المزامير

مز 61 – مز 70

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس بسبورتنج

_

اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ (صرخة استغاثة وشكر لله)

 

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ (دعوة للتسبيح للرب!)

اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ (الاتكال على الله)

 

اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ (صلاة من أجل امتداد ملكوت الله)

اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ (إليك عطشتُ يا إلهي!)

 

اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ (الملك الغالب في كنيسته)

اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ (تعزيات في وسط الضيق)

 

اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ (صرخات طريد)

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ (نعمة الله ورعايته الفائقة)

 

اَلْمَزْمُورُ السَّبْعُونَ (أسرع لنجاتي يا رب!)


 

اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ

صرخة استغاثة وشكر لله

يقدم المرتل صرخة تصدر من قلب إنسانٍ يشعر أنه مُستبعَد من بلده ومن شريعة إلهه [1-2]. يُعبِّر عن حزن مَنْ حُرم من الوجود في بيت الرب والعبادة الجماعية، لكنه مملوء بالرجاء. في نفس الوقت يذكر مراحم الله في حياته الماضية، كخبرة لن ينساها [3]، لهذا يضع في قلبه أن يُكرِّس حياته بالكامل لخدمته [4-5]. هذا هو النذر الروحي الذي يعد بأن يوفيه كل أيام حياته.

يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن هذا المزمور هو مزمور شكر لله من أجل إعادة المسبيين إلى بلادهم، وأيضًا يقدمه الشعب الذي تمتع بالخلاص بالإيمان.

يضم المزمور عبارات ليتورجية جعلت منه ليس فقط مرثاة شخصية، وإنما جزءًا من العبادة الليتورجية الجماعية.

هذا ويذكرنا المزمور بضرورة الصلاة من أجل القيادت الكنسية والزمنية. وأن الحياة الروحية الصادقة تدفعنا إلى الوحدة والتكامل بين حياتنا الشخصية والوطنية بل والعالمية.

في هذا المزمور كما في المزامير السبعة التالية يظهر السيد المسيح كرأس لشعبه والممثل لهم.

1. صرخة إلى الله مخلصه          1-2.

2. شكر على مراحم الله             3.

3. نذر تكريس حياته                4-5.

4. صلاة من أجل الملك             6-7.

5. الوعد بإيفاء النذر                8.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَار upon Neginath. لِدَاوُدَ.

"على ذوات الأوتار Neginath أو Niginoth. الفعل naagan معناه يلعب على أداة موسيقية، خاصة أداة ذات أوتار. وقد وردت في المزامير حوالي 30 مرة، لتعني الآلة ذاتها أو اللاعب على الآلة ذات الأوتار.

1. صرخة إلى الله مخلصه

"اِسْمَعْ يَا اللهُ صُرَاخِي،

وَاصْغَ إِلَى صَلاَتِي" [1].

إن كان الذي يصرخ هنا هو شخص واحد، فمن هو هذا الشخص؟

يقول القديس أغسطينوس: [لكي تعرفوا أنه هذا: صوتنا نحن الذين في كل العالم من الشرق حتى إلى الغرب، يتحدث هنا كما لو كان إنسانًا واحدًا، لكنه ليس هو بإنسانٍ واحدٍ، إنما كما لو كان إنسانًا واحدًا، فالوحدة هنا تتحدث. ففي المسيح نحن جميعًا إنسان واحد، لأنه عن هذا الإنسان الرأس في السماء، والأعضاء لا تزال تكدح على الأرض. وإذ هم يكدحون انظروا ماذا يقول.]   

يمثل هذا المزمور صرخة تصدر عن قلب إنسانٍ يشعر بأن منبوذ ومُضطهَد، لكنه يلجأ إلى الله بكونه الصخرة والملجأ والبرج الحصين؛ يطلب السكنى الدائمة مع الله.

في وسط الضيق غالبًا ما يعاني الإنسان المتألم من الشعور بالعزلة والاستبعاد، كأنه غريب، ليس من يشاركه مشاعره، أو يترفق به، لهذا لا يجد من يصرخ إليه سوى الله نفسه، الذي وحده يسمع صرخات القلب، ويشارك المتألم مشاعره.

مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ أَدْعُوك،َ

إِذَا غُشِيَ عَلَى قَلْبِي.

إِلَى صَخْرَةٍ أَرْفَعَ مِنِّي تَهْدِينِي [2].

يرى البعض أن داود النبي وقد تمرد عليه ابنه أبشالوم، واضطر إلى الهروب صار كمن قد أُقصي إلى أقاصي الأرض. هذه هي مشاعر كل إنسان يعاني من ضيقة مُرّة، فإنه يشعر كأنه قد صار في أقاصي الأرض، إذا به يجد الله نفسه الصخرة التي ليس فقط تحميه، وإنما ترفعه إلى فوق. نعمة الله تحملنا كما إلى الأعالي، فلا يقدر عدو أن يتسلل إلينا.

يسمع الله صرخات الإنسان حتى وإن استبعده الناس إلى أقاصي الأرض، فقد سمع لدانيال وزملائه وهم في بابل، وسمع ليونان وهو في بطن الحوت، ويسمع للخاطئ الذي يصرخ إليه بالتوبة مهما بلغت خطاياه. إنه السامع للصلوات!

v     كأن هذا القول مقدَّم من الشعب المسبي إلى بابل، فإنه يقول: "من أقاصي الأرض"، أي من بابل البعيدة جدًا من أورشليم، صرخت إليك وأنا في شدة حزني، وقد ثبت قلبي على صخرة الرجاء.

وأيضًا الذي يصير تحت استيلاء الأبالسة، ويضجر قلبه يعرف أنه بعيد عن الله، فيقول في صلاته: "صرخت إليك من أقاصي الأرض"، أعني من مسافة بعيدة عنك.

أيضًا الذين ينهمكون في الدنيويات والمتمرغون في حمأة الشهوات الجسدية هم ساكنون في وسط الأرض وغائرون في جوفها، أما السواح في الجبال والبراري فيكونون ساكنين في أقصى الأرض، هؤلاء يسمع الله طلبتهم، ويصغي إلى صلواتهم، وعند ضجرهم يشدد قلوبهم. وقولنا ضجرهم (يغشى قلبهم) لا يدل إلا على إقامتهم في هذا العمر الفاني وعلى هلاك غير التائبين...

أما الصخرة فهي ربنا يسوع المسيح، فمن يحصل على هذه الصخرة يرتفع بعقله إلى السماويات ويرتقي إلى الله.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يرى بعض الآباء مثل القديس أغسطينوس أن هذه الصرخة، هي صرخة الكنيسة كلها الممتدَّة إلى أقاصي الأرض، فإنها تئن معًا بروح الوحدة، بكونها جسد المسيح المتألم!

إنها صرخة كل مؤمن، يُصلَب مع السيد المسيح، فيصرخ لحساب كل المتألمين والمُضطهَدين والمظلومين!

v     ترك المسيح الشعب اليهودي، واتحد مع الكنيسة القادمة من أماكن بعيدة، وهو يدعوها في المزامير: "من أقاصي الأرض أدعوك"[1].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     جسد المسيح كله انصهر في العالم أجمع، أي الكنيسة كلها، يمارس الندامة التي تحقق شركة الوحدة، كما جاء في المزمور: "صرخت إليك من أقاصي الأرض"، عندما تسمعني وأنا في ألمٍ مبرحٍ[2].

v     أي إنسان يصرخ من أقصى الأرض؟ لا يوجد صراخ من أقصى الأرض سوى من الميراث الذي قيل عنه للابن نفسه: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك" (مز 2: 8). إنه مِلك المسيح هذا هو ميراثه، هذا هو جسد المسيح، هذه هي كنيسة المسيح الواحدة، هذه هي الوحدة التي هي نحن. إنها تصرخ من أقاصي الأرض.

القديس أغسطينوس

"إذا غشي عليَّ قلبي" [2]، فإنه وإن كان قلب الكنيسة، كما قلب كل عضوٍ فيها، يرتفع مع الرأس إلى السماء، فإنه إذ هو متسع بالحب يئن مع أنات كل إنسان، ويلتهب مع عثرة كل أحدٍ. تمتزج مشاعره بين المجد الفائق الذي يختبره دومًا مع شركة الآلام والأتعاب مع الكنيسة المجروحة. يرى القديس أغسطينوس أن هذا الصارخ هو السيد المسيح في أشخاص أعضاء جسده.

v     يُظهر نفسه خلال كل الأمم، في كل العالم المحيط، في مجدٍ عظيمٍ، ولكن في ضيقةٍ عظيمةٍ. فإن حياتنا في هذه الرحلة لا يُمكن أن تكون بدون تجربة، فإن تقدُّمنا يتحقق خلال التجارب؛ ولا يعرف إنسان نفسه ما لم يُجرَّب؛ ولا يُكلَل ما لم ينتصر، ولا ينتصر ما لم يُحارِب، ولا يحارب ما لم يذق وجود عدو وتجارب. هذا الإنسان إذن يغشى (يرتبك)، فيصرخ من أقاصي الأرض، إلا أنه غير منسي. فإنه يريدنا نحن الذين هم أعضاء جسده أن نُمثل أيضًا في جسده هذا، هذا الذي يموت ويقوم ويصعد إلى السماء، لكي حيث ذهبت الرأس مقدمًا تتأكد الأعضاء أنها ستتبعه. لهذا فخلال الرمز ننتقل فيه عندما يريد لنا أن يجربنا الشيطان.

القديس أغسطينوس

هكذا يرى القديس أغسطينوس أنه مع صرخة كل مؤمن أينما وُجد في العالم، يصرخ جسد المسيح كله، بل يصرخ الرأس نفسه لحسابه، فيدرك المؤمن أن تجربته هي فرصة رائعة للشركة مع المسيح المتألم، القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات.

v     يُقرأ في الإنجيل كيف أن الرب يسوع المسيح جُرِّب من الشيطان في البرية (مت 4: 1). المسيح بكامله (الرأس وجسده الكنيسة) جُرِّب، لأن المسيح من أجلكم أخذ لنفسه جسدًا. لأجلكم صنع لنفسه خلاصًا (نصرة)؛ لأجلكم قبل الموت، ولأجلكم الحياة؛ لأجلكم الشتائم، ولأجلكم الكرامات. لأجلكم قبل التجربة، ولأجلكم النصرة. إن كنا فيه نُجرَّب، ففيه ننتصر على الشيطان... "على صخرة رفعتني".

v     تصرخ (الكنيسة) من أقاصي الأرض، تلك التي يريد أن يبنيها على الصخرة (مت 16: 18)... اسمعوا بولس يقول: "لكن الصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4). إذن عليه نحن نُبنى.

القديس أغسطينوس

2. شكر على مراحم الله

لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجًَأ لِي،

بُرْجَ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهِ الْعَدُوِّ [3].

حقًا إن الحماية التي يجدها المؤمن عند التجائه إلى الله عجيبة، حيث يحتضنه كبرج حصين، لا يقدر أي عدو أن يتسلل إليه. ليس من قوة ينالها الإنسان مثل تمسكه بالإيمان بالله، وتمتعه بالحضرة الإلهية وهو في وسط أتون التجربة.

v     (مبارك) هو ذاك المهندس الذي صار برجًا كموضع سلامنا[3].

القديس مار أفرام السرياني

v     السيد المسيح هو برج خلاصنا، الذي به نتحصن من كل سهام العدو، ومن التجارب التي تحل على المؤمنين من الأشرار كما من الهراطقة.

v     في داخل الكنيسة نفسها تعاني الحنطة من العنف الصادر من الزوان وسط كل هذه الأمور عندما يضجر قلبي أصرخ من أقصي الأرض. لكن ذاك الذي يرفعني على الصخرة لا ينساني، إنما يقودني إليه. فإني وإن كنت أتعب حيث يترقبني العدو لمقاومتي في أماكن كثيرة وأزمنة مختلفة ومناسبات عديدة، فإن (الرب) هو برج القوة الذي أهرب إليه للحماية... المسيح نفسه هو البرج![4]

v     المسيح نفسه هو البرج؛ من أجلنا جعل نفسه برجًا في وجه العدو، وهو الصخرة التي عليها تُبنَى الكنيسة. أتريد ألا تُضرَب من الشيطان، اهرب إلى البرج، فإن رماح الشيطان لن تتعقبك، هناك تقف محميًا وثابتًا... البرج أمامك، تذكر المسيح وادخل البرج.

القديس أغسطينوس

v     بهدايتك وتقدمك أعدتني إلى وطني كما رجوت منك، وصرت لي برجًا حصينًا، تمنع عني وثَبَات عدوي عليّ. هكذا كل من يسمع قول ربنا: "تعالوا خلفي"، ويتبعه سالكًا بسيرته، يصير له ربنا برجًا حصينًا، يحميه من مقاومة الأعداء، وذلك كما كان عونًا وملجأ لرسله الذين تبعوه.

الأب أنثيموس الأورشليمي

3. نذر تكريس حياته

إذ غشي قلب المرتل وهو في أقاصي الأرض ولم يجد من يعينه، تجلى له المخلص صخر الدهور والملجأ الذي فيه يدخل ويتمنع.

بدخوله البرج ليس فقط يجد الحماية من سهام الشرير القاتلة وتجاربه المُرَّة، وإنما يختبر عذوبة الشركة مع المسيح، فيشتهي أن يقضي كل حياته في شركة معه. هذا هو النذر الحقيقي، وتكريس القلب لله!

لأَسْكُنَنَّ فِي مَسْكَنِكَ إِلَى الدُّهُور.

أَحْتَمِي بِسِتْرِ جَنَاحَيْكَ. سِلاَهْ [4].

يرى البعض أن طلبة المرتل داود أن يسكن في مسكن الرب إلى الأبد، لا تعني أن يقيم جسديًا في بيت الرب، لأنه لم يكن بعد قد بُني الهيكل، فقد عبرَّ عن هذه الشهوة التي في قلبه في مزامير كثيرة سجلها قبل بناء الهيكل (مز 15: 1؛ 19: 4؛ 27: 5-6). إنما لأنه يرى سواء في خيمة الاجتماع أو في بناء بيت للرب (الأمر الذي حققه ابنه سليمان) صورة حية للسماء وللعبادة السماوية. فكان قلب المرتل يشتهي الحياة السماوية.

طلبته أن يحتمي تحت ظل جناحي الله، تشير إلى ظهور الله على غطاء تابوت العهد، أي على كرسي الرحمة، المظلل بأجنحة الكاروبين في قدس الأقداس، الذي لم يكن يقدر أن يدخله إنسان غير رئيس الكهنة، حتى وإن كان الملك نفسه!

لقد حسب المرتل سعادته العظمى تتحقق بأن ينطرح أمام المذبح عن أن يجلس على عرش الملك[5].

وجد المرتل سعادته حين كان يقف أمام تابوت العهد، ويشعر بالحضرة الإلهية، وأنه يختبئ تحت ظل جناحي الله، فكم تكون سعادتنا حين نلتقي مع الله نفسه وجهًا لوجه، ونحيا معه في سماواته إلى الأبد.

ما يتمتع به المؤمن خلال خلاصه من التجربة هو الدخول في أعماق جديدة في علاقته مع الله. عندئذٍ يتوق أن يعبر سريعًا من العالم، ليس بسبب مرارة التجارب والضيقات، وإنما شوقًا إلى السكنى الأبدية مع الله.

v     يقول النبي: "مسكن الله" عن مدينة أورشليم، بظهوره فيها ووجود هيكله. وأيضًا عن أورشليم السماوية حيث مسكن الذين أرضوا الرب. أما جناح الله فهو عنايته وحراسته.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     نحن نعيش هنا أيامًا قليلة ونَعْبُر. فإننا رُحَّل هنا، لكننا سنكون سكان السماء.

إنكم نزلاء في هذا الموضع، حيث تسمعون صوت الرب إلهكم: "ارحلوا". أما في البيت الأبدي في السماوات فلا يأمركم أحد أن ترحلوا...

يوجد حَرٌ في العالم، لكن يوجد ظل عظيم تحت جناحي الله.

القديس أغسطينوس

لأَنَّكَ أَنْتَ يَا اللهُ اسْتَمَعْتَ نُذُورِي.

أَعْطَيْتَ مِيرَاثَ خَائِفِي اسْمِكَ [5].

بحسب الترجوم Targum، التفسير اليهودي القديم للكتاب المقدس، الملك الذي يسمع له الله نذوره، هو "الملك المسيا King Messiah". يقول عنه الرسول بولس: "الذي في أيام جسده، إذ قدَّم بصراخٍ شديدٍ ودموعٍ، طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عب 5: 7).

ما هي النذور التي قدمها كلمة الله، إلا أن يقدس ذاته أو يكرس حياته لأجل خلاص العالم ومجد المؤمنين به، إذ يقول في صلاته الوداعية: "لأجلهم أُقَدِّس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضًا مُقدَّسين في الحق" (يو 17: 19).

ونحن كأعضاء في جسده نحمل شركة سماته، ونقدم نذرًا أن نعيش بروحه القدوس مقدسين، نعمل لأجل تقديس كل إنسان، ونمو ملكوت الله في كل قلبٍ، مستعذبين كل ألم كشركة مع المسيح المصلوب.

لقد سمع الآب لصلاة الابن الوداعية؛ هذه الاستجابة هي رصيدنا السماوي، حيث تطمئن نفوسنا أن ما نطلبه باسم المسيح المخلص لحساب ملكوته يحقق لنا الآب. ونحسب هذه الاستجابة ميراثًا خاصًا بنا إن كنا بالحقيقة خائفي الرب ومتقيه.

v     الذين يبلغون قمة الكمال لهم ميناؤهم، ليس في الحياة، ولا في القيامة، ولا في أي أمر نعجب به، وإنما في ذاك المُشتهى وحده، الذي من أجله يحسبون الكارثة بهجة، والتعب راحة عذبة، السكنى في الصحراء أفضل من حياة المدن، وأكثر غنى من الثروة... هذه هي المكافأة التي ينتظرها الذين يمارسون الفضيلة. إنها ميراث لمن يخدمون الله، كما يعلن النبي (إش 65: 9)[6].

ثيؤدورت أسقف قورش

ما هو الميراث الذي يتمتع به المؤمن كملك، إلا أن يتمتع بحقوقه كابن لله، نال التبني في مياه المعمودية، ويفرح أيضًا أن يتمتع البشر بهذه النبوة، ويصير لهم حق الميراث الأبدي في الأمجاد السماوية.

v     لنستمر إذن في مخافة اسم الله، فإن الآب السماوي لا يخدعنا. الأبناء يتعبون لكي ينالوا الميراث من والديهم، هؤلاء الذين يخلفونهم بعد مماتهم. فهل نحن نتعب لنقبل الميراث من ذاك الآب، الذي لا نخلفه بعد موته، بل نحن معه في ذات الميراث، إذ نحيا إلى الأبد؟

القديس أغسطينوس

v     إن الميراث الذي أُعطي لبني إسرائيل هو أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلاً. وهي أرض فلسطين التي فقدوها. دُعيت ميراثًا لأنها أُعطيت لآبائهم من الله بالموعد. وأما الميراث الحقيقي الثابت امتلاكه الذي أعطاه الله للمؤمنين فهو ملكوته السماوي الموعود به لهم، كقول ربنا له المجد: رثوا المُلك المُعد لكم والحياة الأبدية.

الأب أنثيموس الأورشليمي

4. صلاة من أجل الملك

إِلَى أَيَّامِ الْمَلِكِ تُضِيفُ أَيَّامًا.

سِنِينُهُ كَدَوْرٍ فَدَوْرٍ [6].

لا يمكن تفسير ما ورد هنا إلا بتحقيقه في شخص المسيا. فإن المرتل داود كان يشتهي مع أبيه إبراهيم أن يرى يوم المسيا المفرح (يو 8: 56)، وإن تمتد أيامه من جيل إلى جيل خلال عمله الخلاصي في كنيسته المقدسة.

يقدم البعض تفسيرًا حرفيًا للعبارة، فيرون أن داود كان على حافة القبر، حيث كان ابنه أبشالوم يطلب رأسه، لكن الله أعطاه عمرًا امتد إلى 69 سنة، حيث رأى الجيل الثالث له.

لعل داود النبي وهو في لحظات مُحرِجة حيث يطلب ابنه رأسه، كان يتطلع إلى المسيا الموعود به، الذي لن يقدر الموت أن يحطمه، ولا الفساد أن يلحق بجسده.

يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن داود الملك لا يطلب أن يزيد الله أيامًا على أيامه وسنينًا إلى جيل وجيل بمعنى أنه يطلب طول العمر الفاني، إنما يطلب أن تبقى مزاميره من جيل إلى جيل، أي تعبر من اليهود أيضًا إلى الأمم، حيث يصير الكل مملكة روحية واحدة، ورعية واحدة لراعٍ واحدٍ.

v     الملك المسيح، رأسنا، هو ملكنا. نعطيه أيامًا فوق أيامٍ، ليس فقط تلك الأيام التي في هذا الزمن الذي ينتهي، بل نعطيه أيامًا فوق الأيام التي لا تنتهي... أي شيء له نهاية فهو قصير، أما أيام هذا الملك فهي أيام فوق أيامٍ، فلا يملك المسيح في كنيسته فقط في تلك الأيام التي تعبر، وإنما يملك القديسون معه في تلك الأيام التي لا تنتهي... "وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مز 102: 27).

