الآيات [20-21] خاتمها يرنمها الخورسان [1، 2].

« الآية [22] خاتمة ترنمها الجماعة كلها معًا.

الإطار العام:

1. دعوة للتسبيح            [1-3].

2. أمانة الله                 [4-5].

3. عدالة الله مع الأمم       [6-9].

4.  صلاح الله              [20-22].

1. دعوة للتسبيح:

أُختتم المزمور السابق بالحث على التسبيح لله بفرح وبهجة وافتخار، الآن يُفتتح المزمور بذات الدعوة، مقدمًا المرتل أسبابًا إضافية كبواعث للتسبيح.

"ابتهجوا أيها الصديقون بالرب،

للمستقيمين ينبغي التسبيح.

اعترفوا للرب بقيثار،

وبكينارة ذات عشرة أوتار رتلوا له.

سبحوا له تسبيحًا جديدًا؛

ورتلوا له حسنًا بتهليل" [1-3].

يلاحظ في هذه الدعوة الآتي:

1. يرى البعض أن الكلمة العبرية المقابلة للفعل "ابتهجوا" هي في الأصل تعني: "ارقصوا فرحًا"، وهو تعبير قوي جدًا عن التهليل الحيّ[635]، حيث يهتز كيان الإنسان الداخلي طربًا من أجل اللقاء مع الله، كما رقص داود النبي أمام تابوت العهد (2 صم 6: 14؛ 1 أي 15: 29)، وكما ارتكض (رقص) الجنين في أحشاء القديسة أليصابات عند زيارة القديسة مريم لها.

هذا التسبيح أو رقص الكيان الداخلي هو هبة إلهية كثمر للروح القدس الواهب الفرح.

2. سرّ البهجة أو التسبيح هو الرب: "ابتهجوا... بالرب"؛ نفرح به لا بذواتنا، نفرح بحضرته لا ببركاته الزمنية. فالفرح بالأمور الزمنية زائل، والفرح بالخطية مُهلك، أما الفرح بالرب فأبدّي، هو عمل السمائيين ولغتهم. من يُريد مشاركتهم أمجادهم فليتعلم لغتهم ويبدأ هنا بالفرح الداخلي وتسبيح القلب واللسان.

3. "للمستقيمين ينبغي التسبيح": إن كان التسبيح هو هبة إلهية، عطية الروح القدس للمؤمنين ليمارسوا الحياة السماوية المفرحة، فإنه في نفس الوقت التزام، إذ يليق بالمؤمن الذي يمارس الحياة التقوية أن يتمتع بامتيازه، فيسبح الله كملاك متهلل.

التسبيح الصادر عن قلب مقدس للرب هو ثوب العرس الذي يرتديه المؤمن أمام العرش الإلهي، أما الصادر عن قلب شرير فيشبه خزامة من ذهب في فنطيسة خنزيرة (أم 11: 22).

4. "استخدام آلات التسبيح الداخلية": يُطالبنا المرتل أن نستخدم قيثارة وكينارة ذات عشرة أوتار.

ربما يثور السؤال هنا: هل تستخدم كنيسة العهد الجديد الآلات الموسيقية في العبادة الليتورجية؟

يقول وليم بلامر W. Plumer:

[من المؤكد أن المسيحيين الأوائل لم يستخدموا أية آلات عزف موسيقية في عبادتهم العامة. وهذا واضح من تعاليم الشهيد يوستين وذهبي الفم وثيؤدورت. في حديث ذهبي الفم على المزمورين 143، 149، وثيؤدورت على مزمورنا الحالي الآية [2] يُقدمان شهادة حاسمة في هذا الأمر... يقول ذهبي الفم: [(كانت الآلات الموسيقية) مسموحة فقط لليهود، حيث كانت الذبيحة قائمة، وذلك بسبب ثقل نفوسهم وغلاظتها. تنازل الله إلى ضعفهم، لأنهم كفوا مؤخرًا عن عبادة الأوثان، أما الآن فنحن نستخدم أجسادنا عوض الأرغن، لنسبحه].

كان من المؤكد عدم استخدام الأرغن في الكنائس المسيحية في أي موضع، حتى استخدمت مؤخرًا في منتصف القرن الثالث عشر. عبّر عن ذلك توما الأكويني بقوله: [لا تستخدم كنيستنا آلات موسيقية كالعود والقيثارة، في التسبيح لله حتى لا تبدو متهودة]. يقر كل من البروتستانت والكاثوليك بهذه الشهادة كأمر قاطع عن حقيقة عدم استعمال الآلات حتى زمان شولمان العظيم عام 1250 م.

واضح جدًا من الكتاب المقدس أن الآلات الموسيقية كانت تُستخدم قبل زمن موسى لتعبر عن مشاعر القلب الفرحة (أي 30: 31)[636].

كيف إذن نسبح الله روحيًا بقيثارة وكنارة ذات عشرة أوتار؟

أ. عرفت الكنيسة منذ بدء انطلاقها اسم "يسوع" بكونه مصدر الفرح والقوة، يرددونه بالروح والحق لينعموا بحضرته، وكان الاسم هو قيثارة الروح التي يُعزف عليها لحن البهجة والخلاص.

v   ما هذه القيارة ذات العشرة أوتار إلا كلمة "يسوع" التي أُعلنت خلال حرف عشرة (وهو حرف اليوتا الذي يمثل رقم 10 في اليونانية، أول حروف كلمة إيسوس)[637].

القديس أكليمندس الاسكندري

ب. يذكر المرتل آلتين موسيقيتين هما القيثارة والكينارة ذات العشرة أوتار، ربما ليعلن أنه يلزمنا أن نسبح الله بأجسادنا كما بنفوسنا؛ أو بألسنتنا كما بقلوبنا، أو جهارًا كما سرًا.

يسبح الصديقون الرب بأجسادهم التي يقدمونها ذبيحة حية مبقبولة لديه (رو 12: 1). يقول القديس أغسطينوس: [استخدموا أعضاءكم الجسدية لخدمة محبة الله والقريب، ومن ثم تنفذون الوصايا الثلاث (الخاصة بمحبة الله) والوصايا السبعة (الخاصة بمحبة القريب)]، [ليته لا يفكر أحد في الآلات الموسيقية التي للمسارح، فالأمر هنا يشير إلى أمور داخلية، كما قيل في موضع آخر: "فيّ يا الله أرّد لك التسبيح"].

تشير القيثارة إلى الجسد المقدس الذي يمجد الله، يشكره ويسبحه لا باللسان فحسب، بل وبكل كيان الإنسان: الجسد بحواسه الخمس والنفس بحواسها أو قدراتها الداخلية الخمس. وكأن رقم 10 يشير إلى الجسد والنفس والعقل والعواطف والأحاسيس الخ... الكل يسبح الله بتناغم وانسجام بقيادة الروح القدس خلال القدرات المنظورة وغير المنظورة.

يرى القديس ديديموس الضرير أن نغمة القيثارة تصدر عن أسفل أطرافها فتشبه الجسد الذي وُجد من الأرض، أما الكينارة فيُنغّم بها من أعلى أطرافها لتشير إلى النفس المحلقة في السماويات بروح الشكر.

ج. رأينا العشرة أوتار تشير إلى الوصايا العشرة، فمن لا يطيع الوصية يكون أشبه بقيثارة بلا أوتار لا يمكن أن تقدم تسبحة عذبة تفرح السماء!

د. تشير القيثارة ذات العشرة أوتار إلى الكنيسة التي يتمتع أعضاؤها بمواهب متعددة، كأوتار متباينة، تصدر نغمات مختلفة لكنها منسجمة معًا، تقدم سيمفونية عذبة بالروح القدس واهب الوحدة والتناغم.

5. تسبحة جديدة: "سبحوا له تسبيحًا جديدًا" [3].

كثيرًا ما نقرأ عن التسبحة الجديدة في سفر المزامير (96: 1؛ 98: 1؛ 149: 1)؛ كما نسمع عن الترنيمة الجديدة في السماء (رؤ 5: 9؛ 14: 3).

إن كانت الجبال ترنم للرب (إش 55: 12)، وأيضًا الأودية (مز 65: 13)، وأشجار الوعر (1 أي 16: 33) وكواكب الصبح مع بني الله (أي 38: 7)، إذ الكل، السمائيون والأرضيون؛ الخليقة العاقلة والجامدة، يسبحونه بكونه خالقهم المهتم بالكل؛ فإننا نحن الذين تمتعنا بعمله الخلاصي كمراحم جديدة نختبرها كل يوم في معاملاته معنا، نسبحه تسبيحًا جديدًا.

يشير هنا إلى "تسبحة جديدة" دون إشارة إلى آلات موسيقية، لأنها تسبحة سماوية لا تحتاج إلى آلات موسيقية أرضية.

يسألنا المرتل أن نسبحه تسبيحًا جديدًا ينبع عن الإنسان الداخلي، دائم التجديد بعمل الروح القدس. نسبحه من أجل مراحمه الجديدة كل صباح، إذ يشرق شمس البر فينا، واهبًا إيانا إستنارة روحية؛ نسبحه بإنساننا الجديد إذ صُلب الإنسان القديم بأعماله الشريرة!

الجِّدة هنا تُفهم حرفيًا على أنها دور جديد يُعطى للتسابيح القديمة، أو خبرة جديدة لرعاية الله الواهب الخلاص جديدًا في حياتنا خلال الصليب.

v   أنتم الآن تعرفون الأغنية الجديدة: الإنسان الجديد، العهد الجديد، الأغنية الجديدة!

لا تنتمي الأغنية الجديدة إلى الإنسان العتيق؛ فأنه لا يقدر أن يتعلمها إلا الإنسان الجديد، ذاك الذي كان منتميًا قبلاً للقديم وقد وُلد ثانية للعهد الجديد الذي هو ملكوت السموات.

v   غنوا تسبحة نعمة الإيمان... غنوا بملء الحيوية له من أجل الفرح ذاته.

القديس أغسطينوس

يليق بمن يترنم بتسبحة الخلاص الجديدة أن يتهيأ لها بالحياة المقدسة كآلة عزف لائقة، وألا يمارسها بتراخٍ بل بقوة الروح، بهتاف القلب. لذا يوصينا المرتل: "رتلوا له حسنًا بتهليل". بقوله "حسنًا" يعني تهيئة القلب مع كل طاقات الإنسان لتُصدر نغمات روحية تفرح السماء؛ وبقوله "بتهليل" يعني هتاف النصرة والبهجة برؤية الملك الغالب حاّلاً في قلوبنا!

2. أمانة الله:

"لأن كلمة الرب مستقيمة،

وكل أعماله بالأمانة.

يحب الرحمة والحكم.

امتلأت الأرض من رحمة الرب" [4-5].

يقدم لنا أحد الدوافع التي تبعث فينا روح التسبيح ألا وهو تمتعنا بكلمة الله. فالكلمة الإلهي - كما يقدمه المزمور، ليس صوتًا أو حروفًا منزلة، إنما كائن حيّ له السّمات الإلهية، فهو مستقيم، عامل بالأمانة، محب للرحمة والعدل، خالق السماء والأرض [6]. أنه يستحق كل تسبيح من خليقته التي تلتقي به خلال أعماله العادلة المملؤة حنانًا وحبًا.

v   كلمة الرب صادقة، إنها قادرة أن تجعلكم على حال لا تقدرون أن تكونوا عليه من ذواتكم... يجب ألا يتصور إنسان ما أنه ينال إيمانًا بفضل أعماله الذاتية، فإنه بالإيمان ذاته يمكن لعمل ما أن يكون مرضيًا لدى الله.

القديس أغسطينوس

v   "كل أعماله بالأمانة"؛ ماذا يعني هذا؟ إن السموات وأنظمتها تجدها "مرشدًا إلى الإيمان"، فإنها تشهد لصانعها. وإن رأيتم نسق الأرض، فأنها تزيد إيمانكم بالله. مع هذا فأنه ليس من خلالنا نحن بعيوننا الجسدية نؤمن به، وإنما بقوة العقل ندرك غير المنظور خلال دلائل المنظورات[638].

القديس باسيليوس الكبير

"يحب الرحمة والحكم (العدل)" [5].

استعلن حبه وعدله في الخليقة، وفي تدبيره الإلهي للكون كله، وبالأكثر يسطعان ببهاء لا ينطق به في عمله الخلاصي.

ما أعجب كلمة الله المستقيم، لم يخلق شيئًا دنسًا أو منحرفًا! كل انحراف هو بسبب خطايانا، وكل فساد هو من صنع إرادتنا الذاتية! إن رجعنا إليه عادت الاستقامة إلى حياتنا، بل وإلى أرضنا؛ فإنه رحوم ينتظر إعلان حبه وحنانه دون إلزامنا أو قهرنا بالعودة إليه. عندما اجتاز مجد الرب أمام موسى تلامس النبي مع مراحم الله العجيبة وعدله، فقد قيل: "الرب إله رحيم، ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء! حافظ الإحسان إلى ألوف! غافر الإثم والمعصية والخطية؛ ولكنه لن يبرئ إبراءً" (خر 34: 5). تحققت رحمة الله وأيضًا عدله على الصليب، حيث قدم كلمة الله حياته مبذولة لأجلنا، وقد دفع الثمن بالكامل. بالصليب "امتلأت الأرض من رحمة الله" [5]، إذ لم يعد الإيمان قاصرًا على شعب معّين، بل قبلت الشعوب الإنجيل، وتهللت برحمة الله الفائقة. صار ممكنًا لكل إنسان أن يدعو الرب فيخلص، ملتقيًا مع مخلصه أينما وُجد.

رحمة الله وعدله لا يفترقان؛ هو كلّي الرحمة وفي رحمته عادل؛ وكلّي العدل، وفي عدله رحوم. غير أنه يمكننا القول بإننا نعيش في عهد النعمة حيث تتجلى مراحم الله لتنتشلنا من هوة الهلاك ليحمل هو بعدله ثمن خطايانا، أما في الدهر الآتي فيحكم كديّانٍ ليجازي بعدله كل واحد حسب أعماله. من يقتني الرحمة الآن يفلت من الحكم، ومن يتهاون بالرحمة يسقط تحت العدل الإلهي.

v   "يحب الرحمة والعدل". لأنه يحب، يجب عليكم أن تختبروا تلك الرحمة وذاك العدل. الآن هو زمان رحمة؛ أما فيما بعد فيكون العدل.

القديس أغسطينوس

v   إنه رحوم، لكنه هو ديان أيضًا، لأن الرب "يحب الرحمة والحكم" كما يقول المرتل...

أنتم ترون كيف بفطنة يهب الرحمة؛ لكنه ليس رحومًا دون عدل، ولا هو عادل دون الرحمة، لأن الرب رحوم وعادل (مز 115: 5)[639].

القديس باسيليوس الكبير

3. عدالة الله:

1. عدالة الله مؤسس السموات وواهبها القوة:

إن كانت الأرض قد امتلأت من رحمة الرب [5]، فإنه يليق بالأرضيين ألا يستهينوا بطول أناته ورحمته، إنما يجب أن يتَّقوه بخشية [8] بكونه خالق السماء وكل جنودها [7]، يأمر فيكون [9].

"بكلمة الرب تشدّدت السموات،

وبروح فيّه كل قواتها" [6].

الله الذي يُطيل أناته على الإنسان الترابي هو خالق السموات العلوية بكل قواتها؛ بمعنى أنه ليس في عوز إلى خدمة الإنسان، إنما في تنازله يحب الإنسان ويهتم بخلاصه وأبديته. وربما أراد المرتل أن يؤكد للإنسان أنه لن يفلت من العدالة الإلهية، فأن السموات بكل علوها وكل إمكانياتها وقدراتها هي من صنعه... إلى أين يهرب؟ وأية قوة تسنده إن قاوم الخالق؟

يرى القديسون أثناسيوس الرسولي وباسيليوس وغريغوريوس أسقف نيصص وأمبروسيوس وأغسطينوس في هذه العبارة إشارة إلى الثالوث القدوس: الرب وكلمته وروحه.

v   عليكم إذن أن تدركوا ثلاثة: الرب الذي يُعطي أمرًا، والكلمة الذي يخلق، والروح الذي يُثبت[640].

القديس باسيليوس الكبير

v   يوجد هنا تلميح للثالوث القدوس معلنًا!

البابا أثناسيوس الرسولي

كلمة الله المخلص الذي نزل إلينا هو خالق السموات... "بكلمة الرب تشدَّدت السموات".

v   و"قال الله" مشروحة في "الكلمة"، إذ قيل: "كل شيء بحكمة صنعت" (مز 104: 24)؛ "بكلمة الرب تشددت السموات"، "رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به"

(1 كو 8: 6)[641].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   لأن العناية بكل الأشياء تُنتسب طبيعيًا إلى ذاك الذي به خُلقت، ومن هو هذا (الذي خلق كل الأشياء) إلا كلمة الله الذي قيل عنه في مزمور آخر (مز 8؛ 33: 6): "بكلمة الرب صُنعت السموات وبروح فيّه كل قواتها". فقد أخبرنا أن كل شيء به وفيه كان[642].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   "كل شيء به كان"؛ ويقول داود: "بكلمة الرب تأسست السموات" [6]. إذن ذاك الذي يدعو ابن الله خالقًا حتى للسموات، يوضح أن كل شيء صُنع بالإبن، حتى لا يفصل الإبن عن الآب بأية وسيلة في تجديد خلائقه، بل يوحَّده مع الآب[643].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   لا شك أن كل الأمور في السموات تستمد قوتها في الروح القدس، حيث نقرأ "بكلمة الرب تشدّدت السموات، وبروح فيّه كل قواتها" [6]. فهو إذن فوق الكل، الذي منه تصدر كل قوة الأشياء السماوية والأرضية.

إذن، الذي هو فوق الجميع لا يخدم (يُستبعد)، ومن لا يخدم فهو حرّ، ومن هو حرّ فله ميزة السيادة (الربوبية)[644].

القديس أمبروسيوس

v   الله لا يحتاج إلى شيء من كل هذه الأمور؛ ولكنه هو ذاك الذي بكلمته وروحه يخلق ويدبر كل شيء ويحكمها، ويأمر فتُوجد[645]...

القديس إيريناؤس

v   كل شيء، سواء كانت ملائكة أو رؤساء ملائكة أم عروشًا أم سلاطين، جميعها تأسست وخُلقت بواسطة ذاك الذي هو الله فوق الجميع، وذلك خلال كلمته، كما أشار يوحنا. فإنه عندما تحدث عن كلمة الله بكونه في الآب، أضاف: "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3). أيضًا عندما عدَّد داود تسابيح (الله)، ذكر بالاسم كل ما اشرت إليه: السموات وقواتها. فإنه "أمر فخُلقوا؛ هو قال فكانوا". من الذي أمر؟ بلا شك، الكلمة! إذ يقول: "به تأسست السموات، وبروح فيّه كل قواتها"[646].

القديس إيريناؤس

الثالوث القدوس هو الخالق وهو الذي جدد خليقته خلال العمل الخلاصي، والذي يتحقق في مياه المعمودية بالدفن مع السيد المسيح والتمتع بعمل الروح القدس (يو 3: 3-6).

v   خلق الإنسان مرة أخرى بالمعمودية، لأنه إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة[647].

القديس باسيليوس الكبير

v   ليس بأم وأب، ليس باجتماع بشر، ولا بالآم المخاض نولد ثانية، ولكن من الروح القدس تُصنع أنسجة طبيعتنا الجديدة، وفي الماء نُشكَّل، ومن الماء نولد سرًا كما من الرحم...

الرحم يحتاج إلى زمن كثير يتشكل فيه الجسد، أما الماء والروح فمنهما تتشكل حياة الروح، في لحظة، في طرفة عين[648].

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ يتحدث المرتل عن كلمة الله كخالق ومؤسس للسموات لا يرفع القديس أغسطينوس عينيه إلى جلد السماء بل يدخل بنظراته إلى أعماق نفسه ليرى السموات الداخلية التي أسسها السيد المسيح بدمه الثمين، فيقول: [من نفس الإنسان البار ينظر ربنا بالرحمة إلى كل الذين يولدون في جدَّة الحياة].

2. الله ضابط أعماق المحيطات وحافظ مياهها كما في زق صغير:

"الجامع مياه البحار كأنها في زق،

ووضع الأعماق في كنوز" [7].

إن كانت مراحم الله التي ملأت الأرض تحثنا على تسبيحه، فأن رحمته كما قلنا لا تُعزل عن عدله، فهو الإله المخوف العادل؛ إن حاول إنسان أن يهرب إلى السماء بارتفاعها وقدرتها يجد الله مؤسسها وواهبها القوة، وإن غاص إلى أعماق المحيطات لعله يختفي من وجه الديان يجد كل أعماق البحار والمحيطات في عيني الله أشبه بقليل ماء في زق صغير تحت بصره. إن كانت المياه سهلة السكب والتسرب لكنها في قبضة يدّ الله القوية. الله هو جامع المياه والعارف أحجامها.

تُشير مياه البحار هنا إلى الاضطهاد القائم ضد الكنيسة، الذي تثور أمواجه وتياراته ضدها. أما رب الكنيسة الجامع المياه فلا يمنع الضيق لكنه يضبط سطوته ويحوّل مرارته إلى عذوبة تستحق أن تجمع في زق كشيء ثمين وتُحسب كنوزًا ثمينة.

v   بينما كان البحر قبلاً في هياج بلا ضابط، إذا بمرارته تتوقف... لأن ذاك الذي غلب في الرسل، والذي وضع للبحر حدًا... جعل فيضانه (تياراته) تلتقي مع بعضها البعض لتحطم الواحدة الأخرى.

القديس أغسطينوس

إن كان الله يسمح بالضيقات فهي كمياه البحار أو المحيطات التي يمكن أن تبتلع تياراتها كثيرين، لكنها هي بركة في حياة البشرية التي تعرف كيف تنتفع منها، وقد وضع الله لها حدودًا لا تتجاوزها، إذ قيل:

"أإياي لا تخشون يقول الرب أو لا ترتعدون من وجهي، أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر فريضة أبدية لا يتعداها، فتتلاطم ولا تستطيع، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها؟!" (إر 5: 22).

"من حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم؟!" (أي 38: 8).

"صنعت (للمياه) حدًا فلا تتعداه، ولا ترجع فتغطي الأرض" (مز 103: 9).

اليوم يرى العلماء أنه لو أختل توازن المسافة بين الأرض والقمر لحدث مدّ وجزر في المحيطات تغرق كل الكرة الأرضية... لقد وضع الله للمياه حدودًا!

إن كانت أعماق المحيطات مرعبة للغاية، حتى حسب القدماء أن مركز الشيطان في المياه، ومملكته تقوم في الأعماق، فدعوه بالتنين العظيم، لكن المرتل يرى في المياه مخازن خيرات أقامها الله لمحبوبه الإنسان. وفي العهد الجديد نرى مياه نهر الأردن ينبوع الميلاد الجديد حيث فتح لنا الرب فيها أبواب المعمودية ككنز ثمين! الآن نفهم قول المرتل: "وضع الأعماق في كنوز" [7].

3. الله مستحق كل خشوع:

الله خالق السماء العلوية وواهبها القوة، وضابط أعماق المياه ومحوّل مرارتها إلى عذوبة، هو بالحق كائن مخوف جدًا، سيد مهوب للغاية، مجده لا نهائي. يجب أن تقدم له العبادة بوقار؛ إحساناته نباركها بغير فتور؛ سخطه غير المدرك مرهب. يقول المرتل:

"فلتتق الرب كل الأرض،

ولتتزعزع منه كل سكان المسكونة.

لأنه هو قال فكانوا.

هو أمر فخُلقوا" [8-9].

v   فليرتعد كل سكان الأرض بسبب حالهم السابق، إذ كانوا يخدمون الأوثان.

القديس أثناسيوس الرسولي

لنخشه كخالق السماء والأرض بحكمة وعدل؛ ولنخشه أيضًا كمخلص أقامنا أولادًا وبنينًا للآب؛ نخاف أن نجرح مشاعر أبّوته الحانية أو نسيء إلى بره الأبدي.

أخيرًا يترنم المرتل لأن الله يخلق بكلمته.

v   هذه (الأرض) أيضًا خُلقت بكلمته، كما يخبرنا الكتاب المقدس في سفر التكوين، أنه صنع كل شيء، لاصقًا كلمتنا بكلمته[649].

القديس إيريناؤس

معاملات الله مع الأمم:

إذ يتحول المزمور إلى التأمل في التاريخ يبرز جلال قوة الله ليس بأقل مما يبرزه عمل الخلق في الطبيعة. الله القدير في خلقه للسماء والأرض هو القدير في رعايته وعنايته بالإنسان عبر التاريخ. ترى عينا الإيمان يدّ الله خلف صراعات الأمم وارتباطاتها، هذه اليد التي تشكل تاريخ العالم حسب غايته الأبدية[650]. التاريخ هو امتداد لعمل

الخلق، يُظهر بأكثر كمال عدالة الله بتذكر وعود حبه الثابت.

في هذا المزمور، بعد تقديم قدرة الخلق التي تخبرنا عن عظمة وجوده، يشير إلى معاملاته مع خلائقه كموضوع تسبيح وحمد، بكونه كلّي الحكمة، الناظر إلى كل شيء، وحاكم الأمم جميعًا.

"الرب يُشتت آراء الأمم،

ويرذل أفكار الشعوب،

ويرذل مؤامرة الرؤساء.

وأما رأي الرب فهو يكون إلى الأبد؛

وأفكار قلبه من جيل إلى جيل" [10-11].

الله لم يخلق العالم بكل قوانينه الطبيعية الجبارة ليتركه ويعتزله، إنما خلقه ليحركه بقوانينه، واهبًا الإنسان كمال الحرية، ويبقى الخالق راعيًا ومدبرًا لخليقته... قد يترك الأشرار يفكرون ويخططون وربما يبدأون مؤامراتهم عمليًا، لعلهم يرجعون عن شرهم ويتوبون. فإن أصرّوا يتدخل في اللحظة الحاسمة إما ليحوّل شرهم إلى بركات لأولاده أو يوقف المؤآمرات ويبددها، وكما جاء في إشعياء النبي:

"هكذا يقول السيد الرب: لا تقوم، لا تكون" (7: 7).

"هيجوا أيها الشعوب وانكسروا، واصغي يا جميع أقاصي الأرض. احتزموا وانكسروا. تشاوروا مشورة فتبطل. تكلموا كلمة لا تقوم، لأن الله معنا" (8: 9-10).

لقد سبق فأبطل مشورة أخيتوفل ضد داود النبي (2 صم 17: 23)، وتدبير هامان ضد مردخاي وشعبه (إس 6، 7)، وخطة دقلديانوس ضد الكنيسة في العالم كله! في كل جيل يُقاوَم الله في أولاده، لكن لن تدوم المقاومة، إذ ينتهي الضيق ويتمجد أولاد الله إلى الأبد. تنتهي حكمة الأشرار إلى لا شيء أما خطة الله للخلاص فتتحقق وتثبت، إذ قيل لنفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله "أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم واخوتهم أيضًا العتيدون أن يُقتلوا مثلهم" (رؤ 6: 11). يحقق الله خطته بكل الطرق، حتى وإن كان بعضهم يستشهدون! عيناه على أولاده حتى في لحظات آلامهم واستشهادهم.

أولاد الله لا يرتبكون بسبب مؤامرات الأشرار وخططهم، فإن التاريخ هو في يديْ الله أبيهم كلّي الحكمة وكلّي القدرة وكلّي الحب. هو قادر أن يُحطم مشورتهم بإبطالها أو تحويلها إلى الخير حتى وإن سمح لهم بقتل أولاده... إنما ما يشغلهم هو "الطوبى" التي صارت لهم لا عن برّهم الذاتي وإنما عن إختيار الله لهم ليكونوا شعبه وأولاده وهو يكون لهم إلهًا وأبًا.

"طوبى للأمم التي الرب إلهها،

والشعب الذي اختاره ميراثًا له" [13].

لنفرح ولنبتهج باختيار الله لنا، ليكون نصيبنا، ونحن نكون نصيبه، نُحسب شعبه، يشهد المرتل بفرح أن الله يعلن ذاته لنا بكونه إلهنا. نقتنيه كمصدر بركتنا، حمايتنا، إرشادنا، سلامنا، فرحنا، نجاحنا، إستقرارنا، فلا نعتاز إلى شيء.

v   "طوبى للأمة التي الرب إلهها" [12]. سمعتم أن أمته تمتلكه... الآن تسمعون أنه يمتلكهم: "الشعب الذي اختاره ميراثًا له".

طوبى للأمة فيما تمتلكه، وطوبى للميراث فيمن يمتلكه.

القديس أغسطينوس

هكذا يسِّبح المرتل الله من أجل الملكية المتبادلة: نحن نمتلكه نصيبًا لنا، وهو يمتلكنا ميراثًا له!

ليكن الرب هو إلهي، أمتلكه فلا أطلب شهوة جسد، ولا محبة غنى العالم، ولا مجدًا باطلاً، ولا نظرة عطف بشري؛ وليقبلني ميراثًا له، يُسر بعمله فيّ، وبره الساكن فيّ، وفرح ملكوته في أعماقي. ليتني أصير عبدًا له فلا أستعبد لسادة كثيرين. عبوديتي له هي كمال الحرية الداخلية!

إذ نتبادل الحب والملكية عيناه لا تفارقانني، إذ يقول المرتل:

"نظر الرب من السماء فرأى جميع بني البشر؛

من مسكنه المهيأ نظر إلى جميع سكان الأرض" [13-14].

حينما نتحدث عن تطلع الله للبشر يلزم أن نميز بين نوعين من النظرات، نظرة الله كخالق وفاحص كل الأمور، ونظرته الواهبة النعم للنفوس التي تقبلت البنوة له. الله عارف الكل، فاحص القلوب والكلى جميعها، لكن له معرفة الالتصاق والاتحاد بمن قبلوه أبًا ومخلصًا. الله حاضر في كل مكان لكن له الحضرة الواهبة النعم في قلوب مؤمنيه العاملين بالمحبة.

الله ينظر إلى كنيسته، يعرفها كعروس له، حاضر فيها بكونها مملكته على الأرض؛ وهو أيضًا ينظر ويفحص دقائقه الخفية، ويعرف أسراره، وحاضر في كل موضع؛ لكن شتان بين معاملاته مع طالبيه ومعاملاته مع جاحديه.

يتطلع الله إلى شعبه كأب نحو أولاده المحبوبين وليس كمتفرج سلبي. إنه يرانا في إبنه الحبيب، فيجدنا نحمل بر المسيح، ونُحسب موضع سروره.

إنه يتطلع "من السماء"، "من مسكنه المهيأ"؛ أي من قلوب مؤمنيه والكارزين به بكونهم موضع سكناه. ليس فقط ينظر إلينا كأب، وإنما يسكن فينا متطلعًا من خلالنا إلى الغير.

v   "من مسكنه المهيأ نظر إلى جميع سكان الأرض" [13]. يتطلع إلينا من خلال الكارزين بالحق. ينظر إلينا من خلال الملائكة الذين أرسلهم، بكونهم جميعًا بيته. إنهم جميعًا مسكنه الدائم، بكونهم السموات التي تُظهر مجد الله.

القديس أغسطينوس

إذ يتطلع إلينا ينظر إلى الأعماق، إلى سرائر القلب الخفية بكونه خالق النفس الداخلية، يعرف أعمالنا لا كبني البشر يحكمون حسب الظاهر، وإنما من خلال النية الداخلية، دون محاباة لملك أو عظيم.

"الذي هو وحده خلق قلوبهم؛

الذي يفهم جميع أعمالهم.

لا يخلص ملك من أجل عظم قوة.

لا ينجو جبار بكثرة جبروته.

خلاص الفرس كاذب

وبكثرة قوته لا يخلص" [15-17]

صانع القلب يعرف كل أسراره، وكما يقول الحكيم: "قلب الملك في يدّ الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله؛ كل طرق الإنسان مستقيمة في عينيه، والرب وازن القلوب" (أم 21: 1-2). ويقول المرتل: "يارب قد جربتني وعرفتني؛ أنت عارف جلوسي وقيامي؛ أنت فهمت أفكاري من البعد... لم يختفِ عنك عظمي الذي صنعته بالخفاء" (مز 139).

v   "الذي هو وحده خلق قلوبهم" [15]. بيد نعمته، بيد رحمته صنع قلوبنا وشكّلها وصنعها قلبًا فقلبًا، معطيًا لكل واحد قلبًا منفردًا، دون أن يفقدنا الوحدة معًا...

"الذي يفهم جميع أعمالهم"... يرى الإنسان عمل آخر بتصرفاته الجسدية (الظاهرة) أما الله فيرى عمق القلب. فأنه إذ يرى ما بالداخل قيل "الذي يفهم جميع أعمالهم".

القديس أغسطينوس

إنه الخالق العارف أسرارنا والقادر على خلاصنا، إذ يقيمنا ملوكًا، مخلصًا إيّانا لا بقوتنا الذاتية ولا بجبروتنا ولا بالخيل والمركبات ولا بإمكانياتنا العقلية أو المادية أو الفنية وإنما بذراعه الرفيعة، بسكناه فينا.

لقد وهبنا بعطية الروح القدس نعمة الملوكية، لنصير ملوكًا روحيين، متحدين بملك الملوك، متكلين عليه.

الخلاص حتى من الموت يمكن أن يتحقق بالله وحده. حياتنا في يديه، وهو قادر أن يحفظها حتى في وسط الضيق الذي لا يقهره إنسان. إنه يمنحنا ذاته قوة لنا، فنتكل عليه، لا لنكون سلبيين، وإنما في إيجابية نجاهد به بكونه قوتنا. لقد قيل: "الفرس مُعد للحرب؛ أما النصرة فمن الرب" (أم 21: 31).

v   ليكن الله هو رجاءكم، قدرتكم على الاحتمال، قوتكم. ليكن كفارتكم، تسبيحكم، غايتكم وموضع راحتكم، وعونكم في جهادكم...

الجبار هو الإنسان المتغطرس الذي يرفع نفسه (متشامخًا) على الله، كما لو كان شيئًا في ذاته وما يخصه. مثل هذا الإنسان لا ينجو بقوته الذاتية.

الآن، لديه فرس رشيق وقوي، سليم وسريع الخُطى، إذا ما حدث هجوم أما يستطيع أن ينجي راكبه من الخطر الملحق به؟ ليسمع: "خلاص الفرس كاذب"... يلزم ألا يعدك الفرس بالنجاة...

يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأية ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتكل عليها في كبرياء، حاسبين خطًأ أنكم كلما ارتفعتم يزداد آمانكم وعلوكم. ألا تدركون بأي عنف سوف تُلْقَون، كلما ارتقيتم إلى أعلى يكون سقوطكم بأكثر ثقلٍ... فكيف إذن يتحقق الأمان؟ إنه لا يتحقق بالقوة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس.

القديس أغسطينوس

كانت المركبات هي سند الجيوش، من يركبها يظن أنه في أمان، إذا ما أحدق به الخطر يلوذ بالفرار، لكن كثيرين هلكوا وهم على مركباتهم أو ممتطين خيلاً مدربةً على الحرب. لم يقدر سنحاريب بجيشه الجرار أن يقف أمام ملاك واحد، وفرعون بكل مركباته غرق في البحر... أما من يتكئ على صدر الرب فيكون آمنًا حتى من الموت. وكما قال الرب: "من آمن بي ولو مات فسيحيا" (يو 11: 25).

يرى العلامة أوريجانوس أن الخيل تشير هنا إلى الشيطان وملائكته، إذ يقول: [الخيل والفرس يمثلون صورة الذين كانوا في السماء وانحدروا منها بسبب كبريائهم وتشامخهم... هؤلاء الذين تبعوا القائل: "أصعد فوق مرتفعات الرب (السحاب)، أصير مثل العَليّ" (إش 14: 14). لهذا السبب على ما أظن يقول النبي: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص، وبشدة قوته لا ينجي" [17]. هكذا أيضًا قيل عن الذين يثقون في الشيطان: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، وأما نحن فأسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 8)].

لنترك مركبات العالم ولنمتطِ مخافة الرب، تلك المركبة الإلهية القادرة أن ترفعنا فوق كل الأزمات والضيقات، تجتاز بنا فوق الموت، ولا يحاصرنا غلاء أو وباء، وكما يقول المرتل:

"هوذا عينا الرب على خائفيه والمتكلين على رحمته.

لينجي من الموت أنفسهم ويعولهم في الغلاء" [18-19]

4. صلاح الله:

"أنفسنا تنتظر الرب في كل حين،

لأنه هو معيننا وناصرنا.

وبه يفرح قلبنا،

لأننا على إسمه القدوس اتكلنا.

فلتكن رحمتك يارب علينا،

كمثل اتكالنا عليك" [20-22].

يتمتع خائفوا الرب بنظرات الله الحانية، الواهبة النعم، التي تكشف عن اهتمام شخصي وتقديره للنفس البشرية... الأمر الذي يفرح قلب المؤمنين.

مع تمتعه بالخلاص، وإدراكه لقوة إسم الله القدوس، لا يكّف المرتل عن الصراخ طالبًا رحمة الله، حتى وسط تسبيحه، مدركًا أن ما يناله هنا هو عربون لأمجاد لا يُعبَّر عنها في الحياة الأبدية. وكأنه مع كل نصرة، وكل نجاح، وكل شبع يزداد الحين نحو الشبع الكامل في الملكوت الأبدي فيمتزج الفرح بصرخات القلب الخفية وأنينه نحو التمتع باللقاء الأبدي مع الله وجهًا لوجه.

 

 

 


 

أيها الحب الأبدي

v   يا منبع الحب علمني كيف أحبك!

لتُجدد أعماقي على الدوام فأنشد لك بقيثارة الروح!

وأضرب في أعماقي بالطاعة على أوتار وصاياك العشرة!

v   بكلمتك شددت السموات، وبروحك كل قواتها.

لتعمل أيها الكلمة الإلهي في قلبي، سمواتك الجديدة.

ولتضرم كل ما وهبتني فتحمل قوتك وإمكانياتك بروحك القدوس!

v   هب لي خوفك، مركبة إلهية تسندني وقت الضيق!

فإنه ليس لي خيل ولا مركبات، لكن مخافتك هي قوتي!

ليحملني خوفك فوق تيارات الضيق، ويجتاز بي القبر فأحيا أبديًا!

v   لتتطلع بعينيك إليّ، فإنني في حاجة إلى حبك!

لتنظر إليّ فأترك كل شيء وأجري وراءك!

<<

 


 

المزمور الرابع والثلاثون

شكر من أجل النجاة

ما حملته رسالة بطرس الرسول الأولى (الأصحاحان 2، 3) وغيرها من الرسائل الأخرى من اقتباسات زاخرة في هذا المزمور، وما ظهر من أصدائه عليها، لهو دليل قوي على ما تدين به كل الأجيال لهذا المزمور.

كتب داود النبي هذا المزمور عندما غيّر عقله أمام أبيمالك، متظاهرًا بالجنون، فطرده الملك. لقد ذهب داود النبي مرتين إلى أرض الفلسطينيين؛ المرة الأولى كان بصحبة عدد قليل من الرجال ( 1 صم 21: 4-15)، وقد ملأه الخوف إذ جاء إلى جت مدينة جليات الجبار الذي قتله داود، وقد جاء يحمل سيف بطلهم، فثاروا ليقتلوه. لقد وجد أرامل وأيتامًا ترملن وتيتموا بسبب داود، ولم يكن ممكنًا أن يستضيفوه كطريد شاول، إنما حسبوه جاسوسًا خبيثًا ومتهورًا. قُدّم للملك فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون، فقد تمتع المجانين بامتيازات، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم، كما حسب البعض أن بهم روحًا يخافونه ويرهبونه[651]. طرده الملك فهرب إلى مغارة عدلام، وقد نظم هذا المزمور بهذه المناسبة: في المرة الثانية جاء إلى جت (1صم 27-29) ومعه ستمائة جندي وعائلته، فلم يتشكك الفلسطينيون في أمره، خاصة وأن مطاردة شاول له صارت علانية ومتكررة عرفتها الأمم المحيطة[652]. رحب به ملك جت وأعطاه صقلغ ليسكن فيها، ربما ليكون سندًا له، أو ليقيم منه ومن رجاله قوة مضادة لشاول. مكث هناك سنة وأربعة أشهر.

في عدلام "اجتمع إليه كل رجل متضايق، وكل من كان عليه دين، وكل مرّ النفس، فكان عليهم رئيسًا، وكان معه نحو أربعمائة رجل" (1 صم 22: 2).

لقد أخفق اخفاقًا ذريعًا ولم يسلك بالإيمان. لا يمكننا أن نبرر صنيعه هذا أمام الملك، متظاهرًا بالجنون لخداعه. فالحق والإخلاص والصراحة هي أمور حتميّة يلتزم بها المؤمن في كل الظروف لا مناص منها، فلا يليق برجل الله أن يلجأ إلى طريق خداع يحمل ضعف إيمان، وإن كان أولئك الذين يبررون ما تتطلبه فنون الحرب واسترتيجيته يوافقون على هذا المسلك الخادع الذي لجأ إليه داود!

إن كان داود النبي قد ضعف فالرب لم يخذله، وإنما برحمته خلصه. لهذا امتلأت نفس داود بالتسبيح، مقدمًا الشكر لله على الدوام من أجل معونة نعمته ورأفته المتحننة.

لا توجد صعوبة بخصوص اسم الملك، فقد ورد في السجلات التاريخية أنه "أخيش"، وجاء هنا "أبيمالك"؛ فقد كان "أبيمالك" لقبًا يخص ملوك الفلسطينيين آنذاك، وهو يعني: "أبي يملك"، وذلك كما كان لقب "فرعون" خاص بملك مصر قديمًا، و"قيصر" لأباطرة الرومان، و"أجاج" لملوك عماليق.

من جهة مادة المزمور، لا يبدو فيه تناقض؛ فإن كان داود قد سلك بما لا يتفق مع الإيمان، بل في خوف وعدم إيمان، لكنه مع ذلك لم يتكل على تصرفاته وإنما كان في أعماق قلبه واثقًا بالرب. وحينما صار في أمان مختبئًا في مغارة عدلام اعترف بفشله المخزي أمام الرب، وحسب خلاصه ليس ثمرة تصرفاته إنما هو عطية إلهية من قِبَلْ صلاح الله. هذا ما ملأ نفسه بروح التسبيح لتفيض بهجة تشيد بصلاح الرب ومراحمه.

من جهة لغة المزمور فهو من المزامير الهجائية، يقترب في بنيانه من المزمور 25، كلاهما يبدأن بالحروف الأبجدية العبرية بالترتيب، ولكن حرف vow محذوف.

أخيرًا فإننا حينما نشعر أننا قد فقدنا كل شيء، وأننا قد أخفقنا تمامًا نجد في المزمور 34 العون، إذ يشجعنا على المثابرة. في هذا المزمور كما في أمثلة القديسين العظماء المذكورين في (عب 11) نختبر عذوبة صلاح الله؛ ومن ثم نقدر أن نشترك في ترديد تسبحتنا السماوية هنا على الأرض. نحتمي في الله هنا كعربون للسلام الأبدي[653].

الإطار العام:

1. تسبيح الله                          [1-3].

2. أسباب التسبيح                     [4-10].

3. هلُم أيها الأبناء واسمعوني         [11-14].

4. الأمان الإلهي                      [15-23].

1. تسبيح الله:

"أبارك الرب في كل وقت،

وفي كل حين تسبحته في فمي" [1].

تعتبر الآيات [1-3] تعليقًا رائعًا على النصيحة المقدمة لنا في العهد الجديد: "افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا" (في 4: 4). فالروحانية الحقة تستعلن خلال الفرح الداخلي الدائم والذي يُعبر عنه بالتسبيح الدائم حتى في أحلك لحظات الظلمة. يليق بنا أن نشكر الله ونسبحه في كل وقت، وفي جميع أحوالنا، في أيام الفرج كما في أيام الضيق، في الصحة والمرض، في الألم والفقر والاضطهاد، حتى في وسط آلام الموت، ففي كل وقت يُظهر الله نعمته في حياة المؤمن. في كل يوم يتلمس الإنسان التقي معالم مراحم الله وبصماتها فيسبح الله تسبيحًا جديدًا. يتمجد الله في حياة المؤمن، ويعتز المؤمن بعمل الله الدائم في حياته، قائلاً مع المرتل: "بالرب تمتدح نفسي" [2]. فإننا إن كنا نرغب في الفرح بالرب ليكن هو فرحنا ومجدنا، الأمر الذي يهب قلوبنا المتألمة سلامًا حقيقيًا.

في غربته، ووسط الحرمان الخارجي، والضغوط الشديدة، يقول داود النبي: "أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي" [1]. فقد عرف المرتل أنه ليس من عمل على الأرض ولا في السماء أشرف ولا أعظم من التسبيح؛ إنه عمل ملائكي!

حينما نسقط في ضيق يلزمنا أن نتذكر معاملات الله معنا في الماضي، ومراحمه غير المنقطعة، فتتحول قلوبنا إلى الفرح والتسبيح، إذ تترجى بثقة ويقين مراحم الله الجديدة.

في ضعفنا البشري يصعب أحيانًا أن نسبح الله وسط آلامنا ونباركه، لكن مسيحنا الذي نزل لأجل الألم قدم تسابيح حمد لأبيه حتى عند شربه الكأس في البستان، وقيل عنه إنه من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الآلام مستهينًا بالخزي (عب 12: 2). وهو وحده قادر بالحق أن يحقق كلمات المرتل هذه. أما نحن فلا نستطيع ما لم نتحد به، فيهبنا شركة حياته المتهللة، لنصير به أشبه بملائكة، نهتف بسان الشكر: "أبارك الرب في كل وقت..."

v   يقول المسيح هذا، ليت المسيحي أيضًا يردد ذلك، فأن المسيحي متحد بالمسيح. لقد صار المسيح إنسانًا لهذه الغاية: أن يصير المسيحي ملاكًا، يصرخ: "أبارك الرب..."

يلزمكم أن تباركوه حين يمنحكم عطايا، وتباركوه حين يأخذها منكم، فإن هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ، لكنه لن يأخذ "ذاته" ممن يباركونه.

لا يبارك الرب كل حين إلا الودعاء [2]؛ هذه الوداعة التي علمنا إياها ربنا في جسده ودمه، فإنه حينما بذل جسده ودمه لأجلنا وضع أمامنا وداعته مثالاً.

القديس أغسطينوس

v   كما سبَّح داود الوديع في زمن الضيق: قائلاً: "أبارك الرب في كل وقت" [1]، لم يكف الطوباوي بولس عن شكر الله في كل رسائله. ففي وقت الفرج لم يتوقف عن التسبيح، وفي وقت الشدة كان يمجد الله، عالمًا أن الضيق ينشئ صبرًا، وفي الصبر تزكية، وفي التزكية رجاء، والرجاء لا يُخزي (رو 5: 3).

ليتنا نحن أيضًا تابعي هؤلاء القديسين لا نكف عن الشكر في كل وقت[654].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   ليتكلم ذاك الذي يسكن في قلوبنا على شفاهنا أيضًا. لتخدم ألسنتنا ذاك الذي تخدمه نفوسنا، فنتأهل للقول مع النبي: "أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي"[655].

v   من هو ذاك الذي يبارك الرب في كل وقت؟ الإنسان الذي لا تفسده ثروته الطائلة، ولا ترهبه الشدائد. هذا هو السلام الأول والحقيقي أن نكون في سلام مع الله، عندئذ يتحقق أيضًا السلام في داخلنا[656].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v   شكرنا لله أهم من تنفسنا...

لكل شيء وقت كما يُعلّم سليمان، وكما أعتقد أنا أيضًا... (أما الشكر ففي كل وقت)[657].

القديس غريغوريوس النزينزي

إن كنا قد تمتعنا بالإنسان الجديد على صورة خالقنا فامتلأت قلوبنا تسبيحًا، لزم أن نُعبِّر عما في القلب بالفم واللسان. نشكره بالقلب والفكر واللسان والعمل، فنختبر عذوبة الحياة الجديدة تحت كل الظروف، إذ لا نعرف للتسبيح وقتًا خاصًا، بل هو نبضات قلب الإنسان الداخلي، إن توقفت نفقد شركتنا مع الله حياتنا.

يرى العلامة أوريجانوس أن من يشكر الله أو يسبحه وقت الفرج يكون كمن يرد له دينًا عليه، أما من يمارسه وقت الضيق فيكون كمن صار دائنًا له.

يتحقق التسبيح لله وتمجيده خلال الإتضاع، فبشعورنا بضعفنا الذاتي نتلمس عظمة عمله في حياتنا.

"بالرب تمتدح (تفتخر) نفسي، ليسمع الودعاء ويفرحون.

عظموا الرب معي، وارفعوا بنا اسمه جميعًا" [2-3].

الإفتخار أمر طبيعي في حياة الإنسان، إن أساء إستخدامه صار فريسي الفكر، أما إن افتخر بضعفاته كما فعل الرسول بولس فينال نعمة الله وقوته، عندئذ يمتدح الله في شخصه وسماته ومواعيده وعهده وأعماله العجيبة...

بالاتضاع والوداعة يدرك الإنسان أن ما ناله من صلاح ليس عن إستحقاق، إنما هو هبة إلهية مجانية؛ فيشكر الله على مراحمه التي لا يدركها غير المؤمنين، ويفرح ويمتلئ رجاءً لينال كمال المجد الأبدي.

v   لا تُهنئ نفسك عندما تمتدح ذاتك، وإنما تمّجد في الرب، فتستطيع أن ترنم بثقة، قائلاً: "بالرب تمتدح نفسي"[658].

الأب قيصريوس أسقف آرل

يحذرنا الآباء من إساءة فهم الوداعة أو الإتضاع، فإننا وإن كنا ندرك ضعفنا الذاتي يليق بنا أن نثق في عمل الله الذي يهبنا القدرة على ممارسة غير المستطاع، وكما يقول الرسول بولس: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13).

v   احذروا لئلا تهلكوا أنفسكم وأنتم تمارسون مثل هذه الأعمال. يجب ألا تطلبوا الظهور بأكثر ورعًا أو إتضاعًا مما ينبغي أن يكون، لئلا تكونوا ساعين نحو المجد بامتناعكم عنه. لأن كثيرين ممن يخفون عن أنظار كل البشر فقرهم (الاختياري) ومحبتهم وصومهم يرغبون في إثارة الإعجاب بهم من خلال إزدرائهم بتلك الأمور عينها، والغريب

أنهم يسعون نحو المديح بينما يتظاهرون أنهم بعيدون كل البعد عنه[659].

القديس جيروم

الإنسان المتضع ليس فقط يمجد الله، لكنه يجتذب الآخرين لكي يشتركوا معه في تمجيد إسم الله، إذ يقول المرتل: "عظموا الرب معي، وارفعوا بنا اسمه جميعًا" [3].

الله لا يحتاج إلى من يعظمه أو يرفع اسمه، إنما نحن بروح الإتضاع نتحد معًا لنشارك السمائيين تمجيداتهم وتسابيحهم، فنتمتع بعذوبة خاصة.

2. أسباب التسبيح:

يبدأ المرتل في سرد أسباب تسبيحه لله.

1. الله المنقذ من الضيقات:

"طلبت إلى الرب فاستجاب لي.

ومن جميع مساكني (مخاوفي) نجاني" [4].

اختبر المرتل نجاة عظيمة من كل ضيقاته، فقد كانت مخاوفه عظيمة. لقد قتل جليات الجبار، بطل ملك جّت الذي يقف أمامه الآن كغريب عاجز بلا حيلة، هاربًا وسجينًا. تذكر الفلسطينيون ما فعله بهم، وبدون شك اشتكوه لدى ملكهم. كان كل شيء يبدو مظلمًا أمام عقله وفكره. لكن الرب خلصه من أيدي الملك، وسمح له أن ينطلق إلى حصن وهناك يلتقي بكل عائلته وأصدقائه. على أي الأحوال، الله يخلص بالقليل وبالكثير من فكيّ الأسد ومن سيف الملك.

لقد سمح الله لداود أن يتعرض لمتاعب كي يطلب إلى الله مصليًا، وأحيانًا كان يؤجل الاستجابة حتى تتعاظم حاجته إليه فيصرخ قلب داود، ويعطيه الله دليلاً على استجابته ويخلصه.

لقد اختبر داود النبي أن الله الساكن في السماء هو إله المظلومين والمتألمين، يميل بأذنه ليسمع تنهدات قلبهم الخفية، إذ يقول: "لأنه اطلع من علو قدسه؛ الرب نظر من السماء على الأرض؛ ليسمع تنهد المغلولين" (مز 102: 17).

داود النبي المطرود من أهله ومن شعبه ومن كرسيه (الذي لم يستلمه بعد)، يقف كأسير بل كسجين... لكنه يجد الله الساكن في السماء أقرب إليه من الكل.

2. الله واهب الإستنارة:

"تقدموا إليه واستنيروا؛

ووجوهكم لا تخزى" [4].

لعل ما هو أعظم من النجاة من الضيق هو التمتع بإشراقات الله على نفسه وسط آلامها.

إن تطلعنا إلى العالم بضيقاته أو أفراحه نكتئب ونتحير، أما إن تطلعنا إلى الله نستنير ولا تخزى وجوهنا. وكما يقول الرسول بولس: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد" (2 كو 3: 18).

وسط الآلام نتطلع إلى المصلوب لنشاركه صليبه وننعم بمجد قيامته في داخلنا.

v   إذا ما استنرتم، وإذا ما صار ضميركم خالصًا، تبقى الضيقات أيضًا، إذ يبقى ضعف ما دائمًا، حتى يُبتلع الموت إلى غلبة، ويلبس هذا الفاسد عدم فساد. لابد لنا من التأديب في هذا العالم، ولابد من احتمال بعض المشقات والتجارب. وسيطهّر الله كل شيء، ويخلصكم من كل شيء، ومن كل ضيقة. اطلبوه هو وحده!

v   لنقترب إليه ونستنير... لأنه هو النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان آتيًا إلى العالم. بكونه النور لا يمكن أن يخزى، ولا يسمح لمن يستنير (به) أن يُخزى.

القديس أغسطينوس

3. الله يحوطنا بملائكته:

"يعسكِر ملاك الرب حول كل خائفيه وينجيهم" [7].

يوجد رأيان في معنى "ملاك الرب". يعتقد كثيرون أنه يعني رسولاً سماويًا مرسلاً لحماية الأبرار، ويقاتل أعداءهم؛ بينما يرى آخرون أن تعبير "ملاك الرب" يشير إلى الرب نفسه الذي نزل إلى الأرض فاديًا ومخلصًا (تك 48: 16؛ خر 23: 20، 23؛ 32: 34؛ قض 13: 15-22؛ ملا 3: 1).

تُرسَل الملائكة لخدمة معينة لحساب خائفي الرب الذين يرثون الخلاص (عب 1: 6-7). إنه من اللائق بنا جدًا أن نفكر في خدمة الملائكة بفكر سليم مفرح، وقد أشار الكتاب المقدس كثيرًا إلى ذلك (2 مل 6: 15-17؛ مز 16: 11؛ لو 16: 22). فإن كان أعداؤنا كثيرين جدًا وأقوياء لكن هؤلاء الرسل السمائيين هم أكثر في العدد وأعظم في

القدرة. توجد جماعة بلا حصر متفوقون في القوة يسندوننا[660].

v   "غرست كرمًا وسيّجت حوله". من المؤكد أن الرب يدعو النفوس البشرية كرمه، تلك النفوس التي أحاطها بسلطان تعاليمه وحراسة ملائكته[661].

القديس باسيليوس

الله في حبه لنا يسكن في وسطنا، بل وفينا، ويقيم ملائكته حراسًا لنا ضد الشر. أرسل ملاكًا ليخرج الرسول بطرس من السجن. ويضرب هيرودس مضطهده فصار يأكله الدود ومات (أع 12).

v   إذ كنت أعد نفسي للزواج بابن الملك، بكر كل خليقة، رافقتني الملائكة وخدمتني وقدمت لي الناموس كهدية عرس[662].

v   هؤلاء هم الملائكة حراس الأطفال الذين يرون وجه الآب في السماء[663].

v   حينما رأت الملائكة ملك الطغمات السمائية يسير في أماكن الأرض، دخلوا الطريق الذي افتتحه، وتبعوا ربهم، وأطاعوا إرادته، ذاك الذي وزعهم على المؤمنين لحراستهم. الملائكة في خدمة خلاصك... إنهم يقولون فيما بينهم: "إن كان قد أخذ (المسيح) جسدًا قابلاً للموت، فكيف نقف نحن مكتوفي الأيدي؟ تعالوا أيها الملائكة لننزل جميعًا من السماء". هذا هو السبب الذي لأجله كانت جموع الطغمات السمائية تمجد الله وتسبحه عند ميلاد المسيح. لقد امتلأ كل موضع بالملائكة[664].

v   إن كان ملاك الرب يعسكر حول خائفيه وينجيهم (مز 33: 8)، فيبدو أنه متى اجتمع عدد من الناس لمجد المسيح يكون لكل منهم ملاكه يعسكر حوله، إذ هم خائفوا الرب. كل ملاك يرافق إنسانًا يحرسه ويرشده، وبهذا متى اجتمع القديسون معًا تقوم كنيستان: كنيسة من البشر وأخرى من الملائكة[665].

العلامة أوريجانوس

v   أولئك الذين يشير إليهم النص (نش 5: 7) كحرس المدينة هم الأرواح الخادمة المرسلة لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص...

جيد للنفس أن يجدها الملائكة الذين يطوفون حول المدينة (السماوية)[666].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

4. إختبار عذوبة الله:

"ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!" [8].

استخدمت هذه العبارة في (عب 6: 5، 1 بط 2: 3) لتصف الجرأة في الإيمان، ولتحث على الدخول إلى الخبرة العملية، فالتذوق لا يقف عند اختبار عَرَضي عشوائي، إنما تقديم البرهان بالاحتبار العملي الحيّ.

يدعو المرتل المؤمنين أن يذوقوا وأن ينظروا. والنظر معناه جني ثمار هذا التذوق والتمتع به؛ فلا يمكن لفاقد بصر أن يدعوا أصدقاءه للتمتع بمشاهدة قوس قزح، ولا الأصم أن يحث آخرين على الاستماع إلى الموسيقى.

v   إن كنتم لا تفهمون تصيرون أنتم هو الملك أخيش؛ حيث يغير داود ملامحه وينصرف عنكم ويترككم ويذهب في طريقه.

القديس أغسطينوس

v   وكما يقول المرتل، إن ذاق إنسان الرب بالحق، أي إن حمل الله في داخله، فإنه يمتلئ بذاك الذي يعطش إليه ويجوع، كما وعد قائلاً: "أبي وأنا إليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). وإني أظن أن العظيم بولس أيضًا الذي تذوق ثمار الفردوس التي لا يُنطق بها كان يمتلئ مما يتذوقه وفي نفس الوقت كان دائم الجوع إليه[667].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v   الآن يقول: "ذوقوا"، لأنه يمكن لمحبة الله أن تنعش النفس لكنها لا تشبع الرغبة، بغض النظر عن مقدار الإيمان أو قدر الإشتياق، فهي تثير العطش أكثر فأكثر إذا ما رشفتها حافة الشفاه. لهذا السبب يقول (السيد) عن نفسه: "من يأكلني يعود إليّ جائعًا، ومن يشربني يعود إليّ ظمأنًا" (إبن سيراخ 24: 29)، وذلك بسبب عذوبته التي تثير

شهية قوية نحوه، وعذوبة لا تجزع منها النفس عندما تشبع منها[668].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v   كل صلاح نملكه هو تذوق للرب...

يصير الناس كاملين عندما يدركون أنهم غير كاملين[669].

القديس جيروم

v   إلى الذين يذوقون وينظرون خلال الخبرة "أن الرب حلو"، يصير هذا التذوق دعوة لمزيد من التمتع. ومن ثم فالذي يقوم أمام الرب على الدوام يختبر هذا الدافع المستمر نحو مزيد من التقدم[670].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

كلمات المرتل: "ذوقوا وأنظروا ما أعذب الرب" [8] هي دعوة لاختبار الحب الحق. فإن الله هو الحب، من ينله يعيش في الحب الصادق الأبدي؛ ومن يقتني الحب إنما يقتني الله ليثبت في الله والله فيه! لنتقدم إلى الرب، ولنتعرف عليه؛ لنختبره ونراه!

5. الله ملجأ سائليه:

الأشبال بمالها من قوة طبيعية قد تجوع، أما رجال الله المحبين له، الذين يخافونه كأب لئلا يجرحوا مشاعر أبوته الحانية بخطاياهم، لا يعتازون إلى شيء.

"اخشوا الرب يا جميع قديسيه،

فإن الذين يخشونه لا يعوزون شيئًا.

الأغنياء (الأشبال) افتقروا وجاعوا.

إن الذين يبتغون الرب فما يعدمون كل خير" [9-10].

v   يقول المزمور: "اخشوا الرب يا جميع قديسيه"... إن كان القديسون الذين يحبون الله يخافونه، فكيف يقول الكتاب إن المحبة تطرد الخوف خارجًا (1 يو 4: 18)؟

يكشف لنا القديس يوحنا عن نوعين من الخوف: أحدهما خوف بدائي، والثاني خوف كامل. الأول يوجد في المبتدئين، ويدعوه البعض "خوف العبيد"، أما الآخـر فهـو

خوف الكاملين في القداسة، يناله الذين بلغوا إلى مستوى الحب الحقيقي.

واحد يطلب الله خوفًا من العقاب وهذه كما قلنا هي نقطة البداية... والآخر يشتاق إلى الله لأجل محبته له شخصيًا، فهو يحبه ويعرف ما يرضيه. مثل هذا الإنسان يتذوق عذوبة الوجود مع الله، فيخشى لئلا يسقط عنه، يخاف لئلا يُحرم من حضرة الله.

لا يمكن لإنسان أن يبلغ الخوف الكامل ما لم يكن فيه الخوف البدائي، إذ يقول الكتاب: "رأس (بدء) الحكمة مخافة الله" (مز 111: 10)[671].

الأب دوريثيؤس

v   يذكر الكتاب المقدس ثلاثة أنواع من الغنى أو الممتلكات: ما هو صالح، وما هو رديء، وما هو ليس بالصالح ولا رديء... فالممتلكات الرديئة تلك التي قيل عنها: "الأشبال احتاجت وجاعت" [10]، "ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم" (لو 6: 24). ترك هذا الغنى فيه سمو في الكمال، إذ يقول الرب عن الفقراء (الذين ليس لهم هذا الغنى): "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (مت 5: 3). وجاء في المزمور: "هذا المسكين صرخ والرب استمعه" [6]، وأيضًا: "الفقير والبائس يسبحان اسمك" (مز 74: 21).

الغني الصالح هو ما يمتلكه مقتني الفضائل[672]...

الأب بفنوتيوس

3. هلُم أيها الأبناء واسمعوني:

امتاز داود الملك بحبه لشعبه وحنوه عليهم، يتحدث معهم بكونه خاصته وبنيه. كان رجل دولة ورجل حرب وواضع مزامير وموسيقار، لكنه لم يهتم قط أن يعلّم شعبه كيف يستخدمون السيف أو الرمح، ولا كيف يعزفون على القيثارة، ولا يشرح لهم قواعد سياسة الدولة، وإنما أراد أن يعلمهم "مخافة الرب"، بكونها أفضل من كل الفنون والعلوم، بل وأعظم من الذبائح الدموية.

"هلم أيها الأبناء واسمعوني،

لأعلمكن مخافة الرب" [11].

هكذا إذ يتهلل قلب داود النبي، وينفتح لسانه بالتهليل من أجل خلاص الرب العجيب، يشتاق أن يتعلم كل الشعب مخافة الرب ليختبر عذوبة الخلاص. هنا يرى المرتل أن التمتع بمخافة الرب تحتاج إلى تعلم وتدرب؛ وقد استخدم القديس يوحنا الذهبي الفم هذه العبارة ليوضح أن التقوى فن، تحتاج إلى معلم[673].

v   اقتناء مخافة الرب تحتاج إلى تعليم... ألا ترون أن الفضيلة تحتاج أن تُعلم (إش 1: 16-17)؟![674]

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس أكليمندس الإسكندري أن المتحدث هنا هو ابن داود، المخلص نفسه، الذي يدعو مؤمنيه للاستماع إليه بكونه "المعلم" واهب المعرفة ومعطي الكمال.

v   أليس المخلص هو الذي يريد من الغنوسي (المؤمن صاحب المعرفة) أن يكون كاملاً، وذلك كما يقول الآب السماوي نفسه: "هلم أيها الأبناء واسمعوني، لأعلمكم مخافة الرب"؟! فالله لا يريده محتاجًا إلى معونة الملائكة (في التعليم) بل أن يتقبل (التعليم) منه هو، فيتأهل للتمتع بالحماية الإلهية بالطاعة[675].

القديس أكليمندس الإسكندري

إن كان الله قد سلّم الشريعة بيد ملائكة (أع 7: 53)، وتحدث معنا خلال الأنبياء والرسل وكهنته، لكننا في الحقيقة نتقبل التعلم منه، بكونه العامل فينا وبنا (مت 23: 9).

يسأل المرتل:

"من هو الإنسان الذي يهوى الحياة؟ ويظن أنه يرى أيامًا صالحة؟" [12] يقول القديس أغسطينوس: [أما يجيب كل واحد منكم، قائلاً: "أنا". هل يوجد بينكم إنسان واحد لا يهوى الحياة؟ أعني لا يرغب فيها! أو لا يتنهد كل واحد ليقتني أيامًا صالحة؟!... ماذا ترغبون؟ الحياة وأيامًا صالحة! انتبهوا واعملوا. "أكفف لسانك عن الشر..."].

أتريد أيامًا صالحة أم ليالٍ شريرة، ليشرق شمس البر في داخلك، فتصير حياتك أيامًا، أو نهارًا بلا ليل، تحمل برّ المسيح وإشراقاته، فلا تجد ظلمة الخطية لها موضعًا فيك.

من يتحد بالمسيح يسوع ربنا لا يعرف الموت، ولا تدخل الظلمة إلى قلبه أو إلى إنسانه الداخلي، لذا يختبر الحياة ويعيش نهارًا مضيئًا، حتى يأتي يوم الرب المنير!

لا يقف المؤمن في سلبية لكن له دوره، يعمل بالسيد المسيح الساكن فيه، فما هو دوره؟

1. الجانب السلبي:

"اكفف لسانك عن الشر،

وشفتاك لا تنطقا بالغش.

حٍد عن الشر" [13-14].

إذ تتقبل فيك كلمة الله يحفظ لسانك عن الشر وشفتاك عن النطق بالغش، إذ لا شركة بين الخير الأعظم والشر، وبين الحق والغش. مسيحنا هو حافظ فمنا وهو باب شفاهنا الحصين، به تتقدس كلماتنا، فلا تخرج كلمة شريرة غاشة.

v   لم يعطنا الله اللسان لننطق بالشر، ونثور ونخاصم بعضنا بعضًا وإنما لنرتل بتسابيح الله، وعلى وجه الخصوص "ننطق بالأمور التي تعطي نعمة للسامعين" (أف 4: 29)، الأمور التي تعطي تهذيبًا ونفعًا.

من ينطق بالشر يخزي نفسه أولاً وبعد ذلك من يتحدث معه[676].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   هدئ فكرك أولاً، فإن لم تستطع، فضع حافظًا للسانك[677].

القديس أمبروسيوس

v   تأملوا كيف يقطع مصدر الشر خلال مخافة الرب: "اكفف لسانك عن الشر"، أي لا تؤذي مشاعر أخيك بشيء ما ولا تتحدث عنه بالشر، ولا تضايق الآخرين. صن شفتيك عن النطق بالغش، أي لا تنطق بما يخدع قريبك. يضيف بعد ذلك "حد عن الشر"؛ إذ يتحدث أولاً عن خطايا معينة كالنميمة والغش ثم يستمر في الحديث بشكل عام عن جميع الشرور[678].

الأب دوروثيؤس

v   يشير بهذه الكلمات إلى المعرفة، بالامتناع عن الشر وفعل الخير، معلمًا أن الكمال هو بالكلمة والفعل معًا[679].

القديس أكليمندس الإسكندري

2. الجانب الإيجابي:

"واصنع الخير" [14]. من يقتني السيد المسيح كمعلم له وكواهب الحياة والأيام الصالحة، لا توقف عند الكف عن الشر، إنما يلزمه أن يمارس الخير فإن "من يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل فذلك خطية له" (يع 4: 17).

v   لا يكفي أن تدير ظهرك للشر فحسب، وإنما يلزم أن تصنع الخير أيضًا.

لا يكفي ألا تعرّي إنسانًا فحسب، وإنما يجب أن تكسو العريان.

إن كنت لا تعرّي إنسانًا فأنت قد حُدت عن الشر، لكنك تصير صانع خير باستضافتك الغريب في بيتك.

القديس أغسطينوس

3. السعي وراء السلام:

"اطلبوا السلام واتبعها" [14]. لم يقف المرتل عند الجانب الإيجابي إنما طالب بالجهاد في طلب السلام، أي في طلب السيد المسيح والجد في إثره.

v   "اطلب السلامة واتبعها"... لقد سبقنا السلام نحن جميعًا، لأن ربنا هو سلامنا، وقد قام ثانية وصعد إلى السماء... حينما تقومون أنتم أيضًا يتغير المائت، وتنعمون بالسلام حيث لا يضايقكم أحد. هناك تجدون السلام الكامل بحق، حيث لا يوجد جوع بعد. في هذا العالم يهبكم الخبز سلامًا. انزعوا الخبز تثور الحرب في أعضائكم الداخلية.

v   حقًا يستحيل تجنب المنازعات التي تنشب أحيانًا بين الإخوة وبين القديسين، حتى بين بولس وبرنابا (أع 15: 39)، لكنه ليس بالنزاع الذي يشوّه الانسجام، ولا الذي يقتل الحب، لأنكم أحيانًا تضادون حتى أنفسكم ومع ذلك لا تبغضون أنفسكم.

القديس أغسطينوس

v   يليق بابن السلام أن يطلب السلام ويتبعه. الذي يعرف رباطات الحب ويحبها يلزمه أن يمنع لسانه عن شر الخصام[680].

القديس كبريانوس

4. الأمان الإلهي:

إن كان الله كأب سماوي يدعو أولاده للاستماع إليه وتعلم مخافته عمليًا، فيرفضون الشر ويصنعون الخير، مجتهدين في سعيهم نحو السلام، أي في التمتع بالسيد المسيح نفسه سلامنا، فإن الله من جانبه يعطي اهتمامًا شخصيًا بخائفيه الصديقين، خاصة في وقت الضيق. يتطلع بعينيه نحوهم كأنه لا ينشغل بغيرهم، ويميل بأذنيه إلى صرخات قلبهم كأنه قد ترك تسابيح السمائيين وتمجيداتهم ليصغى لمحبيه الذين في ضيقةٍ، يقاوم الأشرار مقاوميهم، أما هم فيحفظ عظامهم ويفدي نفوسهم.

1. "فإن عيني الرب على الصديقين" [15].

يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية أو أم تدرب طفلها على المشي، تمسك بيديه لتتركهما إلى حين؛ يسقط ويبكي في عتاب، لكن عينيها تتطلعان إليه وأذنيها تستجيبان لصراخه. إنها تترك يديه إلى حين من أجل نموه، كي يتعلم المشي والاعتماد على نفسه. هكذا نحن في حاجة إلى يديّ الله المترفقتين، وفي حاجة أن يبدو كمن يتركنا إلى حين لنصرخ إليه... يكفينا أن يتطلع إلينا ويميل بأذنيه إلى صرخات قلوبنا.

v   قد تتباعد أجسادنا عن بعضها بالمسافات، لكن عيني الله تتطلع إلينا دون شك، مادامت حياتي تستحق أن تتطلع عينا الله إليها، إذ قرأت في المزامير أن عيني الرب على الصديقين[681].

القديس باسيليوس الكبير

2. "فإن أذنيه مصغيتان إلى طلبهم" [15].

v   صلاة المتواضع تبلغ كما من الفم إلى أذن الله[682].

مار إسحق السرياني

v   إذ تجددنا (بالمعمودية) فلنثبت في هذه الحياة الجديدة بالحق، ونعود إلى وقار نفوسنا ونتقدس، فإن عيني الرب على الصديقين وأذنيه مفتوحتان على صلواتهم، لكن وجه الرب ضد فاعلي الشر[683].

القديس أكليمندس الإسكندري

3. "أما وجه الرب فعلى الذين يعملون الشر،

ليَمحُ مِنْ على الأرض ذكرهم" [16].

الله الصالح يتطلع بعينيه نحو الصديقين ويميل بأذنيه إلى طلبتهم، معلنًا اهتمامه الشخصي بهم وشوقه نحو إستجابة طلباتهم... نظرته إليهم وإنصاته لهم يبعثان فيهم الرجاء والحياة. أما صانعوا الشر فيقاومهم وجه الرب. يرون عينيه لهيب نار آكلة، تبيد ذكراهم حتى من على وجه الأرض. بمعنى آخر إن كان الصديقون يتألمون لكنهم يتمتعون بنظرات الله الحانية واهتمامه هنا على الأرض كما في السماء، أما الأشرار فيفقدون ذكراهم هنا ويُحرمون من الأمجاد السماوية. لقد مُحيت أسماء الأشرار مثل قايين وشاول الملك ودقلديانوس. حقًا قد نروي قصص شرهم، لكن برائحتها النتنة؛ ليس من يوقر ذكرهم أو يخشى بطشهم، ولا من يفكر قط أن يُحسب من ذريتهم. بينما يُذكر الملايين هابيل وأخنوح وابراهيم وإسحق وداود وحنّة والقديسة مريم والرسول بولس الخ... راجين أن ينظروهم قريبًا في المجد وأن ينضموا إلى شركتهم[684].

4. إستجابته لصرخات الصديقين:

لعل أعظم ما يتمتع به الصديقون وسط الضيق إدراكهم إستجابة الله لصراخهم، وإحساسهم أنهم موضع إهتمامه، يخلصهم من جميع شدائدهم الروحية والنفسية والجسدية. يعرف إحتياجاتهم وأشواقهم ويسد كل أعوازهم، يهبهم نعمة الخلاص، مكللاً حياتهم بالنصرة المستمرة. حقًا يسمح لهم بالضيقات لكنه لن يسد أذنيه عن صوت صلواتهم الجادة المتضعة والمملؤة ثقة فيه. يفرح بصوتهم الواثق فيه، ويفرحون هم باهتمامه بهم. يقترب إليهم جدًا، ويعلن سكناه داخلهم، فتخلص نفوسهم، إذ يقول المرتل:

"الصديقون صرخوا والرب إستجاب لهم،

ومن جميع شدائدهم نجّاهم،

قريب هو الرب من المنسحقي القلب،

والمتواضعين بالروح يخلصهم" [17-18].

v   "قريب هو الرب..." يتجه الله نحونا، حتى أنه يستجيب لنا قبلما ندعوه. أذناه مفتوحتان لنا، يأخذ صلواتنا مأخذ الجد.

v   الله عالٍ، ويليق بالمسيحي أن يكون متواضعًا إن أراد أن يكون الله المتعالي قريبًا منه. عليه من جانبه أن يتضع وينسحق.

اتضعوا فينزل إليكم.

القديس أغسطينوس

v   يقول الرسول: "أعرف أني أتضع" (في 4: 12). الاتضاع بجهل لا يستحق المديح، إنما الاتضاع الحامل وداعةً ومعرفةً للذات هو الذي يُمدح. لأن ثمة اتضاع يُبنى على الخوف، وآخر يقوم على افتقار في الخبرة وعلى الجهل، لهذا يقول الكتاب: "والمتواضعين بالروح يخلصهم"[685].

القديس أمبروسيوس

بانكسار القلب والإتضاع بمعرفة نتمتع بمعيّة الرب وقربه إلى قلوبنا بل وسكناه فيها، كما ننعم بالخلاص. ماذا يعني الخلاص هنا؟

تشعر قلوبنا بالانكسار لأسباب متعددة منها: إدراكي أن خطيتي قد كسرت وصية الرب واهبة الحياة وقاومت عمل الروح الناري في داخلي، أيضًا خطايا اخوتي وجهالاتهم تحزن نفسي، إذ "من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب" (2 كو 11: 29)؛ كذلك تأديبات الله لي أو لأخوتي تكسر أعماقي! أمام هذا الانكسار القائم على معرفة روحية وإيمان بالله شافي منسحقي القلوب يتدخل الله ليغفر خطاياي، ويعمل لأجل بنيان الجماعة، ويدخل بي إلى مجد قيامته. اختبر الحياة الجديدة المقامة في أعماقي كما في حاة إخوتي! هذا هو الخلاص!

يقدم لنا المرتل وعود إلهية بالتدخل لخلاص أولاد الله، إذ يقول:

"كثيرة هي أحزان الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب" [19].

v   هل يقول المرتل: ليكن المسيحيون أبرارًا وينصتون إلى كلماتي فلا يعانون من ضيقات؟ كلا! ليس هذا هو وعده، بل في الواقع يعاني الناس الأشرار من ضيقات أقل، بينما يكابد الأبرار من شدائد أكثر. لكن الأولين يبلغون ضيقة أبدية بعد معاناتهم من ضيقات أقل أو مع عدم معاناتهم منها، ولا نجاة لهم؛ أما الأبرار فينعمون بالسلام الأبدي بعد كثرة الشدائد، ولا يقاسون بعد من أي شر.

القديس أغسطينوس

يخص الله قديسيه بكثرة الأحزان، لأنها نافعة جدًا لخلاصهم ولمجدهم الأبدي، مؤكدًا لهم خلاص أرواحهم. حقًا قد يخلصهم من المتاعب الجسدية أحيانًا كما فعل مع الثلاثة فتية في أتون النار ودانيال في جب الأسود، لكنه سمح برجم إسطفانوس، وأثناء رجمه كان الشهيد متهللآً بالروح، إذ رأى السموات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله (أع 7: 56).

يقدم لنا القديس أغناطيوس النوراني مثلاً حيًا لشوق المؤمنين الحقيقيين للدخول في الضيقات والآلام من أجل الرب، إذ كتب إلى أهل روما يمنعهم بقوة من محاولتهم الجادة في إنقاذه من الإستشهاد، وقد جاء في رسالته:

[لتأتِ عليّ كل هذه: النار والصليب، مجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر... لتنصب عليّ كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح[686]].

[القريب من السيفْ هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وإنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه[687]].

"يحفظ الرب جميع عظامهم، وواحدة منها لا تنكسر" [20].

تنطبق هذه العبارة على السيد المسيح حرفيًا كما أوضح العهد الجديد (يو 19: 31-37)؛ وتنطبق بمفهومهما الرمزي على داود النبي وجميع المؤمنين خائفي الرب حيث لا تنكسر عظمة واحدة من هيكل إيمانهم الحيّ. عناية الله بهم فائقة وحنّوه نحوهم عجيب، حتى شعور رؤوسهم محصية أمامه، وواحدة منها لا تسقط بدون إذنه. حقًا قد يسمح لشهدائه أن تتهشم عظامهم المادية، لكن بسماح منه وإلى حين حيث يقومون في مجد أبدي، أما عظام نفوسهم أي هياكل إيمانهم فلا يقدر أحد أن يُحطمها.

v   لا يليق أيها الإخوة الأحباء أن نأخذ هذه الكلمات [20] بمعناها الحرفي، لأن عظام الصديق إنما تشير إلى أساسات إيمانه، أي الصبر وإحتمال الشدائد.

القديس أغسطينوس

هذا بالنسبة للصديقين خائفي الرب، أما عن الأشرار فإنهم إذ يُفسدون حياتهم على الأرض يصير حتى موتهم شريرًا، لأنهم ينحدرون إلى مرارة أبدية وحرمان كامل ونهائي من حضرة الله واهب النعم.

"موت الخطاة شرير،

ومبغضو الصديق سيندمون" [21].

يقدم لنا السيد المسيح قصة "لعازر والغني" (لو 16: 19-31) ليقارن بين موت الأبرار وموت الأشرار، فيقول: "مات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم؛ ومات الغني أيضًا ودُفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: "يا أبي إبراهيم إرحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب".

v   يُنظر إلى موت الإنسان منتهى الخير أو الشر حسب حالة نفسه، لا حسب ما يُوجه إلى جسده من إهانات أو كرامات في أعين الناس.

القديس أغسطينوس

v   لم يقل إن الموت العنيف شر (كالموت في حادث)، بل موت الأشرار فقط هو شر[688].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   ما أمَّر الدود وما أقسى الظلمة المحزنة التي يرثها الأشرار[689]!

البابا أثناسيوس الرسولي

يختم المرتل المزمور بروح التهليل وتمجيد الله مخلص خائفيه، قائلاً:

"الرب ينقذ نفس عبيده،

ولا يندم جميع المتكلين عليه!"

إنه منقذنا من كل مرارة الخطية المهلكة للنفس!

 


 

شكر لأجل النجاة

v   تبقى نفسي تسبحك،

تسمح لي بالضيق لكي أتعرف على حقيقة ضعفي؛

أتعرف عليك بالأكثر،

أراك تنظر إليّ، وتميل بأذنيك إلى صلاتي.

وكأنه ليس في الوجود غيري.

تهتم بي، وتنصت لتنهدات قلبي الثمينة عندك!

ترسل ملائكتك لتحفظني وتنجيني،

أما أنت فتقترب إلى نفسي وتدخلها كعريس لها!

v   في وسط الضيق اختبر عذوبة وجودك فأصرخ:

ذوقوا وأنظروا ما أحلى الرب!

v   تتحدث معي كأب ومعلم،

تهبني مخافتك الواهبة الحياة فأرى أيامًا صالحة!

تضع حافظًا لفمي وتقيم بابًا حصينًا لشفتيّ.

بك أبغض الشر وأحب الخير،

أطلبك يا سلامة نفسي وأقتفي آثارك أيها الحبيب!

v   فترافقني حتى النهاية،

فيكون موتي معك ومع أبرارك،

ولا أموت موت الأشرار!

v   كن متكلي،

ورد إيماني،

فأنت وحدك هو رجائي.

<<

 

 

 


 

المزمور الخامس والثلاثون

صرخة طلبـًا للعون

سواء كُتب هذا المزمور كملازم للمزمور 34 أم لا، فحسن أنه وُضع بعده مباشرة. ويكمن السبب ليس فقط في تشابه الصيغ ووجود مقابلات بينهما (خصوصًا الحديث عن ملاك الرب الذي لا يوجد في أي موضع آخر في سفر المزامير سوى هنا في المزمور 34: 7؛ والمزمور 35: 5-6)؛ وإنما يكمن السبب أيضًا في الحديث هنا عن نوع الظلمة التي تبددت في المزمور السابق.

الخلاص الذي أُحتفل به في المزمور السابق نراه الآن لا يتحقق سريعًا ولا بدون ألم؛ إنما يتعرض المؤمن لآلام قد يطول أمدها إن شاء الله ذلك؛ غير أن داود النبي لم يشك قط أن يوم النجاة آتٍ حتمًا. مع كل إستغاثة تصدر عن قلبه طلبًا للعون تتطلع أنظاره إلى لحظة النجاة الأكيدة، لذلك يختتم كل قسم من أقسام هذا المزمور الثلاثة بالرجاء؛ ويُعتبر هذا المزمور مرثاة شخصية.

يتضرع داود النبي في هذا المزمور إلى الديان العادل ضد أعدائه الذين أبغضوه وأصروا على اضطهاده؛ ويُفترض أنهم شاول ورفقاؤه (1 صم 24: 9-15)، لأن الكلمات التي يبدأ بها هذا المزمور مذكورة في ذلك الأصحاح. وجاء في النسخة السريانية أنه كُتب بمناسبة هجوم الأدوميين، وذُكر في العربية أن هذا المزمور نبّوة عن التجسد الإلهي، وتخص المتاعب التي لقيها إرميا النبي من الشعب.

المزمور كله توسل قوي إلى الله العادل كطلب تحقيق قضائه ضد أعدائه مضطهدي شعبه خائفي الرب. هذه الصرخات لا تعني أن داود النبي قد حمل كراهية شخصية ضد مقاوميه، وإنما كما سبق فقلنا إنها تمثل نبّوة عما يتم بالنسبة للمصرّين على مقاومة الله دون توبة؛ كما تمثل صرخة ضد إنسان الخطية، "ضد المسيح"، المقاوم لكنيسة الله بوحشية وعنف في أيام الضيقة العظيمة. تمثل أيضًا صرخات دماء الشهداء وصرخات الأبرار الذين رحلوا من العالم (رؤ 6: 10).

اقتبس ربنا يسوع المسيح جزءًا من الآية [19] وطبقها على نفسه (يو 15: 25)، فقد كان داود النبي في حالات كثيرة رمزًا للسيد المسيح. ويُحسب هذا المزمور طلبة الشفيع الأعظم الذي أبغضوه بلا سبب. يقول القديس أغسطينوس: [المتحدث هنا هو المسيح نفسه بلا شك، فقد تعَّرض للضيق مرة بكونه الرأس، وفي أوقات أخرى في جسده (الكنيسة)، ومع ذلك فهو يهب كل أعضائه الحياة الأبدية خلال الآلام؛ هذا الوعد جعله موضع اشتياق كل بشر].

الإطار العام:

1. توسل لله البار           [1-10].

2. وصف الآلام            [11-16].

3. تدخل الله                 [17-28].

1. توسل لله البار:

"دِنْ يارب الذين يظلمونني،

وقاتل الذين يقاتلونني.

خذ سلاحًا وترسًا،

وانهض إلى معونتي.

استل سيفك وسيَّج مقابل الذين يضطهدونني.

قل لنفسي: إني أنا هو خلاصك!" [1-3].

التعبيرات العسكرية الواردة هنا تحمل مفاهيم رمزية؛ فالحرب الروحية دائرة الآن، ونحن في حاجة شديدة إلى عون قوي من الله. وكما سعى العدو طالبًا نفس داود، هكذا يسعى عدونا وراءنا ليهلك كياننا كله، يُحطم أجسادنا ونفوسنا ويفسد أفكارنا وقلوبنا، ويشوّه طاقاتنا ومواهبنا.

يرفع المرتل دعواه أمام الله العادل كي يدافع عنه وينتقم له. فالمزمور في كليته هو توسل صادر عن قلب له دالة لدى الله وضمير خالص، متمرر بسبب ما يُعانيه من قهر واضطهاد. حقًا، يصعب على الإنسان أن يحتمل الظلم والجحود، لكن بالحياة المقدسة في المسيح يسوع والصلاة بانسحاق يقف الله بجوارنا في صفنا ويعمل لحسابنا.

عندما يسيء أحد إلى مواطن يشكو المواطن أخاه إلى حاكم البلد، كما فعل الرسول بولس حيث رفع شكواه إلى قيصر (أع 25: 11)، فإن لم ينصفه يلجأ إلى ملك الملوك ورب الأرباب، قاضي المسكونة كلها. هكذا إذ وقف شاول الملك وقضاته والقيادات ضد داود النبي، فإلى من يلجأ إلا لله، صارخًا: "دِنْ يارب الذين يظلمونني". ونحن إذ نجد مقاومة وضيق ندرك أنها ليست صادرة عن اخوتنا إنما عن عدو الخير إبليس الذي يجد بهجته في الخصومات والإنشقاقات وبث روح الظلم، لذا نرفع قلوبنا إلى الله الذي وحده يقدر أن ينصفنا من العدو الشرير. شكوانا ليست ضد بشر، لأن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع أرواح الشر في السمويات، مع قوات روحية وسلاطين الشر (أف 6: 12)، فالعالم كله قد وُضع في الشرير (1 يو 5: 19)... أنها حرب ضد الشيطان وجنوده وأعماله الشريرة.

نطلب من الرب ليس فقط كقاضٍ وإنما كقائد حرب، كمن يحمل السلاح ليتقدم المعركة بنفسه، فنقول له: "قاتل الذين يقاتلونني".

v   "إن كان الرب معنا فمن علينا" (رو 8: 31).

إنه لمنظر رائع أن نشاهد الرب لابسًا درعه ليقاتل لحسابنا.

لكن، ما هو درعه؟ وما هي أسلحته؟... لقد دعى الكتاب المقدس نفس البار سيف الله كما يدعوها أيضًا عرش الله. نفس الصديق هي كرسي الحكمة. فالرب يجعل نفوسنا تتناسب مع مقاصده؛ إنها في يده، دعوة ليستخدمها كما يشاء!

القديس أغسطينوس

ندعوه ليقاتل بنفسه وبأسلحته الإلهية، هو يسمح بالمعركة، وهو الذي يتقدمنا، يهبنا أسلحته، ويعطينا قوة الجهاد، ويمتعنا بالنصرة، ويقدم لنا الأكليل، وهو الذي يُكلل فينا!

يُحدثنا الرسول بولس عن الأسلحة الروحية غير المنظورة القادرة بالمسيح يسوع أن تحطم العدو غير المنظور: ترس الإيمان، خوذة الخلاص، سيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 16-17). هكذا يرى الرسول في الإيمان والتمسك بالصليب (الخلاص) والإلتصاق بكلمة الله ووعوده هي سلاح المؤمن.

v   يارب أنت تعرف يقظة أعدائي،

وضعف طبيعتي أنت تعلمه يا خالقي.

لأني هأنذا أضع روحي في يديك.

فأسترني بأجنحة صلاحك لئلا أنام نوم الوفاة.

أضيء عيني بعظمة أقوالك...

لأنك صالح وحدك ومحب البشر.

صلاة الستار (قطعة 1)

v   يجب أن تكون في نفوسنا غيرة ضد الشياطين.

v   يُؤذن للشيطان أن يُحارب القديسين حتى تُمتحن محبتهم لله ويظهروا أنهم محبون لله وثابتون حقًا في محبته[690].

مار اسحق السررياني

v   ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[691].

v   لا نخشى شيئًا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف مهارتنا لن تفيد شيئًا، وأن كل شيء هو من نعمة الله[692].

القديس يوحننا الذهبي الفم

 يؤكد المرتل أن الأسلحة الروحية في جوهرها ما هي إلا التمتع بالله المخلص نفسه، واهب النصرة، إذ يرتل قائلاً: "قل لنفسي: إني أنا هو خلاصك!" [3]. أي منفعة لي إن هلك إبليس وتحطمت كل أعماله ما لم يكن لي نصيب في حضن الآب، أنعَمُ بالشركة مع ربنا يسوع المسيح، وأحمل روحه في داخلي! خلاصي هو الرب الذي نزل إلى أرضنا لكي يقدم نفسه لي، أتحد به، وأنعم بحياته فيّ! إن كنت أدخل في معركة مع العدو فأنني لا أهوى الحرب في ذاتها، ولا أطلب إكليلاً لو لم يكن الرب نفسه هو إكليلي!

شتان بين أن أقرأ كتابًا عن الخلاص أو أسمع عظة أو أدخل في حوار بخصوص الخلاص، وبين تجلي المخلص نفسه في داخلي ليعلن لي شخصيًا: "إني أنا هو خلاصك"، يقدم نفسه لي خلاصًا بحلوله فيّ!

ينتقل المرتل من التوسل إلى الله للنجاة [1-3] إلى إعلان ما يحل بالمضايقين والمضطهدين من لعنات [4-6]، إذ يقول:

"فليخزَ ويخجل الذين يلتمسون نفسي.

وليرتد إلى الوراء،

ويخز الذين يتآمرون عليّ بسوء" [4-5].

لقد التمسوا نفس السيد المسيح لا ليتمتعوا بها وإنما ليهلكوها، أما السيد فلم يمنع نفسه عنهم، بل قال لهم "من تطلبون؟" (يو 18: 8)، وللحال تحققت النبّوة إذ رجعوا إلى الوراء (يو 18: 6)، أما هو فسّلم نفسه إليهم. لقد طلب منه القديس بطرس أن يهرب من صالبيه، قائلاً: "حاشاك يارب"، أما هو فقال له: "اذهب عني يا شيطان" (مت 16: 23).

v   إذ اسلموا يسوع ليد بيلاطس جلبوا على أنفسهم الهلاك؛ فعلاً حطمهم العدو المستعمر الروماني بالنار والسيف، وأحرق كل أرضهم، حتى الهيكل المقدس الموقر الذي كان في وسطهم[693].

البابا كيرلس الإسكندري

v   "فليخز ويخجل الذين يطلبون نفس" [4]. إنه لم ينطق باللعنات ضد الذين سببوا له خسارة مالية، أو سلبوا أرضًا، أو خططوا لتصفيته جسديًا، إنما صرخ ضد الذين يخططون شرًا ضد نفسه. ما هو تخطيط الشر ضد النفس إلا التغرب عن الله؟ لا يمكن للنفس البشرية أن تتغرب عن الله إلا إذا كان ذهنها مستعبدًا للشهوات... هذا هو معنى صلواته، أن ينصره الله على أعدائه، وهؤلاء الأعداء هم الشهوات[694].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

هكذا يرى بعض الآباء أن المرتل يصرخ ليس ضد أعداء خارجين إنما ضد أعداء في الداخل، ضد الخطايا والشهوات المفسدة لعلاقته بالله، والمحطمة لحياته الأبدية.

"وليكونوا مثل الهباء أمام وجه الريح،

وملاك الرب يضيق عليهم" [5].

يُقصد بالهباء العصافة؛ ربما يتصور المرتل السيد المسيح كفلاح يذري المحصول لكي يفصل القمح عن العصافة والأتربة الخفية وذلك بفعل الريح. هكذا يفصل السيد المسيح بروحه القدوس الخطايا والشهوات ويطردها خارج القلب. لا تقدر الخطايا أن تصمد أمام روح الله القدوس الذي يحيا في قلوبنا، هيكل الله. إنه يهبنا برّ المسيح عاملاً فينا إن تجاوبنا مع عمله.

في النص العبري جاءت كلمة "الهباء"، وسواء كانت هباءً أو عصافة أو ترابًا، فإن المرتل يفضح العدو الذي وإن كان شرسًا وعنيفًا، وإن كانت الخطية خاطئة جدًا، لكن أمام الروح القدس الساكن فينا يصير العدو إبليس كالعصافة في مهب الرياح أو كذرّات تراب بلا قوة ولا قيمة!

ليتنا لا نخاف إبلس ولا الخطية فإن الروح القدس يهبنا قوة محولاً حياتنا من التراب إلى السماء! ويرسل الرب ملائكته ليدحر الشرير وكل أعماله من أمامنا.

حدثنا المرتل في المزمور السابق عن ملاك الرب الحاّل حول خائفي الرب يخلصهم، وهنا يظهر ذات الملاك ليضيّق على من ضايقوا الأتقياء... إنه يفرح قلوب الصالحين ويهلك الأعداء الأشرار المصرين على عدم التوبة. عندما صلى حزقيا الملك أرسل الله ملاك وضرب من أجله جيش أشور فانهزم، إذ قُتل في ليلة واحدة 185.000 مثل عصافة أمام وجه الريح.

"لتكن طريقهم ظلمة وعثرة،

وملاك الرب يضطهدهم" [6].

هم يضطهدون أولاد الله الذين يتشبهون بملائكته، فيرسل الله ملاكه يضطهدهم. في كبريائهم رفضوا السيد المسيح الوديع والمتواضع القلب، رفضوا شمس البر فصار طريقهم ظلمة وعثرة. من لا يقبل المسيح طريقًا له يصير إبليس طريقه، عوض النار يختار الظلمة.

بكى إرميا النبي شعبه الذي اختار بكبريائه الظلمة طريقه، إذ يقول: "اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة، فتنظرون نورًا، فيجعله ظل موتٍ، ويجعله ظلامًا دامسًا؛ وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء، وتبكي عينيَّ بكاءً، وتذرف الدموع، لأنه قد سُبي قطيع الرب" (إر 13: 16-17).

كان يليق بهم وقد انحرفوا إلى طريق الظلمة، وصار ملاك الرب يضطهدهم، أن يرجعوا إلى الرب يطلبونه نورًا لهم. لكنهم عوض التوبة نشبوا فخاخًا في الظلام يصطادون بها نفوس الأبرار، فإذا بهم يسقطون هم فيها. هذه هي خبرة داود النبي الطويلة مع شاول الملك الذي سيطرت مملكة البغضة ضد داود في قلبه فكرس بقية أيام حياته وكل قدراته وإمكانياته بل وإمكانيات مشيريه لهدم داود وقتله... فإذا به يلقي بنفسه في الهاوية ويزداد داود مجدًا وبهاءً أمام الله والناس، إذ يقول المرتل:

"لأنهم مجانًا أخفوا لي فساد فخهم،

وعيّروا نفسي باطلاً.

فليأتهم الفخ الذي لا يعلمونه؛

والمصيدة التي أخفوها تعرقِّلهم.

وفي الفخ يسقطون.

أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه" [7-9]

يتسم الأشرار بالعمى الداخلي والغباوة؛ ينصبون الشباك للأبرار في طريق مظلم بلا سبب، وسرعان ما ينسونها، ليعبروا هم عليها فيسقطون فيها بسبب عمى بصيرتهم.

يزرع الأشرار أشواكًا في الظلمة لتحطيم الأبرار فإذا بها تنفذ في أجساد زارعيها؛ ينصبون الشباك فتمسك بهم؛ يسعون وراء هلاك الغير فيدمرون أنفسهم. هلاكهم يحل على رؤوسهم من خلال أعمالهم، وكما يقول الحكيم: "من يحفر حفرة يسقط فيها، ومن يدحرج حجرًا يرجع إليه" (أم 26: 27). الصليب الذي أعده هامان لمردخاي صُلب هو عليه، والصليب الذي أعده الشيطان ليُحطم مملكة المسيح حطم مملكة إبليس ذاتها!

ينشغل الأشرار بالفخاح والمكائد فيقتنون عمل أيديهم فخاخًا ومرارة، أما الأبرار فينشغلون بالله السامع صلواتهم والمهتم بخلاصهم فيقتنوه سرّ فرحهم الحقيقي، يفرحون بالرب ويبتهجون بخلاصه. هنا نلاحظ أن نفس البار لا تنشغل بالنجاة من الضيق في ذاته، إنما بالرب الذي يتجلى وسط الضيقات ويعطي خلاصًا.

v   الوصية عامة بالنسبة لهم: "إفرحوا أيها الأبرار في الرب" (مز 9: 14؛ 35: 9؛ 33: 1) وذلك لكي يجتمعوا معًا ليترنموا بهذا المزمور العام الخاص بالأعياد: "هلم نفرح بالرب" (مز 95: 1)، لا بأنفسنا[695].

البابا أثناسيوس الرسولي

"جميع عظامي تقول: يارب من مثلك؟!

المنقذ المسكين من أيدي من هو أقوى منه!

والفقير والبائس من أيدي الذين يختطفونهما" [10].

إذ تفرح نفس المرتل برؤيتها المخلص تصرخ أعماقها الداخلية، أو هيكل كيان إنسانه الداخلي (عظامي): "يارب من مثلك؟!". تقتبس ما سبق أن قاله موسى: "يارب، من مثلك معتزًا في القداسة، مخوفًا بالتسابيح، صانعًا عجائب!" (خر 15: 11). لعل المرتل رأى السيد المسيح مخلصه من الأعداء الحقيقيين مرفوعًا على الصليب لأجله، فصرخ: "يارب من مثلك؟!" لقد أنقذتني أنا المسكين من أيدي العدو القوي الذي خطط لاختطافي وافتراسي! من مثلك في الحب يا من مُت لأجلي؟ من مثلك في القدرة إذ تهبني قوة قيامتك؟! من مثلك في القداسة يا من تقدسني بروحك القدوس؟!

توقف المرتل عند قوله "من مثلك؟!" إذ استغرق في حب الله وعنايته وحنوه وقدرته إلخ... مدركًا أن المخلص يُريد أن يهبه ذاته ليحمل قدراته، فيعيش غالبًا للعدو القوي، ومتمتعًا بشركة المجاد.

هذا هو عمل الكنيسة الحقيقية أن تُسبِّح مخلصها قائلة: "يارب من مثلك؟!"، لقد دخل بيت القوي (إبليس) ونهب أمتعته (نفوس المؤمنين) بعد أن ربطه بالصليب (مت 12: 29)، وجرَّده وشهّر به جهارًا ظافرًا به (كو 2: 15)! تسبح رأسها الذي هو قوتها ومجدها وبرها وقداستها وميراثها الأبدي. صار فقيرًا ليلتقي بها في مسكنتها واهبًا إياها غناه، ونزل إلى أرضها لكي يحل أسرها وينطلق بها إلى حضن أبيه السماوي!

باسم الكنيسة كلها يترنم المرتل وسط ضيقته، واثقًا في خلاص الرب، قائلاً: "يارب من مثلك؟!" وكما يقول مار اسحق السرياني في عظته "عن عمل النعمة": [إنه إذا إستحق إنسان أن يتقبَّل قوة الله في نفسه، تُبتلع أفكاره في دهشة مروعة، فتصمت حواسه، ويعجز لسانه عن الكلام، لكن حتى عظامه في صمتها تمجد الله!].

2. وصف الآلام:

في إيجاز يصّور لنا المرتل آلامه هكذا:

1. اتهامه ظلمًا:

"قام عليّ شهود الظلمة،

وعما لم أعلم سألوني" [11].

لما كان عدو الخير هو رئيس مملكة الظلمة، فإنه يحرك شهود الظلمة، يشهدون ضد السيد المسيح نفسه وضد كنيسته زورًا خلال عمى قلوبهم وظلمة نفوسهم.

ربما أُتهم داود بالخيانة الوطنية والتمرد والاشتراك مع الوثنيين في عبادتهم، بهذا كان شاول يثير رجال الدولة بل والشعب ضد رجل الله ظلمًا (1 صم 24: 17). وعندما جاء مسيحنا أتهموه أنه بعلزبول رئيس الشياطين، وأنه صانع شر، ومسبب فتنة ومحرّض على عدم دفع الجزية لقيصر... وهو لا يعلم شيئًا عن هذا كله، أي لم يمارس شيئًا من هذا!

من يلتصق بالسيد المسيح لا يرتبك متى أُتهم ظلمًا، فإنه في هذا يشارك سيده القائل: "لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟!" (لو 23: 31).

2. يردون حبه بالكراهية:

"جازوني بدل الخيرات شرورًا وعقمًا لنفسي" [12].

لقد اعترف شاول نفسه بذلك، إذ رفع صوته وبكى، ثم قال لداود: "أنت أبرّ مني، لأنك جازيتني خيرًا وأنا أُجازيك شرًا" (1 صم 24: 17).

قدم السيد المسيح حبًا للبشرية فحملت له بغضة، جاء ليشفي جراحاتهم فثقبوا يديه ورجليه وطعنوا جنبه. وهبهم ذاته حياة فقدموه للموت. أراد أن يكرمهم فطلبوا ص-لبه!

كشف المرتل عن حبه العجيب حتى لمقاوميه بفكر روحي إنجيلي عجيب، إذ قال:

"أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا

أذللت بالصوم نفسي

وصلاتي إلى حضني ترجع!" [13].

هذا ما قد مارسه المرتل فعلاً، عندما قاومه أعدؤه كان يُصلي لأجلهم كي ينجو وعندما سمع بخبر قتل شاول وأيضًا أبشالوم بكى بكاءً مرًا.

عرف داود النبي وهو تحت الناموس أن يعبر إلى الفكر الإنجيلي، يرد شر الأشرار بالحب الداخلي الصادق. يرى عدوه مريضًا فيلبس لأجله المسوح متذللاً بالصوم أمام الله، ومصليًا لأجله. لبس المسوح لم يكن مستخدمًا في أمور تافهة، إنما عند فقدان ابن أو موت رجل عظيم أو وقوع كارثة مُرّة، هكذا أظهر داود النبي حبه لأعدائه بلبسه المسوح علامة حزنه على مرضهم الخطير.

ماذا تعني: "صلاتي إلى حضني ترجع"[696]؟

 أ. يعتقد البعض أن هذه العبارة تعني الصلاة المستمرة، كما لو كان توسله صادرًا عن القلب ليرجع إليه ويرتفع ثانية وهكذا بلا توقف.

 ب. يرى البعض أنها تعني أن صلاته ترتد إليه، فلا ينتفع بها من استخفوا بها واحتقروها إنما تتمتع بها أحضان المرتل وأعماقه.

 ج. يُشير المرتل هنا إلى عادة بعض الشرقيين، لأنهم حينما يصلون بجدية في حزن، فإنهم يخفون وجوههم في صدورهم. ربما بهذه العادة يُظهرون أن صلاتهم ترجع إليهم من حيث تنبعث.

 د. عنى داود أن ترتد صلاته إلى قلبه، فهو متيقن من صدق رغبته القلبية لهم بالخير. إن كان قد طلب لهم سوءًا فليرتد عليه، وإن كان يشتهي لهم خيرًا فليرجع أيضًا إليه!

3. قابلوا صداقته بالاضطهاد:

لقد اعتبر المرتل عدوه المريض كصديق بل وكأخ، من أجله تذلل أمام الله وصام وصلى، ولم يكن ذلك في مخدعه فحسب، وإنما أعلن ذلك بروح الاتضاع في سلوكه مع العدو، إذ يقول:

"مثل صاحب وأخ لي هكذا كنت أرضيه،

ومثل الكئيب والعابس كذلك تواضعت" [14].

ليس لأعدائي عذر في مقاومتهم لي فقد بذلت كل الجهد لأرضيهم، وفي مرضهم وآلامهم باتضاع شاركتهم الكآبة والعبوسة بكوني عضوًا معهم، هكذا أحسب نفسي صديقهم وأخاهم بل وعضوًا معه أشاركهم كل أحاسيسهم، خاصة وسط آلامهم، أما هم فأصرّوا على إضطهادي:

"إجتمعوا عليّ وفرحوا

إجتمعت عليّ السياط ولم أعلم.

انشقوا ولم يندموا.

جربوني واستهزأوا بي هزءًا، صارين على أسنانهم" [15-16].

شتان ما بين سلوك داود النبي وسلوك أعدائه:

 أ. داود يشاركهم آلامهم في أعماقه وعبادته وسلوكه معهم، أما هم فيجتمعون ضده ويفرحون بتخطيطاتهم ضده.

 ب. من أجلهم يتذلل وينسحق أمام الله وأمامهم لكي يستريحوا، أما هم فهيأوا السياط دون علمه لتنهال عليه.

 ج. حسبهم أصدقاءً وأخوة وأعضاءً معه، أما هم فكوحوش ضارية اجتمعوا حول حظيرة الخراف، يُصرّون على أسنانهم ليفترسوا حَملاً واحدًا!

ما أعلنه المرتل داود قد تحقق كنبوّة في شخص السيد المسيح الذي جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله، إنشقوا عليه ولم يندموا، جربوه وسخروا به وأصرّوا بأسنانهم كي يفترسوه!

يقول القديس أغسطينوس: [ما أصاب الرأس يحل بالجسد أيضًا، وما حدث مع ربنا على الصليب يحدث لأعضاء جسده خلال الاضطهاد المعاصر (ربما الذي أثاره الدوناتست Donatists)... أينما التقوا بمسيحي أعتادوا أن يشتموه ويضايقوه ويستهزئون به، ويدعونه أحمق ومعتوهًا وجبانًا وبلا خبرة حياة. ليفعلوا ما يشاؤون، فقد مجّد المسيح آلات تعذيبه، وختم صليبه الآن على جباه البشر...].

3. تدخل الله:

بعدما وصف المرتل ما يُعانيه من آلام واضطهاد مع اتساع قلبه بالحب لمضايقيه أعلن تدخل الله في حياته وأيضًا في معاقبة الأشرار المصرّين على شرهم.

1. التمتع بخلاص شخصي:

"يارب متى تنظر؟!

رُد نفسي من شر فعلهم،

ومن بين الأسود بنّوتي الوحيدة" [17].

وسط الضيق يشعر الإنسان بالعزلة، ليس من أب أو أم أو صديق يقدر أن يشارك الأعماق، فالحاجة إذن إلى تدخل الله نفسه الذي ينقذ النفس من بين الأشرار بكونها شبل وحيد.

 قول المرتل "ردّ نفسي" يشير إلى طلبة السيد المسيح القائل: "الآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو 17: 5)، فإن ما يناله السيد المسيح من مجد بقيامته وصعوده إنما هو رّد لما سبق أن أخلى نفسه عنه لأجلنا، حتى يحمل عارنا وخزينا، مقدمًا مجده لنا. دعى نفسه "وحيدة"، التي دخلت إلى الجحيم وعادت إلى الجسد كشبل، لكي تقيم من نفوسنا أشبالاً قوية.

2. تمتع بخلاص جماعي:

"أعترف لك يارب في الجماعة الكثيرة،

وفي شعب جزيل أُسبحك" [18].

إذ يرّد الله نفس داود، يوفي المرتل نذره بالاعتراف والتسبيح وسط الجماعة، فما يناله من بركات الخلاص كعطايا شخصية تمس حياة الجماعة كلها، وما تنعم به الجماعة يتذوقه كعطايا شخصية. ليس من فصلٍ بين خبرة المؤمن الشخصية وحياته الكنسية الجماعية.

ما هي هذه الجماعة الكثيرة الجزيلة (الوقورة) المسبّحة لله إلا كنيسة العهد الجديد التي ضمت الشعوب والأمم لتشهد بعمل الله الخلاصي وتسبحه بلا إنقطاع! إنها كنيسة قوية بمسيحها، مكرمة فيه، تشارك ملائكته تسابيحهم له!

3. توقف شماتة الأشرار:

كأن الأشرار قد كرسوا كل وقتهم وطاقاتهم للسخرية والإستهزاء بالمؤمنين مجانًا، أي بلا نفع لصالحهم، وبلا علة أو سبب، يهوون الشر والبغضة لأجل الشر والغش.

"لا يشمت بي الذين يعادونني ظلمًا

الذين يبغضونني مجانًا،

ويتغامزون بالأعين.

لأنه إياي كانوا يكلمون بالسلام،

وفكروا مكرًا بالغضب.

فتحوا عليّ أفواههم،

وقالوا: نعمًا، نعمًا، قد رأيت أعيننا" [19-20]

لقد كرّس الأشرار قلوبهم للبغضة، وعيونهم للغمز بسخرية، والشفاة للنطق بكلمات غاشة معسولة بالسلام الظاهر، والفكر بالمكر والغضب... كل أعضائهم وطاقاتهم تعمل للشر، أما الله خالق الجسد والنفس فيُحطم كل تصرفاتهم ضد أولاده، الظاهرة والخفية.

إذ صار داود طريًا شمت الأعداء وسخروا به علانية، وصاروا يقولون: "نعمًا، نعمًا، قد رأيت أعيننا" أو "هه، هه، قد رأيت أعيننا". تعبير عن الشعور بالنصرة بفرح مع مذلة الآخرين!

لقد استهزأ الصالبون بالمسيح، قائلين: "تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟" (مت 26: 68)، "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك؛ إن كنت ابن الله إنزل عن الصليب فنؤمن بك" (مت 27: 40)، "خلّصَ آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها؛ إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به" (مت 27: 42).

4. استيقظ يارب:

تتوقف شماتة الأعداء باعلان قيامة المسيح غالب الموت، كمن يستيقظ من بين الراقدين.

قد رأيت يارب فلا تصمت.

يارب لا تتباعد عني.

أستيقظ يارب وأنظر في حكمي.

إلهي وربي أنتقم لي.

أقضِ لي مثل عدلك ياربي وإلهي.

لا يفرحوا بي ولا يقولوا في قلوبهم: نعمًا نعمًا لأنفسنا.

ولا يقولوا بأننا قد إبتلعناه...

ليخز ويخجل جميعًا الذين يفرحون بمضراتي

ليلبس الخزي والعار المعظمون عليّ كلامهم.

يبتهج ويُسر الذين يريدون بري.

وليقل في كل حين: ليتعظم الرب الذين يريدون سلامة عبدك.

لساني يلهج بعدلك واليوم كله يحمدك" [22-28].

تكشف هذه العبارات عن ثمار عمل الصليب والقيامة في حياة المؤمن:

 أ. ظن الأشرار أن المصلوب قد صمت تمامًا بموته ودفنه، أما المرتل فقد عرفه أنه كلمة الله الذي لا يصمت بل دائم العمل في حياة شعبه: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17).

إذ نصرخ: "يارب لا تصمت"، نطلب إليه أن يعلن قيامته في حياتنا، يقول كلمة فنقوم ولا نبقى في قبر الشهوات والخطايا.

 ب. ظن الصالبون أنه بدفن المسيح قد إبتعد عن البشر وفارق شعبه وتلاميذه، ولم يدركوا أنه وهو في القبر إنطلقت نفسه تحمل نفوس الراقدين على الرجاء ليدخل بها كغنائم حية إلى فردوسه. قيامته أكدت أنه لا يتباعد عنا، بل يضمنا إلى ملكوته الأبدي.

 ج. لنقل مع المرتل: "إستيقظ يارب"، أي أيقظ إيماننا بك، فلا نُحسب نائمين ومتراخين وموتى، بل نحيا معك أيها الغالب للموت!

 د. فرحوا بدفنه كغالبين، فكانوا يصرخون: "نعمًا نعمًا لأنفسنا"، مهنئين أنفسهم بالخلاص منه، لكن فرحهم لم يدم إذ قام ليهنئ المشتركين معه في آلامه وصلبه وقبره أيضًا.

قالوا "قد إبتلعناه"، إذ ابتلعه الموت، ولم يدركوا أنه دخل إليه بسلطانه ليخلص مؤمنيه الذين سبق فابتلعهم الموت. وكما يقول القديس ما إفرآم السرياني: [إن الموت ابتلع كذئب السيد المسيح الحمل، لكن معدته لم تحتمله داخلها فتفجرت وخرج معه المؤمنون به. بقيامته لا يقدر القبر ولا العالم كله ولا الجحيم أن يبتعلنا! بالقيامة ابتلعت الكنيسة العالم وحولته عن الوثنية والإلحاد إلى الإيمان الحيّ!

 هـ. بقيامته دخل الأشرار إلى الخزي والعار بينما إنطلقت الكنيسة إلى الحياة المفرحة، حياة التسبيح غير المنقطع تعظم الرب وتمجده.

 و. نقول مع المرتل: "اليوم كله يحمدك"، فقد أشرق الرب بقيامته علينا لتصير حياتنا يومًا (نهارًا) بلا ليل. لقد بدد ظلمة قبرنا الداخلي، إذ جعله هيكلاً مقدسًا له.

يختتم المزمور بالهتاف والتسبيح لله الذي يقيمنا من موت الخطية.

v   فلنشكره ونتبع القديسين: "اليوم كله نحمدك" كقول المرتل[697].


 

صرخة إلى القائم من الأموات

v   أنظر إلى مذلتي يا من دخلت معركة الصليب!

لتكن أنت هو سلاحي، ونصرتي، وإكليلي،

لتكن أنت هو خلاصي، فإنني أود أن أقتنيك!

v   علمني كيف أُبذل معك من أجل مضايقيّ ومضطّهدي؛

ليتآمروا عليّ، أما أنا فأموت معك من أجلهم!

لينصبوا لي شباكًا في طريقهم المظلم!

ولترفعني بروحك القدوس وتعبر بي إلى سمواتك آمنًا!

لترتد صلاتي من أجلهم إلى حضني، فأتمتع بما أشتهيه لهم!

v   إن صمت لساني، فعظامي لن تصمت عن تمجيدك!

أنت الكلمة الإلهي الذي لم يستطع القبر أن يجعلك صامتًا!

قم، وأقمني معك، فأحيا بنور قيامتك.

لتصر حياتي نهارًا يا شمس البر، لا تعرف ظلمة قبر الشهوات.

لأسبحك كل النهار ما دام نورك مشرق في داخلي!

<<

 

         

                                      

           


 

المزمور السادس والثلاثون

شر الإنسان وصلاح الله

نقرأ في المزمور السابق عن داود كخادم الرب، أما في هذا المزمور فيتحدث المرتل عن الإنسان الشرير وتغرّبه عن الله.

يحوي هذا المزمور متناقضات قوية، فيبرز الإنسان في منتهى فساده والله في كماله المتعدد الجوانب.

حسب النص السرياني يشير هذا المزمور إلى اضطهادات شاول لداود النبي.

العنوان:

في الأصل العبري: "لإمام المغنين، لعبد الرب داود"، وبحسب النسخة السبعينية: "في التمام، لفتى الرب داود".

يعتقد البعض أن الكلمات "لعبد الرب" أو "لفتى الرب" تعني أن الكاتب يتحدث بسلطان إلهي. ويرى البعض أن ما ورد هنا إنما هو حديث إلهي موجه ضد الأحاديث الشريرة التي يتفوه بها الأشرار[698].

الإطار العام:

1. سمات الشرير                     [1-4].

2. ميثاق الله                          [5-11].

3. سقوط الشرير تحت اللعنة          [12].

1. سمات الشرير:

أبرز المرتل سرّ شر الشرير وسماته في النقاط التالية:

1. فساد قلبه:

لا يستطيع الشرير أن يعتذر بعلل خارجية، فإن شره نابع عن فساد قلبه أو طبيعته الداخلية؛ إنه يحمل في حضنه إيحاءً بالشر. طبيعته الساقطة هي مصدر الشر وأساسه. وكما أوضح السيد المسيح ذاته بقوله: "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف" (مت 15: 19). ويقول المرتل في إفتتاحية هذا المزمور: "يقول مخالف الناموس أنه يخطئ في ذاته" [1]. ويقول النبي إرميا: "القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس من يعرفه؟!" (17: 9).

لقد فسد القلب فلم يعد يطلب الصلاح ولا يُسر بالخير إنما يشتاق إلي الشر ويُريده. ويعلق القديس أغسطينوس علي هذه الآية قائلاً:

[لا يتحدث (هنا) عن شخص واحد وإنما عن جنس الأشرار الذين يحاربون ضد ذواتهم (أنفسهم) بغير فهم لكي لا يعيشوا حسنًا، لا لأنهم لا يستطيعون (عمل الصلاح)، وإنما لأنهم لا يريدون ذلك. فإنه هناك فارق بين شخص يسعى أن يفهم أمرًا ما، وبسبب ضعف الجسد لا يستطيع، وذلك كقول الكتاب في موضع معين: "لأن الجسد الفاسد يضغط علي النفس، والخيمة الأرضية تثقل علي الذهن الذي يفكر في أمور كثير" (حك 9: 15)؛ وبين أن يعمل القلب الشر (عمدًا)، ليضر نفسه].

هنا يدعو المرتل الشرير "مخالف الناموس"، لأنه بسبب فساد قلبه يقف موقف المقاوم والعاصي لكلمة الله، لا عن عدم فهم وإنما بالحري عن إرادته الشريرة المناقضة للحق.

2. لا يحمل خوف الله:

"ليس مخافة الله أمام عينيه" [1]. كثيرًا ما تحدث المرتل عن "مخافة الرب" بكونها رأس الحكمة ومصدر البركة، وقد ميّز بين مخافة المبتدئين ومخافة الكاملين، أو بين مخافة العبد ومخافة الابن.

عندما تنزع "مخافة الله" من أمام القلب، أو من أمام البصيرة الداخلية أو عيني النفس، يتهيأ الإنسان لاقتراف أي شر.

v   "ليس مخافة الله أمام عينيه" [1]، أمام عينيْ الشرير توجد مخافة الناس؛ فهو لا يتجاسر أن يعترف بإثمه أمامهم لئلا يوبخونه أو يلومونه. إنه يتحاشى نظراتهم... إنه يرجع إلي نفسه، إلي داخله، حيث لا يراه أحد، وفي ذلك الموضع يخطط الزيف والخداع والشرور حيث لا تراها عين بشرية ما. كان يمكن ألا يمارس هذه المؤامرات حتى في داخل نفسه لو أدرك أن الله يراه، لكنه إذ فقد نظرته إلي مخافة الله، لذلك يهتم أن يفلت من ملاحظة الناس له...

القديس أغسطينوس

3. مُخادع لنفسه:

"لأنه صنع الغش قدامه، ليظفر بإثمه فيبغض" [2]، أو "لأنه ملق نفسه لنفسه".

كثيرًا ما يقدم سفر المزامير الإنسان الشرير كمخادع يُنتسب للشيطان المدعو "الكذّاب"، و"أبو الكذابين"، أما البار فيحمل حق المسيح، ويُنتسب للحق ذاته. الإنسان الشرير في غشه لا يخدع الآخرين فحسب، وإنما يخدع نفسه أيضًا، يتملق نفسه بنفسه من جهة إثمه وبغضه، مموهًا الحقائق، إذ لا يكون إثمه ممقوتًا في عينيه، حيث يغلفه بثوب الفضيلة. يلتمس الشرير لنفسه الأعذار في كل شيء، وبسبب حبه الشديد لذاته يتملق نفسه فيدعو رذائله بأسماء لطيفة، فيخلط بين الباطل والحق، وبين الرذيلة والفضيلة. كأن يدعو بُغضه للآخرين دفاعًا عن الحق، وبُخله في العطاء أمانة في ما هو تسلمه، ومحاباته للبعض حكمة الخ...

ما أسهل أن يخدع الإنسان نفسه فيبرر ارتكابه الخطية بأنه كان يجهل أنها خطية أو أن كثيرين حتى ممن هم في داخل الكنيسة يفعلون ذلك، أو أن الظروف التي أوجده الله فيها حتمت عليه ذلك!

4. إرادته الشريرة:

"لم يرد أن يفهم ليعمل الخير" [3]. إنه يتوقف عن أن يتعقل أو يفهم، لأنه يريد إلا يعمل خيرًا. هنا يعلن المرتل مسئولية الشرير الكاملة عن عدم ممارسته الخير.

إن كان التعقل (أو الحكمة) يدفعنا إلي عمل الخير، فالشرير بإرادته لا يُريد تعقلاً ولا حكمة... هذا ولا يوجد انفصال بين الحكمة والخير أو الصلاح. فبرفضنا الحكمة نرفض الصلاح؛ وبرفضنا الصلاح يتسلل الشر داخلنا.

v   ألا نخطئ شيء وأن نعمل الخير شيء آخر". إذ يقول: "كف عن الشر وأفعل الخير". نهجر الأول ونتبع الأخير حيث فيه يكمن الكمال[699].

القديس جيروم

5. محب للظلمة أكثر من النور:

"فكّر إثمًا في مضجعه" [4]. إذ أخطأ داود النبي صار يعّوم كل ليلة سريره بدموعه،

أما الشرير فيحيك الشرور في الليل علي فراشه، لا ينام حتى يفعل السوء.

يتأمل الصديق في الله طول النهار، فيحمل معه أفكارًا مقدسة تضيء حياته حتى في أحلام يقظته وأحلامه، أما الشرير فيحمل معه في فراشه قلبًا مظلمًا، يخطط في الشر، ويفكر فيه حتى في نومه.

أفكارنا ونحن علي مضجعنا كثيرًا ما تعبّر عما تحمله قلوبنا طوال النهار، وتعكس اشتياقاتنا الخفية.

يرى البعض أن المضجع هنا يشير إلي القلب حيث فيه يظهر ارتباك الضمير الشرير، وفيه نستريح إن كان لنا الضمير الصالح. يقول القديس أغسطينوس: [لنجتهد أن نطهر فراش قلوبنا ونغسلها، فنستريح هناك!]. عن هذا المضجع يقول السيد المسيح: "ادخل إلي مخدعك واغلق بابك وصلِّ إلي أبيك الذي في الخفاء" (مت 6: 6). لنغلق باب مضجعنا الذي يطل علي العالم الخارجي، ولنفتح ذاك الذي يقرع عليه رب المجد (رؤ 3: 20) حتى يدخل إلي أعماقنا ويتعشى معنا. عندما يُحكم إغلاق الباب الأول ينفتح الثاني لنرى ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر علي قلب بشر (1 كو 2: 9).

6. يكره الصلاح:

"وقام في كل طريق غير صالح، وعن الشر لم يعرض" [4].

في الظلمة يفكر في الشر علي سريره، وفي النهار يقوم في كل طريق غير صالح؛ لهذا لا يعرض عن الشر لأنه لا يكرهه بل يحبه. في الليل تأسر الخطية أفكاره، وفي النهار يتمم مشورتها بسلوكه.

2. ميثاق الله:

بعدما تحدث عن أسباب الشر الخفية وسمات الشرير يفتح المرتل أبواب الرجاء لكل نفس تتمتع بميثاق الله ومراحمه.

يحتوي هذا القسم علي ترنيمة للرب الذي يقيم عهده مع كنيسته [5-9]؛ وتوسل مقدم لحب الله مقيم العهد لحماية الأبرار [10-11]. يتحدث داود الآن عن الله الذي يرفضه الشرير ولا يعرفه، بينما يجده البار ملجأ له ويحتمي تحت ظل جناحيه. يجده الله كلي الحب، رحمته وصلاحه لا ينقطعان قط.

1. مراحم الله وعدله سمائيون:

"يارب في السماء رحمتك وبرك إلي السحاب (الغمام)" [5].

 أ. يقوم ميثاق الله مع كنيسته علي أساس مراحمه الجزيلة غير المنفصلة عن عدله أو بره. مراحمه سماوية وبره يبلغ إلي السماء... ربما يقصد بالسماء هنا أن سماته مطلقة غير محدودة، مراحمه عالية جدًا ومرتفعة، فائقة وعظيمة للغاية. مهما تكن متاعبنا شديدة وعميقة وبالغة، تبقى مراحم الله أعلي وأعظم. إنها تهب رجاءً لكل إنسان أينما وجد ومهما بلغت خطاياه أو اشتدت به الضيقات الداخلية والخارجية.

 ب. تشير السماء إلي المؤمنين الحقيقيين الذين ينعمون بالرحمة الإلهية والبر السماوي، فتتحول أرضهم إلي سماء، حيث يُعلن ملكوت الله داخلهم. يقول القديس أغسطينوس أن القديسين ينعمون بالرحمة السماوية لا الأرضية، الأبدية لا الزمنية: [لنتطلع إذًا إلي الرحمة، لكن إلي تلك الرحمة التي في السماء].

v   توجد رحمة أرضية وأخرى سماوية؛ واحدة بشرية والأخرى إلهية. فما هي الرحمة البشرية؟ تلك التي تهتم بشقاء المساكين؟ وما هي الإلهية؟ بلا شك تلك التي تهب غفران الخطايا. ما تقدمه الرحمة البشرية من هبات في الطريق تسترده بالرحمة الإلهية في المدينة السماوية[700].

الأب قيصريوس أسقف آرل

 ج. رحمة الله في السماء لا يقدر أحد أن يبلغها بنفسه، إنما يحتاج إلي نزول السماوي نفسه إليه ليرفعه إليها، وإلي روح الله القدوس ليكشف له عنها. لهذا تجسد كلمة الله ورافقنا طريقنا، وأرسل لنا روحه القدوس.

v   لأن تفسير الأسرار النبوية ما كان يُعلن عنها قبل مجيء الرب[701].

القديس أكليمنس الإسكندري

بنزول السماوي بادرْنا بالحب ونحن بعد أعداء، وبإرساله روحه القدوس كشف لنا عن الحق السماوي المخفي تحت ظل الناموس ورموزه وفي نبّوات الأنبياء.

 د. يفسر القديس أغسطينوس "السحاب" هنا بالكارزين بالإنجيل الذين يصنع الله بهم عجائب. وكأن قوله: "بِرَّك إلي السحاب" يعني أن الله الذي برحمته يهب بره لقديسيه، خاصة الكارزين بالإنجيل، يرتفعون إلي السحاب كي يمطروا بمياه النعمة الإلهية علي القِفار فتتحول إلي فردوس الله المفرح.

إن كانت الخطية ثقيلة كالرصاص فبِّر المسيح يجعلنا كالسحاب نرتفع بلا عائق في الجو، لا في تشامخ الروح، وإنما بعمل روحه الوديع، فيتسع قلبنا بالحب عوض الإدانة، ونقدم إنجيل المسيح المفرح الذي يُجدّد القلوب ويقدسها بروح الله كهيكل مقدس له!

2. ثبات عدل الله وقوة أحكامه:

"عدلك مثل جبال الله،

أحكامك مثل العمق العظيم" [6].

إن كانت خطايانا قد نزلت بنا كما إلي لجة عظيمة، إلي أعماق الهاوية، فإن أحكام الله أو تدابيره لا ترفعنا فقط من العمق، وإنما تهبنا بره فنصير جبال الله العالية التي يشرق عليها شمس البر ويمطر عليها بنعمته فيكسبها خصوبة وجمالاً.

v   كما تكسي الشمس عند بزوغها الجبال أولاً بالنور الذي ينحدر بعد ذلك إلي الطبقات الدنيا، هكذا جاء ربنا يسوع المسيح أضاء بنوره أولاً الرسل كمرتفعات عالية؛ أنار أولاً الجبال ثم هبط بنوره إلي وادي العالم المحتجب... فإن بقيتم علي الجبال لن يتزعزع رجاءكم... حيث يأتيكم العون حقًا. لأنه قد كُرز بالكتاب المقدس لكم من خلال الجبال، أي بواسطة الكارزين العظماء الذين شهدوا بالحق. لكن لا تضعوا رجاءكم فيهم، فالعون يأتي من الجبال، لكنه لا يصدر عنهم؛ فمن أين يصدر إذن؟ "من الرب الذي صنع السموات والأرض" (مز 121: 1-2).

"عدلك مثل جبال الله"، بمعنى آخر، الجبال ملآنة بعدلك.

"أحكامك مثل العمق العظيم". يستخدم المرتل كلمة "عمق" ليدلك علي عمق الخطية التي ينحدر إليه الإنسان باستخفافه بالله... كما أن جبال الله تعبر عن عدله، السمو الذي ترفع إليه نعمته، هكذا بأحكامه ينحدر (الأشرار) إلي الهوة العميقة جدًا حتى أسافلها.

القديس أغسطينوس

3. شمول مراحمه:

"الناس والبهائم تخلصهم يارب" [6]. تستعلن مراحم الله غير المتناهية من خلال عنايته التي تحتضن الناس والحيوانات. إنه إله رؤوف متحنن علي كل خليقته، يشرق شمسه علي الأبرار والأشرار ويمطر علي الصالحين والطالحين؛ يهتم حتى بالخليقة غير العاقلة، فكم بالأكثر ينعم علي الأبرار المتكلين عليه؟!

ربما يقصد بالناس "المؤمنين" الذين سلكوا بالحكمة فأرتموا في أحضانه، وبالبهائم "الأشرار" الذين تركوا لشهواتهم الجسدية العنان فصاروا اشبه بالحيوانات غير العاقلة.

خلاص الناس ربما يعني خلاص النفس الأبدي، وخلاص البهائم يشير إلي إهتمامه بالجسد أيضًا، إذ هو خالق الإنسان بكل كيانه.

لقد جاء السيد المسيح، خبز السماء، مولودًا في مزود كي يقبله حتى الذين انحرفوا إلي الحياة البهيمية، طعامًا روحيًا لهم.

v   إن كنتم بشرًا كلوا "الخبز" إن كنت (قد صرت) حيوانًا فتعال إلي المزود (وتمتع بالمسيح هناك) (لو 2: 7)[702].

القديس جيروم

v   يا لعظم فيض مراحمك حيث يحل الأمان بجسد الإنسان المائت كما بجسد الحيوانات؛ هذا هو فيض مراحمك... هل من مزيد بالنسبة لنا؟ حقًا، ماذا يوجد أيضًا؟ استمع: "بنو البشر في ظل جناحيك يثقون". إنهم يسكرون بفيض خيرات بيتك، إذ تجعلهم يرتوون من ينبوع (سيل) مسراتك، فإن معه ينبوع الحياة [8-11].

المسيح هو ينبوع الحياة. لقد نلنا الأمان (الجسدي) أسوة بالبهائم حتى جاءنا ينبوع الحياة... ومات لأجلنا!... هذا هو الخلاص غير الباطل، لماذا؟ لأنه لا يزول![703].

القديس أغسطينوس

4. فيض حنوه:

"مثل ما أكثرت رحمتك يا الله.

وبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون" [7].

إذ يدرك بنو البشر كثرة مراحم الله يلجأون إلي ستر جناحيه، أي إلي العهدين القديم والجديد، حيث يجدون فيهما كنوز وعوده العجيبة، ومفاهيم ميثاق حبه العجيب مع الإنسان. فيهما يتمتعون بالنبوات ويدركون سرّ الخلاص الذي قدمه المسيا ببذل حياته عنهم ولأجلهم!

سبق فأعلن المرتل عن حنو الله ورعايته للإنسان والحيوان، أما بالنسبة للميثاق فهو خاص ببني البشر وحدهم الذين "في ظل جناحيه يحتمون".

تصوير الاحتماء بظل جناحي الله مستمد من:

أ. جناحي الشاروب اللذين يغطيان تابوت العهد، حيث أعتاد الله أن يتحدث مع شعبه.

 ب. جناحي الدجاجة التي تحمي فراخها.

ج. تدريب صغار النسور علي الطيران بعد كسر العش.

أستخدم بوعز ذات التصوير في حديثه مع راعوث (راعوث 2: 12)، كما استخدمه ربنا عن أورشليم (مت 23: 37) حيث كشف باتضاعه وحبه الشديد عن حنّوه لبنيه وشوقه إلي خلاصهم.

v   من هم بنو البشر؟ هؤلاء الذين يثقون في ظل جناحي الله. يُدعون "بشرًا" الذين يتهللون كالبهائم بالأمور المادية، أما "بنو البشر" فيفرحون بالرجاء؛ الأولون يشتركون مع البهائم في طلب الخير الحاضر، أما الآخرون فيشتركون مع الملائكة في تطلعهم نحو الخيرات العديدة.

القديس أغسطينوس

5. ينبوع الحياة:

"ومن دسم بيتك يسكرون،

ومن وادي نعيمك تسقيهم؛

لأن ينبوع الحياة عندك" [8-9].

في بيت الرب - الكنيسة - ينتعش المؤمنون الحقيقيون بخمر الحب الإلهي؛ يمتلئون فرحًا وبهجة، ويرتوون، فلا يعطشون بعد إلي ينابيع الشهوات الأرضية والملذات الزمنية ومباهج الحياة. يجدون في المخلص سرّ فرحهم الحقيقي وبهجتهم وارتوائهم!

ويشير الحديث هنا إلي التشبيه بضيوف يستقبلهم الله في بيته ليعيشوا كل حياتهم في عيد لا ينقطع، حيث تزخر الموائد اليومية بالدهن الدسم (أي 36: 16؛ مز 63: 5؛ إش 55: 2؛ إر 31: 14). سيُحضر الله شعبه إلي حضنه لينعموا بنهر الوعود، ويدعهم يرتوون من نعمته فلا يعطشوا أبدًا. خارج الله لا توجد قطرة حياة، أما فيه فلا ينقطع نبع الملذات الإلهية.

v   السيل هو اسم يخص فيض المياه المتدفق. هذا الفيض هو مراحم الله التي تنبع لكي تُنعش وتروي من يضعون ثقتهم في ظل جناحيه. يا لها من لذة؟! إنه سيل يفيض فيروي العطاش. ما علي الظمآن إلا أن يترجى حتى يشبع ويمتلك الحق... من هو ينبوع الحياة إلا المسيح، الذي جاء إليكم في الجسد لكي يرطب حلقكم الملتهب، هذا الذي أعطانا عربونًا لإرواء الظمآى، يشبع المتكلين عليه إلي الملء[704].

v   يوجد رجاء في هذا النعيم؛ فإننا نشعر بالجوع والعطش فنحتاج أن نقتات (نأكل ونشرب). علي أي الأحوال يحل الجوع في الطريق فقط، أما البيت فيفيض بالخيرات. متى نشبع؟ "أشبع عندما يظهر مجدك" (مز 17: 15). أما الآن فمجد إلهنا، مجد مسيحنا، مخفي، ومعه يختبئ مجدنا نحن أيضًا. ولكن "متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 4). حينئذ تكون الـ "هلليلويا" حقيقية، أما الآن فهي مجرد رجاء[705].

القديس أغسطينوس

v   ما هو هذا الينبوع إلا ربنا يسوع المسيح...؟! إنه الينبوع الصالح الذي يعطينا برودة بعد نيران هذه الحياة وحراراتها، وبفيضه يلطف جفاف قلوبنا[706].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v   الذين يشربون من غنى بيت الله ومجرى مسرته يرتوون، كما يخبرنا النبي (مز 36: 8). بهذه الوسيلة سكر داود ولم يدر بنفسه؛ وإذ كان في دهش عاين ذلك الجمال الإلهي الذي لا يقدر مائت علي معاينته[707].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v   لأن نهر النعيم قد فاض بغنى لأجلنا؛ وينبوع الحياة الذي في المسيح، والذي تحدث عنه أحد الأنبياء بأنه يخصنا: "هأنذا أفيض عليهم كنهر سلام وكسيل يفيض بمجد الأمم"[708].

القديس كيرلس الكبير

6. النور:

"بنورك نعاين النور" [9]. يشير هنا إلي الروح القدس واهب الأستنارة.

يقول المرتل: "لأن ينبوع الحياة عندك، وبنورك نعاين النور" يتحدث عن الثالوث القدوس.

الابن هو ينبوع الحياة الذي عند الآب وواحد معه.

الروح القدس هو نور الآب (بنورك) الذي به نعاين الآب والابن (النور)!

لا يستطيع أحد أن ينير نفسه، فالنور كله يصدر عن السماء، من "روح الحق الذي من عند الآب ينبثق" (يو 15: 26). به نرى الابن الكلمة كما نرى الآب، بل وبه نرى حقيقة أنفسنا، إذ ينير بصيرتنا فنكتشف ضعفنا ونشعر بحاجتنا إلي الخلاص، به يضيء لنا "إنارة إنجيل مجد المسيح... لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2 كو 4: 4-6).

v   كما هو مكتوب: "بنورك نعاين النور". أي باستنارة الروح القدس "النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آت إلي العالم". فيظهر مجد الابن الوحيد، ويهب معرفة الله للعابدين الحقيقيين[709].

القديس باسيليوس الكبير

v   بدون نور الكتاب المقدس نعجز عن رؤية الله، الذي هو النور (1 يو 1: 5)، وعن إدراك عدله المملوء نورًا[710].

الأب مارتيروس

v   في ابنك الذي هو النور نعاين نور الروح القدس؛ وذلك كما أظهر لنا الرب نفسه، قائلاً: "إقبلوا الروح القدس" (يو 20: 22)، وفي موضع آخر قيل: "قوة كانت تخرج منه" (لو 6: 19).

لكن من يقدر أن يشك في أن الآب هو نور، عندما نقرأ عن ابنه إنه بهاء النور الأبدي؟ لأنه لمن يكون الابن بهاءًا إلا للآب؟! الذي هو دائمًا مع الآب، ودائمًا ينير، لا ببهاء مخالف بل بذات التألق[711]؟!

القديس أمبروسيوس

v   روح الله شراب ونور. لو أنك وجدت ينبوعًا في الظلام، تشعل نورًا حتى يهديك إلي الوصول إليه. لكنك لا تشعل نورًا عند الينبوع المضيء، لنه هو ذته يشرق عليك، ويقودك إلى ذاته. حين تأتي لتشرب أقترب إليه، ولكي تستنير تعال إليه[712].

القديس أغسطينوس

إذ يجد المرتل نفسه واقفًا علي أرض النزاع بين شر الإنسان [1-4] ومراحم الله [5-9] يتحول إلي الصلاة بلجاجة. إنه يطلب من أجل استدامة محبة الله المملؤة حنوًا علي كل الذين يعرفون الله. ويصلي من أجل تمتعهم بالخلاص وسط الضيق حتى لا تطيح بهم رِجل المتكبر الطاغية المتغطرس، ولا تزحزحهم يدَّ الشرير. يطلب أن يعلن الله عدله لمستقيمي القلوب. إننا نحتاج إلي مراحمه التي لا يُنطق بها كما نحتاج إلي عدله الذي به يؤدب الأشرار حتى لا يهلك المستقيمون.

"فأبسط رحمتك علي الذين يعرفونك،

وعدلك علي المستقيمي القلوب.

لا تأتني رجل الكبرياء،

ويَّد الخطاة لا تحركني" [10-11].

يطلب المرتل بسط الرحمة علي الذين يعرفون الله، لأن ما يتمتعون به من "معرفة" لا فضل لهم فيه، إنما هو هبة إلهية من قِبل مراحمه ونعمته السخية المجانية. بسط الرحمة إنما يشير إلي ديمومة التمتع بالمعرفة والنمو فيها؛ فإذا نزعت مراحم الله يرجع

الإنسان إلي جهالته ويفقد نعمة المعرفة.

يطلب المرتل عدل لله للمستقيمي القلوب الذين يخضعون لإرادته الإلهية حتى لا يعوج قلبهم بسبب تجربة ما أو في الفرج. يُكلل المستقيمون بالأكثر وسط الضيقات، إذ لا يكفّوا عن تسبيحه، قائلين مع المرتل المتألم المسبِّح، "أبارك الرب في كل حين؛ تسبحته دائمًا في فمي".

v   "عدلك علي المستقيمي القلوب"...

كما قلت لكم مرارًا إن المستقيمي القلوب هم الذين يخضعون لإرادة الله في هذه الحياة. أحيانًا إرادة الله هي أن تكون بصحة، وأحيانًا أن تكون مريضًا. إن كنت تجد إرادة الله عذبة حين تكون بصحة، ومُرّة حين تكون مريضًا فأنت لست مستقيم القلب. لماذا؟ لأنك لا تريد أن تطابق إرادتك إرادة الله، إنما تود أن تُخضع إرادة الله لإرادتك.

إرادة الله مستقيمة وإرادتك ملتوية؛ يلزم لإرادتك أن تستقيم في خط واحد مع إرادة الله، لا أن تلتوي إرادتك لتناسبك، حينئذ يكون لك القلب المستقيم.

القديس أغسطينوس

إذ رأى المرتل رِجل الكبرياء ويد الأشرار تقتربان إليه، صرخ إلي الله حتى لا يسقط تحت سلطان الشر (الكبرياء) والأشرار، لئلا يتزعزع فيهيم في هذه الحياة بلا هدف.

v   [الخوف من رِجل الكبريا].

عندما تتجدد قوى إنسان ما فيصير مثمرًا جدًا بارتشافه من هذا الينبوع، يلزمه أن يحذر لئلا يتكبر. فإن آدم الأول لم يتحصن من هذا الخطر، وإنما علي النقيض جاءته رِجل الكبرياء ويد الأشرار، أي يد الشيطان المتكبرة قد زحزحته... بالكبرياء سقطنا فبلغنا إلي حالة الهلاك المميتة. وحيث جُرحنا من الكبرياء، فالاتضاع هو الذي يشفينا. جاء الله في إتضاع، ليشفي الإنسان من جراحات الكبرياء الدامية.

v   خشى المرتل من جذر الخطية ورأسها معًا، عندما صلي قائلاً: "لا تأتيني رجل الكبرياء".

القديس أغسطينوس

3. سقوط الشرير تحت اللعنة:

يختتم المزمور بتأكيد سقوط الأشرار المصرّين علي شرهم تحت اللعنة، فيسقطوا في ذات البقعة التي أرادوا أن يُسقطوا فيها أولاد الله.

"لأن هناك سقط عاملوا الآثم،

دُفعوا فلم يستطيعوا قيامًا [12].

الأشرار يسقطون ولا يقومون، لكن أبواب التوبة تبقى مفتوحة، وكما يقول القديس أغسطينوس:

 [إن كنت ساقطًا قم، وإن كنت قائمًا فقف (ثابتًا)، وإن كنت واقفًا فأجلس، وإن كنت جالسًا فقاوم (الشر)[713]].

 

 

 

 


 

ما أعظم حنوك

v   مراحمك سماوية،

تحول قلبي الحجري إلي سماء مملؤة حبًا!

بِّرك إلي السحاب،

يحملني من الوحل، ويرفعني إلي الأعالي!

v   الناس والبهائم تخلصهم يارب،

تتحنن علي نفسي العاقلة،

وتقدس جسدي الحيواني فيصير أشبه بالروحاني!

v   في ظل جناحيك أحتمي،

أختفي فيك فلا يقترب العدو إليّ!

تشبعني من دسم بيتك،

فلا أعتاز إلي خبز المرارة!

v   ترويني من روحك القدوس، ينبوع الحياة.

وتفيض عليّ بمياهك يا نهر النعيم الأبدي!

v   بنورك أعاين النور،

أراك فأستنير وأفرح بك.

أنت هو شمس البر،

تشرق عليّ فلا يقترب إليّ بعد ليل!

تحول حياتي إلي نهار دائم! فأنعم بعربون الأبدية!

v   لا تأتني رجْل الكبرياء؛ جذر كل خطية؛

إذ تحل أيها المتضع فيّ!

ويدّ الخطاة لا تحركني،

إذ أنا في قبضة يدك.

v   بحنوك العظيم أقمني حين أسقط،

واجتذبني دومًا فنجري جميعًا نحوك!

<<

 


 

المزمور السابع والثلاثون

الودعاء

يرثون أرض السلام

يظهر من الآية [25] أن داود النبي وضع هذا المزمور في شيخوخته، بعد سنوات طويلة من الخبرة، والتأمل في قضيته مع شاول الملك ونابال وأبشالوم وأخيتوفل وغيرهم. يرى بعض الدارسين أنه نظمه قبل نياحته بثلاث سنوات.

  أراد داود النبي أن يُجيب على السؤال المحيّر في أيامه بل وفي كل العصور، وهو: لماذا ينجح الأشرار ويتألم الأبرار؟ هذا السؤال يُحيّر الكثيرين، لكن الإجابة تصير سهلة إن تخطى القلب العالم المنظور ليرى ببصيرته الداخلية أمجاد الأبدية المعدة للمتألمين ظلمًا، فلا يفكر البار في حسد الأشرار، ولا يتحطم بسبب ما يواجهه من آلام ومتاعب. يُعطي هذا المزمور للقلب سلامًا، وينزع عن النفس كل تذمر، حيث يدرك المؤمن معاملات الله معه.

  هذا هو المزمور الثالث من المزامير الأبجدية (الهجائية)، وهو كامل تقريبًا في ترتيبه.

  مزمور نبوي عظيم يكشف عن غنى البركات الممنوحة لكنيسة العهد الجديد. إن لم يكن المزمور بكامله يتحدث عن شخص السيد المسيح، فموضوعه الرئيسي هو المسيح. يُشبّه البعض كلماته بأحجار كريمة أو حبات لؤلؤ مصفوفة معًا في خيط لتصنع عقدًا ثمينًا.

  هذا المزمور ليس بصلاة موجهة إلى الله، ولا بليتورجية، إنما هو مزمور حكمة تعليمي تهذيبي؛ يتحدث إلى الإنسان، يدور حول فكرة واحدة يود تأكيدها بطرق مختلفة؛ وهو يقدم ثماني وصايا مدعمة بالاختبارات العملية، يشبه في ذلك المزمورين 73 و94، وأيضًا سفري أيوب والأمثال.

الإطار العام:

1. بركة الإيمان                      [1-11].

2. مقارنة بين الأبرار والأشرار      [12-20].

3. نهاية الأبرار والأشرار            [21-40].

 1. بركة الإيمان:

لعل داود الذي واجه ضيقات بلا حصر قد هاجمه هذا الفكر: لماذا ينجح الأشرار ويتألم الأبرار؟ مرات كثيرة ولو إلى لحظات، لذلك وضع لنفسه هذا المزمور الذي يقوم على الإيمان بالله الدَّيان العادل، وقد وضع ثمان وصايا يلتزم بها، منها ست وصايا وردت في هذا القسم وهي:

1. عدم حسد الأشرار على نجاحهم الزمني [1].

2. تركيز النظر على الله وسكنى بيته [2].

3. الفرح بالرب لا بالزمنيات كالأشرار [4].

4. إلقاء الهم على الله [5، 6].

5. الخضوع للرب [7].

6. الكف عن الغضب [8].

هذه الوصايا الست تقوم على الإيمان بالله الذي وحده يرفع بصيرتنا الداخلية من ضيقات العالم ومباهجه، ومن تصرفات الناس وظلمهم للتمتع بالله نفسه الذي فيه نجد لذتنا؛ هو يعولنا ويكللنا ويدافع عنا!

الوصية الأولى: عدم حسد الأشرار على نجاحهم الزمني:

"لا تغر من فاعلي الشر،

ولا تغر من عاملي الإثم.

فإنهم مثل العشب سريعًا يجفّون،

ومثل بقول الخضرة عاجلاً يسقطون" [1-2].

يبدأ المزمور بنصح الأبرار ألا يغيروا من الأشرار، مؤكدًا أن يوم مجازاتهم آت لا محال، حينما يُحاسبهم الله يجفّون مثل العشب ويسقطون كبقول الخضرة. يطلب المرتل من الأبرار ألا يهتزوا عند رؤية الأشرار حتى لا يتمثّلوا بهم.

رؤيتنا للنجاح الذي يحققه الأشرار بطرقهم الملتوية ينبغي ألا تثيرنا إلى الطمع ولا إلى حسدهم، فأن هذا يجرنا إلى حالة تذمر حتى على الله نفسه. وعلى العكس كلما يزهو الأشرار سريعًا، نحزن عليهم ونبكيهم لأن يوم هلاكهم يقترب والأهوال تنتظرهم. منجل عدالة الله يُفاجئهم، لأن حياتهم قد جفّت وصار بقاؤهم مفسدًا للأرض. يقول معلمنا يعقوب: "لأن الشمس أشرقت بالحر، فيَّبست العشب فسقط زهره وفنى جمال منظره؛ هكذا يذبل الغني أيضًا في طرقه" (يع 1: 11).

v   "لا تغر من فاعلي الشر، فإنهم مثل العشب سرعان ما يذبلون". إخبرني إذن ما هو مصير من يقوم بالسلب والنهب بعد رحيله؟ أين هي آماله البراقة؟! أين هو اسمه المهوب؟ أما يعبر هذا كله ويتلاشى من الوجود؟! ألم يكن كل ما له حلمًا وخيالاً؟! هذا ما يجب أن تتوقعه في حالة أمثال هذا الإنسان، سواء أثناء حياته أو في حياة من يأتي بعده. لكن ليس هكذا هو حال القديسين، فلا يمكنك أن تنطق بذات الكلمات عن حالهم، ولا تقل أن ما يخصهم هو حلم وأسطورة[714].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

v   إنهم بلا قيمة، يعيشون على سطح التربة، ولا يضربون بجذورهم في الأعماق؛ من ثم فهم (كالعشب) الأخضر في الشتاء، حين تبدأ شمس الصيف تحمى يذبلون. الآن هو فصل الشتاء، لم يظهر مجدكم بعد، لكن إن كان لمحبتكم جذورًا عميقة كأشجار. كثيرة في الشتاء، فإن الصقيع يمضي ويحل الصيف، يوم القضاء، حيث تذبل خضرة العشب ويظهر مجد الأشجار.

 القديس أغسطينوس

يليق بنا ألا نحسد إنسانًا يتمتع بعظمة وقتية، إذ نعلم أنه إنسان ميت يرحل في ساعة واحدة! إذ يبلغ الأشرار غايتهم ويزدهرون دون توبة ورجوع إلى الله، يقطع الله ذكرهم من الأرض. هذا ما نراه في حالة شاول الملك وآخاب الذين إذ نمت ثروتهما جدًا أرسل الله لهما أعداء عصفوا بها. هذا ما حدث أيضًا مع نابال الشرير الذي مات بعد عشرة أيام من تحول داود النبي عنه (1 صم 25: 38)[715].

الشرير كالزهرة التي تتفتح لتسقط وتزول دون عودة!

الوصية الثانية: تركيز النظر على الله وسكنى بيته:

"اتكل على الرب واصنع الخير،

واسكن على الأرض وارتع من ثروتها" [2-3].

ربما يسأل إنسان: كيف لا أغر من الأشرار الذين ينجحون بينما يتألم الأبرار؟ من أين يأتيني الصبر لأنتظر وأعاين نهاية الأشرار؟ تأتي الإجابة هنا: الإيمان بالله والتمتع بالحياة الكنسية الغنية بثروتها الروحية! في الوصية الأولى يحذرنا من الغيرة والحسد بسبب نجاح الأشرار، أما هنا فيُقدم لنا الجانب الإيجابي: الارتماء في أحضان الله والتمتع ببركات الحياة الإنجيلية الكنسية.

لقد تكررت كلمة "الأرض" في هذا المزمور:

"أسكن على الأرض وأرتع من ثمارها" [3]،

"الذين يصطبرون للرب هم يرثون الأرض" [9]،

"أما الودعاء فيرثون الأرض" [11].

ما هي الأرض التي يسكنها المتكلون على الله، ويرثها الصابرون والودعاء. ربما قصد المرتل "أرض كنعان" أو "أرض الموعد" كرمز للحياة السماوية المطوَّبة، حيث يعيش المؤمن تحت ظل جناحي الرب، وسط شعبه. هذا كان أقصى ما يشتهيه المؤمن الأصيل في العهد القديم.

يرى القديس جيروم الأرض هنا هي أرض الأحياء، أي كنيسة العهد الجديد، حيث يُلد المؤمنون فيها من جديد ليبلغوا الحياة الأبدية. يقول القديس بولس: "سيرتنا في السموات" (في 3: 20). أما ثروتها فهي الله نفسه، حيث يفتح الآب أحضانه ليُنعم علينا بالوحدة معه؛ ويهبنا الابن دمه الثمين كفارة عن خطايانا ومصدر برنا، كما يمنحنا الروح القدس سكناه في قلوبنا.

لكي ننال ثروات الكنيسة، أرض الله الخاصة، عربون سمواته، أيقونة الأبدية، يلزمنا أن نتكل على الله ونثق في مواعيده وعمله الخلاصي، وأن نعلن إيماننا بالعمل وممارسة الحياة الكنسية الروحية بكل غناها.

v   قد تصنع الخير لكنك لا تسكن على الأرض، لأن أرض الرب هي كنيسته؛ والآب نفسه هو الكرام (يو 15: 1) الذي يرويها ويعتني بها. كثيرون في الحقيقة يبدون كأنهم يصنعون أعمالاً صالحة لكنهم لا يسكنون الأرض، ولا ينتمون إلى الكرام...

ما هي ثروات الأرض؟ ربها وإلهها، الذي قيل عنه: "أنت نصيبي يارب". اسمعوا كيف أنه عَنِيَ بتلك الأرض. أنظر ما قاله بعد ذلك: "افرح بالرب" [4].

القديس أغسطينوس

الوصية الثالثة: الفرح بالرب

"افرح بالرب فيعطيك مطلوبات قلبك.

اكشف للرب طريقك،

واتكل عليه وهو يصنع" [4].

مع كل وصية ترتفع النفس في طريق الإيمان، ففي الأولى تبدأ بالجانب السلبي بعدم حسد الأشرار بسبب ازدهارهم الزمني، والثانية تتكئ النفس على صدر عريسها السماوي وممارسة الحياة الكنسية الروحية بكونها عروس السماوي، وأما الثالثة فتتلذذ النفس بعريسها الرب، تعطيه قلبها وتطلبه شبعًا لقلبها فلا يبخل عليها بمطلوبات واشتياقات قلبها. يهبها ذاته واهب الخيرات والصالحات فلا تعتاز إلى شيء. في حبها الحق تكشف له طريقها وتصارحه بكل أسرارها وتتكل عليه فيعمل بنعمته وبروحه القدوس فيها. وكأن الوصية الثالثة هي الانشغال بالرب كعريس يلزم ألا تخفي عنه شيئًا ولا نطلب من غيره احتياجاتنا. لقد وجد موسى النبي في الرب فرحه فطلب أن يُعاين مجد الرب (خر 33: 18) وقد تمتع بذلك قدر ما يحتمل. وكان سليمان في ظمأ يريد أن يرتوي بحكمة الله ومعرفته فجعله الله أحكم البشر.

يعقد القديس يوحنا الذهبي الفم مقارنة بين الفرح أو التلذذ بالأمور الزمنية والفرح بالروحيات، قائلاً: [هل لي أن أخبر عن الآلام والملذات التي تكون للساعين نحو الترف؟ لا يمكنني أن أحصيها جميعًا. لكني أوضح الأمر كله في نقطة أساسية واحدة. فالناس لا يأكلون بلذة حينما يجلسون على المائدة الفخمة التي أتحدث عنها، فإن التقشف هو والد اللذة والصحة، أما النهم فهو مصدر وأصل لا المرض فحسب بل والأحزان[716]].

v   أخبرنا الرب أن لديه فقط هذا الطعام بوفرة كما جاء في الإنجيل: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو 4: 34). إننا نبتهج بهذا الطعام الذي يقول عنه النبي: "افرح بالرب"... لنأكل خبز الحكمة، ولنمتلئ بكلمة الله! لأن حياة الإنسان المخلوق على صورة الله لا تقوم بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت 4: 4). وعن الكأس أيضًا تحدث أيوب الصديق قائلاً في وضوح وبصراحة كاملة: "كما تنتظر الأرض المطر، هكذا انتظروا كلامي" (أي 29: 23)[717].

 القديس أمبروسيوس

الوصية الرابعة: إلقاء الهم على الله:

"اكشف للرب طريقك واتكل عليه وهو يصنع.

ويخرج مثل النور عدلك (برك)،

ومثل الظهيرة أحكامك (حقك) [5-6].

إذ نجد في الرب بهجتنا ولذتنا، يليق بنا أن نصارحه بكل مخاوفنا وهمومنا وكل أمورنا الكبيرة والصغيرة وهو يصنع أو يجري كل حياتنا حسب مشورته الصالحة.

جاءت كلمة "اكشف" في العبرية بما معناه "دحرج"، وكأنه يليق بالمؤمن أن يتخلص من كل أحماله واهتماماته بدحرجتها على الله (هو 5: 9)، وهي تُستخدم ببساطة بمعنى "إلقِ" (أم 16: 3) أو "ثق" (عب 9)، وجاءت في الترجمة السبعينية "اكشف"...

إذ نؤمن بالله في حياتنا العملية اليومية لا نخف الغيوم المحيطة بنا، بل نثق في شمس البر المختفي وراءها، هذا الذي يشرق على مؤمنيه الأتقياء ليعلن براءتهم وحقهم، إذ يقول المرتل:

"ويُخرج مثل النور عدلك،

ومثل الظهيرة أحكامك" [6].

بينما ينجح الأشرار يتألم الأبرار ويُتهمون ظلمًا أنهم أشرار. قد تتشوه سمعتهم إلى حين بافتراءات، فيكونون كالشمس المختفية وراء الغيوم والضباب، لكن ما أن تنقشع هذه حتى تظهر استقامة حياتهم، وتسطع كنور الشمس وقت الظهيرة، فتنتهي حياتهم بالفرح وكما يقول إشعياء النبي: "حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك، وتنبت صحتك سريعًا، ويسير برك أمامك، ومجد الرب يجمع ساقتك" (إش 58: 8)[718].

لقد أشرق الله على البشرية وقت الظهيرة حين أعلن كمال بهاء حبه على الصليب ليبدد ظلمة الخطية في قلوبنا.

v   في وقت الظهيرة ظهر الله لإبراهيم عند بلوطات ممرا (تك 18: 1)، فأشرق عليه نور الحضرة الإلهية الأبدي. وفي الظهيرة يدخل يوسف الحقيقي إلى بيته ليأكل ( تك 43: 25). هذا اليوم يضيء بالأكثر عندما نحتفل بالأسرار المقدسة [حيث يشرق السيد المسيح المصلوب على المذبح وسط شعبه[719]].

v    [أين تربض عند الظهيرة؟" (نش 1: 7)].

وحينما نتحدث عن الكلمة وضيائه الذي يشرق عليها، فتلتفت إليه قائلة: "أين ترعى قطيعك؟ أين تستريح عند الظهيرة؟"... كان الوقت "ظهيرة" عندما احتل يوسف مكانه وسط إخوته في المأدبة، وكشف لهم عن أسرار الأزمنة المقبلة (تك 43: 15)... كما أعلن بولس ذاته أن النور أبرق حوله كالظهيرة عندما اهتدى من مضطهد الكنيسة إلى النعمة (أع 9: 3)[720].

القديس أمبروسيوس

الوصية الخامسة: الخضوع للرب:

"اخضع للرب وتضرع إليه،

ولا تغر من الذي طريقه ناجحة في حياته.

بإنسان يُصنع الإثم" [7].

إذ يستنير الإنسان بنور الصليب كما في الظهيرة يُدرك كمال حبه ورعايته فيخضع له تمامًا ولا يرتبك لا بنجاح الشرير ولا بمكائده. من ينشغل بصليب رب المجد لا يتذمر حتى إن بدت خطط الأشرار ناجحة، فإن الله المخلص صانع خيرات يحول حتى شرور الأشرار لخلاصنا، كما حوَّل مقاومة اليهود لخلاص العالم، وخيانة يهوذا لتحقيق الصليب.

الوصية السادسة: الكف عن الغضب:

"كف عن الرجز (الغضب)، ودع الغضب عنك،

لا تغر لئلا تخبث.

لأن الخبثاء يُستأصلون.

والذين يصطبرون للرّب هم يرثون الأرض.

وأيضًا بعد قليل لا يوجد الخاطئ،

وتلتمس مكانه فلا تجده.

أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذذون بكثرة السلامة" [8-11].

إن كان الأشرار ماكرين وخبثاء، يليق بالأبرار ألا يغضبوا لئلا يسقطوا فيما يسقط فيه الأشرار بفقدانهم الصبر والوداعة. إن كان الشرير بخبثه يُستأصل فالبار بصبره يرث الأرض (أرض الموعد أو كنيسة العهد الجديد بثرواتها الروحية) وبوداعته يتأكد الميراث وينعم بسلام الله الفائق العقل.

يُحذرنا المرتل من الرجز (الغضب الخفيف) لئلا يتثبت الغضب في الحياة الداخلية ويتحول إلى حقد وخبث، فيصير مصيرنا هو مصير الأشرار المخادعين.

عوض التذمر الذي يدفع إلى الغضب ثم يقود إلى الخبث، نركز أنظارنا على الميراث الأبدي الذي نترجاه بالصبر ونقتنيه بالوداعة، فيحل السلام الأبدي على حياتنا.

يقدم المرتل أفضل تعريف للودعاء؛ أنهم أولئك الذين اختاروا طريق الإيمان بصبر عوض الاتكال على الملذات؛ هذا الطريق تتضح معالمه تمامًا في العبارات التالية. بينما العالم يموج بالاهتمام بما لا طائل منه ولا نفع له، يمضي الودعاء في سلام عجيب عابرين من الأرض إلى السماء. لا تمتلئ قلوبهم بالتذمر ولا الغضب وبالتالي لا موضع للخبث فيهم، لهم سلام الله كعربون لكمال التطويب الأبدي.

الله في عنايته بنا سمح بمضايقات الأشرار حتى نختبر الصبر والوداعة والسلام أثناء رحيلنا من وادي الدموع، إلى أن نلتقي بمسيحنا وجهًا لوجه فتشبع حياتنا بأمجادٍ أبدية! تنتهي حياة الأشرار بالهلاك، أما الموت بالنسبة لنا ففيه أمجاد.

v   ما هي ملذاتكم؟... سيملأ السلام كل اشتياق لكم، لأن الذهب هنا لا يمكن أن يصير فضة لكم، والخمر لا يمكن أن يتحول إلى خبز لكم، ونوركم لا يمكن أن يصير شرابًا لكم. أما الله فسيكون كل شيء بالنسبة لكم. سيكون طعامكم فلن تجوعوا بعد، وشرابكم فلن تعطشوا بعد، ونوركم فلن تصيروا عميانًا بعد، وراحتكم وعونكم فلن تجزعوا بعد. سيكون هو بنفسه بكماله وتمامه يمتلككم بكليتكم وتمامكم.

القديس أغسطينوس

v   بينما يظن الوديع أنه فقد كل ما له يأتيه الوعد على خلاف ذلك، قائلاً: "بلى، الإنسان الذي لا يتهور ولا ينتفخ يملك كل ما لديه في أمان، أما مثل ذاك الإنسان (الشرير) فيفقد غالبًا ميراثه بل وحياته نفسها[721].

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. مقارنة بين الأبرار والأشرار:

1. يضطهد الأشرار الأبرار:

 "يرتصد الخاطئ الصديق،

 ويصرّ عليه بأسنانه" [12].

توجد خطة قديمة طال أمدها قد وضعها الشرير ضد الأبرار، وكما يقول السيد المسيح: "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يو 15: 18). وكأن طرفي المعركة، في الواقع ليسا هما الخطاة والأبرار بل عدو الخير إبليس والسيد المسيح. بدأت المعركة منذ خلقة الإنسان وتبقى المعركة مستمرة في حياة كل مؤمن حتى تُعلن نصرة المسيح الكاملة فيه، أما أرض المعركة فهي عقل المؤمن.

يترصد الشرير - إبليس - للمؤمن الحقيقي لكي يوقع به في حبال الخطية؛ مستخدمًا جميع الوسائل الممكنة، وإذ لا يفلح يصرّ عليه بأسنانه، كأسد يجول ملتمسًا أن يبتلعه.

منذ هابيل الذي قتله قايين في العهد القديم، ومنذ اسطفانوس الذي رجمه قادة الكنيسة اليهودية وإلى مجيء السيد المسيح الأخير يُضطهد المؤمنون الحقيقيون لكنهم لا يُتركون.

2. هلاك الأشرار بذات أسلحتهم:

"والرب يضحك به،

لأنه قد سبق فرأى أن يومه قد دنا.

استل الخطاة سيفهم؛

وأوتروا قوسهم؛

ليصرعوا المسكين والفقير،

ويذبحوا المستقيمي القلب.

سيفهم يدخل في قلبهم

وقسيهم تنكسر" [13-15].

إذ يسخر الشرير بقديسي الرب، يضحك الرب به لأنه قد أعد يوم عقابه (أي 18: 20؛ مز 137: 7، إش 9: 4، إر 12: 3، هو 1: 11). أنه يستخف بكل خططه وتدابيره الشريرة!

يستخدم الأشرار كل أسلحتهم لقتل المسكين والفقير، لكن الله يمنع استمرار هذا الضيق لزمن طويل أو تركهم بلا عقاب. يستلون سيفهم لقتل أجساد الأبرار أما نفوسهم فلا يقدرون أن يقتربوا إليها، إنما يرتد السيف على نفس الظالم فيقتلها. لهذا يقول السيد المسيح: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها" (مز 10: 28).

سيفهم يدخل في قلبهم، "لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون" (مت 26: 52).

v   فماذا إذن؟ هل يؤذيك شر فاعل الإثم ويبقى هو بلا ضرر؟ أما يحدث أن حقده الذي ينفجر من حمو غضبه وكراهيته ليهدف إلى العصف بك أن يدمره هو أولاً، ويهلك أعماق نفسه قبلما يهاجمك علانية؟!

سيفَهمْ يدخل في قلبهم؛ من السهل أن يمس سلاحه أي سيفه جسدك كما بلغ سيف المضطهدين أجساد الشهداء فاخترقها، لكن بقيت قلوبهم سليمة بلا ضرر؛ لكن من الواضح أن الذي أنتزع السيف ليضرب به جسد البار لا يسلم هو من الضرر. لقد وضع في قلبه أن يقتل جسد إنسان؛ دعه يجتاز موت النفس!

القديس أغسطينوس

v   هؤلاء (الأشرار) ألسنتهم حسب شهادة المرتل سيف ماض وأسنانهم أسنّة وسهام (مز 57: 4). ولكن الأمر العجيب أنه بينما يهاجمون الآخرين لا يضرونهم، إنما يتمزقون هم أنفسهم بألسنّتهم، لأنهم يحملون في داخلهم الغضب والحنق والحسد والخداع والكراهية والمرارة...

وبالرغم من أنهم يعجزون عن أن يضروا الغير، إذ بها ترتد على أنفسهم هم أولاً وضدهم، وذلك كما يُصلي المرتل، قائلاً: "سيفهم يدخل في قلبهم" [15]. وهناك أيضًا عن مثل هذا "الشرير... بحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22)[722].

 البابا أثناسيوس الرسولي

v   الإنسان الذي يستأصل شهواته يشبه إنسانًا صوّب عدوه ضده رمحًا فارتد الرمح إلى قلب العدو[723]...

الأب دوروثيؤس

 هذا بالنسبة للسيف المرتد إلى قلب ضاربه أما القسى التي تنكسر فتشير إلى خطط الأعداء الأشرار الخفية إذ تنكشف وتنفضح.

3. يفتقد الشرار بركات الله:

كثيرًا ما يضطهد الأشرار الأبرار لأجل اغتصاب ممتلكاتهم لكن يبقى البار غنيًا بإيمانه وببركة الرب التي تملأ أعماقه، ويبقى الشرير معتازًا مهما نال من خيرات زمنية (أم 15: 16-17)، وكما يقول المرتل: 

"خير قليل للصديق أفضل من غنى كثير للخطاة" [16].

4. انكسار أذرع الأشرار:

"لأن سواعد الخطاة تنكسر؛

والرب يعضد الصديقين" [17].

كسر الساعدين يعني العجز التام عن العمل، كما قيل عن فرعون: "هأنذا على فرعون ملك مصر فأكسر ذراعيه القوية والمكسورة، وأُسقط السيف من يده... وأشدد ذراعيّ ملك بابل وأجعل سيفي في يده، وأكسر ذراعي فرعون فيئن قدامه أنين الجريح..." (حز 20: 22-24). إذ يمسك الشرير أسلحته يحطم الله ذراعيه فتنهار قوته ويخسر سلاحه، ويبقى الله نفسه سندًا لأبراره، يحملونه فيهم كذراعين للعمل المستمر لحساب مملكته.

5. طرق الأبرار معروفة لدى الرب:

"يعرف الرب طريق الذين لا عيب فيهم،

ويكون ميراثهم إلى الأبد" [18].

كما سبق فقلنا أن كلمة "يعرف" تعني العلاقة الوطيدة بين الله ومؤمنيه. يعرف طريقهم، لأنه هو "الطريق"، يحملهم فيه فيصيروا بلا عيب، فيهم برّ المسيح. ويقدم نفسه مكافأة

أبدية وميراثًا لهم.

قال السيد المسيح عن أسقف (ملاك) كنيسة سميرنا المتألم. "أنا أعرف أعمالك وضيقتك وفقرك، مع أنك غني... لا تخف البتة مما أنت عتيد أن تتألم به. هوذا إبليس مزمع أن يلقي بعضًا منكم في السجن... كن أمينًا إلى الموت فأعطيك إكليل الحياة" (رؤ 2: 9-10). أنه يعرف أعمال محبته، ويعرف أن أيام ضيق تنتظره، لكنه لا يتركه بل يُعدّ له إكليل الحياة. هذا ما عناه أيضًا المرتل، إذ قال:

"لا يخزون في زمان السوء،

وفي أيام الجوع يشبعون" [19].

زمان السوء قادم وأيام الجوع ستحل، لكن لا يفقد المؤمنون رجاءهم، ولا يحل بهم الخزي، ولا يكونون في جوع داخلي، بل بالرب يشبعون. يقول الرسول بولس: "بل نفتخر في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزى" (رو 5: 3-4). هذا الرجاء هو عطية الروح القدس المنسكب في قلوبنا (رو 5: 5)، يسندنا في وادي الدموع حتى نجتازه ونعبر إلى أورشليم العليا.

6. هلاك أعداء الله كالدخان:

"لأن الخطاة يهلكون؛

وأعداء الرب إذ يُمجدون ويرتفعون يفنون فناءً.

مثل الدخان إذا فنى" [20].

جاء النص العبراني، "كهباء المراعي فنوا، كالدخان فنوا". ربما يقصد بهذا أن العدو يدخل إلى المرعى - كنيسة المسيح - كأسد ليفترس، أو كلص في جراءة يذبح الخراف السمان ويشويها ليأكل، فماذا يحدث؟ تخرج من الذبيحة دخانًا سميكًا يَرتفع في تشامخ إلى فوق، وتتسع بقعته جدًا ليفنى ويضمحل. يشتمّ الله الذبيحة رائحة سرور من المظلومين بينما يصير الظالمون كالدخان المتشامخ الذي يفنى.

v   آنذاك، في اليوم الأخير، سيهلك أعداء الله، هم والموت والشيطان والأرواح الشريرة، لذا يليق بنا ألا نغتم لازدهار أعداء الله؛ لأنه في لحظة يسقط مجدهم، أجل، كدخان يفنون.

إذا ما رأيت عدواً ثريًا مدججاً بأسلحته يتبعه كثير من المنافقين لا يصيبك الإحباط بل ارثِ له، ونح عليه، واصرخ إلى الله لكي ينتشله مع أصحابه. وكلما ازدادت عداوته لله فليزدد نوحكم عليه، فأننا نبكي على الخطاة الهالكين من البشر، خاصة إن كانوا يمتلكون ثروات وينعمون بأيام طيبة، فإنهم مرضى يأكلون ويشربون للتخمة![724].

القديس يوحنا الذهبي الفم

3. نهاية الأبرار والأشرار:

1. عجز الأشرار عن الإيفاء بديونهم وقدره الأبرار على العطاء.

إن كان الأشرار يبذلون كل الجهد ليسلبوا الأبرار ممتلكاتهم ويحرمونهم حقوقهم بل يطلبون أنفسهم، إذا بهم حتى في هذا العالم يفقدون بركة الرب في حياتهم يقترضون ولا يقدرون على الإيفاء، بينما تملأ بركة الرب حياة الأبرار ليعطوا بسخاء وفرج. الاقتراض هنا لا يقف عند الأمور المادية وإنما بالأكثر الاحتياجات النفسية، فالشرير قد يكون غنيًا بماله لكنه بائس، يشعر بفقر داخلي ومذلة وحرمان، ينقصه الحب والفرح والسلام... يتوسل لكل أحد ليهبه كلمة حب صادقة أو يبعث فيه سلامًا.... أما البار فحتى في لحظات استشهاده يسكب على كل من حوله فرحًا وبهجة قلب، فتتحول أيام استشهادهم إلى أعياد مفرحة!

"يستقرض الخاطئ ولا يفي.

أما الصديق فيتراءف ويعطي" [21].

اقترض الشرير من الله نعمة الوجود، ونال منه بركات العاطفة والعقل والدوافع والجسد... وعوض أن يستخدمها لحساب ملكوت الله كآلات برّ لله يجعلها آلات إثم للخطية (رو 6: 13). أنه يقترض ولا يفي بل يقاوم دائنه، أما الصديق فيحمل طبيعة مخلصه، إذ يتراءف ويعطي حتى ذاته لأجل خلاص اخوته. الشرير تحل به اللعنة فيهلك، والصديق يرث أرض الموعد، كنيسة العهد الجديد بثرواتها الروحية.