القديس أغسطينوس

ولعله بقوله: "تضيف إلى أيام الملك أيامًا" تشير إلى أن السيد المسيح ملك الملوك الأبدي يفرح بقبول البشرية الإيمان به والاتحاد ليصيروا ملوكًا، يشاركونه المجد الأبدي، فيُحسب ملكوتهم الأبدي كأنه إضافة إلى أيامه. مع كل مؤمن يصير ملكًا، يتهلل ملك الملوك، ويبتهج به كمن نال هو ما قدمه لهذا المؤمن.

يَجْلِسُ قُدَّامَ اللهِ إِلَى الدَّهْر.

اجْعَلْ رَحْمَةً وَحَقًّا يَحْفَظَانِهِ [7].

ملك داود على يهوذا حوالي 40 عامًا، فمن هو هذا الملك الذي يجلس ملكًا قدام الآب إلى الأبد، سوى ابن الإنسان، الذي أشار إليه دانيال النبي: "كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه. فأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي، ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13-14).

أساس مملكته الأبدي فهو التناغم بين الرحمة والحق معًا اللذان تحققا بعمله الخلاصي على الصليب.

v     يقول أيضًا في موضع آخر: "كل سُبُل الرب رحمة وحق لحافظي عهده وشهاداته" (مز 25: 10). يتكلم عن الرحمة، لأن الله لا يهتم باستحقاقاتنا بل بصلاحه، حتى يغفر لنا كل خطايانا، ويعدنا بالحياة الأبدية. أما عن الحق فيتكلم عنه، لأنه لن يخفق في تحقيق ما يعد به.

ليتنا نعرف هذا هنا، ليتنا نمارسه، حتى يُظهِر الله لنا رحمته وحقه. يظهر رحمته بغفران خطايانا، وحقه بإظهار مواعيده. أقول أيضًا ليتنا نحن ننفذ الرحمة والحق. الرحمة على الضعفاء والمحتاجين، بل حتى على أعدائنا. والحق بأننا لا نخطئ، ولا نضيف خطية فوق خطية.

القديس أغسطينوس

يختم المرتل مزموره بالإعلان عن إيفاء نذوره، ألا وهو التسبيح لاسم الله إلى الأبد.

5. الوعد بإيفاء النذر

هَكَذَا أُرَنِّمُ لاِسْمِكَ إِلَى الأَبَدِ.

لِوَفَاءِ نُذُورِي يَوْمًا فَيَوْمًا [8].

انتقل المرتل من صرخات القلب بسبب الضيق إلى الشركة مع المسيح المتألم القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات.

تنطلق نفس المرتل إلى أحضان الرب، فتستقر هناك، وتتأمل رحمته وحقه، وتنعم بشركة الطبيعة الإلهية حيث تتمتع بممارسة الرحمة والحق على صورة مخلصها. تغفر لمن يسيء إليها، وترحم بالحب كل من هو في ضعف أو عوز، وتمارس الحق حيث تتمسك بالوعود الإلهية، وتثق فيها.

v     "هكذا أرنم (ألعب بالموسيقى) لاسمك، لوفاء نذوري يومًا فيومًا" [8]. إن كنتم تضربون موسيقى لاسم الله، لا تضربوا إلى حين.

هل تلعبون موسيقى دومًا؟

هل تلعبون موسيقى إلى الأبد؟

أوفوا له نذوركم يومًا فيومًا... من هذا اليوم إلى ذاك اليوم.

استمروا في إيفاء نذوركم في هذا اليوم، حتى تأتوا إلى ذاك اليوم، فإن من يستمر إلى المنتهى هذا يخلص (راجع مت 24: 13).

القديس أغسطينوس

v     الأحباء الأعزاء، إن منافع الصداقة تقتني أمورًا لا تُحَد، عندما يفي المدين للدائن الدين قبل موعده. من يقوم بالتسديد عفويًا المال المُقترض، يخزن هذا لنفسه. فإنه ما أن يمتثل أمام الدائن، فإنه ينال ما يسأله وقت احتياجه. أما الإنسان الذي يثبت أنه غير أمين فيجد باب الدائن دائمًا مغلقًا أمامه. ليقرع ويتوسل كيفما يشاء، فإنه سيُطرد حزينًا فارغ اليدين مع توبيخات موجهة ضده. إن كان أحدٌ يثير كراهية ضد نفسه لدى إنسان، فكم بالأكثر إن تصرَّف بخداعٍ مع الله، وحاول الاستخفاف برب العظمة السماوية بوعده الناعم (دون التنفيذ)؟...

هل قال: "من عامٍ إلى عامٍ"؟ لا، بل قال: من يومٍ إلى يومٍ. لهذا يلزمنا العمل كل يوم، أيها الأحباء الأعزاء. يليق بنا ألا نخطئ بخصوص الدين الذي علينا من الله والوعد بالوفاء. من يفي نذوره يوميًا لا يكون مدينًا أمام الديان في المستقبل. بنفس الطريقة من يغتني بالعمل البار ويقدم ثمر أعماله الصالحة يومًا فيومًا ليس لديه علة أن لا يكف عن تقدير حسابه[7].

الأب فاليريان

v     كما قال يعقوب: "إن أعطاني الله خبزًا للأكل... أعطيه عُشرًا من كل ما يعطيني"، وقد وفَّي بما نذره، هكذا أنا أيضًا عندما أنال من الله ما قد طلبت أوفي له نذري، أي أُرَتِّلٍ لاسمه شاكرًا مادمت موجودًا في هذه الحياة.

الأب أنثيموس الأورشليمي


 

من وحي مز 61

أنَّاتنا هي شركة مع أنَّاتك!

v     في وسط تجاربي، تتجلى أيها المصلوب أمامي!

يغشى قلبي بسبب ضعفي.

لكني أدرك أني عضو في جسدك.

فمع كل أنين يخرج من قلبي، يصرخ جسدك كله،

وتئن عني يا أيها الرأس العجيب في حبه!

تقيمني معك، وتدخل بي إلى سمواتك،

حتى حيث تكون أنت أكون معك!

v     لتسمح لي بالضيق، مادمت تغرس صليبك في داخلي.

أنسى الآلام والتجارب، وتتعلق نفسي بحبك!

أرتمي في أحضانك، وأدخل في أحشائك يا صخرة الدهور!

v     لتسمح لي بالضيق، فإني مختبئ فيك.

إني مبني عليك،

فلا تقدر عواصف العالم وسيوله أن تُحَطِّمني.

أنت ترفعني، فأقيم معك كما في السماء عينها!

v     تُرَى ماذا أدعوك؟

أنت صخرتي، عليك تُبنى حياتي!

لا يقدر العدو - الحية القديمة - أن يزحف إليَّ!

لأنه ليس له موضع فيك.

أنت هو ملجأي، فيك أحتمي!

فلا يجسر إبليس أن يقترب إليَّ!

أنت هو البرج العالي، تحملني كما إلى السماء،

فلا تستطيع سهام إبليس أن تبلغ إليَّ!

v     العالم يتوهج بحرارة التجارب،

لكن ستر جناحيك يهبني راحة عظيمة.

وسط التجارب ألتجئ إلى حنانك وحنوك.

أستعذب السُكنى فيك، ولا أريد الخروج عنك!

لأسكن في أحضانك الإلهية إلى الأبد!

v     إذ أسكن في أحضانك،

أصير بك ملكًا يا ملك الملوك.

تبتهج بي كعضوٍ في جسدك الملوكي.

وتحسب ما قدمته من ملوكية قد نلتها أنت، يا مُشبِع الجميع!

حقًا متى أرى كل البشرية قد صارت ملوكًا!

v     إذ أستقُر في أحضانك،

أكون دومًا في حضرتك.

أتأمل رحمتك وحقك.

ألهج بحبك، لأن برحمتك تغفر خطاياي،

وبحقك تقدم لي وعودًا إلهية.

أدهش من رحمتك وحقك،

فأشتهي أن أصير أيقونة لك.

يمتلئ قلبي بالرحمة،

حتى مع الذين يقاومونني.

وأسلك في حقك،

فأستنكف من الخطية وأبغضها

v     مادمت في أحضانك محفوظًا،

أوفي لك نذوري يومًا فيومًا.

مع كل يوم جديد، أختبر مراحمك جديدة في كل صباحٍ.

يلتهب بالأكثر حبي لك،

وألهج مسبحًا من أجل وعودك الفائقة الصادقة.

تتحول حياتي إلى أغنية شكر وتسبيح.

ماذا أرد لك يا مخلصي عن كثرة إحساناتك؟

أبقى كل أيام غربتي أسبح بكل كياني،

وإذ أنطلق إلى يومك العظيم.

هناك على السحاب أدخل في جوقة الكنيسة المتهللة.

أبقى كل أبديتي في فرحٍ مجيد وتسبيح لا ينقطع!

 

<<


 

اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ

الاتكال على الله

في وسط ضيقه، كان داود النبي يحث نفسه ويدفعها للاتكال على الله كسندٍ ومعينٍ ومنقذٍ. لا نعرف المناسبة التي سجل فيها داود هذا المزمور، غير أن البعض يرون أنه سُجل حين تمرد عليه ابنه أبشالوم، وخانه مشيرُه أخيتوفل وبعض رجال الدولة.

1. الله صخرتي وخلاصي                     1-2.

2. خداع المقاومين وعنفهم                   3-4.

3. تأكيد الاتكال على الله                      5-7.

4. حث الآخرين على الاتكال على الله         8-10.

5. الله كلي القدرة والرحمة والعدل            11-12.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى يَدُوثُونَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ

"على يدوثون": يدوثون مثل آساف وهيمان، عيَّنهم داود الملك ليكونوا قادة لفرق موسيقية في خيمة الاجتماع (1 أي 25: 1-3). كان هؤلاء القادة مع عائلاتهم لا يمارسون العمل الموسيقي كوظيفة، وإنما كقديسين مملوءين من الروح القدس، يتنبأون بروح التسبيح والفرح، مقدمين الشكر لله. إنهم يشهدون لله إلههم بلغة التسبيح. هؤلاء يقدمون صورة رائعة لأناس الله المتهللين بالروح، بل صورة حية لكل نفسٍ تحمل روح الفرح بخلاص الله.

وردت كلمة "يدوثون" في عنوان المزمور 39. ويرى القديس أغسطينوس أن معناها "يثب فوقهم over-leaping them". فإن كان البعض يضعون رجاءهم في الأمور الزمنية العابرة، فمن يُدعى يدوثون يلزمه أن يثب فوقهم ويعبر، دون أن يرتبط بالزمنيات.

1. الله صخرتي وخلاصي

إِنَّمَا لله انْتَظَرَتْ نَفْسِي.

مِنْ قِبَلِهِ خَلاَصِي [1].

يليق بمن يُدعى يدوثون أن يثب فوق الذين وضعوا رجاءهم في الزمنيات، ليختبئ في الله صخرته وخلاصه وملجأه، وذلك بروح التواضع لا الكبرياء. فإنه يعجز عن تحقيق ذلك ما لم تنتظر نفسه الرب، ويثق أن من قبله خلاصه. لا يتكل على قدرته أو حكمته أو برِّه الذاتي.

v     لقد سمع: "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت 23: 12)؛ وإذ يخشى لئلا يتكبر خلاله وثبه وينتفخ على الذين هم أسفل، يتواضع من أجل ذاك الذي هو فوق. يقول للذين يحسدونه، مهددين إياه بأنه سيسقط، إذ هم في حزن لأنه وثب فوقهم: "أما تخضع نفسي لله؟... فإن منه يتحقق خلاصي. إنه إلهي وخلاصي. وحاملني إلى فوق، فلا أتزعزع". إنني أعرف من هو فوقي. أعرف أنه يبسط رحمته للبشر الذين يعرفونه. أنا أعرف مَن الذي أترجاه، وأنا تحت ظل جناحيه "لا أتزعزع"!

القديس أغسطينوس

لم يكن ممكنًا للضيقة مهما اشتدت أن تفقد النفس سلامها الداخلي، ولا أن تدفع المؤمن إلى اليأس. فإن تركيز البصيرة الداخلية على الله الذي يقدر وحده أن يخلِّص إلى التمام يجعل المؤمن يقف في صمت بخشوعٍ وتقوى، وفي صبرٍ ينتظر عمل الله الفائق.

يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن النبي يتحدث هنا باسم الذين عاصروا أنطيخوس أبيفانس، والذي كان يُلزم اليهود بكسر الشريعة الإلهية، فكان كل منهم يسأل نفسه أن يخضع لله القادر على خلاصه.

يرى القديس باسيليوس الكبير أن كلمة "خلاص" هنا تعني السيد المسيح نفسه، وذلك كقول سمعان الشيخ حين حمل الطفل يسوع: "إن عيني قد أبصرتا خلاصك".

v     من أجل هذا وأسرار أخرى شبيهة به ترغب العروس أن تكون داخل البيت الذي يحوي سرّ الخمر. وبعدما دخلته، ابتدأت في القفز إلى أعلى لكي تصل إلى ما هو أعظم، لأنها كانت تبحث لكي تقع في الحب. وتبعا للقديس يوحنا، الله محبة (1 يو 4: 8). إن خضوع النفس لله هو الخلاص، كما يشير داود (مز 62: 1). "أدخلني إلى بيت الخمر، وعَلَمُه فوقي محبة". تقول العروس إنه وضع حبه فوقي، إني خاضعة لحبه؛ فكلا العبارتين لهما نفس المعنى[8].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

إِنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي مَلْجَأي.

لاَ أَتَزَعْزَعُ كَثِيرًا [2].

مادام الله في صفنا، تطمئن نفوسنا، وتستقر، إذ لا تقدر كل متاعب العالم ولا محاربات الشيطان ولا شهوات الجسد أن تهزها!

يليق بنا إن أردنا أن نتمتع بالسلام الداخلي أن نتعرف مع داود النبي على الله بكونه القدير، صخرتنا الذي لا يتزعزع، خلاصنا المفرح، ملجأنا ضد العدو، ومجدنا!

بقوله: "لا أتزعزع كثيرًا" يوضح المرتل أنه لا يوجد إنسان لا يتزعزع، لكن الله لا يسمح له أن يتزعزع كثيرًا، أي فوق طاقته.

يقول الأب أنثيموس الأورشليمي إن كل إنسان يتزعزع قدر خطيته، فإن سقط في هفوات قليلة، يهتز كالأشجار من هبوب نسيم، أما إذا كانت سقطاته كثيرة، فيتزعزع.

v     الابن الذي هو من الله (الآب) هو إلهنا. هو نفسه أيضًا مخلص الجنس البشري، الذي يسند ضعفنا، ويُصلح الاضطراب النابع في قلوبنا من التجارب[9].

القديس باسيليوس الكبير

2. خداع المقاومين وعنفهم

إِلَى مَتَى تَهْجِمُونَ عَلَى الإِنْسَانِ؟

تَهْدِمُونَهُ كُلُّكُمْ كَحَائِطٍ مُنْقَضٍّ كَجِدَارٍ وَاقِعٍ! [3]

جاءت العبارة في اللغة العبرية تعني الاندفاع بعنف والهياج وإثارة النفس للهجوم، والعطش إلى ذلك.

إذ يحسد الأشرار الذين يلتصقون بالزمنيات النفوس المرتفعة بالله والمستقرة في أحضانه يهاجمونها، لكن من يثب إلى فوق لا يخشاهم، ولا ينهار أمام تهديداتهم

v     ذاك الذي من مكان حصين عالٍ ومحمي، الذي فيه يصير له الرب ملجأ، يصير له موضع حصين، يتطلع إلى الذين وثب فوقهم، وينظر إلى أسفل ليحدثهم كما من برجٍ عالٍ. إذ يُقال عن (الرب): "برج قوة من وجه العدو" (مز 61: 3). يتطلع إليهم، ويقول: "إلى متى تهجمون على الإنسان؟" [3] إنكم بالشتائم وقذف التوبيخات، بالتربص، وبالاضطهاد، تلقون عليه الأثقال، تلقون عليه قدر ما لا يحتمله الإنسان، ولكن لكي يحتمل الإنسان هكذا، يوجد فيه (تحته) ذاك الذي خلق الإنسان. إن نظرتم إلى إنسان "تهدمونه كلكم... كحائط منقض، كجدار واقع" [3]. تضغطون عليه، تضربونه، لكي ما تطرحوه إلى أسفل. أين: "لا أتزعزع كثيرًا" [2]... لأن الله نفسه مخلصي، ورافعي! أنتم كبشرٍ يمكنكم أن تُلقوا بالأثقال على إنسانٍ، هل يمكنكم بأية وسيلة أن تلقوا بها على الله حامي الإنسان؟

القديس أغسطينوس

من هو هذا الإنسان الذي يود كل الأشرار أن يهدموه كحائط ينقضونه، أو كجدار يسقطونه؟ يقول القديس أغسطينوس إنه السيد المسيح رأس الكنيسة، فإن كان الأشرار جميعًا يقاومون الكنيسة، إنما يضطهدون جسد المسيح، ويحسب المسيح الرأس هذه المقاومة أنها موجهة ضده شخصيًا. هذا ما أعلنه السيد المسيح نفسه حين وجه هذا الاتهام ضد شاول الطرسوسي: "لماذا تضطهدني؟" فما فعله شاول بالكنيسة، حسبه السيد المسيح موجهًا ضده.

لن يتوقف الأشرار عن اضطهاد السيد المسيح في أشخاص مؤمنيه، لذا يقول الرسول بولس: "أكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده، الذي هو الكنيسة" (كو 1: 24).

ويقول القديس أغسطينوس: [في جمهوريتنا المشتركة هذه، كل واحدٍ منا يلتزم بدفع ما نحن مدينون به، قدر طاقته، وبحسب الإمكانيات التي لنا ينال كل نصيبًا (كوتا quota) من الآلام التي نشترك فيها. مخزن كل آلام البشر لن يتوقف تمامًا حتى ينتهي العالم... هنا المدينة كلها تتكلم، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا (مت 23: 35). وبعد ذلك من دم يوحنا (المعمدان) إلى دم الرسل، فدم الشهداء، ودم المؤمنين بالمسيح؛ إنها مدينة واحدة تتحدث، إنسان واحد يقول: "إلى متى تهجمون على الإنسان؟ تهدمونه كلكم" [3]. لننظر إن كنتم تمحون الاسم (اسم يسوع الذي للمدينة الواحدة أو الكنيسة)؛ لننظر إن كنتم قد قضيتم عليه؛ لننظر إن كنتم قد أزلتموه من على الأرض. لذلك فلننتظر إن كنتم أيها الشعوب لم تفكروا في أمورٍ باطلة، قائلين: "متى تموت ويُباد اسمها" (راجع مز 41: 5).]

إنهم يشبهون حائطًا يميل فيقتل من بجواره، وفي نفس الوقت إذ يسقط يتهدم، أي يُدمر الآخرين كما يدمر نفسه.

يقول القديس باسيليوس الكبير إن الطبيعة البشرية هي حائط وقد هزته صدمة الخطية، فمال إلى السقوط، ولا يمكن إعادة بنائه إلا بالهدم ونقض بنيانه، لذلك سمح الله أن يكون الموت الحسي ناقضًا للحائط المزعزع ليعيد بناءه بالقيامة العامة إعادة وثيقة ومؤيدة.

إِنَّمَا يَتَآمَرُونَ لِيَدْفَعُوهُ عَنْ شَرَفِه.

يَرْضُونَ بِالْكَذِب.

بِأَفْوَاهِهِمْ يُبَارِكُونَ، وَبِقُلُوبِهِمْ يَلْعَنُون. سِلاَهْ [4].

ما يشغل قلوب الأشرار لا أن ينجوا أو يتقدموا في أمرٍ ما، وإنما أن يهلكوا البار ويبيدوا اسمه. هذا ما أراده الأشرار المقاومون سواء للملك داود، أو لابنه حسب الجسد يسوع المسيح.

إذ يقبل الأشرار البنوة لإبليس لا لله، يجدون لذتهم وبهجة قلوبهم في الكذب والأباطيل، لأن أباهم إبليس كذاب وأب الكذابين.

غالبًا ما ينصب الأشرار شباكهم خلال كلماتهم المعسولة التي تخفي عنف قلوبهم. هنا يشير إلى أبشالوم الذي كسب الكثيرين بكلماته المخادعة المعسولة.

v     ليتنا نلتصق بأولئك الذين يزرعون السلام مع التقوى، ولا يطلبون السلام برياء[10].

القديس إكليمنضس الروماني

v     كرامة الإنسان (أو شرفه) هي حسن عبادة الله وحفظ شرائعه... كرامة الحليم هي الفضيلة وحُسن الديانة. يقول الرسول (بولس) إن المجد والكرامة والسلام لمن يفعل الصلاح.

إن القوات الشريرة التي هي الشيطان وجنوده والتابعين له من الناس الخبثاء مع عجزهم أمام الذين يقاومونهم بشجاعة، إلا أنهم يفكرون بحيلٍ متنوعةٍ لكي بجودة كلام أفواههم وتعليقاتهم يخدعون الإنسان ويسقطونه في وهدتهم يسعون بقوة واشتهاء كثير في إقصائه وإزالة كرامته وجذبه إلى الكفر وإلى أعمال تخالف السنن المفروضة من الله. هذه التي من يخالفها يفقد كرامته ويصير كالبهائم التي لا عقل لها... وكما يقول باسيليوس الكبير إن كرامة المؤمن وثمنه الذي اشترى به هو دم المسيح. يجتهد اتباع الشيطان أن يعطوا هذا الثمن ويفسدوا حريتنا ويردونا إلى العبودية.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     تتعذب قلوب الأشرار بسبب كرامة المسيحيين. الآن يُكرم يوسف الروحي بعد بيعه بواسطة إخوته، بعد استبعاده عن بيته إلى مصر كما إلى الأمم، بعد إذلاله بدخوله السجن (تك 37: 36؛ 39: 20)، بعد تلفيق قصة بشهادة باطلة، بعد أن عبر على ما قيل عنه: "في الحديد دخلت نفسه" (مز 105: 18). الآن لم يعد يخضع لإخوة يبيعونه، إنما يمد الجائعين بالغلال. إذ غٌلبوا بتواضعه وطهارته وعدم فساده وتجاربه وآلامه يرونه مكرمًا.