إحدى البركات التي وُعد بها المؤمنون الطائعون للوصية في العهد القديم قدرتهم أن يُقرضوا الغير وعدم احتياجهم أن يقترضوا من أحد (تث 15: 2؛ إش 24: 20). إحدى اللعنات التي تقع على مقاومي الله أن يضطروا على الاقتراض مع عجزهم عن إقراض الآخرين (تث 28: 44). رذائل الأشرار وعدم تقواهم وتهورهم تدخل بهم إلى حالة عوز[725].

v   إنه يأخذ (يقترض) ولا يوفي؛ فما الذي يرده؟ الشكر! أنه لا يفي الله الذي نال منه (العطايا) شكرًا، بل على النقيض إذ يرد له الخير شرًا وتجديفًا وتذمرًا وجحودًا... أما الآخر (الصديق) فيُظهر رحمة ويُقرض، طرقه سخية؛ لكن ماذا لو كان فقيرًا؟ حتى وإن كان فقيرًا فهو غني... ليس لديه ثروة من خارج لكنه يملك الرأفة في داخله.

القديس أغسطينوس

2. يخسر الشرير ميراثه وحياته بينما يرث الصديق أرض الأحياء:

"والذين يباركونه يرثون الأرض.

والذين يلعنونه يُبادون" [22].

يبدو كأن الأبرار لا يملكون شيئًا مع أنهم يملكون كل شيء ويُغنون الكثيرين، وكما يقول الرسول بولس: "كفقراء ونحن نُغني كثيرين؛ كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10)، إذ يملكون نعمة الله وبركته.

يمتلئ الأشرار جشعًا وظلمًا، ونهايتهم أنهم ينالون اللعنة ويبادون، بينما يُعرف الأبرار بالسخاء والرأفة فيمتلئون ويرثون الأرض.

v   إنهم يملكون البار (الله)، البار الحقيقي وحده الذي يبرر، هذا الذي كان فقيرًا على الأرض ومع ذلك جاء بهبات سخية عظيمة ليغني كل الذين وجدهم فقراء معوزين. أنه ذاك الذي يهب الروح القدس لقلوب المساكين، ويطهر النفوس باعترافها بالخطايا، ويملأها بكنوز البر. إنه ذاك الذي استطاع أن يُصيّر صياد السمك غنيًا بتركه شباكه جانبًا غير مهتمٍ بما يملكه ليضع قلبه على ما لا يملكه (الخدمة).

القديس أغسطينوس

v   يَعد الله أولئك الذين يطلبون ملكوته وبره أن هذه كلها تزاد لهم. حيث أن كل شيء هو ملك الله فلا يعتاز من يملك الله شيئًا، ما دام لا يفتقر إلى الله نفسه. لقد وُهب دانيال طعامًا إلهيًا حين أُلقي في الجب بأمر الملك؛ بينما كانت الوحوش الضارية جائعة ولم تأكله إذا برجل الله يشبع. وهكذا إيليا في هروبه أطعمته الغربان، وخدمته في وحدته؛ فقدمت له الطيور طعامًا حين كان مضطهدًا[726].

 الشهيد كبريانوس

3. يجد الأبرار الله قائد حياتهم:

"من قبل الرب تعتدل خطوات الإنسان،

ويهون طريقه،

وإذا سقط لا يضطرب،

لأن الرب يسند يده" [23-24].

لله خطة في حياة كل إنسان شخصيًا، سواء كان كاهنًا أو راهبًا أو من الشعب؛ شيخًا أو شابًا أو طفلاً، رجلاً أو امرأة. كل نفس لها تقديرها ورسالتها الخاصة في عيني الله. وهو كآب لا يأتمن أحدًا غيره على تحقيق هذه الرسالة، حقًا يستخدم ملائكته خدامًا للعتيدين أن يرثوا الأرض، وأنبياءه ورسله وخدامه بل والطبيعة ذاتها، لكنه يبقى هو المخلّص الحقيقي لهم، يقدم لهم ذاته طريقًا.

v   لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي ائتمنته على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست وشابهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، وصرت لنا وسيطًا مع الآب. وصالحت الأرضيين مع السمائيين، وجعلت الاثنين واحدًا[727].

 (قداس) القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس

دخل الطريق (المسيح) طريق الآلام والصلب لكي يثبّت خطواتنا فنهوى الألم، ونسرُّ به لا من أجل الألم ذاته وإنما من أجل مشاركتنا للسيد المسيح طريقه ومشاركته إيانا آلامنا.

v   لكي يهوى الإنسان طريق الله، يوجه الرب نفسه خطواته، لأنه إن لم يوجه الرب خطوات الشر يضلون حتمًا في طريق الخطية، إذ هذه هي طبيعتهم؛ وإذ يضلون طويلاً في طريق معوجة يصير الرجوع بالنسبة لهم (بدونه) مستحيلاً.

 القديس أغسطينوس

يمسك الرب بأيدينا كأب يدرب أطفاله الصغار، ويقتادهم بنفسه، يُسر بهم في طريقه، ويسرون هم به، لأنه يسير معهم ويعلن ذاته لهم ويسندهم في ضعفاتهم.

في الطريق قد يسمح لهم بالسقوط لكي يكتشفوا ضعفهم، ويدركوا حاجتهم إلى قيادة روحه القدوس ومساندة نعمة الله لهم. يسقطون لكنهم لا يتحطمون، فإن عينيه تنظران إليهم، ويديه تمتدان لتنشلنا إن صرخنا إليه. يقول الرسول يعقوب "لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا" (يع 3: 2). هذه العثرات لا تجعلنا ننهار بل أن نرفع أعيننا دومًا لله القادر أن يقيمنا!

يرى البعض أن السقوط هنا لا يعني السقوط في الخطية بل السقوط في المتاعب، فإن الله في كل الأحوال لا يترك مؤمنيه أبدًا ينهارون.

4. اختبار الأبرار نعمة الله:

"كنت شابًا وقد شخت،

ولم أرَ صديقًا قط مِن الرب مرفوضًا،

ولا ذريته تلتمس خبزًا.

النهار كله يرحم ويقرض،

وزرعه يكون مباركًا" [25-26].

إذ يتحدث المرتل عن بركات الله التي تحل بالبار المملوء حبًا ورأفة وضياع الشرير الظالم، ربما يُسأل: هل حديثك هذا عملي وواقعي؟ لذا يجيب بأنه منذ صباه حتى شيخوخته لم يجد صديقًا أو بارًا واحدًا قد تخلى الله عنه أو رفضه، إنما يقف دائمًا بجانبه، بل وبجانب ذريته أيضًا. ربما يسمح الله أحيانًا إن يجوع بعض الأتقياء أو أولادهم، أو يعيشوا في عوز، لكنهم لن يتركهم إلى النهاية. يسمح بآلامهم لكنه لا يتخلى عنهم في تجاربهم، بل يبقى معهم، يحمل معهم أتعابهم وينجيهم، بل ويمنحهم نفسه شعبًا وغنى لهم.

v   لن يسمح الرب قط أن تهلك نفس بارة جوعًا، إذ يقول المرتل: "كنت شابًا وقد شخت، ولم أرَ صديقًا قد تخلى عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". إيليا كان يقتات بخدمة الغربان، وبأرملة صرفة صيدا التي توقعت موتها مع ابنها في ذات الليلة التي قضتها، فقد قدمت طعامًا للنبي إيليا ولم تعد طعامًا لنفسها.

v   محبة المال أصل كل الشرور. يتحدث الرسول عن الطمع بكونه عبادة أوثان (كو 3: 5). "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 6: 33).

  لن يسمح الرب أن يموت بار جوعًا؟![728]

القديس جيروم

يليق بالبار الذي يفتح قلبه وذراعيه للفقراء والمساكين ألا يرتبك بخصوص مستقبل أولاده بعد رحيله، فأنه يقدم لهم حياته المقدسة ميراثًا يسندهم أما الشرير فهو "تائه لأجل الخبز حيثما يجده" (أي 15: 23)، يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب فلا يعطيه أحد (لو 15: 16).

v   ليكن (الله) هو صيّ أولادك؛

ليكن هو كفيلهم،

ليكن هو حاميهم بجلاله الإلهي ضد كل الأضرار الزمنية...

هذا هو الميراث الموضوع في أمان والمحفوظ تحت وصاية الله[729].

الشهيد كبريانوس

v   أنك أب ظالم وخائن ما لم تقدم لأبنائك مشورة خالصة، وأن تنظر إلى حفظهم في الدين والتقوى الحقيقة.

يا من تهتم بالحري بأمورهم الزمنية وليس بممتلكاتهم السماوية، يا من تضعهم في وصاية الشيطان لا المسيح، تمارس خطيتين، وترتكب جريمة مزدوجة، وذلك بأنك لا تمد بنيك بعون الله أبيهم، وبتعليمهم أن يحبوا قنيتهم أكثر من المسيح[730].

 الشهيد كبريانوس

يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا: "كنتُ شابًا والآن شخت" إنما هو السيد المسيح في جسده الكنيسة... كأن الناطق هنا هو الكنيسة، جسد المسيح، التي تقدم خبرتها عبر الأجيال.

v   جسد المسيح أي الكنيسة، مثل أي كائن بشري، كانت في بداية حياتها صغيرة كما ترون، والآن هي في نهاية العالم قد بلغت سن الكبر المثمر. فإن الكلمات: "حينئذ يكثرون في شيخوخة دسمة" (مو 92: 14) قيلت عن الكنيسة التي تزدهر بين الأمم كلها. حديثها كحديث إنسان واحد بخصوص صباه وتقدمه في السن الحالي، فإنها قد فحصت كل شيء، فإنها بالكتاب المقدس عرفت كل الزمان، وها هي تعلن في رفعة وتحذير: "والآن قد شخت، ولم أرَ صدّيقًا تُخلي عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". الخبز هو كلمة الله التي لا تُحْرَم منها قط شفتا البار (مت 4: 3-4).

القديس أغسطينوس

5. يختبر البار الحياة الأبدية الصالحة:

"حد عن الشر واصنع الخير

واسكن إلى دهر الدهور" [27].

هذه هي الوصية السابعة حيث يلتزم البار ألا يحد عن الشر فحسب، وإنما يمارس العمل الإيجابي أي يصنع الخير، بمعنى يلتزم البار ألا يتشبه بالأشرار في ممارستهم للظلم وإنما يليق به أيضًا أن يسلك بروح الرب الصالح.

هذه الوصية تحمل في ذاتها مكافأة، إذ يلحقها المرتل بالقول "واسكن في دهر الدهور"، وكأن الامتناع عن الشر وصنع الخير هو دخول إلى عربون الحياة الأبدية حيث لا يوجد إثم بل صلاح دائم. الشر يعطي لذة مؤقتة سرعان ما تزول، بل وتتحول إلى مرارة، أما الخير فيدخل بنا إلى تذوق المباهج الإلهية الأبدية.

سبق لنا الحديث عن الجانبين: السلبي والإيجابي في حياة المؤمن التقي (مز 34: 13).

v   لا تظن أنك تصنع خيرًا إن كنت لا تسلب إنسانًا ثيابه. حقً إنك بهذا حِدت عن الشر، لكن يليق بك ألا تقف عند هذا الحد بلا ثمر؛ فالأعظم من عدم سلب ثياب إنسان هو أن تكسو عريانًا.

القديس أغسطينوس

v   يليق بكل من يريد أن يخلص ألا يقف عند الامتناع عن الشر بل يلزمه أن يصنع الخير أيضًا... فالإنسان الذي اعتاد أن يغضب دائمًا لا يكفي أن يكف عن الغضب بل يلزمه أن يتعلم الحلم... هذا هو الحيدان عن الشر وصنع الخير، فكل رذيلة تضادها فضيلة[731].

الأب دوروثيؤوس

6. يتمتع الأبرار بعدل الله أبديًا:

"لأن الرب يحب الحكم ولا يهمل أصفياءه،

يحفظهم إلى أبد الأبد" [28].

يحب الرب الحكم أو "الحق"، بكونه هو الحق، ويُسر بأن ينصف مظلوميه، يبقى أمينًا مع من أحبهم وأحبوه. قد يسمح لهم بالمتاعب إلى حين، إنما ليعلن رعايته لهم أبديًا. إنه يحفظهم إلى أبد الأبد، وكأنهم كنز السماء!

v   "لأن الرب يحب العدل ولا يهمل قديسيه". الوسيلة التي يتمم بها هذا هي أن حياة القديسين مخبأة فيه، فبينما الآن يتعبون ويكدّون على الأرض، يشبهون الأشجار التي تراها في الشتاء بلا ثمار ولا أوراق، لكن حينذاك يشرق أمامهم كشمس جديدة، فتظهر الحيوية التي تكمن في الجذور في ثمارهم... قد تحتقرون قديسًا حين يكون تحت التأديب، أنكم ترتجفون حين ترونه ملتحفًا بالكرامة.

القديس أغسطينوس

ربما يسأل أحد: حقًا لا يتخلى الله عن قديسيه؛ فالثلاثة فتية القديسون الذين سبحوه في النار لم تمسهم النار، بينما المكَّابيون وهم قديسوه هلكت أجسادهم في النار مع أنهم لم يتخلوا عن إيمانهم، فلماذا؟

يجيب القديس أغسطينوس، قائلاً:  [اصغِ إلى ما جاء بعد ذلك: "يحفظهم إلى أبد الأبد" [28]. إن كنتم ترغبون في أن يعيش (القديسون) بضع سنوات إضافية، فبهذا الافتراض لا يأخذ الله قديسيه. لكن الله لم يتخل علانية عن الثلاثة فتية، كما لم يتخل عن المكابيين سرًا. الأولون وُهبوا الحياة الزائلة (بالجسد) ليُخزوا غير المؤمنين، أما الآخرين فقد كللهم سرًا ليُدين ضلال المضطهدين].

7. يرث الأبرار الأرض ويسكنون فيها أبديًا [29]. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأرض التي يرثها الصابرون منتظروا الرب والودعاء.

8. ينعم الأبرار بالحكمة السماوية:

"فم الصديق يتلو الحكمة،

ولسانه ينطق بالحكم.

ناموس الله في قلبه،

ولا تتعرقل خطواته" [30].

لم يسبق أن صادفتنا كلمة "الحكمة" في سفر المزامير من قبل، وهي تشير إلى معرفة الإرادة الإلهية والأمور المقدسة الصادرة عن كلمة الله، بسكنى روحه القدوس وخلال خبرة الشركة مع المخلص.

عطية الله لأتقيائه أن يتمتعوا بالسيد المسيح عاملاً في فمهم وعلى لسانهم وفي قلوبهم وسلوكهم، إذ هو الحكمة التي يتلوها الصديق، وهو العدل (الحكم) الذي ينطق به لسانه، وهو ناموس الله المتجلي في قلبه وقائد خطواته.

  يليق بالمؤمن أن يجاهد بالنعمة الإلهية لكي ينعم بالشركة مع المسيح، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله معكم شريطة ألا يفارقكم كلمته]. وفي نفس الوقت يدرك أن تمتعه بالكلمة هو عطية مجانية يهبها الله لأحبائه المتجاوبين مع حبه.

يركز سفر المزامير كثيرًا على الفم بكونه، أما أداة لإبليس الكذّاب وأبي الكذابين يقدم خلاله الخداع والغش والتجاديف، أو أداة الله يعلن خلاله حكمته وأسراره الفائقة.

المؤمن التقي أشبه بقيثارة تعزف أسرار الله أوتارها القلب والفم والعمل! الكل يتناغم معًا في انسجام، ما ينطق به اللسان يتفق مع ما في القلب، ويتجاوب معه السلوك.

9. خطوات الصديق لا تتقلقل ولا تنحرف عن الطريق الملوكي:

"ناموس الله في قلبه،

ولا تتعرقل خطواته" [31].

سرّ التزامه بالطريق الملوكي حبه للوصية الإلهية من كل القلب، وطاعته لها في حياته العملية. الوصية بالنسبة له ليست ثقلاً وإنما سندًا له، تحفظه في الطريق الملوكي فلا تتعرقل خطواته. بها يتشبه بالله خالقه، وبها يدخل إلى الحضن الإلهي، بفضل روح الله القدوس الذي أوصى لنا بالكلمة والذي يسندنا لنعمل بها.

10. لا سلطان للشرير على الصديق:

"يتفرس الخاطئ في الصديق،

ويلتمس أن يقتله؛

والرب لا يبقيه في يديه.

ولا يدحضه في الحكم إذا ما هو دانه" [32-33].

يبدو كأن الصديق دائمًا في قبضة الشرير، لكن الله لا يتركه هكذا. إنه يخلصه كما خلص داود من يد شاول، ومردخاي من يد هامان، وبطرس من قبضة هيرودس. وإن لم يكن ثمة مهرب من أيدي الأعداء لسببِ أو آخر في قصد الله، فإنه يفتح أبواب السماء ويأخذ قديسه إلى الفردوس كما فعل مع اسطفانوس وكل الشهداء.

  لقد ترك الآب ربنا يسوع كما في أيدي أعدائه، لكن لم يُبقه هكذا، إذ قال السيد المسيح لبيلاطس: "ليس لك سلطان عليَّ إن لم تكن قد أعطيت من فوق"، كما قال: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (يو 22: 53)؛ وكأن الظلمة قد نالت سلطانًا إلى ساعةٍ على السيد المسيح حتى يتم الخلاص بصلبه.

ربما يشير المرتل هنا إلى الدينونة الأخيرة، حيث يتم القضاء ويصدر الحكم العادل كما حدث مع المرأتين المتنازعتين على طفل كل منهما تَدّعي أنها أمه. ففي وقت ما ظهر سليمان الحكيم كمن لا ينحاز لأي منهما، لكن في النهاية أمَّن حقوق الأم الحقيقية المحبة لطفلها وحَفَظها. هكذا قد يصمت الله إلى حين لسبب ما، لكنه في الوقت المعين يصدر الحكم[732].

v   يُسلَّم الجسد في قبضة المضطهدين، لكن الله لا يترك تقيّه هناك، من الجسد الأسير يحضر (الله) النفس ظافرة...

ما تحتاج إليه هو ألا تسقط فريسة خلال الشهوة في قبضة شريرة، لئلا برغباتك في الحياة الزمنية تسقط بين مخالب (الشهوة) ومن ثم تخسر الحياة الأبدية.

القديس أغسطينوس

هكذا لا يخاف الأبرار من قبضة أيدي الأشرار، فإن الله في حبه وبره وعدله ينقذ الأبرار من أيديهم، يخلص نفوسهم ويمجدها أبديًا، لكنهم بالحق يخافون الشر ذاته لئلا يقبض عليهم فيسقطون تحت الحكم ويهلكون. إنهم قديسو الله ينالون حرية مجد أولاد الله، فلا يقوى أحد على إيذائهم، إذ يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [بالنسبة للصديق حتى الأرض تصير له سماءً. ما أن يُسحب الشيطان من حياته الداخلية حتى يقيم الله ملكوته داخل هذا الإنسان، فلا يقوى شيء ما على أذيته].

11. يرتفع الأبرار بالله وينحدر الأشرار أو يُستأصلون:

الوصية الثامنة في هذا المزمور هي:

"تمسك بالرب واحفظ طريقه،

ويرفعك لترث الأرض وتعاين الخطاة إذ هم استأُصلوا" [34].

إذ نتمسك بالرب السماوي "يرفعنا" كما من المزبلة لنشاركه المجد الأبدي، بينما يُحرم الأشرار من هذه العطية إذ هم يُستأصلون بحرمانهم من الله مصدر حياتهم وانحدارهم مع إبليس أبيهم.

12. بعكس الأبرار يفتقر الأشرار إلى المجد الداخلي إذ يسعون نحو المجد الباطل:

"رأيت المنافق يرتفع ويتعالى مثل أرز لبنان،

وجزت فإذ ليس هو.

التمسته فلم أجد مكانه" [35-36].

عبثًا يسعى الأشرار إلى مجد هذا العالم، لأنهم سيهلكون مع مجدهم. حقًا يبدو أنهم ناضرون في هذا العالم وإلى حين، ومتشامخون كأرز لبنان، لكن هوذا الفأس قد وُضعت على أصل الشجرة، "فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار" (مت 3: 10؛ 7: 19). لقد رأى نبوخذنصَّر المتكبر نفسه شجرة في وسط الأرض كبرت وقويت وبلغ علوها إلى السماء ومنظرها إلى أقصى كل الأرض، أوراقها جميلة وثمرها كثير وفيها طعام للجميع وتحتها استظل حيوان البر وفي أغصانها سكنت طيور السماء وطعم منها كل بشر، وقد أصدر القدوس أمره: "اقطعوا الشجرة واقضبوا أغصانها وانثروا أوراقها وابذروا ثمرها ليهرب الحيوان من تحتها والطيور من أغصانها، ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض وبقيد من حديد ونحاس في عشب الحقل... (دا 4).

صار نبوخذنصَّر الملك العظيم كالحيوان مرذولاً ومطرودًا حتى تأدّب. ويرى المرتل في الأشرار أنهم يعبرون فلا يوجدون، وكأنهم أشبه بممثلين قاموا بدورهم على خشبة المسرح ثم نزلوا عنها فاختفى اسمهم وغناهم ومجدهم وسلطانهم. يتحدث أليفاز التيماني عن الغبي الشرير، فيقول "إني رأيت الغبي يتأصل وبغتة لَعَنتَ مربضه" (أي 5: 3). قيل أيضًا: "صوت رُعوب في أذنيه في ساعة سلام يأتيه المخرب..." (أي 51: 21).

v   التكبر والغرور والغطرسة والافتخار بعجرفة هذه كلها لا تنبع عن تعاليم المسيح الذي علمنا الاتضاع بل عن روح ضد المسيح الذي يوبخه الرب بالنبي القائل: "وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله" (إش 14: 13-14) [733].

 الشهيد كبريانوس

v   لنهرب من هنا، حيث ما يوجد هو كلا شيء، فإن كل ما نظنه مكرمًا إذا به فارغ، ومن يظن نفسه شيئًا إذا به غير موجود، نعم هو كلا شيء تمامًا. "رأيت الشرير يرتفع ويتعالى مثل أُرز لبنان، وجزت فإذ ليس هو" [35، 36]. اجتز مثل داود، كعبد صالح فيُقال لك: "اجتز ومِل إلى المائدة". اجتز مثل موسى لكي ترى إله إبراهيم واسحق ويعقوب فترى رؤيا عظيمة. هذه رؤيا عظيمة، لكن إن أردت أن تنظرها فاخلع حذاءك من قدميك، انزع كل رباطات الشر، وأنتزع رباطات العالم، اترك خلفك النعلين اللذين هما أرضيين. نفس الأمر أرسل يسوع الرسل بدون نعال، وبدون مال أو ذهب أو فضة، حتى لا يحملوا الأمور الزمنية معهم[734].

القديس أمبروسيوس

v   كل من يتعاظم ينحدر. تعاظم قايين على أخيه هابيل فقتله، فلُعن وصار هاربًا متشردًا في الأرض. أيضًا تعاظم أهل سدوم على لوط فأنزل الله عليهم نارًا من السماء وأحرقهم وانقلبت المدينة عليهم. تعاظم أيضًا عيسو على يعقوب واضطهده، ونال يعقوب بكوريته وبركته. تعاظم أولاد يعقوب على يوسف، ثم عادوا فسجدوا أمامه في مصر. تعاظم فرعون على موسى وشعبه، فغرق فرعون وجنوده في البحر الخ[735]...

 الأب أفراهات

يختتم المزمور بتأكيد التزام الأبرار بالوداعة والسلوك باستقامة لينالوا الخلاص والنصرة من قبل الرب الذي يتكلون عليه، مؤكدًا أن نهاية المنافقين مخالفي الناموس هي الهلاك.

 

 


 

أنت هو بهجتي ونصرتي

v   ينتفخ الشرير بجناحه الزمني،

  ويتكئ على سلطانه وإمكانياته،

  أما أنا فأجد فيك يا إلهي بهجتي ونصرتي.

v   افتح عن عيني فأرى أرض الأحياء،

 وأتمتع بثرواتها الروحية.

  كنيستك هي أرض الأحياء، بيتك الروحي،

  وأنت هو غناها... أقتنيك في قلبي!

v   هب لي ألا أحسد الشرير لئلا أسقط في الخبث.

  أعطني حكمتك السماوية، فألتحف بوداعتك.

  علمني أن أثق فيك وأنتظر مكافأتك السماوية.

<<

 

  

 

 

 


 

المزمور الثامن والثلاثون

مزمور التوبة الثالث

هذا المزمور هو مرثاة شخصية، وأحد مزامير التوبة السبعة.

كان داود النبي في ضيقة شديدة، وقد بلغت آلامه ذروتها. وقد أظهر المزمور أن أمورًا أربعة ثقَّلت من آلامه:

أ. مرض خطير حاق به سيطر على كل اهتمام آخر في المزمور [5-8]. فقد خار جسد المرتل تمامًا وتمررت نفسه فيه. يظهر المرتل متألمًا ومنكسرًا، لا يعرف طعم الراحة، كأن حمى قد أصابته فخار قلبه وذبلت عيناه.

ب. حرمانه من أصدقائه المقربين إليه جدًا [11-14؛ 19، 20]، فقد تخلوا عنه، متطلعين إليه كإنسان طريد. اعتقدوا أن الصحة والكرامة والغنى هذه كلها ثمار الأعمال الصالحة، كما أن المرض وفقدان السمعة والفقر ثمار الأعمال الشريرة (تث 32: 23 الخ؛ أي 6: 4؛ 16: 12 الخ).

ج. تعرض أيضًا إلى اضطهادات مارسها ضده أعداء خبثاء قاتلين [12، 19]؛ خضع لاتهاماتهم الباطلة في صمت [13 الخ]، واثقًا في رحمة الله له[736].

د. تألم بالأكثر بسبب شعوره بالخطية، حيث يعترف بها في صراحة أمام الله   [4، 8]. أحس كأن إثمه قد ابتلعه [4، 5]، مع إحساسه بأن ما صنعه من خير قوبل بالشر [20 الخ]. على أي الأحوال رجع إلى الله وصرخ دون يأس، مترجيًا رأفات الله.

لم يجد أمامه من يلجأ إليه لينال عونًا سوى الرب وحده القادر أن يُحطم أسباب غباوة الماضي والبؤس الحاضر وفاعليتهما[737].

استخدم اليهود الأسكينازيين Ashkenazi الذين يرجع أصلهم إلى أوربا الشرقية هذا المزمور في صلوات المساء في اليوم الثالث من الأسبوع. فإنه إذ يحل المساء يحل الشعور بالوحدة وتكتنفنا الشكوك، وإذ نُحاط بالظلام بصوت عوائه وكوابيسه نحتاج إلى هذا المزمور.

يَصلُح هذا المزمور أن يكون صلاة تدخل بنا إلى خلوة خاصة مع الله، نشكو فيها أمراضنا الجسدية والروحية القاتلة، فننعم بالتمتع بقدس الأقداس.

يقوم هيكل هذا المزمور على أساس أبجدي (22 آية)...

يفسر البعض الآلام الواردة في المزمور على أنها تخص السيد المسيح. لذا يترنم بها الخورس الكنسي في الجمعة الكبيرة في الكنيسة الكاثوليكية. وقد جاء النص في بعض المخطوطات اليونانية "رفضوني أنا الحبيب كجثة مؤلمة" (راجع إش 14: 19) كتلميح عن المسيح المصلوب، أما النص القبطي ففي أكثر وضوح يقول "سمروا جسدي"[738].

العنوان:

هذه الصرخة المملوءة ألمًا تشترك مع المزمور 70 في العنوان "للتذكير"؛ ربما يشير إلى "ذبيحة التذكار" (لا 2: 2، 9، 16؛ 5: 12، إش 66: 3). ربما كان التسبيح بهذا المزمور يصحبه تقديم ذبيحة. وقد اتسع العنوان في الترجوم الآرامي إلى "تقدمة تذكارية يومية".

لما كان "التذكار" بالنسبة لله هو عمل، فالكلمة هنا تعني تقديم حالة ما أمام الله تصرخ طالبة معونته. بمعنى آخر إذ يشعر الإنسان بحاجته المستمرة لله معينه، خاصة وقت الشدة، يرفع قلبه بالصلاة ويقدم ذبائح حب ليعلن صرخاته الداخلية الممتزجة بالشكر والتسبيح من أجل خبرته السابقة في معاملات الله معه واعلان قبوله إرادة الله الصالحة وانتظار خلاصه العامل بلا توقف في حياتنا.

من أو ما هو الذي للتذكر؟

1. وضع داود النبي هذا المزمور كتذكار لنفسه كما للغير، حتى لا ينسى سريعًا تأديب الرب له. لقد وضع تذكارات للتجارب التي مرّ بها. هكذا أيضًا فعل حزقيا الملك (إش 38)، كما لم ينس إرميا آلامه وبؤسه (مراثي 3: 20).

2. تذكر الله بالتسبيح بهذا المزمور. نحن أنفسنا تذكارات الله، علينا أن نذكَّره باحتياجاتنا وأحزاننا وما نحتاج إليه من عون.

3. جاء العنوان بحسب الترجمة السبعينية: "تذكر من أجل السبت"، فماذا يعني؟ تذكر المرتل الراحة الحقيقية، السبت الروحي. فبينما كان يُعاني من الأعداء المنظورين وغير المنظورين يعترف هنا بأنه لا يوجد سوى طريق واحد لبلوغ هذا السبت، وهو التوبة والاعتراف والثقة بالله.

الإطار العام:

1. التوبة والاعتراف                 [1-4].

2. مرض خطير                      [5-8].

3. الرجوع إلى الله          [9-15].

4. الثقة في مواجهة الأعداء           [16-22].

1. التوبة والاعتراف:

"يارب لا تبكتني بغضبك،

ولا برجزك تؤدبني" [1].

نفس الكلمات الواردة في افتتاحية مزمور التوبة الأول (مز 6: 1)، ومع التشابه الشديد لكن الكلمات في النص العبري ليست متماثلة تمامًا. وكما سبق فقلنا في المزمور 6 إن المرتل لا يسأل الله ألا يبكته وإنما ألا يبكته بغضبه. فهو محتاج إلى توبيخ الله بعنايته الإلهية لا بسخطه.

بسبب الخطية نخشى سخط الله وغضبه، لكن بتطلّعنا إلى أبوته الحانية نرى في تأديباته حبًا ورعاية: "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه؛ لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بابن يُسر به" (أم 3: 11).

v   اعترفوا بهذه الأمور أمام الله. اعترفوا أمام الديان عن خطاياكم في الصلاة؛ إن لم يكن باللسان فبالذاكرة، فتتأهلوا للرحمة[739].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لأن سهامك قد انغرست فيّ

وثقلت عليّ يدك" [2].

يشعر داود النبي أن آثامه قد طمت فوق رأسه، وأن سهام المعركة قد طعنت ضميره، انغرست فيه سريعًا، فأدرك أن يدّ الله القدوس تضغط عليه بالتأديب.

ما هي سهام الله إلا تأديباته النابعة عن حبه لنا، تجرح لا لتهلك، بل لتفرز الحق عن الباطل، ولتلهب النفس نحو الحياة الجديدة المقدسة في الرب فتصير مجروحة حبًا (نش 2: 5؛ 5: 8). تُجرح قلوبنا بسهام الله لنختبر حياة التوبة من أعماق القلب ويتّقد حبنا لله مخلصنا.

سهام الرب هي وعوده التي أعلنها في كتابه، أو هي كلمته التي تهب النفس يقظة ومعرفة صادقة للنفس ولله وقدرة على التوبة، بهذا تُجرح النفس فتتمتع بالسبت الحقيقي، أي الراحة في الرب.

سهام الله أيضًا هي كلمة الله المتجسد الذي قد طُعن لأجلنا ففُتِح جنبه لندخل إلى أحشائه وندرك أسرار حبه. هو نفسه سهام الآب الذي لا يخطئ الهدف، بل ينغرس في القلب ليهبه جراحات الراحة القائمة على حب فائق لا يتوقف! إنه يد الآب الذي بتجسده وصلبه تمّكن مني؛ اقترب إليّ ودخل أعماقي، وصار رأسي، وصرت أنا فيه أتمتع بالشركة معه! وكأن المرتل يقول: فلتأدبني لكن أرسل سهامك، أي لينزل كلمة الله إلى عالمي، وليدخل إلى أعماقي، وليستلم قلبي وفكري وجسدي، وليتمكن مني تمامًا!

v   ما الذي جعل السهام تنتشب به؟ العقوبة... ربما أيضًا آلام الذهن والجسد معًا التي يلزمنا أن نحتملها في هذه الحياة؛ هذه هي ما لقبها بالسهام.

ذكر أيوب البار أيضًا هذه السهام حينما عانى من آلام عنيفة، معلنًا أن سهام الرب قد نشبت به (أي 6: 4).

حقًا إننا عادة نعتبر السهام كلمات الله، ولكن يمكنه أن يشعر بثقل هذه الآلام حين تنشب به؟ كلمات الله وإن كانت السهام فهي تولد الحب لا الألم! أو هل لأنه لا يوجد حب بلا ألم (دُعيت سهامًا)؟ حينما نحب شيئًا ما لا نملكه نشعر بالحزن... هكذا تنطق عروس المسيح في شخص الكنيسة بهذه الكلمات في نشيد الأناشيد: "لأني مجروحة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8)... لقد أحبت شيئًا لم تملكه بعد، لذا حزنت لأنها لم تقتنه بعد (بالكمال). إنها حزينة، فقد جُرحت؛ لكن هذا الجرح يدخل بها إلى كمال الصحة الحقيقية سريعًا.

القديس أغسطينوس

"ومكّنتَ عليّ يدك" [2].

يعتبر أبناء الله أن يده تتمكن منهم أو تنزل عليهم بسبب خطاياهم، لأسباب عدة:

أ. ليكشف لهم عن مدى مرارة الخطية.

ب. ليحميهم بعنايته الإلهية حتى أثناء معاناتهم تأديباته.

ج. ليمنحهم التوبة والرجوع إليه فيطلبون رب الجنود (إش 9: 3).

يدّ الله كما قلنا هي سهامه، تشير من جانب إلى تأديباته الهادفة لخلاص أولاده، كما تشير إلى السيد المسيح الذي تمم الخلاص كما بيد الآب العاملة، لأنه والآب واحد. لقد أحب الآب العالم فبذل ابنه الوحيد الجنس، معلنًا بالصليب الحب الإلهي!

إن كان الله يشتهي خلاص أولاده مستخدمًا كل وسيلة، فإن أولاده من جانبهم يدركون حبه، طالبين ألا يغضب عليهم بل ينزع عنهم خطاياهم التي نزعت عنهم سلامة حياتهم الداخلية، وحطمت عظامهم، أي قوتهم الداخلية. هذا ما عبّر عنه المرتل بقوله:

"ليس شفاء يوجد لجسدي من وجه سخطك.

ولا سلامة لعظامي من وجه خطاياي" [3].

بسبب خطاياه يحل غضب الله عليه ما لم تسنده المراحم الإلهية، فيفقد كل صحة جسده، يكون كمن أُصيب بمرض مهلك، وترتجف عظامه الداخلية، أي يهتز كل كيانه. لقد ضعف جدًا داود الجبار في قتاله وهو المعروف بشجاعته؛ هذا الذي لم يرعبه الأسد ولا الدب ولا جليات بكل أسلحته وهو صبي أعزل بلا سلاح... يقف وهو ملك في رعب شديد ترجفه خطيته؛ لقد فقد المرتل الحلو كل بهجة ونسى كل مجد ليواجه موتًا أبديًا محققًا!

"لأن آثامي قد تعالت فوق رأسي،

مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ" [4].

يعبر المرتل عن كثرة خطاياه وثقلها التي ارتفعت فوق رأسه كحمل ثقيل أغرقته. لقد شعر بخطورتها ومرارتها إذ صارت تسحقه كحمل ثقيل يتجاوز قدرته. لقد أحنت رأسه إلى التراب عوض ارتفاعها إلى السماء، ونزلت به لتسحقه عوض تمتعه بالمجد، فصار محتاجًا إلى خلاص الله العجيب.

v   ما من متغطرس إلا ذاك الإنسان الشرير الذي يرفع رأسه متشامخًا في الهواء، إنه متعجرف ومتكبر ذاك الذي يرفع رأسه ضد الله... ولأن الآثام رفعت رأسه عاليًا؛ كيف يعامله الله؟ "مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ"... تعلو أحزانه على رأسه وتهبط آثامه على إكليله.

القديس أغسطينوس

v   إن كان بعد هذا كله تبدو لك الفضيلة كثقل، تطلّع إلى الرذيلة أنها أكثر ثقلاً. هذا ما صرح به (السيد) إذ لم يقل أولاً: "احملوا نيري عليكم" وإنما سبق ذلك القول: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال"، موضحًا أن الخطية أيضًا لها تعبها وأنها حمل ثقيل يصعب احتماله. فإنه لم يقل فقط "يا جميع المتعبين" بل قال "والثقيلي الأحمال". هذا أيضًا تحدث عنه النبي عندما وصف طبيعتها: "مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ"، وأيضًا وصفها زكريا أنها وزنة من الرصاص[740].

القديس يوحنا الذهبي الفم

الخطية ثقيلة للغاية كالرصاص، إذ قيل عن فرعون وجنوده: "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة" (خر 15: 10)، وعندما دخلت خطية الشك في حياة القديس بطرس بدأ يغرق (مت 14: 31).

2. مرض خطير:

نزلت عليه يد تأديب الرب وأصابه المرض بسبب خطيته، فلم يكن في جسده صحة، وصار ينوح طول النهار، وامتلأ تعبًا وتمزقًا، صار سقيم النفس والجسد، في مذلة، يشعر بضيق شديد[741].

"قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالتي" [5].

v   هل تعلمون مقدار نتانة الخطية؟ اسمعوا النبي يقول: "قد نتنت وقاحت جراحاتي"[742].

v   ليست الخطية حملاً ثقيلاً فحسب بل ورائحتها نتنة... الغباوة هي علة كل شرورنا[743].

v   ليس شيء أكثر دنسًا، ليس أكثر نجاسة من الخطية[744].

v   ليس شيء أكثر نتانة من رائحة الخطية التي جعلت المرتل يقول: "قد نتنت وقاحت جراحاتي"[745].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   جمال النفس أو قبحها هو نتاج فضائلها أو رذائلها، واللون الذي نستمده من أي منهما، إما يجعلها مجيدة فتسمع من النبي قوله: "يُسر الملك بجمالِك" أو قبيحة حمقاء نتنة، فتقر بنتانة خزيها، قائلة: "قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالاتي"، ويقول لها الرب: "لماذا لم يندمل جرح بنت شعبي؟"[746].

الأب بفنوتيوس

v   للخطية رائحة نتنة، وللفضيلة رائحة عطرة[747].

v   أعمالك الصالحة هي عطرك، لكنك إن أخطأت تفيح خطاياك رائحة حماقة[748].

العلامة أوريجانوس

لقد أظهر المرتل أن بداية كل خطية هي الجهالة.

v   يسقط المتغطرس والغضوب ضحية أهوائهما وعواطفهما، وذلك بسبب افتقارهما للحكمة، إذ يقول النبي: "ليس شفاء يوجد لجسدي... قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالتي" [3، 5]. موضحًا أن بداية كل الخطايا هي الجهالة. لهذا فالإنسان الفاضل الذي فيه مخافة الله هو أكثر فهمًا من غيره. وكما يقول الحكيم: "رأس الحكمة مخافة الرب" (أم 1: 7)[749].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"شقيت وأحنيت إلى الانقضاء،

واليوم كله أمشي عابسًا" [6].

من هو هذا الذي دخل إلى حالة شقاء وأحنت نفسه فيه ودخل إلى حالة العبوسة كل اليوم إلا السيد المسيح الذي لم يعرف خطية، وقد صار خطيةً لأجلنا. حمل نتانة خطايانا وقبل جراحاتنا في جسده، وها هو يدخل إلى الآلام وينحني حتى النهاية، إلى عار الصليب، كي يدخل بنا إلى راحته (سبته) الأبدي.

أحنى العشار رأسه بسبب خطاياه فرفعه ذاك الذي انحنى بالصليب لأجله، رفع رأسه، بل ورفع كل كيانه ليشاركه بره ومجده!

نحزن كل يوم في حياتنا على الأرض بسبب خطايانا، فنسمع ذاك الذي حمل أحزاننا يطوبنا، قائلاً: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 5: 4).

ربما أراد المرتل أن يعلن بأن تشامخ الإنسان يدفعه إلى الخطية التي تذله في أعماقه، فتنحني نفسه إلى التراب؛ هذا ويسمح الله بالتأديب ليكتشف هذه المذلة التي سببتها الخطية، فيرجع إلى مخلصه ويرفع رأسه في الرب.

v   لماذا انحنى؟ لأنه كان قد ارتفع؛ فإنك إن اتضعت ترتفع، وإن تشامخت تنحني. يسهل على الله أن يجد ثقلاً يسحقك به؛ هذا الثقل هو خطاياك التي تعلو فوق رأسك فتنحني إلى الأرض... لكن ماذا تعني: "إلى الانقضاء"؟ أي إلى الموت!

القديس أغسطينوس

"لأن نفسي قد امتلأت مهازئًا،

وليس يوجد لجسدي شفاءّ" [7].

أصابت الخطية نفسه، وحطمت حتى جسده، فإنها تحرم الإنسان بكليته من التمتع بالمجد الأبدي!

قد ينعم الأشرار بالصحة لكن إلى حين، وأما المؤمن التقي فيتمتع بالجسد الروحاني الذي بلا هوان المجيد أبديًا.

الآن إذ اكتشف المرتل ثمار الخطية بدأ قلبه يئن بسبب ما حلّ به وما أوشك أن يسقط فيه أبديًا، وتحولت أنّاته إلى صرخات توبة صادرة عن القلب، إذ يقول:

"تعبت واتضعت جدًا،

وكنت أئن من تنهد قلبي" [8].

v   غالبًا ما تسمعون عبيد الله يقطعون صلاتهم بالأنّات والتنهدات، ويتعجب الناس قائلين، لماذا؟ ليس ثمة شيء ظاهر إلاّ أنين خدام الله الذي يبلغ مسامع من بجوارهم في الصلاة. توجد أيضًا تنهدات داخلية لا تسمعها الآذان البشرية ولا تلتقطها...

ينوح إنسان ما لفقدانه ابنه أو زوجته... وآخر لأن كرمه أفسده البَردَ... إنهم يصرخون بنواح بأنات جسدية، أما عبد الرب فيصرخ لأنه يتذكر السبت حيث ملكوت الله الذي لا يرثه جسد ولا دم (1 كو 15: 5)، فيقول: "كنت أئن من تنهد قلبي".

القديس أغسطينوس

v   فلنصلِ لا بصوت عالٍ بل بقلوبنا نصرخ إلى الله[750].

الأب قيصريوس أسقف آرل

3. الرجوع إلى الله:

"أمامك هي كل شهوتي،

وتنهدي عنك لم يخفَ" [9].

هنا الاستغاثة إلى الله كلي المعرفة، الذي يسمع التنهدات الخفية. الله هو الطبيب القادر وحده أن يسمع ويرى الخفيات، يرى المرض الدفين، وقادر أن يشفي النفس والجسد. إن كان الإنسان قد انكسر قلبه بسبب الخطية يتقدم الرب نفسه إليه كطبيب ومخلّص!

v   ضع تأوهاتك أمام الله، والآب الذي يرى في الخفاء هو يجازيك (مت 6: 6).

تأوهاتك هذه هي صلاتك، إن كانت تنهداتك مستمرة فصلاتك دائمة أيضًا، إذ لم يقل الرسول من فراغ: "صلوا بلا انقطاع" (1 تس 5: 17). هل نستطيع أن نحني ركبنا بلا انقطاع"؟ ونسجد بأجسادنا؟ أو نرفع أيدينا حتى يقول: "صلوا بلا إنقطاع"؟ كلا!... توجد طريقة أخرى للصلاة الداخلية التي بلا توقف هي التنهدات...

إن كنتم تشتاقون إلى السبت (الراحة) لا تكفوا عن الصلاة...

"تنهدي عنك لم يَخفَ"

إن كان التنهد داخليًا على الدوام، هكذا أيضًا الأنين، فأنه لا يبلغ دائمًا إلى آذان الناس لكنه لا يغيب عن أذني الله.

القديس أغسطينوس

v   ليته لا يحتقر أحد التوبة أو يستخف بالاتضاع؛ إنها كلمات الملك داود، فقد كان ملكًا عظيمًا جدًا ذاك الذي تمم ذلك (أي قدم التوبة في اتضاع). لذلك يليق أن نصرخ عاليًا كما على ميت، وأن نبكي بدموع غزيرة على النفس التي تهلكها الخطية[751].

الأب قيصريوس أسقف آرل

"قد اضطرب فيّ قلبي وفارقتني قوتي

ونور عيني لم يبقَ معي" [10].

إذ لا يعرف المرتل الرياء ولا النفاق، يشكو نفسه في إخلاص شديد، مُعلِنًا أنه لا يعاني مبدئيًا من أذّية صادرة عن الغير بل بالحري يُعاني من نفسه؛ خطيته هي التي تحطم قلبه فتفقده بصيرته الداخلية.

لقد عانى من جسده، كما خفق قلبه الذي امتلأ بالاضطرابات والمتاعب، وفارقته قوته، وشاخت عيناه، أي فقد حياته وقوته واستنارته. صار محتاجًا أن يشرق عليه إلهه ليهبه الاستنارة من جديد.

v   هذا الآب رأى، ذاك الساكن في الأعالي والناظر إلى المتواضعات (مز 113: 5-6)، "والكائنات يعرفها من بعد" (مز 138: 6). "رآه أبوه" (لو 15: 20)؛ نظره بطريقة بها يستطيع الابن أن يرى أباه. فقد أشرقت ملامح الأب على وجه الابن المقترب إليه بطريقة بددت كل الظلمة التي جلبها إثمه عليه. ظلام الليل ليس مثل الظلمة التي يجلبها عار الخطية. اسمع ما يقوله المرتل: "أدركتني آثامي ولم أستطع أن أبصر" (مز 40: 13). وفي موضع آخر يقول: "صارت آثامي حملاً ثقيلاً عليّ" يقول بعدها: "نور عيني لم يبق معي" [10]. هكذا يبتلع الليل نور النهار الذي مضى؛ وتُحطِّم الخطية قوة إدراكنا... من الواضح أنه ما لم يرسل الآب السماوي أشعته على وجه الابن الراجع، ما لم ينزع ضباب عاره بالنور النابع عن بهائه، لا يستطيع هذا الابن أن يرى وجه الله البهي[752].

الأب بطرس الخريولوجيوس

الآن وقد فقد المرتل صحة جسده وسلامة نفسه ونور بصيرته الداخلية، ما هو موقف أصدقائه وجيرانه؟ وما هو موقف أقربائه؟

"أصدقائي وجيراني دنوا مني ووقفوا مقابلي،

وأقربائي وقفوا بعيدًا عني" [11].

تحول أصدقاؤه وجيرانه إلى أعداء، يقتربون إليه ليقفوا مقابله، بلا مشاعر صداقة أو وّد من نحوه إذ حسبوا أن الله ضدّه. طلبوا نفسه، ونصبوا له الفخاخ لهلاكه. أما أقرباؤه فوقفوا من بعيد لا يساندونه ضد مقاوميه الذين استخدموا كل طاقات عنفهم لتحطيمه. موقف مؤلم للغاية، لكنه مناسب لتدخل العناية الإلهية لمساندته[753].

v   من هم أجيران الذين دانوا منه؟ ومن هم (الأقرباء) الذين وقفوا بعيدًا عنه؟ كان اليهود هم جيرانه... اقتربوا إليه حتى حينما صلبوه. وكان الرسل أقرب المقربين إليه ومع ذلك وقفوا بعيدًا عنه خوفًا من التألم معه.

يمكن أيضًا تفسير ذلك بطريقة أخرى: أصدقائي يعني الذين تظاهروا أنهم أصدقائي. قدّموا مظهر الصداقة عندما قالوا: "نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق" (مت 22: 16)؛ حينما جرّبوه بخصوص دفع الجزية لقيصر فأقنعهم من خلال الكلمات التي نطقوا هم بها. لقد حرصوا أن يظهروا كأصدقاء له.

القديس أغسطينوس

هكذا قامت خاصة المسيح ضده، حتى تلاميذه هربوا في لحظات الصليب. ما عاناه داود من بني جنسه كان ظّلاً لما عاناه السيد المسيح نفسه.

يشكو داود النبي من خبث الأعداء الذين ربما انتهزوا اعتلال صحته وتعب نفسه فكانوا لا يطلبون أقل من نفسه؛ أي القضاء على حياته تمامًا، مستخدمين الأكاذيب والوشايات:

"وأجهدني الذين يطلبون نفسي.

والملتمسون لي السوء تكلموا بالأباطيل.

وغشًا طول النهار درسوا" [12].

أمام هذه الأكاذيب وقف المرتل صامتًا؛ في حكمة الروح صمت لكي يحتفظ بهدوئه في مواجهة هذه العواصف.

"أما أنا فكأصم لا يسمع،

ومثل أخرس لا يفتح فاه" [13].

يا لها من مفارقة عجيبة بين ألسنة لا تكف عن الافتراءات والكذب [12]، وصمت وسكون [13]. إنها صورة رمزية لما حدث عند محاكمة السيد المسيح، الذي قيل عنه: "الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر؛ الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يُهدّد بل كان يسلّم لمن يقضي بعدل" (1 بط 2: 22-23، إش 53: 7).

v   لم يكن داود صامتًا على الدوام، وإنما إلى حين. لم يحجم عن الكلام تمامًا، لكنه أعتاد ألا يجاوب الأعداء الذين كانوا يثيرونه والأشرار الذين يغضبونه[754].

القديس أمبروسيوس

v   [عن سيرة الأنبا أنطونيوس]

بعد أشهر جاءت (الشياطين) مرتلة متفوهة بآيات كتابية: "لكنني كنت كأصم لا يسمع" (مز 37: 14). مرة أخرى هزت الدير كله، أما أنا فكنت أُصلي محافظًا على عقلي من التزعزع. بعد ذلك أتت مصفقة ومصفرة وراقصة[755].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   هكذا يليق بكم أن تسلكوا كمن هو أصم وأبكم وأعمى[756].

القديس يوحنا كاسيان

4. الثقة في مواجهة الأعداء:

لقد أعطت خطيته الفرصة للأعداء أن يتهللوا، كما يتهلل العالم دومًا إذا ما فشل الأبرار وسقطوا في الخطايا، لكن بالتوبة واجه المرتل أعداءه لا بقدراته الذاتية، وإنما بإمكانيات الله.

"لأني قلت لئلا تفرح بي أعدائي،

وعند زلل قدميّ عظموا عليّ الكلام.

أما أنا للسياط فمستعد،

ووجعي مقابلي في كل حين" [16-17].

لقد صمت المرتل أمام أعدائه متشبهًا بسيده الذي قيل عنه: "كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش 53: 7)، لكنه لم يصمت أمام الله، إذ يترنم هكذا: "لأني قلت: لئلا تفرح بي أعدائي". بصمته وقف ينتظر عمل الله بروح الحكمة، هو صمت لكي ينطق الله، والآن يتحدث مع إلهه حتى لا يشمت به الأعداء ويتهللون لسقوطه، ويتعظمون عليه بالكلمات الجارحة والسخرية عند زلل قدميه، إنهم يترقبون انهياره كي يشهرّوا به ويعيروه (نح 6: 13)، لذا يلجأ إلى ذاك القادر أن يرفعه من السقوط.

قدم المرتل صلواته وتوسلاته لا ليُرفع عنه الضيق إنما لتُغفر له خطاياه، فمن جهة الضيق يعلن أنه مستعد أن يحتمل السياط كمن هو تحت الحكم؛ ضعفاته أمام عينيه على الدوام: "ووجعي مقابلي في كل حين". يعلق القديس أغسطينوس على قوله: "أما أنا للسياط فمستعد" هكذا: [نطق بهذه الكلمات بمهابة عظيمة كما لو أراد القول: "لهذا وُلدت كي أُعاني من الجلدات].

إنه لا ينتظر تعييرات الأشرار إذ يعترف بخطاياه، قائلاً: "لأني أخبر بإثمي، وأهتم من أجل خطيئتي" [18].

v   هنا يظهر سبب ألمه، ليس سقوطه تحت العقاب، وإنما من جراء الجرح لا العلاج. فإن العقاب هو ترياق الخطية.

يلزمكم أن تعترفوا بإثمكم (تعدي الناموس) فتغتمّون على خطاياكم.

ماذا أعني باهتمامكم بالخطية؟ أن تهتموا بجرحكم.

القديس أغسطينوس

v   حينما نتوب ونحن في حزن نتذكر أخطاءنا، فإن ينابيع الدموع التي تصحب اعترافنا بآثامنا تطفئ بالتأكيد نيران ضمائرنا[757].

الأب بينوفيوس

v   "لأني أعترف بإثمي".

كثيرًا ما تحدثنا عن شجب آثامنا، أي كثيرًا ما نعترف بآثامنا. تأملوا إذن ما يعلمنا إياه الكتاب المقدس: ألا تبقى الخطية مخبِأة فينا. فما أن يتهم الإنسان نفسه ويعترف حتى يتقيأ خطأه ويضع في الحسبان علة مرضه كله.

فقط احترسوا وتيقظوا بخصوص من تعترفون له بخطاياكم. اختبروا أولاً الطبيب الذي تكاشفونه علة مرضكم[758].

العلامة أوريجانوس

بعد اعتراف المرتل بضعفاته ملقيًا على نفسه صار يصرخ إلى الله لكي يخلصه من الأعداء أي الشيطان وأعماله الشريرة.

"أعدائي أحياء وهم أشد مني" [19].

قوله أحياء ربما يعني أن عدو الخير وجنوده الروحيين قد بدأوا الحرب منذ الإنسان الأول ولازالوا يعلمون، حملوا خبرات لسنوات طويلة في حربهم ضد الإنسان، مع اتسامهم بالقوة والعنف... فأين أذهب منهم إلا إلى الله الحيّ معطي الحياة والقوة؟! لا علاج لمرضى الروحي ومضايقات الأعداء لي إلا الصلاة والالتجاء إلى الرب المخلص.

"الذين جازوني عوض الخيرات شرورًا،

محلوا بي (قاوموني) لأني كنت أُحاضر نحو العدل" [19].

عدو الخير شرير بطبعه يقابل حتى الخير بالشر، لأنه يبغض الحق، ولا يطيق الخير، لا عمل له إلا مقاومة من يتبع العدل والصلاح. يصرخ المرتل في موضع آخر، قائلاً: "وبدلاً من أن يحبوني سعوا بي، وأنا كنت أصلي، وقرروا عليّ شرورًا بدل الخيرات، وبغضًا بدل حبي" (مز 109: 4-5). هذا هو نصيب مُحب العدل، أن يكون موضع كراهية واضطهاد عدو الخير. وكما قيل عن قايين: "كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه؛ ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة، وأعمال أخيه بارة" (1 يو 3: 12).

ما يفعلونه بالأبرار إنما هو امتداد لما صنعوه بواهب الخيرات نفسه، محب البشر، إذ يقول المرتل على لسانه:

"رفضوني أنا الحبيب مثل ميت مرذول،

ومساميرًا جعلوا في جسدي" [20].

قدم حبًا فقدموا له رفضًا كميت مرذول، وعوض خيراته سمروا جسده على خشبة الصليب.

الآن يتحدث المخلص المرفوض باسم كل مؤمنيه أعضاء جسده المشاركين له في آلامه، قائلاً:

"لا تهملني ياربي وإلهي، ولا تتباعد عني.

التفت إلى معونتي يارب خلاصي".

من يلتصق بالمصلوب لا يعرف اليأس، إذ يرى الرب معين خلاصه، لا يهمله بل يلتفت إليه ليُقيمه.

واضح أن المرتل لم يكن يائسًا وإلا ما كان قد استخدم العبارة الأخيرة في هذا المزمور، التي هي مجمل كل صلاته؛ بينما يطلب الأعداء نفسه، ويعيش في ضيقة عظيمة إذا بالله يستقبله ويقيمه من جديد.

قد تبدو الظروف الظاهرة كلها ضدنا، لكن الله قادر أن يغيَّر ما هو ظاهر[759].

 


 

أدّبني بسهام حبك!

v   إلهي لقد جَرَحَتْنِي سهام الخطية،

قاحت جراحاتي الداخلية،

فسد جسدي وانهارت نفسي،

انحنت نفسي حتى التراب

أظلمت بصيرتي فلم أقدر بعد على معاينة جلالك!

v   أدِّبني يارب بسهام حبك،

ليخترق ابنك الحبيب قلبي كالسهام الناري!

جراحات حبك تشفي جراحات خطاياي!

سهامك تحطم سهام آثامي!

v   لتستمع يارب إلى تنهدات قلبي!

لتُنِر يارب عينيّ!

لتدخل إلى حياتي، فقد تركني الأحباء وقاومني الأعداء!

v   أنت حبي، أنت مقدّسي،

أنت نور عينيَّ،

أنت القريب إليّ وصديقي الحميم،

أنت مخلص نفسي وجسدي أيضًا!

<<

 

 


 

المزمور التاسع والثلاثون

الأحداث والزمن

مرثاة شخصية ينشدها إنسان متألم في مستهل حياته، يشعر بثقل الخطية إنه يقف في صمت يتأمل بطلان الحياة الزمنية، مشتاقًا أن يثب قافزًا فوق الزمنيات ليتهيأ للخروج من أرض غربته ليحيا مع الله مخلصه ومقدسه.

يعتقد ثيؤدورت وآخرون أن كُتب بمناسبة تمرد أبشالوم، حيث أدرك داود الملك زوال المجد الزمني وتعرض الإنسان لنكبات لم تكن في مخيلته.

ألزم داود نفسه ألا يتذمر ولا يشتكي أمام أعدائه، بل يفضي بكل هواجسه عن زوال الحياة البشرية وبطلانها أمام الله وحده، إنه غريب على الأرض، أشبه بضيف ينتظر الاستقرار في الأمجاد الأبدية. السؤال المتقد في هذا المزمور هو: لماذا يؤدب الله مخلوقًا ضعيفًا وزائلاً كالإنسان؟

تستخدم الكنيسة الإنجليزية الآيات [4-13] في خدمة دفن الموتى[760].

العنوان:

"لإمام المغنين ليدوثون، مزمور لداود"؛ وجاء في النسخة السبعينية: "لداود في الإنتهاء وعلى يديثون وتسبحة".

سبق التعليق في مزامير سابقة عن مثل هذا العنوان عدا كلمة "يدوثون Iduthun أو Jedithun". يرى البعض أنه ليس من دليل كافٍ إنه إيثان المعروف بحكمته (1 مل 4: 31).

أقام داود النبي يدثون وآساف وهيمان قادة لخدمة التسبيح (1 أي 16: 41-42؛ 25: 1-6؛ 2 أي 5: 12؛ 35: 15). وقد خلفه أبناؤه في هذه الخدمة حتى وقت متأخر في أيام نحميا، وهذه بركة خاصة أن يتلمذ القائد أبناءًا له – سواء لهم قرابة جسدية أم لا – يمارسون ذات العمل لحساب ملكوت الله.

سلم النبي داود هذه المرثاة الشخصية ليدوثون ليقوم بتلحينها، كما لحَّن مرثاة أخرى لآساف (مز 77).

يرى القديس أغسطينوس أن اسم "يدثون" يناسب المزمور؛ ففي رأيه يعني "التخطي overleaping"، ويرى بعض الدارسين أنه يعني "يلقي (بحجر...)[761]".

v   من هو هذا الشخص الذي يتخطاهم؟ أو من هم هؤلاء الذين يتخطاهم؟... إذ يوجد أشخاص ملتصقين بالأرض، ينحنون نحو التراب، ويضعون قلوبهم في الأمور الدنيا، ويكمن رجاؤهم في أشياء زائلة، هؤلاء هم الذين يتجاوزهم (أو يتخطاهم المرتل واثبًا فوقهم)...

v   ليت يدوثون هذا يأتي إلينا؛ ليته يثب فوق الذين يجدون بهجتهم في الأمور الدنيا، وليتهلل بكلمة الرب ويبتهج بناموس العلي.

القديس أغسطينوس

الإطار العام:

1. ضعف الإنسان وزواله                      [1-6].

أولاً: الصمت الحكيم                      [1-3].

ثانيًا: زوال الحياة البشرية                [4-6].

2. الصلاة ومحاسبة النفس                      [7-13].

أولاً: صلاة من أجل النجاة               [7-11].

ثانيًا: توسل لأجل استجابة الصلاة       [12-13].

كأن المزمور ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما: اكتشاف الإنسان بطلان الحياة الزمنية خارج الله، وأنه لا ملجأ للإنسان الضعيف في غربته إلا الله نفسه.

1. ضعف الإنسان وزواله:

أولاً: الصمت الحكيم:

"قلت: إني احفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني.

وضعت على فمي حافظًا،

إذ وقف الخاطئ تجاهي" [1].

يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل قال في نفسه أي تحدث مع نفسه حينما صمت

مع الأشرار؛ وكأن الصمت الداخلي في حضرة الأشرار يلزم أن يصحبه حديث سرّي مع النفس في حضرة الله، أو حوار مع الله نفسه.

v   يعلمنا داود النبي أنه ينبغي علينا أن نتجول كثيرًا في قلوبنا في بيت فسيح، وأن نتجاذب الحديث معها كما مع صديق موثوق فيه. لقد تحدث (المرتل) مع نفسه كما توضح الكلمات: "قلت: إني احفظ طريقي" [1]. أما سليمان ابنه فقال: "اشرب مياهًا من جنبك، ومياهًا جارية من بئرك" (أم 5: 15)، أي اتبع مشورتك الشخصية (النابعة عن تفكير داخلي)، لأن: "المشورة في قلب الرجل مياه عميقة وذو الفطنة يسقيها" (أم 20: 5)[762].

القديس أمبروسيوس

يبدأ المرتل مزموره بقوله: "قلت"، متذكرًا عهدًا سبق أن قطعه مع الله ومع نفسه ألا يفتح فاه في حضرة شرير حتى لا يثيره فيخطئ بلسانه. إنه يخشى الكلام خاصة مع الأشرار، مفضلاً أن يحتمل ضيقته في صمت، متيقنًا أن المنطق لا يقبله الشرير الذي دستوره العنف والظلم. إنه لا يخشى الشرير إنما يخشى سقوطه هو باللسان بكونه عضوًا خطيرًا، يجب معاملته كحيوان مفترس، مكممًا فمه. يعرف المرتل أنه من الصعب تجنب هذه الخطية، خاصة في حضرة الأشرار وإثارتهم لأولاد الله. يقول يعقوب الرسول: "إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يُلجم كل الجسد أيضًا... وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذللـه" (يع 3: 3، 8).

لقد وضع داود النبي ألا يتهم أعداءه أما الأشرار، ولا حتى أن يبرئ نفسه، أو ينطق بارآئه التقوية. إنه يصمت أمامهم ليتكلم مع الله القادر أن يكشف له عن زوال الحياة الزمنية، وعن تدخله لتحقيق عدله الإلهي في الوقت المناسب.

كثيرًا ما يتحدث المرتل عن اللسان وخطورته. فإنه إذ انزلق اللسان ينزلق معه الجسد كله وتنحرف قدماه عن الطريق الملوكي. لهذا يقول المرتل: "قلت إني أحفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني". يقول القديس بطرس: "لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر" (1 بط 3: 10).

v   ليس بدون سبب اللسان موضوع في مكان رطب، وإنما لأنه عرضة للانزلاق.

القديس أغسطينوس

v   إن كان لخادم الله غالبًا مثل هذا الحارس للسان، فإنه يُحطم مشورة العدو الشرير للغاية دون تأخير[763].

الأب قيصريوس أسقف آرل

"صَمتُّ واتضعت،

وسكتُّ عن الخير،

فتجدد وجعي،

وحمى قلبي في باطني.

وفي هذيذي تتقد النار" [2-3].

v   استمر داود كأبكم متضع؛ استمر صامتًا؛ فلم ينزعج حين دعوه رجل دماء (2 صم 16: 6 الخ)، إذ كان عالمًا برقته. لم تزعجه الاهانات إذ كان عارفًا بالتمام أعماله الصالحة.

v   مادم الإنسان يتمتع بضمير صالح يلزمه ألا ينزعج بالكلمات الزائفة، ولا أن يتأثر باساءات الغير بل بالحري بشهادة قلبه له[764].

القديس أمبروسيوس

صمت داود النبي كما لو كان عاجزًا عن الكلام تمامًا، أو كما لو كان أبكمًا. توقف حتى عن تقديم كلمات مقدسة لأن الشرير يقف مقابلة ليقاومه؛ إنه لا يود أن يقدم القدسات للكلاب، ولا أن يضع درره للخنازير (مت 7: 6). سكت عن الخير، أي عن الحديث الإيماني، ليس خوفًا من الشرير، لكن لإدراكه أن الكلام لن يزيده إلا عنفًا. هذا ما جدد وجعه وألهب النار في قلبه؛ وكما يقول القديس بولس عن خاصته التي ترفض الإيمان: "إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع، فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 2-3).

توقف المرتل عن الحديث مع العدو المقاوم له، لكنه صار يهَّذ في داخله فاتقد قلبه في صراع بين صمته كي لا يخطئ ولا يزداد الشرير شرًا، وبين حنين داخلي للشهادة لعمل الله الخلاصي وحبه لخلاص كل بشر.

v   لأن هذا الشخص الذي "يتخطى overleaping" يُعاني من صعوبة في مرحلة ما قد بلغها ويريد أن يتخطاها، لهذا يقول: صمت، التزمت بالصمت لأني خشيت أن أرتكب إثمًا، امتنعت عن أن أنطق بخير، وأدنت تصميمي على أن أصمت صمتًا وأسكت عن الخير...

بقدر ما وجدت في الصمت راحة من حزنٍ ما، كان قد تحرك في داخلي من نحو أُولئك الذين قاموا بتفاهة كلماتي ونسبوا إليها خطأ، فتوقف هذا الحزن تمامًا، إلا أنني إذ سكتُّ عن الخير تحرك فيّ وجعي من جديد، فبدأت أحزن بالأكثر لأنني أحجمت عن النطق بما كان يجدر بي قوله؛ حزنت أكثر من الحزن الذي كان لي قبلاً.

القديس أغسطينوس

ألهب صمته نار قلبه أولاً لأنه يحب حتى مقاوميه ويطلب خلاصهم، فصار في صراع بين صمته عن الخير ورغبته في الحديث معهم؛ ومن جانب آخر صمته ولّد فيه بالأكثر حب الله، فانفتح قلبه كما لسانه للحديث مع الله. كلما ازدادت أحزانه شعر بالأكثر بالحاجة إلى الصلاة لله. فمن خلال الألم نكتشف صحبة مسيحنا القائم من الأموات لنا، يتحدث معنا بعد صمت الصليب الرهيب، وصمت القبر، فنقول مع تلميذي عمواس: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو 24: 32).

ليس كل صمت يدخل بنا إلى اللقاء مع القائم من الأموات والتمتع بحديثه الناري، إنما الصمت الحكيم الحامل في الداخل حبًا حتى للمقاومين، وشوقًا صادقًا لخلاصهم، ولو كان ثمنه حياتنا الزمنية كلها. من يشارك السيد المسيح صمته العامل بالحب، صمت الصليب، يختبر قوة قيامته.

ثانيًا: زوال الحياة البشرية:

إذ صمت لسان المرتل عن أن ينطق بكلمة مع الشرير المقاوم له تكلم قلبه مع إلهه، ودخل في حوار حتى مع نفسه، فاكتشف وسط آلامه حقيقة الحياة البشرية، من جهة ضعفها وقصرها... هذه الحقيقة يعرفها كل بشر، لكن شتان بين المعرفة العقلانية البحتة وبين قبوله كلإعلان إلهي فعّال في أعماقه الداخلية، لذا يصرخ المرتل، قائلاً:

"عرفني يارب نهايتي،

وعدد أيامي كم هي،

لكيما أعلم ماذا يعوزني" [4].

إن قدرًا كبيرًا من الحكمة يقوم على تذكر أن حياتنا على الأرض أشبه بالخيال، وأن أعظم الأعمال إن لم تهيئنا للعالم الأفضل الأبدي هي أدنى بكثير من اشتياقات الإنسان التقي. لذا كثيرًا ما يكرر الكتاب المقدس قصر الحياة الزمنية، فيقول الرسول بولس: "الوقت مقصر" (1 كو 7: 29) كحقيقة هامة تمس إيماننا الحيّ وكياننا الأبدي. هنا لا يطلب المرتل داود أن يعلن له الله عن زمان انتقاله بل أن يمنحه تذكرًا دائمًا ومعرفة وتقديرًا حسنًا لقصر أيام غربته ليصير إنسانًا أفضل وأكثر حكمة[765].

يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل هنا يتعجل نهاية حياته الزمنية طالبًا نهاية الوعد الإلهي ليرى وضعه الأبدي، حين يقوم كل واحد في رتبته؛ المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه (1 كو 15: 3) [766].

v   "عرفني يارب نهايتي"؛ فإننا لا نبقى هنا حيث التجارب والضيقات، إذ يلزمنا أن نحتمل اناسًا ينصتون إلينا ويقاوموننا لأتفه الأسباب. "عرفني نهايتي"، تلك التي لم أدركها بعد (الموت)، لا حقبة الحياة (الزمنية) التي هي بالفعل قدامي.

v   النهاية التي يتحدث عنها هي تلك التي ثبّت الرسول عينيه عليها في حقبة حياته، معترفًا بضعفه، مدركًا في نفسه التغيّر في الأمور التي رأها قبلاً (ربما يعني أنه مع كل نمو جديد في الروحيات يدرك النهاية بمنظار أعمق وأكثر جلاءً). يقول: "ليس لأني قد نلت أو صرت كاملاً، لكن أيها الاخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت" (راجع في 3: 12-13).

القديس أغسطينوس

لنعرف حقيقة نهاية حياتنا حتى نتهيأ ببداية متجددة كل يوم، إذ نصلي مع كل صباح: "لنبدأ بدأ حسنًا". ادراكنا سرعة مجيء نهاية زماننا الأرضي، وأيضًا تعرّفنا على النهاية السعيدة التي فيها تتحقق كل وعود الله لنا بالأمجاد يدفعنا إلى البدايات المتجددة الملتهبة بالروح غير المستسلمة باليأس للآلام والضيقات.

v   ربما كانت المعرفة التي يُصلي لأجلها المرتل، قائلاً: "عرفني عدد أيامي كم هي؟" ضرورية جدًا، مع هذا فإنني أود أن تُستعلن لي أيضًا بدايتي[767].

القديس جيروم

"وعدد أيام كم هي" [4]. لم يطلب المرتل أن يعرف ليالي حياته بل أيام حياته، إذ ليس للمؤمن التقي من ليالٍ في حياته بل كلها نهار مضيئ بشمس البر المشرق عليه. مع ما يُعاينه من ضيقات وآلام حتى لتبدو حياته مظلمة لكن شركته مع السيد المسيح نور العالم لا تعطى للظلمة موضعًا في قلبه. "وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة... جميعكم أبناء نهار؛ لسنا من ليلٍ ولا من ظلمة" (1 تس 5: 5).

يرى القديس أغسطينوي أن المؤمن يُريد أن يعرف أيام حياته التي يعيشها في الرب، هذه التي تدخل به إلى اليوم الأبدي، حيث "نثبت فيه وهو فينا"، أما الأيام التي بلا شركة معه فقد ضاعت من عمرنا ولا تُحصى كحياة. الأيام التي نتحد فيها مع الله القائل عن نفسه إنه "أهيه الذي أهيه" (خر 3: 14) أي الكائن الذي هو كائن، هي أيام لها كيانها ومحسوبة في عينيه، ننمو فيها وننضج؛ أما الأيام التي نسقط فيها في الخطية فتحسب باطلة حيث نتحد مع فساد الخطية وبطلانها، تمر علينا وكأنها غير كائنة، بل وتفقدنا الأيام الحقيقة.

v   إنه يسأل بخصوص عدد أيامه كم هي؛ ولا يسأل عن أيام غيره موجودة... إذ هي موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. لا نقدر أن نقول عنها إنها موجودة وهي غير مستمرة؛ ولا أن نقول إنها غير موجود إذ جاءت وعبرت.

القديس أغسطينوس

يكمل المرتل قائلاً: "ليكما أعلم ماذا يعوزني" [4].

v   لأنني بينما أنا أُجاهد هنا، فإن هذا هو ما يعوزني ( الجهاد المستمر لأجل بلوغ النهاية). وطالما أنا في عوزٍ لا أدعو نفسي كاملاً. وما دامت لم أنله بعد فإنني أقول: "ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً، ولكني... أسعى نحو الغرض لأجل جعالة الله العليا" (في 3: 12-14). هب لي أن أنالها كمكافأة لبلوغي نهاية السباق. هناك ثمة موضع للراحة، وفي موضع الراحة هذا ستوجد مدينة، حيث لا تغَرّب ولا نزاع ولا تجارب. عرفني إذًا "عدد أيامي ما هي لكيما أعلم ماذا يعوزني" فإنني مازالت أنا هنا، لئلا أفتخر بما أنا عليه فعلاً، حتى أوجد دائمًا فيه (في المسيح) ولا يكون لي بري الذاتي...

القديس أغسطينوس

مادمت أنا على الأرض، فلأعرف تلك الأيام التي يشرق فيها شمس البر عليّ فتُحسب لي، ولا يكون فيّ ظلمة وليل، بهذه الأيام المقدسة أعلم ما يعوزني، ألا وهو أن أبلغ الكمال وأتمتع بكمال رؤية الله، وشركة أمجاده... هذا هو ما يعوزني أثناء جهادي ونموي في المسيح يسوع شمس البر، الذي يحوّل حياتي إلى نهار بلا ليل.

يرى العلامة أوريجانوس أن أوضاعًا كثيرة عجيبة نشهدها في يوم الرب العظيم؛ بعض الشيوخ يظهرون كأطفال صغار، عدد أيام حياتهم الحقيقية قليلة إذ فقدوا الكثير بحرمانهم العملي من الشركة الحية مع المسيح، بينما نرى أطفالاً يظهرون كمتقدمي الأيام لتمتعهم بالشركة مع الرب. القديس يوحنا المعمدان كان متقدمًا في الأيام وهو بعد جنين في أحشاء أمه أليصابات إذ أشرق الرب عليه فنشهد له مرتكضًا بابتهاج في بطن القديسة أليصابات، بينما شيوخ اليهود فقدوا أيامهم إذ وهم حافظوا النبوات وعارفون بها حكموا على البار وأسلموه للموت!

إذ صرخ المرتل داود إلى الله لكي يخبره ماذا يعوزه، صار يشكو له مرضه، ألا وهو أن أيامه صارت بالية، ودبَّت به الشيخوخة والبلاء.

"هوذا قد جعلت أيامي بالية

وقوامي كلا شيء أمامك" [5].

v   لأن تلك الأيام هي أيام "قِدَم"، أما أنا فأتوق إلى أيام جديدة لا تشيخ أبدًا، لكي أقول: "الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17)، صار جديدًا بالفعل في الرجاء ثم في الواقع.

اعلموا أن آدم قد "شاخ" فينا، وأن المسيح قد "تجدّد" في داخلنا. إنساننا الخارجي يفني والداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). لذلك إذ نُثبّت أفكارنا على الخطية، وعلى الموت، وعلى الزمن الذي يباى سريعًا، وعلى الحزن والتعب والعمل، وعلى مراحل العمر المتعاقبة التي تعبر وتمضي تدريجيًا من الطفولة حتى الشيخوخة، أقول إذ نُثبّت أنظارنا على تملّك الأشياء نرى هنا "الإنسان العتيق"، اليوم الذي يشيخ، الأغنية التي عبر موعدها، العهد القديم. لكن إذ نلتفت نحو الإنسان الداخلي، إلى تلك الأمور التي تتجدد عوض التي تتغير، ونجد "الإنسان الجديد" و "اليوم الجديد" و "الأغنية الجديدة" و "العهد الجديد" وهذه "الجِدَّة" (في الحياة). لنحب مثل هذه (الجِدَّة) فلا نخاف الشيخوخة...

مثل هذا الإنسان الذي يسعى نحو الأشياء الجديدة متخطيًا الأمور التي مضت يقول: "عرّفني يارب نهايتي، وعدد أيامي كم هي، ليكما أعلم ماذا يعوزني" [4]. تأملوا كيف وهو ما يزال يسحب معه آدم يُسرع الخطى نحو المسيح.

القديس أغسطينوس

اكتشاف المرتل بلاء أيامه جعله يسرع نحو تخطي أو الوثب على القِدَم ليتمتع بالحياة الجديدة التي في المسيح يسوع، والدائمة التجديد بروحه القدوس، فلا تصيبها شيخوخة ما حتى يلتقي باليوم الأخير الذي لا ليل فيه، ولا بلاء أو شيخوخة ضعت!

هكذا يكتشف المرتل أن أيامه بالية، وقوامه (جوهره) كلا شيء أمام الله [5]؛ كخيال يتمشى في العالم إلى حين، ليخرج منه ولا يعلم لمن يترك ما قد جمعه أو خزنه.

"بل أن كل الأشياء باطلة،

ولكل إنسان حيّ؛

لأنه بالشبه (كخيال) يسلك الإنسان.

بل باطلاً يضطرب،

يُخزن ولا يدري لمن يجمعه" [5-6].

v   حقًا ماذا كان يقول قبلاً؟ أنظر فقد تخطيت أو وثبت على كل الأشياء المائتة الزائلة، واحتقرت الأمور الدنيا، ووطأت بقدمي كل الأرضيات، وحلّقت فوق حيث مباهج ناموس الرب. لقد طفت في تدبير الرب واشتقت إلى تلك "النهاية" التي هي ذاتها بلا نهاية. اشتقت إلى تلك الأيام التي لها كيان حقيقي ووجود صادق، إذ توجد أيام أخرى لا وجود حقيقي لها. هأنذا قد صرت واحدًا يثب فعلاً بقوة، مشتاقًا إلى الباقيات... لكن حقًا مادمت أنا في هذا العالم، إذ أحمل جسدًا مائتًا، وطالما أن حياة الإنسان على الأرض هي تعب ومشقة، مادُمت أتأوه وأئن من منغصات هذا الوجود، مادمت أنا هكذا فإنني كلما كنت قائمًا أخشى لئلا أسقط، وطالما خيري وشري في عدم يقين، فإنه إنما "كل إنسان حيّ كله باطل (خيال)".

القديس أغسطينوس

v   أخبروني، هل إذ طارد إنسان الريح أو حاول الامساك به ألا نقول عنه إنه مجنون؟ أيضًا إذ حاول إنسان أن يمسك ظلاً ويهمل الواقع، إن أبغض إنسان زوجته وعانق ظلها، أو نفر من ابنه وأحب خياله، فهل تحتاجون إلى دليل أوضح من هذا على عتهه؟ هكذا أيضًا الذين يسعون في طمع إلى الأمور الحاضرة، لأن جميعها إنما هي خيال؛ نعم، سواء أكان المجد أو القوة أو الحياة الرغدة أو الثورة أو الرفاهية أو أي شيء آخر في هذه الحياة. بحق قال النبي: "إنما كخيال (كشبه) يسلك الإنسان، بل باطلاً يضطرب" وأيضًا يقول: "مالت أيامي كظل" (مز 102: 11). وفي موضوع آخر يدعو الأمور البشرية داخانًا وعشبًا يابسًا[768].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا يتحدث المرتل على الغنى والثروات التي تُجمع ظلمًا والتي يُساء استخدامها.

v   الثروات باطلة إذا ما اُنفقت على الرفاهية، لكنها تكف عن أن تكون باطلة إذا ما وُزعت على المعوزين[769].

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. الصلاة ومحاسبة النفس:

أولاً: صلاة من أجل النجاة:

تعتبر الصلاة الواردة هنا من أروع وأعمق الصلوات. فإنه إذ يكتشف الإنسان بطلان الحياة الزمنية مشتاقًا أن يتخطاها ليبلغ اليوم الذي بلا ليل، والواقع الذي لا خيال فيه، يضع كل رجائه في الرب القادر وحده أن يخلصه من العدو الداخلي أي الخطية أو فساد طبيعته ومن الأعداء الخارجيين كحربه مع إبليس والشر الخارجي بروح التقوى، معلنًا استعداده التام للخضوع لله الخالق والمخلص والطبيب، كي يُعالجه بكل الأدوية مهما بلغت مرارتها.

"والآن من هو انتظاري؟ أليس الرب؟

وقوامي من قبله هو" [7].

الآن يضع يديثون – أي الذي يتخطى الزمن – رجاءه كله في الرب، فلا يحطمه الزمن وبطلان الحياة الأرضية، منتظرًا مجيء الرب الذي وضع فيه كل ثقته وكل حبه، يخدمه لا طمعًا في خيرات زمنية بل في واهب العطايا نفسه.

v   "والآن"، يقول يديثون هذا "من هو انتظاري؟ أليس الرب؟". هو انتظاري، ذاك الذي يهبتني كل شيء فأستخف به. يهبني ذاته، هذا الذي هو فوق الكل، الذي "به كل الأشياء قد خُلقت"، به أنا أيضًا قد خُلقت بين هذه الأشياء، والرب نفسه في انتظاري!

هل رأيتم يديثون هذا أيها الإخوة؟ هل رأيتهم كيف ينتظر الرب؟ إذن لا يدعو أحد نفسه كاملاً هنا، وإلا يكون قد خدع نفسه وغشها وضللها ومادام لا يمكن أن يكون كاملاً ههنا، فماذا ينتفع الإنسان إن خسر اتضاعه؟

القديس أغسطينوس

إذ يضع رجاءه في الرب يثق فيه كغافر الخطايا، معلنًا قبوله التأديب حتى إن سمح الرب له أن يكون موضع تعييرات الأشرار، إذ يقول:

"طهرني من جميع آثامي،

جعلتني عارًا للجاهل" [8].

يعترف المرتل أن خطيته جعلته موضع سخرية الجاهل وتوبيخه، لقد بكى متضرعًا لا أن يرد له كرامته أمام الجهلاء والأشرار إنما أن يُطهره من جميع آثامه حتى يعبر هذه الحياة الزمنية إلى القدوس في حياة طاهرة مقدسة في الرب.

حقًا، لقد شعر المرتل في ضعفه البشري بمرارة التأديبات الإلهية فطلب أن ينزع عنه هذه السياط، لقد ثقلت يدّ الله عليه حتى شعر كأنه قد فنى. لقد صمت ولم يتكلم مع الجاهل المقاوم له، ليتحدث مع خالقه:

"صممتُّ ولم أفتح فمي لأنك أنت صنعتني.

انزع عني سياطك،

لأني قد فنيت من قوة يدك".

v   لأحتمي من الجاهل صرت أبكمًا لم أفتح فمي، لأنه لمن أُخبر عما يجري في داخلي؟ فإنني أنصتُّ إلى قول الله الرب لي في داخلي، "فإنه يتحدث بالسلام مع شعبه" (مز 85: 8).

القديس أغسطينوس

صمت المرتل مع الجاهل، أما مع الرب فدخل في توسل يطلب الرحمة. وهو يعني بالصت أيضًا أنه ليس لديه ما يدافع به عن نفسه أمام خالقه، فقد صمت عن تبرير ذاته، إنما يفتح فاه مترجيًا رأفاته.

تضرع القديس بولس ثلاث مرات لكي يرفع الله عنه شوكة المرض، فكانت الإجابة: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 9). وإذ اختبر الرسول نعمة الله وبركة الضيقات قال: "فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحلّ عليّ قوة المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 9-10).

"أدبت الإنسان بالتوبيخات من أجل الإثم،

وأذبلت مثل العنكبوت نفسه.

بل باطلاً اضطرب كل إنسان" [11].

ليُجددني ذاك الذي خلقني. ليُعد خلقتي من جديد... هذه هي أول هبة لنعمة الله، أن يجعلنا نعترف بتقصيرنا، حتى أننا مهماصنعنا من خير، ومهما توفرت لنا من قدرة، إنما يتحقق ذلك فينا: "من افتخر فليفتخر بالرب" (1 كو 1: 31)، و "حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10).

القديس أغسطينوس

خلال تأديبات الله بسبب الإثم يدرك المؤمن أن حياته أشبه بنسيج العنكبوت، وأنه باطلاً يضطرب لأجل الزمنيات.

v   حقًا "باطلاً اضطرب كل حيّ". لأن القلق من أجل هذه الأمور هو بحق أمور مزعج ومتعب للغاية. لكن ليس الأمر هكذا في المواضع السماوية. هنا إنسان يتعب وآخر يتمتع، أما هناك فينال كل واحد حصاد تعبه، ينال مكافأةً مضاعفة[770].

القديس يوحنا الذهبي الفم

ثانيًا: توسل لأجل استجابة الصلاة:

يختتم المرتل المزمور بتوسل إلى الله كي يستجيب صلاته السابقة، مقدمًا هذا التوسل مشفوعًا بدموعه التي لا تجف، وباعترافه بتغربه واشتياقه إلى اجتياز العالم كأرض غربة متمتعًا بغفران خطاياه.

"استمع صلاتي وتضرعي،

وانصت إلى دموعي ولا تسكت عني" [12].

بدأ الصلاة، وإذ تشتدت الضيقة امتلأ قلبه تنهدات فصرخات، وأخيرًا صارت دموعه تتحدث بلغة يعجز اللسان أن ينطق بها.

"لأني أنا غريب على الأرض

ومجتاز مثل جميع آبائي

اغفر لي لكيما أستريح قبل أن أذهب فلا أُوجد أيضًا" [13].

v   كان القديسون غرباء ونزلاء في هذا العالم... عاش إبراهيم في كل أموره ينتمي للمدينة الباقية. لقد أظهر كرمًا ومحبة أخوية ورحمة وطول أناة، وزهدًا في الثروة وفي المجد الزمني وفي كل شيء.

v   لنكن غرباء كي لا يخجل الله من أن يُدعى إلهنا، لأنه من الخزي لإلهنا أن يُدعى إله الأشرار! إنه يخجل من الأشرار، ويتمجد إذا ما دُعي إله الأبرار والرحماء والنامين في الفضيلة[771].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   أنظروا كيف صار داود موضع عجب، إذ تطلع إلى أسلافه الذين عُرفوا بالفضيلة: "لأني أنا غريب على الأرض ومجتاز مثل جميع آبائي"[772].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   هكذا أسرع داود إلى الرحيل من هذا الموضع كنزيل، قائلاً: "أنا هارب أمامك على الأرض، ومجتاز مثل جميع آبائي". كنزيل كان مسرعًا إلى وطن كل القديسين؛ أما بالنسبة للدنس الذي يلحق به في سكناه هنا فيطلب عنه المغفرة قبل رحيله من هذه الحياة فمن لا ينال غفران خطاياه هنا لا ينال الحياة الأبدية، لأن الحياة الأبدية هي غفران للخطايا، لذلك يقول: "أغفر لي لكيما أستريح قبل أن أذهب فلا أوجد أيضًا"[773].

القديس أمبروسيوس

v   حررني من خطاياي قبل أن أرحل حتى لا أذهب بآثامي. إنه يشير إلى مجال البركة، إلى المدينة السعيدة، إلى البيت السعيد، حيث القديسون شركاء الحياة الأبدية، شركاء الحق الذي لا يتغير.

القديس أغسطينوس

 

 

 


 

دربني كيف أتخطى الأحداث

v   علمني يارب كيف أصمت أمام الجهال،

فأتحدث معك في أعماقي!

v   أنت بحبك سيّجت حولي بالأشواك،

وأقمت حائطًا في طريقي (هو 2: 6)،

أغلقت الأبواب أمامي بالأشرار الذين يتهموني ظلمًا.

لأرجع إليك وأعترف لك بآثامي!