القديس أغسطينوس

3. تأكيد الاتكال على الله      

إِنَّمَا للهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي،

لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي [5].

يحث داود النبي نفسه أن تنحني بروح الخضوع والتقوى لإرادة الله الصالحة، تخضع في صمت وتترجى مراحمه. فإنه ليس من يعيش مثله!

ِ يرى القديس أغسطينوس أن يدوثون، أي الذي يثب فوق الذين يحبون الزمنيات، يخضع لله الذي يهبه الاحتمال والصبر برجاءٍ في مواعيد الله الصادقة.

v     أي صبر يوجد هناك (في التجارب) وسط افتراءات خطيرة كهذه إلا "إن كنا نرجو ما لسنا ننظره، فإننا نتوقعه بالصبر" (رو 8: 25)؟

يأتي ألمي وهناك تحل راحتي أيضًا.

تأتي محنتي، ويأتي تطهيري أيضًا.

هل يتألق الذهب في الأتون الذي يقوم بتكريره؟ إنه يتألق في القلادة، يتألق في الحلي.

ليحتمل الذهب مهما كان الأتون، لكي ما ينتقي من النفايات ويأتي إلى النور. هذا هو الأتون، فإنه يوجد قش، ويوجد فيها ذهب، وتوجد نار وفيها ينفخ الذي يكرر. في الأتون يحترق القش، ويتنقى الذهب؛ واحد يصير رمادًا، والثاني يتنقى من النفايات...

وإن كان القش يحترق ضعني على النار كما لو لهلاكي، لكن يحترق القش وأنا أتنقى من النفايات. كيف؟ "إنما لله خضعت نفسي، فإن منه أجد صبري".

القديس أغسطينوس

إنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي.

مَلْجَإِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ [6].

يكرر هنا ما ورد في الآية [2] مع حذف كلمة كثيرًا، فإن كان في بدء صراخه إلى الله يعلن ثقته فيه أنه وإن تزعزع فلن يدوم هذا، لأن الله سند له، الآن يتكلم بأسلوب عام أنه "لا يتزعزع". لقد امتلأ قلبه بسلام أعظم، وهدأ عقله تمامًا! الحوار مع الله والحديث معه والتأمل في معاملاته ينمي فينا الرجاء، ويهبنا ثباتًا أعظم.

v     القوة على احتمال الشدائد وعدم الانزعاج هي من قبل الله، فإنه لا يهملنا حتى نتأذى فوق طاقتنا، لئلا نُنقل من العبودية له إلى العبودية لغيره.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     "لأنه هو إلهي وخلاصي ورافعي، فلا أتزعزع" [6 LXX]. إذ هو إلهي يدعوني؛ وإذ هو خلاصي يبررني؛ وإذ هو رافعي يمجدني. هنا أنا مدعو ومبرر وممجد، وحيث أنني أتمجد لا أتزعزع. نزيل أنا معك على الأرض مثلما كان سائر آبائي. لهذا فإنني أتحرك من مسكني، أما من بيتي السماوي فلا أتزعزع.

القديس أغسطينوس

عَلَى اللهِ خَلاَصِي وَمَجْدِي.

صَخْرَةُ قُوَّتِي مُحْتَمَايَ فِي اللهِ [7].

يرى المرتل في الله خلاصه ومجده وصخرة قوته وملجأه؛ إذ لم يعد يتطلع إلى الله لكي ينقذه من تجربةٍ معينةٍ أو ضيقةٍ حلت به، إنما يود أن يدخل في أحضانه ويتمتع بالشركة معه. هذا هو مجده وقوته!

v     سأخلص في الله، وأكون ممجدًا في الله؛ ليس فقط أخلص، وإنما أيضًا أتمجد. أخلص لأني أتغير من إنسان شرير إلى إنسانٍ بار؛ به أتبرر (رو 4: 2). إني أتمجد، إذ لست فقط أتبرر، وإنما أيضًا أكرَّم. "الذين سبق فعينهم، فهؤلاء دعاهم أيضًا... والذين دعاهم، فهؤلاء برَّرهم أيضًا... والذين بررهم، فهؤلاء مجدهم أيضًا" (رو 8: 30). ينتمي التبرير للخلاص، والتمجيد للكرامة.

القديس أغسطينوس

4. حث الآخرين على الاتكال على الله

تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ يَا قَوْمُ.

 اسْكُبُوا قُدَّامَهُ قُلُوبَكُمْ.

اللهُ مَلْجَأٌ لَنَا. سِلاَهْ [8].

يليق بنا أن نتكل على الله، ونسلم له كل أمورنا، ليس في أوقات الشدة وحدها، وليس فيما يبدو لنا أنها أمور هامة، إنما نُسلِّم له حتى الأمور التي تبدو لنا تافهة، وفي كل الأوقات. إننا نسكب قدامه قلوبنا أينما وجدنا، وتحت كل الظروف، سواء كانت أوقات ضيق أو حزن أو أوقات فرج وفرح!

v     عوض ثيابنا، لنسكب قلوبنا قدامه[11].

الأب ميثوديوس

v     هذا القول نبوة عن دعوة الأمم كافة. بقوله: "اسكبوا قلوبكم" يعني: اخرجوا من أنفسكم الأفكار الخبيثة والشر المؤذي، واعزلوها ونظفوا قلوبكم وطهروها.

يقول باسيليوس الكبير: لا يمكننا أن نتمتع بالروح الطاهر مادامت الأدناس في قلوبنا، وأيضًا حبوا الله بدون غش من كل نفوسكم ومن كل قلوبكم ومن كل نياتكم، فلا يعتري إيمانكم ريب أو شك في أن الله هو المعين. وأيضًا "اسكبوا قلوبكم" معناه ابذلوا جهدكم وفرغوا غايتكم للتضرع والابتهال لله.

السكب معناه الغزارة والوفرة، كقول الرسول إن محبة الله انسكبت في قلوبنا.

الأب أنثيموس الأورشليمي

جاءت كلمة "اتكلوا" عند القديس أغسطينوس "ترجوا". كلمة "الرجاء" في الأصل اليوناني تحمل سمة اليقين، وليس الرجاء بمعنى احتمال تحقيق الوعد أو عدمه، إنما الثقة في تحقيق الوعد الأكيد.

v     اقتدوا بيدوثون، ثبوا فوق أعدائكم، إذ هم بشر يحاربونكم، لكي يغلقوا طريقكم؛ إنهم يكرهونكم، فثبوا عليهم. "ترجوه يا كل مجلس الشعب، اسكبوا قدامه قلوبكم" [8]... وذلك بالتوسل إليه، والاعتراف له، والرجاء فيه. لا تحتفظوا بقلوبكم داخل قلوبكم؛ "اسكبوا قدامه قلوبكم". فما تسكبونه لا تهلكوه.

إنه رافعي. فإن كان رافعي. فكيف تخافون من السكب؟ "القِ على الرب همك، وترجاه" (راجع مز 55: 22)... "الله هو معيننا"، هل هم معادلون لله بأية كيفية؟ هل هم أقوى منه بأية وسيلة؟ الله هو معيننا، فلا تهتموا. إن كان الله معنا، فمن علينا؟ (رو 8: 31)

"اسكبوا قدامه قلوبكم"، بالوثب إلى فوق إليه، ورفع نفوسكم.

القديس أغسطينوس

إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ.

كَذِبٌ بَنُو الْبَشَرِ.

فِي الْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ.

هُمْ مِنْ بَاطِلٍ أَجْمَعُونَ [9].

يرى المرتل في الله خلاصه ومجده وصخرة قوته وملجأه؛ إذ لم يعد يتطلع إلى الله لكي ينقذه من تجربةٍ معينةٍ أو ضيقةٍ حلت به، إنما يود أن يدخل في أحضانه ويتمتع بالشركة معه. هذا هو مجده وقوته!

لما كان الإنسان يميل بالأكثر إلى الاتكال على الذراع البشري، والسلطة الزمنية والإمكانيات المادية، لهذا إذ يقارن المرتل بين الله والإنسان، لا يوجد وجهٌ للمقارنة. فالإنسان في حقيقته نفخة، وكل ما يقتنيه باطل. مهما بلغ عمر الإنسان، ومهما نال من مواهبٍ وقدراتٍ وإمكاناتٍ وسلطانٍ، إنما كخيال يتمشى على الأرض إلى حين. إنه باطل إن قورن بالله القدير والحق. مهما كان سلوك الإنسان، فإنه لن يتبرر بذاته أمام الله، لهذا بدون النعمة الإلهية يُحسب في الموازين إلى فوق.

يرى القديس أغسطينوس أن افتراءات الأشرار وشرورهم كثيرة ومختلفة فيما بينها مما تجعل الأشرار منقسمين، يحطمون بعضهم البعض، ويصيرون باطلاً.

v     كل ما في البشر باطل، سواء كان أموالاً أو ذكاء أو منازل أو مجدًا، لأنهم بالباطل هم منهمكون كلهم، وموازين قلوبهم مائلة وغير مستقيمة في اعتدال، ويميلون إلى الغدر بالناس... يقول أثناسيوس الجليل إن رؤساء اليهود كانوا بالموازين والمقادير يتحينون على المسيح خيانة، ويجتمعون بمؤامرات على إبادته، لكن حيلهم ومؤامراتهم بطُلت.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     لأن تقدمات الصوم التي نندفع فيها بلا تفكير تمزق أمعاءنا بعنف، ونحن حاسبون أنها تُقدم بطريقة سليمة للرب. لكن ذاك الذي "يحبُّ البرَّ والعدل (الإفراز)" (مز 5:33) يكره السلب في تقدمة المحرقة... الذين يسلبون النصيب الأكبر من تقدمتهم (إذ يصومون للكرامة البشرية)... تاركين النصيب الأصغر جدًا للرب، هؤلاء تدينهم الكلمة الإلهية كفعلة خادعين، قائلة لهم: "ملعون من يعمل عمل الرب بغش (برخاوة).." (إر  10:48).

 إذن ليس بغير سبب يوبخ الرب من يخدع نفسه باعتبارات غير صحيحة فيقول: "إنما باطل بنو آدْم. كذب بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق" (مز 9:62). لهذا يوصينا الرسول المبارك أن نقبض بزمام الإفراز ولا ننحرف إلى المغالاة في أي الطريقين (رو 3:12). ويمنع واهب الشريعة نفس الأمر قائلاً: "لا ترتكبوا جورًا في القضاء،ِ لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل" (لا 35:19). إذن يجدر بنا ألا تكون في قلوبنا موازين ظالمة، ولا موازين مزدوجة في مخزن ضميرنا، بمعنى أنه يجب علينا ألا نحطم من يلزمنا أن نكرز لهم بكلمة الرب، بشرائع حازمة مُغَالى فيها أثقل مما نحتملها نحن، بينما نعطي لأنفسنا الحرية ونخفف منها... لأنه إن كنا نزن لإخوتنا بطريقة ولأنفسنا بأخرى يلومنا الرب بأن موازيننا غير عادلة ومقاييسنا مزدوجة، وذلك كقول سليمان بأن الوزن المزدوج هو مكرهة عند الرب والميزان الغاش غير صالح في عينيه (راجع أم 10:20)[12].

الأب ثيوناس

لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الظُّلْمِ،

وَلاَ تَصِيرُوا بَاطِلاً فِي الْخَطْفِ.

إِنْ زَادَ الْغِنَى، فَلاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ قَلْبًا [10].

بسبب محبة المال والرغبة في زيادة الثروة يلجأ الإنسان أحيانًا إلى الغش والظلم، بل وإلى النهب والسلب. إن ظن الإنسان أن الظلم هو الطريق السهل والأسرع لتحقيق مكاسبه المادية، أفلا يفسد قلبه؟

v     رجائي هو في الله. نعم، فإني لا أقترب (إلى الشر) وأعبر "لا تتكلوا على الظلم" [10]. لكي أثب إلى فوق، أتكل على الله، فهل يوجد مع الله ظلم؟...

قد ينتعش الظلم إلى حين، لكنه لا يقدر أن يثبت.

"لا تتكلوا على الظلم، ولا تطمعوا في الخطف". أنت لست غنيًا، أتريد أن تسلب؟ ماذا تجد؟ وماذا تفقد؟

يا لها من مكاسب مفقودة! إنك تجد مالاً، وتفقد برًّا!

"لا تطمعوا في الخطف"... "طوبى للرجل الذي جعل الرب متكله، ولم يلتفت إلى الغطاريس (الأباطيل) والمنحرفين إلى الكذب" (مز 40: 4). نعم، إنك تريد أن تخدع؛ تريد أن ترتكب احتيالاً، ماذا تجلب لنفسك مقابل الغش؟... فإنه ليس الغش ولا الخطف تشتهيه بعد، ولا تضع اتكالك على هذه الأمور بعد.

القديس أغسطينوس

v     ليس فقط احذروا من الظلم والخطف، بل وإن جرى إليكم المال مثل سيل النهر فلا تشغلوا أفكاركم به. لأن المال هو شيء سائل لا يثبت.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     إنني أراكم قلقين فأحزن عليكم، وإذ يؤكد لنا الذي لا يخدع "إنما باطلاً يضجون". فإنكم تدخرون كنوزكم مفترضين نجاح مشروعاتكم، ناسين تمامًا الخسائر والمخاطر العظيمة والميتات الناجمة عن المثابرة في الحصول على كل أنواع الربح (إنني لا أتحدث عن ميتات الجسد بل الأفكار الشريرة، لأنه قد يأتي الذهب ولكنه بالحق يذهب، فتكتسون من الخارج ولكن تكونون عراة في الداخل). ولكن لكي ما تعبروا هذه كلها وعلى أشياء أخرى كهذه في هدوء، لكي تعبروا على كل الأشياء التي هي ضدكم، فكروا فقط في الظروف المناسبة (المفيدة). انظروا إنكم تدخرون كنوزًا، والأرباح تتدفق عليكم من كل جهة، وأموالكم تنساب كالينابيع. أينما ضايقكم الفقر فاض عليكم الغنى، ألم تسمعوا: "إذا وفرت ثروتكم، فلا تميلوا إليها قلوبكم" (مز 62: 10). ها أنتم تنالون أعمالاً مثمرة. ولكنكم تقلقون باطلاً[13].

القديس أغسطينوس

v     النفس هي التي تحكم الجسد وتعطيه حياة التي (بدونها) يكون بلا حياة ولا شعور. يوجد أيضًا الإنسان الأكثر سمُوًّا، الذي قيل عنه: "وأما (الإنسان) الروحي فيَحكم في كل شيء، وهو لا يُحكَم فيه من أحد" (1 كو 2: 15). مثل هذا يكون أكثر سموًا من الآخرين، وعنه يقول داود أيضًا: "فمن هو الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟ يصير الإنسان كباطلٍ" (مز 8: 5؛ 144: 3-4) الإنسان كصورة الله ليس باطلاً، لكن الذي يفقدها (صورة الله) ويسقط في الخطية، ويتعثر في الماديات، مثل هذا يشبه الباطل[14].

القديس أمبروسيوس

5. الله كلي القدرة والرحمة والعدل

مَرَّةً وَاحِدَةً تَكَلَّمَ الرَّبُّ،

وَهَاتَيْنِ الاِثْنَتَيْنِ سَمِعْتُ أَنَّ الْعِزَّةَ للهِ [11].

في استفاضة يتحدث القديس أغسطينوس عن هذه العبارة، مظهرًا الآتي:

أ. "مرة واحدة تكلم الرب"، فما تكلم به الرب مع آدم تحدث به مع قايين ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وكل الرسل. فالله غير متغير، وما ينطق به لا يتغير، إنما نحن نتغير. وكأن القديس أغسطينوس يؤكد أن الله ليس عنده محاباة، فإن خضعنا له في تواضع ننعم ببركاته، وإن عصيناه في تشامخ نسقط تحت الدينونة. الله محب البشر لا يتغير، لكننا نخضع أنفسنا تارة لمراحمه، ونسقط تحت فساد الخطية تارة أخرى.

ب. الآب الذي تكلم مع أولئك، تكلم مع الابن الوحيد، قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17). هذا هو الابن الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو 1: 3). إنه الابن مخلص العالم، ويود أن يتمتع الكل بسرور الآب به. جاء إلينا لننعم بسرور الآب ورحمته!

ج. يقول المرتل: "سمعت"، يشير إلى أنه ما يتكلم به ليس من عنده، إنما قد سمعه من ابن الله الوحيد الذي فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة (كو 2: 3).

د. الأمران اللذان سمعهما هما: إن العزة لله، وأنه رب الرحمة [11، 12].

v     هذان الأمران عظيمان بالنسبة لنا: "أن العزة (السلطان) لله، ولك يا رب الرحمة". هل هذا هما الأمران: السلطان والرحمة؟ إنهما الأمران كما هو واضح: لتدركوا سلطان الله، ولتدركوا رحمة الله! ففي هذين الأمرين يحتوي تقريبًا كل الأسفار المقدسة.

من أجل هذين الأمرين جاء الأنبياء، وبسببهما جاء الآباء، وبسببهما الناموس، وبسببهما جاء ربنا يسوع المسيح، وبسببهما جاء الرسل، وكل الذين يكرزون وينشرون كلمة الله في الكنيسة... لتخافوا سلطان الله، ولتحبوا محبته.

لا تعتمدوا على رحمة الله هكذا بأن تستخفوا بسلطانه، ولا تخافوا سلطانه هكذا بأن تيأسوا من رحمته. معه السلطان، ومعه الرحمة!

القديس أغسطينوس

ما هما الأمران اللذان يخصان الله؟ الأمر الأول هو قدرة الله الكلية، فهو إله المستحيلات. لا يمكن أن نستبدله بآخر، إذ هو السند الحقيقي القادر على الخلاص.

يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن القول الواحد هو أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، وهو يحتوي على أمرين، هما عذاب الأشرار ومكافأة الصديقين.

وَلَكَ يَا رَبُّ الرَّحْمَةُ،

لأَنَّكَ أَنْتَ تُجَازِي الإِنْسَانَ كَعَمَلِهِ [12].

هذا هو الحديث الثاني عن الله فمع قدرته الكلية، رحمته أيضًا فائقة وبلا حدود. وخلال هذه الرحمة يحقق أيضًا العدل الفائق. هذان الأمران يتفقان معًا، ويتلاثما على الصليب. بصليبه يحمل خطايانا، فيحقق العدالة الإلهية، ويقدمنا بحبه ورحمته حاملين برَّه قدام الآب.

v     "هذا يضعه وهذا يرفعه" (مز 75: 7)؛ يضع هذا بالسلطان، ويرفع ذاك بالرحمة.

"إن كان الله، وهو يريد أن يظهر غضبه، ويُبيَّن قوته، احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك" (رو 9: 22). لقد سمعتم عن السلطان، اسألوا عن الرحمة، إذ يقول: "ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة" (رو 9: 23). إدانة الظالمين تنتسب لسلطانه...

الشيطان هو نوع من السلطان، كثيرًا ما يريد أن يؤذي، لكنه يعجز، لأن هذا السلطان هو تحت سلطان. فلو كان الشيطان قادرًا أن يؤذي قدر ما يريد، لما بقي إنسان بار واحد، ولما وُجد مؤمن واحد على الأرض. نفس الأمر بالنسبة لآنيته التي يضربها (الشيطان) لتكون كحائط يُنقض، لكنه يضرب قدر ما ينال من سلطان. ولكي لا تسقط الحائط يعينهم الرب، فإن ذاك الذي يعطي للمجرِّب سلطانًا هو نفسه يهب المُجرَّب رحمة. فيُسمح للشيطان أن يُجرِّب، ولكن بقدرٍ معين. "سقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5).

لا تخافوا إذن من المجرِّب الذي يُسمَح له في حدود، إذ لكم المخلص الكليّ الرحمة. فإنه يسمح بالتجربة بالقدر الذي فيه نفعكم، لكي ما تُمتحنوا وتتزكوا... يقول الرسول: "الله أمين، الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 10: 13)...

لا تخافوا من العدو، فإنه إنما يعمل قدر ما ينال من سلطان، بل خافوا ذاك الذي له السلطان الأعظم...

يا لعظم الصالحات التي يخرجها ذاك البار من الشرور التي يمارسها الظالمون. هذا هو سرّ الله العظيم! فإنه حتى الأمور الصالحة التي أنتم تفعلونها هو يعطيها لكم، ويستخدم شرور (الأشرار) لصالحكم. إذن لا تتعجبوا إن كان الله يسمح (بالتجارب)، وبتمييز يسمح. إنه يسمح، ولكن بقياسٍ معين، وعدد معين، ووزنٍ معين. معه لا يوجد ظلم؛ لتعملوا فقط ما يليق به، ولتتكلوا عليه، وليكن هو سندكم وخلاصكم. ليتكم تجدون فيه حصنًا، وبرج القوة وملجأ، فهو لا يسمح لكم أن تُجربوا فوق ما تحتملون، بل يجعل مع التجربة المنفذ، فيمكنكم أن تواجهوها!

القديس أغسطينوس

v     ذهب أحد الأراخنة إلى الأب بالليديوس لزيارته، لأنه كان قد سمع عنه. وكان قد أخذ معه كتابةً مختزَلة خاطب فيها نفسه قائلاً: ”إنني سأعرِّف نفسي للأب ولكِ، وستلاحظين باهتمام ما سيقوله لي“. ولما دخل الأرخن قال للشيخ: "صلِّ لأجلي أيها الأب، لأنّ عندي خطايا كثيرة." فقال الشيخ: "يسوع المسيح وحده هو الذي بلا خطية." فقال الأرخن: ”هل مفروض علينا، أيها الأب، أن نُعاقَب على كل خطية؟" فأجاب الشيخ: ”مكتوبٌ: "أنت تجازي كل واحدٍ حسب أعماله" (مز62: 12)". فقال الأرخن: "اِشرح لي هذا القول." فقال الشيخ: "إنه يشرح نفسه، ومع ذلك فاسمع تفسيره بالتفصيل: هل ضايقتَ جارك؟ انتظر أن تتلقّى المثيل. هل سلبتَ خيرات المتواضعين؟ هل ضربتَ مسكينًا؟ سيكون وجهك مغطّى بالخزي يوم الدينونة. هل أهنتَ أو افتريتَ أو كذبت؟ هل عزمتَ على الزواج بامرأة شخص آخر؟ هل أقسمتَ بيمين كاذبٍ؟ هل طرحتَ عنك منهج الآباء؟ هل أخذتَ ما يخص اليتامى؟ هل ظلمتَ الأرامل؟ هل فضّلتَ المسرات الحاضرة على الخيرات الموعودة؟ فانتظر أن تتلقّى ما يقابل كل ذلك، لأنّ الإنسان يحصد مثل البذار التي يزرعها. كما أنك بالتأكيد إذا فعلتَ خيرًا فانتظر أن تتلقّى بالمقابل أكثر منه كثيرًا حسب القول نفسه: "أنت تجازي كل واحدٍ حسب أعماله«. فإذا ذكّرت نفسك بذلك كل أيام حياتك يمكنك أن تتحاشى ارتكاب معظم الخطايا".

ثم سأله الأرخن: "ما الذي ينبغي عمله أيها الأب؟" فقال الشيخ: "فكّر في الأمور الأبدية والخالدة الباقية التي لا يوجد فيها ليل ولا نوم. ضع أمامك الموت الذي لا يوجد بعده طعام ولا شراب الذي هو بسبب ضعفنا. ولن يكون هناك مرض ولا أوجاع ولا طبّ ولا محاكم ولا تجارة ولا غِنَى ولا علّة الشرور ولا مبرر للحروب ولا جذر الحقد. هذه ستكون أرض الأحياء لا للذين ماتوا في الخطية، بل للذين يعيشون حياة أبدية في المسيح يسوع“. فتأوّه الأرخن وقال: "حقًا أيها الأب، إنّ الأمر هو تمامًا كما قلت." وإذ اقتنع جدًا رجع إلى مسكنه شاكرًا الله.

فردوس الآباء

 


 

من وحي مز 62

صخرتي وخلاصي وملجأي أنت!

v     تسبِّحك نفسي يا أيها المبدع القدير،

بحبك خلقت هذا العالم الجميل،

لأقطن فيه إلى حين.

هب لي أن أثب إلى فوق بروحك القدوس.

فلا أشتهي شيئًا من كل ملذات الحياة.

ولا أنحدر لأدخل في صراع مع من استعبدهم العالم.

لكنني أثب كما إلى السماء،

وأستقر في أحضانك الإلهية،

فأنت هو صخرتي، وخلاصي، وملجأي، ومجدي!

v     من يقدر أن يتسلل إليَّ وأنا في أحضانك.

أية سهام نارية لإبليس يمكنها أن تلحق بي!

تود قوات الظلمة أن تهدمني،

فأصير كحائط نُقض تمامًا،

أو كجدارٍ انهار وسقط!

يتآمر الأشرار عليَّ ظلمًا

ينطقون بالناعمات،

وقلوبهم ذئبية قاتلة!

بأفواههم ينطقون بالبركة،

وقلوبهم ترشق اللعنات.

لكن أنت هو متكلي،

وبك وحدك أترجى!

v     ليبث العدو ظلمه عليَّ،

فهذا من طبعه.

لكن تبقى رحمتك سندًا لي.

لن تسمح للعدو أن يهاجمني فوق طاقتي.

إن كان يظن أنه صاحب سلطان،

فسلطانك أعظم!

v     لن أخشى العدو مادمت في أحضانك!

تهبني النصرة عليه بغنى نعمتك!

تكللني بأكاليل المجد التي تعدها لمؤمنيك.

تحول تجارب العدو لمجدي بك وفيك.

لك العزة يا صاحب السلطان، ويا رب الرحمة!

<<

 

 

 

اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ

إليك عطشتُ يا إلهي!

كان داود النبي في برية يهوذا حين تغنى بهذا المزمور. كان مُستبعدًا من مقدس الله (خيمة الاجتماع)، يعيش طريدًا لا مأوى له، مع أن الله أرسل نبيه ومسحه ملكًا. لقد عبَّر المرتل في هذا المزمور عن شوقه النابع من أعماق قلبه نحو الله، والسكنى في بيت الرب وفي مدينة الله.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن آباء الكنيسة الأولى كانوا يرون أنه لا يجوز أن يعبر يوم دون الترنم بهذا المزمور في اجتماعات عامة. هكذا لا يليق بالكنيسة أن تكف عن التسبيح به كل يوم. إنه دواء يلهب فينا الشوق نحو الله. لهذا دعته الكنيسة الأولى: "مزمور الصباح".

v     منذ عصور مبكرة كان المزمور 62 (63) يُستخدَم في الشرق والغرب كتسبحة صباحية. في قوانين الرسل في الشرق (2: 49؛ 8: 37) لا يزال يُحسب أحد مزامير صلوات العشية Lauds، وهكذا أيضًا في الغرب حسب الطقس الروماني. (لكن في أيام كاسيان واضح أنه نقل من صلاة العشية إلى باكر) [15].

القديس يوحنا كاسيان

يُقدم هذا المزمور كذبيحة شكر لله [2-6]، مع الاعتراف بالثقة العظيمة والاتكال عليه [7-8].

أقسامه

1. عطش نفس المرتل إلى الله      1-4.

2. شبع النفس بالله                 5-7.

3. ثقة النفس واتكالها على الله     8-11.

العنوان

مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ لَمَّا كَانَ فِي بَرِّيَّةِ يَهُوذَا

جاء في عنوانه أن المرتل "كان في برية يهوذا". وقد انقسم الدارسون إلى أكثر من فريق. اعتقد البعض أن هذا المزمور وُضع أثناء اضطهاد شاول له، وآخرون اعتقدوا أنه أثناء تمرد ابنه أبشالوم. ففي كلتا الفترتين غالبًا ما كان داود في مناطق نائية في يهوذا. الفريق الأول يشير إلى 1 صم 23: 14، 25؛ 24: 1؛ يش 15: 55، 62. ويؤكد أن غابة حارث Hareth وبرية زيف ومعون Moan وعين جدي، كلها مناطق تتبع سبط يهوذا. أما الفريق الثاني فيقتبسون 2 صم 15: 23، 28؛ 16: 2، 14؛ 17: 16، 29، ليؤكدوا أن العنوان يشير إلى فترة متأخرة، أي إلى تمرد أبشالوم[16]. يعتمد الفريق الثاني على دعوة الكاتب نفسه ملكًا، أي تسلم الحكم [11].

في هذا المزمور يظهر شوقه إلى الله، كما يتنبأ عن هلاك شاول.

هذا المزمور يناسب كل نفسٍ في حالة قفر، خالية من كل خير، برجوعها إلى السيد المسيح تحظى بكل نعمةٍ.

1. عطش نفس المرتل إلى الله

يَا اللهُ إِلَهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ.

عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي.

يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ [1].

ليس بالأمر العجيب أن يُستبعد رجال الله مثل داود النبي وغيره من التمتع بالشركة مع الجماعة المقدسة في الخدمة الكنسية الجماعية (عب 11: 37-38). استبعادهم بالجسد يلهب بالأكثر قلوبهم ونفوسهم كما أجسادهم بالشوق نحو الله.

في وسط البرية حيث لا عون بشري يمكن أن يسنده يتطلع المؤمن إلى الله أنه إلهه الشخصي؛ يفتح عينيه في الصباح الباكر مع عيني نفسه ليعلن شوقه له.

في وسط ضيقه شعر المرتل أنه قد فقد أمورًا زمنية، وصار طريدًا ومُضطهَدًا، محرومًا حتى من العبادة الجماعية، لكن لن تستطيع كل هذه الظروف أن تحرمه من الله القدير، ضابط الكل، صديقه الشخصي. لقد جفت كل الينابيع البشرية، فصارت عاجزة عن تقديم تعزيات ومعونة لداود، لكن بقي الينبوع الإلهي المفتوح له، لن يجف قط.

v     غالبًا ما ينسب الأنبياء لأنفسهم ذاك الذي هو إله الجميع بهذه الكلمات: "يا الله إلهي أنت، إليك أبكر" (مز 63: 1). علاوة على هذا فإن هذه اللغة تعلمنا أن كل فردٍ بعدلٍ عليه دين عظيم من الامتنان نحو المسيح، كمن جاء خصيصًا لهذا الشخص وحده. فإنه ما كان يتمنع عن تنازله هذا ولو من أجل شخصٍ واحدٍ فقط. مقياس حبه لكل أحد عظيم جدًا قدر حبه للعالم كله[17].  

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     هذا هو صوت القديسين وحدهم، الذين لهم الله إلههم، إذ هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. لا يستطيع أحد أن يقول إن الرب الإله هو إلهه إن كانت معدته هي إلهه، أو جشعه هو إلهه، أو مجد هذه الحياة هو إلهه، أو افتخار هذا العالم أو قوة الأمور الزمنية. لأن ما يتعبد له الإنسان أكثر من غيره يحسب هو إلهه[18].

العلامة أوريجينوس

v     يكرر النبي اسم الله ليظهر عظم شوقه إليه. وبقوله "إلهي"، بياء التخصيص التي للإضافة ليظهر أن إله الكل هو إله الصديقين بأكثر تخصيص.

بقوله: "أبكر"، كأنه يقول: شوقي إليك يا سيدي يوقظني من النوم باكرًا وقبل كل عمل جسدي آتي إليك بالصلاة.

قوله: "عطشت إليك نفسي" معناه: أنت الذي تدعو إليك الظماء لكي ترويهم من ماء الحياة. فكما يشتهي الظمآن إلى الماء، هكذا تشتهي نفسي البلوغ إليك بالصلاة أو بالرجوع إلى أورشليم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     بالرغم من أن نفسي تعطش إليك، فإنني بالأكثر أبحث عنك بتعب الجسد، وإن كنتُ غير قادر على التطلع إليك في هيكلك[19].

القديس جيروم

v     أنتم ترون كيف أن (يعقوب) لم يستمر في صراعه حتى ظهور النهار (تك 32: 26). ففي الحقيقة لا يوجد صراع للذين يعيشون في النور. إنه يليق بهؤلاء الذين يبلغون إلى مثل هذه العظمة أن يقولوا: "يا الله إلهي، إني أترقبك من النور" (مز 63: 1 LXX). كما يضيف: "في الغداة تسمع صوتي، في الغداة انتظرك وأنت تراني" (راجع مز 5: 1). عندما يشرق نور الصباح، أي المسيح، في أذهاننا، ويبعث بهاءه في قلوبنا، ننتظر كنفوسٍ نبيلةٍ ونتأهل للاهتمام الإلهي بنا. "عينا الرب على الأبرار" (مز 5: 3). عند الفجر يتوقف الصراع[20].

القديس كيرلس الكبير

v     يعطش الله إلى عطشك إليه!

القديس غريغوريوس النزينزي

v     هنا برية حيث يوجد فيها عطش كثير. وها أنتم تسمعون صوت ذاك الذي هو في ظمأ الآن في البرية. لكن إن عرفنا أنفسنا كعطشى، فسنعرف أنفسنا كمن يشربون أيضًا. فإن من يعطش في هذا العالم فسيرتوي في العالم القادم، وذلك كقول الرب: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنهم يشبعون" (مت 5: 6). لهذا يليق بنا ألا نحب الشبع في هذا العالم، فإننا ستشبع في موضع آخر. لكن الآن لكي لا نضعف في هذه البرية، يرش علينا ندى كلمته، ولا يتركنا تمامًا لنجف... لكي نشرب بنوعٍ ما من نعمته يرش علينا، ومع هذا فنحن نعطش.

v     عطشتْ إليك نفسي؛ إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء" (مز 63: 1). إن النفس والجسد يعطشان إلى الله... فيعطي الله النفس خبزها الذي هو كلمة الحق، ويعطي الجسد احتياجاته، لأن الله خالق كليهما!

القديس أغسطينوس

إذ يعطش المرتل إلى الله ليلاً ونهارًا، يبقى الليل ساهرًا، حيث تعلن النفس شوقها لله، حتى يشرق شمس البرّ عليها. هكذا يليق بنفوسنا أن تسهر على الدوام، تعلن عن عطشها لله.

v     يهب الله الجسد نومًا، حتى تتجدد طاقة أعضاء الجسم، فتصير قادرة على مساندة النفس في سهرها. لكن يلزمنا أن ننتبه إلى هذا، أي لا تنام نفوسنا ذاتها، فإن نوم النفس هو شر. صالح هو نوم الجسد الذي يجدد صحة الجسم. وأما نوم النفس فيعني نسيانها لإلهها. عندما تنسى النفس إلهها تنام. لهذا يقول الرسول: "استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح". (أف 14:5).

القديس أغسطينوس

v     "استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح". (أف 14:5).

هل كان الرسول يوقظ إنسانًا نائمًا بالجسد؟

لا، بل يوقظ نفسًا نائمة، لكي تسير وتستضئ بالمسيح.

هكذا بنفس الطريقة يقول هذا الرجـل: "يا الله، إلهـي أنت، إليك أبكر" (مز 1:63)... فالمسيح يضيء النفوس، ويجعلها مستيقظة، لكن إنْ أَبْعدَ نوره تنام.

 ولهذا السبب يقول مزمور آخر: "أَنِرْ عيني لئلا أنام نوم الموت" (مز 3:13).

القديس أغسطينوس

v     يا إلهي وحياتي! لقد سُبي فكري بالحديث معك، فإنه ليس لي من أتحدث معه خارجًا عنك!

 ماذا أفعل؟ نفسي عطشي إليك، ولحمي يبتغيك (مز 2:63).

بالحديث معك يمكن الصعود إليك، وبالتفكر فيك تُوهب رؤية وجهك[21].

v     إنني عطشان إلى مياه الحياة، لأنني لم أجرِ بعد إلى ينبوع الحياة!

لقد دعاني مع إخوتي قائلاً: إن عطش كان فليأتِ ويشرب!

وهوذا النبي ينخسني وقد بّح حلقه من صراخه إلي قائلاً: يا كل العطاش امضوا إلى مياه الحياة، فإن الذين يشربون منه بغير شبع تجري من قلوبهم أنهار ماء حي.

الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)

v     جاءت رفقة إلى هذا النبع لتملأ جرَّتها ماءً، إذ يقول الكتاب المقدس: "فنزلت إلى العين، وملأت جرَّتها وطلعت" (تك 24: 16). وهكذا أيضًا نزلت الكنيسة أو النفس إلى نبع الحكمة، لتملأ جرَّتها، وترفع تعاليم الحكمة النقية التي لم يرغب اليهود أن يرفعوها من الينبوع الفائض. أصغوا إليه، إذ يقول الينبوع نفسه: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية" (إر 2: 13).

تعطش نفوس الأنبياء إلى هذا الينبوع، فيقول داود: "عطشت نفسي إلى الله الحيّ" (مز 42: 2-3)، لكي يروي ظمأه بغنى معرفة الله ويغسل دم الحماقة بمياه المجاري الروحية. لأن هذا هو فيض الدم كما يشير الناموس (لا 20: 18)، والذي يُستبان حينما يضطجع رجل مع امرأة طامث. فالمرأة (هنا تشير إلى) البهجة وفتنة الجسد. احترس لئلا يُقوض ثبات فكرك، ويلين باللذة الجسدية التي للاضطجاع. فتذوب باحتضانها تمامًا، وينفتح ينبوعها الذي يجب أن يُغلَق ويوصد بالنية الغيورة والتعقل المتزن. أنت "جنة مغلقة، عين مختوم"، (نش 4: 12). فإنه إذ ينحل ثبات الفكر تتدفق أفكار اللذات الجسدية الضارة للغاية، المتهيجة إلى شهوة جامحة نحو خطر مميت. لكن متى صارت لنا اليقظة الواعية لحراسة الفكر الحيّ، تُضبط (اللذات الجسدانية)[22].

القديس أمبروسيوس

لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ،

كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ [2].

الآن إذ صار جسد المُرَتِّل كبرية قاحلة عطشى إلى الله الينبوع الحقيقي، فاشتهى أن يظهر أمام الهيكل، ويرى قوته ومجده. هنا كلمة "أُبصر" تعني أن يختبر ويتمتع بقوة الله ومجده (مز 27: 13؛ 34: 8، 12؛ مت 5: 8؛ يو 3: 36).

يرى القديس أغسطينوس أنه إذ تشتاق نفس المؤمن إلى الله يذهب إلى بيت الرب، ويتراءى قدامه، فينعم بنظر قوة الله ومجده. أو بمعنى آخر كما يقول الرسول إذ نعرف الله بل بالحري نُعرَف من الله (غل 4: 9). ففيما نحن نعطش إلى التعرف عليه، نكتشف أن مسرة الله أننا معروفون منه.

v     لنظهر أولاً لله، لكي ما يمكن لله أن يظهر لنا. "لكي أبصر قوتك ومجدك". بالحقيقة، إذ يترك الموضع، أي تلك البرية، وكأن الإنسان يجاهد في البرية لينال عونه الكافي، وإلا فلا يرى قوة الرب ومجده، بل يبقى ليموت من العطش، فلا يجد الطريق، ولا التعزية، ولا الماء الذي به يحتمل الوجود في البرية. ولكن إذ يرتفع إلى الله، حيث تقول له كل أعضائه الداخلية: "عطشت إليك نفسي، ويشتاق إليك جسدي بكل أعضائه! لئلا لا يطلب ما هو لله بل ما هو لغيره، فلا يشتاق إلى قيامة الجسد التي وعد بها الله، بهذا إذ يرتفع تكون له تعزية ليست بقليلة.

القديس أغسطينوس

يرى العلامة أوريجينوس أن الابن هو قوة الآب، كقول الرسول بولس (1 كو 1: 18)، وهو حكمة الله ومجده. فالمرتل يشتهي أن يرى المسيح وتدبير تجسده.

v     كما أن الأرض البرية تعطش إلى الماء، هكذا أشتهي أنا إلى المجيء إلى أورشليم حيث مظلة قدسك.

وأما أثناسيوس الجليل وأوريجينوس وغيرهما فقالوا إن معنى قول النبي هو: إن البرية القفرة لم تمنع شوقي إليك، بل أُصلِّي إليك، وأُسبَّحك فيها كما أُسبِّحك في أورشليم، طالبًا أن أتمتع بحضرتك، وأعاين عجائبك التي تُظهِر قوتك ومجدك.

الأب أنثيموس الأورشليمي

لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَاةِ.

شَفَتَايَ تُسَبِّحَانِكَ [3].

يرى المرتل أن الموت مع التمتع بحب الله وحنوه، خير من الحياة بدونهما، فالحياة لا قيمة لها بدون الحب الإلهي!

يقول القديس أثناسيوس إن من يتقدم إلى المسيح يُفَضِّل رحمته وتسبحته عن طول العمر.

v     حياة الناس كثيرة (متنوعة)، لكن حياة واحدة يعد بها الله؛ يهبها لنا لا عن استحقاقاتنا، بل من أجل رحمته... فإنه بعدلٍ يعاقب الخاطئ، وبرحمة الله لا يعاقب الخاطئ بل يبرره، ويقيم من الخاطئ إنسانًا بارًا، ومن الظالم إنسانًا صالحًا...

"شفتاي تسبحانك" [3]. لا يمكن لشفتي أن تسبحانك، ما لم تتحرك رحمتك أمامي. بعطيتك أنا أُسَبِّح، وبرحمتك أُسبِّحك. فإنه لا يمكنني أن أُسَبِّح الله إن لم يهبني القدرة على تسبيحه.

القديس أغسطينوس

هَكَذَا أُبَارِكُكَ فِي حَيَاتِي.

بِاسْمِكَ أَرْفَعُ يَدَيَّ [4].

يقدم المرتل نذرًا أنه مادام حيًا يعلن عن مجد الله.

رفع اليدين أثناء الصلاة عادة قديمة كثيرًا ما وردت في العهد القديم. وهي لا تعني الطلبة من الله فحسب، وإنما إشارة تُعبِّر عن الشكر لله (مز 134: 2). هنا يرفع المرتل يديه لا ليطلب شيئًا، بل يطلب الله نفسه موضوع عطشه الداخلي، بل وعطش جسده إليه، يود أن يتراءى أمامه ويسبحه ويمجده.