لأنسى الجهال الأشرار وأذكُر أنك بهم تؤدبني.

v   دربني كيف أتخطى الأحداث والزمن،

أتخطى مضايقات الأشرار واتهاماتهم الباطلة،

فلا أحاورهم ولا أبرئ نفسي أمامهم!

أتخطى طبيعة الفساد فأحيا الحياة الجديدة المقامة،

أغلب كل شهوة وأثب حتى على احتياجات الجسد.

أتخطى الزمن والزمنيات فأُعاين السماء وربها!

روحك القدوس هو وحده يحملني كما بجناحي حمامة،

يرفعني فأطير ولا أتمرغ في حماة الخطية!

نعمتك هي سندي!

<<

 


 

المزمور الأربعون

جئت لأتمم مشيئتك

في المزامير 37-38 يتحدث المرتل عن انتظار الرب، فقد عانى داود النبي الكثير من شاول وأبشالوم وخيانة أخيتوفل الخ... والآن إذ تمتع بالخلاص بعد معاناة قاسية، خاصة على يدّيْ ابنه المتمرد أبشالوم، تحولت مراثيه إلى تسابيح شكر يُقدمها بوحي الروح القدس.

تعتبر تسبحة الشكر هذه مزمورًا مسيَّانيًا حيث تركز على شخص السيد المسيح وعمله. وتشهد الرسالة إلى العبرانيين (10: 5-10) أن السيد المسيح هو المتحدث هنا حيث يقدم خبراته؛ يقدم نفسه بكونه ذاك الذي جاء ليتمم إرادة الآب، والذي نزل إلى الجحيم، إلى عمق طين الحمأة، يحمل خطايا شعبه. كما يقدم الشكر بقيامته، مقدمًا التسبحة الجديدة التي يترنم بها شعبه الذي خلصه ونجاه.

يعتبر هذا المزمور من أروع المزامير، يجب ربطه بمزمور الآلام المجيدة (مز 22) الذي يرتبط بتسبحة القيامة.

كتب داود النبي هذا المزمور بعد عصيان ابنه أبشالوم الذي أخفى بشاعة تمرده بمظاهر التدين وتقديم الذبائح (2 صم  7: 12)؛ ثم اُستخدم بعد ذلك تدريجيًا في الخدمة الليتورجية (العبادة العامة).

الإطار العام:

1. تسبحة نصرة المسيح              [1-5].

2. العبد المطيع وذبيحته               [6-13].

3. أعداؤه وقديسوه          [14-17].

1. تسبحة نصرة المسيح:

يقدم لنا هذا المزمور خبرة داود النبي في تقديم تسبيحًا جديدًا لله الذي خلصه من جب الشقاء أو من الهاوية. والجدة هنا لا في الكلمات، وإنما في القلب الذي أدرك أن الموت كاد أن يأسره لولا تدخل الله مخلصه. وإننا لا نعرف ماذا يعني داود النبي بجب الشقاء وطين الحمأة، هل كان يُعاني من مرض خطير كاد أن يفتك بحياته أم من خطية معينة حطمت أعماقه أم يُعني ذلك تمرد ابنه وخيانة بعض رجاله؟ بنفس الطريقة لا نعرف شيئًا عن "شوكة الجسد" التي أصبت الرسول بولس. إنما ما نعرفه أن آلامًا مُرّة تسبق بهجة الخلاص والترنم بالتسبحة الجديدة.

"انتظارًا انتظرت الرب،

فأصغي إليّ، وسمع تضرعي" [1-2].

تكرار الكلمة "انتظارًا انتظرت" يكشف عن الجدية والمثابرة، وقد استخدم الرب ذات الأسلوب حينما أعلن "شهوةً اشتهيتُ أن آكل الفصح" (لو 22: 15).

لعل المرتل أراد أن يقول إنه سقط تحت عبء آلام وضيقات لا قدرة لإنسان أن يخلصه منها، ولا رغبة له في تدخل ذراع بشري لخلاصه، لبث ينتظر مترقبًا بإيمان يدّ الله التي تجرح وتعصب (أي 5: 18)، تسحق وتشفي. إنه ينتظر مهما طال الأمد، فهو يثق في حكمة الله المخلص وقدرته، يعرف كيف ومتى يستجيب للصلاة. الله يُخلصه، وفي خلاصه يتمتع المتألم بما هو أعظم من الخلاص من الألم ألا وهو اصغاء الله إليه، فإن اهتمام الله به، وحلوله في حياته، لهو أعظم هبة ينالها المؤمن، إذ يتمتع لا بالخلاص فحسب بل وبالمخلص، ولا بالعطايا فحسب بل بواهب العطايا.

يقدم لنا السيد المسيح نفسه مثلاً في انتظاره للآب، مسلّمًا إرادته بين يدي الآب، سواء في بستان جثسيماني أو أثناء المحاكمة وهو الإله المعبود يُصلي كما نصلي نحن، ويصرخ كما نصرخ، ويطلب أن تتم إرادة الآب فيه، مع أنها واحدة مع إرادته... ينتظر كمن يحتاج إلى عون، وهو حامل الكل بقدرته، وذلك كنائب عنا يعمل لحسابنا وباسمنا وكمثال لنا، إذ يقول الرسول: "الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسُمع له من أجل تقواه" (عب 5: 7). إنه يعلمنا كيف نغلب وسط آلامنا وفي صراعنا الروحي لننال الانتصارات المجيدة.

انتظر الآب انتظارًا، ففي محاكمته لم يحمل نظرة غضب، ولا نطق بكلمة تهديد أو تذمر، وإنما كحمل صامت احتمل منتظرًا اعلان مجد قيامته!

v   انتظرت بصبر الوعد الذي لا يقدمه مائت يمكن أن يخدع ويُخدع. انتظرت التعزية لا من مائت يمكن أن تحطمه أحزانه قبلما يهبني عزاءً. لننح معًا ولنبكِ معًا، ولننتظر معًا بصبر، ولنصلِّ معًا أيضًا.

هوذا، ليتنا نفكر هكذا: إنه وعدنا بكل شيء، لكنه لم يهبنا بعد أن نمتلك شيئًا ما. إنه مقدم الوعود المسئول، الواهب الأمين، إنما يلزمكم أن تُظهروا الجدية فيما وُعدتم به، وإن كنتم ضعفاء، أو كنتم أحد الصغار أطلبوا وعد رحمته.

القديس أغسطينوس

"وأصعدني من جب الشقاء،

ومن الطين الحمأة" [2].

في وسط الآلام شعر المرتل أنه كما في جب الشقاء ملطخ بالوحل، كلما حاول رفع قدميه يغوص بالأكثر، وليس من منقذ أو معين. إنه يذكرنا بإرميا النبي (إر 38) الذي طُرح في الجب بسبب شهادته للحق.

الجب عميق للغاية لا تطوله يد مخلوق لتبلغ قراره فتجتذبنا، إنما الحاجة إلى ذراع الله، كلمة الرب المتجسد، الذي وحده يقدر أن ينزل إلينا ويخلصنا من هوة الخطية وسلطان الموت ومتاريس الجحيم بقوة صليبه. كلما ازداد عمق الجب، تتجلى بالحري قوة عمل الخلاص، وكثرة فرحنا وتسبيحنا بالنصرة.

v   ما هذا الجب الرهيب؟! إنه عمق الإثم، من شهوات الجسد، لأن هذا هو ما تعنيه عبارة: "طين الحمأة". فمن أين إذن أخرجك؟ من عمق معين، الذي منه صرخت في مزمور آخر، قائلاً: "من الأعماق صرخت إليك يارب". والذين يصرخون بالفعل "من الأعماق" لا يكونوا بعد في أدنى عمق، لأن عمل الصراخ ذاته يرفعهم إلى العلو.

حينما يبلغ الخاطئ عمق الشر يُحتقر، فيغوص إلى أعماق جديدة، لأنه لا يكتفي بكونه خاطئًا إنما عوض الاعتراف بخطاياه يقدم تبريرًا عنها.

القديس أغسطينوس

إن كانت الخطية تنحدر بنا إلى أعماق مُرَّة، فإن يدّ الله مخلصنا تنشلنا بقوة لكي يحملنا فيه "صخرة الدهور".

"وأقام على الصخرة رجليَّ،

وسهَل خطوتي" [2].

الصخرة هي ربنا يسوع (1 كو 10: 4) الذي نزل إلى الجحيم، لا عن خطية ارتكبها وإنما لأنه "وُضع عليه إثم جميعنا"، وحملنا فيه من الجحيم بكونه الصخرة والطريق، نتكئ عليه ونختفي فيه فلا نغوص في طين الحمأة، بل تتشدد أرجلنا، ولا تزلّ خطواتنا. في نور الإيمان الحيّ نسلُك ونجاهد في خطوات ثابتة.

v   "وأقام على الصخرة رجليّ، وسهّل خطواتي". والآن هذه الصخرة كانت المسيح، ونحن "على الصخرة"، و "خطواتنا" بتدبير ونظام؛ لكي يبقى من الضروري الاستمرار في السير لكي ننمو أكثر فأكثر.

v   صار له الإيمان (الصخرة) الذي لم يكن له من قبل، وله الرجاء الذي لم يكن متوفرًا قبلاً. الآن يسلك في المسيح، هذا الذي كان قبلاً قد اعتاد أن يضل في الشيطان. على هذا الأساس يقول: "وأقام على الصخرة رجليّ وسهّل خطواتي"...

القديس أغسطينوس

v   الأمور الزمنية تشبه الماء، كالسيل الذي ينجرف سريعًا؛ يقول: "المياه قد دخلت حتى إلى نفسي" (مز 69: 1)؛ وأما الأمور الروحية فكالصخرة، إذ يقول: "وأقام على الصخرة رجليَّ". فيُبعد طين الحمأة عنا[774]...

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   إننا نفهم هذه الصخرة بكونها الرب، الذي هو النور والحق وعدم الفساد والبر الذي يمهد الطريق الروحي. فالإنسان الذي لا يحيد من جانبي الطريق يحفظ خطواته دائمًا بلا دنس من حمأة الملذات[775].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"وجعل في فمي تسبيحًا وسبحًا لإلهنا.

فيرى كثيرون ويخافون ويتوكلون على الرب" [3].

إذ يتمتع المؤمن بالسيد المسيح الصخرة كأساس إيمانه وحياته الجديدة يختبر الحياة المقامة الغالبة للخطية والموت، ينفتح لسانه ليترنم بالتسبحة الجديدة، تسبحة النصرة، اللائقة بإنساننا الجديد؛ يختبر مراحم الله جديدة في كل يوم.

v   ليتشكل الإنسان الجديد، وليترنم بالتسبحة الجديدة، إذ صار هو نفسه جديدًا. ليحب الأمور الجديدة التي بها يُضَحي هو ذاته جديدًا.

v   من هو "قديم" مثل الله (الأزلي)، الكائن قبل كل الأشياء، الذي بلا نهاية ولا بداية؟ مع هذا يصير لكم "جديدًا" عندما ترجعون إليه، لأنكم إذ تغربتم عنه صرتم قدامي، إذ قيل: "عتقت في سائر أعدائي" (مز 6: 7).

القديس أغسطينوس

إذ يُرفع الإنسان من وطأة الحمأة إلى الصخرة، يمتلئ لسانه تهليلاً فيجتذب الكثيرين إلى الحياة الإيمانية، حياة مخافة الرب والاتكال عليه.

"فيرى كثيرون ويخافون ويتوكلون على الرب" [3].

ينطبق هذا على السيد المسيح الذي نزل إلى الجحيم وقام من الأموات معلنًا تسبحة النصرة والغلبة على الموت، فيجتذب الكثيرين في خوف ورعدة. يدركون سرّ الصليب بمهابة، متكلين على نعمة الله الواهبة الخلاص.

v   أي شخص هو الذي يتكلم في المزمور؟ بإيجاز هو المسيح... إنه يتحدث باسم أعضائه: "وجعل في فمي تسبيحًا جديدًا... فيرى كثيرون ويخافون"... إنهم يتبعون المسيح نفسه... يرون من جانب طريقًا ضيقًا، ومن جانب آخر طريقًا متسعًا رحبًا.

القديس أغسطينوس

"طوبي للرجل الذي اسم الرب رجاؤه،

ولم ينظر إلى الأباطيل ولا إلى الوساوس الكاذبة" [4].

إذ نقبل السيد لمسيح طريقًا لنا نسلك طريق الصليب الضيق، نتمتع بالحياة المطوّبة لأننا لا نضع رجاءنا في الأباطيل الزمنية وخداعات العالم الكاذبة بل في اسم الرب المصلوب.

v   ها هوذا الطريق الذي تُسرون به ! ها هي الجموع تملأ السبيل الرحب... إنه مؤدي إلى الموت... فإن كثيرين يترجون أن ينالوا خيرات من يديْ الله، ويحصلون على كرامات زائلة مؤقتة، وثروات فانية، وفي اختصار يترجون نوال كل شيء من يديْ الله عدا (التمتع بنوال) الله نفسه!

انسوا كل هذه الأشياء، وتذكروا الله نفسه!

اطرحوا كل الأمور الأخرى خلف ظهوركم، وتقدموا إلى ما هو قدام (في 3: 14)...

ليكن الله هو رجاءكم الذي يقودكم حتى النهاية...

ليكن الله رجاءنا، فإن ذاك الذي خلق كل شيء هو أفضل من الكل! الذي خلق كل ما هو جميل أبرع جمالاً من كل جمال! الذي خلق كل ما هو قوي أقوى من الكل! الذي أوجد كل ما هو  عظيم، هو نفسه الأعظم!

إنه سيكون لكم كل شيء تحبون!

تعلموا كيف تحبون الخالق من خلال خليقته التي هي عمله.

لا تسمحوا للمخلوقات أن تحجز مشاعركم، فتفقدون ذاك الذي خلقكم أيضًا!

طوبي للذي يجعل اسم الرب متكله، ولا يثق في الأباطيل والجنون الكاذب.

القديس أغسطينوس

v   إذ اختبر داود الومضات البراقة الخطيرة على الإنسان قال إن الإنسان الذي يضع كل رجائه في اسم الله هو مُطوّب. فإن مثل هذا الإنسان لا يبالي بالأباطيل والغباوات مادام يُجاهد على الدوام لأجل المسيح، متطلعًا باستمرار نحو المسيح بعينيه الداخليتين. لهذا السبب رجع داود إلى الله وقال: "لا أنظر إلى الأباطيل".

السيرك باطل، لأنه بلا نفع!

سباق الخيل باطل لأنه يضاد الاهتمام بالخلاص!

المسرح باطل...

وكما يقول الجامعة: كل شيء باطل! كل ما في العالم!

لهذا يليق بالإنسان الذي يرغب في الخلاص أن يرتفع فوق العالم، ليطلب العالم الذي مع الله؛ ليهرب من هذا العالم، ويرحل من الأرض. فإنه لا يقدر إنسان أن يفهم ما هو موجود دائمًا ما لم يهرب من هنا أولاً. لهذا السبب أيضًا إذ أراد الرب الاقتراب من الآب قال لتلاميذه: "قوموا ننطلق من ها هنا"[776].

القديس أمبروسيوس

لقد وضع المرتل رجاءه في اسم الرب؛ هذا ويُلاحظ أن الكتاب لا يفصل بين الرب واسمه. فعندما سأل منوح الرب عن اسمه، أجابه: "لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟!" (قض 13: 18)، كما قيل في إشعياء: "ويدعى اسمه عجيبًا، إلهًا قديرًا..." (إش 9: 6). فالله نفسه عجيب صانع العجائب (مز 72: 18، 77: 11)، هكذا هو اسمه!

يحدثنا الكتاب المقدس عن فاعلية اسمه[777]:

1. إذ نجتمع باسمه يحل في وسطنا (مت 18: 20).

2. باسمه ننال العماد (أع 2: 38)، فنتمتع بالبنوة لله.

3. "اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنع" (أم 18: 10). وقد أدرك المرتل قوة هذا الاسم في مقاومته لجليات الجبار، إذ يقول له: "أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1 صم 17: 40)، كما يقول: "عوننا باسم الرب الذي صنع السماء والأرض" (مز 124: 8).

4. باسم ربنا يسوع المسيح تُصنع العجائب والمعجزات (أع 4: 29، 30؛ أع 3: 12-16؛ 3: 6).

5. باسم الرب تخرج الشياطين (مر 16: 17).

أخيرًا فإن اسم الرب هو "الحق"، لهذا من يترجاه لا "ينظر إلى الأباطيل ولا إلى الوساوس الكاذبة" [4]، أي لا يترجى أغنياء هذا العالم ولا عظماءه ولا أصحاب السلاطين، فإنهم لا يحملون إلا الأباطيل والوساوس الكاذبة.

إذ يثق المؤمن في اسم الرب في أسماء البشر الرنانة يتمتع بعمل الله العجيب في حياته، فيقول:

"وأنت أيها الرب إلهي جعلت عجائبك كثيرة؛

وفي أفكارك ليس من يشبهك" [5].

حتى إن قدم لنا بنو البشر عونًا عن صدق واخلاص إنما يقدمون ما لديهم من أمور زمنية باطلة، أما الرب فيقدم عجائب كثيرة خلال حكمته الفائقة المعلنة في الصليب: يقدم خلاصًا من الخطية، وتحررًا من إبليس، وتبريرًا، وتقديسًا، وبنوة لله، ومجدًا أبديًا! يقدم سلسلة طويلة من عجائب محبته الفائقة التي تكشف لنا عن أفكارة الإلهية من نحونا.

يقول: "في أفكارك ليس من يشبهك"، لأنه قدم فكر الصليب العجيب الذي عند اليهود عثرة وعند اليونانيين جهالة!

v   هذه هي أعمال الله العجيبة، هذه هي أفكار الله التي ليس ما يشبهها بين أفكار البشر. ليتوقف الفضوليون عن فضولهم وليبحثوا معنا عما هو أسمى وأرفع، يبحثوا عن الأمور الأكثر نفعًا، التي إذا ما أدركوها يتهللون فرحًا!

القديس أغسطينوس

إذ يتحدث المرتل عن عجائب الله في حياة البشرية يضيف: "أخبرت وتكلمت وكثروا أكثر من العدد" [5]. عجائب الله لا يمكن أن تُستقصى من جهة الفكر ومن جهة النطق والعمل، فهي أعظم من أن ندرك كل أسرارها بفكرنا أو نشهد لها بلساننا أو نَحصيها في الواقع العملي.

يعلق القديس أغسطينوس على تعبير "أكثر من العددد"، موضحًا أن عمل الصليب العجيب قد ضم الكثيرين إلى أورشليم العليا ليتمتعوا بالأمجاد الإلهية... هؤلاء معروفون لدى الله ومحصيون، غير أن الكنيسة في العالم تضم معهم كثيرين يحملون شكليات الإيمان، أو الإيمان غير العملي هؤلاء "أكثر من العدد".

v   لاحظوا أعمال الله العجيبة. "أخبرت وتكلمت وكثروا أكثر من العدد" [5]. يوجد "عدد" ويوجد ما هو "أكثر من العدد". هناك عدد ثابت يخص أورشليم السماوية؛ لأن الرب "يعرف خاصته" (2 تي 2: 19)؛ يعرف المسيحيين الذين يخافونه، الذين يؤمنون به، الذين يحفظون الوصايا، السائرين في طريق الله، الحافظين أنفسهم من الآثام، إذا ما سقطوا يعترفون بخطاياهم؛ هؤلاء ينتسبون إلى "العدد"..

ما أعظم عدد المؤمنين المجتمعين معًا؟! وما أكثر الجموع التي تتلاحم سويًا! كثيرون قد آمنوا؛ وكثيرون لهم مظهر الإيمان فقط. الذين تغيّروا بالإيمان حقًا هم قلة، أما الذين لهم مظهر التقوى فهم الأغلبية، لأنهم "كثيرون أكثر من العدد".

القديس أغسطينوس

v   "العدد" يخص القديسين المعينين أن يملكوا مع المسيح. الآن يمكن لأناس أن يدخلوا الكنيسة زيادة عن العدد، إنهم لا يقدرون أن يدخلوا ملكوت السموات[778].

v   لا تتعجب لكثرة عدد المسيحيين الأردياء الذين يملأون الكنيسة، والذين يشتركون في المذبح، والذين في ضجيج يمتدحون الأسقف أو الكاهن عندما يعظ عن السلوك الصالح. قد سبق التنبوء عن أمثال هؤلاء... وتحقق ما جاء في المزمور: "أخبرت وتكلمت وكثروا أكثر من العدد" [5]. يمكنهم أن يعيشوا معنا في الكنيسة الحاضرة، لكنهم لا يقدرون أن يبقوا معنا في مجمع القديسين الذي بعد القيامة[779].

القديس أغسطينوس

2. العبد المطيع وذبيحته:

إذ تحدث المرتل عن عجائب الله الكثيرة والمتجلية في عمل الفداء، انطلق إلى الصليب يتكشف أسراره، رآه الذبيحة الفريدة التي تفوق كل ذبائح العهد القديم كله.

"ذبيحة وقربانًا لم تشأ،

بل جسدًا هيأت لي.

والمحرقات التي من أجل الخطيئة لم تُسر بها.

فحينئذ قلت: ها أنا قادم.

في أرض الكتاب مكتوب:

من أجلي هويت أن أعمل مشيئتك يا الله.

وناموسك في وسط بطني" [6-8].

ماذا رأى المرتل في ذبيحة السيد المسيح المصلوب؟

1. الله لا يحتاج إلى ذبائح وقربان ومحرقات، فقيمتها تكمن في أمر واحد، وهو التهيئة للصليب، بكونها رمزًا له، خارج هذا الرمز لا يُسر الله بها، لذلك يقول "جسدًا هيأت لي"، فبالتجسد دخل طريق الصليب.

v   عُرفت الذبيحة الحقيقية بواسطة المؤمنين من رجال العهد القديم، إذ سبق فأُظهرت في رموز، هؤلاء كانوا يمارسون طقوسًا تحمل رمزًا للحقيقة التي تأتي فيما بعد. كثيرون فهموا معناها لكن عددًا أكبر كانوا يجهلونه...

كانوا يذبحون الحمل، ويأكلون الفطير. "فصحنا أيضًا المسيح قد ذُبح لأجلنا" (1 كو 5: 8). هانذا أتعرف في ذبيحة المسيح على الحمل المذبوح!

القديس أغسطينوس

v   إذ يعرف (الله) أنهم يُهملون البر ويمتنعون عن حب الله، أعلن الله أنه لا يُسر بمحرقات وذبائح بالكلية، كما باستماع صوت الرب. فالطاعة أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش (1 صم 15: 22). ويقول داود أيضًا: "ذبيحة وقربانًا لم تشأ، جعلت أذنيّ كاملتين، والمحرقات التي من أجل الخطية لم تطلب" [6]. بهذا يعلمهم أن الله يتوق إلى الطاعة التي تجعلهم في أمان أفضل من الذبائح والمحرقات التي لا تنفعهم شيئًا من جهة البر. بهذا يتنبأ عن العهد الجديد في نفس الوقت.

بوضوح أكثر يتحدث عن هذه الأمور في المزمور الخمسين (51) "لأنك لو آثرت الذبيحة لكنت أُعطي، ولكنك ما تُسر بالمحرقات؛ فالذبيحة لله روح منسحق. القلب المتخشع والمتواضع ما يرذله الله" (مز 51: 17).

إذ لا يحتاج الله شيئًا يقول: "لست أقبل من بيتك عجولاً ولا من قطعانك جداءً، لأن لي كل وحوش البر، البهائم التي في الجبال والبقر؛ قد غرفت سائر طيور السماء؛ وبهائم الحقل معي. إن جعت فلا أقول لك لأن لي المسكونة وكل ما فيها. هل آكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس؟" (مز 50: 9) الخ. ولئلا يظن أن الله يرفض مثل هذه الأشياء في غضبٍ يضيف واهبًا الإنسان عزاءً: "اذبح لله ذبيحة تسبيح؛ أوفِ للعلي نذورك؛ وادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني" (مز 50: 14-15)[780].

v   الخدمة التي تألفت من ظلال ورموز لم تكن مقبولة، أنها كانت تُقدم بدون ثمر إذ ما قورنت برائحة الروحيات الزكية[781].

القديس إيريناؤس

v   لم تكن تقدمات الدم مرضية، أما رائحة العبادة الروحية الزكية فهي مقبولة للغاية لدى الله. هذه لا يقوى إنسان ما على تقديمها ما لم يكن له أولاً الإيمان بالمسيح، كما يشهد المغبوط بولس إذ كُتب: "بدون إيمان لا يمكن إرضاءه" (عب 11: 6) [782].

القديس كيرلس الكبير

v   قدم ذاته للموت: موت اللعنة ليمحو لعنة الناموس.

v   قدم ذاته لله الآب طواعية، لكي – بذبيحة نفسه التي قدمها بإرادته – تزول اللعنة التي كانت بسبب عدم استمرارية الذبيحة المطلوبة (عجز الذبيحة الحيوانية عن الاستمرار إذ تُستهلك بموتها).

أُشير إلى هذه الذبيحة في المزمور (6)... أعني تقديمها لله الآب الذي رفض ذبائح الناموس، مقدمًا ذبيحة الجسد المقبولة لديه. ويذكر الرسول الطوباوي هذه الذبيحة: "لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه" (عب 7: 27)، ومن ثم افتدى كل الجنس البشري بخلاصه، بذبيحة هذا الجسد المبذول المقدس والكامل[783].

القديس هيلاري أسقف بوتييه

2. جاء في النص العبري: "أذنيّ فتحت" [6]. جاء في (خر 21: 1-6) عن العبد الذي يرغب بإرادته أن يخدم سيده كل أيام حياته ويخدم عائلته، تُثقب أذنه، إشارة إلى قبوله الطاعة الكاملة لهم بروح الحب لا العبودية، وشوقه إلى خدمتهم المستمرة. كان ذلك رمزًا للسيد المسيح الذي جاء ليَخدِم لا ليُخدم، وقد صار لأجلنا عبدًا، أطاع الآب طاعة كاملة وبذل ذاته لأجل الكنيسة التي يحبها. ونحن أيضًا إذ نتحد فيه كأعضاء جسده، نحمل روح البذل والطاعة، فتكون لنا الآذان المختونة المثقوبة عوض العصيان (إر 6: 10).

يُبرز السيد المسيح كمال طاعته بقوله: "ها أنا قادم" [7]، معلنًا خضوعه الاختياري، فقد جاء قادمًا إلى العالم ليحقق ما سبق أن رُمز إليه بالذبائح الحيوانية، قادم ليتمم خلاص الإنسان. بقوله: "في أرض (درج) الكتاب مكتوب من أجلي هويت أن أعمل مشيئتك يا الله، وناموسك في وسط بطني" [7-8] يعلن أن ما يتممه هو تحقيقًا للخطة الأزلية الإلهية، والتي أُعلنت في كتاب العهد القديم. جاء في طاعة للآب ببهجة ومسرة.

v   أنظروا ها هو يتمم مشيئة الآب بنفسه... مكتوب في بداية سفر المزامير: "في ناموس الرب إرادته" (مز 1: 2).

القديس أغسطينوس

3. ما تممه إنما بمسرة، إذ يقول: "هويت أن أعمل مشيئتك يا الله" [8]. وكما قال لتلاميذه: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني" (يو 4: 34)، وفي البستان أعلن "لتكن إرادتك لا إرادتي"، ويقول الرسول بولس: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي".

سرّ سروره أنه كلمة الله الذي يعلن إرادة الآب، فإرادته وإرادة الآب واحدة. ولعل قوله: "ناموسك في وسط بطني" يعني أنه كلمة الله المتجسد، حيث لا ينفصل الكلمة عن الناسوت فقط!

نحن أيضًا إذ نقبل الكلمة المتجسدة في حياتنا تصير الوصية (ناموس الله) فينا، نعيشها ونسر بها، متممين إرادة الله باختيارنا بمسرة حقيقية.

4. بشارة المصلوب الذبيح:

"بشرت بعدلك (ببرك)" [9].

بالصليب كرز السيد المسيح، مبشرًا كل بني البشر بحب الله الفائق، لا بألفاظ بشرية مجردة، وإنما بدمه المبذول. لقد سبق فبشر الأنبياء بمجيء المسيا المخلص، والآن جاء ليحدثنا بكلمة البشارة بنفسه. وكما يقول الرسول: "بعدما كلم الله الآباء بالأنبياء قديمًا كلمنا بأنواع وطرق كثيرة في هذه الأيام الأخيرة بابنه" (عب 1: 1-2).

بشرنا بصليبه معلنًا تحقيق العدل الإلهي، أو وفاء العدل لحسابنا، وتقديمه بره برًا لنا.

بالصليب صار السيد المسيح الذبيح المبشر الوحيد، يتكلم خلال كنيسته وخدامه ليجتذب بروحه القدوس كل نفس إلى بشارة الإنجيل المفرحة.

جاءت الكلمة العبرية "باسار basar" لتعني "أخبارًا مفرحة"، تحمل ذات الأساس لكلمة "إنجيل".

5. بكرازاته العملية اجتذب أعضاء كنيسته من الأمم كجماعة عظيمة تتمتع بكلمات حبه التي لا يمنعها عن أحد، إذ يقول:

"في جماعة عظيمة هوذا لا أمنع شفتّي" [9].

ما هما شفتا السيد المسيح اللتان لا يمنعهما عن النطق إلا عدله ورحمته، فبكلمة الصليب التي نطق بها عمليًا التقي العدل الإلهي مع الرحمة في تناغم عجيب!

لم يمنع شفتيه، إذ تكلم علانية بصلبه جهارًا خارج المحلة، وشهد ذلك القادمون من كل بقاع العالم يحتفلون بعيد الفصح، كما شاهده الجند الرومان... لا يستطيع أحد أن يعتذر بجهله للصليب!

v   لقد بشّر وسط الجماعة العظيمة... الآن يُخاطب أعضاءه. إنه يحثهم أن يعملوا ما قد عمله هو فعلاً. لقد بشَّر، فعلينا نحن أيضًا أن نبشر. تألم، فلنتألم نحن أيضًا معه. لقد تمجد فسنتمجد نحن أيضًا معه (رو 8: 17)...

لقد بشَّر وسط الأمم كلها، لماذا؟ لأنه هو نسل إبراهيم الذي فيه تتبارك جميع الأمم (تك 22: 8). ولماذا وسط الأمم كلها؟ لأن "منطقهم خرج إلى أقاصي المسكونة" (مز 19: 4).

"هوذا لا أمنع شفتي. أنت يارب علمت (برّي)" [9].

شفتاي تنطقان، وأنا لا أمنعهما عن الكلام. حقًا إن شفتي مسموعتان في آذان البشر، لكنك أنت الذي تعلم قلبي... فالبشارة لا تقصر على الشفتين وحدهما، حتى لا يُقال عنا: "مهما قالوا لكم فافعلوه، لكن بحسب أعمالهم لا تفعلوا" (مت 23: 3). ولئلا يُقال عن الشعب: "يسبحون الله بشفاههم لا بقلبهم". "هذا الشعب يكرمني بشفتيه لكن قلبه عني ببعيد" (إش 29: 31).

أتقدمون اعترافًا مسموعًا بشفاهكم؟ اقتربوا إليه بقلوبكم أيضًا.

"لم أكتم برّك (عدلك) في قلبي" [10].

ماذا يعني "برِّي"؟ إيماني، لأن "البار بالإيمان يحيا" (عب 2: 4؛ رو 1: 17). (ففي أثناء الاضطهاد) لا يقول المسيحي في قلبه: "إنني بالحق أؤمن بالمسيح، لكنني لا أعلن ما أؤمن به لمضطهدي الثائر ضدي الذي يُهددني. الله يعلم أنني أؤمن بالحق في داخلي، في أعماق قلبي؛ وهو يعرف إنني لا أنكره".

"بخلاصك وحقك نطقت" [10]. لقد أعلنت أمام الكل عن مسيحك!

كيف يكون المسيح هو "حقك"؟ إنه يقول: "أنا هو الحق" (يو 14: 9).

كيف يكون المسيح "خلاصك؟ عندما تعرَّف سمعان على الطفل بين يديْ أمه في الهيكل قال: "لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 2: 30).

"ورحمتك وحقك لم أخفهما عن محفل عظيم" [10].

ليتنا لا نحجز رحمة الرب وحقه.

أتريدون أن تسمعوا ما هي رحمة الرب؟ اتركوا خطاياكم، فيغفرها لكم.

أتريدون أن تسمعوا ما هو حق الرب؟ تمسكوا بالبر؛ فينال بِرَّك إكليلاً. الآن تعلن الرحمة لكم، وأما الحق فسيُعلن لكم فيما بعد؛ فإن الله ليس رحيمًا دون أن يكون عادلاً، ولا هو بعادل دون أن يكون رحيمًا...

"وأنت أيها الرب إلهي لا تُعبد رأفاتك عني" [11]. إنه يلتفت إلى الأعضاء المجروحة... أنظر خلال وحدة الكنيسة الجامعة إلى أعضائك المتألمة، تطلع إلى أولئك المثقلين بخطايا الإهمال، ولا تُبعد رأفاتك عنهم.

القديس أغسطينوس

هكذا إذ يتحدث عن كلمة الله المتجسد الذي جاء يعلن الخلاص بصليبه، جاذبًا الأمم إلى التمتع ببركات الفداء العجيبة، أراد أن يحمل المؤمنون سماته، خاصة الحب العملي. هكذا يليق بنا كأعضاء جسده أن نبشر به ومعه بالفم كما بالقلب. نشهد بلساننا كما بسلوكنا ونياتنا الداخلية. لا نخاف من الشهادة للسيد المسيح المخلص علانية بشفاهنا، ولا تقف الشهادة عند الفم بل يلزم أن يروه متجليًا في حياتنا.

لقد جاء مسيحنا ليعلن الرحمة الإلهية والحق الإلهي. بالصليب تمتعنا بكمال حب الله ومراحمه، كما تحقق عدله في كماله. هنا بالتوبة ننعم بالرأفات في استحقاقات الدم الذي وفَّيّ الحق أو العدل، وفي يوم مجيئه يتحقق العدل الإلهي حيث ينال كل جزاءه حسب عمله، فننعم بشركة أمجاده إذ نستتر فيه، ونختفي في صليبه واهب الحياة.

ليت رحمته وحقه لا يفارقان عيوننا الداخلية، فيشعلا فينا نيران حبه داخلنا، ويسمرا مخافته فينا. نحبه كأولاد لهم ملء الدالة دون استخفاف بأبوَّته، ونخشاه كديّان فاحص القلوب والكلى دون تجاهل لعمل نعمته فينا.

كما شهد مسيحنا للآب عن رحمته وحقه، لنشاركه ذات السمتين، فنحمل روح الحب الحقيقي بلا تهاون، وروح الحق بلا عنف. حبنا يحمل جدية، وحزمنا يحمل ترفقًا!

إن كان مسيحنا قدّم نفسه ذبيحة طاعة للآب وحب لبني البشر، حاملاً شرورنا وآثامنا في جسده ليحقق الرحمة والعدل، فإنه من جانبنا ينبغي أن نعترف بخطايانا التي بلا عدد، وقد أحاطت بنا من كل جانب، وأفقدتنا بصيرتنا الداخلية، حتى قلبنا قد تركنا، أي صرنا كالأموات. بمعنى آخر كلما أدركنا بشاعة الخطية ومرارتها نختبر بالإيمان عذوبة الصليب وإمكانيته.

"لأن الشرور التي لا عدد لها قد أحاطت بي.

أدركتني آثام، ولم أستطيع أن أبصر.

كثرت أكثر من شعر رأسي.

وقلبي تركني" [12].

أدرك المرتل أن الشرور تكتنف حياته، أينما اتجه تُحيط به، وبسبها فقد قلبه، أي بصيرته الداخلية، فلم يعد قادرًا على التمتع برؤية الله وشركة السمائين وخبرة الحياة السماوية.

v   "لأن الشرور التي لا عدد لها قد أحاطت بي". من يقدر أن يُحصي خطاياه، وخطايا الآخرين؟ إنه حمل ثقيل يئن منه القائل: "طهرني يارب من خفياتي، ومن الغرباء (خطايا الآخرين) اشفق على عبدك" (مز 19: 12)... فإن خطايا الآخرين قد أُضيفت إلى الحمل الذي ينوء منه كاهله.

"أدركتني آثام، ولم أستطع أن أُبصر". ما الذي يحرمني الرؤية، أليس الإثم؟ بسبب الدخان والتراب أو أي شيء آخر يُلقى تُحرم عيناك من معاينة ذاك النور، فلا تقوى على رفع قلبك الجريح إلى الله. يلزم أن يبرأ قلبك أولاً حتى تقدر أن ترى!... السبب هو أن العين انطمست بآثام كثيرة فلم تعد تبصر!

القديس أغسطينوس

3. أعداؤه وقديسوه:

يحوي هذا القسم مقابلة بين مقاومي أولاد الله وبين المشتاقين إلى الخلاص، أي بين أعداء الله وقديسيه.

لقد رأى المرتل أن خطاياه وخطايا الآخرين (الغرباء) قد اكتنفته، حتى فقد بصيرته الداخلية، وفارقه قلبه، لذا صار يصرخ إلى الله مخلصه، قائلاً:

"يارب ارضَ بخلاصي.

يارب التفت إلى معونتي" [13].

هنا أول إشارة إلى أن الضيقة كانت لا تزال قائمة، لذا يصرخ المرتل في إيمان ورجاء. ويعلّق القديس أغسطينوس على هذه الصرخة قائلاً: [كأنه يقول: "إن أردتَ (ارتضيت) تقدر أن تطهرني" (مت 8: 2). يارب ارتضِ بخلاصي. يارب التفت إلى معونتي". تطلع إلى الأعضاء التائبة المتألمة، هذه التي تخضع لمشرط الجراح، وهي لا تزال في رجاء].

إنه يسأل من أجل الذين يريدون تدمير خلاصه، كي يبدد الله مشورتهم الشريرة ومقاصدهم الآثمة. "ليخزَ ويُعير طالبوا نفسي جميعًا ليبيدوها" [12]. إنه لا يئن من أجل الذين يريدون اغتصاب مملكته أو حتى كرسي ملكه، ولا الذين يشوّهون سمعته، أو يريدون قتله، إنما يئن من أجل الذين يريدون ابادة نفسه، أي تحطيم خلاصه.

يمكن أيضًا القول بإن هذه هي كلمات السيد المسيح المتألم حيث طلب في البستان إن أمكن أن تعبر عنه الكأس لا يمنع الألم وإنما بعبوره. أما بالنسبة لصالبيه، الذين استخدمهم عدو الخير كأداته الخاصة، حاسبًا أنه قادر أن يُحطم السيد المسيح، فقد قيل عنهم: "يرتد إلى خلف ويفتضح الذين يريدون لي السوء" [14]. هذا ما قد حدث بالفعل حين جاءوا ليقبضوا على السيد المسيح في البستان، إذ رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض.

كان صالبوه يسخرون به ويستهزئون، ولم يدركوا أنه بالصليب قد جرَّد الريايات والسلاطين وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم (كو 2: 15). بهذا تتحقق النبوة: "ليُقبل خزيهم بغتة القائلون لي: نعمًا نعمًا" [15].

ترتد السخرية على الأشرار الذين يسخرون بخلاص الرب، أما الذين يطلبون الرب وخلاصه فيمتلئون فرحًا وبهجة، يمجدون الرب المهتم بالمساكين والضعفاء...

"ليتهلل ويُسر بك جميع الذين يلتمسونك يارب.

وليقل في كل حين الذين يحبون خلاصك.

فليعظم الرب في كل حين.

أما أنا فمسكين وضعيف والرب يهتم بي.

معيني وناصري أنت هو.

يا إلهي لا تبطئ" [16-17].

يعتبر المرتل أنه قد بلغ حالة يُرثى لها. إنه في ضيقه أدرك أنه مسكين وضعيف، لكنه وجد في الله معين المساكين والضعفاء. وقد اختبر المرتل في ضيقته هنا البركات التالية:

1. التمتع بالتهليل الداخلي أو السرور الحقيقي، لا يتمتع بهذا وحده بل ويشترك معه الذين يلتمسون الرب، أي الذين اشتركوا معه بالصلاة لكي ينقذه الرب. فإن كان الأشرار قد سخروا به قائلين: "نعمًا نعمًا"، إذ ينطقون بروح الشماته، قائلين: "حسنًا حسنًا" إنه يستحق ما حلَّ به، إذ بالأتقياء يُصلّون معه وعنه هؤلاء يرون الله قد تمجد فيه فيفرحون. الأولون يطلبون نفس المرتل ليبيدوها [14]، أما هؤلاء فيطلبون الله لخلاص نفس المرتل [16].

2. قدمت الضيقة فرصة ذهبية ليتعلم المرتل وأصدقاؤه الأتقياء الالتجاء إلى الله وحده، يلتمسونه بروح الانسحاق.

3. التهاب القلب بحب الخلاص.

4. انفتاح لسانه وألسنة محبيه بالتسبيح يعظمون الرب بلا انقطاع.

v   "وليقل في كل حين الذين يحبون خلاصك: فليعظم الرب في كل حين"... إذ يرونني "ممجدًا فيك"؛ فإن من يفتخر فليفتخر بالرب (1 كو 1: 31).

v   حتى إن صار الخاطئ بارًا، أعطوا المجد لذاك الذي يبرر الفاجر (رو 4: 5). إن كان ثمة إنسان خاطئ فليعطِ مجدًا لذاك الذي يدعو إلى المغفرة. وإن كان ثمة إنسان يسلك في طريق البر فليسبح ويمجد ذاك الذي دعاه لنوال الإكليل. ليتعظم الرب في كل حين من الذين يحبون خلاصه.

القديس أغسطينوس

5. الشعور بالمسكنة والاحتياج إلى المخلص. "أما أنا فمسكين وضعيف والرب يهتم بي" [17].

v   كل ما عندك هو ملك للمسيح، وأيضًا كل ما ستملكه مستقبلاً هو ملك له، فماذا أنت في ذاتك؟ أنا مسكين وضعيف. أنا لست غنيًا، لأنني لست مغرورًا.

القديس أغسطينوس

v   من يصير في شدة الاحتياج، في عوز من هذا النوع، يتحقق فيه قول النبي: "المسكين والبائس يمجد اسم الرب".

حقًا أية مسكنة أعظم وأقدس من أن يعرف الإنسان نفسه أنه بلا قوة ولا قدرة للدفاع عن نفسه، طالبًا العون اليومي من صلاح غيره، وإذ يعلم أن كل لحظة من لحظات حياته إنما تقوم على العناية الإلهية، يعترف دومًا باحتياجه إلى الرب، ويصرخ إليه كل يوم: "أما أنا فمسكين وضعيف والرب يهتم بي" [17][784].

الأب اسحق

هكذا شتان ما بين أشرار يطلبون هلاك النفوس فيسقطون في الخزي، وقديسين يسندون كل نفس لتخلص فيمتلئون بالبركات الإلهية، ويتلمسون تجلي الله في وسط شعبه، فيصرخ كل واحد منهم بروح الرجاء: "يا إلهي لا تبطئ".

لتكن إرادتك لا إرادتي

v   ما أعذبك أيها المخلص، وما أعذب أعمالك معي.

انتشلتني من هاوية الخطية،

وحملتني فيك يا صخر الدهور،

حولت حزني فرحًا، ومراثيّ تسبيحًا جديدًا!

v   أنت الأزلي قديم الأيام، أتيت إليّ في ملء الزمان،

وهبتني الإنسان الجديد على صورتك،

وأعطيتني الحياة الجديدة فيك،

وفتحت فمي لأترنم بالتسبحة الجديدة.

وتبقى مراحمك جديدة كل صباح حتى أعبر إليك!

v   عجيبة هي أعمالك، وبلا حصر!

بالصليب قدمت لي كل شبع وغنى وجمال روحي.

حوّلت قلبي إلى سمواتك.

واستخدمتني شهادة لأعمالك محبتك.

v   ما أعجب أعمالك أيها الكلمة الإلهي!

في طاعةٍ سلمت إرادتك بين يديْ الآب!

احملني فيك لأُحسب مطيعًا.

قدمت جسدك ذبيحة طاعة وحب،

أقبل جسدي ذبيحة حية مقبولة!

v   صليبك اجتذب الكثيرين بلغة الحب والطاعة!

علمني كيف أشاركك صليبك لأنعم بقوة قيامتك!

<<

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المزمور الحادي والأربعون

الإنسان المطوَّب

بين المزمورين الأول والحادي والأربعين:

القسم الأول من سفر المزامير عند اليهود يضم المزامير (1-41). ويشترك المزموران الأول والأخير من هذا القسم في الآتي:

1. كلاهما يبدأن بكلمة "طوبى" asher، الأول يعلن عن تطويب الرجل الذي يلهج في ناموس الله نهارًا وليلاً، ليمارس الوصية في حياته اليومية العملية، والأخير يطوّب الإنسان الذي ينظر إلى المسكين؛ الأول يعلن حب المؤمن الحيّ للوصية بكونها وصية الله، والأخير يعلن حبه الحيّ للمسكين بكونه أخًا للسيد المسيح، موضوع اهتمام الله وحبه.

2. المزموران نبويان، يتحدثان عن مقاومة الأشرار للسيد المسيح، وآلامه، ونصرته. أشار السيد المسيح إلى هذا المزمور (41) بكونه نبوة عن خيانة يهوذا له (يو 13: 18)، كما أشار إليه القديس بطرس (أع 1: 16).

العنوان:

"لإمام المغنين، مزمور لداود". وفي الترجمة السريانية: "مزمور لداود عندما أقام مراقبين يهتمون بالفقراء"، وفي العربية: "نبوة عن التجسد وأيضًا عن تحية (قبلة) يهوذا"[785].

ربما وُضع هذا المزمور أثناء تمرد أبشالوم.

الإطار العام:

1. بخصوص المسكين      [1-3].

2. المسكين المرفوض       [4-9].

3. نصرة قيامته            [10-13].

1. بخصوص المسكين:

إن كانت افتتاحية المزمور didactic بشكل كبير، إلا أنها تناسب أيضًا الجانب

التعليمي لليتورجية الهيكل، خاصة وأن الخاتمة [11-13] تمثل شكرًا لله مُقدمًا في الهيكل. لهذا فالمزمور تعليمي ليتروجي كما هو مرثاة شخصية.

"طوبى للذي يتفهم في أمر المسكين والفقير،

في يوم السوء ينجيه الرب.

الرب يحفظه ويحييه،

ويجعله في الأرض مغبوطًا،

ولا يسلمه بأيدي أعدائه" [1-2].

من هو هذا المسكين أو الفقير الذي يلزمنا الاهتمام بأموره؟

1. واضح أن كلمة "المسكين" تعني "الضعيف" أو الذي "بلا معين". فالله في غناه يشتاق أن يفيض بالعطاء على بني البشر، ليس فقط العطاء المادي، وإنما عطاء نفسه His self-giving ليتمتعوا به كأولاد له ينعمون بأحضانه الإلهية. هذا العطاء المجاني هو نعمة إلهية تُوهب بروح الله القدوس مشروطة برغبتنا نحن أيضًا في العطاء، حتى يتحقق الحب المتبادل بين الله وأولاده. عطاؤنا له يتم عمليًا في اخوته المساكين، إذ يقول: "الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 40).

v   يا لعظم مرتبة الفقراء، لكونهم نظير خدر الله، والباري يختفي فيه. فالفقير يمد يده متوسلاً، لكن الله هو الذي يقبل صدقتك.

v   لقد بلغك عني إني متسربل بالنور كالرداء، لكنك متى كسوت عريانًا أشعر أنا بدفءٍ وأنني تستَّرت.

تعتقد إني جالس عن يمين أبي في السموات، ولكنك متى ذهبت إلى السجن تفتقد المسجونين تراني جالسًا هناك.

v   إن رأيت إنسانا بائسًا... أذكر أنه وإن كان في الظاهر ليس هو المسيح، لكنه هو الذي يسألك ويأخذ منك في زي ذاك...

v   إن كان السيد المسيح خالقك لا يستحي أن يمد يده ويتناول الصدقة المعطاة للمساكين... فالأولى بنا ألا نأنف من خدمة المساكين وإراحتهم، لأنه بخدمتهم تتقدس أيدينا، فإذا رفعناها في الصلاة ينظرها الله مباركة، فيتحنن علينا ويعطينا سؤالنا تمامًا[786].

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. المساكين هنا أيضًا هو الفقير في الإيمان وفي معرفة الله ومحبته، والمحتاج لكلمة الله[787]، كما يقول الرسول بولس: كفقراء ونحن نغني كثيرين"، بمعنى أننا نحن فقراء في المال لكننا أغنياء بالسيد المسيح، به نُغني كثيرين. بالحب الحق مع العمل والصلاة الدائمة ننتشل الكثيرين من فقر الإيمان، فقر المعرفة، فقر الحب، فقر الطاعة للوصية الإلهية... طوبى لمن يتفهم في أمر هؤلاء المساكين!

3. المسكين الذي يلزمنا أن نتفهم أمره هو السيد المسيح، الذي لأجلنا وهو الغني افتقر. صار كمن هو بلا معين وهو خالق الكل؛ يطلب من السامرة أن تعطيه ليشرب (يو 4: 7)... مشتاق إلى قلوب أولاده التي يغمرها بينابيع حبه ويشرب هو منها!

لننظر إلى مسيحنا الذي صار عبدًا مسكينًا، لننظره في آلامه وفي صلبه وهو يصرخ: "أنا عطشان"!

لقد قدم له التلاميذ طعامًا، أما هو فقال لهم: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو 4: 31). أما هو هذا الطعام إلا اتحادنا به، وقبولنا آلامه وصلبه فننعم بقوة قيامته وأمجادها!

v   "تفهموا في أمر المسكين والضعيف، أي في أمر المسيح. افهموا فيه الثروات الخفية؛ ذاك الفقير الذي ترونه "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3)...

تفهموا أيضًا أمر المساكين والمعوزين والجائعين والعطاش والعرايا والمرضى والمسجونين. تفهموا أيضًا أمر هؤلاء المساكين؛ فإن تفهمتم أمر هؤلاء تفهمون ذاك القائل: "كنت جوعانًا وعطشانًا وغريبًا وعريانًا ومريضًا ومسجونًا" (راجع مت 25: 35-36)...

القديس أغسطينوس

باهتمامنا بالمسكين، سواء المعتاز إلى أمور مادية أو روحية أو معنوية نهتم بالمسكين الذي افتقر لأجلنا، ونتحد بذاك الذي نزل إلينا، فإن ثمر هذا الاهتمام أو هذا الفهم العملي هو الآتي:

1. "في يوم السوء ينجيه الرب" [1]: ارتفاع نظرنا إلى السيد المسيح بعمل روحه القدوس يرفعنا إلى فوق لنجتاز يوم السوء ونعبره في أمان.

ما هو يوم السوء إلا سقوطنا في تجربة أو محاصرة الخطية لنا، فإنه لا خلاص لنا من التجارب الشريرة إلا بالتطلع إلى المخلص المسكين بسبب خطايانا. نراه على الصليب كله جراحات حب لأجلنا، فتحطم النعمة عمل الخطية في أعضائنا، ويخلص الجسد مع النفس، وينعم المؤمن بحياة الشركة المجيدة.

أيضًا اهتمامنا بالفقراء والمحتجين والمذلولين والمسجونين بروح الحب الحقيقي وفي حكمة الروح، يهيئ النفس لعمل النعمة المجانية في داخلنا. فإننا إذ نحب الله في اخوتنا المتألمين، ينصت إلى تنهدات قلوبنا الخفية ويدافع عنا ضد كل خطية. حبنا للغير وترفقنا بهم إنما هو حب لأنفسنا وتمتع بحب الله وحنانه في أعماقنا.

"اعطوا ما عنكم صدقة، فهوذا كل شيء يكون نقيًا لكم" (لو 11: 41).

"فارق خطاياك بالبر، وآثامك بلرحمة للمساكين" (دا 4: 27).

"بالرحمة والحق يُستر الإثم" (أم 16: 6).

"لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لا يعمل رحمة، والرحمة تفتخر على الحكم" (يع 2: 13).

"الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر عن الخطايا" (حكمة يشوع 3: 33).

"اغلق على الصدقة في أخاديرك فهي تنقذك من كل شر" (كمة يشوع 29: 15).

"طوبى للرحماء لأنهم يرحمون" (مت 5: 7).

v   إن رحمت الأرملة تُغفر خطاياك، لأنه مكتوب: "انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة؛ هلم نتحاجج يقول الرب: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف" (إش 1: 17-18)[788].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   في المعمودية توهب مغفرة الخطايا مرة واحدة للجميع، لكن العمل المستمر بلا انقطاع – تابعًا مثال المعمودية – يهب مراحم الله مرة أخرى... يعلمنا المعلم الحنون ويحثنا على العطف (لو 11: 40-41). وإذ هو يبحث عن خلاص أولئك الذين قدم عنهم تضحية عظيمة هكذا، أشارة أيضًا عن هؤلاء الذين بعدما نالوا المعمودية صنعوا الخطية يمكنهم أن يتطهروا من جديد...

أيها الأحباء الأعزاء، إن النصائح الإلهية في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجيد لا تكف ولا تهدأ عن حث شعب الله دائمًا وفي كل موضع على فعل أعمال الرحمة... لأن من لا يرحم لا يستحق مراحم الله، ولا يحصل على أي نصيب من العطف الإلهي بصلواته[789].

v   لن يستحق مراحم الرب من لا يرحم نفسه، ولن ينال نصيبه من الرأفة الإلهية في صلواته إن لم يترآف هو على المساكين في طلباتهم[790].

الشهيد كبريانوس

يمكننا أيضًا أن نفهم يوم السوء بكونه فترات الضيق أو الآلام التي يسمح الله بها لأولاده لتزكيتهم أو لتأديبهم... فإنه وإن كان يسمح بها لكن تبقى عيناه تتطلعان إلينا برفق كما ننظر نحن إلى المساكين في حنو.

v   محب الفقراء يكون كمن له شفيع في بيت الحاكم. من يفتح بابه للمعوزين يمسك في يده مفتاح باب الله.

من يقرض الذين يسألونه يكافئه سيد الكل[791].

القديس يوحنا التبايسي

2. "الرب يحفظه ويحييه" [2].

إذ يعد الرب شعبه أنه بالكيل الذي يكيلون يُكال لهم ويُزاد (مت 7: 2) لذلك فهو يعد من يحفظ المسكين في أمور زمنية بسيطة، مقدمًا له ضروريات الحياة، يهبه حفظًا من كل شر حتى يدخل به إلى حياة الدهر الآتي. يقدم الإنسان الزمنيات ليتمتع بالسماويات ومعها البركات الأرضية أيضًا.

v   إن رحمنا الآخرين ننال أجزل مكافأة، فقد وعدنا السيد المسيح بالكيل الملبَّد المهزوز[792].

القديس كيرلس الكبير

v   إن كان لأجل كأس ماء بارد تمنحه لضيف تنال ملكوت السموات، فكم من الخيرات تنال لو دعوته للتمتع بغناك، وجعلته شريكًا معك على مائدتك؟!

v   الأعمى متى رحمناه، يجعل مَن رحمه مبصرًا، ويقوده إلى ملكوت السموات؛ فذاك الذي يتعثر هنا في الحُفَر يصير لك مرشدًا يصعد بك إلى السماء[793].

القديس يوحنا الذهبي الفم

3.  ويجعله في الأرض مغبوطًا" [2]، إذ يحول له الأرض سماءً.

المحب للفقراء ينعم بالأرض الجديدة، أرض الأحياء، الحياة الكنسية، حيث يمتلئ قلبه فرحًا وغبطة... ينعم بعمل السيد المسيح الساكن فيه، الذي يقيم داخله ملكوته كملكوت تسبيح وتهليل وشكر على غنى نعمة الله المجانية!

في الواقع العملي كثيرون إذ بدأوا في المسيح يسوع يمارسون العطاء بحب حقيقي، شعروا بفرح داخلي عجيب لا يعرفون له سببًا خارجيًا. إنه عطية الروح لهم!

4. "ولا يسلمه بأيدي أعدائه" [2].

v   العدو هو الشيطان. لا يفكر أحد أن إنسانا ما عدوه عند سماعه هذه الكلمات...

القديس أغسطينوس

5. "الرب يعينه على سرير وجعه؛ صرفت مضجعه كله في مرضه" [3].

الصدقة تعين المؤمن الحيّ على التمتع بالشفاء الروحي والجسدي، ليس ثمنًا لعمله، وإنما الله الرحوم يهب مجانًا نعمته لمن يعلن عن قبولها بتقديم الحب والرحمة للغير (مت 5: 7).

يرى القديس أغسطينوس أن السرير هنا هو ضعف الجسد الروحي، فالنفس المُتعبة بالخطية تجد لذتها في ملذات الجسد كما على سرير مريح... لكنه سرير ألم ومرض. والرب في حنانه يطلب منه أن يقوم ليحمل سريره ويمشي إلى بيته (مر 2: 11). بمعنى آخر يهب النفس قوة القيامة، فلا يحملها الجسد في ملذات باطلة، بل بالروح تحمل الجسد في قدسية ونقاوة. لتنطلق إلى البيت السماوي، وتجد راحتها في حضن الآب. وكأن العطاء يهبنا فرصة التمتع بعمل الله المجاني، فيه نقوم من فراش جسدنا وننطلق بكمال الحرية كما بجناحي الحمامة نحو السمويات.

هذه هي بركات العطاء أو قل الحب العملي: ينقذنا الله من يوم السوء أي يوم الدينونة، مُحولاً إيّاه إلى يوم الرب المفرح، أو يوم العرس الأبدي؛ يحفظنا الرب من الضيقات ويهبنا الحياة الجديدة فيه، يحول أرضنا إلى سماء مفرحة، ويقيمنا من سرير الشهوات الزمنية لننطلق بروحه القدوس إلى الراحة الحقة في السمويات. بهذا أيضًا نكون قد تحررنا من العدو الشرير إبليس وكل أعماله لننعم بأبوة الله العاملة فينا، ويكون لنا موضع في أحضانه الإلهية. 

2. المسكين المرفوض:

"أنا قلت يارب ارحمني.

اشفِ نفسي لأني قد أخطأت إليك" [4].

هذه صلاة، في منتهى البلاغة في اللغة العبرية؛ فإنه ماذا يمكن لإنسان أن يفعل أكثر من الاعتراف بإخلاص وأمانة بخطاياه.

ما هو ارتباط هذه الصلاة بحديثه السابق عن الإهتمام بأمر المسكين؟

يبدو أن المرتل قد سقط تحت تأديب إلهي، إذ يربط ضيقته بإثمه، متوقعًا أنه إذ ينظر إلى أمر المسكين، يتطلع الله إليه كمسكين لكن ليس دون اعتراف بخطاياه. هنا يُبرز المرتل أن ما يناله الإنسان من هبات كثمرة العطاء المملوء حبًا لا يتم عن برّ ذاتي، وإنما عن مراحم الله المجانية، إذ يعترف المرتل بخطيته طالبًا الرحمة والشفاء.

كأن المرتل يقول: إن كنت قد تفهمت في أمر إخوتي المساكين فذلك ليس فضلاً منى، فإنك تتطلع إليّ وتتفهم أمري أنا المسكين المجروح بالخطايا والمحتاج إليك كطبيب للنفس والجسد.

v   يشفيك الله فقط إن أقررت بجرحك. عندما ترقد تحت يديْ الطبيب، وتطلب عونه بلجاجة. فإن غَسل أو كوي أو بَتر، احتمل هذا بهدوء، لا ترتبك بذه الأمور فُتشفى.

إنك تشفى إن قدمت ذاتك للطبيب؛ ليس لأنه لا يراك إن اخفيت نفسك، وإنما الاعتراف هو بداية استعداتك صحتك[794].

الأب قيصريوس أسقف آرل

اعتاد المرتل أن يبدأ اعترافه باتهام نفسه أولاً، بعد ذلك يشتكي العدو الشرير المقاوم له؛ فهو لا يبرر نفسه ولا يلقي بالوم على غيره، إنما يطلب عونًا من الطبيب ليشفيه أولاً ثم يقيه مما قد يصيبه من الخارج، إذ يقول:

"أعدئي تقولوا عليّ شرًا:

متى يموت ويُباد اسمه؟!" [5].

يود العدو الشرير أن يطيح بأولاد الله الأبرار، ويظن أن هذا يتحقق فعلاً، متجاهلاً أن الصديق يسقط سبع مرات ويقوم.

ويرى البعض أن هذا هو صوت السيد المسيح الذي اتهمه الأعداء كذبًا، وتآمروا على قتله وإبادة اسمه. ويبقى صوته هذا ينطق به في كنيسته التي تتألم لأجله والتي يُريد العالم يمحوها لينزع اسم مسيحها تمامًا. وكما يقول سفر الأعمال عن القديسين بطرس ويوحنا: "فدعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يُعلّما باسم يسوع" (أع 4: 18).

v   هذا هو شخص ربنا يسوع المسيح؛ ولكن أنظروا أما يُفهم ذلك أيضًا عن أعضائه. قيل هذا عندما سار ربنا بالجسد على الأرض... عندما رأوا الشعب قد ذهب وراءه، إذ قالوا: "متى يموت ويُباد اسمه"، بمعنى "إذ نقتله يُباد اسمه تمامًا من على الأرض، فلا يخدع بعد أحدًا إذ يموت. بهذا القتل نفسه سيفهم البشر أنه كان مجرد إنسان وقد تبعوه، ولا رجاء في الخلاص من جهته، فيهجرون اسمه ولا يكون بعد. لقد مات ولم يبد اسمه بل بُذر كبذرة كحنطة بموتها تنبت حنطة.

مات المسيح ولم يبد اسمه؛ ومات الشهداء ونمت الكنيسة، ونمى اسم المسيح بين الأمم.

باطلاً إذن اعتقادهم ضده؛ وكان الأفضل لهم أن يؤمنوا به حتى "يتفهموا أمر المسكين والفقير"، هذا الذي وهو غنى افتقر لأجلكم حتى تغتنوا بفقره...

القديس أغسطينوس

لقد دبر أخيتوفل المؤامرة لقتل داود الملك واباده اسمه فكان رمزًا لعدو الخير إبليس الذي هّيج الكثيرين ضد ابن داود للخلاص منه بالصليب، فجاءت كلمات داود النبي تنطبق بصورة أكمل في شخص السيد المسيح، إذ يقول:

"كان يدخل لينظر فكان يتكلم باطلاً،

وقلبه جمع له إثما.

كان يخرج خارجًا ويتكلم عليّ معًا.

عليّ تدمدم جميع أعدئي.

وتشاوروا عليّ بالسوء

وكلامًا مخالفًا للناموس رتبوا عليّ.

هل النائم لا يعود أن يقوم؟!" [6-8].     

تحققت هذه النبوة في شخص السيد المسيح حيث اجتمع رؤساء الكهنة والكهنة والكتبة والفريسيون والناموسيون وبيلاطس وهيرودس عليه. تدمدموا معًا أي تهامسوا أو تشاوروا من وراء السيد، وحكموا عليه على خلاف الناموس، وظنوا أنه نام في القبر ولا يعود يقوم.

كان كل من يدخل إليه أثناء محاكمته أو جلده أو صلبه يتكلم عليه باطلاً، إذ يحمل إثمًا في قلبه من جهته فلا يرى في ذلك إلا علامة غضب الله عليه، لذا يخرج خارجًا ينطق بتجاديف ضده!

الذي يدخل بذاته إلى أحداث الخلاص، يدخل لينطق بتجاديف أثيمة، أما من يدخل بالنعمة إليها فيخرج أيضًا ليجد مرعى (يو 10: 9)، إذ يجد فيها فيض حب مشبع ومُروي للنفس. وكا يقول الرسول: "لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة (2 كو 2: 16).

بعد أن تحدث عن الأعداء صالبي المسيح تكلم بوجه الخصوص عن يهوذا مسلمه، التلميذ الخائن:

"وأن إنسان سلامتي الذي وثقت به

الذي أكل خبزي رفع عليّ عقبه" [9].

v   من هو إنسان سلامته؟ يهوذا... لقد خانه بقبلة غاشة (يو 6: 70)، ليُظهر ما قيل عنه: "رجل سلامتي".

القديبس أغسطينوس

3. نصرة قيامة:

"وأنت يارب ارحمني وأقمني فأجازيهم.

بهذا علمت أنك هويتني،

لأن عدوي لن يُسرَّ بي" [9-10].

لقد ظنوا أنه قد مات ودفن ولن يقوم؛ لكنه إذ مات لأجلنا وباسمنا يقوم أيضًا باسمنا، فيصرخ "ارحمني وأقمني". له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها كما أعلن بنفسه، لكنه كممثل لنا في طاعة مات وفي طاعٍة قام، لنصير نحن فيه أبناء طاعة وموضع سرور الآب... قيامته أعلنت تبريرنا فيه، لنقول: "بهذا علمت أنك هويتني". نحن موضع سرور الآب بعد أن كنا موضع سرور العدو الذي ملك على قلبنا وحياتنا لحساب ملكوت ظلمته.

يقول: أقوم فأجازيهم" [9]، فإنه سلَّم نفسه بإرادته للموت وقام معلنًا غلبة الحياة ليُدين الخطية والموت... كما يأتي ديًانا للخطاة.

يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [هل تظنون أنكم غالبون الحياة بالموت؟ الموت هو مجرد رقاد وسوف أقوم ثانية].

بقوة القيامة تعلمنا روح النصرة والغلبة، لا بالعنف والمكابرة بل بالوداعة التي ننالها في المسيح يسوع، به نصير موضع سروره وقبوله فنثبت أمامه إلى الأبد: "وأنا من أجل دعتي قبلتني وثبتني أمامك إلى الأبد" [12].  

يختم المرتل المزمور بذكصولوجية ليتورجية جماعية، فما يناله من بركات يفرح الكنيسة كلها!

"مبارك الرب إله إسرائيل

من الأبد وإلى الأبد؛ يكون يكون" [13].

يرى البعض أن هذه الذكصولوجية هي ختام القسم الأول من سفر المزامير (مز 1-41)، حيث يسبح المؤمن إله الكنيسة الجامعة (إسرائيل الجديدة)، كعربون لحياة التسبيح السماوية، في أورشليم العليا.

 


 

صلاة

v   هب لي يارب أن أراك في كل مسكين!

يا من صرت مسكينًا لأجلي تفيض عليّ بغناك!

v   عجيب أنت في حبك!

تشتاق أن تهبني شركة سِماتك، خاصة الحب العملي!

أترفق بالمساكين فأختير ترفقك بي أنا المسكين!

v   أراد العدو أن يُبيد اسمك بالصليب،

فنقشت اسمي على كفك المجروح،

ووهبتني قوة قيامتك!

v   قاومك الأشرار وقتلوك بالصليب،

فجعلتني موضوع سرور الآب!

لك المجد أيها المصلوب محب البشر!

<<

 


 

 

 

الباب الثاني

 

 

 

 

الكنيسة والخلاص

[مز 42 – مز 72]

 


 

الكنيسة والخلاص

[مز 42 – مز 72]

القسم الأول (مز 1 – مز 41) هو تجميع لمزامير تتحدث عن حالة الإنسان: حياته المطوّبة وسقوطه ثم تجديده بعمل الله مخلصه الذي يرد إليه الحياة الفردوسية المتهللة المفقودة. وهو في هذا يماثل سفر التكوين[795]. أما القسم الثاني (مز 42- مز 50) فيماثل سفر الخروج حيث ظهر شعب الله الذي يدخل في ميثاق معه خلال دم الحمل (خر 12)، لهذا جاءت مزامير هذا القسم تتحدث عن "الكنيسة والخلاص".

في الأصحاح الأول من سفر الخروج نرى الشعب مُستعبدًا في أرض غريبة، بعيدًا عن أرض الموعد. كان شعبًا متألمًا، يئن وينوح كلما هوى عليه سوط مُسخِره ومضطهِده. وكانت الضيقة تتزايد مع الزمن وتقسوا جدًا، وصارت الأبواب كأنها قد أُغلقت تمامًا، ولا يوجد منفذ للخلاص. لكن في الوقت المناسب سمع الله أنينهم وصراخهم، وقام يدافع عنهم بيده القوية، مخلصًا إياهم من بيت العبودية، بينما هلك أعداؤهم في البحر الأحمر.

يبدأ هذا القسم بصرخة مُرّة تصدر عن أعماق الضغطة (مز 42 – 49)، لينتهي بإعلان مُلك الله على شعبه المتعبد له حيث يُقال: "ويسود من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي المسكونة... ويسجد له جميع ملوك الأرض، وكل الأمم تتعبد له" (مز 72). يملك ملك الملوك على شعبه الذين صاروا ملوك الأرض، أي أصحاب سلطان على أجسادهم التي تتقدس فتُحسب أرض الرب. أما طريق المجد الملوكي فهو التوبة، لهذا يُقدم لنا هذا القسم الكثير من المزامير التي تتحدث عن التوبة والاعتراف، أبرزها مزمور التوبة الأمثل 51 (50 LXX) الذي نترنم به في مقدمة كل صلاة او تسبحة من صلوات السواعي (الأجبية)؛ كما يصلي به الكاهن مع الشعب في أغلب الصلوات الليتورجية (الجماعية).

يكشف هذا القسم عن جمال الكنيسة المتمتعة بالخلاص كعروس مزينة لعريسها الأبرع جمالاً من بني البشر (مز 45 "44").

وقد تجمعت مزامير هذا القسم من مصادر متنوعة:

1. أبناء قورح (مز 42، 44-49)، وهم عائلة من حارسي الأبواب الرسميين ومن الموسيقيين (1 أي 9: 17-19، 26: 19)، ربما كانوا تلاميذ قورح وليس بالضرورة من عائلته[796]. يرى البعض أن كلمة "قورح Core" ربما تعني "أقرع" أو "أصلع"[797]. ويرى القديسان أغسطينوس وجيروم إنها تعادل كلمة "Calvaria"[798] أي "الجمجمة" أو الموضع الذي صُلب فيه السيد المسيح. فأبناء قورح هم أبناء العريس المصلوب، القادرون أن يسحقوا رأس الحية القديمة بالصليب. ويحطمون الموت، وينعموا ببهجة القيامة. بمعنى آخر المسيحيون كأبناء قورح الحقيقي يمارسون الحياة المُقامة التي لا تعرف إلا الشكر والتسبيح لله مخلصهم.

2. آساف (مز 50) الذي أسس فرقة موسيقية أخرى للهيكل. ربما كان لقبًا لقادة الموسيقيين أو لمنظمي الخورس في أيام داود وسليمان (1 أي 16: 4، 5؛ 2 أي 5: 21)[799]. وكلمة "آساف" تعني "محصَّل" أو "يهوه يجمع"، ويرى القديس أغسطينوس أنها تعني "المجمع". فإن كان المجمع اليهودي هو المسئول عن صلب السيد المسيح، لكنه حفظ لنا النبوات التي تشهد للسيد المسيح الذي هو تسبيحنا وفرحنا.

3. داود النبي والملك (مز 51-65، 68-10)، رجل الصلاة والتسبيح؛ يمثل الكنيسة الملكة التي تجد كل لذتها في عريسها الملك، تلتصق به، وتسبحه بلا انقطاع.

4. سليمان (مز 72) يشير إلى الكنيسة الحاملة سلام الله الفائق.

5. توجد ثلاثة مزامير بدون أسماء (مز 66، 67، 71)، تمثل دعوة موجهة نحو كل نفس للتمتع بالعضوية الكنيسة المتهللة، حتى وإن لم يعرفها أحد من البشر بالاسم.

<<

 


 

المزمور الثاني والأربعون

عطشي إلى المسيح

المزموران 42، 43:

يعتقد البعض أن المزمورين 42، 43 يمثلان وحدة واحدة. يقول Kidner[800]: [إنه وإن كان يمكن الترنم بكل مزمور منهما على حدة إلا إنهما في الواقع هما جزءان من قصيدة واحدة متماسكة، تعتبر من أروع القصائد الحزينة في سفر المزامير. وللمزمورين عنوان واحد يناسب كليهما؛ كما يضمان ذات المناجاة للنفس: "لماذا أقصيتني؟ ولماذا أسلك كئيبًا إذ يحزنني عدوي؟!" (مز 42: 9؛ مز 43: 2). هذا والقرار الذي يختم جزئيي المزمور (42: 5، 11) يتكرر مرة ثالثة في (مز 43: 5): "لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟ ولماذا تقلقيني؟" فيُعطي للمزمورين وحدة.

يمكننا القول بإن المزمورين هما مرثاة تكشف عن مرارة النفس بسبب الآلام الماضية والحاضرة والمستقبلة، لكنها تُبتلع بعذوبة الرجاء في الله والتمتع بحضرته وكأن الآلام لا تحكم نفسية المرتل بل بالأكثر تزيده شوقًا نحو الله مخلصه.

(42: 1-5) آلام في الماضي – في البرية – شوق نحو الله.

(42: 6-11) آلام في الحاضر – على الجبال – شعور بترك الله.

(43: 1-5) آلام في المستقبل – في هيكل قدسه – رجاء مفرح.

يوضح هذا المزمور أن الأتقياء في القديم كما في عصرنا الحاضر يعانون من الآم لا يُنطق بها.

ظروف المزمور:

1. يرى البعض أن هذا المزمور هو مرثاة لأحد مرنمي الهيكل، نُفى في الشمال بالقرب من مصعد نهر الأردن، ويتوق إلى العودة إلى بيت الله للتمتع بالحضرة الإلهية خلال العبادة الجماعية المقدسة.

2. يقول أنثيموس الأورشليمي: [إن داود النبي وضع هذا المزمور وسلّمه لأحد رؤساء المرتلين من بني قورح لكي يُسبح به بالآت العزف].

3. وُضع كنبوة عن الذين يُسبون ويحرمون من التمتع بخدمة الهيكل وخبرة الحضرة الإلهية، معلنًا اشتياقهم نحو الرجوع إلى وطنهم بعبورهم جداول المياه (نهر الأردن). إنهم بهذا يمثلون البشرية التي سقطت تحت سبي الخطية، وسلمت نفسها للعبودية، فإنها لن تنعم بالحياة الجديدة في الرب ما لم تجتز مياه المعمودية، لتعبر إلى أورشليم العليا، الوطن السماوي.

4. يرى بعض الآباء الأولين أن هذا المزمور هو صوت رجال العهد القديم، الذين كانوا في عطش شديد إلى التلاقي مع المخلص. وكانوا في جهادهم الروحي أشبه بالإيل، يجرون نحو جداول المياه أو نحو ينابيع النبوات، قائلين: "لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟ ترجيّ مجيء الرب، فهو قادم حتمًا، يُحقق لكِ خلاصك ويملأكِ فرحًا وسلامًا".

v   جرت نفس الأنبياء في عطش إلى هذا الينبوع، وكما يقول داود: "عطشت نفسي إلى الله الحيّ" [2]؛ وبهذا يستطيع أن يروي ظمأه بغنى معرفة الله، ويمكنه أن يغسل من دماء الحماقة بريها بالجداول الروحية[801].

القديس أمبروسيوس

العنوان:

"لإمام المعنين، قصيدة Maschil لبني قورح"، وحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام (النهاية) فهمًا لبني قورح".

1. سبق لنا التعليق على كلمة Maschil في عنوان المزمور 32.

2. يرى بعض الدارسين أن واضع السفر هو "داود"، ومما يؤكد هذا أن المزمور قد وُضع بصيغة المفرد: "نفسي"؛ فلو أن بني قورح هم واضعوه لقالوا: "نفوسنا"... داود النبي هو واضعه وهم لحَّنوه. هذا المزمور يناسب حالة داود في منفاه الطويل خارج أوشليم أيام شاول، خاصة وأن الموضع الذي اُستبعد فيه داود النبي يُطابق من الناحية الجغرافية ما ورد في الآية [6]، أي أرض الأردن وحرمون.

يرى البعض أن بعضًا من بني قورح قد نُفوا (عد 26: 11)، وأن جميعهم قد اُستبعدوا عن القيام بدور بارز في العبادة الجماعية الليتورجية في الهيكل. فالمزامير المنسوبة إليهم تعكس آلام حنينهم للوطن وشعورهم بالخسارة؛ وفي نفس الوقت يتألمون باسم

الشعب كله المأسور في بلد غريب.

يقدم لنا القديسان أغسطينوس وجيروم تفسيرًا رمزيًا لكلمة "قورح":

v   إذ تعادل كلمة "قورح Karah" "جلجثة Calvaria"، لذا فإن أبناء العريس، أبناء آلامه، الأبناء المفديين بدمه، أبناء صليبه، الذين يحملون على جباههم ما قد رفعه أعداؤه على الجلجثة، يُدعون "أبنا قورح".

القديس أغسطينوس

الإطار العام:

1. صرخة واشتياق إلى الله           [1-5].

2. ضيقة وحيرة                      [6-11].

1. صرخة واشتياق إلى الله:

تصدر عن المرتل صرخة صادقة وعميقة خلال شعوره بالحرمان من أورشليم العليا وهيكل قدسه السماوي، حاسبًا نفسه محرومًا من الله القادر وحده أن يروي نفسه، إذ يقول:

"كما يشتاق الإيل إلى ينابيع المياه،

كذلك تاقت نفسي أن تأتي إليك يا الله.

عطشت نفسي إلى الله الحيّ،

متى أجيء وأظهر أمام وجه الله؟!" [1-2].

في فلسطين حيث توقف المطر قرابة تسعة أشهر في السنة تُغطي الينابيع والآبار والقنوات المائية كي لا تجف من شدة الحرارة، وإذ تشعر الإيل بالظمأ القاتل تجري نحو ينابيع المياه وتقف أمامها صارخة، وقد خارت قواها من أجل تمتعها بالكنز المخفي، المياه واهبة الحياة. هكذا يجري المؤمن في برية هذا العالم الجافة يبحث عن ينابيع مياه الحياة، أي عن الحياة الكنيسة الإنجيلية، يأتي إلى كلمة الله أو الكتاب المقدس المختوم لكي يكشف له الروح أسراره، وإلى عطايا الروح القدس في العبادة الكنسية كالأسرار المقدسة، وهو في هذا يعلن عن حنينه الشديد نحو الله الصادر عن أعماق قلبه.

المؤمن كالأيل التي لا تتوقف عن الجري السريع لعلها تجد ينبوع المياه، وليس كالجمل الذي يحمل اكتفاءً ذاتيًا فيه أثناء سيره البطيء في الصحراء.

يعبر المرتل عن شوقه نحو الله بالعطش، لأن آلامه أكثر مرارة من آلام الجوع.

قال السيد المسيح كممثل لنا "أنا عطشان" (يو 19: 28) ليعبر عن عطش المؤمنين إلى الله!

ويقدم لنا الآباء تفاسير مختلفة للإيل الظمآن إلى مجاري المياه، نقتبس الآتي:

v   لقد تصفحت سفر المزامير بأكمله بدقة شديدة فلم أجد بني قورح قد تغنوا بأي شيء في أي موضع، إنما تجد دائمًا نغمة الفرح والسعادة في أغانيهم، تجد ازدراءً بالعالميات والزائلات، وشوقًا حارًا إلى السمويات والأبديات، لأن ربنا قد صُلب ودُفن في موضع يُقال له "الجمجمة". إذن الذين يؤمنون بصليبه وقيامته هم بنو قورح، أبناء الجمجمة. إنها طبيعة الإيل ألا ترهب الحيَّات... إنها تجتذب الحيَّات للخروج من جحرها عن طريق أنفاسها الخارجة من منخارها، وذلك كي تقتلها وتمزقها إربًا. ومع ذلك فإذا ما سرى السم الخارج من الحيَّات وألهب جوفها، فإنه وإن لم يقتلها لكنه يجعلها في حالة ظمأ مُحرِّق، فتشتاق إلى جداول مياه صافية رطبة تطفئ نيران السم الذي سبب لها عطشًا هكذا.

الآن نحن أيضًا مثا الإيل نشتاق إلى المياه الجارية. لقد انسحب إيلنا الصغير من مصر ومن العالم، وأهلك فرعون في المياه، وسحق جيشه كله في المعمودية. إذ يُقتل الشيطان (بالصليب في مياه المعمودية) تلتهب قلوبهم المملؤة غيرة نحو مياه الكنيسة الجارية، ويشتاقون إلى الآب والابن والروح القدس.

جاء في سفر إرميا شهادة للآب كينبوع: "تركوني انا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء" (إر 2: 13). وفي موضع آخر نقرأ عن الابن أنهم قد تركوا ينبوع الحكمة، وأيضًا عن الروح القدس: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا... يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14)[802].

القديس جيروم

v   اركضوا إلى الجداول، توقوا إلى جداول المياه، إلى الله ينبوع الحياة، الينبوع الذي لا يجف أبدًا، الينبوع الذي من يشرب منه يروى الظمأ الداخلي.

اركضوا إلى الينبوع، اشتاقوا إليه، لكن لا تفعلوا هذا كيفما اتفق، لا تكتفوا بالجري كأي حيوان عادي، بل اركضوا كالإيل... ماذا يعني "كالإيل"؟ أي لا تتكاسلوا في رُكوضكم. اركضوا بكل قواكم؛ اشتاقوا إلى الينبوع بكل قدرتكم، فإننا نجد في الإيل رمزًا للسرعة...

اسمعوا أيضًا ما تتميز به الإيل، إنها تقتل الحيَّات، وبعد قتلها تتقد عطشًا بصورة أشد. وإذ تنتهي من قتل الحيَّات تركض إلى جداول المياه حيث تشتد وطأة عطشها أكثر من ذي قبل والحيات هي رذائلكم؛ دمروا حيَّات الشر فتشتاقون بالأكثر إلى ينبوع الحق...

ومن ثم أمر آخر جدير بالملاحظة بالنسبة للإيل... فإنها إذ تجول كقطيع أو تسبح (في الماء) لكي تبلغ منطقة أخرى من الأرض، تسند ثقل رؤوسها على بعضها البعض بحيث يقودها واحد ويتبعه الآخر، وقد ألقى الكل رؤوسهم عليه بالتتابع حتى آخر القطيع. لكن إذا ما تعب القائد الذي يحمل أثقال الرؤوس يعود إلى المؤخرة ويستريح من تعبه إذ يسند رأسه على الآخير... أليست الإيل بهذا تشبه أولئك الذين قال عنهم الرسول: "احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح" (غلا 6: 2)؟!

القديس أغسطينوس

v   الله بالحق هو الينبوع؛ ليت ذاك الذي يتوق إلى هذا الينبوع يسكب نفسه عليه، فلا يترك شيئًا فيه لملكية الجسد، بل تفيض نفسه (بالحب) في كل موضع[803].

القديس أمبروسيوس

v   لتعطش نفوسنا إليه، قائلة: "متى يجيئ؟!"... إنك تشتاق إلى قدومه، ألعله يجدك مستعدًا[804]؟!

القديس أغسطينوس

v   كثيرون من الناس عطشى: الأبرار والخطاة أيضًا. الأولون عطشى إلى الحق، والآخرون إلى الملذات. يعطش الأبرار إلى الله، والخطاة إلى الذهب[805].

قيصريوس أسقف آرل

v   الإنسان الذي يشرب بعمقه من هذا الخمر ويُحرم منه بعد ذلك، هو وحده يُدرك قيمة ما حُرم منه بسبب تراخيه[806].

مار اسحق السرياني

إن كنا نُعاني من الحيَّات الداخلية ليتنا لا نستسلم لسمومها، بل بالأكثر نُجاهد ضدها بروح الله الساكن فينا، فيلتهب قلبنا حبًا نحو مخلصنا، مشتاقين أن نتراءى أمامه. عمل الخطية هو عزلنا عن الالتقاء بالله الحيّ والتمتع بوجهه لنشبع بحبه، لذا نقول:

"عطشت نفسي إلى الله الحيّ،

متى أجيء وأظهر أمام وجه الله؟!" [2].

مادام المرتل يتحدث عن اشتياقات وحب بين الله والإنسان، يدعو الله بالحيّ، فإننا لسنا نتعبد له كما لقوم عادة أو خشية غضبه، وإنما تجاوبًا معه بكونه الحيّ، الذي يدخل معنا في علاقات حب وعهود، يُريد أن يتراءى في داخلنا، ويعلن ملكوته فينا، ونظهر نحن أمام وجهه ننعم ببهاء مجده وجمال هيكل قدسه السماوي.

إن كان المزمور قد كُتب عن المسبيين المحرومين من هيكل الرب، هؤلاء الذين كان البابليون يُعيرونهم، قائلين لكل واحد منهم: "أين هو إلهك؟!" يُجيبهم المؤمن: إنني لا انشغل بتعييراتكم، إنما يلتهب قلبي بإلهي الحيّ القادر وحده أن يروي ظمأ نفسي الداخلي... إني مشتاق أن ألتقي به وجهًا لوجه.

ربما يقصد بقوله: "متى أجيء وأتراءى قدام الله؟!" أنه ليس من ظروف تحرمني من التقائي به أو سكناه في داخلي... لكن حنيني الداخلي ينصبُّ على اللقاء معه وجهًا لوجه!

هذه هي صرخات الشعب المسْبى المشتاق إلى مدينة الله أورشليم وهيكله المقدس، حيث يلتقي بالله في بيته وهيكله!

ربما هي صرخات داود النبي أو أحد المرتلين المحرومين من الهيكل!

وهي بالأكثر صرخات رجال العهد القديم الذين عطشت نفوسهم إلى مجيء المخلص... ليأت إليهم أو يذهبون إليه!

إنها صرخات الكنيسة التي تعبَّر عن حنينها إلى مجيئه الأخير، إذ تقول "آمين تعال أيها الرب يسوع!" (رؤ 22: 21).

v    "متى أجيء وأتراءى قدام الله" أنظروا، فقد اُستجيبت تضرعاتهم، لقد جاءوا ووقفوا في حضرة الله. قد مثلوا أمام المذبح، وشاهدوا سِرّ المخلص. ما من أحد يتأهل للتطلع إلى هذا المنظر إلا الذي من عمق قلبه وضميره يصرخ نائحًا في ندم: "دموعي صارت لي خبزًا النهار والليل" [3][807].

القديس جيروم

v   هذا الجمال (الإلهي) مُخفى عن العيون الجسديةَ، مُدرك بالعقل والنفس فقط. عندما يُلقى بضوئه على أحد القديسين يتركه ملتهبًا بشعور لا يحتمل بألم الاشتياق، وإذ يدرك ماهية الحياة الدنيا يقول: "ويل لي فإن غربتي قد طالت عليّ" (مز 120: 5)؛ "متى أجيء وأتراءى قدام الله؟!" [2]؛ وأيضًا: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23)؛ "عطشت نفسي إلى الله الحيّ"... حقًا إنه بسبب لهفتهم التي لا تشبع للتمتع برؤية الجمال الإلهي، يُصلّون كي يستمر تأملهم في التمتع بالرب مدى الحياة الأبدية[808].

القديس باسيليوس الكبير

v   "عطشت نفسي إلى الله الحيّ"...

إني عطشان في غربتي، في ركوضي، وسأرتوي عند وصولي.

القديس أغسطينوس

v   "متى أجيء وأظهر أمام وجه الله؟!"

في هذا المزمور يرسم (المرتل) بوضوح المتاعب التي تظهر بسبب الضعف البشري، والتعزيات التي تصدر عن الله[809].

القديس أمبروسيوس

"لأن دموعي صارت لي خبزًا النهار والليل،

إذ قيل لي كل يوم:

أين هو إلهك؟" [3].