رفع اليدين أو العينين نحو السماء (يو 17: 1)، يحمل مشاركة الجسد النفس في شوقها نحو الله. إنه طقس تعبدي يُعبِّر عن العبادة لله (مز 134: 2) أو سؤاله أمرًا ما (مز 28: 2). وقد استخدم العهد الجديد نفس اللغة (1 تي 2: 8).

v     من كانت معتقداته بالله مستقيمة وديانته حسنة، فإنه يرفع يديه، أي قواته العملية ترتفع من الأرضيات إلى السماويات وذلك باسم الرب، ويمدح بشفتيه، ويسبحه بفمه، ويرتل له بروحه وعقله.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يرى القديس أغسطينوس أن الله إذ يهب المؤمن حياة جديدة مقدسة، فهو يُسَبِّح الله بشفتيه، ويبارك الله بحياته، أي يشهد لصلاح الله ورحمته خلال سلوكه.

نمجد اسم الرب برفع أيادينا، أي بسطها للعمل حسب وصيته، وإرادته المقدسة.

v     لترفعوا أياديكم في الصلاة. رفع ربنا يديه على الصليب لأجلنا، ولهذا بسط يديه لأجلنا... لكي نبسط نحن أيادينا للأعمال الصالحة.

انظروا، إنه يرفع يديه، ويقدم نفسه ذبيحة لله (الآب)، وخلال تلك الذبيحة محا كل خطايانا. ليتنا نرفع نحن أيادينا لله في الصلاة.

أيادينا هذه المرفوعة لله لا تخزى إن كنا نمارس الأعمال الصالحة... يقول الرسول: "رافعين أيادي طاهرة، بدون غضب ولا جدال" (1 تي 2: 8).

القديس أغسطينوس

2. شبع النفس بالله

كَمَا مِنْ شَحْمٍ وَدَسَمٍ تَشْبَعُ نَفْسِي،

وَبِشَفَتَيْ الاِبْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي [5].

لم يكن ممكنًا للظروف القاسية التي عانى منها المرتل أن تحرم نفسه من الشعور بالشبع والاكتفاء بالله، ولا أن تغلق فمه عن التسبيح له بشفتين مبتهجتين.

تربط الكنيسة الأرمنية هذا المزمور بليتورجية الإفخارستيا وذلك بسبب هذه العبارة [آية 5].

v     كلمة "بدسم fat" مشتقة من fatty، أي "الغنى". فكما أن النفس التي تتغذى على الأمور الصالحة ومُفعمة بالفضائل، تمتلئ كما من دسمٍ وغنى، كما هو مكتوب، هكذا الشر الذي يصدر كما من الدسم لا يُشار إليه أنه خفيف thin وفقير بل مملوء بالرذائل[23].

القديس جيروم

v     كما أن الشحم والدسم يعطيان الجسد لذة بأكلهما، ويسمنانه، هكذا مدحك يا الله وتلاوة أقوالك الإلهية تلذذ النفس، وتبهج الشفاه، وتحث الفم على تسبيحك...

بقوله: "تمتلئ نفسي" يدل على أن الطعام في الآخرة ليس حسيًا كما ظن البعض، لكنه روحي، لأن النفس لا تتغذى بأطعمة حسية بل روحية. هذه الأطعمة هي مشاهدة مجد الله ودوام الفرح الأبدي.

الأب أنثيموس الأورشليمي

إِذَا ذَكَرْتُكَ عَلَى فِرَاشِي،

فِي السُّهْدِ أَلْهَجُ بِكَ [6].

إن كان مع الفجر يُسَبِّح الله معلنًا شوق نفسه كما جسده إليه، فإنه يبقى طول اليوم مشغولاً به، فيذْكره على فراشه، ويشغله حتى في نومه، فيفتح عينيه على التأمل في الله. صورة رائعة للعطش إلى الله نهارًا وليلاً.

جاء في قوانين الرسل (ك 2: 59) إن المؤمنين كأعضاء المسيح يليق بهم أن يشتركوا في صلوات الكنيسة النهارية والليلية: [لا تهملوا في أنفسكم، ولا تحرموا مخلصكم من أعضائه، ولا تقسموا جسده، ولا تشتتوا أعضاءه، ولا تُفَضِّلوا مناسبات هذه الحياة عن كلمة الله، بل اجتمعوا أنتم أنفسكم معًا كل صباح ومساء، ورتلوا المزامير، وصلوا في بيت الرب، رددوا في الصباح المزمور 62 (63 في العبرية)].

v     يعلمنا النبي أنه حتى في الفراش وبالأسحار وفي كل وقت نذكر الله، فتهرب منا الأفكار الشريرة من ذاكرتنا كما تهرب الظلمة بحضور النور.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     يليق بنا أن نذكر الله على الدوام، خاصة عندما يكون الفكر غير مُضطرِب، وحين يُمكن للإنسان بهذا التذكُّر أن يدين نفسه، عندما يقدر الإنسان أن يسترجع هذه الأمور في ذاكراته. فإنه في وقت النهار إن أردنا أن نتذكرها ففي الحقيقية تتدخل بعض الاهتمامات الأخرى والمتاعب وتسحب الفكر خارجًا. أما في الليل فيمكن أن يستمر التذكر على الدوام، إذ تكون النفس هادئة ومستريحة، عندما تكون في الميناء تحت سماء صافية.

إن كنا في الصباح الباكر نتأمل في هذه الأمور نذهب إلى أعمالنا في أمانٍ عظيمٍ. إن كنا نجعل الله أولاً هو المعين بواسطة الصلاة والطلبة، نسلك هكذا دون أن يكون لنا عدو. وإن وُجد عدو فإنك تسخر منه، وتحتقره، إذ يكون الله معينًا لك[24].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس أغسطينوس كلمة "فراشي" هنا تشير إلى الراحة، فإننا إن كنا نذكر الله وسط المتاعب، يليق بنا أن نذكره عندما ننعم بالراحة.

الفجر هو وقت للراحة حيث يكون الإنسان مُستغرقًا في النوم، أما المؤمن فيجد راحته في العمل والتسبيح لله.

نلهج به في الفجر، أي بمجرد إشراق نور شمس البرّ علينا.

v     ليس أحد يعمل في الفجر إلا ذاك الذي يعمل في المسيح. أما ذاك الذي يفكر في المسيح في وقت الراحة، فإنه يتأمل فيه في كل تصرفاته، ويكون المسيح معينًا له في العمل الصالح، حتى لا يفشل بسبب ضعفه.

القديس أغسطينوس

لأَنَّكَ كُنْتَ عَوْنًا لِي،

وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَبْتَهِجُ [7].

ما هو العون الذي قدمه الله لداود، وما هو ستر جناحيه الذي وهبه فرحًا، سوى وجود الشبع والبهجة بالله نفسه.

v     ليس شيء أفضل من المخزن الذي تتقبله مثل هذه الصلوات. اسمع النبي يقول: "إن كنت أذكرُك على فراشي، أُفكِّر فيك في فجر الصباح"[25].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     الذين لم يميزوا طعم الأكل لشدة المعارك تتمتع نفوسهم بحلاوة الخالق[26].

 القديس يوحنا سابا

v     أنا مبتهج بالأعمال الصالحة، لأن ظل جناحيك عليَّ. إن لم تحمِني فإن الحدأة تقبض عليَّ بكوني دجاجة صغيرة. فإن ربنا نفسه يقول لأورشليم في موضع معين: "يا أورشليم، يا أورشليم... كم مرَّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37). صغار نحن؛ ليت الله يحمينا تحت ظل جناحيه. وماذا عندما ننمو أكثر؟ حسن لنا أنه حتى بعد ذلك يبقى يحمينا، فنكون دومًا صغارًا وهو الأعظم. إنه دائمًا هو الأعظم مهما بلغ نمونا.

القديس أغسطينوس

v     جناحا الله هما رحمته وعنايته بالبشر، وأيضًا هما الكتب الإلهية التي كل من يدرسها ويُنَفِّذ ما بها يرتفع إلى السماء ويستتر بها.

الأب أنثيموس الأورشليمي

3. ثقة النفس واتكالها على الله

اِلْتَصَقَتْ نَفْسِي بِكَ.

يَمِينُكَ تَعْضُدُنِي [8].

غاية المرتل من الترنم لله وسط الضيقة، ليس أن ينزع عنه الضيق، بل أن يلتصق بالله إلهه، ليحتضنه بيمينه، ويعلن له عن نفسه. أنه يود الشركة مع الله، والاستنارة به، والالتصاق به إلى الأبد.

السير مع الله يلهب بالأكثر الشوق إليه، فينسى المؤمن كل ما هو حوله، ويعطش إلى الله، فيلتصق به.

في رسالة بعثها القديس جيروم إلى ديمترياس، إحدى شريفات روما التي نذرت نفسها لحياة البتولية، أوضح لها أن من يلتصق بالعالم يجد صعوبة في النمو الروحي، أما من يلتصق بالله فالطريق بالنسبة له سهل. [لتحبي أن تشغلي ذهنكِ بقراءات من الكتاب المقدس... لتقولي دائمًا مع العروس التي في نشيد الأناشيد: "في الليل طلبت من تحبه نفسي... أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى، أين تربض عند الظهيرة" (نش 3: 1؛). ومع المرتل: "التصقت نفسي بك، يمينك تعضدني" (مز 63: 8). ومع إرميا: "لم أجد صعوبة... أن اتبعك" (إر 17: 16 LXX)، لأنه "ليس حزن في يعقوب، ولا رأى تعبًا في إسرائيل" (عد 23: 21 LXX). حين كنتِ في العالم أحببت أمور العالم[27].]

v     يتفق هذا القول مع ما قاله إرميا النبي: "وأنا لم اضطرب راعيًا وراءك" (راجع إر 17: 16). وما قاله هوشع: "وراء الرب يمشون" (هو 11: 10). وما قاله الرسول في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس: "من التصق بالرب فهو روح واحد" (1 كو 6: 17). فمن يمقت الشر يلتصق بالصلاح، وهو يلتصق بالرب بالإيمان والأعمال، والله يعضده ويعينه بيمينه الذي هو ابنه الوحيد، ولا يقدر العدو على أذيته.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     لقد هرب داود من وجه شاول (1 مل 19: 18)، لا لكي يهجر الأرض حقًا، وإنما لكي يهرب من عَدْوَى إنسان قاسٍ عاصٍ وغادر. هرب لكي يلتصق بالله، إذ يقول: "التصقت نفسي بك" (مز 63: 8). انسحب ونَأَى بنفسه عن رجاسات هذا العالم، سما بنفسه تمامًا، وذلك كما تأمل إسحق عندما تجوَّل في الحقل (تك 24: 63)... لأن هذه شهادة واضحة تمس الالتصاق بالفضائل، حيث يتجوَّل الإنسان ببراءة قلبه، فلا يشترك في الشهوات الأرضية وإنما يشق طريقه بفكر متحرر، أي بلا لوم، ولا يفتح موضعًا للفساد في داخله[28].

القديس أمبروسيوس

v     إنني أريدك أن ترى أنواع الأسلحة المختلفة وصفاتها، إذ ينبغي علينا إن أردنا أن نحارب في المعركة الإلهية ضد الشيطان ونُحسَب بين قوّاد المئات (الروحيين) الذين للإنجيل أن نتمنطق بها علي الدوام.

يقول الإنجيل: "حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة" (أف6: 16). الإيمان هو الذي يوقف سهام الشهوة الشريرة ويهلكها بالخوف من الدينونة والإيمان بملكوت السماوات...

بحسب خبرتنا نستطيع بالتمسك بالله إماتة إرادتنا وقطع شهوات هذا العالم، ونتعلم من أولئك الذين في علاقتهم بالله يقولون بكل إيمان: "التصقت نفسي بك" (مز 8:63)، "لصقتُ بشهادتك. يا رب لا تخزِني" (مز 31:119)، "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" (مز 28:73)، فعلينا ألا نكل بسبب تشتت العقل والتراخي، لأن "المشتغل بأرضهِ يشبع خبزًا وتابع البطالين يشبع فقرًا" (أم 19:28).

يلزمنا ألا ننسحب من جهادنا في السهر بسبب اليأس الخطير لأن "الآن ملكوت الله يُغصَب والغاصبون يختطفونهُ" (مت 12:11). فلا يمكن نوال فضيلة بغير جهاد، ولا يمكن ضبط العقل بغير حزن قلبي عميق، لأن "الإنسان مولود للمشقَّة" (أي 7:5). ومن أجل الوصول "إلى إنسانٍ كامل. إلى قياس قامة مِلْءِ المسيح" (أف 13:4) يلزمنا أن نكون علي الدوام في جهاد عظيم مع عناية لا نهائية[29].

الأب سيرينوس

v     عندما سمع داود العظيم هذا وفهمه قال: "الساكن في ستر العلي، في ظل القدير يبيت، بخوافيه يظللك" (مز 91: 1، 4). وتعنى "بخوافيه" "بكتفيه"، وهذا هو نفس الشيء مثل السير وراء الله، لأن الكتف في ظهر الجسم، ويقول داود عن نفسه: "التصقت نفسي بك، يمينك تعضدنني" (مز 63: 8). وأنت ترى كيف تتفق المزامير مع التاريخ في الكتاب المقدس. فيقول المزمور إن اليد اليمنى لله تساعد الشخص الذي التصق بالله وسار وراءه، ويقول التاريخ في الكتاب إن اليد تلمس الشخص الذي ينتظر في الصخرة عند سماع الصوت الإلهي، ويصلي لكي يسير وراء الله[30].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     إنّ المرتبط بالزواج هو - حسب قول الرسول بولس - منقسمٌ بين اهتماماتٍ كثيرة؛ "أما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يُرضي امرأته" (1 كو 7: 33)، أما أنتم المحبّون العاشقون لله فتعيشون دون انفصالٍ عنه قط، مردِّدين بلا انقطاعٍ ما قاله داود النبي مدفوعًا باشتياقه: "التصقت نفسي بك، ويمينك عضَّدتني" (مز 63: 8).

إنكم لا تجرون وراء حقولٍ أو بيوتٍ أو ما شابه ذلك لكي تقتنوها وتمتلكوها، ولكنكم بعيدون إلى حدٍّ ما عن الشهوات المخزية والنميمة والبُخل وأيّة خدعةٍ أخرى، بل على العكس، فكما هو مكتوبٌ: "الرب إلهك تتّقي، إياه تعبد وبه تلتصق" (تث 10: 20)، وهذا هو في الحقيقة ما تحققونه في حياتكم: "اِذهب وبِع أملاكك، وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني" (مت 19: 21). َتتجلَّى قوة هذا القول فيكم عندما تبتعدون عن العالم بكل حزمٍ، وتنبذونه مع كل اهتماماته. إنكم تعتمدون بكلّيتكم على الله الذي قال: "اُطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه وهذه كلها تُزاد (أو "تتضاعف") لكم". (مت 6 : 33)[31]

القديس أنبا سيرابيون أسقف تميّ

v     جاء أخٌ إلى القديس مقاريوس راغبًا في خدمة المسيح في الحياة الرهبانية، وتوسل إلى الشيخ أن يُرشده ويوجِّهه ويُحصِّنه من نبع المبادئ النسكية التي كانت تفيض منه بغزارة بنعمة الروح القدس، وأن يوضِّح له كيف يمكنه بمعونة الرب أن يتجنَّب فخاخ العدو وهجماته الشريرة. فأجابه المغبوط مقاريوس: "إذا رغبتَ حقًا من كل قلبك أن تهجر العالم يا ابني، وأن تلتصق بالمخلِّص الرب كما يقول النبي: "التصقَتْ نفسي بك، يمينك تعضدني" (مز 63: 8)، ويمين الرب مهيَّأة في الحقيقة لقبول الذين يلتجئون إليها؛ فينبغي أن تنبذ العالم وترفض كل أعماله كقول الرسول: "لأنكم قد مُتُّم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهِر المسيح حياتنا فحينئذٍ تُظهَرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 3).

فردوس الآباء

يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة "التصقت نفسي خلفك" [3 LXX]:

أ. إن الالتصاق بخلف الله لن يتحقق إلا بغراء الحب.

ب. الالتصاق يتحقق بالاشتياق إلى الله، وبالتالي العطش إليه، بهذا تلتصق النفس به.

ج. يتم الالتصاق بخلف الله، لكي لا نحسب أنفسنا مشيرين له، فيسلك هو حسب إرادتنا، إنما هو القائد الذي يتقدمنا، ونحن نسلك وراءه، نقبل إرادته وننفذ وصاياه.

v     الغراء (الذي به تلتصق النفس بالله) هو نفسه الحب. ليكن لك الحب، الذي كما بغراء تلتصق نفسك خلف الله. لا تلتصق بالله، وإنما خلف الله، حتى يسير أمامك وأنت تتبعه

القديس أغسطينوس

أَمَّا الَّذِينَ هُمْ لِلتَّهْلُكَةِ يَطْلُبُونَ نَفْسِي،

فَيَدْخُلُونَ فِي أَسَافِلِ الأَرْضِ [9].

لم يقصد النبي هنا أن تفتح الأرض فاهها وتبتلع أعداءه، كما فعلت بقورح وجماعته (عد 16: 31-34).

لقد طلب اليهود هلاك يسوع المسيح بالصليب، وهم في هذا كانوا يخشون على مراكزهم الزمنية، وضياع مقتنياتهم الأرضية (يو 11: 48). خشوا فقدان الأرض، فانحدروا إلى أسافل الأرض. يرى القديس أغسطينوس أسافل الأرض هي الشهوات الأرضية.

v     السير على الأرض أفضل من السقوط في أسافل الأرض بواسطة الشهوات. كل من يجحف خلاصه، ويطلب الأرضيات، فهو أسفل الأرض. فقد وضع الأرض أمامه، وجعلها فوقه، وسقط هو تحتها.

أولئك الذين خافوا أن يفقدوا الأرض، إذ رأوا الجموع تذهب وراء السيد، قالوا عن الرب يسوع المسيح: "إن تركناه هكذا، يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا" (يو 11: 48). لقد خشوا أن يفقدوا الأرض، فانحدروا إلى أسافل الأرض، وهناك حلّ بهم ما قد خشوه. لقد أرادوا أن يقتلوا المسيح حتى لا يفقدوا الأرض، وهم بهذا فقدوا الأرض، لأنهم ذبحوا المسيح... انظروا لقد فقدوا الموضع على أيدي الرومان.

القديس أغسطينوس

يُدْفَعُونَ إِلَى يَدَيِ السَّيْفِ.

يَكُونُونَ نَصِيبًا لِبَنَاتِ آوَى [10].

يسجل لنا سفر صموئيل الثاني (18: 16-17) كيف مات أبشالوم وأتباعه. يبدو أنه لم يُدفن أحد منهم، حتى أبشالوم نفسه أُلقي في حفرة، ووضع عليه كومة من الحجارة[32].

يرى القديس أغسطينوس أن الثعالب أو بني آوى هنا تشير إلى ملوك الأرض الذين استولوا على اليهودية. لقد رفضوا المسيح ملكًا عليهم، فصارت الثعالب أو ملوك العالم تسيطر عليهم وتملك. لقد رفضوا الملك الحقيقي، وقالوا: "لا نريد ملكًا غير قيصر"، وبالفعل هزمهم الرومان وأحرقوا الهيكل. رفضوا الحَمَل، واختاروا الثعلب، فاستحقوا أن يكونوا أنصبة للثعالب.

v     الذين يتحايلون على قتلي بلا سبب، فعلى قدر ثقل شرهم ينحدرون في الجحيم مدفوعين إلى يد السيوف أي إلى أيادي القاتلين بالسيوف.

قوله: "يكونون أنصبة للثعالب" معناه أن الأسد بعد سفكه دم الفريسة وأكل ما يختار من أعضائها يطرح الفضلات لتأكلها الثعالب. قول النبي يعني أن الأشرار يسقطون في انكسار أمام الضعفاء بعد انكسارهم أمام الأقوياء. كما يعني أيضًا أنهم يُقتلون في الحرب ولا يوجد من يدفنهم، فتأكلهم الوحوش، حتى الثعالب تقوى عليهم.

أيضًا القوات الشريرة هي ثعالب معنوية لأنها تخدع بحيلها نفوس الجُهال وتتقاسمها أنصبة فيما بينها.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     انظر، ففي وقت القيامة يفرِّق العلي الأمم، ويقسم بني آدم حسب استحقاقاتهم، فمنهم من "يدخلون في أسافل الأرض" (مز 63: ٩)، "ويكونون نصيبًا لبنات آوي" (مز 63: ١٠)، أي للشيَّاطين، حيث بنات آوي (الثعالب) تفسد الكروم (نش ٢: ١٥)، وهيرودس أيضًا منهم، إذ قال عنه المسيح: "اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب".

لنطرح إذن تصرُّفاتنا الأرضيَّة وأفكارنا الترابيَّة، لئلاَّ نثقل بأفكار الأرض، وندخل إلى أسافل الأرض، ونكون نصيبًا لبنات آوي... يقول الرسول بكل وضوح: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما هو فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله؛ اهتمُّوا بما فوق لا بما على الأرض" (كو ٣: ١-٢)[33].

العلامة أوريجينوس

v     لأن كل البشر الساكنين تحت الشمس صاروا، كما هو مكتوب، "نصيبًا لبنات آوي" (مز 63: 10)، وانقسموا إلى أنواع وأشكالٍ متعددة من فعل الشر، وهزموا بظلمة الجهل، وأيضًا سقطوا في عمق أعماق الخطية. لذلك نجد أن المرتل داود اضطر أن يتضرع إلى الله الكلمة لكي يأتي إلينا من السماء، قائلاً: "يا راعي إسرائيل اصغَ، يا قائد يوسف كالضأن، يا جالسًا على الكاروبيم أشرق، قدام إفرايم وبنيامين ومنسي أيقظ جبروتك، وهلم لخلاصنا" (مز 80: 2-3). وعندما أدرك (المرتل) أن مجيء كلمة الله سيحدث في الوقت المناسب، حيث كنا ساقطين ومنطرحين، صرخ أيضًا: "لماذا أيها الرب تقف بعيدًا؟ هل نسيتنا في الوقت المناسب وفي ألمنا؟" (مز 90: 22). فالمخلص قبل التجسد لم يكن بعد قد أخذ شبهنا، ووُجد بعيدًا عنا، لأن المسافات كانت كبيرة بين الطبيعة البشرية وطبيعة كلمة الله[34].

القديس كيرلس الكبير

أَمَّا الْمَلِكُ فَيَفْرَحُ بِاللهِ.

يَفْتَخِرُ كُلُّ مَنْ يَحْلِفُ بِهِ.

لأَنَّ أَفْوَاهَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَذِبِ تُسَدُّ [11].

لقد حزن داود على ابنه أبشالوم (2 صم 18: 33؛ 19: 1-7)، لكن فرحه بالرب لم يفارقه.

v     تَحْمِل نبوة عن زرُبابل الذي تولى على اليهود بعد رجوعهم من السبي. هؤلاء الذين لما خلصوا من أعدائهم فرحوا بالله، وصاروا يُمتدَحون... وقد انسدت أفواه الذين كانوا يشتمونهم باطلاً.

الأب أنثيموس الأورشليمي

لقد ملك السيد المسيح، وأقام بالصليب كنيسته، مملكة الفرح والسلام، بينما تشتت الصالبون واستدت أفواههم التي حكمت عليه بالصلب!

 


 

من وحي مز 63

متى ترتوي نفسي بحبك؟!

v     تبقى نفسي عطشى إليك في برية هذا العالم.

بنعمتك تنزل عليها بندى كلمتك!

تستعذبها نفسي، فيزداد لهيب حبي لك.

ترتوي نفسي ببهائك، ويزداد بالأكثر عطشي إليك.

v     بمراحمك تسمح لجسدي بالنوم ليستريح،

أما نفسي فتسهر على الدوام، تعلن عطشها الشديد إليك.

لن تنام نفسي، فإنها تترقب إشراق شمس البرّ عليها.

v     بحبك تبعث بأشعة نورك على نفسي، فتبصر قوتك ومجدك.

تشتهي الانطلاق إليك، لتتنعم بأحضانك الإلهية.

نفسي وجسدي يهتفان معًا. شفتاي تسبحانك بلا انقطاع.

ويداي ترتفعان إليك لتمارسا عملك.

v     كل كياني يناديك: لألتصق بخلفك،

حتى أسير وراءك. فأنت هو الطريق والحياة الأبدية.

أسير وراءك يا راعي النفوس الأمين،

وأستظل بجناحيك فتحميني من نيران الشر!

v     كيف ألتصق بك إلا بعملك فيَّ؟

ليس من مادة تلصقني بك، إنما بغراء الحب ألتصق بك،

ولن يقدر العدو أن يفصلني عنك!

أنت هو الحب، هب لي ذاتك، فبك تلتصق نفسي!

v     ألتصق بك يا أيها المصلوب، فتملك في داخلي وتشبع أعماقي.

أرى علة صليبك: ملك اليهود!

لتملك عليَّ، فلا أشتهي آخر معك!

لن أشتهي الأرض، لئلا تتسلط عليَّ، فأنحدر إلى أسفلها،

وتسحقني بثقل شهواتها.

v     لتقيم أيها الملك في داخلي ملكوت الفرح.

فأنت هو الحَمَلُ الإلهي العجيب.

لن تقدر ثعالب العالم أن تفترسني.

أنت نصيبي، وأنا لك،

لن يجسر العدو أن يغتصبني من يديك.

لك القوة والمجد يا ملك الملوك!

 

<<

 


 

اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ

تعزيات في وسط الضيق

في المزمور السابق نرى المرتل وقد عطش إلى الله، مشتاقًا أن يراه، ويُكرِّس كل طاقاته لحسابه؛ ويود أن يلتصق به، غير أن الأعداء يبذلون كل الجهد ليطلبوا نفسه. أما هنا فعلى العكس يتطلع المرتل حوله، فيجد جمهورًا من الأعداء يقاومونه ويتآمرون عليه سرًا، فيصرخ من أعماق قلبه إلى الله القادر أن يحطم الشر. ينتهي المزمور بإعلان حماية الله له، وتمتعه بالفرح والبهجة.

يمثل هذا المزمور مرثاة شخصية، يقدمها المؤمن وهو في وسط الضيق. لقد وقف كواحدٍ وحيد وسط جمهورٍ من الأشرار وفاعلي الإثم. لقد تدربوا على وضع مؤامرات، وتحولت ألسنتهم إلى سيوف قاتلة، وكلامهم إلى سهام مُرَّة. يحسبون أنفسهم أنهم مخفيون عن الأنظار، ويحبكون اختراعاتهم، ولم يدركوا أن إله الصديق يرى ما لا ينظره أحد، قدير يبطل الخطط الشريرة.

إن كانت هذه المرثاة تُعبر عن عمق الألم الذي تعانيه النفس بسبب الأعداء، فهو تسبحة شكر لله المحافظ على مؤمنيه؛ مُحطَّم الشر ومعين مستقيمي القلوب.

أقسامه

1. فاعلو الإثم                 1-6.

2. التدخل الإلهي               7-10.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ

1. فاعلو الإثم

اِسْتَمِعْ يَا اللهُ صَوْتِي فِي شَكْوَايَ.

مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ احْفَظْ حَيَاتِي [1].

يرى القديس أغسطينوس أنها صرخة ربنا يسوع المتألم في أحداث صلبه، كما هو متألم خلال جسده الكنيسة، التي تعاني من الآلام عبر كل العصور.

إنها صرخة كل مؤمن يُصلَب مع سيده، ويحتمل الآلام لأجله. ليس من مؤمنٍ حقيقي لا يسقط تحت الآلام.

v     ليته لا يقول أحد: نحن لسنا في وقت محنة الآلام. فإنكم تسمعون هذه الحقيقة، كيف أنه في تلك الأزمنة كانت الكنيسة كلها معًا كمن تُضرَب، أما الآن فإنها تُجرَّب خلال الأفراد. حقًا إن الشيطان مربوط، فلا يفعل قدر ما يستطيع، ولا يفعل حسبما يريد، مع هذا يُسمَح له أن يجرَّب قدر ما يتلاءم مع تقدُّم البشر. فإنه ليس مناسبًا لنا ألا نُجرَّب، ولا أن نسأل الله كي لا نُجرَّب، وإنما نسأله ألا ندخل في تجربة (مت 6: 13).

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أن هذه الصرخة يقدمها الشهداء عند اضطهادهم. وقد جاء في ابن سيراخ: "هل توكل أحد على الرب فخزي؟... أو هل دعاه فازدراه؟" (سي 2: 10). هذه الصرخة لا تهدف إلى الخلاص من الاستشهاد، إنما الخلاص من الخوف من الاستشهاد.

يقول القديس أغسطينوس: [هذه الصلاة هي صوت الشهداء، "خلِّص نفسي من الخوف من العدو"، لا لكي لا يقتلني العدو، وإنما لكي لا أخاف العدو وهو يقتلني... إنني أريد ألا أخاف ذاك الذي يقتل الجسد، بل أخاف من له سلطان أن يقتل كلاً من الجسد والنفس في نار جهنم. فإنني لست أريد أن أتحرر من الخوف، وإنما من خوف العدو وذلك خلال خوف الرب بكوني خادمًا.]

حقًا إن تاريخ الكنيسة مشحون بالضيقات والتجارب، فلا يظن الأشرار أن لهم سلطانًا على كنيسة الله، وإنما يضطهدون حسبما يسمح لهم السيد المسيح. بهذا لا يخشى المؤمن التجارب والمحن.

v     استجب يا الله تضرعي، ونجني من خوف العدو، أي أيدني فلا أخاف من الأعداء.

نقول أيضًا إن الخوف نوعان: خوف الله وخوف الناس. أما مخافة الرب فهي محبة، وأما الخوف من الناس فهو عدو. يطلب النبي إزالة الخوف من الناس، مثل شاول وأمثاله، لأنه خوف عدو مضر للنفس. لذلك يقول: نج نفسي. عن هذا الخوف يقول إشعياء النبي: "لا تخافوا خوفه، ولا ترهبوا. قدسوا رب الجنود فهو خوفكم، وهو رهبتكم، ويكون لكم تقديسًا" (راجع إش 8: 12-13).

الأب أنثيموس الأورشليمي

اسْتُرْنِي مِنْ مُؤَامَرَةِ الأَشْرَارِ،

مِنْ جُمْهُورِ فَاعِلِي الإِثْمِ [2].

لقد تجمهر المتآمرون الأشرار على ربنا يسوع المسيح. هكذا نحن كجسد المسيح نقبل الآلام الجسدية والمؤامرات التي تُدبر ضدنا، إذ تتحول الآلام إلى أمجاد في يوم الرب العظيم، أما نفوسنا فمحفوظة هنا تحت الحماية الإلهية.

v     يطلب النبي حفظه من الأشرار، الذين بمؤامراتهم يفسدون المعتقدات السليمة، والذين يمارسون العنف والظلم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

الَّذِينَ صَقَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ كَالسَّيْفِ.

فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَمًا مُرًّا [3].

يشبه ألسنه الأشرار بالسيف الحاد والقوس الذي يوجه الرماح للقتل.

كثيرًا ما أشارت المزامير إلى ألسنة الأشرار التي تتحول إلى سهام ورماح وسيوف بسبب الحقد والدهاء (مز 55: 21؛ 57: 4؛ 59: 7). لقد عانى داود المرتل من هذه السهام القاتلة بكونه رمزًا لابن داود الذي بلا لوم، وقد دُبرت مؤامرات لصلبه والخلاص منه.

لِيَرْمُوا الْكَامِلَ فِي الْمُخْتَفَي بَغْتَةً.

يَرْمُونَهُ وَلاَ يَخْشُونَ [4].

v     سلموه للوالي بيلاطس، حتى يظهروا كمن هم أبرياء من قتله. أصدر بيلاطس حكمه ضده، وأمر بصلبه، بطريقة صار قاتلاً له. وأنتم يا أيها اليهود قتلتموه. بسيف اللسان، فقد شحذتهم ألسنتكم. متى قتلتموه، إلا عندما صرختم: "اصلبه، اصلبه" (لو 23: 21)؟

القديس أغسطينوس

يعلق القديس أغسطينوس على ما ورد في العهد الجديد أن المسيح صُلب في وقت الساعة السادسة (يو 19: 14)، وأيضًا في وقت الساعة الثالثة (مر 15: 25)، كيف؟

لقد ارتفع على الصليب في وقت الساعة السادسة، وفي نفس الوقت صُلب حينما صرخت الجموع: "اصلبه، اصلبه" في وقت الساعة الثالثة.

صلبه اليهود بألسنتهم وقتلوه كما بسهام كلماتهم، ونُفذ الصلب جسديًا في وقت الساعة السادسة.

يحارب الأشرار الصديق خفية، لذلك يشبه المرتل مؤامراتهم بالسهام. وكما يقول القديس أغسطينوس إن الذين يحاربون بالسهام يختفون، ويصوبون سهامهم خفية وبسرعة.

v     "بغتة يرمونه ولا يخشونه" [4] يا لقسوة القلب، يريدون قتل ذاك الذي أقام الموتى! "بغتة"، أي بمكرٍ، كما لو كان الأمر غير متوقع، كمن لا يُرون. فقد ظهر الرب كأنه غير عالمٍ بما يحدث.

القديس أغسطينوس

يُشَدِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ لأَمْرٍ رَدِيءٍ.

يَتَحَادَثُونَ بِطَمْرِ فِخَاخٍ.

قَالُوا: مَنْ يَرَاهُمْ؟ [5]

تشاور الأشرار معًا، ودبروا مؤامراتهم خفية، ظانين أنهم يطمرون فخاخهم ليسقط فيها البار، دون أن يراهم أحد.

ينطبق هذا على محاكمة السيد المسيح، وكما يقول القديس أغسطينوس: [ارتعب الوالي لأنه يحكم على بارٍ، أما هم فلم يرتعبوا، لأنهم سلموه للقضاء. صاحب السلطان ارتعب، والوحشية لا ترتعب. أراد هو أن يغسل يديه، وأما هم فدنسوا ألسنتهم، لماذا؟ "يشددون أنفسهم لأمرٍ رديءٍ": "اصلبه، اصلبه". التكرار هنا هو تثبيت الأمر الرديء. لننظر كيف حدث هذا... قالوا: "ليس لنا ملك إلا قيصر" (يو 19: 15)... "إنه مستوجب الموت"... "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 27: 25).]

يَخْتَرِعُونَ إِثْمًا تَمَّمُوا اخْتِرَاعًا مُحْكَمًا.

وَدَاخِلُ الإِنْسَانِ وَقَلْبُهُ عَمِيقٌ [6].

ما هي الاختراعات المُحْكَمة التي خططها الأشرار؟ "لنَدَعْ تلميذه يخونه، وليس نحن. ليقتله الوالي وليس نحن، لنفعل كل شيء، ونبدو كأننا لم نفعل شيئًا".

"وداخل الإنسان وقلبه عميق"، لقد ظنوا أن الله لا يراهم، والحقيقة أنهم هم لم يروا حقيقة يسوع المسيح. لقد صار إنسانًا حقيقيًا، لكنه بقي الله الكلمة. رأوه إنسانًا مجردًا، يقدرون على قتله، ولم يدركوا سرّ تجسده، واتساع قلبه لكل البشرية.

2. التدخل الإلهي

فَيَرْمِيهِمِ اللهُ بِسَهْمٍ.

بَغْتَةً كَانَتْ ضَرْبَتُهُمْ [7].

يحمل الأشرار مظاهر المحبة في غشٍ وخداع، لكن الخيانة تختفي في أعماق قلوبهم. أما الله فمن الأعالي يفحص أعماق قلوبهم.

كيف ينطبق هذا على السيد المسيح المصلوب. لقد أراد الأشرار أن يقتلوه فجأة بمكرٍ، ولكن ما حدث أن سهامهم ارتدت إليهم فقتلهم. وقد عبَّر القديس أغسطينوس عن ذلك بقوله: [لم يقتل الموت الرب، بل الرب قتل الموت. أما هم فقتلهم الإثم، لأنهم لم يريدوا أن يقتلوا الإثم، لأنهم لم يريدوا أن يقتلوا الإثم.]

v     ماذا حلّ بهم؟... انظروا ماذا يحلّ بالنفس الشريرة. إنها تفارق نور الحق، وإذ هي لا ترى الله تظن أن الله لا يراها.

القديس أغسطينوس

وَيُوقِعُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

يُنْغِضُ الرَّأْسَ كُلُّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [8].

يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن مقاومة الأشرار للرسل بالرغم مما تحمله من خداع وتهديدات، لكنها كنبل الأطفال.

v     "ويوقعون ألسنتهم على أنفسهم". دعوهم يشحذون ألسنتهم مثل سيف، دعوهم يشددون أنفسهم لأمر رديء، فإنهم يُوقعون ألسنتهم على أنفسهم. هل يمكن أن يقوى هذا ضد الله؟ يقول: "يرقد الإثم على نفسه" (مز 27: 12 Vulgate)... انظروا الرب الذي قُتل يقوم... ماذا تظنون في ذاك الذي لم يهبط من الصليب، ومن القبر قام؟ ما هو فحوى ما فعلوه؟

القديس أغسطينوس

وَيَخْشَى كُلُّ إِنْسَانٍ وَيُخْبِرُ بِفِعْلِ اللهِ،

وَبِعَمَلِهِ يَفْطَنُونَ [9].

v     "ويخشى كل إنسان، ويخبر بفعل الله، وبعمله يفطنون" [9]... هؤلاء الذين أرادوا منه أن ينزل عن الصليب لم يفطنوا؛ ولكنه عندما قام، وتمجَّد بصعوده إلى السماء فطنوا إلى أعمال الله.

القديس أغسطينوس

يَفْرَحُ الصِّدِّيقُ بِالرَّبِّ وَيَحْتَمِي بِه،ِ

وَيَبْتَهِجُ كُلُّ الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ [10].

v     كان التلاميذ حزانى عند صلب الرب، غلبهم الحزن، وفي أسف تركوه، لقد فقدوا الرجاء. لقد قام، وعندما ظهر لهم وجدهم حزانى. لقد أُمسك بعيني رَجُليْن كانا يسيران في الطريق، حتى لم يعرفاه، ووجدهما يتأوهان ويئنان. اُمسك عنهما إلى أن يشرح لهما الكتب المقدسة، مظهرًا لهما إن ما حدث كان يجب حدوثه (لو 24: 16 الخ). لقد أظهر لهم في الكتب المقدسة أنه كان يجب أن يقوم في اليوم الثالث... ليتنا إذن نفرح في الرب لا في أنفسنا. لأن صلاحنا ليس من عندنا، بل هو جعلنا هكذا. هو نفسه صلاحنا، الذي يجعلنا مبتهجين.

ليته لا يفرح أحد بنفسه، لا يتكل أحد على ذاته، ولا ييأس أحد من نفسه... "يبتهج كل المستقيمي القلوب"، ويُدان ملتوو القلوب... يوجد الآن أمران أمامك، فاختر حيث لا يزال يوجد زمن... إن صرت ملتوي القلب تأتي إلى الدينونة.

القديس أغسطينوس

 


 

من وحي مز 64

لأحتمي بك وأتهلل!

v     إن كانوا هكذا قد فعلوا بك،

أيها العود الرطب،

فماذا يفعلون بي أنا الجاف؟

دبروا مؤامرات خفية،

وصقلوا ألسنتهم كسيوفٍ قاتلة.

صوَّبوا سهامهم نحو واهب الحياة!

ظنوا أنهم يغتابون حياتك خلسة!

أصروا على مقاومتك والخلاص منك،

ظنوا أنه ليس من يراهم، ولا من يعاقبهم.

في غباوة لم يعرفوا أنك رب المجد، مخلص العالم.

v     لتحملني فيك فلا أخشى إنسانًا،

ولا أضطرب من الموت.

أصير شريكًا حيث أُصلبُ معك،

وأتمتع بقوة قيامتك!

v     سهامهم ترتد عليهم بغتة.

وما نطقوا به ضدك، صار شاهدًا عليهم.

ارتعبوا وارتبكوا، إذ سمعوا عن قيامتك.

أما المؤمنون بك، فابتهَجوا وتهللوا.

لك المجد يا من دخلت طريق الصليب،

لتعطي للألم عذوبة،

وتحملنا معك إلى قوة قيامتك.

وتُصعد قلوبنا بك إلى سماواتك.

 

<<

 


 

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ

نعمة الله ورعايته الفائقة

غالبًا ما كان شعب الله يتغنى بهذه التسبحة في أحد الأعياد. يرى البعض أنه مزمور شكر لله بعد أن أنقذهم من مجاعة حلَّت بالبلاد.

يقدم شعب الله الشكر لله بكونه مخلص الإنسان من خطاياه، والخالق العجيب المهتم بخليقته، ومن أجل عمله معهم في بيته المقدس، كما يلمسون عنايته الفائقة وعطاياه الإلهية، خاصة عطية روحه القدوس، الذي يُحَوِّل برية حياتهم القفرة إلى جنة مبهجة.

يقول القديس أثناسيوس إن هذا المزمور يحتوي على نبوة عن الذين آمنوا بالمسيح، وشكرهم لله على هدايته لهم، وطلب الغفران منه عما مضى منهم من عبادة الأوثان.

أقسامه

1. لك التسبيح أيها المخلص            1-4.

2. لك التسبيح أيها الخالق              5-8.

3. لك التسبيح أيها المعتني بنا          9-13.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّين. مَزْمُورٌ لِدَاوُد. تَسْبِيحَةٌ

1. لك التسبيح أيها المخلص

يقف شعب الله كما كل عضو منهم في دهشة أمام حب الله الفائق، الذي يقبلنا شعبه الخاص، ويقيمنا أعضاء في كنيسته ننعم بفيض خيراته، إذ يجعلها مخزن كنوز نعمه العجيبة.

في ليتورجية عيد تجديد كنيسة القيامة في أورشليم وفي عيد الصليب ومزمور إنجيل أحد الشعانين، ترنم الكنيسة بالعددين 1، 2 من هذا المزمور للأسباب التالية:

أ. الكنيسة هي جماعة التسبيح والفرح الداخلي؛ وصليب السيد المسيح هو مصدر الفرح والينبوع الذي يفيض علينا بروح التسبيح لله محب البشر.

ب. أبواب كنيسة العهد الجديد مفتوحة لكل إنسان، أيًا كانت جنسيته، ومهما كانت خطاياه، فهي تدعو الجميع للتمتع بالصليب، حيث بذل كلمة الله المتجسد نفسه من أجل العالم كله.