يرى القديس أغسطينوس أن المرتل لم يقل: "لأن دموعي صارت لي شرابًا" بل "خبزًا"، لأن الظمآن إن أكل حبزًا يزداد ظمأ... فدموع الاشتياق نحو اللقاء مع الله لا تروينا بل تلهب بالأكثر عطشنا إليه.كما يقول: [لم تكن دموعي مرارة لي بل "خبزي". هذه الدموع عينها كانت حلوة بالنسبة لي، وذلك لعطشي إلى الينبوع. وبقدر عجزي عن الشرب منه، في لهفة جعلت دموعي طعامًا].

دموعه لم تجف نهارًا ولا ليلاً، إذ لا تستطيع الانشغالات اليومية مهما كانت أهميتها أن تشغله عن طلب إلهه بدموعه، ولا راحة الليل تهدئ من هذا الحنين.

إنه لا يخجل من أن يبكي بدموع في النهار علانيةً، معلنًا ارتباطه بإلهه كما يرتبط الرضيع بأمه، ولا يقدر على الاستغناء عنها، كما يلذ له أن يبكي في الليل خفيةً ليعلن أعماق محبته لله.

يشير النهار أيضًا لحالة الفرج أو الفرح، والليل إلى حالة الضيق والألم؛ وكأن المرتل يعلن أن دموعه لا تجف وسط أفراحه أو أحزانه، إذ تحت كل الظروف ليس ما يشغله إلا حنينه نحو الله!

في كبرياء وتشامخ وبسخرية يقول لي الأعداء: أين هو إلهك؟ حسبوا طول أناة الله ضعفًا! أرادوا أن يحطِّموا رجائي في الله، كأنه قد تركني، ولم يدركوا إنه سيد التاريخ وضابطه، إنه يتمهل ويطيل الأناة منتظرًا توبتهم ورجوعهم، أو ينتظر حتى يمتلئ كأس شرهم.

"هذه تذكرتها فأفضت نفسي عليّ" [4].

يتذكر المرتل تعييرات العدو له، وعوض الانشغال بها أو بالرّد عليها تنسكب نفسه فيه أو عليه عوض انسكابها على الغير، فهي لا ترتمي على ذراع بشر، وإنما تدخل إلى أعماقها، تنتظر تجلي السيد المسيح فيها وتترقب تعزياته الخفية.

ولئلا يفهم أحد أن انسكابه على نفسه هو نوع من اليأس أو تحطيم نفسيته أو تقوقعه حول نفسه، يكمل الحديث معلنًا ملء شركته مع اخوته في الحياة التعبدية وفرح قلبه، إذ يقول:

"لأني أجوز في مكان مظلة معجبة إلى بيت الله،

بصوت تهليل واعتراف بصوت المُعَّيد" [4].

دموعه الغزيرة تسكبه على نفسه في مخدعه، وتبعث فيه حنينًا أن ينطلق مع الشعب إلى بيت الله كمن هو "مُعيّد"، أي في حالة عيد مفرح لا ينقطع.

يرى المرتل نفسه في بيت الرب كما في مظلة عجيبة، تحت ظل جناحي الله، وفي حمايته إلهية.

ويرى البعض أن قوله: "هذه تذكرتها" تعني تذكار الأيام المفرحة التي عبرت، فتئن بالأكثر نفوسنا في داخلنا، مشتاقين أن نبقى في حالة فرح دائم وتسبيح غير منقطع. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن تذكار معاملات الله معنا هم سند لنا في الحاضر، إذ يقول: [تظهر كل الأمور صعبة بالنسبة لنا لأننا لا نتذكر الله كما ينبغي، ولا نحمله في أفكارنا دائمًا... لأنه يقينًا سيقول لنا بحق: "أنتم نسيتموني فسأنساكم"، إذ عظيم هو تذكر الله لنا، وأيضًا تذكرنا نحن له[810]].

يرى البعض أن المرتل يذكر الأيام الأولى حين كان يجتمع مع الشعب في مواكب العبادة المفرحة والتهليل التي كانت بالنسبة له أشبه بمظلة إلهية يحتمي فيها... خلال هذا التذكر يسكب نفسه في داخله.

على أي الأحوال لتنسكب نفوسنا في داخلنا على ذواتنا، لا لننشغل بالأنا فتنحجب عنا رؤية الله، وإنما لننطلق إلى ما وراء الأنا، فنرى الله المعتني بنا، وبهذا ندخل إلى خيمته العجيبة ويكون لنا موضع في بيته المقدس. بمعنى آخر إن ما يحجبنا عن رؤية الله ليس الأعداء الذي يُعيّروننا: "أين هو إلهك؟"، وإنما عدم التقائنا مع نفوسنا واجتيازنا للأنا المفسدة لرؤيتنا لله وشركتنا مع شعبه بروح العبادة المفرحة ودخولنا الخيمة الإلهية.

يُعلّق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلاً:

[إذ استراحت (استكانت) النفس في ذاتها لن ترى شيئًا آخر سوى ذاتها، وهي بهذا لن ترى الله...

إن سكناه هو فوق نفسي، فمن هناك يراني... ويرشدني ويعتني بي، ومن هناك يُصغي إليّ ويدعوني ويوجّهني ويقودني في الطريق إلى نهاية سبلي...

يقول إنني سأذهب إلى موضع الخيمة العجيبة، إلى بيت الله! هناك أجد أمورًا عجيبة تحوز إعجابي داخل الخيمة!...

خيمة الله على الأرض هم المؤمنون، يعجبني فيهم ضبطهم لأعضائهم الجسدية، وفيهم يُقال: "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواتها، ولا تقدوا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدموا... أعضاءكم آلات بِرّ لله" (رو 6: 12، 13)...

هناك في مقدس الله، في بيت الله نجد نبع الفهم...

في بيت الله عيدٌ لا ينتهي، لأنه هناك نجد مناسبة لا يُحتفل بها مرة واحدة ثم تمضي. هناك الخورس الملائكي يصنع عيدًا مقدسًا في حضرة وجه الله، هناك الفرح الذي لن يسقط!]

يرى العلامة أوريجانوس أن نفس المرتل هنا هي العروس التي تَّسبح مزامير المصاعد (مز 120-134) وتتغنى بنشيد الأناشيد، عندما تدخل بيت الله، حجال العريس، إذ يقول: [إنها تأتي كما قلنا إلى حجال العريس لكي تسمع وتتحدث بكل الأمور التي يحويها نشيد الأناشيد[811].]

يختم المرتل هذا الاستيخون بقوله:

"لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟

ولماذا تقلقيني؟

توكلي على الله، فإني أعترف له.

خلاص وجهي هو إلهي" [5].

يدرك المرتل أن سرّ مرارة نفسه وانحنائها ليست تعييرات الأعداء ولا مقاومتهم وإنما ضعفه الداخلي، لهذا فإن فرحها هو في الله مخلصها الذي يقيم وجهها الساقط كما في التراب، يرفعه عن عبودية الزمنيات والارتباك بالأرضيات ليستنير بروح الله القدوس وينعم بالشركة مع السمائيين، أن كانت هي التي تحطم النفس، فالله المخلص وحده هو القادر أن يرد لها بهاءها وخلاصها.

v   هوذا نحن ننعم الأن بمباهج داخلية معينة، ننعم بعين العقل القادرة ان تنظر ولو في لمحة عابرة أمرًا لا يقبل التغيير...

"لماذا تئنين فيّ؟ ولماذا أنتِ منحنية؟ إنكِ تشكّين في إلهكِ... "ترجيّ الله"! وكأن نفسه تجيبه سرًا: لماذا أئن فيك، إلا لأنني لم أركض بعد إلى حيث هذا الفرح الذي أُستغرقت

فيه كما إلى لحظة؟!

القديس أغسطينوس

2. ضيقة وحيرة:

"في ذاتي قلقت نفسي،

لذلك أذكرك يارب في أرض الأردن وحرمون من الجبل الصغيرة" [6].

يرى القديس جيروم[812] أن المرتل يذكر الله وهو في الأرض المنخفضة في أرض الأردن أو من الجبل الصغير في حرمون (تعني مُحرّقة)... فإن أي قديس مهما بلغت قداسته يرى نفسه في مذلة كما في أرض الأردن المنخفضة، إذ هو مشتاق أن يرتفع ليبلغ قمم الجبال الشاهقة، بل يبلغ الحياة السماوية.

إن كانت هموم العالم التي تتسلل إلى القلب تحدره إلى أرض الأردن فإننا هناك أيضًا نترجى مراحم الله حيث نلتقي بالسيد المسيح الذي أخلى ذاته ونزل إلى مياه الأردن ليهبنا السماء المفتوحة، ويُسمعنا صوت الآب المفرح، ويهبنا عطية روحه القدوس. هذه هي بركات المعمودية، حيث نذكر الله، أو بمعنى آخر نذكر نعمة الثالوث القدوس فينا.

v   من أين أذكرك؟ من الجبل الصغير ومن أرض الأردن. ربما من المعمودية حيث تُوهب مغفرة الخطايا؛ لأنه لا يركض أحد إلى غفران الخطايا إلا الذي يستاء من نفسه (يشعر بعدم ارتواء)، ولا ينال غفران الخطايا إلا الذي يعترف أنه خاطي، ولا يعترف أحد أنه خاطي مالم يتضع أمام الله. لهذا من أرض الأردن ومن الجبل الصغير تذكرتك. لاحظوا أنه ليس من الجبل العظيم بل الصغير...

وإن سألتم عن معاني الكلمات، فإن لفظة "أردن" تعني "نزولهم". انزلوا فترتفعوا، ولا تتشامخوا لئلا تُطردوا... و"حرمون" معناها "محَّرم"، احرموا أنفسكم باستيائكم منها، لأنكم إن كنتم راضين عنها يستاء الله منكم...

القديس أغسطينوس

يليق بنا أن نذكر الله من أرض الأردن، أي بروح الاتضاع، وخلال بركات المعمودية؛ وأيضًا من الجبل الصغير بحرمون حيث نشعر أن حياتنا كلها بكل إمكانياتها مقدسة لحساب الرب، وفي ملكيته، ليس للعالم ان يجد له موضعًا فيها. أنا صغير ولكنني مقدَّس بالرب وفيه، وذلك بعمل روحه فيّ!

ربما يقصد بأرض الأردن وحرمون الراجعين من السبي حيث يبلغون إلى مشارف أرضهم، هناك يقفون يتأملون عمل الله معهم، بعد سبعين عامًا حيث انقطع كل رجاء في العودة وها هو يردهم لبناء الهيكل! إنها صورة كل مؤمن راجع إلى الله بعد سقوطه، يشعر كمن قد تحرر من عبودية السبي وانطلق إلى أرض موطنه السماوي، يقف على المشارف بفرح، ذاكرًا معاملات الله معه، هذا الذي لم يترك نفسه تنحني تحت نير العبودية، بل يهبها حرية مجد أولاد الله  عند نهر الأردن!

يذكر الإنسان كم من المتاعب قد عانى، ولكن كم من خبرات مراحم الله قد ذاق، لذا يقول مع المرتل:

"العمق نادى العمق بصوت ميازيبك،

كل تيارتك وأمواجك أتت عليّ.

بالنهار يأمر الرب برحمته،

وبالليل يظهرها" [7-8].

هذه هي حال الشعب القديم عندما سلط عليهم الآشوريين ثم الكلدانيين لتأديبهم، وهذا هو حال يونان النبي الهارب من وجه الله، إذ صلى وهو في جوف الحوت، قائلاً: "لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار، فأحاط بي نهر؛ جازت فوقي جميع تيارتك ولججك" (يون 2: 3). إنه يسَّبح الله الذي سمح له بضيق وراء ضيق، ليدخل به كما إلى أعماق البحر، لكن الله حوّل له البحر المالح إلى نهر عذب يحيط به، محوّلاً بريته القاحلة إلى جنة مثمرة. هكذا حلت عليه تيارات تأديب الله التي هي في الحقيقة تظهر أبوة الله ورحمته.

يرى القديس أغسطينوس أن الأعماق التي تُنادي أعماقًا إنما هي "الحكمة" أو "الفهم"، فكلما حلت ضيقة بالمؤمن دخل في علاقته مع الله إلى خبرة جديدة، وتمتع بفهمٍ لأسرار الله في معاملاته مع محبوبه.

يقول الأب أنثيموس أسقف أورشليم: [إن العمق الذي يُنادي عمقًا إنما يشير إلى الكتاب المقدس بعهديه، فمن ينعم بأسرار العهد القديم ويتمتع بأعماقها إنما ينسحب قلبه إلى العهد الجديد ويتعرف على أسراره]. وكما يقول القديس كيرلس: [إن نبوات العهد القديم تُنادي ما يقابلها من تحقيق في العهد الجديد].

يرى القديس كيرلس نقلاً عن أنثموس أسقف أورشليم أن ما ورد في العبارة [8] يشير إلى ما حدث في أيام حزقيال عندما حاصره الآشوريون، فبالنهار أمر الرب بالرحمة، وبالليل أرسل ملاكه وقتل 185.000 من رجالهم (2 مل 19: 32-35).

ويُعلّق العلامة أوريجانوس على القول: "بالنهار يأمر الرب برحمته، وبالليل تسبحته"، أن النهار يُشير إلى الحياة الأبدية التي بلا ليل حيث ندرك مراحم الله في أعماقها العجيبة، أما حياتنا الزمنية هنا فهي كليل لكنه مفرح، فيه نسبح الله ونظهر مجده لأنه وعدنا بمراحم أبدية أكيدة.

على أي الأحوال فإن مراحم الله غير منقطعة، يأمر بها في النهار ويكشف عنها في الليل حيث الضيق والألم والتجارب. نمجده في النهار حيث نسمع وعده، ونسبحه في الليل حيث يتجلى وسط المتاعب.

تأتي تسبحتنا وسط الآلام هكذا:

"أقول لله: إنك أنت هو ناصري.

لماذا تركتني عنك؟!

ثم لماذا نسيتني؟

ولماذ أجوز كئيبًا إذ يحزنني عدوي عن ترضيض عظامي؟!" [9-10].

عندما يدخل الإنسان تحت التأديب يظن كأن الله قد نسيه أو تخلى عنه مع أنه سند أولاده وناصرهم حتى وسط التأديب.

يرى القديس أغسطينوس إن هذه الكلمات هي صرخات السيد المسيح على الصليب، القائل: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟"... [هكذا صرخ رأسنا كمن يتكلم باسمنا (مت 27: 46؛ مز 22: 1].

يختم المرتل المزمور معلنًا إنه وإن كانت عظامه قد ترضضت أو انسحقت بسبب فرط ضيقة وشدة مرارته، ونفسه قد انحنت في أنين، لكنه بفرح يترجىّ الله مخلصه.


 

دموعي صارت لي خبزًا!

v   إليك تشتاق نفسي أيها الينبوع الحيّ،

فإني كالإيل التي تسرع نحو جداول المياه،

وفي طريقها تُصارع مع الحيَّات فيزداد عطشهاّ

هب لي هذا الشوق الحقيقي فأجري إليك،

في غربتي، أحطم بصليبك الحية القديمة،

وآتي وأتراءى قدامك، واستريح في أحضانك!

v   حنيني يزداد لهيبًا... من يقدر أن يطفئه؟!

دموعي صارت لي خبزًا، فأزداد عطشًا إليك!

دموعي لن تجف نهارًا، ولا تتوقف ليلاً!

أسكبها وسط أفراحي، كما في ضيقاتي،

لا أخجل منها وسط كل المحيطين بي،

ولا أُحرم منها في خلوتي الخفية معك!

إنني أهوى هذه الدموع العذبة!

v   بسيل دموعي غير المنقطع أعلن ذكراك الدائم في داخلي،

أذكرك فتذكرني يا من نقشت اسمي على كفك!

هب لي ألا أنساك قط حتى لا أسمع:

لماذا تنساني، وإن نسيتني أنا لا أنساك!

v   إني أذكرك، وأذكر أعمالك معي،

فأنعم برؤياك وأشترك مع شعبك في حياة التسبيح!

أذكرك في داخلي،

فأراك ساكنًا فوق نفسي كما على مركبتك النارية،

أنعم بك، تتطلع إليّ وتقودني وتحملني إليك!

أدخل إلى خيمتك المقدسة، إلى بيتك،

إذ تقيم نفسي خيمة ومقدسًا لك!

هناك أفرح، ولن يقدر أحد أن ينزع فرحك مني!

v   دموعي لن تجف من أجل غنى كلمتك التي تهبني إياها؛

إذ أشاهد أعماقًا تُناي أعماقًا،

أرى نبوات العهد القديم وقد اكتشفت أسرارها،

تتحقق في العهد الجديد!

v   مع كل صباح أنصت إلى وعودك،

وإذ يحل المساء أدخل في ضيق فأكتشف مراحمك.

تبقى أنت ناصري ومخلصي،

تشدد عظامي التي رضضها العدو،

وترفع نفسي التي انحنت في أنين مُرّ.

v   لك المجد يا مخلصي،

فأنت وحدك تقدر أن تمسح دموع نفسي الخفيّة!

<<

 

 

 

 

 

 

 

 


 

المزمور الثالث والأربعون

أحكم لي يارب

قلنا إن المزمورين 42 و 43 يمثلان صرخة واحدة سجلها داود النبي وقدمها لبني قورح لتلحينها؛ في المزمور 42 يتحدث عن الماضي والحاضر أما المزمور 43 فيُعبر عن المستقبل.

إنه مرثاة لها وجهان: وجه مُرّ وآخر مبهج، إذ يرى المرتل الآلام تنتظره لكن ليس بدون أمجاد، لهذا يُعبر المزمور عن شركة الآلام مع المسيح وخبرة مجد قيامته وبهجتها.

يُقدم لنا الآباء ثلاثة تفاسير للمزمور:

1. يمثل المزمور لسان حال الراجعين من السبي البابلي[813]، وهو يتحدث بصيغة المفرد، إما لأن الراجعين يمثلون الشعب الواحد، أو لأن الراجعين كانوا قلة قليلة... وقد تهللت نفس الراجعين بنور الله وحقّه عندما انطلقوا بفرح إلى جبل الله، مشتاقين للتمتع بالمذبح المقدس، والتَّرنم بقيثارة الروح.

2. يرى العلامة أوريجانوس[814] والقديس أثناسيوس أنه مزمور السيد المسيح المتألم، الذي يُعاني من ظلم اليهود، الأمة غير البارة، ومن خيانة يهوذا، الإنسان الظالم الغاش... إذ حمل خطايانا صار كمن هو متروك من الآب، يُعاني في البستان من الحزن الشديد، إذ قبل كأسنا المُرّ! بالصليب دخل بنا إلى المذبح الإلهي الفريد، ووهبنا روح الفرح والتسبيح عوض الأنين والحزن!

3. يرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور هو حديث صادر عن النفس البشرية التي تشتكي من أمرين: الخطية كعدو داخلي، والأشرار كأعداء خارجيين. لكنها وجدت الله مخلصها الذي يرفعها إلى كنيسته، جبل المقدس ومسكنه، لتجد في ذبيحته الكفارية وفي سرّ الأفخارستيا ما يرد لها شبابها، فتفرح وتتهلل، لتقدم بكل حياتها سيمفونية حب عوض الحزن الشديد والمرارة.

العنوان:

في النسخة العبرية ليس لهذا المزمور عنوان، ربما لكونه تكملة للمزمور السابق. وجاء عنوانه في الترجمة السبعينية: "مزمور لداود"؛ أما في السريانية: "مزمور لداود عندما أبلغه يوناثان أن شاول يود قتله، وصلاة للنبي، وهو أيضًا يستخف باليهود".

الإطار العام:

1. أحكم لي يارب           [1-2].

2. التمتع ببيت الخلاص     [3-4].

3. الله مخلص وجهي        [5].

1. أحكم لي يارب:

"أحكم لي يارب وانتقم لمظلمتي

من أمة غير بارة؛

ومن إنسان ظالم غاش نجني" [1].

إنها تعزية فائقة لا يمكن التعبير عنها أن نكون قادرين أن نسأل الله كي يقضي لنا، فإن قضاءه حق، بغير محاباة، يتم ليس حسب المظاهر بل حسب القلب. من يقدر أن يُسلم طريقه لله بضمير صالح لا يخشى شيئًا. فإنه إذ لا يستطيع الأبرار أن يستخدموا الغش والظلم، الأسلحة التي يوجهها الأشرار ضدهم، لهذا فإن ملجأهم الوحيد هو الله؛ عندما يكون في صفهم لن يصيبهم ضرر حقيقي.

v   إنني لا أخشى قضاءك، لأنني أعرف رحمتك.

إنه يصرخ: "أحكم لي يا الله".

الآن، إذ أنا في حالة تغرُّب لم تفصل (يا الله) مكاني (عن مكان الأشرار)، إذ يجب عليّ أن أعيش مع الزوان إلى وقت "الحصاد". إنك لا تفصل بين المطر الذي ينزل عليّ ومطرهم، لكنك تفصل في قضيتي. لتُميز بين من يؤمن بك ومن لا يؤمن. فضعفنا مساوٍ، لكن ضمائرنا ليست واحدة. آلامنا واحدة، لكن اشتياقاتنا ليست هكذا. اشتياق الشرير يُباد، أما اشتياق البار فكان يمكن الشك فيه لو أن الذي وعد غير مضمون، لكن موضوع اشتياقنا هو الله نفسه الذي يَعِد.

القديس أغسطينوس

يرى الأب أنثيموس أسقف أورشليم أن الحديث هنا يمثل صرخة إنسان بار مثل دانيال وهو في مرارة السبي، فإنه ليس من ينقذه وينقذ شعبه إلا الله وحده. يرى نفسه محوطًا بالأشرار سواء على مستوى الجماعة أو الأفراد، فهو في وسط أمة وثنية لا تعرف برّ الله؛ كل واحد منهم هو "إنسان ظالم غاش".

أما أوريجانوس فيقول: [إن هذا القول هو من قبل ربنا يسوع المسيح الذي يلتمس المحاكمة بينه وبين اليهود، فيدعوهم أمة غير بارة، وعن الإنسان الظالم الغاش فهو يتكلم عن يهوذا مسلمه].

على أي الأحوال هذا القول ينطبق على الكنيسة جسد المسيح المتألم، كما هاجمته خاصته التي أحبها، وخانه تلميذه الذي أكل خبزه، هكذا كل عضو في جسده يتعرض للهجوم، فيتحقق فيه القول: "أعداء الإنسان أهل بيته".

لنصرخ إلى الله حين يهيج قوم علينا أو أفراد، أحباء أو أعداء، متأكدين أننا أبناء الله موضع اهتمامه، نُنسب إليه وينسب نفسه إلينا بكونه إلهنا.

"لأنك أنت هو إلهي وقوتي.

لماذا أقصيتني؟

ولماذا أسلك كئيبًا إذ يحزنني عدويّ؟" [2].

يصرخ المرتل إلى الله بكونه إلهه الشخصي وقوته، فإن كان الكل قد فارقه أو صار مقاومًا له لكن يبقى الله وحده الملاصق له بكونه إلهه بل وقوته... فبدالة يصرخ: "لماذا أقصيتني؟" أو "لماذا تركتني؟". من حقي أن ألتجئ إليك وأعاتبك... فلا تتركني في حزني.

v   إني أذهب حزينًا: فالعدو يزعجني بتجارب يومية، إما بحب دنس أو خوف بلا سبب. والنفس التي تقاومهما تتعرض لخطرهما حتى وإن كانت ليست تحت أسرهما، لذا تنقبض من الحزن وتقول لله: "لماذا؟".

v   لماذا تسأل: "لماذا أقصيتني؟ لماذا أسلك حزينًا؟" فقد سمعت: "إنه بسبب الإثم". الإثم هو علة الحزن، فليكن البرِّ علة ابتهاجك!

v   إنك تشتكي من العدو؛ هذا حقيقي فإنه يُضايقك، لكنك أنت الذي أعطيته الفرصة.

v   الآن يوجد سباق مفتوح أمامك: اختر سباق الحكمة، انضم إلى ملكك، وأوصد الباب في وجه الطاغية.

القديس أغسطينوس

هذا ويلاحظ أن المرتل حتى في شكواه لله ضد العدو يقول: "لماذا أسلك (أسير) كئيبًا؟" لم يقل: "لماذا أنا محاصر في الحزن؟" بل "لماذا أمشي حزينًا؟" فإن أولاد الله لا يعرفون التوقف حتى إن حاصرتهم ضيقات من كل جانب بل هم دائمًا سائرون في الطريق الملوكي، الضيق بالنسبة للمؤمن الحقيقي يدفعه بالأكثر للعمل بل وللركض حتى يبلغ جعالة الله العليا.

حين وقف العالم كله ضد القديس أثناسيوس لم يتراخ عن الجهاد بل قال في يقين واتكال على مخلصه: [وأنا ضد العالم]. ولم تتوقف القديسة مونيكا عن حركة العمل بالرغم من مقاومة زوجها وحماتها وأولادها حتى الخدم لها... وقدمت لنا بجهادها الروحي المستمر القديس أغسطينوس ثمرة دموعها.

2. التمتع ببيت الخلاص:

إذ صرخ المرتل إلى الله إلهه ومخلصه وقوته معلنًا أنه يبقى سائرًا في الطريق الملوكي بالرغم من محاصرة الأحزان له ومضايقات الأعداء المستمرة له... الآن يطلب الله نورًا له يهديه إلى كنيسته بكونها بيته المقدس، بيت الخلاص.

"ارسل نورك وحقك

فإنهما أهديانني وأصعداني إلى جبلك المقدس وإلى مسكنك (خيامك)؛

فأدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله،

الذي يفرح شبابي" [3-4].

أ. ما هو النور والحق اللذان يهديانني ويرتفعان بي للبلوغ إلى القمة جبل الله إلا السيد المسيح الذي هو "نور العالم" وهو "الحق". كثير من الآباء يرون أن النور هو الحب، والظلمة هي البغضة أو الكراهية؛ وكأن السيد المسيح وهو النور والحق يهبنا روح الحب الحقيقي لينتشلنا من ظلمة هذا العالم، ويحملنا إلى نور سمواته.

لن نستطيع أن ندخل إلى العضوية الكنسية، كأعضاء في جسد المسيح ما لم نقبل الاتحاد مع المسيح الرأس، فيكون لنا نورًا وحقًا وحبًا.

v   فإن هذا "النور" وذاك "الحق" هما في الحقيقة اثنان يُعبران عن حقيقة واحدة. لأنه ما هو نور الله إلا حقه؟ أو ما هو حق الله إلا نوره؟ شخص المسيح الواحد هو كلاهما. "أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة" (يو 12: 46)؛ "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). هو نفسه "النور"، وهو نفسه "الحق".

ليأتِ ويُخلصنا ويفصل في قضيتنا مع أمة غير بارة، وينقذنا من إنسان غاش وظالم. ليفصل الحنطة من الزوان، فإنه في وقت الحصاد سيرسل بنفسه ملائكته لكي يجمعوا من ملكوته كل أثيم ويطرحونه في لهيب نار، بينما يجمعون الحنطة معًا في الهري.

القديس أغسطينوس

يقول الأب أنثيموس أسقف أورشليم:

[يقول النبي: "نور" ويعني "الفرح"، لأن الضيق والحزن هما قتام يظلم القلب؛ ومعناه ارسل فرحك الحقيقي وعونك ليبلغا بي إلى جبل صهيون وإلى مساكنك، أي إلى هيكل قدسك. وهذه هي طلبة المسبيين في بابل، الذين يلتمسون الاطلاق من أسرهم].

وأما القديس أثناسيوس الجليل فيقول: [إن هذه هي طلبة الأنبياء إلى الله الآب لكي يرسل ابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح القائل: "أنا هو نور العالم، الذي يهدينا إلى أعلى السماء وإلى المساكن السماوية].

ويقل أوريجانوس: [إن جبل قدس الله هو ملكوته. وأما المساكن فهي مساكن القديسين، لأن ربنا له المجد يقول إن في بيت أبي منازل كثيرة].

ب. إن كان قبلاً في أنينه يقول: لماذا أسلك كئيبًا؟ فإنه لا يكتفي بالسلوك أو مداومة السير في الطريق الملوكي، إنما يطلب عونًا إلهيًا وتدخلاً إلهيًا لكي "يصعد"... هذا هو عمل السيد المسيح "المربي"، يهبنا روحه القدوس الذي يصعد بنا إلى جبله المقدس وإلى مسكنه، أي إلى الحضرة الإلهية (الجبل المقدس)، وإلى شركة القديسين بكونها سكنى الله وسط شعبه.

يرى البعض أن ذكر "جبل الله" و "مسكن (خيام) الله" يُشير إلى أن الكاتب لا يمكن أن يكون قبل داود النبي ولا بعد سليمان، فقبل داود لم يكن يُعرف جبل مقدس لله، وبعد سليمان لم تُعرف الخيمة حيث بُني الهيكل. أما ذكر "خيام" بالجمع فلأنه في أيام داود النبي وُجدت خيمتان للعبادة الإلهية، واحدة في صهيون كما تكرر في الكتاب المقدس وأخرى في جبعون (1 أي 16: 37-39).

على أي الأحوال لم يفصل الآباء حبنا لله عن تقديرنا لبيته، حتى في الغرب يحذر بعض الدارسين من تجاهل الارتباط ببيت الرب. يقول أحدهم إن من ليس فيه حب بيت الله هو بلا تقوى[815]، ويقول آخر[816]. إن الذين يقتادهم الله إنما يقتادهم إلى جبله المقدس وإلى خيامه، أما الذين يتظاهرون أن الروح يقتادهم (تاركين الكنيسة بيت الله) ينتكصون على أعقابهم، مخالفين الوصايا المكتوبة، هؤلاء بكل تأكيد يخدعون أنفسهم.

v   جبله المقدس هو كنيسته المقدسة، ذلك الجبل الذي بحسب رؤيا دانيال كان حجرًا صغيرًا جدًا حطّم ممالك الأرض، نمى حتى غطى وجه الأرض.

من كان خارج هذا الجبل لا يترجى الحياة الأبدية، فإن كثيرين يجتهدون في صلواتهم لأسباب كثيرة، لكن يلزمهم ألا يفرحوا بهذا الاجتهاد، لأن الشياطين أيضًا كانت نشيطة في صلواتها حين طلبت إرسالها لتدخل في الخنازير.

لنشتهِ الجهاد لأجل بلوغ الحياة الأبدية، وبهذا الاشتياق نقول: "إرسل نورك وحقك".

v   الخيمة هي للرُّحل وأما المسكن فهو للذين هم في شركة واحدة.

الخيمة هي لأهل البيت ولمن هم في حالة حرب، لهذا عندما تسمع عن أخبار خيمة وتدرك وجود حرب احترس من العدو!

القديس أغسطينوس

ج. يُدعى بيت الله بيتًا للخلاص لأنه يقوم على ذبيحة الصليب بكونها سرّ المصالحة مع الله وتمتع بالاتحاد معه. لهذا كانت أنظار المرتل متجهة إلى المذبح، إذ يقول: "فأدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله".

عندما نتحدث عن المذبح الذي يظهر في الهيكل فإننا نشير أيضًا إلى مذبح آخر يُقام داخل نفوسنا، ليس هو آخر بل هو واحد معه.

v   (صلسس) لم يدرك أن نفس كل إنسان صالح منا إنما هي مذبح يرتفع منه بخور، بالحق والروح ذو رائحة ذكية، أي الصلوات بضمير نقي...

في إختصار نقول إن جميع المسيحيين يُجاهدون في إقامة مذابح وتماثيل (مثل الكاروبين) من هذا النوع، ليست بلا حياة أو بلا مشاعر، بل هي قادرة على تقبل روح الله[817].

العلامة أوريجانوس

v   نحن نفهم روحيًا أن الإيمان هو مذبح هيكل الله الداخلي، وإليه يرمز الهيكل المنظور. فكل عطية نقدمها لله، سواء نبوة أو تعليم أو صلاة أو تسبحة أو ترنم بالمزامير أو أي عطايا أخرى روحية نابعة عن الذهن، لن يقبلها الله إن لم تقدم بإيمان صادق، فتوثق تمامًا وتُثبَّت على هذا المذبح بغير حراك، عندئذ تخرج كلماتنا نقية بلا دنس[818].

القديس أغسطينوس

v   المذبح السماوي الذي يقوم بيننا هنا هو اجتماع الذين كرسوا حياتهم للصلاة، فيكون لهم صوت واحد وفكر واحد[819].

القديس أكليمندس الإسكندري

يدعو القديس أغناطيوس الأنطاكي[820] الكنيسة "مكان الذبيحة Thysiasterion" في أكثر من موضع، وذلك حين كتب رسائله وهو في طريقه إلى الاستشهاد. لقد عرف الكنيسة بكونها حياة مع السيد المسيح الذبيح، تتمتع بالأفخارستيا، جسد الرب ودمه، هبة المذبح للمؤمنين، وها هو ينطق ليُقدم حياته ذبيحة حب على مذبح الله خلال الاستشهاد. وكأن الكنيسة في حقيقتها هي الجلجثة التي تعلن الحب المتبادل بين الله والإنسان، فيها تُعلن ذبيحة المسيح الكفارية الفريدة على المذبح المقدس، وفيها أيضًا يشتهي المؤمن أن يموت كل النهار من أجل محبوبه الذبيح. هذا ما عبَّر عنه القديس أغسطينوس قائلاً[821]:

[إنها الذبيحة الجامعة، يُقدمها الكاهن الأعظم لله، هذا الذي قدم نفسه بالآلام من أجلنا لكي يجعل منا جسدًا لرأس عظيم كهذا.

هذه هي ذبيحة المسيحيين، حيث يصير الكل في المسيح يسوع جسدًا واحدًا فريدًا.

هذا ما تُقدسه الكنيسة خلال سرّ المذبح!

فإنها وهي ترفع القرابين لله تُقدم نفسها قربانًا له!...].

كما يقول:

[لأنه يوجد في السماء مذبح معين غير منظور، لن يدنو منه الإنسان  الشرير...

ما هو نوع الذبيحة هناك؟ الذي يدخل هناك هو نفسه يُقدم ذبيحة محرقة].

د. إذ يدخل المرتل بيت الخلاص يترنم، قائلاً: "الذي يفرِّح شبابي" [4]. تحوَّل إلى شاب متهلل للروح لا يقدر الزمن أن يدخل به إلى الشيخوخة العاجزة، ولا الأحداث المُرّة أن تفقده فرحة الشباب.

يرى القديس أغسطينوس أننا في هذا العالم كمن في حالة شيخوخة محزنة، لكن الله يعمل فينا ليدخل بنا إلى تجديد أبدي مفرح حيث نسمع قول السيد: "ها أنا أصنع كل شيء جديدًا" (رؤ 21: 5).

نحن نختبر فرح الشباب خلال تجديد الطبيعة الذي نلناه في مياه المعمودية بالروح القدس الذي يجدد مثل النسر شبابنا، ويبقى الروح عاملاً فينا واهبًا إيانا تجديدًا مستمرًا خلال التوبة الدائمة وشركة الحياة مع الله، حيث نخلع أعمال الإنسان العتيق ونلبس أعمال الإنسان الجديد. يقول الرسول: "إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة؛ الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17).

3. الله مخلص وجهي:

إذ ينعم المرتل بالخلاص خلال كنيسة المسيح، موضع الذبيحة، وبيت الخلاص، يترنم بفرح قائلاً:

"أعترف لك بالقيثار يا الله إلهي.

لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟

ولماذا تزعجينني؟

توكّلي على الله فإني أعترف له.

خلاص وجهي هو إلهي" [5-6].

أ. إذ يدخل المرتل إلى الكنيسة يجد ما هو عام خاص به، فالله إله الكنيسة كلها هو إلهه الشخصي... لذا يُكرر تعبير "الله إلهي". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بدافع من حبه الشديد يمسك بالأمور العامة ويعتبرها خاصة به، كما اعتاد الأنبياء أن ينطقوا من وقت إلى آخر[822]].

ب. رفض اليهود المسبيين أن يعزفزا للرب التسابيح بآلات موسيقية علامة حزنهم وانتظارهم العودة إلى أورشليم مدينة الله المفرحة، وقد قيل في المزامير:

"على أنهار بابل هناك جلسنا،

فبكينا عندما تذكرنا صهيون.

على الصفصاف في وسطها علقنا أداة ألحاننا (قيثارتنا)،

لأنه هناك سألنا الذي سبونا أقوال التسبيح.

والذين استاقونا إلى هناك قالوا:

سبحو لنا تسبحة من تسابيح صهيون.

كيف نسبح تسبحة الرب في أرض غريبة؟!" (مز 136 "137").

إذن العزف للرب بالقيثارة إنما يعني العودة إلى أورشليم حيث يمارس المؤمنون تسابيحهم ببهجة قلب.

القيثارة كما سبق فرأينا تُشير إلى جسد المؤمن متى سلمه في يدي الروح القدس ليعزف على أوتاره تسبحة الحب والقداسة، فتشهد أعضاؤه وأحاسيسه ومشاعره وكل طاقاته لعمل الله وبره!

يرى القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نضرب على القيثارة والعود بطاعتنا للوصايا واحتمالنا الآلام... بهذا نسبح الله!

أخيرًا إذ ينعم المرتل بعطايا الله ومخلصه، يطلب من نفسه ألا تبقى بعد منحنية ولا في أنين بل ترتفع وجهها لترى وجه الرب... تلتقي مع عريسها المخلص لتبقى معه في سمواته كما في بيت العريس الأبدي!

 


 

في بيت الخلاص!

v   حينما يقف الكل ضدي،

أراك أيها المخلص تفتح لي جنبك المطعون،

وتدخل بي إلى أسرار حبك،

وتحسبني أهلاً للسكنى معك في مقدسك!

v   ليعمل عدو الخير كل ما في وسعه،

فإنني وإن امتلأت كآبة،

لكنني فيك أسير متهللاً،

ترفعني إلى بيتك،

وتدخل بي إلى مذبحك،

فأحسب نفسي لست أهلاً أن أتألم من أجلك!

v   قدمت حياتك ذبيحة حب كفارة عن خطاياي،

إقبل حياتي ذبيحة محرقة لأجلك!

v   في بيتك أتمتع بمذبحك الإلهي،

أتناول جسدك ودمك المبذولين عني!

أقم مذبحك في أعماقي،

ولتشتم عبادتي بخورًا طيبًا يصعد إلى سمواتك!

v   لماذا تئن نفسي في داخلي،

وها أنت تشتاق أن تراني،

تحملني بروحك القدوس إلى سمواتك؟!

v   لك المجد أيها الحبيب والمحبوب،

فإنني أترقب يوم لقاك؛

أراك وجهًا لوجه وأنعم بشركة أمجادك!

<<

 

 

 


 

المزمور الرابع والأربعون

حُسبنا مثل غنم للذبح

المناسبة:

زمان ضيقة حلّت بالشعب كله [9-14]، ليس بسبب ارتداد أو سقوط في العبادة الوثنية [17-21]، وإنما كانت اختبارًا للإيمان. فالمزمور يمثل صرخة شعبٍ متألم لأجل البِرّ، وهي صرخة تبقى تدوي عبر العصور منذ أباك آدم حيث قتل قايين هابيل بلا ذنب، لها صداها حتى في الفردوس حيث يصرخ الشهداء الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة إلى كانت عندهم، قائلين: "حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟!"... وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم واخوتهم أيضًا العتيدون أن يُقتلوا مثلهم" (رؤ 6: 9-11). إنه موكب الأجيال كلها.

يُعتبر هذا المزمور نموذجًا للدخول في الآلام على مستوى الشعب لا للتأديب بل للمشاركة في الحب الإلهي، إذ نقول: "لأننا من أجلك نُمات كل يوم، وقد حُسبنا مثل الغنم للذبح" [22].

ويعتبر هذا المزمور مثلاً حيًا لحياة الشركة الجماعية مع ممارسة العلاقات الشخصية مع الله... فكثيرًا ما يتحدث المرتل باسم الجماعة دون تجاهل لحديثه الشخصي مع الله ملكه وإلهه... إذ يقول: "أنت هو ملكي وإلهي الذي أمرت بخلاص يعقوب" [4]؛ فهو يصرخ إلى إلهه من أجل الكنيسة (يعقوب) كلها!

الإطار العام:

1. معاملات الله في الماضي           [1-3].

2. قرن خلاص دائم                  [4-8].

3. امتحان الإيمان الحاضر           [9-16].

4. كلمة عتاب                        [17-22].

5. صرخة من أجل الخلاص          [23-26].

1. معاملات الله في الماضي:

يُستهل هذا المزمور بتسبحة جماعية يترنم بها الشعب وسط الضيق، حيث يتطلع

الكل إلى معاملات الله في الماضي، فيقولون:

"اللهم بآذاننا قد سمعنا؛

وآباؤنا أخبرونا بالعمل الذي عملته

في أيامهم في الأيام الأولى" [1].

يعود الشعب كله بذاكرته إلى معاملات الله مع آبائهم في أيام موسى النبي ويشوع بن نون حين حررهم الله من عبودية فرعون وطرد أمامهم أممًا وقدم لهم أرض الموعد، لا بسيفهم ولا بقدرتهم، وإنما حسب غنى مواعيد الله. إنه عمل نعمة الله الغنية في بدايته كما في نهايته.

الماضي بالنسبة لنا كأولاد لله ليس تاريخيًا عبر وانتهى، لكنه خبرة ممتدة عبر الزمن يعيشها الإنسان مع الله مخلصه المعتني به. الله بالنسبة لنا هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، عمل في الماضي ولا يزال حيًا يعمل في الحاضر مؤكدًا صدق مواعيده معنا حتى يدخل بنا إلى شركة أمجاده المقبلة.

يقول "الهّم بآذاننا قد سمعنا" يعني أن ما بلغهم من آبائهم عن معاملات الله معهم هو أمر أكيد خالٍ من كل ريب.

إنه من واجب الآباء أن يقدموا لأبنائهم خبرة حياتهم مع الله بكونها وديعة الإيمان الحيّ العامل عبر الأجيال، التقليد المُسلم مرة للقديسين، تعيشه الكنيسة عبر الأجيال لتختبر الحياة الإنجيلية الفعّالة. ويليق بالأبناء أيضًا أن يتلقنوا هذه الخبرة المعاشة، والإنجيل العملي ليعيشوه كما عاشته الأجيال الأولى. يقول موسى النبي: "سل أباك فيخبرك" (تث 32: 7).

يُقدم لنا الأب بابياس أسقف هيرابوليس تلميذ القديس يوحنا الإنجيلي خبرته فيقول:

[لا أتردد في أن أضيف ما تعلمته وما تذكرته جيدًا من تفاسير تسلمتها من الشيوخ، لأني واثق من صحته تمامًا... فإنني ما ظننت أن ما يُستقى من الكتب يفيدني بقدر ما ينقله الصوت الحيّ الباقي[823]].

ما هي الخبرة التي ذاقها المرتل مع الشعب؟

"يدك استأصلت أممًا وغرستهم،

أضررت بالشعوب وأخرجتهم.

لأنه ليس بسيفهم ورثوا الأرض،

ولا ذراعهم خلصهم.

لكن يمينك وذراعك وضوء وجهك،

لأنك سررت بهم" [2-3].

1. أول هذه الخبرات هي أن يد الله استأصلت أممًا وثنية ليغرس شعبه. هذه هي خطة الله في حياة الإنسان، يريد أن يستأصل كل مملكة فاسدة في القلب ليقيم ملكوته داخله (لو 17: 21).

ما هي يد الله التي تستأصل لتغرس إلا الكلمة الإلهي، الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو 1: 3). الكلمة الخالق والعامل تجسد لأجلنا ليطرد عنا الطبيعية الفاسدة ويغرسنا فيه أعضاء جسده المقدس. لقد عرفت الشياطين رسالة السيد المسيح، الكلمة المتجسدة، لذلك أثناء خدمته كانت تصرخ: "أتيت لتطردنا!". حقًا لقد جاء لكي يُحطم مملكتهم ويطردهم من قلب الإنسان كما من السماء ليعلن مجده السماوي فينا. لهذا قال للتلاميذ: "رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق".

2. "ليس بسيفهم ورثوا الأرض ولا ذراعهم خلصهم".

هذه هي خبرة أولاد الله عبر العصور، فإن شعبه لم يتحرر من عبودية فرعون بذراع بشري ولا بسيف مادي، وإنما بدم الحمل واهب الخلاص. قال موسى للشعب: "لا تخافوا؛ قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم... الرب يُقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 13، 14). وقد رنم الكل قائلين: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر؛ الرب قوّتي ونشيدي؛ وقد صار خلاصي... الرب رجل حرب" (خر 15: 1-3).

لم يغلب موسى عماليق بالسيف وإنما ببسط يديه كما على مثال الصليب.

وعند دخول يشوع أرض الموعد حطم أسوار أريحا لا بالسيف بل بأبواق الهتاف وتابوت العهد (يش 6: 4).

وقال داود الصبي لجليات الجبار: "أنت تأتي إليّ بسيف وبرُمح وبترس؛ وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1 صم 17: 45).

لسنا نرث أرض الموعد، أورشليم العليا، بسيفنا وإنما بسيف الرب الخارج من فمه (رؤ 1: 16؛ 19: 15) القادر أن يفصل الحق عن الباطل، يبتر فينا ما هو دنس.

3. سرّ النصرة هو يمين الرب وذراعه وبهاء وجهه [3].

v   "يمينك" هو قوتك، ذراعك هو ابنك ذاته، ونور وجهك.

ماذا يعني هذا إلا أنك كنت حاضرًا معهم؛ بمعجزات مثل هذه أُدرك حضورك. فإنه عندما يظهر حضور الله بأية معجزة هل نرى وجهه بعيوننا؟ لا، وإنما بفاعلية المعجزة يقترب بحضرته إلى الإنسان.

القديس أغسطينوس

سرّ نصرتنا هو كلمة الله المتجسد فهو:

أ. يمين الآب، أي قوته؛ بكونه كلمة الله العاقلة أو عقل الله الناطق. يقول العلامة أوريجانوس[824]: [إنه دُعي هكذا لأن به صنع كل الكائنات مُظهرًا قوة الله].

ب. ذراع الرب، لأن كل عطية إلهية هي من عند الآب بالابن في الروح القدس. هي عطية واحدة يُقدمها الآب بتدبيره، ويحققها الابن الكلمة العاقلة، لذا دُعي ذراع الآب أو يده. عندما يقول الكتاب إن الرب بسط يده أو شمر عن ذراعه، إنما يقصد بذلك التجسد الإلهي، حيث نزل إلينا مخبرًا إيانا عن خطة الآب وحبه وعمله[825].

ج. بهاء وجه الآب، وكما يدعوه الرسول: بهاء مجده" (عب 1: 2). فهو بهاء النور، وواحد معه؛ إذ لا يمكن أن يكون النور نورًا بغير بهاء، ولا وجود للبهاء بدون النور... لهذا قيل أيضًا عنه: "نور من نور"، لأنه هو البهاء الصادر عنه أزليًا غير منفصل عنه في ذات الجوهر[826].

4. لعل من أروع الخبرات التي يتسلمها أولاد الله من خلال معاملاته مع مؤمنيه عبر التاريخ أنهم موضع سرور الله. هذا ما عبر عنه المرتل بقوله: "لأنك سررت بهم" [3].

الله ليس في عوز إلينا، إنما هو الحب المعطاء، الذي يود أن يعطينا شركة الحياة معه، لا لسبب آخر سوى أننا موضع سروره. إذ أخطأنا إليه جاء كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه ذبيحة حب وطاعة فيشتمَّها الآب رائحة سرور ورضا حتى إذ نصير أعضاء جسده نُحسب موضوع سروره ورضاه، نازعًا لعنة الخطية عنا!

2. قرن خلاص دائم:

إذ يعتز المرتل بمعاملات الله مع شعبه في الماضي يحوّل هذه الخبرة إلى واقع حاضر حيّ، باختبار خلاص الله كحياة حاضرة مُعاشة.

1. خلاص جماعي شخصي، يرى في الله العامل في التاريخ كله أنه ملكه الشخصي وإلهه، وفي نفس الوقت خلال حياة الشركة الشخصية يطلب المرتل باسم الجماعة (يعقوب)، إذ يقول:

"أنت هو ملكي وإلهي،

الذي أمرت بخلاص يعقوب" [4].

خلال العلاقة الشخصية التي تربط المرتل بالله إله كل البشرية، حاسبًا إياه ملكه وإلهه صارت له ملء الدالة أن يطلب الله بوعوده... فقد وعد بخلاص شعبه، إذ يقول له: "أنت أمرت بخلاص يعقوب".

ما أجمل أن يستغل المؤمن دالته لدى الله لا لنفعه الخاص بل لبنيان الجماعة كلها، وخلاص الغير؛ فحينما ننسى أنفسنا نحبها، وحينما نطلب من أجل الغير ننال لحسابنا أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب.

2. إذ نتمسك بدالة بوعود الله مع شعبه نحمله "قوة لنا"، به ننال الغلبة على عدو الخير الذي لا يكف عن أن يشتكي ضدنا.

"بك نذبح أعداءنا،

وباسمك نرذل كل الذين يقولون علينا" [5].

لا يميز المرتل بين "الله" و"اسم الله"، فبالله نذبح أو ننطح أعداءنا، وباسمه نرذِل المشتكين علينا أو ندوس على مقاومينا. لأن اسم الله إنما يعني الحضرة الإلهية!

من هم أعداؤنا الذين نذبحهم إلا أعمال الإنسان القديم؟! ومن هم الذين نرذلهم إلا الخطايا والأرواح الشريرة؟! فالمؤمن الحقيقي إذ يقبل الله ملكًا يُسلم حياته الداخلية وجسده وسلوكه وممتلكاته لحساب الملك، فيعيش في ملكوت الله الذي لا يعرف الفشل أو الهزيمة.

3. نفتخر بالله مخلصنا، ونعترف باسمه، ونمجده من أجل أعماله معنا.

"لأني لست بمتكل على قوسي،

وسيفي لن يخلصني.

لأنك أنت الذي نجيتنا من الذين يحزنوننا.

وأخزيت الذين يبغضوننا.

بإلهنا نفتخر اليوم كله.

وباسمك نعترف إلى الدهر" [6-8].

إذ أنت ملكنا يخلص شعبك لا بقوتهم ولا بأسلحتهم بل بك، فتصير موضوع فخرهم وتسبيحهم الذي لا ينقطع.

v   هكذا كان الماضي، فماذا عن المستقبل؟ بك نذرّي أعداءنا. فسيأتي وقت فيه يُذرَّى أعداء المسيحيين كالقش، يُنفخون كالتراب، ويُطردون من الأرض (الجديدة أي الأبدية)... هذا بخصوص المستقبل.

إنني لا أثق في قوسي، كما لم يثق آباؤنا في سيفهم؛ وسيفي لن يخلصني [6]...

v   ماذا يعني "سنفتخر"؟ ماذا يعني "سنعترف" [8]؟

إنك تخلصنا من أعدائنا، إذ تعطينا ملكوتًا أبديًا، وفينا تتحقق الكلمات: "طوبى للذين يسكنون في بيتك، أبدًا يسبحونك".

القديس أغسطينوس

v   حينما يُريد الشيطان اصطيادنا في شباكه، ولا يجد شيئًا فينا يخصه، يرحل مرتبكًا، أما نحنن فنستطيع أن نسبح الله مع النبي، ونقول للرب: "الذي نجيتنا من الذين يحزنوننا وأخزيت الذين يبغضوننا"[827].

الأب قيصريوس أسقف آرل

3. امتحان الإيمان الحاضر:

يصف المرتل الضيقة الحاضرة في مرثاة جماعية مُرّة، جاء فيها:

1. يشعر المرتل كأن الله قد سحب نفسه من وسط جيش شعبه، فصار الكل ضعيفًا للغاية، وحلّ بهم الخزي والعار.

"فالآن قد أقصيتنا عنك

وأخزيتنا،

ولم تخرج معنا في قواتنا" [9].

مل حلّ بالشعب ليس بسبب قوة العدو وإنما بسبب انسحاب الله إلى حين، وفي هذه المرة ليس بسبب خطية معينة للتأديب وإنما لامتحان إيمانهم.

v   "قد أخزيتنا"، ليس أمام ضمائرنا بل في أعين الناس، حيث كان (المسيحيون) في كل موضع يُطردون. اعتادوا أن يقولوا في كل مكان: "إنه مسيحي" كما لو كانوا مقتنعين أن هذا سب وعار!

أين إذن "إلهنا وملكنا" الذي "أمر بخلاص يعقوب"؟

أين ذاك الذي صنع كل هذه الأعمال التي أخبرنا بها آباؤنا؟

أين ذاك الذي صنع بعد ذلك كل الأمور التي أعلنها لنا بروحه؟

هل تغير؟! بلى، فإن هذه الأمور قد صُنعت "للفهم لبني قورح". إذ يليق بنا أن نفهم شيئًا وراء ذلك من أسباب، لماذا أراد لنا أن نُعاني كل هذه الأمور في وقت معين. ما هي هذه الأمور؟ لقد أقصيتنا وأخرجتنا ولم تخرج معنا يا الله في قواتنا!

لقد خرجنا لنلتقي بأعدائنا، وأنت لم تخرج معنا. لقد رأيناهم أقوياء جدًا، ونحن بلا قوة. أين هي قدرتك؟ أين يمينك وقوتك؟ أين هو البحر الذي جفَّ والمصريون المقتفون الأثر غارقين في أمواجه؟ أين انهيار مقاومة عماليق بعلامة الصليب؟ "أنت يا الله لم تخرج معنا في قواتنا".

القديس أغسطينوس

كثيرًا ما يسحب الله يديه عنا إلى حين لا ليتخلى عنا وإنما لكي يعلمنا ويدربنا إننا بدونه لا نقدر أن نغلب، ولكي يهبنا فرصة إعلان حبنا له بالجهاد حتى وإن لم توجد تعزيات سماوية. هذا ما أوضحه القديس أنبا أنطونيوس في رسائله، إذ يقول: [بإن الله في بداية الطريق يقدم تعزيات كثيرة تملأ القلب فرحًا وتبعث فينا روح الجهاد، لكنه يرفع تعزياته إلى حين دون أن يتركنا فنشعر بجفاف شديد... هنا نعلن حبنا له من أجله ومن أجل حبنا له حتى وإن لم ننل تعزيات، بإصرارنا على الجهاد وطلب نعمته المجانية!

يُشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية تسحب يديها من تحت يديْ الطفل الذي يتعلم المشي، حتى وإن سقط مرة ومرات، حتى وإن بكى، فإنه إذ يرفع عينيه يجـد

مربيته تتطلع إليه بعينها وبقلبها، لكنها تطلب نضوجه المستمر! إنها لن تتركه!

يبدو كأن الله قد طردنا من وجهه أو تخلى هو عنا، وتركنا في عارٍ، ولم يخرج معنا في جهادنا الروحي... لكن، لنؤمن أنه حالّ فينا، لن يتخلى عنا! إننا أعضاء جسد المسيح، يعمل بروحه القدوس فينا لمجدنا في الوقت المناسب.

2. الشعور بالهزيمة المرة، الأمر الذي يفضح مدى ضعفنا وعجزنا وجفافنا.

"رددتنا إلى الوراء أكثر من أعدائنا،

ومبغضونا اختطفونا لأنفسهم.

دفعتنا مثل الغنم للأكل.

وشتتّنا في الأمم" [10-11].

كثيرًا ما يسقط المؤمن في الكبرياء بعد نواله سلسلة من النصرات، لهذا أحيانًا يرفع الله يده عنه إلى حين، ليكتشف ضعفاته. هنا إذ رفع الرب يده ولم يخرج مع شعبه ارتدوا إلى الوراء ليحلق بهم الأعداء ويمسكون بهم ويسبونهم عبيدًا لهم، يحملونهم إلى الأعداء، ويصيرون في الشتات. هنا يدرك الشعب مدى ضعفه، فإنه أشبه بغنم عاجز عن القتال ضد الذئاب، أو هم غنم لا يصلح حتى للولادة بل يُذبح للأكل!

مسكين هو ذاك الذي يظن في نفسه شيئًا عندما يهبه الله نصرات متوالية أو مواهب ثمينة، فإنه إذ يسقط في الكبرياء تتخلى عنه النعمة الإلهية ليعرف ضعفه وخزيه وجفاف طبيعته حتى إنه لا يصلح إلا للذبح! لهذا يقول الرسول محذرًا من الكبرياء: "فهذا أيها الاخوة حولته تشبيهًا إلى نفسي وإلى أبولس من أجلكم لكي تتعلموا فينا أن لا تفتكروا فوق ما هو مكتوب كي لا ينتفخ أحد لأجل الواحد على الآخر؛ لأنه من يميزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!" (1 كو 4: 6-7). كل ما بين أيدينا هو عطية الله أخذناها كهبة مجانية، فلماذا نفتخر على الآخرين؟

3. لم يسمح الله بالضيقة لنفع خاص به:

"بِعت شعبك بلا ثمن

وما ربحت بثمنهم" [12].

يبدو كأن المرتل يُعاتب الله إنه يبيع شعبه ولا ينال ثمنًا، فصار الشعب في خزي ولم يتمجد الله في شعبه ولا في أعدائه الذين يهينون اسمه ويذلون شعبه. وكما يقول القديس أغسطينوس: [عندما كان المسيحيون يهربون من أمام الأعداء الوثنيين، هل كانوا يقيمون اجتماعات واحتفالات لمجد الله؟ هل كانت التسابيح تُرنم بانسجام جماعي في كنائس الله كما كانت العادة في وقت السلام حيث كانت تُنشد بعذوبة الاتفاق الأخوي في أذني الله؟].

إنه عتاب ودِّي مع الله لكي يرفع الضيقة، ويسند مؤمنيه، فيسبحون وينشدون معًا في جو من السلام والأمان.

ولعله أيضًا يمثل هذا القول عتابًا موجهًا إلى الشعب، فإن الله لا يطلب نفعًا لنفسه من وراء ضيقتهم إذ لم يبعهم للعدو منتظرًا ثمنًا أو ربحًا، إنما يطلب بنيانهم وخلاصهم الأبدي ومجدهم.

4. في ضيقتنا نحتمل آلام المسيح، لنُحسب شركاءه في صلبه كما في قوة قيامته وبهجتها، لهذا جاء وصف الألم ينطبق على السيد المسيح في محاكمته وآلامه وصلبه، كما ينطبق على كنيسته التي تشاركه آلامه:

"جعلتنا مثلاً في الأمم،

وهز الرأس في الشعوب.

طوال النهار خجلي أمامي هو،

وخزي وجهي قد غطاني

من صوت المعيّر لي والثالب

ومن وجه عدوٍ مضطهد لي" [14-16].

يقول القديس أغسطينوس: [لقد تكلموا بشفاههم ونفّضوا برؤوسهم. هذا هو ما فعلوه بالرب وأيضًا بكل قديسيه... هؤلاء الذين كانوا قادرين أن يقتفوا آثارهم، ويمسكوا بهم، ويهزأون بهم، ويخونوهم، ويفعلوا بهم ما يريدون ويذبحونهم].

يرى البعض أن الحديث هنا ينطبق على الشعب القديم خاصة عند سبي أورشليم أو يهوذا حيث صارت الأمم المحيطة تهزأ بهم ويهزون رؤوسهم في سخرية، خاصة الأدوميون الذين كانوا يغلقون الطرق أمام الهاربين من يهوذا لكي يمسكونهم ويسلمونهم للكلدانيين كما حوَّلوا مدن يهوذا الخربة إلى مراعٍ لأغنامهم[828].

ويرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن نفض الرأس أو هزّها كنوع من السخرية

يشير إلى عمل الهراطقة أعداء الكنيسة الذين يودون أن يهزوا إيماننا بالرأس المسيح، بهذا نصير في عارٍ وخزي.

4. كلمات عتاب:

إذ يصف المرتل ما حلَّ بالشعب من ضيقة يدخل مع الله في كلمة عتاب، وهذا ما يريده الله منا وسط آلامنا، يودُّ أن نلتصق به ونحاوره، نعرف كيف نتحدث معه، فإننا في أوقات الفرج كثيرًا ما ننشغل بذواتنا ونتعرض للتشامخ والكبرياء، ولا يكون لله موضع في قلوبنا.

لنعاتبه كأبناء فهو يصغي مشتاقًا أن يعطي بسخاء! يعطي ذاته وحبه وليس فقط خبراته وبركاته!

في عتاب المحبة يندهش المرتل، متسائلاً: لماذا سمح الله للشعب بالضيقة:

"هذه كلها جاءت علينا ولم ننسَك،

ولا غدرنا بعهدك،

ولم يمل قلبنا إلى خلف،

ولا مالت خطواتنا عن طريقك" [16-17].

يشتاق أن يسمع الله مثل هذه العبارات التي لا تحمل برًا ذاتيًا ولا دفاعًا عن النفس أمام الله، وإنما إيمانا به وتمسكًا بطريقه وإعلانًا عن صدق حبنا له. إنها ككلمات الرسول بطرس بعد سقوطه: "يارب أنت تعلم كل شيء؛ أنت تعرف أني أُحبك" (يو 21: 17)، وأيضًا كلمات الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟! أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟! كما هو مكتوب إننا من أجلك نُمات كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 35-36). هكذا يعلن المرتل بأن الشعب لم ينس الله وسط الضيقة، ولا كسر العهد معه، ولا مال بقلبه إلى خلف، ولا انحرف بسلوكه عن الطريق الملكوي. إنهم لم يفعلوا مثل امرأة لوط التي نظرت إلى الوراء فصارت عمود ملح (تك 19: 26)، ولا مثل الإسرائيليين الذين تذمروا في البرية لأنهم اشتهوا الجلوس عند قدور اللحم يأكلون خبز العبودية (خر 16: 3)، ولم يضعوا أيديهم على المحراث وينظرون إلى الوراء (لو 9: 26)؛ وإنما يفعلون مثل الرسول بولس الذي ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13).

ما هو الطريق الذي لا نُحيد عنه إلا "السيد المسيح" القائل: "أنا هو الطريق والحق والحياة"؟ كانت أنظار رجال العهد القديم تتطلع إليه في رجاء بكونه مشتهى الأمم، وفيه تمتعنا بالحياة الجديدة المقامة... وها نحن ننتظره قادمًا على السحاب، مرنمين كل يوم: "آمين؛ تعال أيها الرب يسوع" (رؤ 22: 20).

يرى القديس أغسطينوس أن المرتل هنا يُعلن أنهم لم ينحرفوا عن الطريق الضيق الذي رسمه الرب لبلوغنا الأبدية؛ هو طريق مُرّ لا يدخل بنا إلى الموت بل إلى ظلال الموت، إذ يقول المرتل: "غشيتنا بظلال الموت". فإن كانت التجار بكل شدتها تدفعنا إلى موت الجسد، إنما تدخل بنا إلى ظل الموت. [لأن موتنا هو ظل الموت، أما الموت الحقيقي فهو إدانة إبليس].

يكمل المرتل عتابه، قائلاً:

"إن كنا نسينا اسم إلهنا،

وإن كنا بسطنا أيدينا إلى إله غريب،

أفليس الله المطالب بهذه؟!

لأنه هو يعرف خفايا القلب" [20-21].

في عتابه هذا يعلن الآتي:

1. ليس لي أن أتكلم، فأنت تعلم يا الله خفايا القلب، أنت تعرف أننا لم نرتبط بإله آخر باسمك القدوس، ليس فقط في الظاهر، وإنما في أعماق القلب.

2. نحن نعرفك ولا ننساك، لذا أنت تعرفنا معرفة المحب لمحبوبيه. معرفة الله هنا لا تعني الإدراك العقلي وإنما معرفة العلاقة القوية، معرفة الحب (مت 7: 23). الله القدوس لا يقبل في معرفته إلا القديسين.

3. إن كانت الضيقة قد اشتدت جدًا، وثار الأعداء علينا، وكدنا ندخل إلى الموت، لكننا في هذا كله لم ننسك. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [كلما تحرش بنا الأعداء يزداد بالأكثر تحررنا؛ وإن كانوا يقاوموننا فإننا نجتمع معًا، وإذ أرادوا طرحنا عن الصلاح لنكرر بالأكثر قائلين: "هذه كلها جاءت علينا ولم ننسَك"[829]].

أخيرًا يختم عتابه، قائلاً:

لأننا من أجلك نُمات كل يوم،

وقد حُسبنا مثل غنم للذبح" [22].

إذ يتحدث الرسول بولس عن حب الكنيسة لمسيحها يقول: "كما هو مكتوب: إننا من أجلك نُمت كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 36).

هذا هو صوت الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور التي تقبل الدخول في الطريق الشهادة لله حتى الموت، تقبل شركة آلام المسيح بسرور، فنشتهي أن تُحسب كالغنم المقدم لأجله للذبح كما سيق هو كشاة للذبح (إش 53: 7)... تمارس الموت الاختياري كل يوم، إن لم يكن بسفك الدم فبالجهاد الروحي والبذل والعطاء لكل أحد حتى لغير المؤمنين لأجل الله محب البشر!

v   أنا كاهن سيدي يسوع المسيح، وله أقدم الذبيحة كل يوم، وأرغب أن أقدم حياتي ذبيحة كما قدم حياته ذبيحة حبًا فيّ[830].

v   لتأتِ عليّ كل هذه: النار والصليب، ومجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر... لتنصبَّ عليّ كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح[831].

v   لماذا أُسلم نفسي إلى الموت؟! إلى النار، إلى السيف، إلى الوحوش الضارية؟!... القريب من السيف هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وأنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه[832].

القديس أغناطيوس الأنطاكي

v   هو يجعلهم ذبيحة وتقدمة (يومية) دون موت[833].

v   من الممكن أن نُمات عدة مرات في يومٍ واحدٍ؛ لأنه من كان مستعدًا على الدوام أن يموت يحفظ مكافأته ليستلمها كاملة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   القديسون الذين يقدمون أنفسهم (ذبيحة) لله إنما يقدمون أنفسهم أحياء كل يوم.

لنقدم أنفسنا (ذبائح)، ولنمت عن ذواتنا لأجل المسيح إلهنا.

كيف وضعوا أنفسهم للموت؟ بأن كفَّوا عن محبة العالم وما فيه (1 يو 2: 15)... عن هذا يقول الرسول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24). هكذا وضع القديسون أنفسهم للموت[834].

الأب دوروثيؤس من غزة

5. صرخة من أجل الخلاص:

إن كانت محبتنا لله تدفعنا أن نموت لأجله كل يوم بل طول النهار، بالجهاد المستمر ضد الخطية، وتسليم الإرادة مبذولة لتعمل نعمة الله المجانية في حياتنا، وأن نشهد للحياة الإنجيلية حتى المنتهى... هذا يتحقق لا من منطلق ليأس أو الشعور بالهزيمة وإنما بيقين التمتع بقوة قيامة الرب وبهجتها. يقول المرتل:

"استيقظ يارب، لماذا تنام؟!

قم، ولا تُقصِنا عنك إلى الانقضاء.

لماذا تصرف وجهك عنا؟

ونسيت مسكننا وضيقتنا؟!

فإن نفوسنا قد اتضعت حتى التراب،

ولصقت بالأرض بطننا.

قم يارب أعنا وأنقذنا من أجل اسمك القدوس" [23-26].

هذا هو إيمان الكنيسة كلها في القيامة مع السيد المسيح. هذه هي صرخات الشهداء أثناء عذاباتهم، والمجاهدين أثناء أتعابهم. ففي اتضاع يسجدون حتى الأرض وتلتصق بطونهم بالتراب طالبين قوة قيامته، قائلين مع الرسول: "فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه" (رو 6: 8)، "وأقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع" (أف 2: 6).

ماذا يعني المرتل بالألفاظ: "استيقظ... تنام... قم"؟

v   يُظهر المزمور بالكلمات "تنام" صبر الله وطول أناته علينا[835].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يُطالبنا القديس جيروم أن نُيقظ السيد المسيح النائم في داخلنا، أي نيقظ إيماننا به بالتوبة، قائلاً: [إن كان بسبب خطايانا ينام، فلنقل: "استيقظ، لماذا تتغافى يارب؟!" [44]. وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنُيقظه، قائلين: "يا سيد نجنا فإننا نهلك" (مت 8: 25؛ لو 8: 24) [836]].

ويرى القديس كيرلس الكبير أن إيقاظ السيد المسيح إنما يعني الصراخ إليه وسط الضيقات والآلام مع الاتكال عليه؛ إذ يقول: [المسيح حال وسط مختاريه، وإذ يسمح لهم بحكمته المقدسة أن يعانوا من الاضطهاد يبدو نائمًا. ولكن إذ تبلغ العاصفة أوجها والذين في صحن السفينة لا يقدرون أن يحتملوا يلزمهم أن يصرخوا: "قم لماذا تتغافى يارب؟!" [23]. فإنه يقوم وينزع كل خوف بلا تأخير[837]].

في ذات المعنى يقول العلامة أوريجانوس: [إنه نائم في هدوء مقدس يرقب صبركم واحتمالكم، متطلعًا إلى توبة الخطاة ورجوعهم إليه[838]].

 

 

 


 

من أجلك نُمات كل النهار

v   أشرقت يا شمس البر على حياتنا،

فلم يعد فيها ليل،

بل صارت كلها نهارًا!

أشرقت علينا بصليبك أيها الكاهن والذبيح!

أهّلنا أن نرتفع معك على صليبك،

ونحمل آلامك،

ونُسر بمعيتك أيها الحب الحقيقي!

v   أنت سيد التاريخ وضابطه،

صنعت عجائب مع آبائنا!

وتبقى يدك تعمل في حياتنا،

تستأصل من قلوبنا ممالك الشر،

وتغرس مملكتك فينا!

v   أنت العامل فينا،

لأننا موضع سرورك وحبك.

تملك في قلوبنا بسيف كلمتك،

بجراحات حبك!

v   في ضيقتنا حسبناك قد تركتنا،

بعتنا للغير بلا ثمن!

صار العدو يسخر بنا ويعيِّرنا،

ونحن في انسحاق نسجد لك،

تلتصق بطوننا بالتراب،

لتخرجنا كما من القبر،

وتهبنا قيامتك عاملة فينا!

v   لك المجد أيها القائم من الأموات،

أقمنا معك، وأجلسنا معك في سمواتك

<<

 


 

المزمور الخامس والأربعون

تسبحة العرس

للمسيا الملك المحارب

مزمور مَلكي مَسياني:

أحد المزامير الملوكية يتناول مراحل عدة في الحياة الملوكية. وهو يصف احتفالاً لعرس ملوكي، لا يمكن تطبيقه على أي زواج بشري، إنما ينطبق على العرس الروحي بين السيد المسيح الملك وكنيسته.

المزامير الثلاثة السابقة مزامير الألم الذي يُعاني منه الأفراد كما الجماعة، تليها مزمور المجد هذا الملوكي، وله غاية نبوية، إذ يكشف عن المسيح الملك وعروسه الكنيسة.

جاء بعد مزامير الألم ليعلن الروح القدس أن الألم هو طريق العرس والمجد الأبدي.

في المزمور السابق نسمع مرثاة جماعية حيث يشعر الشعب كأن الله قد رفضه، ودخل به إلى العار، ولم يخرج معهم في الحرب، وسلمهم للأعداء في مذلة، وفي هذا المزمور الملوكي المسياني، نرى الشعب وقد اتحد بالمسيا الملك المحارب يدخل إلى مجد داخلي، كعروس سماوية مزينة، يشتهي الملك جمالها الروحي، تدخل إلى قصره وتنعم به.

في المزمور السابق كان الشعب مثلاً بين الشعوب، يهزأون به، وينغصون الرأس سخرية به، وهنا يُقدم الشعب كملكة، تأتي إلى الملك وفي إثرها عذارى صاحباتها.

في المزمور السابق يشعر الشعب كأن الله قد باعه بلا ثمن، وهنا يشعر كأن الله باع كل شيء، وحارب جبابرة ليقتني هذا الشعب ويغنيه بفيض بركاته.

في المزمور السابق يقدم الشعب نفسه ذبائح حب كغنم للذبح، وهنا يتمتع الشعب ببهجة القيامة وقوتها وأمجادها الأبدية.

في المزمور السابق نجد دعوة لله: "قم"، وهنا نجد الدعوة موجهة للشعب: "انسي شعبك وبيت أبيكِ فيشتهي الملك حسنك".

المسيا الملك:

في الترجوم – التفسير اليهودي القديم – أُضيفت كلمة "المسيا" إلى لفظة "الملك"، فقيل: "أيها الملك المسيا أبرع جمالاً من بني البشر".

جاءت الكتابات المسيحية الأولى والليتروجيات تفسر هذا المزمور بكونه تسبحة العرس القائم بين السيد المسيح وكنيسته.

إنه أنشودة حب مشترك ومتبادل بين المسيا المخلص وعروسه الملكة؛ فيه تُناجي الكنيسة عريسها الأبرع جمالاً من بني البشر، القادر وحده أن يدخل إلى المعركة لحسابها فيغلب عدو الخير، ويحرر عروسه من أسرها، ويسكب بهاءه عليها، ويهبها بره وشركة أمجاده. وفيه يُناجيها العريس معلنًا اشتياقه إليها، ويهبها فرحه وبهجته وقوته وسلطانه، فتعيش ملكه متهللة بالروح.

يظن البعض أن المزمور يصف عُرس سليمان الملك، لكن كما قلنا إنه يحمل عبارات لا يمكن أن تنطق على إنسان بشري؛ ويرى آخرون أنه وإن وصف سليمان إنما بكونه رمزًا للسيد المسيح ملك السلام؛ وكما قال السيد المسيح عن نفسه: هنا من هو أعظم من سليمان!

v   إنه أغنية حفل العُرس المقدس، للعريس والعروس، للملك وشعبه للمخلص وللذين يخلصون.

v   الاتحاد الزوجي هو اتحاد "الكلمة" والجسد؛ خدر هذا الاتحاد هو رحم العذراء، لأن الجسد ذاته قد أتحد بالكلمة، حيث يُقال: "يكونان الاثنان جسدًا واحدًا" (مت 19: 5).

القديس أغسطينوس

المزمور 45 في الطقس القبطي:

يُتلى هذا المزمور أو يُسبح به في صلاة الساعة الثالثة حيث نذكر عطية الروح القدس. فإن الروح الذي وهب الأنبياء أن يتنبأوا عن هذا الملك المسيا المحارب لحساب البشرية، والذي هيأ القديسة مريم للتجسد به... هو الذي حلَّ على الكنيسة في يوم البنطقستي (العنصرة) ليعطي التلاميذ قوة الكرازة والشهادة له كعريس محب للبشر. الروح القدس هو الذي يشكّل النفس ويقدسها لتصير على صورة عريسها فتتأهل للعرس الأبدي. إنه روح العريس الذي يأخذ مما له ليعطي العروس!

طوال شهر كيهك حيث تستعد الكنيسة لعيد الميلاد المجيد بالتسابيح، تبدأ التسبحة بالهوس الكيهكي الذي يضم فقرات كثيرة من هذا المزمور، فإن غاية التسبحة الكيهكية هي حث كل نفس لاستقبال طفل المزود كعريس للنفس قادر وحده أن يدخل بها إلى المعركة ليهبها نصرته ويعطيها إكليله ويحسبها عروسًا وملكة غالبة ومنتصرة.

وفي أعياد القديسة مريم حيث نرى فيها العضو الأول في الكنيسة، ومثالاً حيًا لكل نفس تنعم بالعضوية الكنيسة تقتطف الكنيسة بعض فقرات من هذا المزمور لتسبح بها حيث تبعث في أولادها الشوق الحقيقي للعرس الأبدي.

وتستخدم فقرات منه في ليتروجية الزواج بكون سرّ الزواج هو ظلاً للعرس الأبدي بين الله الكلمة والكنيسة، يستمد العروسان حبِهما ووحدتهما من الحب المشترك بين المسيح وكنيسته.

الإطار العام:

1. فاض قلبي...            [1].

2. قلم كاتب ماهر           [1].

3. مجد الملك               [2].

4. ملك محارب             [3-5].

5. إعلان ملكوته            [6-8].

6. الملكة العروس           [9-12].

7. مجد العروس            [13-17].

العنوان[839]:

"لإمام المغنين على السوسن Shoshannim eduth، لبنى قورح، قصيدة؛ ترنيمة محبة". وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام، وعلى الذين يتغيرون. فهم لبني قورح وتسبحة من أجل المحبوب".

1. "على السوسن": حرف الجر "على" يُشير إما إلى "بحث عن السوسن"، أو أنه مزمور "يضرب على آلة موسيقية معينة تُدعى "السوسن" أو أنه يُعزف على نغمة نشيد يبدأ بكلمة "السوسن".

استخدمت الكلمة بالمفرد "على السوسنة" في عنوان المزمور 60، وبالجمع في المزمور 80، ولم تستخدم في عناوين مزامير أخرى.

قديمًا كان يفهم كلمة "Shoshannim" على أنها آلة موسيقية ذات ستة أوتار، أما الآن فيوجد إجماع على أنها تعني "السوسن (أزهار معينة)"، وتُفهم كلمة Eduth بمعنى شهادة، أي "سوسن الشهادة" أو زنابق الشهادة.

ماذا تعني زنابق أو سوسن الشهادة إلا أن هذه التسبحة تمجد عمل الله الخلاصي، الذي أقام من بني البشر زنابق جميلة أو سوسن يحمل رائحة المسيح الذكية، يشهد لنعمة الله الغنية. إنه مزمور عرس الكنيسة التي قيل عنها "كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنين" (نش 2: 2)، وقيل عن عريسها: "الراعي بين السوسن" (نش 2: 16).

2. "على الذين يتغيرون": إنها تسبحة العروس التي جاءت من الأمم، تغيرت طبيعتها، وتغير فكرها وقلبها، حيث تركت بيت أبيها إبليس لتسكن في بيت العرس متحدة مع عريسها السماوي.

v   بالفعل في هذا الوقت قد تغيّر حال الوثنين؛ أما الذين لم يتغيروا (يقبلوا الإيمان) فيرون الكنائس مملوءة، بينما معابد (الوثنية) مهجورة. يرون زحامًا هنا، وعزلة هناك! فيتعجبون للتغيير الذي طرأ... ليقرءوا ما سبق أن أُخبروا به. ليصغوا بآذانهم لذاك الذي وعد بهذا. ليؤمنوا بذاك الذي يتمم الوعد.

وليتغير كل واحد منا أيها الإخوة، من "الإنسان العتيق" إلى الإنسان الجديد"، من ضالٍ إلى مؤمن، ومن لص إلى مقدم صدقات، ومن زانٍ إلى عفيف، من فاعل شرٍ إلى فاعل خيرٍ!

القديس أغسطينوس

لقد تم التغيير على مستوى جماعات كما على مستوى أفراد. يستمر هذا التغير بالتجديد المستمر، فينحل إنساننا العتيق بكل أعماله ويتجدد إنساننا الداخلي يومًا فيومًا!

أنشودة عرس الكنيسة هي أنشودة التغيُّر المستمر والتجديد، لعلنا نبلغ "إلى إنسان كامل؛ إلى قياس قامة ملء المسيح"[840] (أف 4: 13).

3. "ترنيمة محبة"  أو "تسبحة من أجل المحبوب":

v   المحبوب هو "اليد" التي تغيرت؛ الذي يتحدث عنه الصوت الإلهي، قائلاً: "هذا هو ابني المحبوب" [ربما يقصد بالتغير هنا الإخلاء أو التجسد الإلهي[841]].

v   من هو هذا المحبوب إلا الابن الوحيد[842]؟!

البابا أثناسيوس الرسولي

4. "لبني قورح Core": سبق لنا الحديث عنهم كرمز لبني الجلجثة[843]، أو أبناء المصلوب، فإنهم وحدهم يتغنون بتسبحة عرس الحمل... فمن لا يتمتع بالصليب كقوة الله كيف يقدر أن يُنشد تسبحة العرس السماوي؟!

1. فاض قلبي...

1. "فاض قلبي بكلام صالح" [1].

يرى بعض الآباء في عبارة "فاض قلبي كلمتي الأسمى" (الترجمة السبعينية) شهادة عن ولادة الابن من الآب، بكونه المولود من القلب، من ذات الجوهر ومساوٍ له؛ نذكر هنا بعض مقتطفات من كلماتهم في هذا الشأن:

v   إنه الكلمة الذي يفيض به قلب الآب[844].

القديس أمبروسيوس

v   وُلد (الابن الوحيد) من الله بطريقة خاصة به وحده، من رحم قلبه الذاتي، هذا الذي يشهد له الآب نفسه: "فاضى قلبي كلمتي الأسمى"[845].

v   يشهد الآب نفسه قائلاً: "فاض قلبي كلمتي الأسمى"، سُرَّ الآب بالأكثر به، الذي تهلل بسرور فائق ومتساوٍ (لمسرته) بحضور الآب[846].

v   يكشف الكتاب المقدس أن الآب والابن واحد، تمامًا كما نعـرف من جـانبنا أن الآب

والابن متمايزان، أقول متمايزان وليسا منفصلين، لأنه من جهتي أنطق بكلمات الله ذاته: "فاض قلبي بكلمتي الأسمى"[847]!

العلامة ترتليان

v   يفهم البعض أنه (حديث) شخص الآب القائل: "نطق قلبي بكلمة صالح"، إذ يُفصح لنا عن ميلاد معين لا يُنطق به.

v   لأنه ما معنى: "أتكلم"؟ "ألفظ كلمة". أين؟ من قلبه؟! من أعماقه ذاتها ينطق الله "كلمة"؟!

أنتم أنفسكم لا تنطقون شيئًا إلا ما تخرجونه من قلبكم، كلمة خاصة بكم تنطقون بها مرة وتختفي، هذه التي لا تأتون بها من موضع آخر. فهل تتعجبون إن كان الله ينطق هكذا، لكن نطق الله "سرمدي"؟!

القديس أغسطينوس

v   رأينا قبلاً، وهكذا يجب الإيمان بالحق أن الكلمة هو من الآب، وهو الابن الوحيد الذي يليق به ومولد طبيعيًا. لأنه بماذا يفهم الإنسان "الابن" الذي هو "الحكمة" و "الكلمة"، الذي به كان كل شيء كما تعلمنا أيضًا الكتب المقدسة، إذ يقول الآب بلسان داود: "فاض قلبي بكلمة صالح" "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك"؟![848]...

القديس أثناسيوس الرسولي

2. قلم كاتب ماهر:

"فاض قلبي بكلام صالح،

إني أخبر الملك بأفعالي،

لساني قلم كاتب ماهر" [1].

يشعر المرتل وقد رأى بعيني النبوة عرس السيد المسيح المصلوب بفيض في داخله؛ كأن لهيب نارٍ من الحب قد اتقد في أعماقه، فصار لسانه يشترك مع كل كيانه في التعبير عن هذا العرس الفريد.

عندما أراد القديس بولس أن يتحدث عن خطية معينة لم يقدر، إذ يقول إن ذكرها قبيح ومن العار، أما عندما يتحدث عن الملك العريس السماوي فكان لسانه يفيض بكلام صالح يُعبر به عما في قلبه وعن أفعاله.

وقف المرتل أمام المسيح العريس فأخبر بحياته وسلوكه عن هذا العرس، وصار لسانه قلم كاتب ماهر.

أقول إن لساننا عندما يتحدث، غالبًا ما يُعبِّر عما في أعماقنا، فإن كان لنا نصيب في العرس الروحي بالحياة العملية أو بالحب لله والناس يفيض الروح على لساننا بكلمات النعمة العاملة لحساب ملكوته، أما إذا لم يكن لنا شركة يصير لساننا كبقية أعضائنا آلات إثم للموت (رو 6: 13) تجرح وتقتل عوض أن ترطب النفوس وتشفيها.

v   اللسان هو القلم الذي به نكتب عهودنا مع الله...

إننا نعترف بملكوته علينا ونرفض هيمنة إبليس.

هذا هو التوقيع (على العهد)، هذا هو الاتفاق والعهد[849].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لسان المرتل قلم كاتب ماهر، يتحرك بإرشاد روح الله القدوس، معبّرًا عن فكر الروح بعمق وكمال. التهب قلبه وانشغل عقله بالعُرس السماوي فصار لسانه ينطق بالصلاح، أي تقدس لينطق بكلمات إلهية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن اللسان كبقية الأعضاء يمكن أن يكون أداة للبر كما للشر.

v   فلنهئ كل أعضاء جسدنا لتكون أسلحة للبر لا للإثم.

لندرب أولاً لساننا ليكون خادمًا لنعمة الروح القدس، بنزع كل السموم وكل شر من أفواهنا، وعدم النطق بكلمات الحماقة.

يمكننا أن نجعل كل عضو من أعضائنا أداة شرٍ أو برّ. أصغوا، كيف صيَّر البعض اللسان سلاحًا للإثم، وآخرون سلاحًا للعدل: "لساني سيف ماضٍ" (مز 57: 5)، بينما يقول آخر عن لسانه: "لساني قلم كاتب ماهر". الأول يسبب موتًا، والثاني يسجل الناموس الإلهي، من ثَم فالأول سيف ماضٍ والثاني قلم، لا بحسب طبيعته كلسانٍ، وإنما باختيار من يستخدمه؛ فإن طبيعة اللسانين واحدة، لكن الاستخدام مختلف[850].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يمكن للإنسان أن يسلم لسانه أداة في يدّيْ السيد المسيح لينطق بكلماته ويشهد عن محبته الإلهية وحنوّه، كما يمكنه أن يُسلمه أداة في يديْ عدو الخير ليخدع وينافق ويقتل الآخرين بكلماته، كما بسيف مهلك. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لتكلم بطريقة يتضح بها أن ما نقوله هي كلمات المسيح[851]].

لنتشبه بالمرتل الذي التهب قلبه بحب العريس فنظم أشعاره عنه، وصار قلبه ولسانه يلهجان بشخصه وسماته وأعماله... رأى أمورًا جديدة فصارت حياته كما لسانه يفيضان تسبيحًا، وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يشير إلى عمل النفس العقلاني بسبب كل الأفكار التي تفيض دومًا وتموج، فإن من يثبت نظره على جمال الله اللامتناهٍ، يكتشف على الدوام ما هو جديد؛ وإذ يبقى الله يعلن عن نفسه يستمر الإنسان في دهشٍ[852]].

ماذا رأى المرتل في العريس السماوي؟

* إنه كلمة الآب المولود منه أزليًا!

* أبرع جمالاً من بني البشر!

* شفتيه تفيضان نعمة ورحمة وحنانًا!

* إنه ملك محارب محب، يدخل المعركة لحساب عروسه!

* يرتبط سيفه بجماله، به يبتر كل ما هو قبيح فينا!

* عجيب في عدله وفي حبه!

* كرسيه أبدي!

* مسحته مبهجة!

* ثيابه رائحتها ذكية!

*عروسه سماوية محبوبة جدًا لديه ومكَّرمة!

* يتعبد له الأمم!

* يدخل بشعبه إلى هيكله!

* يقيم ملوكًا ورؤساء!

* موضوع تسبيح الشعوب!

3. مجد الملك:

تطلَّع المرتل إلى العرس فرأى عريسًا فريدًا ليس من وجه للمقارنة بينه وبين بني البشر، فقال:

"إنك أبرع جمالاً من بني البشر" [2].

كتب القديس أغسطينوس يتغنى بربنا يسوع المسيح بكونه أبرع جمالاً من بني البشر:

[إنه جميل في السموات بكونه الكلمة مع الله (الآب)؛

جميل على الأرض وهو متسربل بالطبيعة البشرية؛

جميل في الرحم، وجميل بين ذراعيْ والديه؛

جميل في المعجزات، جميل في جلده بالسياط؛

جميل في منحه الحياة، وجميل في عدم رفضه الموت؛

جميل في بذله ذاته، وجميل في أخذها ثانية؛

جميل على الصليب، وجميل في القبر، وجميل في عودته إلى السماء].