ج. جاءت كلمة "الصلاة" في العبرية هنا تعني أيضًا "النذر"، فإذ أعلن الله محبته العملية للبشرية، يتقبل بمسرة نذر المؤمنين بالتجاوب بالحب مقابل الحب.

لَكَ يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ يَا اللهُ فِي صِهْيَوْنَ،

وَلَكَ يُوفَى النَّذْرُ [1].

جاءت كلمة "التسبيح" هنا في الأصل تعني الوقوف في دهشة وصمت رهيب، حيث يتأمل الشعب كما المؤمن عطايا الله التي تفوق الفكر. وإذ يندهش المؤمن من عطايا الله، يقف في صمت ينتظر أن يتعرَّف على إرادة سيده الذي أفاض عليه بالعطايا.

في شيء من الإطالة تحدث القديس أغسطينوس في تفسيره لهذا المزمور، بأنه يخص الشعب الذي نُقل إلى بابل أسيرًا، وينتظر تحقيق وعود الله كما جاء في إرميا بالعودة بعد 70 سنة من السبي (إر 25: 11؛ 29: 10). أمام الإنسان أحد اختيارين: إما أن يسكن في أورشليم التي تعني رؤية السلام أو في بابل ومعناها ارتباك. يقول القديس أغسطينوس: [محبتان تقيمان هاتين المدينتين، محبة الله تقيم أورشليم، ومحبة العالم تقيم بابل... الآن لنسمع يا إخوة، ونُسَبِّح، ونشتاق إلى تلك المدينة التي نحن مواطنون فيها].

v     وطننا هو صهيون. أورشليم هي بعينها صهيون؛ يليق بنا أن نعرف تفسير هذا الاسم. فكما أن "أورشليم" تُفسَّر برؤية السلام، هكذا تُفسَّر "صهيون" بالمشهد أو رؤية beholding، أي رؤيا vision أو تأمل contemplation. لقد وُعدنا برؤية عظيمة يصعب تفسيرها، هذه المدينة يبنيها الله نفسه.

جميلة ورائعة هي المدينة، فكم يكون الذي يبنيها أبرع جمالاً؟

"لك ينبغي التسبيح يا الله" [1] ولكن أين؟ "في صهيون". أما في بابل فلا يليق ذلك.

فعندما يبدأ الإنسان يتجدد فعلاً بالقلب في أورشليم يرنم مع الرسول، قائلاً: "فإن سيرتنا (محادثتنا) هي في السماوات" (في 3: 20). يقول: "لأننا وإن كنا نسلك في الجسد لسنا حسب الجسد نُحَارَب" (2 كو 10: 3). بالفعل نحن نشتاق إلى هناك، بالفعل نترجى تلك البلد (السماء)، بكونها مرساة نذهب إليها، لئلا نصاب بالغرق في أمواج هذا البحر.

بنفس الطريقة نقول بحقٍ إنها (السفينة) ترسي على الأرض، فإنها لا تزال تتموج، إما إذا بلغت الأرض تصير في أمان من متاعب الرياح والعواصف. لهذا فإنه في مواجهة تجارب هذه الرحلة، يقوم أساس رجائنا على مدينة أورشليم هذه، فلا نتحطم على صخور!

من له هذا الرجاء فليغني ويقول: "لك ينبغي التسبيح يا الله في صهيون" [1].

القديس أغسطينوس

ماذا يعني الوفاء بالنذر هنا سوى تقديم ذبيحة التسبيح والشكر مع الطاعة بفرح لوصية الله المحبوبة!

v     "ولك يوفى النذر" [1]، في أورشليم. فإننا سنكون هناك كاملين، أي نكون في قيامة الصديقين كاملين.

هناك يوفى كل نذرنا، ليس من جهة النفس وحدها، بل والجسد أيضًا، لا يعود بعد قابلاً للفساد، لأنه لا يعود بعد ليكون في بابل، بل يصير الآن جسدًا سماويًا ويتغير...

سيغلب السلام، وستنتهي الحرب. وعندما يغلب السلام، فستغلب تلك المدينة التي تُدعى رؤية السلام (أورشليم). لا يعود يوجد بعد كفاح مع الموت. الآن يا لخطورة الموت الذي نكافحه!

القديس أغسطينوس

يكشف هذا القول عن شوق بعض المسبيين إلى العودة إلى وطنهم، حتى يقدموا التسبيح لله في صهيون، ويوفوا النذور في أورشليم، في هيكل الرب.

يرى القديس أثناسيوس أن هذا القول كان من قبل الذين آمنوا من الأمم، قائلين: كنا قبلاً نقدم التسابيح للحجارة والأخشاب والشياطين، لكن الآن تحققنا بالإيمان أنه لك وحدك يا الله ينبغي التسبيح في كنيستك الشريفة.

إن لم يرتفع قلب المؤمن إلى صهيون السماوية، ويختبر عربون الحياة في أورشليم، لا يقدر أن يقدم تسبيح لله، وأن يوفي نذور الشكر له.

يَا سَامِعَ الصَّلاَة،ِ

إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَر (جسد)ٍ [2].

كثيرًا ما يستخدم الكتاب المقدس كلمة "جسد" أو كلمة "نفس" ليقصد بها الإنسان ككل. فعندما يُقال "الكلمة صار جسدًا" يعني تأنس، صار إنسانًا له جسده ونفسه وعقله، شابهنا في كل شيء ماعدا الخطية.

وعندما قيل عن يوسف "في الحديد دخلت نفسه" (مز 105: 18)، يقصد الإنسان كله حيث يُسجن الجسد وتئن النفس من الضيق.

ويرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن كل خاطئ هو بشر، إذ يأتي إلى الله، ويتمتع بالشركة معه يصير أشبه بالروح.

v     لا يحتاج ذوو المعرفة أن نخبرهم أن في الكتاب المقدس كله يُسمَّى المسيح "الإنسان" و"ابن الإنسان" ومع ذلك، فإذا أصروا على النص "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا" (يو 1: 14) وجعلوا هذا سببًا لإلغاء أنبل سمة للإنسان (العقل) بحيث يستطيعون أن يلصقوا الله بالجسد، فقد حان الوقت لأخبرهم أن الله لابد أنه إله الأجساد فقط وليس إله النفوس أيضًا بسبب النصوص الكتابية التالية: "إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد" (يو 17: 2)، "إليك يأتي كل جسدٍ" (مز 65: 2)، و"ليبارك كل جسدٍ اسمه القدوس" (مز 145: 21)، ويقصد بكل جسدٍ كل إنسان. ولابد أن آباءنا قد ذهبوا إلى مصر في شكل غير جسدي وغير مرئي، وأن نفس يوسف فقط هي التي وضعها فرعون في السجن والقيود، حيث إننا نقرأ أن الذين اُستدعوا إلى مصر كانوا "خمسة وسبعين نفسًا" (أع 7: 14) وأيضًا "في الحديد دخلت نفسه" (مز 105: 18) بينما النفس لا يمكن أن تُكبَّل بالأغلال. إن من يقولون هذا الكلام، ويتمسكون بالحرف، يجهلون أن الكلمات يمكن استخدامها كصور بلاغية بحيث يدل الجزء على الكل (النفس على النفس والجسد والعقل على سبيل المثال). نقرأ "فراخ الغربان" في (مز 147: 9) وهي تعني جنس الطيور كله، و"الثريا" (أي 38: 33 وما يليها)، ونجم المساء والدب القطبي مذكورة أيضًا، ويقصد بها كل النجوم وترتيبها[35].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     أيضًا "يبصر كل جسد flesh  خلاص الله" ،( لو 3: 6 "يبصر كل بشر")، "إليك يأتي كل جسد" (مز 65: 2) ماذا تعني كلمة "كل جسد flesh " إلا "كل بشر

وأيضًا "لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسدٍ لا يتبرر" (رو 3: 20) ماذا تعني إلا "كل إنسان لا يتبرر"؟ 

وهذا كشفه الرسول نفسه بصورة أوضح في موضع آخر إذ يقول: "ألستم جسديين، وتسلكون بحسب البشر؟" (1 كو 3: 3) فعندما دعاهم جسديين لم يقل: "وتسلكون حسب الجسد"، بل "حسب البشر" لأنه بالحق لو كان من يسلك "حسب الجسد" يستحق اللوم، ومن يسلك "حسب البشر" يستحق المديح، لما قال لهم موبخًا "وتسلكون حسب البشر‍".

أنصت يا إنسان. لا تسلك حسب البشر، بل حسب (الله) الذي خلقك[36]

القديس أغسطينوس

v     كيف نفهم: "إليك يأتي كل جسد"؟ يُقصد بكل جسد "كل نوع من الجسد".

هل يأتي أناس فقراء، ولا يأتي أغنياء؟ هل يأتي وضيعون، ولا يأتي عظماء؟ هل يأتي أميون، ولا يأتي متعلمون؟ هل يأتي رجال، ولا تأتي نساء؟ هل يأتي سادة، ولا يأتي عبيد؟ هل يأتي شيوخ، ولا يأتي صغار؟ أو يأتي صغار، ولا يأتي شباب؟ أو يأتي شباب، ولا يأتي صبيان؟ أو يأتي صبيان، ولا يأتي أطفال؟

في اختصار هل يأتي يهود ولا يأتي يونانيون؟ أو يأتي يونانيون ولا يأتي رومانيون؟ أو يأتي رومانيون ولا يأتي برابرة.

كيف تأتي أعداد من كل الأمم إليه، ذاك الذي قيل عنه: "إليك يأتي كل بشرٍ"؟

القديس أغسطينوس

يرى الأب غريغوريوس الكبير في هذه العبارة نبوة عن قبول كل الأمم للإيمان، حيث تصير الأرض وملؤها للرب ومسيحه. تبقى الكنيسة تصلي من أجل كل البشر لا للتكتل، وإنما للتمتع بالشركة مع الله. هذه الصلاة مقبولة لدى الله، يسمع لها ويستجيب.

v     ستمتلئ هذه الشبكة تمامًا عندما تكشف كل عدد الجنس البشري في نهاية الزمن. سيحضرها الصياد ويجلس على الشاطئ، لأنه كما أن البحر يشير إلى الزمن الحاضر، فإن الشاطئ يشير إلى نهايته[37].

البابا غريغوريوس (الكبير)

أخيرًا، يمكننا أن نلمس من هذه العبارة أن رجال الله كانوا بروح النبوة يترقبون بشغف ويُصلُّون دومًا لأجل تمتع كل البشرية بالشركة مع الله. كان يصعب على اليهودي العادي أن يصرخ إلى الله لكي يأتي كل بشرٍ إليه، لكن رجال الله كانوا يجدون مسرتهم في تحقيق الوعود الإلهية بخلاص العالم كله.

آثَامٌ قَدْ قَوِيَتْ عَلَيَّ.

مَعَاصِينَا أَنْتَ تُكَفِّرُ عَنْهَا [3].

يترجمها البعض: "كلمات الخطاة تسحقنا". فغير المؤمنين لن يكفوا عن مقاومة الحق الإلهي واضطهاد المؤمنين بوسيلة أو أخرى. لكن إن كان الذين بلا ناموس يستخدمون كل وسيلة ليقضوا على المؤمنين، ويفسدون إيمانهم، إذ يتقدم المؤمنون  إلى الله فيغفر لهم ما سقطوا فيه بسبب الأشرار.

جاءت الترجمة السبعينية: "كلمات العصاة قد قويت عليَّ" وجاءت في نص القديس أغسطينوس "حوارت الظالمين قويت عليَّ". هنا يقف القديس أغسطينوس في مرارة من جهة الذين ينشأون في مناطق وثنية أو في بيئات شريرة، فيتربى الأطفال على الشر، لكن الله لا يتركهم في الفساد. إنه يفتح لنا باب الخلاص ويعلن لهم نفسه كغافرٍ للخطايا.

يقول القديس أغسطينوس: [الإنسان أينما وُلد، يتعلم من تلك البلد أو المنطقة أو المدينة اللغة والأخلاقيات وطريقة الحياة في ذلك الموضع. ماذا يفعل صبي يُولد بين وثنيين لكي يتجنب عبادة حجر، مادام والديه يوحون إليه بهذه العبادة؟ يتعلم منهما أول الكلمات التي يسمعها منهما، بل ويتعلم الخطأ مع اللبن الذي يرضعه... لذلك فإن الأمم التي تحولت إلى المسيح بعد ذلك، وقد حملوا في قلوبهم اللاتقوى التي لوالديهم، يقولون الآن ما قاله إرميا نفسه: "إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل، وما لا منفعة فيه" (إر 16: 19). عندما أقول إنهم الآن يقولون هذا، فإنهم يجحدون أفكار آبائهم الأشرار وتجديفاتهم.]

"مَعَاصِينَا أَنْتَ تُكَفِّرُ عَنْهَا". لا يبرر المؤمن خطاياه وسقوطه بمقاومة إبليس وقواته ضده، إنما يعترف بخطاياه أمام الله، واثقًا أنه غافر الخطايا والمعاصي. وكما يقول ميخا النبي: "من هو إله مثلك غافر الإثم، وصافح عن الذنب لبقية ميراثه" (مي 7: 18).

ليس من طريق للخلاص إلا الركوض إلى الله، والالتصاق به، والاعتراف بالخطايا والآثام من كل القلب. وقد تحقق هذا الخلاص بعمل السيد المسيح الكفاري على الصليب.

v     "معاصينا أنت تكفر عنها". أنت هو الكاهن، وأنت هو الذبيحة.

أنت مقدم (الذبيحة)، وأنت هو التقدمة.

القديس أغسطينوس

طُوبَى لِلَّذِي تَخْتَارُهُ وَتُقَرِّبُهُ لِيَسْكُنَ فِي دِيَارِكَ.

لَنَشْبَعَنَّ مِنْ خَيْرِ بَيْتِكَ قُدْسِ هَيْكَلِكَ [4].

إن كان العدو يريد أن يسلبنا كل شيءٍ، فإننا إذ ندخل بيت الرب، تنفتح أمامنا أبواب السماء، ونرى الهيكل الأبدي، وننعم بالخيرات السماوية.

بالدخول في بيت الرب، نختبر الحياة السماوية المطوَّبة، وندرك أن دخولنا ليس عن فضلٍ منا، وإنما خلال حب الله الذي اختارنا وقرَّبنا إليه، وجعلنا أهل بيته.

تُقدَّم الطوبى لا للشعب ككلٍ فقط، بكونه جسد المسيح، وإنما لكل مؤمنٍ حقيقي أيضًا، بكونه عضوًا في هذا الجسد المطوَّب.

"طُوبَى لِلَّذِي تَخْتَارُهُ". يرى القديس أغسطينوس أن كلمة الله إذ تجسد لأجلنا اختاره الآب، لكي نتمتع نحن أعضاءه المتحدين معًا فيه دون انشقاق بهذا المركز. باتحادنا فيه نتمتع باختياره كاختيار لنا. "إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف 4: 13).

v     الذي تقرَّب إليه؛ وهو ليس بدوننا، نحن أعضاؤه تحت رأسٍ واحدٍ يحكمنا، وبروحٍ واحدٍ نحيا جميعنا، وأبوة واحدة كلنا نشتاق إليها... فماذا يعطينا؟

"يسكن في ديارك"، أي في أورشليم، الذين يسبحون لكي يبدأوا في الخروج من بابل.

"ليسكن في ديارك. لنشبعن من خير بيتك".

ما هي خيرات بيت الله؟

ليتنا يا إخوة نضع أمامنا بعضًا من غنى البيت.

يا لكثرة الخيرات التي تملأ البيت. يا لفيض الأثاثات التي يُجهز بها، وضخامة عدد الأواني الذهبية والفضية أيضًا. كم من خيول وحيوانات، وباختصار يا لكثرة ما يبهجنا به البيت من لوحات ومرمر وأسقف وأعمدة ودواليب وحجرات... مثل هذه بالحقيقة أمور مطلوبة، لكنها لا تزال موضوع ارتباك بابل.

لتقطع كل هذه المشتهيات يا مواطن أورشليم، اقطعها، إن أردت أن ترجع، لا تدع السبي يبهجك.

لكن ألست بالفعل أردت أن تخرج منه؟ لا تنظر إلى الوراء، لا  تتلكأ في الطريق.

هناك (في بيت الله) لا يوجد أعداء يزكونك في السبي والرحيل. ليس بعد من يقفون ضدك بأحاديث الأشرار.

فإن بيت الله يشتاق إليك. لا تشتهِ مثل هذه الأمور التي اعتدت أن تطلبها سواء في بيتك أو في بيت قريبك أو في بيت نصيرك.

القديس أغسطينوس

2. لك التسبيح أيها الخالق

باسم الكنيسة كلها، ينطلق المرتل إلى الطبيعة، ليلتمس قدرة الخالق العجيبة. القدرة التي تُعلن عن سلطانه الإلهي غير المنفصل عن حبه ورعايته. إنه الإله السماوي الذي ينشغل دومًا بالإنسان الذي أعطاه الأرض ليعيش عليها، ويتدرب على الحياة السماوية، فينطلق إلى السماويات، ينعم بالأمجاد الأبدية.

بِمَخَاوِفَ فِي الْعَدْلِ تَسْتَجِيبُنَا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا،

يَا مُتَّكَلَ جَمِيعِ أَقَاصِي الأَرْضِ وَالْبَحْرِ الْبَعِيدَةِ [5].

"مَخَاوِفَ فِي الْعَدْلِ تَسْتَجِيبُنَا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا" حقًا إن أحكام الله مرعبة للخطاة والأشرار والعصاة، كما هي مهوبة حتى بالنسبة للقديسين.

يرتعب الخطاة كعبيدٍ أخذوا موقف العداوة والمقاومة ضد الله سيد البشرية، ويهاب القديسون الله كأبناء يوقرون أباهم السماوي.

إن كان الله مخوف للجميع، لكنه يستجيب لطلبات مؤمنيه الذين يطلبون عن خلاص العالم، فيفتح الرب أبواب الرجاء أمام كل الأمم. إنه يُسَرُ كمخلص العالم أن يسمع صوت كنيسته المملوءة حبًا لجميع البشرية تطلب منه عنهم.

عظيمة هي نعمته المجانية التي تدعو الكل للتمتع بها.

يترجم القديس أغسطينوس كلمة "العدل"، بالبرّ، ويرى "البرّ" هو خيرات ذاك البيت. فإن هيكل الله عجيب، لا بأعمدته ولا بمرمره ولا بأسقفه المطلية بالذهب، وإنما عجيب في البرّ.

هذا البرّ الذي لا يحمل جمالاً أمام الأعين الجسدية بل أعين القلب.

v     يوجد نوع من الجمال في البرّ، الذي نراه بعين القلب، ونحبه ونلهبه بالوجدان...

هذه هي خيرات بيت الله، التي بها تُعَد نفسك لكي تشبع...

"طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يشبعون" (مت 5: 6).

"هيكلك المقدس عجيب بالبرّ". ذاك الهيكل نفسه يا إخوة، لا تظنوا أنه كلا شيء، بل هو أنفسكم.

أحبوا البرّ، فتكونوا هيكل الله.

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أن البحر هنا يشير إلى العالم حيث يفترس الواحد الآخر، أما أولاد الله فإن المخلص هو رجاؤهم يحميهم من الأشرار وإن كان لا يعزلهم عنهم. حتى في الشباك يوجد صالحون وأشرار (مت 13: 47-49). وعلى شاطئ الحياة الأبدية يُعزَل هؤلاء عن أولئك.

v     "تستجيبنا يا الله، مخلصنا" [5]. الآن يكشف لنا من هو الذي يُدعَى الله. إنه المخلص، الرب يسوع المسيح.

الآن ظهر  بالأكثر إلى من يأتي كل بشر... "استجبنا يا الله، مخلصنا، يا رجاء جميع أقاصي الأرض والبحر البعيدة"... يأتون من كل الأركان...

"من أقاصي البحر البعيدة"... لأن البحر هو رمز لهذا العالم، الملح المرّ، مع متاعب العواصف، فيه أناس منحرفون ولهم شهوات فاسدة، يصيرون كالسمك يفترس الواحد الآخر. لاحظوا البحر الشرير، البحر المُرّ، بأمواج عنيفة، لاحظوا بأي نوع من البشر ممتلئ.

من يشتهي الميراث إلا بموت آخر؟ من يطلب ربحًا إلا بخسارة الغير؟ كم من كثيرين يرغبون في المجد بسقوط الآخرين؟ كم من كثيرين لكي يشتروا يطلبون من الآخرين أن يبيعوا؟...

هيا يا مواطني أورشليم الذين في داخل الشباك، وأنتم سمك صالح، احتملوا الأشرار فإن شباككم لا تتمزق. أنتم معهم في البحر، لكنكم لن تكونوا معهم في ذات الأوعية. فإنه ذاك الذي هو "رجاء جميع أقاصي الأرض"، هو نفسه رجاء "البحر البعيد".

القديس أغسطينوس

v     هذا القول أظهر النبي بوضوح أن ربنا يسوع المسيح هو إله ومخلص، خلَّصنا من عبودية الشيطان...

"الذين في البحر بعيدًا"... هم الذين كانوا في بحر الكفر، الكثير الأمواج والشديد الملوحة، بعيدين عن الله، لكنهم بالإيمان خلصوا من ملاطمة أمواج الشرور، وصاروا قريبين إليه.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     الذين في أقاصي الأرض هم الذين يمارسون الإثم بكماله، والذين في البحار البعيدة هم الذين في جهالة عظيمة. ومع ذلك فإن المسيح هو رجاء هؤلاء وأولئك[38].