هكذا نراه أبرع جمالاً في طبيعته بكونه كلمة الله الواحد مع أبيه والمساوي له في الجوهر، وأبرع جمالاً في عمله الخلاصي وبذله آخر قطرة من دمه لأجل خلاص محبوبه الإنسان... تبقى أعماله الخلاصية موضوع تسبيح الأرضيين والسمائيين.

v   أي جمال؟ إنه جمال القيامة، بكونه أبرع جمالاً من بني البشر[853].

v   فاق كل بني البشر جمالاً، ابن القديسة مريم وعريس الكنيسة المقدسة، الذي جعل الكنيسة تشبه أمه، فقد صيّرها أمًا لنا وحفظها عذراء لنفسه[854].

القديس أغسطينوس

v   أتساءل: لماذا (لم يقل): أبرع جمالاً من الملائكة أيضًا؟ لماذا يقول "أبرع جمالاً من بني البشر"، إلا لأنه صار إنسانًا؟!... حتى وهو إنسان هو أبرع جمالاً من بني البشر. ومع كونه حالاً بين بني البشر وقد صار منهم... إلا أنه أبرع جمالاً من بني البشر!

القديس أغسطينوس

لا يُفهم الجمال هنا بمعنى مادي أو جسداني بل بمفهوم روحي. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لئلا تفهموا إنه يتحدث عن الجمال الجسدي يقول المرتل إنه يقوم على الطاعة، وهذه ليست جمالاً للجسد بل للنفس، إذ يقول إذا فعلتم هذا تصيرون في جمال ومحبوبين في أعين عريسكم[855]].

رأى بعض الآباء مثل الشهيد يوستين وترتليان والقديس أكليمندس الإسكندري في التجسد الإلهي إخلاء الرب وتنازله حتى عن الجمال الجسدي، غير أن الغالبية العظمى للآباء رأوا فيه جمالاً جسديًا مع الجمال الروحي كانعكاس لعمل اللاهوت فيه، فيقول القديس جيروم: [اختفى لاهوته ببهائه وعظمته تحت حجاب الجسد، وبعث بأشعته على ملامحه الجسدية، فسبى كل الذين كان لهم غبطة التطلع إليه[856]].

إن ما يشغل قلبنا هو جمال عمله الخلاصي العجيب وبهاء شخصه، إذ هو وحده بلا عيب. لهذا يليق بعروسه أن تحمل سمة جماله بانعكاس بهائه عليها.

v   حقًا يليق بعريسنا الأبرع جمالاً من بني البشر ألا يجد فينا شيئًا من الخطايا السابق ذكرها لئلا تسيء إلى عيني عزته[857].

الأب قيصريوس أسقف آرل

يرى المرتل أن سرّ جمال السيد هي كلمات النعمة التي تفيض من شفتيه:

"انسكبت النعمة من شفتيك،

لذلك باركك الله إلى الدهر" [2].

يقول القديس باسيليوس الكبير[858]: [إن النبي إذ تفرس في بهاء مجد لاهوت الابن نطق بهذا القول مشتاقًا إلى جمال لاهوته، وقد فاضت النعمة على شفتي الابن، كما جاء في الإنجيل المقدس أن الجموع كانت تتعجب من كلمات النعمة الخارجة من شفتيه (لو 4: 22)؛ فقد كان يجتذب سامعيه بفرح ويقنعهم ويقودهم إلى التلمذة له، حتى أنه في مدة يسيرة انتشر كلامه بكرازة الإنجيل في كل المسكونة.

لقد أدرك معلمنا بطرس الرسول قوة كلماته وفاعليتها، فقال: "إلى من نذهب؟! كلام الحياة الأبدية عندك" (يو 6: 68). وتتحدث الكنيسة في سفر النشيد عن جاذبية كلمة المخلص، قائلة: "اجذبني وراءك فنجري" (نش 1: 2).

v   نعومتها (عذوبتها الشديدة) تدل على فيض نعمة تعليمه[859].

العلامة أوريجانوس

v   تعني "النعمة" هنا ما حلّ بالجسد... لأنه قد انسكبت كل نعمة في ذاك الهيكل. فلم يعطِ الروح القدس ذاك الهيكل مكيالاً معينًا، "لأنه من ملئه نحن أخذنا" (يو 1: 16). نال هذا الهيكل النعمة في كل ملئها وفيضها... فكانت النعمة بالحق كاملة، أما  في البشر فقليلة، ولا تزال كقطرة من تلك النعمة[860].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هكذا يُحسب القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما نناله من نعم أشبع بقطرة نتقبلها من السيد المسيح الذي باتحاد لاهوته بناسوته قدم ملء النعمة للناسوت غير المنفصل عنه ليكن مصدر نعم لنا. وهكذا كثيرًا ما يكرر القديس كيرلس الكبير  بأن الكلمة الإلهي أخذ إنسانيتنا ليجدد طبيعتنا الفاسدة، فنرى فيه مصدر كل تجديد ونعم سماوية.

يمكننا الكشف عن زوايا من النعم التي تفيض من شفتيه، مثل:

1. تمتعنا بالكلمة ذاته المتجسد، نتناول جسده ودمه المبذولين سرّ نعمة لاتحادنا معه، وثبوتنا فيه، إذ يقول: "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو 6: 54).

2. قدم بشفتيه كلمته التي تُنير البصيرة الداخلية وتجتذب النفوس إلى خلاصه، فقد قيل: "فلما جلس تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم... فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت 5: 1-2؛ 7: 28-29).

3. بكلماته يهب الغفران من عندياته: "مغفورة لك خطاياك" (لو 7: 48).

4. بكلمات نعمته الواهبة الحياة كان يشفي الأمراض، ويعزي الحزانى، ويُبكم المقاومين، ويخرج الشياطين، ويقيم من الموت.

5. بكلماته فتح أمامنا أبواب الفردوس، إذ يقول: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).

تبقى كلمات السيد المسيح التي تفيض نعمة ينطق بها حتى بعد صعوده، وذلك خلال رسله وتلاميذه والكارزين بإنجيله... إذ يمثل هؤلاء شفتيه اللتين تفيضان بنعمته.

ماذا يعني المرتل بقوله: "لذلك باركك الله  إلى الدهر" [2]؟

يُجيب الأب أنثيموس الذي اعتمد على كتابات الآباء، إنه يتحدث هنا من جهة ناسوته، فمع كونه كلمة الله المتجسد، الواحد والمساوي للآب في ذات الجوهر، لكنه من جهة الناسوت وكممثل للبشرية يدعو أباه السماوي إلهًا، وبحسب الناسوت كان يتقدم في الحكمة والقامة (لو 2: 52)، ليس متدرجًا فيهما بل معلنًا إياهما تدريجيًا... فالحكمة ليست أمرًا غريبًا عنه، إذ هو "حكمة الله"، لكنه كان يظهر تدريجيًا، ويمارسها بكونه إنسانًا حقيقيًا.

يقول أيضًا إن بقوله "باركك الله" إنما يعلن ما تناله الكنيسة من بركات إلهية خلال الرأس وباسمه... حينما تتبارك الكنيسة كجسد المسيح يُقال عن المسيح الرأس إنه تبارك مع أنه هو واهب البركة.

4. ملك محارب!

"تقلد سيفك على فخذك أيها القوي؛

بُحسنك وجمالك استله وانجح وأملك" [3].

هنا نلاحظ الآتي:

1. لا يمكن أن يكون الحديث هنا خاصًا بالملك سليمان الذي كان رجل سلام لا قائد حرب.

2. يربط المرتل بين جمال الملك المحارب واستلاله السيف لينجح ويملك، الأمر الذي لا ينطبق على أي إنسان محارب، لأنه أي ارتباط بين جمال الإنسان وقدرته على الحرب؟! واضح هنا أن الحديث خاص بمعركة الصليب، فإن ربنا يسوع المسيح قائد حربنا الروحية ضد عدو الخير إبليس، والذي وحده بلا عيب، كليّ الجمال، يستل سيفه كعريس سماوي جميل ليقتل فينا ما هو قبيح، أي فسادنا، وبهذا يقيم مملكته في قلوبنا، معلنًا ذاته أنه الحق والوداعة والبر. هذا ما دفع القديس أغسطينوس[861] وأمبروسيوس[862] وغيرهما إلى الحديث عن الجمال هنا بكونه جمال القيامة، إذ يقول الأخير: [حقًا إن جمال المسيح مقدس، إذ كُتب عنه بكونه المُقام: "أبرع جمالاً من بني البشر". فإنه بكر الراقدين وقرناه كقرن وحيد القرن]. إن كان سيفه هنا هو صليبه الذي به سحق الشيطان وكسر شوكة الموت وغلب الجحيم، لذا يراه المخلصون "قوة الله" (1كو 1: 18)، وقيل عنه: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (في الصليب)" (كو 2: 15)، فإنه بقيامته قد بررنا، أي وهبنا بره فصار لنا جمال قيامته! بمعنى آخر نفسر كلمات المرتل: "بجمالك استله وانجح واملك" هكذا: "يا بكر الراقدين، استل سيف الصليب، واضرب به إنساننا العتيق الفاسد، فننعم بقوة قيامتك وبهجتها، أي نحمل جمالها فينا، بهذا تملك فينا وتنجح كلمة كرازتك!".

3. سيف المسيح هو صليبه واهب الحياة المُقامة، وهو أيضًا كلمته، إذ قيل: "لأن كلمة الله حيَّة وفعالة وأمضي من كل سيف ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونيَّاته" (عب 4: 12)، "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (أف 6: 17). وقد استخدم السيد المسيح كلمات الكتاب المقدس في معركته مع إبليس في التجربة (مت 4: 4، 7، 10). وقيل عنه: "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16).

إن كانت كلمات السيد تفيض نعمة وعذوبة، تضمد جراحاتنا وتشفيها، إنما هي أيضًا سيف ذو حدين يفصل بين النور والظلمة، أو بين الحق والباطل، أو بين برَّ الله وفسادنا، جراحاته لا تهلك بل تلهب القلب حبًا شافيًا، لتتغنى النفس قائلة: "إنني مجروحة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8).

4. يحمل السيد المسيح سيفه على "فخذه"؛ الذي هو كناية عن ناسوته. إن قلنا أن السف هو الصليب، فإنه بالجسد قد حمل الرب صليبه ليذل إبليس.

بتأنس الرب تمتعنا بسيف الكلمة إذ رأينا الحب متجسدًا، وتلامسنا مع وعود الله الغنية التي تحققت في كمالها بالصليب.

بتأنس الرب رأينا كلمة الله لا منقوشة بحروف على ورق، وإنما معلنة بالدم على

صليب!

5. قيل: "تقلد سيفك على فخذك أيها القوي". إن كان الفخذ يُشير إلى التجسد الذي به أخلى الكلمة ذاته، وصار في الجسد كضعيف، لكنه كما نترنم في الجمعة العظيمة قائلين: "يا من أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة!" لهذا يدعوه المرتل: "أيها القوي"، أو "أيها الجبار". أي قوة أو جبروت أعظم من تحطيم قوى إبليس وهدم مملكته بصليب الرب؟!

لقد أدرك الرسول بولس أن المصلوب قوي وجبار، يهبنا بصليبه الغلبة على شهوات الجسد ومحبة العالم، إذ يقول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24)؛ "وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غل 6: 14).

6. إن كان السيد المسيح قد جاء ليملك في القلب ويهبه سلامًا فائقًا، لكن بإقامة مملكته فيه، تثور قوات الظلمة ضده، وتستخدم حتى المقربين إليه، لذا قال الرب: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36). يقول القديس أغسطينوس: [نقرأ في الإنجيل الكلمات: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا"، "يكون من الآن خمسة في بيت واحدٍ منقسمين ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن... والحماة على كنتها" (لو 12: 52، 53). أي سيف هذا إلا الذي جاء به المسيح، وقد تحقق الانقسام؛ فإنه إذ يقدم شاب عاقل نفسه لخدمة الله يعارضه والده، فيحدث بينهما انقسام. الواحد يطلب الميراث الأرضي والآخر يحب السماوي].

7. إذ يستل الرب سيف صليبه ليضرب بقوة عدو الخير، وينجح ويملك، إنما يقيم مملكة الحق والوداعة والعدل:

"من أجل الحق والوداعة والعدل؛

فتهديك بالعجب يمينك" [4].

إن كانت مملكة إبليس تقوم على الباطل (الكذب) والكبرياء والظلم، فقد تجسد الكلمة وصُلب لكي يُحطم بالحق والوداعة والعدل مملكة الظلمة ويقيم مملكة البر الإلهي في داخلنا.

أ. قاوم الرب الباطل بالحق، والكذب بالصدق، بكونه "الحق" نقبله فينا فلا يستطيع الباطل أن يجد له فينا موضعًا، نقبل النور فتهرب الظلمة.

v   أُعيد "الحق" فينا، "الحق من الأرض أشرق والعدل من السماء اطلع" (مز 84: 11). لقد جاء المسيح كتوقعات البشرية، إذ في نسل إبراهيم "تتبارك كل الأمم".

القديس أغسطينوس

إنه لم يعلمنا الحق فحسب، وإنما قدم نفسه لنقتنيه؛ وهكذا أيضًا بالنسبة للوداعة، فبتجسده اتضع لنقتنيه فنحمل الوداعة والاتضاع، وبه نحطم كبرياء إبليس. بمعنى آخر، السيد المسيح هو سلاحنا ضد العدو المتكبر.

شهد إشعياء النبي عن وداعته العجيبة، قائلاً: "كشاة تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش 53: 7). كما قال السيد عن نفسه: "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29).

وأخيرًا فأنه بعدله يهبنا ملكوت البر الذي لا يعرف الظلم.

هناك ارتباط بين الحق والوداعة والعدل، إذ هم وجوه مختلفة لملكوت واحد؛ فإن كان المؤمن يقبل المسيح "الحق" ففي رفضه للباطل يلتزم بروح الوداعة؛ بمعنى آخر لا يسقط تحت الغضب بحجة الدفاع عن الحق؛ وفي وداعته يلتزم بالعدل والبر الإلهي... جميعها هبات إلهية، أو قل هي عطايا الروح القدس فينا الذي يأخذ مما للمسيح ويهب الكنيسة لتحمل شركة سماته وتتهيأ للعريس الأبدي.

هذه هي أسلحة العريس السماوي: الحق والوداعة والعدل... وهي الأسلحة التي لأجلها قَبِلَ الصليب ليُحطم الباطل ويذل الكبرياء وينتزع سلطان إبليس الظلم. بهذا تعتز يمين الرب وتحقق عجبًا، أو كما يقول القديس أغسطينوس: [إنه بهذا تقودنا يمينه أي قدرته وتصنع فينا أعمالاً عجيبة! إنها أسلحة فعّالة اجتذبت الكثيرين من الوثنية بأساطيرها الباطلة وتشامخها وعنفها إلى الشركة مع الله بالروح القدس في المسيح يسوع ليمارسوا الحياة الجديدة الفائقة السمو. لهذا يترنم المرتل، قائلاً:

"نُبلك مسنونة أيها القوي،

الشعوب تحتك يسقطون في قلب أعداء الملك" [5].

ما هي نبل السيد المسيح إلا الكرازة بالصليب التي اخترقت القلوب وجرحتها بالحب، وألهبتها بروح القوة التي لا تعرف الفشل أو اليأس. لقد أصابت القلوب التي كانت في عداوة مع الملك العريس، فخضعت له بالإيمان وسجدت له في طاعة عجيبة، تتمتع بالحياة الجديدة.

يرى البعض[863] أن نبل الملك المسنونة هم الرسل الأطهار الذين سنّهم الروح القدس وصقلهم فانغرسوا في قلوب الشعوب والأمم يشهدون لتعاليم الرب ولعمل نعمته العجيبة! ففي يوم العنصرة تمتع الجمهور الحاضر بهذه النُبل المسنونة، إذ قيل: "فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرحال الإخوة؟" (أع 2: 37). ويتحدث الرسول بولس عن عمل الروح خلال النبوة في الكنيسة: "هكذا يخر على وجهه، ويسجد لله مناديًا أن الله بالحقيقة فيكم" (1 كو 14: 25).

v   يقول: "سهامك مسنونة". إن وصايا (سهام) الله المنطلقة في كل مكان تنذر بكشف خبايا كل قلب، حاملة وخز الضمير وتغييره في كل أحد[864].

العلامة ترتليان

5. إعلان ملكوته:

"كرسيك يا الله إلى دهر الدهور.

قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك.

لأنك أحببت البر، وأبغضت الإثم.

من أجل هذا مسحك الله إلهك بزيت البهجة أفضل من رفقائك.

المرّ والميعة والسليخة من ثيابك.

من المنازل الشريفة العاج الني منها ابتهجت" [6-8].

يتطلع المرتل إلى المسيّا الملك الغالب بصليبه، الذي يُقدم دمه الثمين كفارة عن خطايا العالم، ومهرًا لعروسه الملكة السماوية، فيترنم قائلاً: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور". وقد وضعت الكنيسة القبطية لحنًا مشهورًا يُدعى "بيك اثرونوس" أي "كرسيك" يستغرق حوالي ثلث ساعة تنطلق فيه النفس لتتأمل في عرش الملك المصلوب. تترنم به الكنيسة في أسبوع الآلام (الثلاثاء) كما في الجمعة العظيمة قبل الدفن... إن أحداث الصلب والدفن في عيني المؤمن ليست إلا إعلانًا عن عرش الملك الأبدي.

ما هي سمات هذا الملكوت المُعلن بالصليب؟

1. ملكوت إلهي: اقتبس القديس بولس هذه الآية وما بعدها في (عب 1: 8، 9) لتأكيد لاهوت ربنا يسوع المسيح؛ فإنه لا يمكن مطلقًا أن نوجه حديثنا إلى سليمان الحكيم أو غيره من الملوك، قائلين: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور"؛ إنما هو حديث خاص بالكلمة المتجسد الذي يعلن ملكوته فينا ويحملنا إلى ملكوته السماوي إلى الأبد.

v   جليٌّ أنه حتى قبل أن يصير إنسانًا كان ملكًا وربًا منذ الأزل. إنه أيقونة الآب وكلمته؛... وقد تحدث بطرس عن ربوبيته علينا، التي تحققت حين صار إنسانًا (إذ ملك علينا)، مخلصًا الكل بالصليب وقد صار ربًا على الكل وملكًا (أع 2: 36) [865].

القديس أثناسيوس الرسولي

2. ملكوت أبدي: لكل مملكة بداية كما لها نهاية، أما المسيا الملك فقد جاء يعلن عن ملكوته فينا لنبقى معه إلى الأبد، حيث لا يقدر الموت أن يُحطم ملكوته! إنه يحملنا ونحن بعد في الجسد إلى ما فوق الزمن والمكان لنحيا بقلوبنا معه في ملكوته، مترنمين مع الرسول: "أجلسنا معه في السمويات" (أف 2: 6) متممين الوصية: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله؛ اهتموا بما فوق لا بما على الأرض... متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 1-4).

3. قضيب ملكه قضيب الاستقامة: في حكمة تارة يترفق وأخرى يؤدب، وفي الحالتين يطلب استقامتنا وبرَّنا، فهو محب للبرِّ، لأنه قدوس ومبغض للإثم، لأنه لا يمكن أن تتفق الظلمة مع النور.

4. له مسحة الابتهاج: في العهد القديم كان الأنبياء والكهنة والملوك يُمسحون بالدهن المقدس علامة حلول الروح عليهم لتكريس حياتهم وطاقاتهم لحساب شعب الله. بهذا يُحسبون مُفرزين للعمل المقدس، في ملكية الله ولحسابه، ولا يجوز لهم الانحراف عن رسالتهم. ولم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يُسمح إنسان ما ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت، لأن الكهنة من سبط لاوي بينما الملوك من سبط يهوذا، أما كلمة الله فقد قبل إخلاء ذاته بإرادته خلال التجسد والصلب ليعمل لحساب البشرية ولتقديسها فيه بكونه الكاهن الفريد الذي وحده الكاهن والنبي (رب الأنبياء) والملك والذبيحة... هذا هو مفهوم مسحته. فريد في مسحته لأنه وهو رب الكهنة والأنبياء والملوك وخالق الذبائح قبِل بإرادته ومسرته أن يصير الكاهن والنبي والملك والذبيح!

مُسح بزيت البهجة، لأنه قبِل هذه المسحة بسرور، كقول الرسول: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). كما قبلها كمسرة أبيه الذي يشهد عن الابن قائلاً: "هذا هم ابني الحبيب الذي به سُررت" (مت 3: 7؛ 17: 5، مر 1: 11؛ لو 3: 22).

بمسحته الفريدة يهبنا نحن أعضاء جسده، مسحة البهجة في سرّ الميرون، فنُحْسب ملوكًا وكهنة (رؤ 1: 6) وذبيحة أو تقدمة للرب! دُعي "المسيح" بكونه الممسوح لخلاصنا أزليًا، ونحن نُدعى مسيحيين لأننا به نُمسح لله وتُفرز قلوبنا لحساب ملكوته.

لقد مُسح السيد المسيح كحجر مرفوض يصلح رأسًا للزاوية (مز 118: 22)، وكما يقول الرسول بطرس: "الذي إذ تأتون إليه حجرًا مرفوضًا من الناس، ولكنه مُختار من الله كريم، كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية بيتًا روحيًا كهنوتيًا مقدسًا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بط 2: 4، 5).

أُشير إلى السيد المسيح كحجر مرفوض من الناس مقدّس لله بالحجر الذي وضعه يعقوب تحت رأسه عندما نام (تك 28: 11-18)، فرأى السماء مفتوحة و "إذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء". وملائكة الله صاعدة ونازلة عليه، عندئذ قام يعقوب ومسح الحجر بالزيت ثم تركه ومضى... إنه رمز للسيد المسيح الذي مُسح ليصالح السماء مع الأرض، لكنه هو المسيح المتروك أو المرفوض من الناس!

فيما يلي بعض تعليقات للآباء عن الكلمة المتجسد الممسوح، والذي فيه نحن مُسحنا:

v   هذا الختم (المسحة) هو بالحري على قلوبنا لا على أجسادنا[866].

القديس أمبروسيوس

v   لأنه بالحق نال كل الملوك والأشخاص الممسوحين منه نصيبهم في أسماء الملوك والمسحاء، كما تسلم هم نفسه من الآب الألقاب: "الملك والمسيح والكاهن والملاك" والألقاب الأخرى المماثلة التي يحملها أو قد حملها.

عصا هرون التي أفرخت تعلن عنه أنه رئيس الكهنة، وقد تنبأ إشعياء أن قضيبًا يخرج من جذع يسىَّ، وكان هذا هو المسيح[867].

الشهيد يوستين

v   يستحيل الإيمان بالمسيح دون تعلم الاعتراف بالآب والابن والروح القدس، لأن المسيح هو ابن الله الحيّ، الذي مسحه الآب بالروح القدس (مت 16: 16؛ أع 10: 38). وكما يقول داود بإعلان إلهي: "لهذا مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك"، وإذ يتحدث إشعياء باسم الرب يقول: "روح الرب عليّ، لأن الرب مسحني" (إش 61: 1) [868].

v   حين أصبح إنسانًا أخذ اسم المسيح، لأن الألم والموت هما ثمرة هذا الاسم[869].

الأب يوحنا الدمشقي

v   بهذه الكلمة كشف عن اسمه، إذ كما سبق فشرحت إنه دُعي مسيحًا من المسح anointing[870].

الآب لاكثانتيوس

v   انظروا أيها الأريوسيون، واعلموا ما هو الحق... يسبحه المرتل بكونه الله السرمدي، قائلاً: "كرسيك يا الله منذ الأزل وإلى الأبد"، وقد أعلن عن الأمور الأخرى لكي تشاركه فيها... لقد مُسح هنا، لا لكي يصير إلهًا، إذ هو كذلك من قبل؛ ولا لكي يصير ملكًا، لأن ملكوته أزلي؛ إذ هو صورة الله، يُظهر الاعلان الإلهي المقدس. لكن لأجلنا كُتبت هذه الأمور مقدمًا. فإن ملوك إسرائيل صاروا ملوكًا عند مسحهم، وهم لم يكونوا هكذا قبلاً، وذلك مثل داود وحزقيال ويوشيا والبقية. أما بالنسبة للمخلص فعلى العكس هو الله، الحاكم أبدًا. قيل عنه كإنسان إنه مُسح بالروح، ليمنحنا نحن البشر، لا الرفعة والقيامة فحسب وإنما أيضًا سكنى وألفة الروح، ولتأكيد هذا الأمر يقول الرب نفسه بفمه في إنجيل يوحنا: "أرسلتهم أنا إلى العالم؛ ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو 17: 18، 19) بقوله هذا أوضح أنه ليس المقدَّس بل المقدِّس، لا يقدسه آخر بل يتقدس بذاته! يتقدس في الحق؛ من يقدس ذاته هو رب التقديس، فكيف يحدث هذا إذن؟ ما الذي يعنيه سوى هكذا: "إنني يكوني كلمة الآب، أبذل ذاتي، أصير إنسانًا، أتقدس فيه، حتى يتقدس الجميع فيّ أنا الذي هو الحق"[871].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   هذا هو زيت الابتهاج، الذي يقول عنه النبي: "مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" [7]. أخيرًا يقول بطرس: "أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئًا من الجليل بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا، يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع 10: 37، 38). الروح القدس إذن هو زيت الابتهاج. حقًا قال: "دهن الابتهاج" لئلا تحسبونه مخلوقًا، لأن طبيعة هذا النوع من الدهن لا يختلط برطوبة (ماء) من نوع آخر. هكذا أيضًا لا تمسح البهجة الجسد بل تنير القلب الداخلي، كما قال النبي: "جعلت سرورًا في قلبي" (مز 4: 7) [872]...

القديس أمبروسيوس

يرى القديس أمبروسيوس في هذه المسحة إنها "دهن بهجة" ترتبط بالأعماق الداخلية لا الجسد، فتنزع عن القلب روح الغم والتبرم، وتهبه الفرح والبهجة، كما يُفصل من الماء بسهولة، لأن الزيت يطفو عليه ولا يمتزج به.

إذ يتحدث المرتل عن المسحة التي بها نكتشف سرّ الصليب، يقول "مُرّ وميعة وسليخة من ثيابك" [8].

كانت ثياب أمراء الشرق ثمينة للغاية (لو 7: 25)، أما ثوب السيد المسيح فهو كنيسته، وهو ذو أريج حلو يبهجه بعمل روحه القدوس. كنيسته طاهرة "بلا دنس ولا غضب" (أف 5: 27)، تحمل رائحة بره وقداسته، رائحة المسيح الذكية (2 كو 2: 15).

ويرى بعض القديسين أن ثياب السيد المسيح قد نسجت من خيوط آلامه على الصليب ودفنه، لأن المرّ والميعة والسليخة تُشير إلى الأطياب التي طُيَّبَ بها جسد السيد المسيح.

v   يشير النبي بهذه العطور إلى آلام ربنا وموته، لأنه عند إنزال جسده المقدس عن الصليب طيَّبه يوسف ونيقوديموس بمر وميعة. الميعة هي عصير شجرة، والسليخة هي قشرة تُسلخ من شجرة. يقول القديس باسيليوس الكبير: [إن المُرّ رمز لدفنه لأنه مشدد (جاف) ويدل على وضع الجسد في القبر؛ وأما الميعه فلكونها سائل فهي تدل على نزوله إلى الجحيم ليخلص المسجونين هناك: وأما السليخة فتدل على شجرة الصليب، وهذه قد فاضت رائحة عطرها، وملأت رائحتها الذكية البرايا. وأما قوله "من ثيابك" فيدل على تجسد ربنا وأخذ جسدًا يحل فيه اللاهوت.

الأب أنثيموس الأورشليمي

المُرّ هو نوع من الأطياب يستخرج كصمغ من شجرة ضخمة قصيرة تُسمى Balsamodendron Myrrah. وهو على شكل حبوب بيضاء أو صفراء لها رائحة ذكية. أُستخدم المُرّ في صنع المسحة المقدسة (خر 30: 23)، وفي التحنيط (يو 19: 39)، وفي تعطير النساء (إس 2: 12، أم 7: 17)، وهو ذو قيمة ثمينة (مت 2: 11). وهو أحد الهدايا التي قدمها المجوس عند ميلاد السيد المسيح.

الميعة[873] وهي زيت عطري يستخرج من شجرة من أصل هندي تنمو في جميع الأراضي المقدسة. ويظن البعض أن الميعة هي صمغ راتينجي يُستخرج من شجرة شبيهة بشجرة المُرّ، وهي نوع من Balsamodendron. كان هذا العطر مستخدمًا في فلسطين للملابس وفي المخدع وعند الدفن في التكفين (أم 7: 17؛ نش 4: 14؛ يو 19: 39).

وتتكون السليخة (خر 30: 24؛ حز 27: 19) من عيدان من لحاء شجرة نوع من "القرفة" Cinnamomum Cassia، نبات ينمو في الصين وماليزيا. وبراعم السليخة هي زهور لم يكتمل نضوجها تحمل ذات طعم القرفة ورائحتها.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل يرى في الثوب تنوعًا، إشارة إلى أن خلاصنا لا يتحقق بالنعمة وحدها وإنما ثمة حاجة إلى الإيمان وما يلحقه من ممارسة الفضائل[874]. وكان المُرّ والميعة والسليخة تفوح رائحتها بكونها رائحة المسيح الذكية التي نتمتع بها بنعمة الله دون تكاسل أو تهاون من جانبنا!

يرى العلامة أوريجانوس أن ثياب كلمة الله تُشير إلى تعليم الحكمة الإلهية التي يفوح منها رائحة ذكية: يرمز المرّ إلى الموت الذي قبله السيد المسيح لأجل البشرية، والميعة تشير إلى تنازله وإخلائه ذاته ليحمل صورة العبد، والسليخة التي تستخرج من نبات يتغذى وينمو حيث ينهمر المطر بغزارة، تشير إلى فداء البشرية الموهوب من خلال مياه المعمودية[875]. وكأن غاية تعليم المسيح أن تموت معه (المُرّ) بروح الاتضاع (الميعة) متمتعًا بالبنوة لله (السليخة).

ويرى كل من القديسين أمبروسيوس[876] وأثناسيوس الرسولي[877] أن هذه العطور تُشير إلى الدفن إذ بها طُيّبَ جسد السيد المسيح. بمعنى آخر، إن كانت الكنيسة هي ثوب المسيح الملتصق به، فأنها لن تحمل رائحته الذكية ما لم تُدفن معه لتقوم أيضًا معه!

بعد أن تحدث عن ثياب المسيح التي تفيح رائحتها الذكية، يتعرض لهيكله البهي الناصع البياض الذي تقيمه نفوس المؤمنين بروحه القدوس، كمقدس له، وموضع بهجة!

"من المنازل الشريفة العاج التي منها ابتهجت.

بنات الملوك في كرامتك" [8].

v   الحصون (المنازل) التي يتحدث عنها تعني هياكل الله التي بُنيت بعد آلام المسيح وبعد أن فاح عطرها في العالم.

قوله "من العاج"... لأنه كثير الثمن ومتلألئ في البهاء ويدون طويلاً. هكذا صارت الهياكل المقدسة لامعة بنور نعمة الله ودائمة.

أما "بنات الملوك" فهن الملكة هيلانة والملكة أفدوكسيا وغيرهما اللواتي قمن ببناء هياكل مكرّمة وبهية في أورشليم كما في بلاد أخرى.

ويُقال أيضًا عن نفوس المؤمنين إنها بنات ملك الملوك الذي هو ربنا يسوع المسيح.

أنثيموس أسقف أورشليم

6. الملكة العروس:

بدأت تسبحة العُرس بالكشف عن شخصية العريس وإمكانياته وأعماله وسمات مملكته وفاعليته، الآن تقدم لنا العروس الملكة، ومركزها في عيني عريسها، وسمائها، ودورها الإيجابي.

"قامت الملكة عن يمينك" [9].

لم يقل "قانت العروس" بل "قامت الملكة عن يمينك" وذلك لتأكيد الحقائق التالية:

1. أنها وإن كانت في حالة عُرس دائم، وفرح بلا إقطاع، لكن يلزمها أن تدرك دورها الإيجابي بكونها "ملكة". دخولها إلى العُرس، هو دخول إلى حالة فرح، لا لتعيش مدللة تنتظر من يخدمها، بل تحمل المسئولية لتعمل لحساب الآخرين. جاء المسيح الملك لكي يخدم ويبذل نفسه عن كثيرين، وهكذا يليق بالكنيسة – كهنة وشعبًا – أن يشاركوا العريس هذه السمة: سمة الخدمة الباذلة والحب العملي بلا توقف!

2. جلوسها عن يمين الملك هو شرف عظيم، من يستحقه؟! لكنه "اليمين" يعني القوة، فجلوسها عن يمينه إنما يعني أنها تحمل قوته، فلا تنسب أي نجاح إلى ذاتها بل إلى عريسها العامل في حياتها... كل ما في حياتها هو ديْن لذاك الذي أقامها ملكة. لهذا إذ يشرح القديس يوحنا الذهبي الفم كيف رأى داود النبي الكنيسة ملكة يقول: [طرح نفسه علينا كثوب: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غل 3: 27). وحينما رأى داود ذلك الثوب من بعيد بعينيه النبويتين صرخ عاليًا، وقال: "قامت الملكة عن يمينك". فجأة صارت المتسولة والمطرودة ملكة تقف عن يمين الملك؛ ويظهر النبي المسيح والكنيسة كعريس وعروس واقفين في عُرس[878]].

3. إنه عرس فريد فيه ترتدي العروس عريسها كثوب تختفي فيه (غل 3: 27)، فتحمل شركة سماته: أي الحياة السماوية التي يرمز لها بالذهب. فقد قيل: "مشتملة بثوب موشى بالذهب متزينة بأنواع كثيرة" [9].

ثوب الكنيسة منسوب بالذهب، بمعنى آخر، في كل أفكارها وتصرفاتها تمارس الحياة السماوية، والفكر السماوي. أما زينتها المتنوعة فتشير إلى المواهب المتعددة لأعضائها. الكل يشترك في انسحاب قلوبهم إلى السماء لكن لكل واحد موهبته الخاصة التي لبناء الجميع. وكما يقول الرسول: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد" (1 كو 12: 6)، "هكذا أنتم أيضًا إذ أنكم غيورون للمواهب الروحية اطلبوا لأجل بنيان الكنيسة أن تزدادوا" (1 كو 14: 12).

4. يطلب العريس السماوي من عروسه أن تحتل مكانتها في العائلة الملوكية السماوية بكونها عروس وملكة. فهو يحبها، مقدمًا آخر قطرة من دمه لاقتنائها، إذ ليس من شيء في نظره أثمن منها. لهذا يطالبها مشاركته في ذات الحب، فتعتبر كل شيء آخر غيره بلا قيمة مهما كان عزيزًا عليها. يطلب منها أن تخرج بقلبها من العالم وشره وخداعاته، كما يُطالبها أن تهجر أقرب الناس إليها لتلتصق به، كما أخلى ذاته لكي يلتصق بها. لقد قدس ذاته لأجلها (يو 17: 19)، طالبًا تقديس كل حياتها أو تكريس كل قلبه لخدمته، حاسبًا هذا هو جمالها الروحي الذي يشتهيه فيها، إذ يقول:

"أسمعي يا ابنتي وانظري وميلي بسمعك.

وانسي شعبك وبيت أبيكِ.

فإن الملك اشتهي حسنك،

لأنه هو ربك" [10-11].

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[879] أن الكنيسة قد صارت عروسًا للمسيح بعد أن كانت أختًا له، إذ جددها بالمعمودية قبل أن تصير عروسًا له.

ولئلا تُفهم هذه الألقاب مثل "أخته" و "عروسه" بطريقة مادية أو بقرابة جسدانية أو دموية، نراه يدعوها هنا "ابنته". كيف تكون الأخت والعروس ابنة للعريس؟ إنه يود أن يكشف عن مدى شوقه للالتصاق بنا فيقدم لنا هذه الألقاب، فنقبله كل شيء بالنسبة لنا. ففي هذا المزمور يقدم نفسه هكذا:

* الإله [6] الأبدي الذي يملك على القلب ويحملنا إلى عرشه السماوي.

* المسيح [7] المسموح بدهن الابتهاج، مكرسًا كل إمكانياته ليهبنا فرحه الأبدي.

* الملك [6] الذي يقيمنا ملكة تنعم بشركة مجده الملوكي.

* عريسًا [11] نتحد به كعروس، فنحمل بهاء فينا.

* سيدًا [11] نتعبد له بفرح.

* أبًا روحيًا [10] ونحن ككل، ابنته المدللة في عينيه.

ويلاحظ في دعوته إليها بأن تنسى شعبها وبيت أبيها لتلتصق به، الآتي:

أ. يطالبها بتقديس حواسها، خاصة السمع والنظر؛ فإن كان هو سامع الصلوات والمتطلع إلى البائسين، يليق بنا نحن أن نسمع إليه بالطاعة، وأن نتطلع إليه بالحب. أول وصية هي "اسمع"... لأن الطاعة أفضل من ذبائح الجهال. والطاعة القلبية هي انعكاس للحب الداخلي الذي يسحب قلوبنا – العين الداخلية – التأمل في الله محبوبنا!

ب. يُطالبها بالتشبه بإبراهيم أب الآباء الذي بالإيمان أمال أذنه إلى دعوة الله، فترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه، منطلقًا من أور الكلدانيين إلى حيث دعاه الله لينال المواعيد الإلهية المتلاحقة. كان يجب عليه أن يخرج من بين الوثنيين، وينسى كل خبراتهم لينعم بخبرات روحية جديدة بالتصاقه بالله ودخوله في عهد معه.

v   في هذا المزمور يتحدث الله عن النفس البشرية أنها إذ تقتدي بإبراهيم يلزمها أن تخرج من أرضها ومن عشيرتها، وأن تترك الكلدانيين أي الشياطين (العبادة الوثنية) وتسكن أرض الأحياء التي يقول النبي عنها في موضع آخر: "وأنا أومن أني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء" (مز 27: 13).

لكن لا يكفي الخروج من أرضكم ما لم تنسوا شعبكم وبيت أبيكم، أي إن لم تحتقروا (شهوات) الجسد، وتلتصقوا بالعريس في عناق وطيد وثيق[880].

القديس جيروم

v   قال القديس باسيليوس: [إن أب الخطاة هو الشيطان، إذ قيل إن من يصنع الخطية هو مولود من إبليس (8: 41، 44). إن قوله أن يخرجوا من بيت أبيهم يعني أن يكفوا عن فعل الخطية وأن يولدوا لله بالمعمودية ليصيروا أولاده.

أنثيموس أسقف أورشليم

إذ يدعوها أن تنسى بيت أبيها... يشتهي حسنها، لأنها إذ تتخلى عن إبليس وأعماله تقبل عمل الله فيها كسرّ جمالها.

v   لا يُعطى النسيان جمالاً... فما نوع النسيان هذا الذي يسكب جمالاً على النفس؟ إنه نسيان الخطية!

لكن، متى يأتينا نسيان الشر؟ عندما نتذكر الأمور الصالحة، عندما نتذكر الله!

إن كنا نتذكر الله على الدوام لا يمكننا أن نتذكر تلك الأمور أيضًا!

v   إن كان فينا أي شيء عتيق، فلنطرحه عنا؛ إن كان فينا أي غضن أي دنس أو عيب، فلنغسله فنصير أطهارًا (أف 5: 27)...

يمكن حتى لمن تشوّه تمامًا أن يستعيد هذا الجمال الذي يقول عنه داود: "يشتهي الملك حسنك" [881].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   إننا مدعوون من الله الآب خلال مبادرة مباركة مغبوطة أن نهجر أبانا الشيطان.

حقًا إننا نترك أبانا الشيطان شريطة الاستعانة بالله، والجهاد الدائم أن نتحاشى شره المخادع ونهرب منه[882].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v   يعني إن تركتِ أعمال شعبكِ الشنيعة، وخرجت من بيت أبيك، يتجلى بهاؤك الأول، وتصيرين شهية المنظر. وأما بهاء النفس وجمالها فهو حسن العبادة والعفة والاتضاع وسائر الفضائل التي تُرضي الله.

أنثيموس أسقف أورشليم

v   بالنسبة للشخص الذي يقول: "اسمعي يا ابنتي"، يكون لها بمثابة أب.

إنه يشهد أن الذي يحثها على نسيان بيتها وشعبها هو أب لابنته، ويتم ذلك بموت الإنسان مع المسيح عن اهتمامات هذا العالم. يقول الرسول: "ونخن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى، لأن التي تُرى وقتية وأما التي لا تُرى فأبدية" (2 كو 4: 18).

وإذ ننطق قلبيًا من هذا  البيت المنظور الزمني نوجّه أعيننا وقلوبنا إلى ذاك الذي نبقى فيه إلى الأبد، ونحقق ذلك إذا ما كنا ونحن نتحدث في الجسد لا نعود بعد في حرب مع الرب حسب الجسد، معلنين بالقول والفعل حقيقة قول الرسول الطوباوي: "سيرتنا نحن هي في السموات" (في 3: 20) [883].

الأب بفنوتيوس

v   ترك الرسل والديهم (مت 9: 9؛ مر 11: 15-19)، تركوا الأقارب، تركوا كل ممتلكاتهم في لحظة. تركوا العالم وقنيته اللامحصورة...

الله لا ينظر إلى حجم الممتلكات، بل إلى تدبير النفس التي نبذتها[884].

القديس جيروم

v   إذ يعتبر البعض (في هذا القول) استعارةً، يقولون إنه حينما جاء المسيح من اليهودية خرجت الكنيسة لاستقباله، خرجت من ديارها (أي من الوثنية)، إذ كُتب: "أنسي شعبك وبيت أبيكِ". لأن المسيح أيضًا خرج من تخومه (مت 15: 21-22)، لهذا صار ممكنًا أن يقع كل منهما في حب الآخر, ولهذا قيل: "وإذا امرأة كنعانية خارجة من تخومها" (أنظر مت 15: 22) [885].

v   حتى راعوث، لو لم تكن قد تركت زوجها قبلاً ونبذت بيتها وجنسها وبلدتها وأقرباءها ما نالت هذه القربى. هكذا الكنيسة أيضًا إذ تخلت عن العادات التي اكتسبتها من آبائها، عندئذ وليس قبل ذلك، صارت جميلة في نظر عريسها[886].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقول السيد المسيح: "خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم" (يو 16: 28)، وذلك بإخلائه ذاته، ونزوله إلينا دون أن ينفصل قط عن الآب لأنه واحد معه ومساوٍ له في الجوهر... هو خرج إلينا ليلتقي بنا، ونحن أيضًا نخرج إليه من "الذات" أو "الأنا" لنلتقي معه في دائرة الإخلاء كعروس مع عريسها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[887]: [إنه إذ رأى البشرية وقد تركت الله وصارت زانية، نزل الكلمة الإلهي إليها لا في كمال بهائه بل ابنًا للإنسان، حتى لا تخاف منه ولا تهرب، بل تقبله وتتقبل الاتحاد معه والتمتع بعمله فيها فتصير بالحق عروسه الجميلة والملكة].

به نترك فسادنا ونحمل الطبيعة الجديدة الجميلة والتي لا يشيخ جمالها مع الزمن ولا ينحل.

v   اعلموا أنكم قد ارتبطم بالمسيح، فامتنعوا عن تلك الحماقات، إذ هو لا يُسر بمثل تلك الانحرافات، بل يطلب جمالاً آخر به يزداد حبه لنا بالأكثر جدًا، أعني ما في النفس (من جمال). هذا ما يُلزمكم النبي أن تطلبوه، إذ يقول: "فيشتهي الملك حسنك"[888].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   كيف تصير المدوسة والفقيرة ملكة؟!

إلى أين ارتفعت؟ لقد صارت الملكة التي تقف عاليًا بجوار الملك!

كيف؟ لأن الملك صار خادمًا، وهو ما لم يكن عليه بالطبيعة، إنما صار هكذا.

أفهموا إذن ما يخص اللاهوت، واستوعبوا ما يخص الإخلاء! أفهموا من كان هو؟ وماذا أصبح لأجلكم؛ ولا تخلطوا بين الأمور المتمايزة، ولا تجعلوا من جدلكم حول تعطفاته الجزيلة مجالاً للتجديف[889].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هكذا صار الملك خادمًا لكي يُقيم من الخادمة ملكة، وأخلى الملك ذاته لكي يسكب جماله عليها أبديًا!

v   المرض يفسد الجمال الجسدي، وطول الأيام يُحطمه، والشيخوخة تجعله شاحبًا، ويأتي الموت ويقتنصه بكليته. أما جمال النفس فلا تهزه الأيام ولا الأمراض ولا الشيخوخة ولا الموت ولا شيء من هذا، بل يبقى دائم الازدهار.

كم من مرة أسقط الجمال المتطلعين إليه في تصرفات شريرة؟! أما جمال النفس فيجتذب الله ذاته ليحبه، وذلك تمامًا كما قال النبي مخاطبًا الكنيسة: "اسمعي يا ابنتي وانظري وميلي سمعك... فإن الملك قد اشتهى حسنك"[890].

القديس يوحنا الذهبي الفم

5. كنيسة متعبدة لعريسها:

"لأنه هو ربك فأسجدي له" [11].

إذ يعكس العريس جماله عليها تصير جميلة جدًا جدًا وتصلح لمملكة (حز 16: 13)، فإنها في اتحادها معه تكتشف بالأكثر مجده، فتتعبد له في عذوبة فائقة. ومع كل تعبد تتعرف عليه بالأكثر فيزداد حبها له وخضوعها، لتبقى على الدوام تسجد له بكل كيانها في تهليل عجيب!

إنها كعروس متهللة بعريسها لا تعرف كيف ترد له إحساناته غير المحصاة، فتخضع له وتسجد علامة شكرها الدائم! ومع كل شكر تفيض نعم الله عليها بالأكثر فيزداد حنينها بالأكثر نحو تقديم الشكر والحمد له!... هذه هي سمة الحياة السماوية الفائقة!

يقول القديس غريغوريوس: [إنه في الأبدية إذ نخضع قائلين الثلاثة تقدسيات نشعر كأننا ننعم بمجده جديدًا في حياتنا فنقوم لنسجد، نبقى هكذا في عذوبة فائقة!

شتان بين خضوع إبليس وجنوده لله في يوم الرب العظيم حيث يطلبون أن تسقط الجبال لتغطيهم من وجه الجالس على العرش، وبين خضوع العروس المتهللة التي تنعم بشركة الأمجاد.

العروس الجامعة:

تتسم هذه العروس بالجامعة، فقد انفتح باب الإيمان أمام كل الأمم والشعوب بعد أن ظن اليهود زمانًا أن الإيمان بالله قاصر عليهم دون غيرهم. ويتمتع بهذا الإيمان كل الفئات حتى وجد أباطرة وملوك وأمراء لهم نصيبًا في كنيسة العهد الجديد. ففي دهشة يقول المرتل:

"وله تسجد بنات صور بالهدايا،

ويتلقون وجهه أغنياء شعب الأرض" [12].

كانت "صور" تمثل الغنى الفاحش خلال تجارتها العالمية مع الانحلال والفساد، بكونها بلدًا تجاريًا مفتوحًا للغرباء. وقد سبق لنا الحديث عنها في تفسيرنا لسفري حزقيال[891] وإشعياء[892]. ويرى القديس جيروم أن كلمة "صور" في العبرية تعني "محنة"[893]، لذا يرى أن سكانها يشيرون إلى الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه.

سجود صور للعريس وتقديمها هدايا يشيران إلى انجذاب الأمم إليه وتقديم العبادة. وكما يقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [ستخضع له كافة الأمم، لأنه للمسيح تنحني كل ركب. وقد ذكر صور المدينة التي كانت تُتاخم بلاد اليهود، وكانت فيها عبادة الأصنام زائدة. وأيضًا بذكره صور شمل كافة الأمم، وهذا تعريف للكل من الجزء. فيقول إن الأمم جميعها التي هي على مثال أهل صور ستخضع له، وتقدم له هدايا الإيمان المستقيم والأعمال الصالحة].

بقوله: "ويتلقون وجهه أغنياء شعب الأرض" [12] يرى المرتل أن المؤمنين بالسيد المسيح هم الأغنياء في الإيمان، الذين صاروا به ملوكًا وكهنة (رؤ 2: 1)، أغنياء في عيني الله الذي يتقبلهم أبناء له بروحه القدوس في مياه المعمودية. بمعنى آخر إذ تقدم إليه الأمم من كل العالم ينالون غنى وشبعًا ومجدًا داخليًا فلا يشعرون بعوزٍ أو احتياج. هذه هي إحساسات الرسول بولس الذي يجد في مسيحه كنوز الحكمة والعلم (كو 2: 3)؛ كما يقول: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم" (1 كو 1: 5).

7. مجد العروس:

نزل العريس السماوي إلى أرضنا لكي يبسط ذراعيه على الصليب فيضم المؤمنين من كل الأمم إلى أحضانه كعروس سماوية تحمل بهاء في داخلها، تطلب المجد الخفي لا المظاهر الخارجية. إنها كخيمة الاجتماع المغطاة من الخارج بجلود ماعز بلا جمال، أما الداخل ففيه أثمن أنواع الأقمشة من أرجوان وأسمانجوني مع تابوت العهد المبطن بالذهب والمنارة الذهبية بكل جمالها ومذبح البخور الذهبي الخ... من الخارج يراها العدو كما في فقر وخزي فيحتقرها، وفي الداخل يراها عريسها فيفرح بها. هكذا يرى الرسول أيضًا في خارجه الإنسان الذي يفنى بينما الداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). من الخارج عار الصليب خارج المحلة، وفي الداخل قوة القيامة وبهجتها.

يُحدثنا المرتل عن مجد العروس هكذا:

1. مجد داخلي:

"كل مجد ابنة الملك من الداخل" [13].

إذ تدخل العروس إلى حجال عريسها الملك تصير له كل شيء: عروسًا وابنة وخادمة وصديقة الخ... تُمجده بحياتها حتى بأفكارها الخفية فيُمجدها هو أيضًا.

v   يجب أن نلاحظ أنه كما أن للملك حجالاً خاصًا إليه تُحضر عروسه أو ملكته، هكذا للعروس غرفتها حيث يُغلق الباب متى لحق بها كلمة الله (اللوغوس) ودخلت معه. لهذا فهي بكل ما لها من غنى في الداخل تغلق عليه في غرفتها هذه لتُصلي إلى الآب الذي يرى في الخفاء، وتدرك نفائس ما جمعته هناك، وإذ يبصر غناها يهبها ما تطلبه في صلواتها.

العلامة أوريجانوس

يُناجي العريس السماوي عروسه الممجدة في الداخل، قائلاً: "أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12). كأنه يقول لها: أذكري إمكانياتي فيك، فإنني أنا سرّ مجدك، جعلتكِ جنة وعينًا وينبوعًا؛ غرست فيكِ بروحي القدوس أشجارًا متنوعة، وفجّرت فيك ينبوع ماء حياة، وصرت لكِ سورًا من كل جانب حتى لا يتسلل إليك لص أو وحش مفترس.

يُحدثنا الحكيم عن الإمكانيات الداخلية المجيدة، قائلاً: "اشرب مياهًا من جبك، ومياهًا جارية من بئرك. لا تفض ينابيعك في الخارج، في الشوارع، مع الغرباء"... كما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص[894]: [إنه حينما تنحرف أفكارنا الداخلية نحو الخطية الغريبة نكون قد أضعنا مياه ينابيعنا، وقدمناها للغرباء].

حين نركز أنظارنا على المجد الداخلي يُقيم الله نفسه حارسًا على أبواب قبلنا أو إنساننا الداخلي، إذ يؤكد: "وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها وأكون مجدًا في وسطها" (زك 2: 5).

يرى القديس أمبروسيوس أن المجد الداخلي المختوم هو بتولية النفس التي تحمل ثمارًا كثيرة صالحة: [ينطق السيد بهذا القول (نش 4: 12) للكنيسة التي يُريدها بتولاً بلا دنس ولا عيب. الجنة المخصبة هي البتولية التي يمكن أن تحمل ثمارًا كثيرة لها رائحة صالحة... إنها جنة مغلقة، لأنها محاطة بسور الطهارة من كل جهة. وهي ينبوع مختوم، لأن البتولية هي ينبوع العفة وأصلها، تحفظ ختم النقاوة مصونًا بغير اضمحلال، فيه تنكس صورة الله، حيث تتفق نقاوة البساطة مع طهارة الجسد أيضًا[895]].

2. مجد سماوي:

"مشتملة بأطراف موشاة بالذهب" [13].

في العهد القديم كان بهدب رداء الكاهن رمانات من نسيج ذات ألوان بديعة يتخللها أجراس ذهبية، يرى العلامة أوريجانوس أن هذه الأجراس يُلزم أن تدق على الدوام رمزًا لعدم سكوت الكاهن عن التحدث عن الأزمنة الأخيرة ونهاية العالم[896]. هكذا تحمل الكنيسة في عبادتها وسلوكها وعقائدها الطابع الأخروي السماوي (الذهب)، حتى أطرف ثوبها سماوية.

3. مجدها في تنوع مواهبها:

"متزينة بأشكال كثيرة" [13].

4. مجدها في كرازتها وشهادتها لعريسها.

"يدخلن إلى الملك عذراى في أثرها.

جميع قريباتها إليه يقدُمْنَ" [14].

إذ تنجذب النفس إلى عريسها تسحب معها قلوب كثيرة بشهادتها له، تأتي بكثيرين كعذارى.

5. كنيسة متهللة:

"يَبْلُغْنَ بفرح وابتهاج؛

يدخلن إلى هيكل الملك" [15].

تفرح كل نفس بعريسها وتتهلل من أجل غنى أعماله ومحبته الفائقة لها. أما سرّ فرحها فهو دخولها إلى هيكل الرب السماوي.

يرى القديس باسيليوس الكبير أن الحديث هنا عن الكنيسة الواحدة التي تجتذب الكثيرين من فساد معتقداتهم لتهبهم روح الفرح الحقيقي وتدخل بهم إلى الممالك السماوية.

6. كنيسة مكرمة:

"ويكون لك أبناء عوضًا من آبائك.

تُقيمهم رؤساء على سائر الأرض" [16].

لقد مات الآباء البطاركة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأقام الله من أبنائها (الرسل) رؤساء وملوكًا روحيين في كل أقطار المسكونة[897]، لهم سلطان روحي أن يحلو ويربطوا حسب إنجيل المسيح.

v   يتحدث الطوباوي داود هنا عن اختيار الرسل القديسين[898].

القديس كيرلس الكبير

7. كنيسة مسبحة تُمجد اسم الله:

"ويذكرون اسمك في كل جيل وجيل؛

من أجل ذلك تعترف لك الشعوب يا الله

إلى الدهر وإلى دهر الدهور" [17].

إنها تجتذب المؤمنين من كل الشعوب ليُسبحوا لله ويعترفوا بعمله الخلاصي العجيب.

 

 

 


 

لتُسبحك نفسي أيها العريس الأبدي!

v   هب لي يارب أن يشترك لساني مع قلبي في تسبيحك،

فإن فيض حبك في داخلي يلهب أعماقي!

وقد بقى لساني عاجزًا عن التعبير عما في باطني!

v   لتكشف عن بهاء جمالك في أعماقي،

يا من أنت أبرع جمالاً من بني البشر!

لتسكب بهاءك عليّ، فأحمل شركة سِماتك!

v   جميل أنت يارب في حبك،

بنزولك إليّ رفعتني إلى حضن أبيك،

وبدخولك إلى معركة التجارب وهبتني نصرتك،

وبضعفك أعطيتني ما هو أعظم من القوة!

جميل أنت على الصليب،

فقد فتحت لي أحشاءك الملتهبة حبًا،

فأدخل واستقر فيها!

جميل أنت في قيامتك،

حطمت أبواب الجحيم، وفتحت لي أبواب الفردوس!

جميل أنت في صعودك،

فأنني أترقب مجيئك لكي أدخل معك إلى سمواتك!

v   شفتاك تقطران دسمًا،

كلامك يهب نعمة الحياة والقيامة!

قل كلمة فانجذب إليك، وأبقى معك إلى الأبد!

v   ما أروعك أيها العريس الملك المحارب،

اضرب بسيفك لتبتر كل شر في داخلي،

ادخل إلى معركة قلبي لتقيم عَلَمْ ملكوت محبتك فيّ!

أقم في داخلي ملكوت الحق والوداعة والعدل!

v   أيها المسيح إلهي،

امسحني بدهن روحك القدوس واهب البهجة!

افرزني لحساب ملكوتك!

v   هب لي موضعًا عن يمينك أيها الملك السماوي،

فأُحسب ملكة سماوية،

ارتدي ثوب برك،

وأتزين بمواهب روحك القدوس!

v   ادعني بصوتك فأنسى العالم وكل ما فيه،

أنجذب إليك بكل قلبي،

ويأتي معي كل من يشتهي العذراوية الروحية!

v   اسكب مجدك في داخلي،

فقد اشمأزت نفسي من المجد الباطل.

فيفيض قلبي بالتسبيح لك إلى دهر الدهور!

v   لك المجد أيها العريس السماوي،

اكشف لي عن أسرار عُرسك!

<<

 

 

 

 

 

 

 


 

المزمور السادس والأربعون

رب القوات معنا

يعتبر البعض أن هذا المزمور هو أول مزامير صهيون أو الكنيسة؛ وهو قريب في روحه من المزمورين 48 و 76. ويرتبط هذا المزمور مع المزمورين التاليين (48، 48) ليكوَّنا ثالوث تسبيح.

وُضع هذا المزمور في مناسبة عمل خلاصي قدمه الله لشعبه بطريقة فائقة مثل خلاص أورشليم من حصار سنحاريب (2 مل 19: 8-9)؛ أو خلاص يهوشفاط وشعب يهوذا من آرام وبني عمون وذلك عندما ابتدأ المرتلين في التسبيح للرب (1 مل 20: 1-30)، إذ قيل: "لأن الحرب ليست لكم بل لله" (2 أي 20: 15).

يعلن المزمور الحضرة الإلهية، أو سكنى الله وسط شعبه بكونه "رب القوات" [7-11]، يهب شعبه القوة على الطبيعة حتى إن تزعزت الأرض وانتقلت الجبال إلى البحار [1-3]، وعلى الأعداء إذ هو في وسط شعبه فلن يتزعزع [4-7]، بل وعلى المسكونة كلها [8-11]. هكذا يتجلى الله المخلص في وسط كنيسته، صهيون الجديدة، كما في وسط جيش بألوية (نش 6: 4)، يهبها نصرته.

تستخدم بعض الكنائس هذا المزمور في الاحتفال بعيد الأبيفانيا (الظهور الإلهي) حيث يتجلى الله المخلص وسط شعبه معلنًا عمله فيه، وفي عيد عرس قانا الجليل حيث يحول السيد المسيح الماء إلى خمر يفرح قلب الكنيسة، كما يستخدم في الاحتفال بتكريس كنيسة ما[899].

الإطار العام:

1. رب القوات واهب القوة            [1-3].

2. رب القوات واهب البهجة [4-7].

3. رب القوات واهب النصرة         [8-11].

القرار:

"رب القوات (الصباؤوت) معنا، وناصرنا إله يعقوب" [7-11].

يُنسب لقب "رب الصباؤوت" أو "رب الجنود" إلى الله الحالّ على التابوت، حيث يُعلن إنه الإله الحاضر في القصر الملكي السماوي الذي لطغماته السمائيين. كما يُنظر إلى كنيسته كجيش روحي تتمتع بالعهد مع الله، تُجاهد روحيًا لإقامة ملكوته فيها (خر 7: 14؛ 21: 41؛ عد 10: 36؛ 1 صم 17: 45).

كان لقب "رب الجنود" يمس حياتنا من جانبين:

1. ظهور الله كملك محارب وكقائد، لا يدفعنا إلى المعركة مع إبليس وقواته بأوامره ووصاياه، إنما يدخل معنا المعركة، ويتقدم صفوفنا، ويهبنا قوته الغالبة، وكما يقول إشعياء النبي بعد أن شاهد معصرة الصليب: "من ذا الآتي من أدوم بثياب حُمر من بصرة، هذا البهي بملابسه، المتعظم بكثرة قوة... هكذا قُدمت شعبك لتصنع لنفسك اسم مجد" (إش 63: 1، 14). ويقول الرسول "يقودنا في موكب نصرته" (2 كو 2: 14).

لقد قدم لنا كل الإمكانيات لنصرتنا، وبقى هو القائد الحقيقي الذي يمسك عجلة قيادة الكنيسة بنفسه. وكما نقول في القداس الإغريغوري إنه لم يرسل لنا ملاكًا ولا رئيس ملائكة ولا كاروبًا بل نزل بنفسه إلينا... وكما يقول الرسول: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا كل شيء معه؟!" (رو 8: 32).

إنه لم يأتمن أحدًا غيره على خلاصنا، وقد قدم جنوده السمائيين لخدمتنا أو كما يقول الرسول بولس عن الملائكة إنهم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14).

نصرتنا أكيدة مادمنا في شركة مع رب القوات، الذي يحل فينا بروحه القدوس. يأمر الكواكب فتحارب في المعركة؛ ويُرسل فرقًا من الملائكة أينما أراد، بينما أهلك ملاك واحد في ليلة واحدة 185.000 جنديًا (2 مل 20: 35)

إنه رب القوات الذي تخضع له كل الطبيعة، يأمرها فتطيعه.

v   غالبًا ما يُقال عن الشعب هكذا (قوات الرب)؛ كمثال قيل إن كل قوات الرب قد خرجت من أرض مصر؛ كما توجد أيضًا قوات أخرى هم السمائيين، فيقول الكتاب: "رب القوات معنا، إله يعقوب ملجأنا"[900]].

v   "إله يعقوب رافعنا". اجعل نفسك كطفل صغير يرفعه والده. لأن من لا يُرفع فهو (طفل) متروك، أما من يُرفع فمُعتنى به.

القديس أغسطينوس

ب. يُنسب نفسه إلى جنوده المجاهدين في طريق بره، لذا يدعو نفسه "رب الجنود"، كما يدعو نفسه "إله يعقوب"، لأن يعقوب صارع مع الله والناس وغلب... إنه إله المجاهدين لا الكسالى والمتراخين.

العنوان:

"لإمام المغنين، لبني قورح، ترنيمة على علاموث Alamoth" وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام لبني قورح، من أجل الخفايا".

1. كلمة "alam" تعني "سرًا" أو "خفية"[901]، ولهذا جاء العنوان في بعض النصوص كالترجمة السبعينية "من أجل السرار" أو "من أجل الخفايا"، فإن هذا المزمور يعلن عن سرّ الله الخاص بسكناه وسط كنيسته بكونه ملجأها وخلاصها وسلامها.

يرى بعض أن تعبير "ترنيمة على علاموث Alamoth" تعني تسبحة الكنيسة الفتاة البتول، لأن كلمة alamoth مشتقة من آلما Alama، وهو التعبير الخاص بالقديسة مريم والدة الإله في (إش 7: 4) بكونها فتاه مخطوبة عذراء!

كأن هذا المزمور هو نشيد المعركة الإلهية التي يُتقدمها رب القوات بغية تقديس كنيسته، وتقديمها عروسًا عذراء. بهذا الروح يعمل خدامه، قائلين مع الرسول بولس: "فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة لمسيح" (2 كو 11: 2).

يرى البعض أن الكلمة "alamoth" تشير إلى نغمة موسيقية لنشيد يبدأ بكلمة "عذارى".

2. سبق لنا الحديث عن "إلى التمام"[902]، بكونه تعبيرًا عن تحقيق الأمر في ملء الزمان حيث تجسد كلمة الله وتمم خلاصنا، وصار هو نفسه "نهاية اشتياقاتنا" أو غايتنا. وهو أيضًا غاية الناموس أو نهايته.

v   يلزم فهم ما قيل "إلى التمام" إنه خاص بالمسيح. لأن "غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4). وهو يُدعى "النهاية" ليس لأنه ينتهي وإنما يكمَّل.

القديس أغسطينوس

3. "بنو قورح" Core، أي أبناء الجلجثة أو الصليب كما سبق فرأينا[903]، فإنه لا يقدر أحد أن يتمتع بتسبحة رب القوات كرب الكنيسة الغالب ما لم يرتبط بالصليب "قوة الله" للخلاص (1 كو 1: 24). كلما أنشد أبناء المصلوب تسبحة صهيون المنتصرة بصليب مخلصها يكتشفون أسرارًا إلهية خفية بأعماق جديدة، مشتاقين أن يبلغوا كمالها... وهذا يولد فيهم عطشًا أكثر نحو المعرفة الروحية والتمتع بالأسرار.

v   السرّ إذن ليس إلا (المسيح) نفسه، هذا الذي بصلبه في موضع الجلجثة Calvery شق – كما تعلمون – الحجاب حتى تنكشف أسرار الهيكل.

القديس أغسطينوس

1. رب القوات واهب القوة:

"الله لنا ملجأ وقوة

ومعين في الأحزان التي أصابتنا جدًا" [1].

حينما تشتد الأحزان سواء بسبب الأعداء الظاهرين كما حدث عندما حاصر جند سنحاريب ملك أشور أورشليم في أيام حزقيال، أو بسبب الأعداء الخفيين مثل الخطايا، فإننا نجد في الله ملجأ لنا وقوة ومعينًا إن كنا مقدسين له، ننعم بالشركة معه.

هذه هي تسبحة الكنيسة المتحدة بالمسيح رأسها، فيه تختفي وبه تقاوم الشر!

يقول القديس باسيليوس الكبير: [إن كثيرين ينطقون بهذا الكلام بأفواههم لا بقلوبهم، والدليل على ذلك إنهم إذ يسقطون في ضيقة يسرعون إلى وساطات بشرية لا إلى الله].

ماذا تجد الكنيسة في ملكها المحارب؟

أ. "ملجأ": إنها مُستهدفة لهجوم مستمر من عدو الخير، لذا تحتاج إلى ملجأ دائم، قادر أن يحصنها.

ب. "قوة": لئلا يُفهم أنها تقف في سلبية بهروبها إلى الله ملجأها، يقدم ذاته قوة لتعمل به، فتقول مع الرسول: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13).

ج. "معينًا": إذ يهبها ذاته قوة، يقف بجوارها بل وفي داخلها كمعين لها، يعمل معها. يسمح لها بالتجارب، ويعينها وسط أحزانها حتى تبقى نامية ومتقدمة في نضوج.

v   كثيرة هي الأحزان، وفي كل حزن يلزمنا أن نهرب إلى الله، سواء كان الحزن يمس عقارنا أو صحة جسدنا أو كارثة لمن هم أعزاء علينا جدًا أو تمس أمرًا آخر خاص بضروريات هذه الحياة، فإنه بالنسبة للمسيحي لا يليق مطلقًا الالتجاء إلى آخر غير مسيحه، غير إلهه، الذي إذا ما هرب إليه يتقّوى.

v   ولكن أيها الأعزاء المحبوبين، من بين كل الأحزان التي تلحق بالنفس البشرية ليس حزن أخطر من الشعور بالخطية.

القديس أغسطينوس

"من أجل ذلك لا يخشى إذا تزعزعت الأرض،

وانتقلت الجبال إلى قلب البحار.

عجت مياهها واضطربت،

تتزعزع الجبال بعزته" [2-3].

يتطلع الإنسان إلى الأرض بكونها الحاملة له، إن تزعزعت يفقد حياته وكيانه، كما يتطلع إلى الجبال بكونها راسخة من يقدر أن يحركها؟!

إن اشتدت الضيقة جدًا حتى شعر المؤمن كأن الأرض تتزلزل تحت قدميه وما كان يظنه راسخًا قد انهار كالجبال الساقطة في المحيطات، لا يخف لأن إلهه هو خالق الطبيعة كلها!

لعله قصد بالأرض العسكر المحاصرين لأورشليم، وبالجبال القادة العظماء الآشوريين، فإن الله يزعزع هؤلاء ويلقي بأولئك كما في قلب البحار!

إن كانت الأرض تُشير إلى الجسد، والجبال إلى الشخصية القوية والمواهب العظيمة، فإن انهار جسدك وظننت أنك قد خسرت الكثير من مواهبك حتى شخصيتك، لا تخف فإن الله مخلصك يقدر أن يقدس جسدك ونفسك وقدراتك ويرد لك كمال شخصيتك بعزته!

v   لنطلب جبالاً محمولة، فإن استطعنا أن نجدها، فمن الواضح أن فيها آماننا. بالحقيقة قال الرب لتلاميذه: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انطرح في البحر فيكون" (مت 17: 20؛ 21: 21)... قال عن نفسه "هذا الجبل"، إذ يدْعى "الجبل"؛ "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون مُعلنًا" (إش 2: 2). لكن هذا الجبل يوضع فوق كل الجبال، لأن الرسل أيضًا هم جبال يعملون لحسب هذا "الجبل". لذلك قيل: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون مُعلنًا، ثابتًا في رأس الجبال" (إش 2: 2). إنه فوق قمم كل الجبال، وعليها يقوم، لأن الجبال تكرز "بالجبل".

ويشير البحر إلى هذا العالم... بمعنى أن هذا الجبل الذي هو "أنا نفسي" يُكرز به بين الأمم، ويتمجد بينهم وتتحقق النبوة عني: "شعب لم أعرفه تعبد لي" (مز 18: 43).

v   "عجت المياه واضطربت" [3]. عندما كُرز باإنجيل، ماذا حدث؟ لقد ظهر عند الأثينيين أنه يُنادي بآلهة غريبة (أع 17: 18)؛ أما الأفسسيون فقاموا بشغب ليقتلوا الرسل (أع 19: 34)، وكانوا هائجين يصرخون: "عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين!".

القديس أغسطينوس

v   جبال الله شيء، وجبال العالم شيء آخر،

جبال العالم هم أولئك الذين رأسهم الشيطان،

وجبال الله هم أولئك الذين رأسهم المسيح.

أولئك (جبال العالم) يهزمهم هؤلاء، عندئذ يصوتون ضد المسيحيين. عندما تهتز الجبال تعج المياه... وتحدث زلزلة، ويضطرب البحر؛ ولكن ضد من؟ ضد الكنيسة المؤسسة على الصخر!

القديس أغسطينوس

2. رب القوات واهب البهجة:

"مجاري الأنهار تفرح مدينة الله" [4].

إن كانت كلمة الكرزاة تزعزع الأرض وتنقل الجبال وتهيج البحار، إنما لتُحطم الشر وتقيم أرضًا مقدسة، جبالاً ثابتة تحمل "الجبل" (السيد المسيح) على قممها، وتحول مياه البحار المالحة والمضطربة إلى أنهار عذبة تفرح مدينة الله. تقيم كنيسة المسيح: الأرض الجديدة التي يسكنها الله، والجبال المقدسة، ومياه الروح التي تفيض لتروي!

يقول الإنجيلي: "وقف يسوع ونادى قائلاً إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب؛ من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ؛ قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد" (يو 7: 37-39). تحدث يوئيل النبي عن هذا النبع العذب، قائلاً: "ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرًا، والتلال تفبض لبنًا، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماءً، ومن بيت الرب يخرج ينبوع ويسقي وادي السنط" (يوئيل 3: 18).

هذا الفيضٍ يُدمّر الشر ويهدم الإنسان العتيق بأعماله، ويبني الإنسان الجديد وينميه، واهبًا الكنيسة ككل والأعضاء حبًا سماويًا وفرحًا وسلامًا. وكما يقول الرسول: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون؛ لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16).

يرى العلامة أوريجانوس[904] أن النهر هو الروح القدس الذي يحمل إلى المؤمنين (الأشجار المغروسة على ضفافه) الكتابات الإنجيلية والرسولية، وأيضًا المعونة التي يُقدمها السمائيون إليهم من قبل الله.

ويحدثنا القديس أمبروسيوس عن هذا النهر الذي يُحيط بنا (يونان 2: 3) بكونه الروح القدس الذي يروي أورشليم السماوية، الذي يفيض على الكنيسة بالسيد المسيح المصلوب.

v   الروح القدس هو النهر، النهر الوفير، النهر العظيم الذي يفيض دومًا وبلا انقطاع... فإن أورشليم السماوية لا ترتوي بنهر أرضي بل بالروح القدس[905].

v   لا تُروي تلك المدينة، أورشليم السماوية، بقناة أو بنهرٍ أرضي، بل بالروح القدس... والذي يكفي رافدٌ قصير منه لإروائنا بمياهه، هذا الذي يفيض بأكثر غزارة وسط تلك العروش السماوية والسلطات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، إذ يتدفق في ملء جريان فضائل الروح القدس السبع. فإن كان نهر مرتفع يفيض على ضفافه ويتدفق، كم بالحري يكون الروح الذي يفيض على كل مخلوقٍ حينما يلمسه، وكأنه يمسُّ سهول أذهاننا المنخفضة فيبهج طبيعة الخلائق السماوية بفيض تقديسه[906].

v   العهد القديم بئر عميق تُسحب منه المياه بالجهد... أما العهد الجيد فليس بنهر فحسب وإنما "وتجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38)، أنهار تأمل، أنهار روحية[907].

القديس أمبروسيوس

v   توقفت الأمطار النوية (نش 2: 11) لكن ليس لخسارة المؤمنين بل لمزيد من الفائدة للكنيسة، لأنه ما حاجتنا إلى الأمطار حينما تفرَّح مجاري الأنهار مدينة الله؟ حينما يفيض نبع مياه حياة أبدية وذلك في قلب كل مؤمن[908]؟!

العلامة أوريجانوس

مجاري المياه أيضًا هي المعمودية (وسرّ المسحة) التي خلالها ننعم بالنبوة لله ونتمتع بسكنى الروح القدس الذي يُقدسنا كأعضاء جسد المسيح، لذا قيل:

"لقد قدّس العليّ مسكنه.

والله في وسطها لا يزول.

يعين الله وجهها" [4-5].

يقول القديس أغسطينوس: [مادام يشير إلى التقديس فواضح أن مجاري المياه هذه تُفهم عن الروح القدس، الذي به تتقدس كل نفس تقية مؤمنة بالمسيح، فتصير مواطنة في مدينة الله].

ماذا يُقدم الروح القدس للمؤمن خلال كنيسة المسيح؟

1. التقديس: إذ يجعله مسكن العلي المقدّس.

v   الروح القدس المنبثق من الله (الآب) هو مصدر القداسة، القوة الواهبة الحياة، النعمة التي تُعطي كمالاً، خلاله ينعم الإنسان بالتبني، يصير الفاسد في عدم فساد. إنه واحد مع الآب والابن في كل شيء في المجد والأبدية والقوة والملكوت واللاهوت. هذا ما يُختبر بتقليد معمودية الخلاص[909].

القديس باسيليوس الكبير

2. سكنى الله في الإنسان أبديًا:

v   ينال (المعتمد) الروح القدس فيه ويحمل فعلاً لقب هيكل الله[910].

القديس كيرلس الكبير

3. يرد للإنسان كرامته ودالته لدى الله:

"يعين الله وجهها" [5]:

هذا هو سرّ بهجة المؤمن وفرحه كمدينة الله التي ترتوي بمجاري الأنهار، فتنعم بالحياة المقدسة في الرب، وسكنى الروح فيها، والتمتع بدالة البنوة أمام الله. هذا من الجانب الإيجابي، أما من الجانب السلبي فينزع الله عنا الشر، ويُحطم أعمال الإنسان العتيق فينا، لذا قيل:

"اضطربت الأمم، وماجت الممالك.

أعطى صوته فتزلزلت الأرض" [6].

3. رب القوات واهب النصرة:

"هلمَّ فانظروا أعمال الرب،

التي جعلها أيات على الأرض

الذي يرفع الحروب من أقاصي الأرض" [8-9].

يهب الرب كنيسته نصرة، إذ أقامها في كل المسكونة، واهبًا البشرية سلامًا داخليًا عوض الاضطراب والغم. لقد ملك الرب على الأمم، وأقام مملكة سلامه الروحي في قلوب الكثيرين!

يرى البعض أن كلمة "أنظروا" هنا جاءت لتعني التطلع الداخلي... حيث يرى القلب الملكوت الداخلي.

ربما يعني بأقاصي الأرض جسد الإنسان ككل، فإنه إذ يملك الرب على القلب يقدس الجسد بكل أعضائه وأحاسيسه ومشاعره، فلا يعود يخاف عدو الخير ولا يرهب أدواته التي يُحطمها الرب بصليبه:

"يسحق قسيّهم،

ويرض سلاحهم

وأتراسهم يحرق بالنار" [9].

ربما هنا إشارة إلى عادة قديمة كانت تتبع بعد نوال نصرة ساحقة وأكيدة، حيث تُجمع الأسلحة في كومة وتحرق بالنار (يش 11: 6، 2 صم 8: 4، حز 39: 8-10). قيل عن الإمبراطور فسبسيان الروماني عند احتفاله بنهاية الحروب في أيطاليا وفي كل العالم، إنه صنع ميدالية تمثل إلهة السلام وقد أمسكت بيدها غصن زيتون وبالأخر مشعلاً متقدًا ألقت به على كومة الأسلحة لتحرقها[911].

ربنا يسوع المسيح هو ملك السلام الذي يُلقي بمشعل روحه القدوس في داخل القلب فيحرق الأشواك الخانقة للنفس، ويُحطم كل أسلحة إبليس، واهبًا إيانا سلامه الفائق.

يتساءل القديس أغسطينوس: [هل تحقق هذا الآن؟ لقد تحقق بالنسبة للبعض، تحقق بالنسبة للحنطة، ولم يتحقق بعد بالنسبة للزوان].

"ثابروا، واعلموا أني أنا هو الله.

أرتفع في الأمم.

وأتعالى على الأرض" [10].

كأنه يقول: أتريدون أن تختبروا سلامي؟ أتريدون أن تحترق كل أدوات الحرب المهلكة؟ كفّوا عن الاتكال على الأذرع البشرية! ارتبطوا بي فأرفعكم فوق الأمم (طلبات الجسد) وأتعالى بكم على الأرض، حيث أحملكم كما بجناحي حمامة إلى سمواتي؟

 


 

رب الجنود ناصرنا!

v   عجيب أنت ياربي في حبك،

كقائد تتقدم بنفسك في ساحة المعركة،

لتدخل بنا إلى النصرة الأكيدة،

وكأب تحملنا نحن أطفالك الصغار إلى حضن أبيك!

v   تُعلمنا كيف نُجاهد، مصارعين حتى الدم،

وتتلطف بنا فتشبع عواطفنا!

نحن جنودك وأطفالك الصغار!

v   لتزعزع أرض قلبي القاسي،

فتحوله إلى أرض جديدة مملوءة حبًا!

ولتتحطم فيّ الجبال الشامخة،

لتُقيم فيَّ جبالك المقدسة.

لتحول قلبي من بابل المتغطرسة إلى أورشليم المتضعة!

لتحول حياتي من مدينة إبليس إلى مدينة الله!

v   ليعمل روحك القدوس فيّ!

ليفيض كنهر إلهي، يحول وادّي إلى جنات مثمرة!

v   لتسكن في داخلي،

وليحل سلامك فيّ!

احرق يارب كل أسلحة عدو الخير،

ولتقم فيّ أسلحة الروح!

<<

 

 

 

 

 

 


 

المزمور السابع والأربعون

مَلِكْ الجميع

مزمور مسياني ملوكي:

بحسب التلمود كان هذا المزمور في العصور المتأخرة لليهودية يُستخدم في الاحتفال ببداية السنة الجديدة. وهو يكشف عن الابتهاج بتتويج الله نفسه ملكًا على الأرض كلها. ويرى البعض أن هذا المزمور مع المزامير (93، 95-100) قد وضعت للإحتفال بعيد سنوي كذكرى لعمل إلهي فائق، فيه أعلن الله عن غلبته على أعدائه، وأظهر ملكوته على الخليقة[912].

يرتبط هذا المزمور ارتباطًا وثيقًا بالمزمور السابق، وربما وُضع في نفس المناسبة. ويرى البعض أنه مثل (المزمور 24) وُضع بمناسبة نقل تابوت العهد إلى جبل صهيون، ليحمل نبوةً عن صعود السيد المسيح إلى السماء، وحكمه الملوكي وعن جلوسه عن يمين الآب، وعن انتشار الكرازة بالانجيل في المسكونة. ويرى كثير من المفسرين (الحاخامات) أنه مزمور مسياني.

يحوي هذا المزمور الخيوط الثلاثة للنبوة في العهد القديم:

1. المسيا: بكونه ملك الأرض كلها [7].

2. الأمم: تخضع للملكوت المسياني [8، 9].

3. اليهود: كوسطاء لتحقيق ذلك [4].

لقد فتح السيد المسيح أبواب كنيسته أمام كل الأمم، وهو يملك عليها روحيًا، مشتاقًا أن يملك على حياتنا بكليتها: أعني أجسادنا وأرواحنا وأفكارنا وأعمالنا وكلماتنا (كو 1: 17، 18)، لا ليسيطر بل ليهب روح الفرح، ويردّ لنا كرامتنا ومجدنا المفقود!

ويرتبط هذا المزمور في بعض الكنائس بعيديْ الأبيفانيا (الظهور الإلهي) والصعهود حيث يُعلن فيها السيد المسيح كملك روحي على كل الأرض[913].

مناهج تفسير المزمور:

اتبع الدارسون أحد المناهج التالية للتفسير أو بعضها:

1. التفسير التاريخي: يطلب البعض فهم المزمور على ضوء حدث أو أحداث تاريخية معينة، ربما نصرة في حرب معينة أو إصلاحٍ الهيكل بعد الرجوع من السبي. فمع كل نصرٍة في موقعٍة ما يتوقع المؤمنون نصرة شاملة وجامعة حيث يمتلك الله على الأرض، بقبول الأمم الإيمان. وعند إصلاح الهيكل كان البعض – إذ يرون في الهيكل القصر الإلهي الملوكي – يتوقون أن يسعدوا بمُلك الله على الشعوب كلها... وبهذا تتحقق غاية التاريخ في قبضة الله، خاضعًا له!

2. التفسير الانقضائي (الأخروي): يتطلع البعض إلى هذا المزمور كمزمور يمس يوم الرب العظيم حيث تبلغ الخليقة غايتها، حين تسقط مملكة إبليس تمامًا بلا رجعة، ويملك الرب إلى الأبد.

3. التفسير المسياني: قبله كثير من المفسرين اليهود؛ ونادى به أغلب آباء الكنيسة الأولى، حيث يرون في السيد المسيح ملك الملوك الذي حقق بالصليب ملكوته الروحي.

4. التفسير التعبدي: الذي يفترض أن المزمور يمثل جزءًا من ليتورجية الاحتفال بتجليس الله ملكًا على شعبه[914].

الإطار العام:

1. التنبوء بمُلك الله الجامع            [1-4].

2. العبادة العامة لله الملك             [5-7].

3. مجد الله الملك                     [8-9].

العنوان:

"لإمام المغنين، لبني قورح، مزمور"؛ وفي الترجمة السبعينية: "للتمام لبني قورح".

1. يليق بهذا المزمور أن يحمل عنوان "للتمام" أو "إلى النهاية"، لأنه يمثل غاية الناموس أن يملك السيد المسيح على الشعوب روحيًا؛ وربما لأن المزمور يحمل طابعًا أخرويًا أو انقضائيًا، فإن غاية وجودنا وتاريخنا البشري كله أن يأتي رب المجد ويحملنا إلى ملكوته الأبدي.

2. سبق أن رأينا  معنى "قورح"، وكيف تشير الكلمة إلى "الجلجثة"، فإنه لن يُدرك السيد المسيح كملك الملوك الذي يملك على حياة الإنسان إلا ذاك الذي صار ابنًا للمصلوب، يرتمي بروح البساطة على صدره  كطفل فيقيمه المصلوب ملكًا (رؤ 1: 6)!

v   أبناء قورح Core، من هم؟... إنهم أبناء العريس؛ لأن العريس قد صلب في موضع الكفارة Calvary...

وُضعت الطفولة أمامنا لنقتدي بالاتضاع، كما وُضعت لكي نحذر الجهالة...

يُسبح المزمور لبني قورح، أي للمسيحيين. لننصت إليه بكوننا أبناء العريس الذي صلبه الأطفال القساة في موضع الكفارة Calvary.

القديس أغسطينوس

 2. التنبوء بمُلك الله الجامع:

"يا جميع الأمم صفقوا بأيديكم؛

هللوا لله بصوت الابتهاج" [1].

1. لغة هذا المزمور مستعارة من نصرات الملك على أعدائه، ولكن بروح النبوة، حيث يرى المرتل المسيا الملك يدخل معركة حاسمة ليُحطم مملكة إبليس العدو الحقيق، ويقيم مملكته. لقد رأى بعينيه الداخلتين الملك الأعظم والمعركة الأخطر والنصرة الفائقة التي انتهت بقيامة السيد المسيح الذي حطم "الموت" كآخر عدو للبشرية، وانطلق إلى سمواته ليحمل مؤمنيه إلى حيث هو جالس، وبصعوده انتشرت الكرازة به، وملك البرّ على الأمم[915]، وتحولت حياة المؤمنين إلى ملكوت الفرح والبهجة.

إذن هذا المزمور هو "نشيد عسكري"، فإلى يومنا هذا يستخدم التصفيق بالأيدي والهتاف في الجو العسكري والسياسي (عد 23: 21؛ يش 6: 16، 20؛ 1 صم 10: 24، عز 3: 12).

2. يُطالبنا المرتل أن نحتفل بمُلك المسيا بتصفيق الأيادي مع أصوات الابتهاج أو هتاف الفرح. ليرتبط عمل الأيادي بعمل الحنجرة والفم، فإن التصفيق بالأيادي إنما يُشير إلى إعلان ملكوت المسيا على جميع الأمم خلال كرازتنا للغير بالسلوك العملي... يرون المسيا ملكًا على قلوبنا وأعضاء جسدنا وكل إمكانياتنا، هذه جميعها التي تُفرَز لحساب ملكوته بحبنا إن أمكن لكل إنسان في العالم. أما عمل الحنجرة أو الفم واللسان فهو الشهادة لملكوته... حيث تلتحم شهادة العمل بشهادة الكلمة.

بمعنى آخر لنسبح للملك الغالب، معلنين فرحنا بالحياة العملية كما بكلمتنا!

3. يردد هذا المزمور كلمة "هللويا"، وهي تعني "سبحو ليهوه"، وتحمل روح الفرح المرتبط بالغلبة أو النصرة، فالمؤمن يرى في إلهه الساكن في أعماقه الغالب الذي خرج غالبًا ولكي يغلب (رؤ 6: 2).

v   لا تبتهجوا بالفم بينما تكون الأيادي عاطلة؛ إن ابتهجتم "صفقوا بالأيادي".

ما هي أيدي الأمم؟ إنها سلوكهم بالأعمال الصالحة.

v    (لتبتهجوا) بالصوت كما بالأيادي. إن كان بالصوت وحده، هذا ليس حسنًا، لأن الأيدي متراخية! إن كانت بالأيدي وحدها، هذا أيضًا ليس حسنًا، لأن اللسان أخرس! لتتفق الأيدي مع اللسان. ليكن هكذا الاعتراف مع العمل! "اصرخوا لله بصوت النصرة".

القديس أغسطينوس

v   يُعلمنا الكتاب أن نرنم للرب، وأن نرقص بحكمة كقول الرب لحزقيال أن يضرب بيده ويخبط برجليه (حز 6: 11). لا يطالب الله بحركات مضحكة يقوم بها جسد ثائر، ولا يطلب تصفيق النساء... إنما يوجد رقص وقور، حيث ترقص الروح بسمو الجسد بالأعمال الصالح، عندما نعلق قيثارتنا على الصفصاف[916].

القديس أمبروسيوس

v   حيث أن بشارة الإيمان بالمسيح قد انتشرت في العالم كله حتى آمن أناس من كافة الأمم، لهذا تدعو النبوة كافة الأمم جملةً وإجماعًا إلى التسبيح لله بفرح وسرور.

يقول النبي صفقوا بأيديكم التي تنجست بذبائح الأصنام، والآن قد تطهرت بالمعمودية، أي اصنعوا أعمالاً مرضية لله تبهج الملائكة وتحزن الشياطين فتكون مثل تصفيق الغالبين الذي يُسر الأصدقاء ويحزن المغلوبين.

أصواتكم التي كانت قبلاً مجدفة، صارت الآن صلوات وتسابيح مبهجة؛ هللوا بها لله، أي لربنا يسوع المسيح الذي هو عالٍ مع أنه اتضع بتجسده إنه مهوب ولو أنه قبِل الاهانة باختياره.

أنثيموس أسقف أورشليم

"لأن الرب عالٍ ومرهوب،

ملكُ كبير على كافة الأرض" [2].

هذه اللغة لا تناسب إلا مُلك المسيح، الذي يُدعى ملكًا عاليًا ومهوبًا (عب 12: 28، 29؛ تث 4: 24؛ 9: 3؛ 10: 17-21؛ نح 1: 5؛ صف 2: 11). مسيحنا إله محب البشر، يبذل ذاته من أجل كل أحد، يترفق بالخطاة، ويهتم بخلاصهم دون أن يجرح مشاعرهم، وفي حبه هو أيضًا إله مهوب، قدوس لا يقبل الشركة مع الفساد؛ هو نور لا يطيق الظلمة، وهو الحق الذي لا يشترك مع الباطل، والطريق الملوكي الذي لا يعرف الاعوجاج. لنحبه ونخفه في نفس الوقت، فإن محبتنا له دون الخضوع لإرادته والطاعة لوصيته هو استهتار واستخفاف. لنعبده بالحب مع خوف ورعدة!

لقد ملك الرب على خشبة الصليب، حيث سجل محبته لنا في كمالها بدمه المبذول، وأعلن مهابته وعدله، محطمًا بصليبه قوات الظلمة... بهذا يعلن الصليب أنه "ملك كبير على كافة الأرض"، وليس على أمة واحدة؛ وكما يقول القديس أغسطينوس: [لا يكفيه أن تخضع أمة واحدة له، ولهذا دفع ثمنًا عظيمًا، قدَّمه من جنبه، ليقتني العالم كله].

"أخضع الشعوب لنا،

والأمم تحت أقدامنا" [3].

كلمة "أخضع" هنا تعني قبول كلمة الرسل ليدخلوا في قطيع المسيح الوديع، حيث يترك الأمم روح الغطرسة والكبرياء ومقاومة الكنيسة لينحنوا ويحملوا صليب مسيحها بفرح وابتهاج. لهذا يرى بعض الآباء أن العبارة تعني خضوع الشياطين والخطايا التي كانت تسيطر على الأمم الوثنية، وسقوطها تحت أقدام الصليب. فمع خضوع الأمم بالإيمان بروح الحب والطاعة انهار شرهم وانسحق تحت قدميْ الكنيسة.

المتحدثون هنا هم الرسل الذين لا يتكلمون بروح التشامخ والكبرياء، وإنما في دهشة عجيبة لعمل صليب المسيح في حياة الوثنيين. فبينما هم يقاومونه إذا به يجتذبهم إلى روح الخضوع الكامل للكارزين ليصيروا كأنهم عند أقدامهم؛ ويفرح الرسل لأنهم يحملونهم معهم ليخضع الكل عند قدميْ المصلوب.

v   نجد القديسين، بصوت المرتل، يرتفعون مقدمين تسابيح الشكر صاعدة إلى المسيح الذي يكللهم، قائلين: "أخضعَ الأمم لنا والشعوب تحت أقدامنا"! إن مسعى القديسين وغايتهم الجادة أن يجعلوا الذين يتعلمون على أيديهم شركاء النعمة المعطاة لهم بواسطة المسيح. ويمكن لأي أحد أن يتعلم من الرسالة التي بعث بها الطوباوي بولس إلى البعض، قائلاً: "مشاق أن أراكم لكي أمنحكم هبةً روحية لثباتكم" (رو 1: 11)[917].

القديس كيرلس الإسكندري

"اختارنا ميراثًا له،

جمال يعقوب الذي أحبه" [4].

في النص العبري: "يختار لنا نصيبنا، فخر يعقوب الذي أحبه. سلاه"... إن كنا نفرح لأن الله قد اجتذب بصليبه الأمم ليصيروا أعضاء في كنيسته المقدسة، خاضعين للرسل... فإن سرّ فرحنا الحقيقي هو "عمل الله"، فقد خطط تدبير خلاصنا، وأعطانا ذاته نصيبًا له، وقبلنا نحن نصيبه وميراثه!

في الترجمة السبعينية: "اختارنا ميراثًا له"... فإن كان الأمم يخضعون للكنيسة بالإيمان بعريسها، فإنه لا فضل للداخليل في الإيمان في شيء، لأن الروح القدس هو الذي يجتذبهم والرب يختارهم... هو اختارنا، وهو الذي أحبنا أولاً، وهو الذي عكس جماله علينا، وأعطانا بركةً أن نُحسب ميراثًا له!

2. العبادة العامة لله الملك:

جاء مسيحنا ليفتح أبواب الإيمان أمام كل الأمم والشعوب، مقدمًا حياته مبذولة عن الجميع، وبصعوده إلى سموات فتح الأبواب أمام الكل... لهذا تبقى الكنيسة الجامعة تتعبد له متهللة بعمله معها مادامت على الأرض حتى تلتقي بمسيحها الصاعد إلى السماء في يوم مجيئه الأخير.

"صعد الله بتهليل،

والرب بصوت البوق" [5].

يقول المرتل إن الرب قد صعد بتهليل وبصوت البوق، لماذا؟

1. بتهليل علامة العبادة بفرح شديد، إذ يقول الإنجيلي: "وأُصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله" (لو 24: 51-53). صعوده لم يدخل بهم إلى حزن وحرمان، بل إلى فرح عظيم وسجود وتسبيح وشكر لله... لأنهم رأوا في صعوده صعودًا لهم. ما صنعه الرب إنما لحسابهم وباسمهم. صعوده حوّل الكنيسة إلى سماءً متهللة متعبدة، تُشارك السمائيين تسابيحهم وفرحهم!

2. أما عن صوت البوق فلم نسمع في العهد الجديد عن سماع التلاميذ لأصوات بوق، لكننا ندرك أنهم رأوه الملك الغالب المنتصر، انطلق إلى السماء لتبّوق السماء معلنة نصرة مليكها. بصعوده تهللت الأرض لأنها اتحد مع السماء، وأعلنت أبواق السماء نصرة مليكها. ولهذا فعند مجيئه الأخير سيضرب الملائكة صوت بوق (1كو 15: 52، 1 تس 4: 16).

v   التهليل هو صوت الغالبين الفرحين، والبوق هو علامة المُلك وإشهاره.

إذن قوله: "صعد الله بتهليل" معناه أنه بعد قهر الموت، وصرع الخطية، وقمع الشياطين، ونزع الضلالة، وحوّل الأشياء إلى ما هو أفضل، صعد راجعًا إلى السماء، وهو لم يكن مفارقًا للسماء ولا للعالم عند تجسده (إذ يملأ لاهوته السماء والأرض).

لم يكن صعوده بقوة غريبة عنه مثل ارتفاع إيليا النبي، وإنما كان ذلك بقدرته وحده...

ويقال أيضًا: "بوق" عن تسابيح الملائكة الذين كانوا يشيرون إلى بعضهم البعض بفتح الأبواب السماوية واستقبال ملك المجد (مز 24: 7-10). كما يُقال أيضًا عن أفواه الرسل وكرازتهم في العالم بصعود بربنا، إذ كانت كما من بوقٍ... فقد بلغت شهرة صعود ربنا أن يُنادي بها علانية من جيل إلى جيل.

لم يقل النبي "بصوت الأبواق"، بل "بصوت البوق"، ذلك لأجل اتفاق رأي الرسل والملائكة باتحاد واحد.

الأب أثيموس أسقف أورشليم

v   ما هو التهليل إلا دهشة الفرح التي لا تُعبر عنها كلمات؟! فقد دُهش التلاميذ فرحين، إذ رأوا ذاك الذي حزنوا عليه لموته يدخل السماء. حقًا لم تكن الكلمات تكفي للتعبير عن الفرح، لذا بقى التهليل يعبر عما عجزت عنه الكلمات.

وُجد أيضًا صوت بوق، أي صوت الملائكة... فقد بشر الملائكة بصعود الرب... "أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء، إن يسوع..." (أع 1: 11)...

لقد اختفى الجسد من أمام أعينكم لكن الله لا يترك قلوبكم.

تطلعوا إليه صاعدًا، آمنوا به غالبًا، ترجّوا مجيئه، ولكن خلال رحمته الخفية اشعروا بحضرته. فإن الذي صعد إلى السماء وانحجب عن أعينكم، وعدكم، قائلاً: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء العالم" (مت 28: 20).

بعد يُخاطبنا الرسول، قائلاً: "الرب قريب، لا تهتموا بشيء".

يجلس المسيح فوق السموات، والسموات بعيدة جدًا، أما الجالس هناك فهو قريب...

القديس أغسطينوس

إن كان السيد المسيح قد صعد إلى السموات ليجعلها قريبة جدًا منا، فإنه ليس من عمل تقوم به الكنيسة مثل التسبيح المستمر بكونه العرش الذي يتربع عليه عريسها الملك، لهذا ففي عدد واحد يُكرر المرتل كلمة "رتلوا" أربع مرات:

"رتلوا لإلهنا رتلوا،

رتلوا لمليكنا رتلوا" [6].

لم يقل "رتلوا لله" أو "رتلوا للملك" بل "لإلهنا" و "لمليكنا"، فإن الله هو إله العالم كله والملك على كافة الأرض، لكن لا يستطيع أحد أن يُرتل له بفرح ما لم يشعر بأنه قد خصه هو... فهو إلهنا وملكنا.

لقد كرر الكلمة أربع مرات، لأن المرتل يدعو الكنيسة الممتدة في أربع جهات المسكونة: المشارق والمغارب والشمال والجنوب ألا تنشغل بشيء إلا بالتسبيح له، فتتهيأ كمركبة يجلس عليها الملك!

إنه يطالبنا أن نمجده ونتعبد له بفهم كما بالروح أيضًا (1 كو 14: 15):

"لأن الرب هو ملك الأرض كلها؛

رتلوا بفهم" [7].

v   إنه يعلمنا وينصحنا أن نرتل بفهم، لا أن نطلب الصوت للأذن بل النور للقلب.

القديس أغسطينوس

v   لنرفع أيضًا أصواتنا بالترنم الصلاة في الكنيسة حتى يرحل خصمنا الشيطان مرتبكًا عند سماعه الصوت المقدس. إن لم يكن (التسبيح) بالعمل فيلزم التأكد أن يكون بالفكر أو الكلام؛ فإن الشيطان عادة يزحف نحو الصامتين أو الناطقين بأمور دنيئة باطلة، ولا يخدع الذين يرتلوا أو يصلون، هؤلاء الذين يراهم منشغلين عقليًا أو بأصواتهم بتسابيح الله[918].

الأب قيصريوس أسقف آرل

3. مجد الله الملك:

بعد أن أعلن جامعية مُلك الله الذي يفتح باب الإيمان أمام كل الشعوب، والتزام الكنيسة الجامعة بالترنم له بفهم، يختم المزمور بالحديث عن مجد الله الملك المُعلن بقبول الأمم الإيمان وما يناله المؤمنون من بركات:

"فإن الرب مَلكَ على جميع الأمم.

الله جلس على كرسيه المقدس.

رؤساء الشعوب اجتمعوا مع إله إبراهيم.

لأن أعزاء الله قد ارتفعوا في الأرض جدًا. هللويا" [8-9].

يظهر مجد الله في الآتي:

1. يملك الله على جميع الأمم حيث تتحقق وعود الله لإبراهيم: "بنسلك تتبارك جميع الأمم"... ما نناله في العهد الجديد من بركات كانت في خطة الله التي كشفها لصديقه إبراهيم. لهذا يقول المرتل: "رؤساء الشعوب اجتمعوا مع إله إبراهيم" [9].

v   ذكر النبي إبراهيم لأن الله قد وعده أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. فلما ترك الأمم آلهة آبائهم اجتمعوا مع إبراهيم، وصاروا جماعة واحدة.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

2. تمجد الله بجلوسه على كرسيه [8]، الذي هو جماعة المؤمنين.

v   كرسي الله هم الصديقون الذين لأجل طهارتهم يستريح الله فيهم.

الأب أنثيموس الأورشليم

v   تطيع النفس الله الجالس فيها، وتقوم النفس بإصدار أوامر لأعضاء الجسم... فتتحرك القدم واليد والعين والأذن. إنها تأمر الأعضاء كخدم لها، وهي تخدم ربها الجالس فيها.

القديس أغسطينوس

3. إذ يملك الرب على إنسان، يهبه قوة ومجدًا، فيُحسب من أقوياء الرب أو من أعزائه. "لأن أعزاء (أقٌوياء) الله قد ارتفعوا في الأرض جدًا" [9].

v   من هم أقوياء الله؟ الرسل وكل المؤمنين. إنهم أقوياء لأنهم واجهوا العالم كله وغلبوه، ولم ينهزموا قط[919].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يتمجد الله في كنيسته التي يجعل منها جيشًا روحيًا بألوية، فيقيم من الضعفاء أقوياء، ويخرج من الآكل أكلاً!

 


 

لتملك... ولتتمجد!

v   كوعدك الصادق مع أبينا إبراهيم،

فتحت لنا أبواب بيتك،

وباركتنا فيك! وملكت في قلوبنا!

v   لتملك يارب على جميع الأمم،

ولتضبط كل حياتي،

ولتقدس كل إمكانياتي لحسابك!

ولتجعل من نفسي كرسيًا لك!

v   أشكرك، لأنك قبلتني ميراثًا لك!

هب لي أن تكون أنت هو ميراثي!

v   علمني كيف أسّبحك بفمي كما بيدَّي!

أشهد لك بفرح قلبي وبممارسة الحب العملي!

v   ارفع قلبي إلى سمواتك،

يا من صعدت إليها!

هب لي ألا أبّوق هنا لأنال مجدًا زمنيًا،

بل انتظر يوم مجيئك،

أفرح حين أسمع صوت بوق ملائكتك!

v   أشكرك يا ملك الأرض كلها،

فإنك ملكت في حياتي،

لكي تجعلني من أقويائك،

وتسكب مجدك عليّ!

تَمجّد أيها القدوس فيّ!

<<

 


 

المزمور الثامن الأربعون

مدينة الملك العظيم

مزمور صهيون (الكنيسة):

أحد مزامير صهيون أو مزامير الكنيسة، كان يُسبح به لتمجيد الله العظيم ومدينته المملوءة مجدًا في موكب جماعي. وهو لا يفصل بين الله وكنيسته بل يقدم لهما صرخة تسبيح واحدة... لهذا يُحسب هذا المزمور تسبحة الله الممجد في كنيسته! فلا نعجب إن بدأ المزمور بقوله: "عظيم هو الرب" [1] وينتهي هكذ: "هذا هو إلهنا إلى الأبد وإلى أبد الأبد، وهو يرعانا إلى الدهر" [14]، فإن الكنيسة في جوهرها هي "حياة مع الرب وفيه"، فيها يُعلن مجد الرب العظيم، وتتجلى رعايته الفائقة وتُختبر نعمته العجيبة المجانية. جمال الكنيسة وبهاؤها وقوتها ونموها إنما في اتحادها مع الله وارتباطها بالسيد المسيح بكونها جسده.

يدعوها المرتل: "مدينة الملك العظيم" [2]، وقد أشار السيد المسيح إلى هذا اللقب في موعظته على الجبل (مت 5: 35). حضوره فيها هو سرّ مجدها [1-2]، وأمانها [3-8]، وفرحها وتسبيحها وبرها وشهادتها [9-14].

كلما تطاع المرتل إلى صهيون بروح الفرح والتهليل في الرب، فيقول: "تتسع كل الأرض بالتهليل" [2]، "في أقطار الأرض يمينك مملوءة عدلاً" [10]. وكا قيل في إشعياء النبي: "وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل الخ" (إش 2: 3-4).

مناسبته:

ربما كانت المناسبة هنا هي ذاتها التي كانت للمزمورين 46، 47. هناك خصائص مشتركة بينه وبين المزمور 46، على الأقل من جهة جوّه المفعم بالابتهاج الغامر بعد خلاص عظيم. المزامير الثلاثة (46-48) تركز على "الثقة في الله" بكونه ملجأ لنا (46) وملكنا (47، 48)[920].

يرى البعض أن المزمور قد أشار ربما إلى حصار سنحاريب عام 701 ق. م. [4-8]. ويرون آخرون[921] أنه يُقدم خبرة سائح جاء يحج إلى مدينة أورشليم، مبديًا إعجابه بعظمتها ومُنصتًا لتقرير موجز عن بقائها إثر حروب عديدة وحضارات متنوعة، متطلعًا إلى كل جزء منها كشاهد حيّ عن معاملات الله مع شعبه، ورعايته الفائقة للمؤمنين؛ وإذ يعود إلى بيته يخبرهم بما رأه وسمعه وأحسَّ به!

الهيكل العام:

1. مدينة الملك العظيم       [1-3].

2. المدينة التي لا تُقهر      [4-8].

3. مدينة متعبدة متهللة       [9-11].

4. مدينة شاهدة لإلهها       [12-14].

العنوان:

"تسبحة مزمور لبني قورح"، وبحسب الترجمة السبعينية: "تسبحة لبني قورح، في ثاني السبت"

1. يرى القديس غريغوريوس أن المزمور كله يتكلم على لسان الراجعين من السبي البابلي، أن "السبت" معناه "الراحة"، وهم قد عادوا ثانية إلى راحتهم، يسبّحون الله ويشكرونه. هذا هو معنى عنوان المزمور "لثاني السبت"[922]؛ ولعله يقصد بذلك "الرجوع الثاني".

2. يرى القديس أغسطينوس أن "ثاني السبت" تعني اليوم الثاني من الخلقة، حيث قال الله: "ليكن جلد"... ودعا الله الجلد سماءً (تك 1: 6-8). يقول إن السبت الأول أو "أول السبت" هو يوم الرب، أما السبت الثاني فهو يوم كنيسة المسيح؛ أبناء الكنيسة هم أبناء الجلد أو أبناء السماء الذين لا يخضعون للتجارب. [إنهم يستحقون اسم "الجلد". إذن فكنيسة المسيح التي في هؤلاء الأقوياء الذين يقول عنهم الرسول: "فيجب علينا نحن الأقوياء أي نحتمل ضعفات الضعفاء" تُدعى "الجلد"].

1. مدينة الملك العظيم:

"عظيم هو الرب؛

ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1].

يرى البعض أن هذا المزمور هو منجم يحوي ألقابًا ثمينة للكنيسة، مدينة الله: (مدينة إلهنا، جبله المقدس، جبال صهيون، جوانب الشمال، مدينة الملك العظيم، مدينة رب القوات الخ...) كل لقب يكشف عن جانب من جوانبها الحية.

* مدينة إلهنا... أي المدينة التي نلتقي فيها مع الله بكونه إلهنا المنتسب إلينا، نلتقي به خلال علاقات شخصية، بدخولنا معه في عهد وميثاق. فالكنيسة هي التقاء الله مع شعبه الخاص ليوقّع بآخر قطرة من دمه الثمين على ميثاق الحب الذي أُعلن بالصليب.

* جبله المقدس... هي مدينة الله القدوس، لذا ترتفع كالجبل، تشهد أمام الكل بقداسته خلال ممارستها الحياة المقدسة وشركتها معه. إنها كالجبل الذي لن تهزه عواصف التجارب!

* جبال صهيون... (صهيون تعني حصنًا)؛ إنها الجبال التي نجد فيها حصانة بالله حصننا وسورنا!

* جوانب الشمال... يرى البعض أنها إشارة إلى السحاب القادم على أورشليم، فتعطيها خصوبة وثمارًا. ويرى آخرون أن الشمال يشير إلى الأعداء حيث كان الآشوريون على شمالهم، فهي مدينة مُحاربة من الأعداء على الدوام، لكنها غالبة ومنتصرة.

* مدينة الملك العظيم... حيث يتربع فيها ملك الملوك، ليقيم من شعبه ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6).

* مدينة رب القوات... مرهب كجيش بأولية (نش 6: 4، 10) تحت قيادة الرب نفسه واهب النصرة.

واضح أن جمال الكنيسة وقداستها ونصرتها يقوم على انتسابها لله الساكن فيها، والذي يتربع في داخلها كملك. لقد نزل السماوي إلى العالم ليقيم كنيسته مجيدة بلا عيب ويؤهلها للحياة السماوية، لهذا يُسبح المرتل لله قائلاً: "عظيم هو الرب؛ ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1].

v   عظيم هو الرب في الجوهر والقدرة والعمل، لذلك تسبحه خلائقه الناطقة. وأما مدينته ففيها صار جلاله معروفًا للكل... ولأنه تصرف فيها بنفسه، وصنع تدبير تجسده فقال إنها مدينته وجبل قدسه.

أيضًا يُقال مدينته للساكنين بسيرة مرضية أمامه.

وكنيسته المقدسة هي أيضًا مدينته لسكناه فيها.

وهي جبل قدسه لما فيها من علو شرف المعتقدات الإلهية، كأنها قائمة للبناء على جبلٍ عالٍ، يراها كل ذي بصيرة فيتخذها منهجًا لخلاصه.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

دُعيت مدينة لأنها تضم جماعة المؤمنين، فهي لا تقوم على فرد معين أو أفراد بل هي مسكن الله مع جميع المؤمنين منذ آدم إلى أخر الدهور، كل يتمتع بلقاء شخصي ومعاملات شخصية مع الله دون اعتزاله الجماعة المقدسة. عُزله الإنسان لجماعة المؤمنين تحول قلبه من مدينة الله إلى قفر، فإن المدينة التي لا يوجد فيها إلا شخص واحد هي أقرب إلى الخراب مهما كانت إمكانياتها.

يرى الأب مار اسحق السرياني أن الذي يلتقي مع الله خلال دائرة الحب، يقيم الله ملكوته فيه ويتجلى في داخله، كما يلتقي مع ملائكة الله وقديسيه.

دُعيت أيضًا جبله المقدس لأجل رسوخها في الإيمان وثباتها، لا تقدر التجارب أن تزعزعها؛ كما تُشير إلى سمو عقائدها وحياتها. وقد رآها دانيال النبي جبلاً عظيمًا جدًا يملأ الأرض، انطلقت خلال الكرازة بالسيد المسيح حجر الزاوية المقطوع بغير أيدٍ وقد نما هذا الإيمان في كل المسكونة.

v   لقد وُجد حجر زاوية معين مرذول، بينما تعثَّر فيه اليهود، قُطع بغير أيدٍ من جبل معين، أي جاء من مملكة اليهود بغير أيدٍ، لأنه لم تكن ولادة المسيح من مريم بزرع بشر... ماذا تقول نبوة دانيال إلا ذاك الحجر الذي نما وصار جبلاً عظيمًا؟ أية عظمة؟ لقد ملأ وجه الأرض كلها. إذ نما وملأ وجه الأرض بلغ ذلك الجبل إلينا. فلماذا إذن نطلب نحن الجبل كأنه غائب وليس كحاضر نصعد إليه؟! ليصير الرب فينا "عظيمًا"، ومُسبح جدًا.

القديس أغسطينوس

"أحسن أصلها بهجة لكل الأرض،

جبال صهيون،

جوانب الشمال،

مدينة الملك العظيم" [2].

إذ رأى في كنيسة العهد الجديد المدينة التي يجتمع فيها الله بشعبه والجبل الذي ملأ الأرض وقد حمل قداسته وبره يعلن عن بهائها وجماله، وعن دورها كبهجة كل الأرض. يرفضها العالم ويرذلها ويهينها ويضطهدها طالبًا الخلاص منها، أما هي فكعريسها بجماله الروحي تعلن حبها للعالم، تعمل كخامة باذلة، لكي تجتذب حتى المضايقين إلى فرح الرب وبهجته. إنها تكرز بالحياة الإنجيلية، بالأخبار السارة التي تحقق خلاصنا في استحقاقات الصليب، وتكشف عن الحب الإلهي المُسجل بالدم الثمين المبذول، لتدخل بالكل كأبناء لله الآب، وتهبهم عطية الروح القدس واهب الحياة والقداسة.

إنها تدخل بالأمم إلى العرش السماوي، إلى الفرح الأبدي كعذارى حكيمات، لكنهن لسن مدللات ولا متراخيات، وإنما كجبال شامخة، لذا يدعوهن "جبال صهيون"

v   صهيون هي جبل واحد، فلماذا يقول: "جبالاً"؟ ذلك لأن صهيون تنتمي أيضًا إلى القادمين من كل جانب، ليلقوا معًا على حجر الزاوية، ويصيروا حائطين، كما لم كانا جبلين، واحد من الختان والآخر من الغرلة؛ واحد من اليهود والآخر من الأمم، ومع التنوع لا يوجد اختلاف، أنهم جاءوا من جهات متنوعة والآن هم في الزاوية (معًا)...

القديس أغسطينوس

تجتمع الكنيسة كلها معًا، مع ما فيها من تنوع في المواهب والقدرات والإمكانيات، باتحادها معًا في حجر الزاوية ربنا يسوع، ليبعث إليها روحه القدوس كسحاب ذهبي يفيض عليها بمياه الحياة لتحولها إلى جنات تحمل ثمر الروح.

v   تأتي سحب ذهبية اللون من الشمال؛ عظيم هو مجد القدير وكرامته! عظيم هو مجد الطبيب، الذي يشفي المريض اليائس.

"من الشمال تأتي السحب"، ليست سحبًا داكنة ولا مظلمة ولا سفلية بل ذهبية اللون. أليس إلا أنها تستنير بالمسيح؟ أنظر فإنه من جوانب الشمال مدينة الملك العظيم.

القديس أغسطينوس

مادامت الكنيسة على الأرض تبقى مُحاربة كما من الشمال، كما فعل الآشوريون الذين جاءوا إلى أورشليم لمحاصرتها وسبيها... لكنها تبقى الكنيسة "مدينة الملك العظيم" التي لا تُحطمها هجمات العدو المتتالية. وللشمال أيضًا معانٍ أخرى كما سنرى:

v   يدعوها النبي "جوانب الشمال"، وذلك لأجل استتارها لصغرها كاختفاء جوانب الشمال، إذ تخفيها شوامخ الجبال...

وأيضًا لأن الآشوريين الذين كانوا يمارسون السطوة بالقتال ضد اليهود، وكانت بلادهم من ناحية الشمال... فمع كونها محاربة من أهل الشمال لم تكف عن أن تكون مدينة الملك العظيم.

وأيضًا يدعو الأنبياء الأمم "أهل الشمال"... بمعنى أن الأمم المدعوين أهل الشمال مزمعون أن يصيروا مدينة الملك العظيم ومسكنه لقبولهم الإيمان بالمسيح.

وأيضًا لأن الشريعة القديمة قد أمرت بأن يُذبح حمل الذبيح في جانب المذبح من ناحية الشمال. فكان ذلك رمزًا لحمل الله ربنا يسوع المسيح الذي ذُبح لأجل مغفرة خطايا العالم، هذا الذي يشمل بنظره الأمم ويجعلهم خاصته، ومدينته الحصينة يحوطها بجبال ثابته، أي بالرسل القديسين والملائكة الحارسين.

الأب أنثيموس الأورشليمي

تظهر الكنيسة كمدينة الله الملك العظيم وقصره، أما المؤمنون فيظهرون بكونه شرفاته التي من خلالها يظهر الملك بكل أعماله العجيبة، خاصة عهده مع كنيسته، بل ومع كل عضو فيها، يتهم بها كجماعة مقدسة وكأعضاء، كمدينة واحدة وكشرفات عديدة، يقصد الكل بكلمته ووعوده، وبعمله الخلاصي على الصليب، ويهتم بمن لا معين لهم... فهو أب الأيتام وقاضي الأرامل ومنصف المظلومين.

"الله يُعرف في شرفاتها

إذا ما هو نصرها" [3].

2. المدينة التي لا تُقهر:

بعد أن قدم لنا الكنيسة كحياة جماعية تمارس العلاقة الشخصية مع الله إلهها، ثابتة كالجبل لا تُزعزعها التجارب، مقدسة بسكنى القدوس فيها، ومتسعة لتضم الأمم والشعوب بروح الفرح والتهليل، تتمتع بسحب الشمال التي تمطر عليها مياه النعمة الإلهية المجانية، شاهدة لعريسها بواسطة أعضائها كشرفات أو قصور يسكنها الملك العظيم، يقدمها لنا ككنيسة مضطهدة. هذا الاضطهاد أو الضيق هو سمة أساسية لعروس الملك المصلوب.

ما أن يُمارس الإنسان الحياة الكنيسة الصادقة الإنجيلية، ويمتلئ قلبه إتساعًا للبشر وحبًا لله والناس حتى يهيج العالم ضده. يُحارب من الخارج والداخل، يجاربه أحيانًا الأحباء بل وجسده، لهذا يقول المرتل:

"هوذا قد اجتمع ملوكها وأتوا جميعًا.

هم أبصروا وهكذا تعجبوا،

اضطربوا وقلقوا.

أخذتهم الرِعدة.

هناك أخذهم المخاض كالتي تلد.

بريح عاصفة تُحطم سفن ترشيش" [4-7].

v   اجتمع ملوك الأرض والرؤساء وجاءوا إلى أورشليم، ولكنهم إذ رأوا قوة الله التي كانت ضدهم أخذهم العجب واضطربوا، وحلت بهم أوجاع مثل مخاض الوالدة. هذا أيضًا ما حدث مع من حاربوا كنيسة المسيح.

يذكر النبي ترشيش أغنى سواحل البحر، فيقول إنه كما تكسر الريح العاصفة السفن في شاطئ البحر، كذلك أنت تحطم الأعداء وتسحقهم، وتطحن قوتهم.

أنثيموس أسقف أورشليم

اعتاد الأعداء أن يجتمعوا على مقربة من أورشليم للتشاور فيما بينهم كيف يهاجمونها، لكن مشاوراتهم لم تكن تكمل، وكانوا يتركون المدينة وهم في دهشة. كان منظرها المملوء عجبًا يربكهم فيهربون.

يقدم المرتل تشبيهين للرعب الذي يحل بالملوك:

1. المرأة وهي تلد؛ يشير هذا التشبيه إلى حلول الرعب فجأة وبشدة. يرى القدي أغسطينوس أن هذه التشبيه يعني أن غاية الخوف هو أن تتم ولادة طفل جديد... [إذ يحبل الملوك بخوف المسيح، أي بالمخاض يلدون خلاصًا، إذ يؤمنون بذاك الذي يخافونه. "أخذهم المخاض كالتي تلد"، عندما تسمع عن مخاض توقع ولادة. الإنسان العتيق يتمخض والجديد يُولد].

2. سفن ترشيش التي اشتهرت بعظمتها وكبر حجمها وقوتها. البعض يرى أن كلمة "ترشيش" هنا معناها "محيط" أو "بحر"، وكأنه يقصد سفن البحار أو المحيطات[923]. وكما أن الريح العاصفة (الشرقية) تُحطم سفن ترشيش، هكذا روح مسيحنا يُحطم مملكة الظلمة التي تأسست في قلوب الخطاه، وذلك متى قبلوا عمل نعمة الله فيهم. أما الذين يرفضون النعمة فإن الروح يُحطمهم بذات المتعب التي جلبوها على كنيسة المسيح.

بهذين المثلين أوضح أن المقاومة للكنيسة حتمًا تنتهي بالفشل، أما المقاومون فإن قبلو خوف الله يؤمنون فيهلك شرهم، ويتمتعون بميلاد الإنسان الجديد فيهم، وإن رفضوه هلكت نفوسهم بشرهم.

v   بالحقيقة يتحدث (المرتل) عن كلاً من الحزن والفرح المقبلين، حزن بسبب الدينونة وفرح بالمغفرة[924]!

القديس أمبروسيوس

يرى القديس أمبروسيوس أن المرأة التي تلد هي النفس التي تحبل خلال عمل الكلمة، فإنها تُعاني من الآلام مادامت لم تنجب بعد، أما إذا ولدت طفلاً فتفرح. وسفن ترشيش هي سفن الروحية المحملة بذهب سليمان وفضته، أي أجسامنا التي تحمل كنزًا في أوانٍ خزفية كقول الرسول[925]. وكأن من يؤمن بالسيد المسيح بدلاً من مقاومة عمله يتمتع بميلاد الإنسان الجديد (في مياه المعمودية) ويحمل الكنز الحقيقي في داخله وهو في أمان!

يختم المرتل حديثه عن الكنيسة التي لا تُقهر، قائلاً:

"كمثل ما سمعنا كذلك رأينا،

في مدينة رب القوات،

في مدينة إلهنا،

الله أسسها إلى الأبد" [8].

قد سمع المرتل عبر التاريخ عن أعمال الله العجيبة في مدينته المقدسة، وخلال خبرته عاين بنفسه ما قد سبق فسمعه. فإن التاريخ والخبرة هما معلمان عظيمان يقدمان درسًا واحدًا هو اهتمام الله الفائق بكنيسته.

v   ما قد سمعناه نراه في الواقع العملي، أعنى نصرات وغلبة وعناية الله، وعجائب مذهلة[926].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   يا لها من كنيسة مطوَّبة! في وقت ما تسمع، وفي وقت آخر ترى.

لقد سمعت وعودًا، وترى تحقيقها.

سمعت نبوات، وترى إنجيلاً، لأن كل ما ما يتحقق الآن سبق فتُنبا عنه... أين تسمعين، وأين ترين؟ "في مدينة رب القوات، في مدينة إلهنا؛ الله أسسها إلى الأبد".

القديس أغسطينوس

v   أعني أن الأعمال التي صنعها قديمًا في مصر وفي برية سيناء وفي أرض كنعان قد سمعناها، وهي موجودة في الكتب ومنقولة بلسان الناس، ولكن الآن نراها صائرة عيانًا في أورشليم مدينتك التي ثبتها إلى الدهر.

ولكن إن قلت يا هذا إن كانت أورشليم قد ثبتها إلى الدهر، فلماذا خربها عساكر الرومان؟ نجاوبك أن الدهر هنا لا يكون بمعنى الأزلي، إذ تقول النبوة عن حزقيال الملك: "حياة سألك فأعطيته طول الأيام إلى الأبد وإلى أبد الأبد" (مز 21: 4)... كذلك هنا أيضًا قول النبي إن أورشليم: "يُثبتها الله إلى الأبد" يعني إلى زمان ما.

هذا القول أيضًا نبوة عن أورشليم العقلية التي هي كنيسة المسيح التي ثبتها الله على صخرة الإيمان ولن تقدر أبواب الجحيم أن تزعزها كما قال ربنا له المجد.

أنثيموس أسقف أورشليم

3. مدينة متعبدة متهللة:

إن كانت الكنيسة كمدينة الله المقدسة مُحَاربة على الدوام، لكنها تبقى المدينة التي لا تتزعزع ولا تُقهر، لذلك فهي تبقى في شكرها متعبدة له، تسبحه على الدوام بروح الفرح والتهليل وكأن الضيق لا يفقدها سلامها، بل بالعكس يدفعها لتمارس الحياة السماوية الشاكرة المتهللة.

"ذكرنا يا الله رحمتك في وسط شعبك.

نظير اسمك يا الله كذلك تسبحتك؛

في أقطار الأرض يمينك مملؤة عدلاً (برًا).

فليفرح جبل صهيون ولتتهلل بنات اليهودية

من أجل أحكامك يارب" [9-11].

سبق فقال: "سمعنا... رأينا"، الآن يقول: "ذكرنا"... سمع عن معاملات الله مع كنيسته في الماضي، ورأى بنفسه أنها معاملات حية ودائمة، لهذا يشهد أمام الشعب ليؤكد أن السيد المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. هو العامل في الماضي ويعمل في الحاضر وسيبقى عاملاً إلى الأبد. هذا مفهومنا للتقليد الحيّ الذي يتكئ على الماضي ليعلن عن حيويته في الحاضر ويسلمه للأجيال المقبلة وديعة إيمان حيّ وفعّال.

هذا التقليد المتأصل في الماضي ويعمل في الحاضر ويبقى عاملاً في المستقبل يبعث في الكنيسة روح الفرح والتهليل من أجل أحكام الله، سواء كانت في وقت الفرج أو الضيق.

v   لقد اختبرنا يا الله إحساناتك التي صنعتها مع شعبك عيانًا، لكن ليس من أجل فضائل صارت منا وإنما من أجل وفرة رحمتك وتحننك...

نظير اسمك كذلك هو فعلك، الذي من أجله يسبحك الناس في أقاصي الأرض كلها. صلاحك ليس أمرًا مكتسبًا وإنما هو من جوهرك، لأن الشمس بطبيعتها تنير وتحرق، كذلك من طبع لاهوتك تنير الأصفياء وتعاقب الأشرار... وأيضًا يمين الله أي ابنه الوحيد هو مملوء عدلاً، لأنه يحل المقيدين ويطلقهم، وينير المُظلمِّين ويقّوم المنسحقين...

يدعو النبي رجالاً ونساءً إلى الفرح والسرور من أجل إنعام الله عليهم من منح وخيرات. جبل صهيون هو الكنيسة الراسخة الأساس... وبناتها هي نفوس المؤمنين وسائر هياكل الله التي في المسكونة، فإنها تفرح وتبتهج من أجل ما أنعم بها الله عليها من مواهب فاخرة.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

v   يا جبل صهيون، ويا بنات اليهودية؛ أنتم الآن تتعبون وسط الزوان والقش، تتعبون وسط الأشواك، ولكن أفرحوا من أجل أحكام الله، فإن الله لن يخطئ في حكمه...

لا تفكر في بنات اليهودية أنهن اليهود. فإن "اليهودية" تعني "الاعتراف"، فكل أبناء الاعتراف هم أبنا اليهودية؟

القديس أغسطينوس

هكذا يرى المرتل الكنيسة كجماعة متعبدة متهللة بالله من أجل أعماله وأحكامه. فإبراهيم لن ينسى المُريّا، ويعقوب لن يسى بيت إيل...

4. مدينة شاهدة لإلهها:

إذ يختبر جبل صهيون أو بنات اليهودية أعمال الله الخلاصية والتمتع بالنصرة، ينطلقون كما في موكب لفحص عمل الله معهم. وذلك كما حدث مع نحميا حينما انتهى من بناء السور إذ جعل فرقتين تدوران حول السور أثناء التدشين بروح الفرح والتهليل يفحصون عمل الله معهم (نح 12)، وقد قيل: "فرحوا لأن الله فرّحهم فرحًا عظيمًا وفرح الأولاد والنساء أيضًا، وسُمع فرح أورشليم عن بعد" (نح 12: 43). إنهما موكبا الشكر لله الصانع بشعبه عجائب!

"طوفوا بصهيون ودوروا حولها؛

تحدثوا في أبراجها

ضعوا قلوبكم في قوتها

واقتسموا شرفاتها.

لكيما تخبروا بهن في جيل آخر.

إن هذا هو إلهنا إلى الأبد وإلى أبد الأبد.

وهو يرعانا إلى الدهر" [9-14].

يليق بالذين تمتعوا ببركات الخلاص الذي يسمو بهم كصهيون المرتفعة أن يطوفوا حول الشعب ويدوروا في البلاد يحدثون عن هذا العمل الإلهي العجيب. أنهم يتحدثون عن الأبراج العالية التي يقيمها روح الله لكي يختفي فيها المؤمنون ويتحصنون من ضربات العدو، يضعون ثقتهم في قوة الكنيسة التي هي "الحياة في المسيح يسوع" ويتمتعون بشرفاتها، أي بعطايا الله خلال كنيسته. هذا هو الله محب كنيسته التي يرعاها مدى الدهور حتى يأتي على السحاب ليأخذها معه. هذا هو موضوع شهادتنا للجيل القادم. هذه هي وديعة الإيمان أي التسليم الحيّ أو التقليد المُختبر الذي نقدمه بحياتنا كما بكلماتنا. فإنه كيف نتحدث عن أبراج الكنيسة وشرفاتها، أي عن حصونها المنيعة وغناها ما لم نكن نحن أبراجًا وفي غنى روحي، لهذا يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [أعتقد أنه يلمّح هنا إلى أولئك الذين احتضنوا الكلمة (اللوغوس) بطريقة سامية ليصيروا أبراجًا عالية، وليرسخوا بثبات في الإيمان والمعرفة[927]].

 


 

مدينة رب القوات

v   عجيب أنت أيها الرب،

فقد أقمت من شعبك مدينة خاصة بك،

وجعلتهم جبلاً مقدسًا تعلن فيه قداستك.

v   نزلت إلينا كحجر الزاوية المرفوض،

فجمعتنا من كل الأمم والشعوب لتقيم منا مدينتك المقدسة!

وملأت الأرض كلها فرحًا،

إذ أقمت ملكوتك في داخلنا!

v   ليجتمع العالم كله ضد كنيستك،

فتبقى هي مدينة الملك العظيم.

يرى الكل يدك العجيبة،

لعلَّهم يقبلونك ويخافوك!

v   عجيب أنت يارب القوات،

تعلن رحمتك وسط شعبك،

وتقيم منهم أبراجًا عالية،

وتجعل منهم شرفات فخمة!

v   سمعنا من الأجيال السابقة عنك،

وها نحن نرى بأعيننا عملك معنا،

ليُقدسنا روحك القدوس فنخبر بحياتنا الجيل القادم.

v   اجتذبتنا من كل الأمم ككنيسة مقدسة لك،

أقم هيكلك في كل نفس،

واحملنا جميعًا إلى هيكلك السماوي،

إلى مدينة أورشليم العليا،

مسكن الله مع الناس!

<<

 


 

المزمور التاسع والأربعون

قصور الغنى

مزمور حكمي:

مزمور الحكمة هذا هو آخر مزامير أبناء قورح. في أغلب المزامير نجد الكاتب يصلي أو يسبح الله، أما هنا فنجده يبشر[928]، فالمزمور أشبه بعظة تعلمنا الاتكال على الله لا على ذراع بشر ولا على الكرامة الزمنية ولا على المال إله هذا الدهر.

مناسبته:

سجله المرتل ربما حين رأى حوله أتقياء فقراء فارتبك وتعب بسبب غنى الأشرار.

الإطار العام:

1. دعوة للاستماع          [1-4].

2. قصور الغنى والكرامة   [5-13].

3. بركات البرّ              [14-15].

4. نصيحة وتحذير          [16-20].

العنوان:

"لإمام المغنين" لبني قورح؛ مزمور"، وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام؛ لبني قورح". وقد سبق لنا شرح مثل هذه العبارة:

"إلى التمام": سبق فرأينا أن السيد المسيح هو تمام أو نهاية الناموس، بل هو غاية عبادتنا وجهادنا وحياتنا. هنا في هذا المزمور يكشف المرتل نهاية الاتكال على ذراع بشر أو على كرامة العالم وغناه ويقارنه بنهاية الملتصق ببرّ المسيح.

v   يخبر هذا المزمور عن نهاية أعمار البشر عامة، لهذا حرر في عنوانه "إلى التمام"، أعني أنه خبَّر عن انقضاء عمر كل إنسان، هذا الانقضاء ينبغي أن نفكر فيه على الدوام؛ لأن غاية قصدنا هو السعادة في الدهر الآتي. ومن أجل هذا حرر الرسول الفصل الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، قائلاً: "وبعد ذلك النهاية متى سلم المُلك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة" (1 كو 15: 24).

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

1. دعوة للاستماع:

"اسمعوا هذه يا معشر الأمم،

وانصتوا يا جميع قاطني الأرض" [1].

تُوجَّه دعوة جامعية للبشرية في كل مكان، للعظماء والعامة، للأغنياء والفقراء، لليهود والأمم، بكون الجميع عبيد الله مدعوين للاستماع لله وطاعته، كي يتمتعوا بكلمة الله وحكمته.

يبدأ المزمور بكلمة "اسمعوا"، وهي ذات الكلمة التي بدأت بها الوصايا العشرة: "أسمع يا إسرائيل". هذه هي بداية الوصية الإلهية، هي أمر يحوي ضمنًا وعدًا إلهيًا، فإن الذي يُطالبنا بالاستماع هو الذي يهب آذاننا الختان لكي تكون لنا أذن روحية قادرة على الاستماع والفهم والطاعة بفرح وبهجة قلب. لهذا قيل: "من له أذنان للسمع فليسمع".

يرى أنثيموس الأورشليمي الذي اعتمد على أقوال كثير من الآباء، خاصة العلامة أوريجانوس والقديس باسيليوس الكير، أن المرتل هنا يصنف ثلاثة أنواع: [معشر الأمم، جميع قاطني الأرض، بنو البشر الأغنياء والفقراء].

1. معشر الأمم، أي غير المؤمنين، فقد جاء السيد المسيح طبيبًا للسقماء، يشفي الأمم بدعوتهم للالتقاء مع الله.

2. قاطنو المسكونة، المستقيموا الرأي، فهم محتاجون أيضًا إلى النصيحة والحكمة الإلهية ماداموا على الأرض.

3. بنو البشر الأرضيون المولودون بمحبة الأرضيات، سواء كانوا أغنياء أو فقراء.

بمعنى آخر كل البشرية تحتاج إلى النصيحة الإلهية لتتمتع بخلاصها، ولكي يعمل الكل معًا ويجاهدون بروح الوحدة والحب خلال الشعور المشترك بالحاجة إلى الخلاص والمخلص، سواء كانوا أممًا أو مؤمنين، أرضيين أو روحيين، أغنياء أو فقراء...

v   بأية قوة يكون صوتنا حتى يسمعه كل الأمم؟ إذ يعلنه ربنا يسوع المسيح خلال الرسل، يعلنه بألسنة كثيرة قد أرسلها. وها نحن نرى هذا المزمور الذي كان يُردد في أمة واحدة فقط، في مجمع اليهود، الآن يُردد في العالم كله، في كل الكنائس، وقد تحقق ما قيل هنا: "اسمعوا هذه الكلمات يا كل الأمم".

v   إنه يقول: "اسمعوا بآذان متأملة"، أي لا تسمعوا بحب استطلاع!

v   ربما يُريدنا أن نفهم تعبير "قاطني (الأرض)" بمعنى أوسع، فيفهم "كل الأمم" بمعنى "كل الأشرار"، أما قاطنوا العالم" فكل الأبرار. فإنه من لا يتمسك (مجاهدًا) لا يقطن...

لذلك ليت الأشرار أيضًا يسمعون: "اسمعوا هذا يا جميع الأمم". ليت الأبرار أيضًا يسمعون، الذين يسمعون بهدف، هؤلاء بالحري يحكمون العالم (روحيًا) لا أن يحكمهم العالم.

v   مرة أخرى يقول: "يا جميع مولودي الأرض (الأرضيين، بني آدم) وبني البشر". بقوله: "مولودي الأرض: يشير إلى الخطاة، وتعبير "بنو البشر" يشير إلى المؤمنين والأبرار. ها أنت تلاحظ التمييز. من هم مولودو الأرض؟

هم بنو الأرض... الذين يشتهون الميراث الأرضي. من هم بنو البشر؟ الذين ينتمون إلى "ابن الإنسان"... الذين يلتصقون بآدم هم "بنو الأرض، والذين يلتصقون بالمسيح هو بنو البشر.

القديس أغسطينوس

الدعوة موجهة إلى الجميع: إلى الأمم واليهود؛ الأرضيين الذين وضعوا قلوبهم في التراب وبني البشر الذين التصق قلبهم بابن الإنسان، الأغنياء المتكلين على غناهم وسلطانهم وكرامتهم فصاروا فقراء في الإيمان، والفقراء الذين اقتنوا المخلص كنزًا لهم... إنه وقت فيه يتقبل الجميع كلمة الرب حتى يقبل غير المؤمنين الإيمان، والساقطون التوبة، والمجاهدون في بر المسيح استمرارية العمل الروحي... إنه وقت للتعليم يخضع له الكل: كهنة وشعبًا، فيسأتي وقت الدينونة الذي لا يجتمع فيه الأبرار مع الأشرار.

"... الأرضيين وبني البشر،

الغني والفقير جميعًا" [2].

v   الآن ليسمع الأغنياء والفقراء معًا، ليت الجداء والخراف يقتاتون من ذات المرعى حتى يأتي ويفصل الواحد عن يمينه والآخر عن يساره. ليسمعه الكل معًا بكونه المعلم، لئلا ينفصلا عن بعضهما البعض عندما يسمعان صوت كديان.

القديس أغسطينوس

"فمي ينطق بالحكمة

وتلاوة (تأملات) قلبي فهمًا" [3].

يُقدم المرتل مثالاً حيًا للمعلمين، بل ولكل مسيحي، فبينما يتكلم فمه بالحكمة الإلهية التي ينالها كهبة من الله، وبجلوسه مع مريم أخت لعازر ومرثا عند قدميه يسمع له، إذ بقلبه يسبح في تأملات إلهية بفهم وإدراك ورحي. حكمته ليست خبرة إنسانية مجردة وإنما هبة الله الآب أب الأنوار (يع 1: 5) القادر أن يملأ العقل والقلب معًا بالحكمة والفهم، بل وتترجم الحكمية عمليًا في حيتهم اليومية، فلا ينطبق عليهم القول: "هذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني" (إش 29: 13).

v   يقول النبي: إن قصدي ليس المفاوضة بأمور دنيوية بل بالتكلم بالحكمة. ليس بكلام مرتجل خاص برأيي، ومُستنبط من قريحتي، وإنما هو كلام قد دبرته في قلبي بفهم حسب ما سمعت بإلهام الروح القدس وذلك لما أملت أذني الروحية ليه، فأستعرض أمثالي بالمزمار ليسهل على السامعين تذكرها...

يقول الرسول الإلهي في الفصل العاشر من الرسالة إلى أهل رومية: "لأن القلب يُؤمَن به للبر، والفم يُعترف به للخلاص" (رو 10: 10), فاذا فعل الأمرين (الشهادة بالقلب واللسان) يصنع كمال الصلاح. فإن لم يكن الصلاح مُذخرًا في القلب مُسبقًًا كيف ينطق الفم بما هو مُذخر؟! وإن كان الإنسان جادًا في قلبه ولا يبرزه بفمه فأي نفع بما هو مذخر وخفي؟! فمن اللازم أن يهذّ القلب بالفهم نفعًا لمن يهذّ به، وبالفم لنفع الغير، لهذا يقول النبي يلهج بالقلب ويتكلم بالفم.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

إذ يفتح المرتل فكره وقلبه ليتقبل حكمة الله، تميل أذنه الروحية إلى أمثال الرب، وتتهلل أعماقه بها فينشدها بفرح كما بمزمار. هذه صورة جميلة للتلاميذ الذين كانوا يَختلون بالسيد المسيح ليشرح لهم الأمثال ويلهب قلبهم بحب ملكوته.

"أميل إلى الأمثال أذني

وأفتح بالمزمار فاتحة كلامي" [4].

v   لماذا "إلى الأمثال"؟ أنه كما يقول الرسول: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز" (1 كو 13: 12) وذلك متى كنا مستوطنين في الجسد متغربين عن الرب (2 كو 5: 6). فإن رؤيتنا لم تصر بعد وجهًا لوجه حيث لا تكون حينئذ أمثال ولا ألغاز ولا مقارنات.

القديس أغسطينوس

v   أما قوله: "أميل إلى الأمثال أذني" فهو نبوة عن الرسل القديسين الذين كان ربنا يسوع المسيح يفسر لهم على إنفراد أقواله التي يقولها للآخرين بأمثال.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

2. قصور الغنى والكرامة:

يبدأ هذا القسم بسؤال يقدمه الأبرار الذين يعانون الآلام من الأشرار الأغنياء ظلمًا:

"لماذا أتخوف في اليوم الشرير؟!

إثم عقبي يحيط بي" [5].

لماذا أُعطي لنفسي مجالاً للتخوف والدخول في حالة من الإحباط عندما تحل كارثة، عندما يحاصر شرير غني صاحب سلطان ليطرحني أرضًا؟!

v   نُجيب على هذا القول بإنه لا يوجد يوم شرير، لأن الأيام قد خلقها الله، وكل ما خلقه هو حسن جدًا وليس شريرًا...

يقول النبي إني إن سُئلت: لماذا تخاف؟ أجيب: لا أخاف شيئًا مما يُظن به أنه مخوف، لست أخاف من مرض أو فقر أو شدة أو أذية الناس، لكنني أخاف من الخطية فقط، هذه التي تحوّل اليوم الصالح إلى يوم شرير، إلى يوم عقوبة وعذاب. وذلك كما كتب السائح في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل رومية: "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا..." (رو 2: 5).

أما أوريجانوس فيقول: [إنه "إثم العقب" هو معصية آدم التي بسبب مخالفته أخذت الحية سلطانًا أن تسحق عقبه].

وأيضًا إثم العقب الذي يُخاف منه هو يوم الجزاء، وهي الخطية التي تُمارس في عقب عمر الإنسان (أي في نهاية حياته دون توبة).

وأيضًا عقب ربنا يسوع المسيح هو يهوذا مسلمه، لأنه كان دائمًا يرصد خطواته (عقبه). فيقول ربنا إنني لا أخاف يوم الصلب الذي أعده لي الأسرار باغتيال ومكر.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

لنخف لا من الناس ولا من الأحداث بل من السقوط في الخطية أو من إثم العقب أي الانحراف عن السير في طريق وصايا الرب، هذا ما يرعبنا، إذ يحوّل زماننا إلى أيامٍ شريرة، ويحول يوم الرب العظيم من يوم عُرس أبدي إلى يوم دينونة رهيبة.

v   إذا ما تخلص من "إثم عقبه" وسار في طرق الرب لا يأتي إلى اليوم الشرير... ولا يكون اليوم الأخير بالنسبة له يومًا شريرًا...

الآن إذ هم يعيشون ليحذّروا لأنفسهم، لينتزعوا الإثم عن عقبهم... وليسيروا في ذلك "الطريق" الذي قال عنه نفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة"، وعندئذ لا يخافون اليوم الشرير، لأن ذاك الذي صار "الطريق" يهبهم أمانًا. ولهذا يلزمهم أن يتجنبوا إثم عقبهم.

القديس أغسطينوس

ولعل أخطر الآثام التي يجب أن نتجنبها هي محبة المال التي هي أصل كل الشرور (1 تي 6: 10)، فإن من يحب المال يقيم منه إلهًا يتعبد له. ليس المال في ذاته بل محبته أو الاتكال عليه يحكم حياتنا، لهذا يكمل المرتل حديثه هكذا:

"المتكلون على قوَّتهم، وبكثرة غناهم يفتخرون" [6].

مهما بلغ الغنى قد يتركنا يومًا ما كما حدث مع أيوب البار، فلا ينفعنا في وقت الضيق. فمن الأفضل لك أن تكون فقيرًا وتتكل على الله، وتقبله نصيبًا وميراثًا لك، عن أن تكون غنيًا وتعبد المال. فالإنسان الأول لن يسقط من السماء، والثاني لن يدخلها ما لم يتب. محبة المال قد تدفع الإنسان إلى الكبرياء والأنانية والظلم والعنف، وهكذا تسلمه من خطية إلى خطية ليصير ألعوبة الأفكار والتصرفات الشريرة.

v   إن لم تصنعوا من مالكم رحمة في هذا العمر، فإن المال لن يذهب معكم إلى الآخرة، ولا ينفعكم في اليوم الشرير، أعني يوم الجزاء.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

v   ليتنا لا نتكل على فضائلنا (قوّتنا)؛ ليتنا لا نفتخر بوفرة ثروتنا، وإنما نفتخر بذاك الذي وعدنا، الذي باتضاعه ارتفع، مهددًا بإدانة المتكبرين؛ بهذا لا يُحاصرنا إثم عقبنا.

القديس أغسطينوس

v   أي شيء من كل هذه الأمور يبدو لك مرغوب فيه جدًا وتُحسد عليه؟ تقول بلا شك: السلطة والغنى والشهرة. ومع هذا أي شيء أكثر بؤسًا من هذه الأمور إن قورنت بحرية المسيحيين؟! فقد يخضع الوالي لغضب الرعاع ودوافع الجموع بغير تعقل والخوف ممن هم في مناصب أرقع، والقلق على من هم خاضعين له، ومن كان حاكمًا بالأمس يصير مواطنًا عاديًا اليوم. فإن الحياة الحاضرة لا تختلف في شيء عن خشبة مسرح، بل هي كذلك. إنسان يحتل مركز ملك، وآخر قائد وثالث جندي، ويأتي المساء فلا يكون الملك ملكًا، ولا الوالي واليًا، ولا القائد قائدًا. في ذلك اليوم ينال كل إنسان مكافأته التي يستحقها ليس حسب دوره الخارجي الذي قام به بل حسب أعماله. حسنًا! هل المجد هو أثمن شيء، هذا الذي يزول مثل العشب؟ أم الغنى الذي لا يهب مالكيه سعادة؟ إذ نقرأ: "ويل لكم أيها الأغنياء" (لو 6: 24)، وأيضًا: "ويل لكم يا من تتكلون على قوّتكم وتفتخرون بوفرة غناكم".

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   يليق بنا ألا نضع رجاء خلاصنا في شيء آخر، وإنما فقط في أعمالنا البارة حسب نعمة الله... إن كان لنا ربوات الأسلاف المشهورين يلزمنا نحن أنفسنا أن نجاهد لكي نتفوق على سموهم، مدركين أننا لا ننتفع شيئًا من جهاد الآخرين كعون لنا في الدينونة العتيدة، بل بالحري يكون دينونة علينا أننا قد وُلدنا من أبوين بارين، وأمامنا أمثلة في البيت ولا نقتدي بمعلمينا[929].

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كنا لا نتكل على مالنا وقوتنا في معالجة مشاكلنا الزمنية فبالأولى في خلاصنا الأبدي، فإنه لن يستطيع بشر ما ولا إمكانيات بشرية أن تفدينا من الموت أو تبررنا أمام الله القدوس، أو تدخل بنا إلى شركة الميراث الأبدي. يمكن للغنى أن يقتني بعض الممتلكات الزمنية أو ينال سلطانًا أو كرامة، لكنه لا يقدر أن يقتني الحياة الأبدية إلا بالإيمان الحيّ العامل بالمحبة. هذا ما يدفعنا إلى التطلع إلى المخلص الذي قدم حياته مبذولة عنا، مفتديًا إيانا لا بذهب أو فضة وإنما بدمه الثمين كحمل الله الذي بلا عيب.

"الأخ لن يفتدي الإنسان فداءً،

ولا يعطي الله استغفارًا عن ذاته،

وثمن خلاص نفسه" [7-8].

v   بمعنى إنه إن لم يتب الإنسان عن الخطية ويصنع أعمالاً مرضية لله لن يقدر أن يفتديه أخ أو أحد أخِصَّائه أو أقربائه، ولو كان فاضلاً، لأن كل أحد يُكافأ منفردًا حسب أعماله...

لا يوجد شيء من أمور العالم تساوي قيمة النفس لكي تفديها.

إن قام "نوح ودانيال وأيوب فإنهم إنما يخلصون أنفسهم ببرهم يقول السيد الرب... إنهم لا يخلصون بنين ولا بنات" (حز 14: 14-16).

ولكن إن قلت يا هذا: ألست شفاعات القديسين نافعة؟ نقول إن شفاعتهم نافعة لكنها تحتاج إلى توبة المذنب وإلى تعب في هذا العمر حتى يمكن اقتناء الحياة الأبدية. وأما إنسان مثلنا خاطئ فلن يقدر أن يفدينا، ولا أن يستغفر الله عنا، سوى دم ربنا يسوع المسيح الإله المخلص.

الب أنثيموس الأورشليمي

v   يوجد بعض الناس يتكلمون على أصدقائهم، وآخرون على فضائلهم (قوّنهم)، وآخرون على غناهم. هذه هي عجرفة البشرية التي لا تتكل على الله... "الأخ لن يفتدي، فهل يخلص إنسان؟". هل تتوقع إنسانًا يفتديك من الغضب القادم؟!

القديس أغسطينوس

v   لا تتطلع إلى أخ لخلاصك...بل إلى الإله المتأنس يسوع المسيح، فهو وحده قادر أن يُقدم فدية لله عنا جميعًا... دم ربنا يسوع المسيح المقدس والثمين جدًان الذي سفكه لأجلنا جميعًا...

ليس لأنه سكن بيننا "في شبه جسد الخطية" (رو 8: 3)، تظن أن ربنا إنسان مجرد؛ وتفشل في ملاحظة قوة لاهوته. إنه لا يحتاج أن يُقدم لله فدية عن نفسه،... فإنه "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش" (1 بط 2: 21)[930].

القديس باسليوس الكبير

v   الذي يُلقَى مرة هناك (في نهر النار) يبقى فيه إلى الأبد، ليس من يقدر أن ينقذه من عقوبته، سواء كان أبًا أو أمًا أو أخًا[931].

v   يعلن حزقيال ما هو أكثر من هذا: "وإن كان نوح ودانيال وأيوب في وسطها فإنهم لا يخلصون بنين وبنات" (راجع حز 14: 16). فإنه يوجد دفاع واحد، وهو الأعمال (في الرب)، من يتجرد منها لا يخلص بأية وسيلة أخرى. إذ ننشغل بهذه الأمور ونتأمل فيها باستمرار نطهّر حياتنا ونجعلها بهية، فنرى الرب بدالة، وننال الوعد بالخيرات بنعمة ورأفات ربنا يسوع المسيح، الذي به ومعه المجد إلى أبد الأبد مع الآب والروح القدس. آمين[932].

v   وكما قال أيضًا النبي معلنًا ذات الشيء: "الأخ لن يفتدي، فهل يُفتدى إنسان؟" كلى، حتى وإن كان موسى أو صموئيل أو إرميا. اسمع كمثال ما يقوله الله في هذا الأمر الأخير: "لا تُصلي لأجل هذا الشعب، فإنني لا أسمع لك". ولماذا تتعجب إنني لا أسمع لك، "وإن وقف موسى وصموئيل أمامي" (إر 15: 1) لا أقبل طلباتهم عن هؤلاء الناس. نعم، إن كان حزقيال يتوسل، يُقال له: "وإن وقف نوح ودنيال وأيوب فإنهم لا يخلّصون بنين وبنات". وإن توسل البطريرط إبراهيم لأجل المصابين بمرض مُستعصي شفائه ولا يمكن تغيرهم فإن الله يتركه ويذهب في طريقه (تك 18: 33)، حتى لا يقبل صرخته لأجلهم. مرة أخرى إن كان صموئيل يفعل ذلك، فيُقال له: "لا تنح على شاول" (راجع 1 صم 16: 1). وإن توسل أحد من أجل أخته وكان الأمر غير مناسب فسيسمع ذات الأجابة التي قيلت لموسى "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها" (عد 12: 14)[933].

v   دعى إبراهيم الإنسان الغنى "ابنًا" (لو 16: 25)، ومع ذلك لم يقدر أن يقوم بواجب أبٍ. ودعاه الغنى: "أبي"، ومع هذا لم يستطيع أن يستمتع بما ينتظره ابن من مشيئة أبيه الصالحة. حدث هذا ليُعلّمكم إنه لا يمكن للعلاقة الأسرية ولا للحب أو العاطفة أو لشيء آخر أن يُعين من خانته حياته هو[934].

v   وأوضحنا بإسهاب إننا بحسب رآفات الله ومحبته يلزمنا أن يكون لنا رجاء الخلاص في أعمالنا البارة (بنعمة الله) دون حسبان لآبائنا وأجدادنا وآباء أجدادنا، أو أقربائنا وأصدقائنا وعائلاتنا وجيرانا، لأن "الأخ لا يفتدي، فهل يُفتدى إنسان؟"... لقد استجدت الخمس عذارى زيتًا من رفيقاتهن ولم يحصلن على شيء. فالإنسان الذي دفن وزنته في الأرض يبدي أعذارًا لكنه يُدان[935].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"تعب إلى الدهر، ويحيا إلى الانقضاء،

ولا يُعاين فسادًا،

إذا رأى الحكماء يموتون،

الجاهل والذي لا عقل له معًا يهلكون،

ويخلفون غناهم للغرباء،

وتصير قبورهم لهم مسكنًا إلى الأبد، ومحلاً لهم إلى جيل فجيل،

دعوا بأسمائهم على الأرض" [8-10].

v   ابتدأ النبي يعظ الفقراء والمتعبين ويحثهم على الجهاد، قائلاً: إن تعبكم في هذا العمر القصير يسبب لكم حياة أبدية في الدهر الآتي، وكما يقول بولس الرسولك "أنا تعبت أكثر منكم" (1 كو 15: 10)، "في الأتعاب أكثر" (2 كو 11: 23).

إن الذي فضَّل الحياة الشاقة المتعبة عن الواسعة الرغدة، واختار الطريق الضيق المحزن لأجل محبة المسيح فأنه لا يُبتلى بالعقوبات المعدَّة للمدَّعين حكمة هذا العالم هذه التي يدعوها الرسول حماقة. وأيضًا إذا ما رأى الفقراء الأغنياءَ والحكماءَ يموتون مثل الآخرين فلا يمقتون الفقر ولا يغمهم التعب الذي يُكابدونه في هذا العمر الحاضر...

الجاهل هو ذاك الذي يعيش حياة وثنية، والذي لا عقل له هو من استنار بشرائع اليهود ولم يعمل ما يرضي الله، فإذا بكليهما قد بادا وهلكا من جهلهما وحماقتهما، فصرنا نحن المؤمنين نمتلك غناهما. وإذ كانت أعمالهما مميتة وسمجة صار جسداهما اللذين هما مسكنا النفسين بمنزلة قبرين حاويين جيفة، وانتقلا من بيوت مزخرفة إلى القبور، يسكنان فيها إلى الأبد. وقد شبههما ربنا أيضًا بقبور ظاهرة جميلة، وداخلها مفعمة برمم الأموات وكل فساد...

إن ابن قايين هو أول من بنى مدينة ودعاها باسمه، وبعده دعا كثير من الملوك والولاة أسماءهم على ما اقتنوه من الأراضي. هنا يوبخهم النبي لأنهم لم يعتزموا أن يديموا ذكرهم بشيء روحي كما فعل رسل المسيح وسائر القديسين الذين أبَّدوا ذكرهم بفضائل، وجعلوا شهرتهم في أمور سماوية لا أرضية، كُتبت أسماؤهم على الأرض.

الأب انثيموس أسقف أورشليم

v   ماذا يعني هذا؟ إنه لا يفهم ما هو الموت، فعندما يرى إنسانًا حيكمًا يموت، يقول في نفسه: "هذا الزميل، كان بالنسبة للكل حكيمًا، يقطن مع الحكمة، ويعبد الله بتقوى، ألم يمت؟ لهذا فإني أمتّع نفسي مادمت حيًا لأنه لو كان الحكماء في أمور أخرى قادرين على عمل شيء ما ما كانوا يموتون". وذلك كما فعل اليهود عندما رأوا المسيح معلقًا على الصليب احتقروه، قائلين: "إن كان هذا ابن الله لينزل عن الصليب"، غير مدركين ما هو الموت...

ومن هو "غير الحكيم"؟ ذاك الذي لا يدرك في أية حالة شريرة هو.

القديس أغسطينوس

v   يقول الكتاب المقدس بالحق إن "أنفس الأبرار في يديْ الله، الموت لا يمسهم" (حك 3: 1). لأن موت القديسين هو رقاد وليس موتًا. لأنهم جاهدوا من أجل الأبدية، وإلى الأبد سيحيون. "عزيزي في عينيْ الرب موت قديسيه"؛ فماذا أثمن من أن نكون في يدّ الله؟ لأن الله هو الحياة والنور، والذين في يدّ الله يبيتون في حياة ونور[936].

الأب يوحنا الدمشقي

"الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها.

قيس بالبهائم التي لا معرفة لها، وشُبّه بها" [12].

من يظن أنه يستقر في هذا العالم ويبقى متلذذًا بمباهجه غبي وبلا فهم، ويُسحب كالحيوانات. لهذا يُشبّه الأنبياء الأشرار الملتصقون بالزمنيات بالذئاب أو الأسود أو الكلاب والثيران والحيات الخ، وذلك من جهة عدم تعقلهم. أما الأبرار والملتصقون بالسمويات فيُشبهون ببعض الطيور والحيوانات لا من جهة عدم فهمهم وإنما من جوانب أخرى، فتُشبه الكنيسة بالحمامة في طهارتها، والحمل في وداعته، بل وشُبه السيد المسيح بالحمل بكونه الذبيحة والفدية عن البشرية، والأسد الخارج من سبط يهوذا المدافع عن شعبه ضد إبليس وجنوده.

v   على أي الأحوال: "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها". ماذا يعني: "إذ كان في كرامة". أي بخلقته على صورة الله ومثاله فضَّله على الحيوانات أم يخلق الله الإنسان ليس كما خلق الحيوان، إنما خلق الإنسان لكي يسود على الحيوانات...

والذي خُلق على صورة الله صار يُقارن بالحيوانات التي بلا إحساسات وصار مثلها، بينما قيل: "لا تكن كفرس أو بغل بلا فهم".

القديس أغسطينوس

v   إن فعلنا غير هذا، غير مدركين إننا على صورة الله، وانشغلنا بأجسادنا أكثر مما بنفوسنا، أخشى أن يوبخنا الروح القدس بقوله بالنبي: "والإنسان في كل سموّه لم يثبت، إنه يشبه البهائم التي تُباد"[937].

v   إن كان رجل ملتصق بزوجته دون حدود... وينظر إلى زوجة آخر أو ابنته أو خادمة له أو لغيره – وهذه خطية خطيرة للغاية – فهو مغلوب من الشهوة البهيمية، ويصير كالبهائم ويفقد آدميته... إن كنتم لا تخشون أن تصيروا كالبهائم فعلى الأقل خافوا من أن تموتوا مثلها[938].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v   وأيضًا إذ كان الإنسان في كرامة قد صار كالبهائم، مما يُشير إلى أنه بسبب خطئه الشخصي تشبه بالبهائم، إذ تمثل بحياتهم غير العاقلة[939]...

v   هكذا سيُدان بعدل، فإنه إذ خُلق إنسانًا عاقلاً، فقد تعلقه الحقيقي الذي من الله، ليعيش بطريقة غير عاقلة، معارضًا برّ الله، مستسلمًا لكل روح أرضي، وخاضع لكل الشهوات وكما يقول النبي: "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها، قيس بالبهائم التي بلا إحساس وتشبه بها"[940].

القديس إيريناؤس

v   من جهة أخرى، هل ينفض (الإنسان) نير خالقه، ويتجاهل أوامره الإلهية، ومن ثم يُخضِع النفس للجسد، مفضلاً ملذات الجسد، غير مدركٍ لكرامته، ومن ثم يتشبه بالبهائم التي بلا حس؟! وبهذا يتعرض للموت والفساد، مما يُسبب له حالة إحباط[941]...

الأب يوحنا الدمشقي

v   تنحني رؤوسهم نحو الأرض، ويتطلعون إلى بطونهم، ويسعون فقط من أجل خير بطونهم!

رأسك يا إنسان متجهة نحو السماء، وعيناك تنظران إلى أعلى! فحين تنحط بنفسك إلى أهواء الجسد، وتُستعبد لبطنك ولأعضائك السفلية، تتمثل بالحيوانات الدُّنيا غير العاقلة وتصير كواحدة منها.

إنكم مدعوون إلى اهتمامات أكثر شرفًا، فاطلبوا ما هو فوق حيث المسيح جالس. ارفعوا نفوسكم إلى فوق الأرضيات... ثبتوا سيرتكم في السماء، في وطنكم الحقيقي، التي هي أورشليم السماوية، فإن رفقاءكم في الوطن هم الأبكار المكتوبون في السماء[942].

القديس باسيليوس الكبير

v   كرامة الطبيعة العاقلة تظهر في تمييز الخير من الشر، والذين يبددونها يشبهون بحق "الحيوانات العجماوات" التي لا عقل لها ولا تمييز.

بهذه القدرة على الإدراك يمكننا أن نجد طريقنا إلى الله. إنها المعرفة الطبيعية، وهي سابقة للإيمان وأصله. هي السبيل إلى الله[943].

مار إسحق السرياني

v   منذ أخطأ الإنسان الأول وعصى الله قيل: "صار الإنسان كالبهائم". فقد أعتبر حقًا من الكائنات غير العاقلة، لهذا شُبّه بالبهائم، إذ يقول الحكمة: "... صار الشهواني والزاني كبهيمة عجماء"، وكما أضيف: "أنه يصهل، أيا كان الذي يمتطيه". هذا معناه أن الإنسان لا يعود ينطق بعد، لأن الذي يمتطيه ضد العقل... إنه حيوان أعجم يخضع لشهوات قد امتطته[944].

القديس اكليمندس الإسكندري

v   امتطى (السيد) أتانًا (مر 11: 1-8، يو 12: 13) حتى يحّول النفس (التي صارت كما يقول النبي غير عاقل وشُبهت بالحيوانات العجماوات) إلى صورة الله، ويُخضعها للاهوته[945].

الأب دوروثيؤس من غزة

v   خلق إله الجميع الإنسان على الأرض بعقلٍ قادرٍ على الحكمة، وله قدرات للفهم، لكن الشيطان خدعه، على الرغم من أن (الإنسان) مخلوق على صورة الله، مفضلاً ألا تكون له معرفة خالقه وجابل الجميع. وقد تسبب (الشيطان) في انحطاط سكان الأرض إلى أدنى مرتبة من اللاعقلانية والجهل. وإذا يدرك الطوباوي داود هذا يبكي بمرارة، ويقول إن الإنسان الذي في كرامة لم يفهم ومن ثم شُبه بالبهائم التي بلا فهم[946].

القديس كيرلس الكبير

هذا ما فعلته بنا الشهوات البهيمية، لذا لاق بالإنسان – وقد أدرك ما انحط إليه فعجز عن معرفة أسرار الله – أن يقبل كلمة الله فيه، يقبل عمله الإلهي في حياته كما من خلال تلميذيه اللذين حلا الأتان والجحش (مت 21: 3)، يحلانه من رباطات الخطية بالروح القدس ويقدمانه كمركبة إلهية نارية تنطبق في حرية نحو أورشليم العليا (غل 4: 26).

يستمر المرتل في حزنه وأسفه على شقاء البشرية، فإنه إذ يعتمد البشر على غناهم ومالهم يسلكون هذا الطريق في حماقة وينحطون، يأتي الجيل التالي فلا يتعظ من سلفه بل يرتضي السلوك في ذات الاتجاه ويغبطونه. "هذا سبيلهم صار شكًا لهم، ومن بعد هذا بأفواههم يرتضون" [12].

3. بركات البرّ:

إذ يدفع الاتكال على غنى العالم الإنسان إلى الحياة البهيمية، إنما يدفعه كما إلى الذبح أو الموت، يصيرون في مذلة تحت سلطان راعيهم الجيد ألا وهو الموت، أما الذين لهم برّ المسيح فيحملون سلطانًا!

"جُعلوا في الجحيم مثل الغنم، والموت يرعاهم،

ويسود عليهم المستقيمون بالغداة.

ومعونتهم تبلى في الجحيم من مجدهم.

بل أن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذ أخذها" [14- 15].

v   الذين لم يهتموا بما ينفع آخرتهم، والذين جاءوا بعدهم يصنعون مثلهم، صاروا في الجحيم مثل غنم في المجزر. وإذا لم يريدوا أن يكونوا تحت رعاية الراعي الصالح لهذا "يرعاهم الموت"، أي الهلاك. وأما "معونتهم" التي فب مالهم وقوتهم، والتي كانوا يستعينون مستغيثين بها تقدم وتبل في الجحيم، إذ تذهب عنهم ويصيرون عرايا من مجدهم.

وأما المستقيمون فإنه إذ يشرق عليهم الغداة وصحوة النور الإلهي في الدهر العتيد يصيرون رؤساء وسادة!

يقول القديس باسيليوس الكبير: [إذ كان الإنسان في كرامة ولم يعرفها وقيس بلبهائم وشُبه بها، لذلك استولى المحتال على الجنس البشري بأسره، وجمع كافة الناس في الجحيم مثل الغنم التي بلا فهم ولا تقدر أن تمانع، ودفعها إلى الموت، وصار يرعاها منذ آدم حتى مجيء ربنا يسوع المسيح له المجد. ولأجل هذا قال في الإنجيل المقدس: "أنا هو الراعي الصالح"، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف التي كان يرعاها الموت. ثم أنه بالغداة، أي لما أشرق وارتفع نهار شمس البر الذي هو ربنا يسوع المسيح، فإنه الذين تبعوا الاستقامة وآمنوا به عتقهم من رق الموت العقلي الذي هو البُعد عن الحياة الأبدية. وسلَّم حراستهم للمستقيمين، أعني الملائكة الذين يسودون على المؤمنين الذين كل واحدٍ منهم يتولى ملاك مستقيم حراسته، يدبر حياته لأجل خلاص نفسه وحراسة جسده.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

v   إن كان المسيح هو "الحياة"، فإبليس هو "موت"... ليس لأنه الموت في ذاته، وإنما يحل الموت بسببه...

بالنسبة لغير المؤمنين الموت هو الراعي، أما بالنسبة للمؤمنين فالحياة هي الراعي. فإن كان في الجحيم يوجد الغنم الذي راعيه الموت، ففي السماء يوجد الغنم الذي راعيه الحياة... إننا بالجسد نسير على الأرض وبالقلب نسكن في السماء. نسكن هناك إن كنا نرسل كل ما يمسنا إلى هناك...

سيظهر تعبنا في الغداة، وسيكون الثمر في الصباح، فالذين يتعبون الآن يملكون، وأما المتكبرون والمتشامخون هنا ينحدرون إلى أسفل. فإنه ماذا يقول بعد: "ويسود عليهم المستقيمون بالغداة".

القديس أغسطينوس

v   استعدوا وتهيأوا لملاقاة (ملاك الموت) الذي يُفنى شكلنا... إذ ينزعون جمال مجد طبيعتهم (الأشرار) وتتحلل أجسادهم في التراب.

طوبي للإنسان الذي يحتفي بالنجاة من هذا الهلاك بفرح[947]!

مار إسحق السرياني

4. نصيحة وتحذير:

يختم المرتل مزموره بالنصائح التالية:

1. إن كان الموت هو راعي الأشرار، والجحيم هو مسكنهم الأبدي، فإن الله هو راعي نفسي القادر وحده أن يخلصني من يدّ الجحيم، ولا يقدر الموت أن يأسرني [15].

2. لا تخف من أصحاب السلطة والغنى ولا تتملقهم، فإنهم يموتون ولا يأخذون معهم شيئًا [16]، فإنهم يلحقون بآبائهم الذين سبقوهم في نفس الاتجاه وقد فقدوا كل شيء. بمعنى أخر ينصحنا ألا ننشغل بالمنظورات والزمانيات ولا من نالوا الكثير منها:

"لا تخف إذا ما استغنى الإنسان،

وإذا كثر مجد بيته،

لأنه إذا مات لا يأخذها جميعًا.

ولا ينزل معه مجده إلى الجحيم" [16-17].

v   ألا تُريد أن تكون لك أعين إلا لترى الأمور الحاضرة؟ لقد وعد بالأمور المستقبلية، ذاك الذي قام، لكنه لم يَعِد بسلام هذا العالم ولا راحة هذه الحياة.

كل إنسان يطلب الراحة، إنما يطلب أمرًا صالحًا، لكنه لا يطلبها في موضعها اللائق. لا سلام في هذه الحياة، لكنه وعدنا أن ننال في السماء ما نطلبه على الأرض. وعدنا أن يعطينا في العالم القادم ما نطلبه في هذا العالم.

القديس أغسطينوس

v   مجد هذا العالم بلا قيمة وغير دائم، وإن بقى فإلى الموت وعندئذ ينتهي تمامًا. إذ قيل: "لا ينزل معه مجده". وبالنسبة لكثيرين لم يبق المجد حتى إلى نهاية الحياة. لكننا لا نفكر هكذا بالنسبة لذاك المجد، إذ يوم بلا نهاية. فإن الأمور الخاصة بالله دائمة وفوق كل تغيير وبلا نهاية. مجد هذه الحال ليس من الخارج بل من الداخل. أقصد أنه لا يقوم على كثرة الخدم والمركبات والثياب الفاخر. بعيدًا عن هذا كله الإنسان يلتحف بالمجد (الداخلي)؛ هنا بدون هذه الأمور يكون الإنسان عريانًا[948].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   ها أنت تراه (الغنى) حيًا، احسبه ميتًا.

أنت تلاحظ ما هو معه هنا، لاحظ ما يأخذه معه...

لديه مخزن من الذهب والفضة وممتلكات كثيرة وعبيد؛ إنه يموت وتبقى هذه الأمور لا يعرف لمن هذه. فإنه وإن كان يتركها لمن يريد هو، لكنه يحفظها ليس لمن يُريد. فإن كثيرين اقتنوا حتى ما لم يُترك لهم، وكثيرون فقدوا ما تُرك لهم.

القديس أغسطينوس

3. تطلب البركة لا حسب هواك بل حسب مشورة الرب، فكثيرون يظنون الحياة السعيدة المباركة هي في الولائم والملذات الزمنية.

"لأن نفسه تُبارك في حياته،

يعترف لك إذا ما أحسنت إليه" [18].

يضع الشرير بركته أو سعادته في الزمنيات، ويعترف لله بفضله إن أحسن إليه بها، أما إن دخل في ضيقة فسرعان ما يخطئ في حق الله. يقول القديس أغسطينوس: [إن مثل هذا يظن أنه يُحسن إلى نفسه حينما يأكل ويشرب ويلو ولا يدرك أنه يضر نفسه].

v   اعتاد أن يأكل الولائم الفاخرة بفمه الجسدي، والإثم بفم قلبه...

هل يؤكل الإثم؟...

لست أنا الذي أقول هذا، إسمع الكتاب المقدس: "كالخل للأسنان وكالدخان للعينين كذلك الإثم للذين يستعملونه" (أم 10: 26). فإن الذي يأكل الإثم، أي الذي يمارسه بإرادته، لا يستطيع أن يأكل البر. فإن البر هو خبز. من هو هذا الخبر. "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء" (يو 6: 51). إنه هو (المسيح) خبز القلب!

القديس أغسطينوس

4. يلزم ألا نتمثل بآبائنا في حبهم للعالم لئلا ننضم إليهم في مصيرهم الشرير.

"يدخل إلى جيل آبائه،

ولا يُعاين النور إلى الدهر" [19].

يعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله: [إنه يتمثل بآبائه... سيأتي الصباح ويظهر هابيل أين هو قايين أين يوجد. وهكذا كل الذين يسلكون وراء قايين وأيضًا الذين هم وراء هابيل، وذلك حتى نهاية العالم].

5. يختم المزمور بتأكيد حفظ الإنسان لكرامته بتمتعه بالطبيعة التي خُلق عليها على صورة الله ومثاله وعدم انحداره إلى المستوى الحيواني غير العاقل [20].

 


 

أنت غناي!

v   هب لي يارب أذنًا روحية تسمع صوتك،

فأدرك وصيتك،

وأتعرف على أعمال محبتك!

v   أقمني على صورتك وكرّمتني بالعقل الفهم.

لكنني في غباوتي تركت كل معرفة صادقة،

وأحنيت رأسي إلى التراب،

واشتهيت مجد العالم وغناه.

حلَّ بي الفقر الداخلي عوض الغنى،

ودخلت إلى غباوة الحيوانات عوض الفهم.

v   نزلتّ إليّ أيها الغني،

افتقرت لكي بفقرك تغنيني!

هب لي ذاتك،

فأقتنيك،

فإنك أنت هو غناي ومجدي!

<<

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

المزمور الخمسون

ذبيحة التسبيح

آساف:

أول مزمور لآساف؛ وآساف اسم عبري معناه "من يجمع"، وربما هو اختصار "يهوه ساف" أي "الرب جمع". كان رئيس فرقة الموسيقيين المقدسة في الخيمة حيث وضع فيها تابوت العهد. وقد عُين في وظيفة دائمة في ضرب الصنوج أثناء خدمة الهيكل (1 أي 16: 4-5، 7).

يُدعى بالمرائي كغيره من رؤساء المغنين (2 أي 29: 30)؛ عُهد إلى عشريته عزف الموسيقى في بيت الرب (1 أي 25: 1-9)، وكانوا يقفون على اليمين أثناء القيام بالخدمة (1 أي 6: 39). وقد رجع من السبي من عشيرته 128 من المغنين (عز 2: 41؛ نح 7: 44). وفي أيام زربابل أُقيم بنو آساف للتسبيح بالصنوج (عز 3: 10).

مزمور نبوي ليتروجي:

يرى البعض أنه ليس بالمزمور في معناه العادي، وإنما هو نبوة تعلن عن الدينونة العامة، وتكشف عن إدانة الله للرياء في العبادة حيث تمارس في شكليات بلا روح، وإدانة الحياة الشريرة. يرى البعض أن المزمور يُناسب عصر حزقيال حيث الإصلاح وإن كان البعض ينسبه إلى عصر يوشيا.

هو خطاب نبوي قُدم في الهيكل في مناسبة عيد كبير، يحذر من الاستخدام الخاطئ للطقس، خاصة تقديم الذبائح، كقناع يخفي وراءه العابدون شرورهم. ويلاحظ أن المزمور لم يدن طقس الذبائح في ذاته، وإنما إساءة استخدامه، كأن يظن الإنسان أن الله في حاجة إلى عبادته أو ذبائحه أو عطاياه[949].

واضح أن المزمور ينتسب إلى فترة ما قبل السبي حيث كانت أورشليم في جمالها الكامل البهي.

الإطار العام:

1. ثيؤفانيا (ظهور إلهي) ملوكية      [1-6].

2. إدانة الشكليين في العبادة           [7-15].

3. إدانة الأشرار المرائين             [16-20].

4. تحذير                             [21-23].

1. ثيؤفانيا ملوكية:

جاءت مقدمة المزمور تصف ظهور الله في الهيكل، أو على جبل صهيون، في نار وعاصف، ليجمع العالم كله أمام قضاء حكمه وكرسي دينونته. وإن كانت كل عيون الشر تتجه إليه فإن عيني الرب تتطلعان إلى شعبه لتقديسهم، كما تتطلع إلى القساة والمنافقين لعلهم يعرفون طريق الخلاص ويتمتعون بحياة التسبيح حتى لا يحل بهم القضاء الأبدي.

"إله الآلهة الرب تكلم،

ودعا الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربها.

من صهيون حسن بهاء جماله.

الله يأتي جهارًا.

وإلهنا لا يصمت.

النار قدامه تتقد،

وحوله عاصف جدًا" [1-3].

1. الله هو إله العالم كله، لكنه في حبه للإنسان ينسب نفسه إليه، حاسبًا الإنسان التقي المتمتع بالشركة معه إلهًا، لا من حيث جوهره، وإنما من حيث تمتعه بالتمثل به والرغبة في الاتحاد مع خالقه. لهذا يدعو الله نفسه: "إله الآلهة"، أي إله القديسين المحبوبين لديه جدًا والمتمتعين بالشركة معه.

v   من هم هؤلاء الآلهة؟ أو أين هم هؤلاء الذين إلههم هو الله الحقيقي!

يقول مزمور آخر: "قام الله في مجمع الآلهة، وفي الوسط يُدين الآلهة" (مز 82: 1)... لاحظ في نفس المزمور أولئك الذين يقول عنهم: "أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم، فأنتم مثل البشر تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 6-7). واضح إذن إنه يدعو البشر آلهة، إذ يتألهوا (يتقدسوا) بنعمته، ليس مولودين من جوهره... إن كنا قد صرنا أبناء الله، فإننا قد صرنا آلهة، هذا بعمل نعمة التبني وليست ولادة طبيعية.

القديس أغسطينوس

2. بينما ينسب الله نفسه إلى أحبائه الذين قبلوا عمل نعمته لتقديسهم إذ به يتكلم مع الأرض كلها، من مشارق الشمس إلى مغاربها، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الذي يدعو العالم كله إنما يدعو ما قد خلقه]. إنه يعتز بخليقته جدًا، ويكّرمها، مشتاقًا إلى خلاص الكل، ويطلبها للشهادة عن أعمال محبته الفائقة، خاصة مع أولاده. ولعل مشارق الشمس تشير إلى الصديقين الذين يشرق عليهم شمس البر، ومغاربها إلى الأشرار رافضي الرب.

3. إن كان الله يدعو المسكونة، سكان الأرض كلها، ليظهر معاملاته مع شعبه، فإنه يشرق على صهيون الجديدة، أي كنيسته، بكونها موضع اختياره، وقصره الملوكي المجيد: "من صهيون حسن بهاء جماله". جمالها إنما هو انعكاس "حسن بهاء جماله".

مادام المزمور يحذرنا من الانشغال بالشكليات في العبادة بلا روح أو تغطية سلوكنا الشرير بمظاهر خادعة، يؤكد لنا في مقدمة المزمور أن الله يطلب جمال كنيسته وصلاحها لا عن احتياج من جانبه وإنما كانعكاس لعمله الإلهي فيها. خلال العبادة بالروح والحق والسلوك المقدس يشرق عريس الكنيسة عليها، ويتجلى في داخلها فتستنير ببهائه، وتحمل جماله، وتتمتع بالطاعة لإرادته بفرح وسرور.

سرّ بهاء صهيون الجديدة هو عمل الروح القدس فيها، الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرها، ليُشكّلها ويجّملها فتصير على مثال عريسها، تحمل سماته. يقول القديس أغسطينوس: [في هذا الموضع (صهيون) كان التلاميذ الذين قبلوا الروح القدس المُرسل من السماء في يوم الخمسين بعد قيامته. عندئذ (ظهر) الإنجيل فالكرازة، وامتلأت الأرض بنعمة الإيمان].

4. الله في حبه يطيل أناته جدًا، لكنه حتمًا يأتي ليُدين ولا يصمت. كلما تأخر الله تكون العقوبة أشد متى حلت. لقد انتظر الله 120 عامًا على العالم القديم، وعندما حلَّ الطوفان واكتسح الكل؛ كان المنظر أكثر رعبًا مما يتخيله أحد[950].

"الله يأتي جهارًا،

وإلهنا لا يصمت" [3].

v   عندما جاء الرب كان مختفيًا، لأنه جاء لكي يتألم، ومع كونه قويًا في ذاته ظهر في الجسد ضعيفًا. كان يحتاج أن يظهر بطريقة لا يُدرك بها، فيُحتقرّ ويُقتل. كان ذلك اخفاءً لمجد اللاهوت في الجسد. "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8). هكذا سار مختفيًا بين اليهود، بين أعدائه، يصنع عجائب، ويحتمل شرورًا، حتى عُلّق على الخشبة. وإذ رآه اليهود معلقًا بالأكثر احتقروه وكانوا ينغصون رؤوسهم أمام الصليب، قائلين: "إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" (مت 27: 40). كان إله الآلهة مخفيًا، مقدمًا كلمات أكثر حنوًا مما تصدر عن جلاله...

كان مخفيًا عن الذين سار بينهم، وعن الذين صلبوه، وأيضًا عن الذين قام أمام أعينهم، وعنا نحن الذين نؤمن إنه يجلس في السموات، نحن الذين لم نره على الأرض ماشيًا...

كان إله الآلهة مخفيًا ولا يزال مخفيًا، فهل يبقى مخفيًا إلى الأبد؟ حتمًا لا، اسمع ماذا يُقال: "الله سيأتي جهارًا". ذاك الذي جاء مخفيًا سيأتي جهارًا. جاء مخفيًا لكي يُحِاكَم، وسيأتي جهارًا لكي يُدين. جاء مخفيًا لكي يقف أمام قاضٍ، وسيأتي جهارًا ليُدين حتى القضاة.

"الله يأتي جهارًا، وإلهنا لا يصمت"... أنه ليس صامتًا وصامتُ أيضًا؛ إنه لا يصمت من جهة التحذير، وصامت عن المعقبة؛ ليس صامتًا عن الوصية وهو صامت عن الدينونة...

إنه صامت عن الدينونة؛ إذ هو مخفي في السماء، يشفع فينا، إنه طويل الأناة بالنسبة للخطاة، لا ينتقم، لكنه ينتظر التوبة[951]!

القديس أغسطينوس

v   "سيأتي إلهنا ولا يصمت". حينما يأتي ليُدين الأحياء والأموات، ويعطي كل واحد حسب أعماله. حينما يوقظ البوق بصوته المرهوب أولئك الذين رقدوا عبر الأجيال؛ ويأتي الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة[952].

القديس باسيليوس الكبير

v   عندما يأتي جهارًا في مجيئه الثاني لا يصمت، لأنه إن كان قد التحف بالاتضاع في مجيئه الأول إلا أنه يأتي جهارًا في قوة[953].

الشهيد كبريانوس

v   حقًا يقول: الآن إني صامت لأني لا أزال أُرجيء العقاب، فهل حينما تفعلون هذه الأمور أسكت عنكم؟ إن كنت لم أصدر حكمًا فإني أؤجل تأديبي الصارم وأطيل أناتي لنفعكم. لقد انتظرت توبتكم زمانًا طويلاً؛ فهل عندما تفعلون هذه الأشياء أصمت عنكم؟ إنني أُرقب ذلك بمنتهى الدقة لتتوبوا ولا زلتم تحتقروني وترفضون الالتفات إلى الرسول: "من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب. واستعلان دينونة الله العادلة" (رو 2: 5)...

إنك تخدع نفسك حتى إن قدمت كل ما لديك وفقدت أموالك، دون الكفارة عن خطاياك. هل تظن إنني مثلك؟ سأوبخك؟... ماذا أفعل بك؟ إنك الآن لا ترى نفسه، فسأجعلك ترى نفسك. فإنك إن رأيتها واستأت منها تُسرّني! وطالما لا ترى نفسك فأنت راضٍ عليها، فتسيء إليّ وإلى نفسك...

إنك تغلق على ذاتك، فهذه هي رغبتك. إنك تقف خلف ظهرك فلا ترى نفسك؛ سأجعلك تراها بأن أضع أمام عينيك ما قد وضعته أنت خلف ظهرك، فترى بشاعتك، لا لكي تقّومها، بل لكي تحمر خجلاً إزاءها[954]!

الأب قيصريوس أسقف آرل

الله يصمت عن العقوبة هنا منتظرًا توبتنا، حتى متى جاء في اليوم الأخير نتمتع بجمالها الإلهي وشركة أمجاده، وإلا يصير اليوم مرعبًا. نرى قدامه النار تتقد التي تُمحّص حياتنا، فإن كنا ذهبًا وفضة نزداد بهاءً، وإن كنا عشبًا وقشًا نصير رمادًا. حوله عاصف شديد جدًا، يفصل الحنطة عن الزوان!

"النار قدامه تتقد،

وحوله عاصف جدًا" [3].

v   "النار قدامه تتقد"، أتخاف؟ لنتغير فلا نخاف. ليُخفَ التبن من النار، ولكن ماذا تفعل النار بالذهب؟... ستأتي عذوبة حضرته. إن كنت لا تتغير، لا تستيقظ ولا تتنهد، ولا تشتاق (إليه)، بل تحتضن خطاياك وملذات الجسد فإنك تجمع جُذامة (التبن المتبقي بعد الحصاد) لنفسك، النار قادمة!...

إن كنا نؤمن أن الدينونة قادمة يا إخوة، لنحيا حسنًا. الآن هو وقت للرحمة، وسيأتي وقت للحكم. سوف لا يقول أحد: "ردني إلى أيامي السابقة".

v   وحوله هذا العاصف الذي يصنع نوعًا من الفصل... بين الصالحين والأشرار... البعض يُدين مع الرب (مت 19: 28)، والآخرون يُدانون.

القديس أغسطينوس

يرى بعض الآباء مثل القديس أثناسيوس والعلامة أوريجانوس ويوسابيوس القيصري أن المرتل يتحدث هنا عن مجيء الله الكلمة متجسدًا، أي المجيء الأول، حيث يأتي جهارًا أي منظورًا خلال التجسد، وينطق بشفتيه بعدما تحدث قبلاً خلال الرموز والأنبياء، يبعث بروحه الناري على كنيسته لتقديسها حيث يتم العاصف الشديد كما حدث يوم الخمسين في عُليّة صهيون (أع 2: 2). بينما يرى آباء آخرون مثل القديسين ديديموس الضرير وأغسطينوس أنه يتحدث عن مجيئه الثاني للدينونة.

v   قوله "سيأتي جهارًا" يعني أنه يكون منظورًا وملموسًا بجسد بشري، "لا يصمت" لأنه قد قال وتكلم وأخبر عن مشيئة أبيه ولم يخفِ شيئًا مما أدى إلى خلاص الأمم.

أما النار المتقدة أمامه فهي حرارة الروح القدس التي قال من أجلها ربنا: قد أتيت لألقي نارًا. ولما كنا بادرين (مثلجين) من الخطايا جعلتنا هذه النار حارين بالروح القدس، كما ألهبت قلبيْ اللذين خاطبهما في الطريق إلى عمواس وقال: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق؟!" (لو 24: 32). وأيضًا النار التي تصاحب المعمودية إذ قيل إنه يعمد بالروح القدس ونار، لأنه يحرق ويُبدد دنس خطية المعمدين. وأيضًا من أجل هذه النار جاء في الأصحاح الثالث من نبوة ملاخي النبي: "لأنه مثل نار المُمحص ومثل أشنان القصَّار، فيجلس مُمحصًا ومُنقيًا للفضة (والذهب)" (ملا 3: 2). وقد قيل عن جماعة اليهود الذين لم يقبلوا المعمودية المقدسة: "قد غاب المنفاخ من النار، فنى الرصاص؛ باطلاً صاغ الصائغ" (إر 6: 29)...

يقول العلامة أوريجانوس: [إن النار والعاصف هما سلطان ربنا يسوع المسيح وقدرته. كأن النبي يقول: وإن كان قد جاء بجسد بشري لكن له القدرة والسلطان، بهما يُلهب ويضرب الذين لا يطيعونه].

وأما يوسابيوس فيقول: [إن العاصف هي الشدائد والضيقات التي تلحق بالمؤمنين].

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

يُقدم لنا الأب أنثيموس الرأيين بخصوص الظهور الألهي: ظهور للخلاص بالتجسد وظهوره الأخير للدينونة. الأول ليُقدم نار الروح الذي يلهب القلوب بالحب الإلهي، والثاني نار الدينونة والعدل الإلهي التي تفرز أولاد الله عن الأشرار.

خلال هذا الظهور الإلهي المهيب حيث تتقد النار قدامه وحوله عاصف جدًا، يدعو الديان السماء والأرض لتشهدا حكمه، حيث يفصل المؤمنين الحقيقين عن المرائين، والحنطة عن الزوان.

يوجه دعوة عامة إلى كل الخليقة السماوية والأرضية للشهادة، أما أتقياؤه الذين دخلوا في عهد معه خلال ذبيحة الصليب فيجمعهم ليكونوا معه يتمتعون بيمينه:

"يدعو السماء من فوق والأرض

إلى محاكمة شعبه.

اجمعوا إليه أبراره،

الواضعين عهده على الذبائح.

وتخبر السموات بعدله،

لأن الله هو الديان" [4-6].

سبق فدعى المسكونة من مشارق الشمس إلى مغاربها، وقد قلنا إنه يقصد الأبرار الذين أشرق عليهم شمس البر بنوره على قلوبهم، والأشرار الذين يغرب عنهم الإيمان بشمس البر؛ وربما يقصد بمشارق الشمس جماعة اليهود الذين عرفوا الله مبكرًا والمغارب الأمم الذين عرفوه في أواخر الدهر... هنا يدعو السماء أي الطغمات السمائية، والأرض أي البشر جميعًا، لكي يشهد الكل عدل الله في محاكمته لشعبه.

يطلب أن يُجمع أبراره الواضعون عهده على الذبائح، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [يأمر ربنا الملائكة والرجال الأفاضل أن يجمعوا له أبراره وقديسيه ليضعوا ويرتبوا عهدًا، ويقدموا قربان التسبحة، ويذبحوا ذبائح روحية يهواها[955]].

ويرى القديس أثناسيوس أن الأمر هنا صادر بخصوص الأبرار من اليهود قبل يوم الدينونة ليكفوا عن تقديم الذبائح الحيوانية ويبطلونها، ويستبدلونها بقرابين الفهم والعلم. وبمعنى آخر هي دعوة لقبولهم الإيمان بذبيحة السيد المسيح عوض إنكارهم الإيمان به.

ويرى يوسابيوس القيصري أن الرب يرسل ملائكته ليجمعوا الأبرار ويفرزوهم عن الأشرار ما جاء في الإنجيل المقدس عن يوم الدينونة.

ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الدعوة هنا موجهة إلى جميع اليهود الذين قطعوا عهد الله خلال الذبائح، وقد ظنوا أنهم أبرار لممارستهم العبادة في شكليات بلا روح، ولسلوكهم الشريرة.

جاء تعليق القديس أغسطينوس على العبارت السابقة [4-6] هكذا:

v   يدعو من فوق السماء، كل القديسين، هؤلاء الذين صاروا كاملين يحكمون، يجلسون معه ليدينوا أسباط إسرائيل الإثنى عشر (مت 19: 28)...

في البداية دعى الكل معًا عندما "تكلم إله الآله ودعا العالم من مشارق الشمس إلى مغاربها". لم يكن بعد قد حاكم. لقد أُرسل الخدام ليدعو إلى العرس، فجمعوا الصالحين والطالحين. ولكن عندما يأتي إله الآلهة جهارًا ولا يصمت فإنه يدعو السماء من فوق، لكي تُدين معه...

يجمعوا إليه أبراره. من هم أبراره إلا الذين يعيشون في الإيمان ويمارسون أعمال الرحمة. فإن هذه الأعمال هي أعمال البر...

حقًا السموات (الإنجيليون) تعلن عن برّ الله لنا. لقد سبق الإنجيليون فأخبرونا فسمعنا أن البعض سيكونون عن اليمين حيث يقول رب البيت: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا...".

بالحق الديان يحكم ولا يخلط، لأن الرب يعرف من هم له. فإنه وإن كانت الحنطة مختفية في التبن لكنها معروفة للمزارع. ليته لا يخف أحد حتى وإن كان حبة حنطة وسط التبن، فإن عينيْ المذرّى لا تُخدعان. لا تخشى العاصف الذي حوله من أن يخلطك مع التبن.

القديس أغسطينوس

2. إدانة الشكليين في العبادة:

يُستهل هذا القسم [7-25] بمقدمة فب الآية [7] يؤكد فيها المتكلم: "إني أنا هو الله إلهك"... فإن كان هو الله خالق الكل: السماء والأرض، لكنه مُنتسب إلى سامعيه بكونه إله شعبه المحبوب لديه؛ يجمع المؤمنين ليكشف لهم الفكر الروحي الحيّ للعبادة. فهو لا يطلب استصدار حكم، بل إلقاء ضوء على الحق، والكشف عن مفاهيم العبادة، والدخول بشعبه إلى حياة التوبة. ففي تقديم الذبائح يطلب ذبيحة القلب الكاملة، أي ذبيحة المحرقة الروحية، كما يطلب تهليل النفس بإلهها، أي ذبيحة الحمد والتسبيح. إنه لا يحتاج إلى طعام (ذبائح حيوانية) ليأكل بل إلى إقامة عهد مع شعبه.

"اسمع يا شعبي فأكلمك،

ويا إسرائيل فأشهد عليك.

إني أنا هو الله إلهك،

لست أوبخك على ذبائحك،

محرقاتك هي قدامي في كل حين" [7-8].

عجيب الله في معاملاته مع الإنسان، فإنه حتى حينما ينتقد أو يُعاتب أو يوبخ لا يستخدم كلمات جارحة بل في لطف يبدأ بكلمات رقيقة للغاية تجتذب النفس إليه لتتقبل كلماته. نُلاحظ هنا في توبيخه الآتي:

1. يدعوهم "شعبي"... وكأنهم يقول لهم أنتم لي، إن إنتقدتكم فليس للتشهير بكم ولا لمحاكمتكم، وإنما لتقديسكم... ما يمسكم يمسني: "أنا هو الله إلهك"! أنتم تنتسبون لي وأنا لكم، لذا فالأمر يحتاج إلى صراحة كاملة خلال دائرة الحب!

v   إنه يأتي ولا يصمت؛ أنظر كيف أنه حتى الآن، إن سمعت لا يصمت.

إسمع يا شعبي فأكلمك، فإنك إن لم تسمع لا أتكلم معك...

متى تسمع؟ عندما تكون شعبي!

"اسمع يا شعبي"، فإنك لا تسمع لي حين تكون شعبًا غريبًا (عني)!

القديس أغسطينوس

2. يبدأ حديثه لا بالعمل السلبي، أي بالكشف عن ضعفاتهم وأخطائهم ومفاهيمهم غير الصحيحة، وإنما بالعمل الإيجابي، وهو "الاستماع" أو "الطاعة"، فإن الاستماع أفضل من ذبائح الجهال. يطالب الله شعبه بالاستماع قبل أن يحدثهم عن اتجاهاتهم الخاطئة في العبادة والسلوك!

3. إذ ينتقدهم الله في عبادتهم وسلوكهم يقدم لهم ذاته هبة وعطية حتى لا يحسبوه رافضًا إياهم، فيقول: "أنا هو الله إلهك". وكما يقول القديس أغسطينوس: [انظروا الله نفسه يُعطي ذاته. أي غني أعظم منه؟ تطلبون عطايا، ها هو لكم واهب العطايا نفسه: "أنا هو الله إلهك"].

4. إن كانت الشريعة الإلهية قد ركزت على الحياة المقدسة في الرب، فإن الذبائح الحيوانية لم تكن إلا ظلاً لذبيحة حمل الله أو ذبيحة كلمة الله المتجسد، فإنه هو وحده القادر على المصالحة بين الآب والبشرية، وعلى تجديد طبيعتنا بروحه القدوس في استحقاقات دمه الثمين. الله ليس بمحتاج إلى ذبائح، وهو لا يجوع! لقد أخطأوا حين ظنوا أنهم يجلبون رضا الله وسروره بكثرة ذبائحهم كتغطية على شرورهم التي لا يودون التوبة عنها. فإن الله لن يُحاسبنا عن تقديم ذبائحنا وإنما عن تقديس حياتنا به وفيه.

"لست أوبخك على ذبائحك،

محرقاتك هي قدامي في كل حين" [7-8].

v   أي أنكم لو تهاونتم في تقديم الذبائح فلا أوبخكم، وإن لم تقدموا لي محرقات فكأنها هي تجاهي دائمًا، أن الله قد مدح هابيل وقبل تقدمته وترك قربان قايين. ليس هذا نظرًا إلى ما قدماه بل إلى ضميريهما ونيتهما. وهكذا تقدمة المسيحيين إن كانت بنيّة صالحة يقبلها. وهكذا يكون الأمر في سائر الفضائل إذا مارسها الإنسان بقلب مستقيم يقبلهما منه.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

إن كان الله لا يوبخ شعبه لعدم تقديم الذبائح الحيوانية لكنه يطلب المحرقات الروحية التي هي قدامه في كل حين، أي محرقة "بذل الذات"، حيث تُقدم على مذبح القلب الملتهب بنار الروح القدس بلا انقطاع.

v   يقول إن محرقات معينة يقبلها الله؛ ولكن، ما هي المحرقة holocaust؟ كلمة "Causis" تعني "يحترق"، "holon" تعني "بالكامل whole". فالمحرقة هي احتراق كامل بالنار. توجد نار معينة للحب الأكثر احتراقًا.

ليلتهب العقل بالحب، ولينتقل سريعًا إلى الأعضاء، فلا يسمح لها أن تخدم الطمع؛ فنتوهج بالكامل بنار الحب الإلهي التي تقدمنا محرقة لله. مثل هذه المحرقة "هي قدامه في كل حين".

القديس أغسطينوس

"لست أقبل من بيتك عجولاً،

ولا من قطعانك جداءً.

لأن لي هي كل وحوش البر.

البهائم التي في الجبال والبقر.

قد عرفت سائر طيور السماء،

وبهائم الحقل هي معي" [9-11].

v   لقد سبق فأخبر عن العهد الجديد، الذي فيه بطلت كل هذه الذبائح. فقد كانت تُنبئ عن ذبيحة معينة تُقدم، الدم الذي به نتطهر: "لست أقبل من بيتك عجولاً، ولا من قطعانك جداءً"...

القديس أغسطينوس

v   يظهر الطوباوي بولس أن خدمة الناموس (الذبائح حسب الشريعة) عاجزة عن التقديس[956].

القديس كيرلس الإسكنري

لم يطلب الله الذبائح الحيوانية إلا بكونها رمزًا لذبيحته الفريدة، التي قدمها الكلمة المتجسد. فالله ليس في عوز إلى ذبائح أو خدمات بشرية، إنما الإنسان في حاجة إلى مصالحته مع الله الذي لا يعوزه شيء، لأن كل الخليقة هي من صنع يديه وتخضع له، لكن الإنسان في حالة عوز واحتياج.

v   قول دود: "لست أقبل من بيتك عجولاً" هو نبوة تشير إلى إبطال الذبائح عندما يحل الوقت المعين...

كان العبرانيون يقدمون لله إما من الحيوانات بقرًا وتيوسًا وخرافًا وما يماثلها، وإما من الطيور حمامًا ويمامًا، وإما من الأثمار فريكًا وخمرًا وزيتًا. فيقول الرب إن الوحوش والبهائم والطيور وكل ما في جملة الأض والحق أنا صنعتها وأنا أُعطيها، وهي لي، أعني صنعتي وعطيتي.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

v   لم يأخذ منكم ذبائح ولا أمر بها أولاً أن تُقدم له عن احتياج وإنما من أجل خطاياكم... فبالحقيقية اعتبر الهيكل الذي في أورشليم بيته أو ساحته لا كمن هو محتاج إليه وإنما لكي تقدموا أنفسكم له، ولا تتعبدوا للأوثان. ولهذا يقول إشعياء: "أي بيتٍ تبنون لي، يقول الرب، السماء كرسيّ والأرض موطئ قدميَّ"[957].

القديس يوستين

v   إن لي ما تمتلكه وما لست تمتلكه. فإن كنت خادمي فكل ممتلكاتك هي لي...

قد عرفت سائر طيور السماء التي لا تقدر أنت أن تُعطيها...

"وجمال الحقل هو معي". أفضل ما في الحقل، كل ما هو وفير... هو معي... أنت محتاج إلى ما لديك، أما الله فليس محتاجًا إلى الحقل الذي معه. معه الحقل، ومعه جمال الأرض، ومعه جمال السماء، ومعه الطيور، لأنه هو موجود في كل مكان.

القديس أغسطينوس

لعل الله يود أن يوبخ الإنسان الذي يظن أنه يُقدم خدمة لله عندما يدخل بذبائح وتقدمات إلى هيكله المقدس، فإن الله ليس محتاجًا إلى شيء من كل الخليقة. يقول إن هذه الخليقة هي لي، لأني خالقها، وأنا أعرفها لأني عالم بكل شيء، وهي معي لأني حال في كل موضع. وكأنه يقول: إن كانت الحيوانات والطيور والمحاصيل الزراعية هي لله فبالأولى الإنسان على صورة الله ومثاله أن يكون له. الله لا يطلب ما بين يديْ الإنسان بل يطلب الإنسان نفسه. وإن كان الله عارف بهذه الخلائق فهو يعلم أعماق قلب الإنسان، يهتم حتى باحتياجاته الخليقة، وإن كان الله حاضرًا مع خليقته أينما وُجدت فهو يطلب أن يسكن في قلب محبوبه الإنسان ليهبه شركة الحياة معه!

بمعنى آخر الله لا يطلب ذبائح وتقدمات وهبات إنما يطلب الإنسان نفسه أن يُبادله الحب: يقدم نفسه مِلكًا لمن قدم ذاته له يمتلكه، ويقبل رعايته وعنايته ونعمته، ويدخل معه في شركة واتحاد! خلال هذا المفهوم يقدم الإنسان كيانه كله محرقة حب يشتمها رائحة رضا وسرور.

"إن جعت فلا أقول لك.

لأن لي المسكونة وكل ما فيها.

هل آكل لحم الثيران.

أو أشرب دم التيوس؟!" [12-13].

كان الله يُرسل نارًا لتلتهم الذبيحة علامة قبوله إياها، ورضاه على مقدمها. هذه النار النازلة من السماء كانت تُحسب أشبه بفم الله... إنه لا يأكل لحوم حيوانات أو يشرب دمها، إنما يعلن عن جوعه إلى قلب الإنسان: "يا ابني اعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي" (أم 23: 26).

لقد جاع كلمة الله المتجسد وعطش، وكما قال لتلاميذه: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم... طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو 4: 32، 34). طعامه أن يتمم مشيئة أبيه، ألا وهي خلاص بني البشر والدخول بهم إلى مجد ميراثه.

لقد افتقر وهو الغني لكي بفقره يغنينا؛ وجاع لكي يشبعنا، وعطش لكي يروينا بينابيع روحه القدوس.

v   من أجلنا رسم إله الآلهة أن يجوع؛ جاء ليجوع ويشبعنا!

جاء ليعطش ويروينا.

جاء لكي يكتسي بالقابل للموت لكي يكسونا بالخلود!

جاء فقيرًا ليغنينا! فإنه لم يفقد غناه باقتنائه فقرنا، إذ هو "المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3). "إن جعت فلا أقول لك، لأن لي المسكونة وكل ما فيها"  إذن لا تتعب لتجد ما تعطيني إياه، فإنني بدونك لي كل ما أريده.

القديس أغسطينوس

إذن ماذا يطلب الله منا؟

"اذبح لله ذبيحة التسبيح.

أوفِ العلّي نذورك،

وادعني في يوم شدتك،

فأنقذك وتمجدني" [14-15].

إن كان الله لا يُسر بالذبائح الحيوانية التي تقوم على عشور الإنسان أو الجماعة باحتياج الله إليها، إنما يقبلها كرمز لذبيحة الصليب التي تحقق المصالحة مع الله، والقادرة على تجديد الإنسان الداخلي، فما هي ذبيحة التسبيح التي يطلبها الله؟ وماذا يعني بايفاء النذور؟

قدم السيد المسيح حياته مبذولة لأجلنا، لكي يُصلح من طبيعتنا الفاسدة ويحوّله إلى طبيعة جديدة مقدسة في الرب، وبهذا نتحول من حالة الجحود إلى حالة شكر مع تسبيح لله وحمد، لهذا تُدعى ذبيحة الصليب "أفخارستيا" أي "الشكر".

إذ نتناول جسد الرب المبذول ودمه الكريم يليق بنا أن نعيش شاكرين ومسبحين له في كل ظروف حياتنا. بهذا نذبح للرب "ذبيحة تسبيح" ونوفي له نذورنا.

v   ما هي المحرقة الروحية؟ "ذبيحة التسبيح"!

أين نقدمها؟ في الروح القدس[958].

القديس باسيليوس الكبير

يرى القديس أغسطينوس أن ذبيحة التسبيح وإيفاء نذورها لا يتحقق بالكلمات وحدها بالممارسة العملية، فنُعَبَّر عن شكرنا لله وفرحنا به وتسبيحنا له بحبنا لاخوته الأصاغر الذين هم في احتياح مادي أو نفسي أو روحي، كما نقدمها بالقلب المستقيم في الرب.

v   كان لزكا ذبيحة التسبيح هذه في ميراثه،

وكان للأرملة في حقيبتها...

والبعض لهم هذه بالكامل في قلوبهم...

"اذبح لله ذبيحة التسبيح". يا لها من ذبيحة مجانية، توهب لنا بالنعمة! حقًا إنني لست أحضرها لكي أقدمها، بل أنت تهبني إياها، فإنه حتى هذه ليست من عندي!

هذا هو ذبح ذبيحة التسبيح، أن ترد الشكر لذالك الذي أعطاك الصالحات، وبرحمته غفر لك الشرور التي لك...

بهذه الرائحة الذكية يُسر الله!

القديس أغسطينوس

يرى بعض الآباء[959]. أن السيد المسيح هو ذبيحة التسبيح التي قدمها ممثلاً عن البشرية، فمن يقتني السيد في حياته، إنما يقتني حياة الشكر والتسبيح، مشتاقًا أن يموت كل النهار من أجل الله... بهذا يقدم ذبيحة التسبيح ويوفي نذوره.

إن كنا نقدم ذبيحة التسبيح ونوفي هذا النذر باتحادنا بالمسيح الذبيح، فإننا نطلب الله في وقت الضيق فينقذنا ويتمجد فينا.

كثيرون يتجاهلون "واو" العطف في كلمة "وأدعني"... فإن الوعد الإلهي بإنقاذنا يضع شرط التسبيح وإيفاء النذر الروحي عتذئذ ندعوه فيتمجد فينا! فإن الله يطلب القلب المتهلل به والمتكل عليه عندئذ يتحقق له كل طلباته ويسمع صلواته. بمعنى آخر الله يسمح لنا بالضيق لنتعلم أمرين: التسليم له بفرح والصراخ إليه... إنه يشتاق إلى راحتنا، ويود أن يهبنا أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب، لكنه يسمح بالضيق حت نتكئ عليه بفرح ويزداد التصاقنا به.

يرى البعض أن يوم الضيق هنا هو يوم الدينونة، فإنه ليس ما ينقذنا منه إلا التمتع بعربون الحياة السماوية هنا، أي حياة التسبيح، فنجد في يوم الرب يوم عُرس سماوي!

3. ادانة الأشرار المرائين:

 يكمل المرتل حديثه إلى المرائين الاسميين في إيمانهم، الذين يمارسون العبادة ويقدمون الذبائح لكنهم متمسكون بشرهم، لهذا يصرّ على فضح الخطية والاعتراف بها والهروب منها، قبل مجيء الرب ليُدين شعبه.

1. الالتزام بطاعة الوصية وليس مجرد النطق بها أو الكرازة بها:

"للخاطئ قال الله:

لماذا تحدث بعدلي؟

وتأخذ عهدي فيك؟" [16]".

v   ماذا أكون إذن وأنا لا أسمع ما يقوله (الله) فيّ بينما أُريد أن يسمع الآخرون ما ينطق به الله خلالي؟

لأسمع أولاً، وخاصة ما ينطق به الرب الإله فيّ، وعندئذ يتكلم بالسلام مع شعبه (خلالي).

لأسمع و"أقمع جسدي وأستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 26).

لماذا تحدث بعدلي؟... إنه ينصحه أن يسمع، لا أن يكرز بل أن يطيع!

القديس أغسطينوس

جاء في الترجمة السبعينية: "التسبيح غير لائق في فم الشرير".

v   "لا يليق التسبيح في فم الشرير، لأنه كيف يمكن لنا أن نسبح الله بفهم نجس؟!

إذ لا تقوم معًا الأشياء المتناقضة، فإنه أية خلطة للبر والاثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! (2 كو 6: 14). هكذا يعلن خادم الإنجيل[960].

القديس أثناسيوس الرسولي

يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن هذا القول ينطبق على الهراطقة الذين يستخدمون عبارات كتابية كمن يكرزون ويشهدون للحق ولكن بخبث وشر، لهذا عندما كان الشيطان يستخدم عبارات كتابية كان المخلص يبكمه[961]، إذ كان الرب يخشى لئلا تُلقي الشياطين بذار الشر مع الكلمات الإلهية فتُهلك سامعيها[962].

2. قبول تأديب الرب:

"وأنت قد أبغضت أدبي،

وألقيت كلامي إلى خلفك" [17].

لكي تكون عبادتنا وكرازتنا مقبولة يليق بنا أن نقبل أحكام الرب في حياتنا وتأديباته بفرح وسرور... فإن من يرفض التأديب يكون كمن وضع كلام الرب خلف ظهره، فكيف يجسر ويعبد الله أو يشهد له؟!

v   لقد أبغضت التأديب. عندما أصفح تُرتل وتُسبح، وعندما أؤدب تتذمر. عندما أعفو أكون إلهك، وعندما أؤدب لا أكون إلهك. "إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه" (رؤ 3: 19).

القديس أغسطينوس

3. عدم الشركة مع الأشرار:

 "إذا رأيت سارقًا سعيت معه،

ومع الفسقة جعلن نصيبك" [18].

هذه ثمرة عدم قبول تأديب الرب، أن تكون للإنسان شركة مع الأشرار في شرهم، أو على الأقل رضا بما يفعلونه وكما يقول القديس أغسطينوس: [إنك لا تفعل الشرور، فهل تمدح فاعلي الشر؟!].

v   أن تعلن برَّ الرب وعهده ولا تفعل ما يفعله الرب، ماذا عساه؟ إنه طَرْحُ لكلماته، واحتقار لتعاليم الرب، وارتكاب لسرقات وزنا روحي لا أرضي.

من يسرق الحق الإنجيلي وكلمات ربنا وأعماله ويختلسها، إنما يفسد الوصايا الإلهية ويدنسها، كما هو مكتوب في إرميا: "ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟... لذلك هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يسرقون كلمتي بعضهم مع بعض... الذين يضلون شعبي بأكاذيبهم واستخفافهم" (إر 23: 28-32)[963].

الشهيد كبريانوس

هكذا يحسب المرتل من يُعلّم بكلمة الرب ولا يتممها كمن يختلسها ويخونها، أو كمن يرتكب زنا روحي. هذا ما فعله بعض قادة اليهود في عصر السيد المسيح، إذ كانوا مؤتمنين على كلمة الله، يظهرون غيرة في تعليمهم للشريعة، وفي نفس الوقت رفضوا الرب، ودبروا قتله، بينما التصقوا بيهوذا السارق وبارباس الفاسق وجعلوا نصيبهم معهما.

يرى العلامة ترتليان[964] أنه يليق بنا لا أن نكف عن هذه الشرور (السرقة والزنا) فحسب وإنما أن نقطع علاقتنا بمن يرتكبونها، فننفصل عنهم فيما هم يسلكونه من الشر. إننا معهم في ذات العالم لأنه من خلقة الله الصالح، لكننا لسنا معهم في السلوك العالمي الشرير الذي وُضع تحت سلطان إبليس. بمعنى آخر، لنحيا معهم في العالم ولكن ليس بروح العالم الشرير!

4. انتزاع الخداع والمكر:

"فمك أكثر من الشر،

ولسانك ضفر غشًا.

إذا جلست تقع بأخيك

وعلى ابن أمك وضعت شكًا" [19-20].

 هنا يشير إلى اليهود رافضي الإيمان، إذ كانوا يخططون إبادة إخوتهم المسيحيين كما فعل شاول الطرسوسي الذي لم يكف عن استخدام كل وسيلة للتشكيك في الإيمان بالمسيح، ووضع معثرة لإخوته، حتى ظهر له الرب نفسه، قائلاً له: "صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 9: 5).

بالنسبة لنا يليق بنا ألا نكون نمامين، ولا نحكم على الآخرين، ولا نكون مخادعين.

ما هو الفارق بين "أخيك" و"ابن أمك"؟ ربما قصد بالأولى كل إنسان لأن البشر جميعًا إخوة، وبالثانية "الإنسان المسيحي" بكونه ابن الكنيسة أم المؤمنين. فمن أطلق للسانه العنان للخداع يعثر الكل: المؤمنين وغير المؤمنين!

v   احترزوا من أن يكون لكم لسان أو آذان مستحكّة؛ أي لا تشوّه سمعة الآخرين ولا تنصت لمن يقذفون الغير[965].

القديس جيروم

4. تحذير:

"هذه صنعتها وسكت،

فظننت إثمًا إني أكون مثلك.

أوبخك وأقيمها أمام وجهك.

افهموا هذه أيها الذين نسوا الله

لئلا يخطف ولا يكون منقذ" [21-22].

v   أعني أني قد أمهلت وأطلت أناتي منتظرًا توبتك ولم أعاقبك وقتئذ. وأما أنت فظننت أن إمهالي هو رضا مني على رذائلك. ولكنني أوبخك على قلة ندامتك، وفي يوم الدينونة أشهر بأعمالك أمام وجهك.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يُقدم لنا الأب قيصريوس أسقف آرل[966]. تفسيرًا مطولاً لهذه العبارات، جاء فيه:

1. الإنسان في شره ليس فقط يُسر بآثامه، وإنما يظن أن الله أيضًا مثله يُسر بهذه الأفعال، وهكذا يجعل من الله قاضيًا غير بار، يُشاركه مشاعره الخاطئة. هكذا يستغل الشرير طول أناة الله، حاسبًا ذلك رضا منه على أفعاله.

2. إن كان الله في طول أناته يسكت ولكنه في يوم الدينونة يوبخه، حيث يأتي بأفعاله الشريرة التي وضعها الشرير وراء ظهره، ويقيمها أمام وجهه في دينونة علنية عامة.

3. أساء الأشرار فهم طول أناة الله وصمته على شرورهم، فنسوا الله أو تجاهلوا وجوده أو لم يضعوا دينونته في حساباتهم... وبهذا نسوا حياتهم وأبديتهم.

4. يصير الله بالنسبة لهم كديان أشبه بأسد "يخطف ولا يكون منقذ"!

5. العلاج هو التسبيح لله بالقلب والعمل والشفتين كطريق للتمتع بالمخلص:

"ذبيحة التسبيح تمجدني،

وهناك الطريق

حيث أريه خلاص الله" [23].

يختم حديثه قائلاً:

[أنصحكم يا أحبائي بمعونة الله أن نُجاهد ما استطعنا.

لنسبح الله بحياة صالحة كما بالكلمات.

لأنه من الأفضل أن نصمت ونصنع الخير من أن نسبحه ونرتكب الإثم. فإن كان أحد يحمد الله بلسانه وبحياته في آن واحد، أي بالكلمات والأعمال الصالحة، يجلب عليه نعمة الله مضافعة. فإن كان عاجزًا عن تسبيحه بالكلمات، فليسبحه بالأعمل الصالحة والصلاة الدائمة والأفكار المقدسة. إن كنا نفعل هذا على الدوام يمكننا أن نحمد الله بضمير صالح في هذا العالم، ونبلغ إلى الفرح الأبدي في الحياة الآتية في سعادة].

 


 

العبادة بالروح والحق

v   بحبك اخترتنا شعبًا لك،

لا لتهبنا خيراتك فحسب،

وإنما تعطينا ذاتك واهب الخيرات!

أغنيتنا بك،

وأرويت أعماقنا بروحك القدوس!

v   ماذا أرد لك؟

أنت لست بمحتاج إلى شيء!

الخليقة كلها هي لك، أنت تعرفها، وهي معك!

أقدم لك قلبي لكي تعرفه متبررًا بدمك، ويكون معك!

v   لستَ محتاجًا إلى محرقات دموية!

إقبل نيران قلبي الملتهبة حبًا محرقة حب!

إقبل حياتي ذبيحة تسبيح!

v   علمني كيف أسبحك بفمي كما بفكري وقلبي وكل حياتي!

أحملك في داخلي، فتلهج كل حياتي بالتسبيح!

تعمل نعمتك فيّ، فتهبني شركة التسبيح مع ملائكتك.

v   قدسني فأسبحك،

فأنه لا يليق بفم الشرير أن يُسبحك!

لتكن أنت فرحي وتسبحتي!

<<

 


 

[1] J.H. Raven: Old Testament Introduction, 1910, p. 256.   

[2] Robert T. Boyd: Boyd’s Bible Handbook, 1983, 232.

[3] Cosmos and History: The Myth of the Eternal Return. N.Y., 1954, p. 104.

[4] B. W. Anderson: Understanding the Old Testament, 1986, p. 541.

[5] Ralph P. Martin: Worship in the Early Church, 1976, ch. 4.

[6] Ibid.

[7] Ep. 3 to Gregory.

[8] R. E.Prothero: The Psalms in Human Life, 1904, p. 1.

[9] St. Bisa (the disciple of St. She-noute): An Ascetic Treatise. (British Museum Or. 6007).

[10] R. E. Prothero, p. 14.

[11] Ibid, p. 14.

[12] Book of Perfection, 59; See St. Nilus, Ep. 1: 239 (PG 79: 169D); and E.Budge, The Wit and Wisdom of the Christian Fathers of Egypt, London 1934, p. 31 (nos. 106, 107).

[13] P. 545-546.

[14] Anderson, p. 546.

[15] Leopold Sabourin: The Psalms, their origin and meaning, 1969, v. 1, p. 18.

[16] B. Chids: Introduction to the Old Testament as Scripture, 1986, p. 508.

[17] P. 544, 543.

[18] Artur Weiser: The Psalms, 1962, p. 19.

[19] Book of Praises, p. 19.

[20] Book of Perfection, 79.

[21] Demonstration 4, On Prayer, 17. See The Syriac Fathers on Prayer and the Spiritual Life, Cistercian Publications Inc, Michigan, 1987, p. 22.

[22] On Prayer, chapter 14: 2.

[23] Old Testament Message: Psalms 1, Delaware 1985, P. 40-41.

[24] On Prayer 2: 5.

[25] St. Hipp.: On the Psalms.

[26] See The Collegeville Bible Commentary, Liturgical Press, 1989, p. 754.

[27] Edward p. Blair: The Illustrated Bible Handbook, 1975, p. 150.

[28] R. E. Prothero, p. 18.

[29] The Collegeville Bible Commentary, p. 755.

[30] See Anderson, p.

[31] Dial., 117 (cf. Apology 1: 13).

[32] W. S. Deal: Baker's Pictorial Introduction to the Bible, 1967, 147.

[33] Boyd's Bible Handbook, p. 230-231.

[34] Ibid 231.

[35] Enarrat. In Psalm 40.

[36] The Psalms, School of Spirituality, Challoner Publishing, London. 1962, p. 119.

[37] J. Mckenzie: Dictonary of the bible, p. 705; Collegeville Bible Commentary, p. 755.

[38] 1987, p. 48.

[39] Names of God, Moody Press, 1944, p. 9.

[40] Reader' Digest: Mysteries of the Bible, p. 20).

[41] William S. Plumer: psalms, A critical and Expositary Commentary with Doctrinal and PracticalRemarks, 1978, p. 7; L. Sabourin: The Psalms, v. 1, p. 2.

[42] The Fourth Gospel and Jewish Worship, Oxford, 1960, p. 6.

[43] Boyd's Bible Handbook, p. 231-232.

[44] The Jerome Biblical Commentary, 1970, p. 570.

[45] Sabourin, p. 11.

[46] L. Sabourin p. 12.

[47] William S. Plumer: Psalms, Pennsylvania, 1987, p. 5, 6.

[48] Ibid. 6.

[49] Ibid.

[50] The Jerome biblical comm.. p. 571.

[51] P. 50-51.

[52] Summerische und akkadische Hymnen und Gebete, Zurich, 1953, p. 56; Jerome Bin. Comm. P. 571-2.

* قام بترجمة المقدمة الأب الراهب برنابا.

[53] B. Anderson: Understanding the Old Testament, 1986, p. 545.

[54] Artur Weiser: The Psalms, 1962, p. 109.

[55] The Collegeville Bible Commentary, p. 756.

[56] Leopold Sabourin: The Psalms, their origin and meaning, 1969, Vol. 2, p. 258.

[57] C. Stuhlmueller, p. 61.

[58] On Ps. 2, p. 15.

[59] Concerning the Statues, 18: 10.

[60] Cassian, Conf. 11: 15.

[61] In Ps. Hom. 55.

[62] Childs: Introduction to the O. T. as Scriptures, p. 513.

[63] Comm.. on Songs 3: 5.

[64] In Ps. Hom. 1.

[65] In John hom. 18: 4.

[66] An Exod. Hom. 9: 4.

[67] Serm. 116: 2.

[68] Comm.. on Canticle, Serm. 3.

[69] On Lev., hom. 6: 1.

[70] Oration 27: 4 (PG 36: 16 B-C and 20 B).

[71] Book of Perfection, 60.

[72] Hom. 1.

[73] On Ps. 1: 18 (13).

[74] Serm. 112: 3.

[75] Letter to the Magnesians, 13.

[76] Scripture Union: The Psalms, p. 4.

[77] Weiser, p. 107.

[78] Comcerning the Statues, 8: 4.

[79] Nelson: A New Catholic Comm. On Holy scripture, p/ 443.

[80] Hom. 1.

[81] In Ioan. 49: 20.

[82] See Rabbi Avrohom Feuer tehillim, Psalms-A New Translation with a Commentary Anthologiaed from Talmud, Midrashic and Rabbinic Sources, (Brooklyn, N. Y.: Messorah Public. Ltd. 1985, p. 51).

قام بترجمة تفسير المزمور الأول المهندس أمجد نعمة الله نجيب.

[83] The Psalms, their origin and meaning. Vol. 2, p. 209-210.

[84]Ibid, p. 209.

[85] The NIV Study Bible, 1985, p. 787.

[86]Sabourin, Vol. 2, p. 213.

[87]Arno C. Gaebelein: The Book of Psa;ms, 1982, p. 21.

[88] Matthew Henery, Psalm II.

[89] In Cor. Hom. 39: 11.

[90] C. Stuhlmueller, p. 62.

[91] Nelson: A New Catholic Comm. On Holy Sripture, p. 444.

[92] Weiser, p. 112.

[93] Comm. On Luke, hom. 134.

[94] In Joan, hom, 53.

[95] Of the Christian Faith, 5: 10 (122).

[96] Ibid, 5: 1 (24).

[97] Four Discourese against the Arians, 2: 23.

[98] Weiser, p. 109.

[99] Comm.. On Luke hom 148.

[100] Paschal letters, 11: 5.

[101] Ibid, 11: 14.

[102] Sermon 107: 4.

[103] Nelson, p. 444.

[104] Paed. 1: 7.

[105] Treatise 2: 1.

[106] Disc. On Ps. 2.

[107] In Eph. Hom. 17.

[108] Letter 2: 19.

[109] Cassian, Conf. 11: 12.

[110] Book of Perfection, 2.

[111] Chapters on Prayer, 143.

[112] Sermon, 134: 3.

[113] Discourse 18: On the Tears of Prayer, 1.

[114] Stromata, 5: 13.

قام بترجمة هذا المزمور المهندس أمجد نعمة الله والدكتورة نورا العجمي.

[115] The Jerome Biblical Comm., p/ 576.

[116] See Weiser, p. 117.

[117] Against Praxeas, 11.

[118] Matthew Henry, Psalm III.

[119] Ep. 76: 5.

[120] NIV Study Bible, p. 788.

[121] Against Marcion 4: 13.

[122] Dialogue with Trypho, 97.

[123] Demonstration 8 of the Resurrection of the dead, 18. (See also the First Epistle of St. Clement "of Rome", 26).

[124] Apology 1: 38.

[125] Stromata 5: 14.

[126] City of God. 14: 24.

[127] In Joshua, hom, 15:1.

[128] Collegevill Bible Commen., p. 756.

[129] Kinder: The Psalms, p. 55.

[130] Ibid.

[131] Sermon 137: 1.

[132] William S. Plumer: Psalms, A Critical and Expository Commentary with Doctrinal and Practical Remarks, Pennsylvania, 1978, p. 62-63.

[133] On Prayer 30: 1.

[134] Fest. Letters 11: 1.

[135] Weiser, p. 120.

[136] NIV Study Bible, p. 789.

[137] Against Anger.

[138] In Matt. Hom. 16: 9.

[139] Duties of the Clergy, 1: 3 (13).

[140] Against Marcion 2: 19.

[141] The Institutes, 8: 9.

[142] Sabourin, Vol. 2, p. 93.

[143] In Hebr. 14: 9.

[144] In Matt. Hom 42: 2.

[145] In Non ag grat. Vonc. PG. 50: 660 D.

[146] Sermon 58: 3.

[147] In Hebr. 11: 6.

[148] Fest. Letters 19: 4.

[149] 1: 12: 7.

[150] NIV Study Bib;e, p. 790

[151] Collegeville Bible Comm., p. 756.

* قام بترجمة هذا المزمور الدكتور يوسف عزيز نخلة.

[152] Kidner, p. 57.

[153] Weiser, p. 123; Sabourin, vol. 2, p. 6.

[154] William S. Plumer: Psal,s, p. 77.

[155] Ibid.

[156] Expos. In Ps. 5. PG. 55: 63 B-C.

[157] Expos. In Ps. 5. PG. 55: 63 D.

[158] Hom. 2.

[159] Plumer, p. 77.

[160] Hom. 2.

[161] See Saburin, vol. 2, p. 7.

[162] The Long Rules, Q. 37.

[163] Hom. 2.

[164] On Divine providence, Disc. 10: 17.

[165] Dorotheos of Gaza: On Falsehood.

[166] Hom. 2.

[167] Against the Palagians, 3: 8.

[168] Ibid 3: 1.

[169] Hom. 2.

[170] Paed. 1: 5.

[171] Hom. 2.

[172] Concerning the Statues, 4: 10.

[173] Hom. On St. John 66: 3.

[174] Hom. 2.

[175] In Matt. Hom. 73.

[176] Comm.. on Songs 3: 5.

* اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف والمهنسة حنان سمير.

[177] Youssef Mankarius & Habib Girgis: El-Roud El-Nadier Fi Tafseer El-Maxzamir, p. 98, 99 (in Arabic).

[178]  Plumer, p. 93.

[179] Feuer, Tehillim, p. 100.

[180] Ep. Ti the Magnesians, 9.

[181] Matthew Henry Comm. In one volume, p. 583.

[182] Plumer, 97.

[183] Cassian: Conf. 1: 14.

[184] In Matt. Hom. 36.

[185] In Eph. Hom. 24.

[186] Hom. On St. John 34: 3.

[187] The New American Bible, p. 546.

[188] In Hebr. Hom. 31.

[189] In Hebr. Hom 9: 9.

[190] On Lazarus and the rich man, serm. 1.

[191] In I Tim. Hom 14.

[192] Cassian: Conf. 20: 8.

[193] Cassian: Conf. 9: 29.

[194] On Vigils.

[195] Six Treatises on the Behavior of Excellence, 4.

[196] A Treatise in Questions and Answer.

[197] A Treatise in Questions and Answer.

[198] Sermon 149: 2.

[199] In Hebr. Hom. 17: 9.

* يوسف منقريوس وحبيب جرس: الروض النضير في تفسير المزامير، الجزء الأول، ص 98، 99.

[200] Gaebelein: Psalms, p. 40.

[201] W. Plumer: Psalms, p. 106.

[202] Ibid.

[203] Weiser, p. 136.

[204] Onsemius of Jerusalem, Psalm 7.

[205] W. Plumer: Psalms, p. 108.

[206] Duties of the Clergy, 3: 9: 59.

[207] Ep. To the Ephesians, 10.

[208] On Rancor or Animosity.

[209] Sermon 36: 3; 75: 3.

[210] The NIV Study Bible, p. 792.

[211] Erling C. Olsen: Meditation in the Book of Psalms, N.J., 1985, p. 41.

[212] Hom. 3.

[213] Ibid.

[214] Against Marcion 5: 7.

[215] In Cor., Hom. 9: 4.

[216] In 2 Tim., Hom. 3.

[217] Sermon 154: 3.

[218] Of the Holy Spirit, 2: 183.

[219] Cassian: Conf. 7: 21.

[220] Plumer, p. 115-116.

* اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف وميرفت يوحنا بطرس

[221] Plumer: Psalms, p. 121; Weiser, p. 141.

[222]  Exhort. To the Heathen, 4.

[223]  Comm.. on Luke, hom. 96.

[224]  Comm.. on Canticle, sermon 12.

[225]  Exposition of the Orthodox Faith, 7.

[226]  Adv. Haer. 4: 11: 3.

[227]  Paed. 1:5.

[228]  A Treatise on the Soul, 19.

[229]  Stuhmueller, p. 90.

[230]  Weiser, p. 142-3.

[231]  Collegeville Bible Comm., p. 757.

[232]  The Lord's Prayer, serm. 5.

[233]  Weiser, p. 144.

[234]  Of Patience, 5.

[235]  Duties of the Clergy, 1: 28: 139.

[236]  On the Flesh of Christ, 14.

[237]  Against Marcion 3. 7; 2: 27; 4: 21.

[238]  Comm.. on luke, hom. 99.

اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف.

[239]  Onsemius of Jerusalm, Ps. 9.

[240]  Plumer: Psalms, p. 132.

[241]  Fr. T. Malaty: Isaiah, 1990, p. 155-156 (in Arabic).

[242]  Comm.. on Eccles., sermon 7: 44.

[243]  Plumer, p. 133.

[244]  M. Henry Comm. In one volume, p. 586.

[245]  In John, hom. 65: 1.

[246] Comm.. on Luke, hom. 12.

[247] Plumer, p. 138.

[248] Adv. Haer. 3: 18: 5.

[249]Plumer, psalm 9.

[250] Comm.. on Luke, hom. 152

[251] In Acts, hom. 12.

[252] Demonstration 2 on Deathe and the Latter Times, 17.

[253] Plumer, p. 150.

[254] Ibid, 151.

[255] Sermon 59:7.

[256] Plumer, p. 154.

[257] In Acts hom. 39.

[258] In Acts hom. 7.

[259] Comm.. on the Canticle serm.

[260] Plumer, p. 155.

[261] In John hom 39: 1.

[262] In John hom 45: 3.

[263] Comm.. on Canticle, serm.

[264] In Epn. Hom. 24.

[265] Plumer: The Psalms, p. 173.

[266] Ibid, 165.

[267] In Matt. hom. 18:2.

[268] Ep. 145.

[269] In Luc. 12.

[270] Plumer, p. 171.

[271] Ibid, 167.

[272] Comm. on Songs 3:8.

[273] Plumer, p. 167.

[274] Hom. on St. John 49:3.

[275] Sermon 145: 1; 173:2; 173:5.

[276] Comm. on Luke, Hom. 95.

* قام بترجمة النص الدكتور جرجس كامل يوسف

[277] Interpreter's Cocise Commentary, Psalms, p. 80.

[278] Hom. on Eph. 14.

[279] Ibid.

[280] Stromata 6:7.

قام بترجمة التفسير الدكتور جرجس كامل يوسف

[281] Plumer, p. 183.

[282] Ibid 187.

[283] Comm. on Luke, hom. 92.

[284] Sermon 137:3.

[285] Plumer, p. 188.

اشترك في ترجمة التفسير الدكتور جرجس كامل يوسف والدكتورة نورا العجمي

 

[286] A new Catholic Comm., Nelson, 1969, p. 447.

[287] The Collegeville Bible Comm., 758.

[288] Stuhlmueller, p. 109.

[289] Ibid.

[290] Plumer, p. 192.

[291] Paschal letters, 19:6.

[292] Duties of the Clergy 1:24: 117.

[293] In 2 Cor. Hom. 3:6.

[294] Plumer, p. 192, 193.

اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف والدكتورة نورا العجمي

[295] A New Catholic Comm. 447.

[296] Plummer, p. 199.

[297] Hom. 5.

[298] Hom. 5.

[299] Stuhlmueller, p. 113.

[300] Plumer, p. 200.

[301] Hom. 5.

[302] Hom. 5.

[303] Plumer, p. 205.

[304] In 1 Cor. Hom. 29:5.

[305] Hom. 5.

[306] Cassion: Conf. 14:17.

[307] Ep. 19 to vigilius,.

شترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسفوالدكتورة نورا العجمي

[308] Plumer, p. 209.

[309] Gaebelein: Psalms, p. 72.

[310] St. Hippolytus of Rome: Expository Treatise against the Jews,3.

[311] The istitutes, 3:3.

[312] Select Demonstration, 21:19.

[313] Four Discourses against the Arians, 3:57.

[314] Adv. Haer. 3:12:2.

[315] Weiser, p. 173.

[316] Comm. on Canticle, serm. 4.

[317] In 1 Tim. hom., 16

[318] In 2 Tim. hom., 3.

[319] See Weiser, p. 174

[320] Against the Pelagians, 3:2.

[321] Comm. on Luke, hom. 36.

[322] Plumer, p. 212.

[323] Weiser, p. 175.

[324] Ep. 118:4.

[325] Ep. 52:5.

[326] Hymns on the Nativity, 3.

[327] Duties of the Clergy 1:50: 255.

[328] للملف: آباء مدرسة إسكندرية الأولون، 1980، ص 77.

[329] Stromata 6:7.

[330] Ibid.

[331] Ibid. 4:21

[332] Ep. 133:3.

[333] Stromata 7:9.

[334] Ibid 7:11.

[335] The Long Rules Q. 5.

[336] Cf. August. de Fid. et Symb. 14. does this passage of Athan.'s show that that the Anthropomorphites werestirring in Egypt already?

[337] Four Discourses against the Arians, 1:61.

[338] Plumer, p. 214.

[339] Weiser, p. 178.

إشترك في الترجمة الدكتور جورج كامل يوسف والدكتورة نورا العجمي

[340] The Collegville Bible Comm., p. 58.

[341] C. Stuhlmeueller: The Psalms, p. 123.

[342] Gaeblein: Psalms, p. 220.

[343] W. Plumer, p. 220.

[344] Weiser, p. 180.

[345] Epistle 41:2.

[346] Epistle 244:7.

[347] From the six century: Letter to Cyriacus, 55.

[348] In acts, hom 3.

[349] Comm. On Canticle, 15.

[350] Pascal Letters  7:6.

اشترك في الترجمة الدكتور جورج كامل يوسف والدكتورا نورا العجمي

[351] Plumer: Psalms; p. 247.

[352] C. Stuhlmeueller, p. 127.

[353] Weiser, p. 186-187.

[354] Plumer, p. 235.

[355] Four Discourses against the Arians, 3:13.

[356] Weiser, p. 188.

[357] Scripture Union: Bibls Study Books, The Psalms, p. 18.

[358] On the Acts, hom 2.

[359] Life of Moses, 163, 164.

[360] Plumer, p. 239.

[361] Ibid, 249.

[362] Ibid, 241.

[363] Hom. On Eph. Hom. 1.

[364] Stromata, 5:8.

[365] Weiser, p. 194.

[366] Weiser, p. 194.

[367] Paschal Letters, 19:7.

[368] Pascal Letters 3:5.

[369] On Consultation

[370] Plumer, p. 243.

[371] The Institutes, 12:17.

[372] The Beatitudes, serm. 2.

[373] Ep. 122:1.

[374] Praktikos, 73.

[375] Chapters on Prayer, 135.

[376] Hom. on John 9:1.

[377] An Answer to the Jews, 3.

[378] Adv. Haer. 4:41:2.

اشترك في الترجمة تاسوني بوتامينا والدكتورا نورا العجمي.

[379] Sabourin: The Psalms, Vol. 1, p. 185.

[380] C. Stuhlmeuller: Psalms, p. 137.

[381] Plumer, p. 254.

[382] Matthew, Henry, Ps. 19.

[383] Scripture Union: Bible Study Books, The Psalms, p. 18-19.

[384] Weiser, p. 197-198.

[385] Contra Gentes.

[386] Concerning the Statues, 9:4.

[387] C. Stuhlmueller, p. 89.

[388] In. Rom. hom. 3.

[389] Life of Moses, 168.

[390] On Divine Providence, disc. 4:3.

[391]  العناية الإلهية للقديس يوحنا الذهبي الفم، ترجمة مدام عايدة حنا بسطا، ص 19.

[392] Concerning the Statues, 9:5.

[393] On Divinr Providence, disc. 4:4.

[394] De Sententia Dionysii, 11.

[395] Ep. 125: 11; 58:3.

[396] In 1 Tim. hom., 9.

[397] Ibid 5.

[398] Against Marcion, 22.

[399] In Eph., hom 8.

[400] Comm. on Canticle, ser. 11.

[401] Hom. on St. John. 26:1.

[402] Adv. Haer. 4:33:13.

[403] Sermon 101:3.

[404] On Renouncation.

[405] Stromata 7:12.

[406] Sermon 102:3, 6.

[407] Paed. 1:6.

[408] Exhortation to the heathen, 11.

[409] Sermon 75.2.

[410] Stromata: 5:12.

[411] De Principiis, pref. 1.

[412] Ibid, 1:2:6.

[413] Ep. 8:8.

[414] On Ascetical Discipline.

[415] Casssian: Conf. 23:17.

[416] Comm. On Luke, Hom. 76

اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف والدكتورة نورا العجمي.

[417] Plumer, p. 267.

[418] Leopold Sabourin: The Psalms, vol. 2, p. 226.

[419] Leopold Sabourin, p. 226.

[420] Boyd's Bible Handbook, p. 234-235.

[421] Fr. Lazarius: The Psalter, p.20.

[422] Vita S. Antoni, 39.

[423] De Corona, 8.

اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف والكتورة نورا العجمي.

[424] W. Plumer: The Psalms, p. 275.

[425] L. Sabourin: The Psalms, vol. 2, p. 228.

[426] The Collegeville Bible Comm., p. 759.

[427] Scripture Union: Bible Study Books, The Psalms, p. 20.

[428] Nelson: A New Comm. In the Holy Scripture, 1969, p. 449.

[429] المؤلف: الحب الإلهي، ص 468. (دير السريان العامر: الآباء الحاذقون في العبادة، ج 1).

[430] Paschal Ep. 4.

[431] المؤلف: آباء مدرسة الإسكندرية الأولون، 1980، ص 194.

[432] Plumer, p. 281.

[433] In Ascensione PG 50.

[434] PG 73: 885 A

[435] PG 75: 1088.

[436] PG 70: 936-937.

[437] L. Sabourin, vol. 2, p. 228.

[438] Plumer, p. 279.

[439] L. Sabourin, vol. 2, p. 228.

[440] Sermon 142: 7.

[441] Plumer, p. 281.

[442] Collegeville Bible Commentary, p. 759.

[443] A New Catholic Commentary, 1969, p. 449.

[444] Weiser: The Psalms. 1962, p. 219.

[445] Leopold Sabourin: The Psalms, 1971, v. 2, p. 19.

[446] Stuhlmueller, p. 146.

[447] Gaebelein, p. 103.

[448] The Fourth Theological Oration, 5.

[449] Of the Christian Faith, 2: 7: 56.

[450] In Matt. Hom. 88.

[451] On the Flesh of Christ. 15.

[452] Against Anger.

[453] Catech, Lect. 12: 25.

[454] Comm.. on John, book 10: 20.

[455] De Incarnatione Verbi Dei, 35.

[456] Comm.. on Ysa., hom. 14: 53: 5.

[457] See our book "Christ in the Eucharist", Alex., 1986, p. 8-14.

[458] De Sententia Dionysii, 10.

[459] A New Catholic Comm. P. 450.

[460] Stromata 5:1.

[461] See: Sabourin, The Psalms, Vol. 2, p. 99-100: Thecollegeville  Bible Comm., p. 759.

[462] R.E. Prothero:The Psalms in Human Life, 1904, p. 12.

[463] Plumer, p. 308.

[464] Prothero, p. 12.

[465] De Myst. 5: 13.

[466] Comm. on Canticle, Serm. 2.

[467] Sel Ps. 144: 1.

[468] In Gen. Hom 3: 2.

[469] Contra Celsus 4: 74.

[470] Pinc. 2: 11: 5.

[471] Contra Celsus 8: 70.

[472] PG 96: 692 B.

[473] Of the Holy Spirit, 1: 16.

[474] Anti-Nicene Frs., Vol. 9, p. 360.

[475] Ibid.

[476] Cf. Plumer, p. 318.

[477] Adv. Haer. 5: 31: 2.

[478] Anti-Nicene Frs., Vol. 9, p. 312.

[479] Paed. 1: 7.

[480] De Myst. 5: 3.

[481] De Myst. 4: 7.

[482] Boyld's Bible Handbook, p. 237.

[483] Ep. 113: 11.

اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف والدكتورة نورا كامل العجمي.

[484] Plumer, p. 320-1.

[485] Ibid., 321.

[486] Ibid.

[487] Sabourin, Vol. 2, p. 328.

[488] Stromata, 6: 17.

[489] Adv. Haer. 4: 36-6.

[490] Ep. 82-10.

[491] Ep. 85-10.

[492] Plumer, p. 328.

[493] Stromata, 7-10.

[494] Plumer, p. 324.

[495] Four Discources against the Arians, 1: 41.

[496] On Luke 10: 22.

[497] De Incarnatione Verbi Dei, 25.

[498] Adv, Haer. 4: 33: 13.

[499] راجع: مقدمة سفر المزامير، ص   .

[500] Plumer, p. 329.

[501] Matthew Henry, Ps. 25.

[502] The Jerome Biblica; Comm., p. 580.

[503]Sermon 227 (Frs. Of the Churcg, vol. 38, p. 195).

[504] Cassian: Cobf. 3: 13.

[505] Stromata 6: 8.

[506] Ibid.

[507]Didache: The Prayer of the "Sanctification of the Bread".

[508] Prayer of Breakking the Bread.

[509] Comm.. on Luke Hom. 77.

[510] Ibid., Hom. 119.

[511] How Much Honor Humility Possesses…

[512] On Humility.

[513] S. Mowinckel: Psalmenstudien, Oslo 1921, vol. 1, p. 207.

[514] L. Sabourin: The Psalms, v. 2, p. 26

[515] The Collegeville Bible Comm., p. 760.

[516] Collegeville Bible Comm., p. 760.

[517] Scripture Union: Bible Study Books, Psalms, p. 24.

[518] Weiser, p. 243.

[519] Plumer, p. 343.

[520] Weser, p. 243.

[521] Plumer, p. 343.

[522] Cassian: Conf. 6: 11.

[523] Plumer, p. 343.

[524] M. Henry's Comm. In one volume, p. 603.

[525] Plumer, p. 344-5.

[526] Mystagogic 5: 2.

[527] Lazarius: Thr Holy Psalter, p. 27.

[528] Fr. Lazarius, p. 27.

[529] Cassian: Conf. 24: 6.

[530] In Exod. Hom. 9.

[531] Weiser, p. 244.

[532] Plumer, p. 346.

[533] Concerning the Statues, 4: 11.

[534] Plumer, p. 352.

[535] Weiser, p. 247.

[536] Comm.. on Luke, Hom. 105.

[537] Sermon 105: 6.

[538] In 2 Cor. Hom. 1.

[539] Plumer, p. 353.

[540] Plumer, p. 354.

[541] Weiser, p. 248.

[542]Ep. 130: 19.

[543] On Ps 52 (51)=16.

[544] Weiser, p. 251.

[545] Plumer, p. 357.

[546] The Beatitudes, serm. 2.

[547] Sermon 81: 1.

[548] Sermon 216: 5.

[549] Death as a Good, 12; 55.

اشترك في لترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف والدكتورة نورا العجمي.

[550] Nelson: A New Catholic Commentary on Holy Scripture, 1969, p. 451.

[551] Leon Sabourin, vol. 2, p. 28.

[552] Plumer, p. 364.

[553] In John Hom. 57: 3.

[554] يوحنا السُلمي: السلم إلى الله – تعريب رهبنة دير مارجرجس الحرف، مقال 24: 15، 16، 19، 27.

[555] The Ascetic Homilies, 3.

[556] Scripture Union: Bible Study Books, The Psalms, p. 26.

[557] The ascetical Homilies, 8.

[558] Jerome Biblical Commentary, p. 580.

[559] Tract "Sopherim".

[560] القمص بيشوى كامل: تأملات في المزامير لآباء الكنيسة القديسين، مز 29.

[561] تفسير المزامير لأنثيموس أسقف أورشليم، مز 28.

[562] المرجع السابق.

[563] Hom. 89 for Epiphany.

[564] تفسير المزامير لأنثيموس أسقف أورشليم، مز 28

[565] Discourse on the Holy Theophany, 7.

[566] Hom. 89 for Epiphany.

[567] Ad. Eunom. 5.

[568] In Lucam 22:8.

[569] Hom. 89 for Epiphany.

[570] الدرر الثمين في ايضاح الدين، 1952، ص 121.

[571] المؤلف: اللّه مقدسي، ص 52.

[572] The patriarchs, 11:56.

[573] On Ps. 28, no. 6.

[574] Hom. 89 for Epiphany.

[575] Stuhlmueller, p. 175.  

[576] Ibid.

[577] Onesimus of Jerusalem: Commentary on Psalms.

[578] W. S. Plumer: psalms, p. 376.

[579] Ibid.

[580] On Prayer, 24: 5.

[581] Weiser, p. 269-270.

[582] Plumer. P. 379.

[583] Erling C. Olsen: Meditation in the Book of Psalms,. N. J., 1967, p. 218.

[584] In Acts hom. 16.

[585] Fr. Lazarus: The Holy Psalter, 1966, p. 31.

[586] Comm. On an Easter Hymn.

[587] Paschal letters, 6: 4.

[588] Pfeiffer and Harrison: The Wycliffe Bible Commentary, 1966, ps. 30.

[589] Weiser, p. 272.

[590] In Rom. Hom. 19.

[591] Concerning Repentance, 1: 5 (22).

[592] Letter 20: 21.

[593] Claude Peifer: The Bible Today, April 1974.

[594] Weiser: The Psalms, p. 275.

[595] Plumer: The Psalms, p. 385.

[596] Wycliffe Bible Commentary, Ps. 31.

[597] Plumer, p. 385.

[598] The Ascetic Homilies, 5.

[599] Two centuries on Spiritual Law, 2.

[600] Weiser, p. 276.

[601] The Ascetic Homilies, 5.

[602] Two centuries on Spiritual Law, 4.

[603] Weiser, p. 276.

[604] The Ascetic Homilies, 62.

[605] The Ascetic Homilies, 57.

[606] The Ascetic Homilies, 15.

[607] Institutes, 8: 1.

[608] St. John Chrysostom: Acts of the Apostles, hom 50.

[609] Ibid, 15.

[610] Of the Christian Faith, 5: 108, 109.

[611] The Ascetic Homilies, 5.

[612] 153- texts on Prayer (attributed to St. Nilus of Sinai), 113.

[613] The ascetic Homilies, 48.

[614] The Ascetic Homilies, 51.

[615] The Ascetic Homilies, 1:1, 10.

[616] Plumer, p. 398.

[617] Baptismal Instructions, 1: 25; 2: 26 (ACW).

[618] See Ancient Christian Writers, No. 31. p. 228.

[619] Sermon 38: 1.

[620] Dial. With Trypho, 141.

[621] First Epistle, 50.

[622] Scorpiace, 6.

[623] Adv. Haer. 5: 17: 2.

[624] Comm.. on Luke, Hom. 120.

[625] Hom. On St. John 7: 1.

[626] Cassian: Conf. 2: 10.

[627] In Hebr. Hom. 10: 3.

[628] The auther: The Pastoral Love (in Arabic), p. 270-1.

[629] Comm.. on John, hom 17.

[630] That demons do not govern the world, 2: 5.

[631] Jacob and the Happy Life, 1: 6: 21.

[632] Comm.. on Luke, Hom. 45.

[633] Sermon 120: 3.

[634] Cf. Sthlumeller: The Psalms, p. 187.

[635] Plumer, p. 407.

[636] Plumer, p. 412.

[637] Paed. 2:2.

[638] On Ps. 32. no. 3.

[639] The Long Rules.

[640] On the Spirit, 16.

[641] Four Discourses against the Arians, 2. 31.

[642] Contra Gentes, 46.

[643] Of the Holy Spirit, 3:83.

[644] Of the Holy Spirit, 1:52.

[645] Adv. Haer. 1:22: 1.

[646] Adv. Haer. 3: 8: 3.

[647] Ep. 8:11.

[648] Fr. Lazarus, p. 36.

Fr. Malaty: God, My Sanctifier, p. 48 (in Arabic).

[649] Against Heresies, 2: 2: 5.

[650] Weiser, p. 292.

[651] Fr. Malaty: 1 Sameul, 1988, p.150 (in Arabic).

[652] Ibid, p. 188.

[653] Stuhlmeuller, p. 193.

[654] Paschal Letters, 5: 3.

[655] Sermon 80: 3.

[656] Ibid 166: 4.

[657] Theological Oration 27: 32: 8

[658] Sermon 137: 2.

[659] Ep. 22: 25.

[660] Plumer, p. 425.

[661] Haexaemeron 5: 6.

[662] Comm. in Cant. 1.

[663] Ibid 2.

[664] In Ez., hom. 1: 7.

[665] Fr. Malaty: Church, House of God, p. 332.

[666] Comm. on Cant., sem. 8.

[667] The beatitude, serm. 4.

[668] Sermon 167: 1.

[669] Ep. 133: 6.

[670] Comm. on Cant., serm. 8.

[671] On the Fear of God.

[672] Cassian. Conf. 3: 9.

[673] In John. hom 58: 5.

[674] In Hebr. hom 8: 10.

[675] Stromata 7: 13.

[676] In Hebr. 1: 4.

[677] Duties of the Clergy 1: 21: 91.

[678] On the Fear of God

[679] Stromata 7: 13.

[680] Treat. 1: 24.

[681] Ep. 150: 2.

[682] Six Treatis on the Behaviour of Excellence.

[683] Paed. 3: 12.

[684] Plumer, p. 4.

[685] Duties of the Clergy 2: 17: 90.

[686] Ad Rom. 5.

[687] Ad Ephes 5: 2; Tral. 7: 2; Philad. 4.

[688] Concerning the Statues 5: 2.

[689] Paschal Epistles 7: 2.

اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل جرجس كامل يوسف والدكتور نورا العجمي.

[690] القس أغسطينوس البراموسي: مار اسحق السرياني، 1990، ص 70.

[691] In Paralyt. PG 51: 51.

[692] In Act. PG 60: 124.

[693] Comm. on Luke, hom. 135.

[694] The Lord's Prayer, sermon 1.

[695] Paschal Letters 6: 7.

[696] Plumer, p. 432.

[697] Paschal Letters 2. 7.

اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل يوسف والدكتورة نورا العجمي.

[698] Plumer, p. 439.

[699] Ep. Against Jovinianus 1: 13.

[700] Sermon 25: 1.

[701] Stromata 5: 14.

[702] Hom. 88 on the Nativity of the Lord.

[703] Sermon 233: 1,2.

[704] On Ps 36 (35).

[705] Sermon 255: 5.

[706] Sermon 170: 3.

[707] Comm. on Canticle, sermon 10.

[708] Comm. on Luke, hom. 72.

[709] On the Spirit 18 (47).

[710] Book of Perfection, 50.

[711] Of the Holy Spirit, 1: 162, 163.

[712] Sermon 225: 4.

[713] Sermon 216: 10.

[714] In 1 Cor., hom. 15.

[715] Plumer, p. 448.

[716] In John, hom. 22: 3.

[717] Duties of the Clergy 1: 31 (164).

[718] Plumer, p. 450.

[719] Joseph 10: 52.

[720] Isaac or the Soul 4: 14.

[721] In Matt., hom. 15: 5.

[722] Paschal Letters 11: 4.

[723] On Vigilance and Sobriety.

[724] In 1 Cor. hom 39.

[725] Plumer, p. 453.

[726] Treatise 4: 21.

[727] Prayer of Reconciliation.

[728] Duties of the Clergy 1: 36: 185.

[729] Treatise 8: 19 on Almsgiving.

[730] I bid 8: 18.

[731] On the Fear of Punishment.

[732] Plumer, p. 456-7.

[733] Ep. 54: 3 (Oxford 49(.

[734] Flight from the world 5: 25.

[735] Select Demonstration 5: 2.

[736] Weiser: The Psalms, p. 325.

[737] The Collegville Bible Comm., p. 762.

[738] Leopold Sabourin: The Psalms, vol 2, p. 40.

[739] In Hebr. Hom. 31: 6.

[740] The Gospel of St. Matthew, hom. 38: 3.

[741] Plumer, p. 463.

[742] Hom. On St. John 73: 3.

[743] Baptismal Instructuon 6: 22 (ACW).

[744] IN John hom. 42: 2, 4.

[745] In 1 Tim. Hom., 2.

[746] Cassian: Conference 3: 8.

[747] Hom. On Songs 1: 2.

[748] Ibid 2: 2.

[749] Selected Sermons (Frs. Of the Church), 3.

[750] In John, hom. 41: 1.

[751] Sermon 72: 2.

[752] Sermon 189: 3 (see Sermos 197: 3).

[753] Plumer, p. 465.

[754] Duties of the Clergy, 1: 10 (34).

[755] Vita S. Antoni, 39.

[756] Institutes, 4: 41.

[757] Cassian: Conf. 20: 7.

[758] On Ps. 37 (38); hom. 2: 6.

[759] Plumer, p. 466, 469.

[760] Plumer, p. 470.

[761] Strong's Exhaustive Concordance of the Bible; art 3038.

[762] Duties of the Clergy 3: 1: 1.

[763] Sermon 238: 2.

[764] Duties of the Clergy, 1. 6 (21); 1: 5 (18).

[765] Plumer, p. 471, 474.

[766] Duties of the Clergy 1: 48: 247.

[767] Ep. 144: 8.

[768] In 2 Cor. Hom. 29.

[769] Hom. On Eph. Hom. 12.

[770] In John Hom. 65: 3.

[771] In Hebr. 24: 4; 24: 7.

[772] The Gospel of St. Matt., hom 64: 5.

[773] Death as a Good, 2: 5.

[774] In 2 Tim., hom. 9.

[775] Comm.. on Canticle, sermon 11.

[776] Flight from the world 1: 4.

[777] قداسة البابا شنودة: تأملات في الصلاة الربانية (الكرازة 22) فبراير 1991، ص 14، 15.

[778] Sermon 251: 2.

[779] Sermon 253.

[780] Adv. Haer. 4: 17: 1.

[781] Comm.. on Luke, hom. 96.

[782] Ibid 64.

[783] On Ps 53 (54)±  12.

[784] St. Cassian: Conf. 10: 11.

[785] Plumer, p. 486.

[786] المؤلف: الحب الأخوي، 1964، ص 177، 178.

[787] القمص بيشوي كامل: تأملات في المزامير، 1982، ص 355.

[788] الحب الأخوي، ص 150.

[789] المرجع السابق، ص 150-153.

[790] Treatise 8: 5.

[791] الحب الأخوي، ص 164.

[792] المرجع السابق، ص 168.

[793] المرجع السابق، ص 160.

[794] Sermon 59: 5.

[795] راجع ص     .

[796] راجع ص     .

[797] John L. Mckenzie: Dictionary of the Bible, 1972, p. 488.

[798] On Ps. 42

[799] راجع ص     .

[800] Kidner, p. 165.

[801] Isaac or the, Soul, 1: 1.

[802] In Ps. Hom. 92.

[803] Flight from the World 9: 52.

[804] Sermon 256: 1.

[805] Sermon 103: 2.

[806] Hom. 19.

[807] Hom. 92

[808] The Long Rules.

[809] The prayer of Job and David 1: 3.

[810] In Hebr. Hom 26: 7.

[811] Comm.. on Song of Songs, prologue 4.

[812] In Ps. Hom. 92.

[813] راجع: تفسير المزامير لأنثيموس أسقف أورشليم، الناشر: الراهب القس صموائيل السرياني، 1988، ص 172.

[814] المرجع السابق.

[815] Plumer: The Psalms, p. 503.

[816] M. Henery: Ps. 43.

[817] Against Celsus 8: 17.

[818] Sermon on the Mount 10: 72.

[819] Stromata 7.

[820] Ephes. 5: 2; Tral. 7: 2; Philad. 4.

[821] City of God 10: 6: 23 Serm. 829, 2: 2 to the Newly-baptized.

[822] In 1 Cor. Hom., 2: 2.

[823] Eusebius 3; 39: 11-3.

[824] أنثيموس أسقف أورشليم؛ المزامير، مز 43.

[825] راجع للمؤلف: إشعياء: 1990، ص 134-135.

[826] للاستفاضة راجع كتابنا: الله ، اسكندرية 1991.

[827] Sermon 88: 4.

[828] راجع تفسيرنا: عوبديا.

[829] Paschal Letters 11: 12.

[830] His dialogue with Tarajan.

[831] Rom 5.

[832] Rom 6.

[833] In John. Hom 82: 1.

[834] Comm.. on an Easter Hymn.

[835] On the Incomprehensible Nature of God, hom. 8: 5.

[836] Ep. 108: 3.

[837] للمؤلف: إنجيل متى، ص 204.

[838] المرجع السابق، ص 205.

[839] See Plumer: The Psalms, p. 513.

[840] راجع كتابنا: الروح الناري، 1992، الفصل 8.

[841] Four Discourses against the Arians, 4: 26.

[842] Ibid 2: 24.

[843] أنظر ص    .

[844] The Faith 4: 10: 132.

[845] Against Praxeas 7: 1.

[846] Ibid, 7.

[847] Ibid, 11.

[848] Defence of the Nicene Definition, 5: 21; See: Four Disc. Against Arians, 2: 21 (57); On the Opinino of Dionysius, 23.

[849] Baptismal Instructions 3: 21 (A C W).

[850] In De Stat. 4. PG 49: 46 D 67A.

[851] IN Matt. Hom. 79 (PG. 58: 715 A-B).

[852] FR. Lazarus: The Psalms, p. 53.

[853] Sermon 254: 5.

[854] Ibid 195: 2.

[855] Exp. In Ps. 44.

[856] In Matt. 1: 8.

[857] Sermon 85: 5.

[858] نقلاً عن الأب أنثيموس أسقف أورشليم: تفسير المزامير مز 44.

[859] Comm.. on Songs, 1: 3.

[860] On Ps. 44; no, 2.

[861] Sermon 254: 5.

[862] The Patriarchs 11: 55.

[863] راجع الأب أنثيموس أسقف أورشليم.

[864] An answer to the Jwes, 9.

[865] Four Discourses against the Arians 2: 15 (13).

[866] Of the Holy Spirit, 1: 80.

[867] Dia;. With Tepho, 86.

[868] Orthodox Faith, 4: 9.

[869] Orthodox Faith, 4: 9. (See also St. Athanasius, Against Apollinaris 2: 1-2. PG 26: 1133 B.).

[870] The Divine Institutes, 4: 13.

[871] Four Discourses against the Arians, 1: 12(46).

[872] Of the Holy Spirit, 1: 101.

[873] John :. McKenzie: Dict. Of the Bible, 1972, p. 21.

[874] Exp. In ps. 44 Pg. 55: 199 D.

[875] Comm.. on Songs 2: 10.

[876] Joseph, 9: 46.

[877] Four Discourses against the Arians, 2: 12 (47).

[878] Baptismal Instructions 11: 7 (See ACW, p. 161).

[879] Exp. In Ps. 44.

[880] Epistle 22; 1.

[881] In Hebr. Hom. 14: 8.

[882] Sermon 81: 3.

[883] Cassian: Conf. 3: 6.

[884] Hom. 76 on Psalms.

[885] The Gospel of St. Matthew, hom. 52: 1.

[886] Ibid 3: 5.

[887] للمؤلف: الكنيسة تحبك، للقديس سوحنا الذهبي الفم.

[888] The Gospel of St. Matthew, hom. 30. 6.

[889] Eutropius, and Vanity of Riches, 2: 9.

[890] On the Incomprehensible Nature of God, hom. 12: 58.

[891] للمؤلف: حزقيال، 1981، ص 176-180.

[892] للمؤلف: إشعياء، 1990، ص 228.

[893] PL 25: 240.

[894] Sermon 8 on Song of Songs.

[895] Epistle 63: 63.

[896] In Exod. Hom. 9: 4.

[897] Cf. Caesarius Arles: Sermon 115: 3.

[898] Comm.. on Luke, hom. 24.

[899] Sch., p. 243.

[900] Defend of the Nicene Definition, 5: 20.

[901] Plumer: The Psalms, p. 522.

[902] أنظر 99، 112، 130، 176، 177.

[903] أنظر مقدمة الباب الثاني: الكنيسة والخلاص.

[904] In Lev. Hm. 17.

[905] Of the Holy Spirit 1: 16.

[906] Ibid 1: 178.

[907] Epistle 113: 77.

[908] Comm.. on Song of Songs 3: 13.

[909] Epistle 15.

[910] In Joan 5: 2.

[911] Aeneid: Bood 8, Line 560; Plumer: The Psalms, p. 325.

[912] Kinder., p. 177.

[913] Sch., p. 246.

[914] Weiser: The Psalms, p. 374-5.

[915] W. Plumer: Psalms, p. 528.

[916] In Luke 7: 18-35.

[917]Comm.. on Luke, hom. 129.

[918] Sermon 80: 2.

[919]Lazarus: The Psalter, p. 55.

[920] Wycliffe Bible Commentary, Ps. 48.

[921] Stuhmueller: The Psalms, p. 246.

[922] تفسير المزامير لأنثيموس أسقف أورشليم، مزمور 47.

[923] W. Plumer: The Psalms, p. 534.

[924] The Prayer of Job and David, 5: 15.

[925] Ibid.

[926] Lazarus: The Psalter, p. 56.

[927] Stromata 7: 13.

[928] An Exhortation to Theodore after his fall, 2:3.

[929] In John. Hom. 21: 3.

[930] On Ps. 48, no. 4.

[931] In John. Hom. 12: 3.

[932] Ibid.

[933] In Matt. Hom. 5: 7.

[934] On Lazarus and the Rich Man, Sermon 3.

[935] Ibid 4.

[936] Orthodox Faith, 4: 5.

[937] Sermon 198: 4.

[938] Sermon 100-6.

[939] Adv. Haer. 15: 8: 3.

[940] Ibid 4: 4: 3.

[941] Orthodox Faith 2: 30.

[942] Hexaemeron 9: 2.

[943] Ascetic Homilies, 47.

[944] Paedagogus 1: 13.

[945] On the Holy Lenten Fast, see also Origen PG 13: 130 D; St. Gregory of Nyssa PG 44: 813, 820-821.

[946] In Luc., Sermon 130.

[947] Ascetic Hom. 64.

[948] In 1 Tim; hom. 2.

[949] Loepold Sabourin: The Psalms, vol. 2, p. 313.

[950] W. Plumer: The Psalms, p. 552.

[951] On Ps. 49. See also Sermon 263: 1.

[952] Epistle 46: 5.

[953] Treatise 9. 23.

[954] Sermon 133.

[955] عن أنثيموس أسقف أورشليم.

[956] Comm.. on Luke, hom. 74.

[957] Dial. With Trypho, 22.

[958] On the Holy Spirit, 26 (62).

[959] راجع أنثيموس أسقف أورشليم.

[960] Paschal Letters, 7. 14.

[961] Cf. Councils of Aminum and Seleucia, 39.

[962] Cf. Life of Antony, 26.

[963] Epistle 62. 18.

[964] De Spectaculis, 15.

[965] Epistle 52 to Nepotian 14.

[966] Sermon 133.

 

الصفحة الرئيسية