الأب دورثيئوس من غزة

الْمُثْبِتُ الْجِبَالَِ بِقُوَّتِهِ،

الْمُتَنَطِّقُ بِالْقُدْرَةِ [6].

ما هذه الجبال التي تبدو ثابتة وراسخة إلى الأبد، سوى الممالك والإمبراطوريات، حيث ظن الملوك والأباطرة أن ممالكهم لن تزول. وكما قال الملك نبوخذ نصر: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي" (دا 4: 30). قيل عن هذه الجبال المتشامخة: "لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار؛ تعج وتجيش مياهها؛ تتزعزع الجبال بطموها" (مز 46: 2-3). كما قيل: "هأنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب المهلك كل الأرض، فأمد يدي عليك، وأدحرجك على الصخور، وأجعلك جبلاً محرقًا" (إر 51: 25).

كما أن الجبال تشير إلى الأباطرة المتشامخين وإمبراطورياتهم، فهي من جانب آخر تشير إلى جبابرة الإيمان الذين يتمتعون بالثبات والقوة بفضل القدرة الإلهية. ليس لهم فضل في ذواتهم، إنما فضل النعمة الغنية العاملة فيهم.

v     "مُعدًا الجبال بقوته" [6]، وليس بقوتهم. فإنه يُعِدُ كارزيه العظماء وأولئك الذين يدعوهم جبالاً هم متواضعون في أنفسهم، وأقوياء فيه...

ماذا يقول أحد هذه الجبال؟ "كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون مُتَكِّلين على أنفسنا، بل على الله الذي يُقيم من الأموات" (2 كو 1: 9)...

أولئك الذين يضعون المسيح في وسطهم، "المتنطق"، يجعلونه محاطًا من كل جانب. نحن جميعنا نقتنيه بصفة عامة، فهو في وسطنا. فنطوقه، إذ نؤمن به، لأن إيماننا ليس في قوتنا بل في قوته. لذلك فهو متمنطق بقوته، لا بقوتنا.

القديس أغسطينوس

الْمُهَدِّئُ عَجِيجَ الْبِحَارِ،

عَجِيجَ أَمْوَاجِهَا وَضَجِيجَ الأُمَمِ [7].

الله القدير الذي يهب جباله المقدسة، أي قديسيه الثبات، يهب البحار المقدسة أيضًا هدوءً وسلامًا داخليًا.

قيل: "رسم حدًا على وجه المياه" (أي 26: 10). والعجيب أن الحدود التي وضعها الله للبحار والمحيطات غالبًا ما تكون بواسطة الرمال الصغيرة الحجم جدًا. وكأن الله يؤكد أنه مهما حمل الإنسان من اضطرابات داخلية ومِحَن خارجية، فإنه يستخدم الأمور التافهة كحبات الرمل لكي تحفظه من الاضطرابات والمحن.

عندما جاء السيد المسيح إلى عالمنا أمر الرياح وأمواج البحر بالهدوء فأطاعته الطبيعة للحال.

يرى القديس أغسطينوس أن الله المخلص إذ يعمل في حياة الأمم، ويقوِّي الكارزين به كجبال شامخة، ويمنطق نفسه بالمؤمنين، إذ يهبهم قدرته، يثور الأشرار ويعجون من أعماق قلوبهم ضد الكنيسة. في هياجهم من يقدر أن يحتمل اضطهاداتهم وتهديداتهم؟ لا نقدر بأنفسنا على ذلك، إنما يهبنا المخلص القدرة على الاحتمال.

v     إنه يُعِد الجبال بقوته، ويُرسلهم للكرازة، ويتمنطق بالمؤمنين في قدرةٍ، عندئذٍ يتحرك البحر؛ يتحرك العالم ويبدأ يضطهد قديسيه.

"إذ يتمنطق بالقدرة، يضطرب في أعماق البحر". لم يقل: "يضطرب البحر"، إنما "عمق البحر". عمق البحر هو قلب الأشرار. فإنهم كما من العمق الدفين تثور كل الأمور، وتثبت كل الأمور من العمق. فما يحدث باللسان أو الأيادي والقوات المختلفة لاضطهاد الكنيسة يخرج من العمق. لو لم تكن جذور الشر في القلب ما كانت هذه الأمور كلها تحدث ضد المسيح. تضطرب الأعماق، وذلك ربما لا يفرِّغ أيضًا العمق. فإنه في حالة بعض الأشرار يفرِّغ (الله) البحر من عمقه، وجعل البحر برية قيل هذا في مزمور آخر: "حوَّل البحر إلى يابسٍ" (مز 66: 6). كل الأشرار والوثنيين الذين آمنوا كانوا بحرًا وصاروا أرضًا. كانوا في الأول عقيمين بأمواج مالحة، وصاروا بعد ذلك مثمرين ينتجون بِرًا.

من يقدر أن يحتمل عمق البحر، وضجيج أمواجه؟... أي إنسانٍ يحتمل صوت أمواج البحر وأوامر قوات العالم المتشامخة؟... إننا أنفسنا لا نقدر بأنفسنا أن نحتمل تلك الاضطهادات، ما لم نُعطَ هذه القوة.

القديس أغسطينوس

v     ألاَّ ترون هذا البحر بأمواجه الكثيرة ورياحه العنيفة، ومع هذا فإن هذا البحر المتسع العظيم الثائر هكذا تحجزه رمال ضعيفة! لاحظوا أيضًا حكمة الله فقد سمح له ألاَّ يستريح، ولا يهدأ، لئلا تظنوا أن نظامه الصالح هو بتدبير طبيعي، ومع هذا فهو يلتزم بحدوده. يرفع صوته عاليًا باضطرابه وهديره وأمواجه المذهلة في علوها. لكنها إذ تبلغ الشواطئ تحجزها الرمال وتكسرها، فتعود بذاتها إلى الوراء، لكي تُعَلِّمكم بهذه الأمور كلها أن ما يحدث ليس هو من عمل الطبيعة المجردة أن يبقى البحر عند حدوده، بل هذا من عمل ذاك الذي بسلطانه يصده! لهذا السبب جعل الحاجز ضعيفًا، فلم يطوق الشواطئ بأخشاب وحجارة وجبال، لئلا تعزو نظام العناصر إلى مثل هذه الأمور. لذلك فإن الله نفسه درَّبَ اليهود بذات هذه الظروف، قائلاً: "إياي لا تخشون يقول الرب... أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر فريضة أبدية لا يتعداها" (إر 5: 22)[39].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     حبة الرمل، وهي أضعف شيء، تصد عنف المحيط[40].

القديس باسيليوس الكبير

v     استجب لنا في ما نطلبه منك يا من بقوتك توجد الجبال، وتصنع كل شيء بسهولة، كما يقوم المتمنطق بعمله، منطقتك هي الاقتدار. بأمرك يتحرك البحر الذي هو نحن، الذي لا يُحتمل دوي أمواجه.

أما التأويل (التفسير الرمزي) فهو أن البحر هو جموع الأمم الذين أرجفهم الله، فأزعجهم وأدهشهم بعجائبه وحرَّكهم ونقلهم من الكفر إلى الإيمان. والآن تروي أمواجهم أعني أصوات تمجيدهم لله، فمن يحتملها، أي من يقدر أن يصغها، لأن المؤمنين بالمسيح لهم لغات كثيرة.

الأب أنثيموس الأورشليمي

وَتَخَافُ سُكَّانُ الأَقَاصِي مِنْ آيَاتِكَ.

تَجْعَلُ مَطَالِعَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ تَبْتَهِجُ [8].

أمام الآيات والعجائب التي صنعها الله قديمًا، ولا زال يصنعها، خاصة الآية العظيمة الخاصة بالتجسد الإلهي، تقف الأمم في مهابة. وكما قيل بإشعياء النبي: "لكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش 7: 14).

هذه هي آية الحب الإلهي التي تُدهِش السمائيين والأرضيين. فقد أشرق شمس البرّ على البشرية، فأعطاها صباحًا جديدًا، إذ تختبر عربون السماء. كما وهبها بهجة عند المساء، حيث تتهلل النفوس وتبتهج عندما تنطلق من هذا العالم، فتغرُب عنه، لتحظى بنور الأبدية.

يرى القديس أغسطينوس في الصباح إشارة إلى الحياة المملوءة بالوفرة، والمساء متاعب العالم. فالإنسان عندما يُوعَد بالمكاسب تكون الحياة بالنسبة له صباح، وعندما يعاني من متاعب يكون له ذلك مساء. فالمؤمن يستخف بصباح العالم وذلك بنور الرب، ويستهين بالمتاعب من أجل الرب. فإن كان الإنسان لا يجد مسرته في أمور العالم، فإنه لا يضطرب من متاعب العالم، بل يجد بهجته في وعود المخلص.

v     يضطرب البحر، وتتلطم (أمواجه) ضد الجبال. البحر يتحطم والجبال التي لا تهتز تبقى. "تضطرب الأمم، ويخاف كل الناس". انظروا الآن يخاف كل الناس؛ هؤلاء الذين كانوا قبلاً مضطربين الآن هم خائفون...

تحققت معجزات الرسل وعندئذٍ خافت أقاصي الأرض وآمنت.

القديس أغسطينوس

v     إنه لآياتك التي صنعتها في أرض مصر وكنعان قديمًا والتي ستصنعها بحضورك بالجسد على الأرض تضطرب الأمم منها وتفزع، لأنها قد عرفت أنه بأمرك تشرق الأسحار وتغرب العشيات، وصار لها ذلك فرحًا وطربًا.

الأب أنثيموس الأورشليمي

3. لك التسبيح أيها المعتني بنا

تُسَبِّح النفس مُخلِّصها الذي يهبها غفرانًا لخطاياها، ويفتح لها أبواب السماء، بيت الله كبيت تمارس فيه عبادتها. كما تُسبِّح الخالق الذي أبدع في حبه للإنسان فقدَّم له كل احتياجاته، وأشبع أعماقه الداخلية كما جسده أيضًا. والآن تسبح الله الذي يعتني بها، لا على مستوى الجسد وحده، وإنما يقدم لها روحه القدوس ليقيم منها جنة مقدسة، وفردوسًا روحيًا، وملكوتًا له على مستوى سماوي.

تَعَهَّدْتَ الأَرْضَ وَجَعَلْتَهَا تَفِيضُ.

تُغْنِيهَا جِدًّا.

سَوَاقِي اللهِ مَلآنَةٌ مَاءً.

تُهَيِّئُ طَعَامَهُمْ لأَنَّكَ هَكَذَا تُعِدُّهَا [9].

كان الشرق الأوسط يعتز بالأنهار مثل نهر النيل ونهر الأردن ونهري دجلة والفرات، كما يعتز بالينابيع، وذلك بسبب قلة الأمطار. فكما يفيض النهر بالخصوبة على شاطئيه، ويجعل من الأراضي جنات مملوءة بالثمار، هكذا يفتقد الرب الأرض ويرويها بمياهه الإلهية.

يصوِّر المرتّل الله المعتني بكل البشرية وهو يفتقد الأرض من أقاصيها إلى أقاصيها، يُوَجِّه السحاب هنا وهناك، ويبعث بالأمطار، ويهتم بالأنهار والينابيع، حتى لا يحتاج البشر إلى شيء.

جاء السيد المسيح إلى عالمنا، لكي يُفَجِّر في داخلنا ينابيع مياه حية، وكما يقول يوحنا الإنجيلي: وفي اليوم الأخير من العيد، وقف يسوع ونادى قائلاً: "إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد" (يو 7: 37-39).

قبلاً كان لله شعب واحد، الآن نعمة الله تعمل في الشعوب فتصير أنهار الله المملوءة بمياه روحه القدوس حسب وعده الإلهي (يو 7: 37-39).

v     "تعهدت الأرض، وجعلتها تسكر". ترسل سحابك، تمطر بالكرازة بالحق، وتسكر الأرض. تغنيها جدًا. كيف؟ "أنهار الله ملآنة ماء. ما هو نهر الله؟ إنه شعب الله.

القديس أغسطينوس

يرى الآب أنثيموس الأورشليمي أن نهر الله هنا يشير إلى خيرات الله التي يفيض بها علينا، كما يشير إلى الإنجيل المقدس المملوء بالوعود الإلهية، وأيضًا إلى نعمة الروح القدس التي يفيض بها على المؤمنين، أما الطعام فهو الخبز المحيي النازل من السماء الذي هو ربنا يسوع المسيح.

إن كنا نُقدِّم كلمة الله للآخرين، فإن الله نفسه هو الذي يُعِد هذا الطعام بنفسه، يُقدِّمه لبنًا للأطفال، وطعامًا قويًا للبالغين.

أَرْوِ أَتْلاَمَهَا.

مَهِّدْ أَخَادِيدَهَا.

بِالْغُيُوثِ تُحَلِّلُهَا.

تُبَارِكُ غَلَّتَهَا [10].

يتطلع المرتل إلى الله بكونه المُزارِع الفريد، الذي يتعهد النفس ليقيم منها فردوسًا مثمرًا. فالفلاح العادي مهما كانت محبته لحقله أو كرمه فلن تتعدى سوى أن يحرث الأرض ويفلحها ويلقي بالبذور ويهتم بالسماد، ويرويها بطريقة أو أخرى، ثم يعود إلى بيته وينام. أما هذا المُزارِع العجيب المشغول بحقله، فيبذل كل حياته من أجل الحقل، ويرويه بروحه القدوس، ويسمِّد بجسده ودمه المبذولين عن العالم، ويكرس كل شيء من أجله، ويرسل ملائكته لحراسته. إنه يناجي حقله ويفيض ببركته عليه!

هذا هو عمل الله الدائم بغنى نعمته في حياة الإنسان

"تبارك غلتها"، إذ تثمر الكرازة بقبول شخصٍ ما الإيمان، يجذب معه أيضًا آخر.

كَلَّلْتَ السَّنَةَ بِجُودِك،َ

وَآثَارُكَ تَقْطُرُ دَسَمًا [11].

تتغنى الكنيسة بهذه العبارة في ليتورجية عيد النيروز (بدء السنة القبطية)، حين تعترف بفضل الله وإحسانته، هذا الذي يملأ الكنيسة- حقله المحبوب لديه جدًا- بصلاحه، ويفيض عليه بروح الفرح والتسبيح. إنها تسبحة شكر لأجل أعماله عبر السنة الماضية، وتوسُّل منها أن يقبلها كحقله الخاص، يهبها صلاحه وبِرَّه وفرحه بروحه القدوس.

لا يتوقف الله عن زرع كلمته خلال الكارزين والشعب، ولا يتوقف عدو الخير عن زرع الزوان كما في ظلمة الليل (مت 13: 25). وقد طلب السيد ألا نضطرب، ولا نقلع الزوان بالعنف بل ندعه مع الحنطة ينميان معًا. (مت 13: 30). أما سرّ النصرة فهو بركة الرب العاملة طوال العام ويكلله بصلاحه.

يرى العلامة أوريجينوس أن السنة التي يكللها الله بجوده هي التي قيل عنها في إشعياء: "أكرز بسنة الرب المقبولة"، وهي خاصة بالمدة التي عاشها السيد المسيح بالجسد في هذا العالم.

يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن بقاع الله التي تكثر من الخصب هي نفوس الصديقين.

تَقْطُرُ مَرَاعِي الْبَرِّيَّة،

وَتَتَنَطَّقُ الآكَامُ بِالْبَهْجَةِ [12].

هنا يتطلع المرتل إلى حكمة الله وحبه، فإن كان يحوِّل بعض البراري إلى جنات بمياه روحه القدوس، فإنه يزين بعض البراري والتلال بمراعٍ تعيش فيها قطعان الغنم والبقر وغيرها، كما في جوٍ بهيج ومفرح.

لمسات حنو الله ومحبته تسكب روح الفرح في كل موضع، وفي حياة كل أحد. فالحقول بالثمار والتلال والجبال بمراعيها، الكل يُسَبِّح بهتاف!

يقصد بالسهول والتلال والأودية البشر.

v     يُدعَى الصديقون سهولاً من أجل مساواتهم، وتِلالاً من أجل رفعهم، فإن الله يرفع فيه المتواضعين. ونهاية البرية هي كل الأمم... إنهم برية لأنهم لم يُرسل لهم نبي، إنهم مثل صحراء لم يَعبُر بها أحد. لم تُرسَل كلمة الله للأمم، إنما أُرسل الأنبياء لإسرائيل وحدها... لقد وجد حصاد أول، وسيحدث حصاد آخر في نهاية الزمن. الحصاد الأول من اليهود، إذ أُرسل لهم الأنبياء يعلنون عن مجيء المخلص. لذلك قال المخلص لتلاميذه: "انظروا الحقول إنها قد ابيضَّت للحصاد" (يو 4: 35)، الأراضي تعني اليهودية... في الحصاد الثاني يتعب الرسل. وفي النهاية يرسل الله ملائكته للحصاد.

القديس أغسطينوس

اكْتَسَتِ الْمُرُوجُ غَنَمًا،

وَالأَوْدِيَةُ تَتَعَطَّفُ بُرًّا.

تَهْتِفُ وَأَيْضًا تُغَنِّي [13].

يقدم المرتل الطبيعة نفسها كلوحة حية لخورس متهلل يقدم سيمفونية فرح وشكر. كل شيء يغني! الكل يفرح ويتهلل!

يقول الأب أنثيموس الأورشليمي إنه إن كان السبي قد حوَّل أورشليم إلى خراب فإن النبي يطلب من الله أن يرد شعبه إلى أورشليم فتصير براريها وأريافها خصبة، وأوديتها تمتلئ من الحنطة، ومواشيها يكثر صوفها بكثرة أعشاب المراعي.

أما التفسير الرمزي فهو أنه بعمل السيد المسيح الخلاصي، تتحول الأمم التي كانت أشبه بالبراري الجافة إلى جنات خلال مياه المعمودية. أما الآكام التي تنطق بالبهجة فهي شرفاء الأمم وعظماؤهم الذين كانوا قبلاً يُقدِّّمون الذبائح للأصنام على التلال والآكام فاختاروا السيرة الملائكية وصار منهم سواحًا في الجبال والبراري فأبهجوا البراري بسكناهم فيها. صار الكل يُسبِّحون الله.

التسبيح لله والتهليل والهتاف بفرح يُشبِعُ النفسَ كما بحنطة سماوية.

v     إن صرختم بتجديف، فإنكم تنتجون شوكًا. وإن صرختم بتسبيح فإنكم تفيضون بالحنطة.

القديس أغسطينوس

 


 

من وحي مز 65

قلبي يهتف متهللاً برعايتك!

v     تفتح لي بيتك، بيت الفرح والتهليل.

فيه تُسبِّحك نفسي، وتوفي لك النذور.

نذر رد الحب بالحب،

وتقديم ذبائح التسبيح والشكر.

v     تُسبِّحك نفسي، لأنك سامع الصلوات.

مع داود أُصلِّي إليك، فلا أطلب شيئًا،

سوى أن يأتي كل البشر إليك.

نعمتك ترعاني، فتفتح قلبي بالحب لكل إنسانٍ!

أقول مع موسى العجيب في حلمه:

اغفر لهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت،

ومع بولس: أود أن أُحرَم من كل شيء،

من أجل تمتع كل البشرية بخلاصك.

v     آثامي لن تعوقني عن الصلاة والعمل لأجل إخوتي.

لأنك أنت تكفر عنها وتمحوها بدمك الثمين.

v     تتهلل نفسي، لأنك تقيم من الهباء جبلاً ثابتًا.

أنت قدير، تحوِّل البشر إلى ملائكة، والأرضيين إلى سمائيين!

تهدئ عجيج البحار وأمواج العالم،

فتمنح الأمم سلامك الذي يفوق العقل.

v     يا صانع العجائب والآيات،

هل من آية تصنعها من أجلي أعظم من تجسدك؟

هل من أعجوبة تفوق صليبك؟

هل من حب أعظم من منحي قوة قيامتك؟

هل لي أن أطلب شيئًا بعد أن حملتني إلى سماواتك؟

آياتك هذه جميعها أعطت لحياتي طعمًا جديدًا.

مع إرميا النبي أصرخ: مراحمك جديدة في كل صباح.

ومع بولس الرسول: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون معك.

يبتهج الصباح، ويتهلل المساء، لأنك حاضر دومًا في حياتي.

v     يا للعجب! تتعهد الأرض كلها.

تفتقد البشر أينما وُجدوا

تفيض عليهم بمياه روحك القدوس.

فتحول البراري إلى جنات سماوية.

تبارك غلاتهم،

وتفيض عليهم بثمار روحك القدوس

v     أعماقي تهتف دومًا:

كللت السنة بجودك،

وآثارك تقطر دسمًا!

أعماقي تغني وتسبح على الدوام.

رعايتك تفوق كل تصورٍ!

 

<<

 


 

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ

دعوة للتسبيح للرب!

مثل المزمور السابق هو تسبحة ليتورجية يتغنى بها الشعب في مناسبة مفرحة، ربما تكون عيد الفصح.

يمثل هذا المزمور دعوة لكل البشرية لكي تسبِّح الله وتمجده على أعماله العجيبة معها، ومحبته الفائقة.

يسبِّح الشعب الله على أعماله السابقة، مثل عبورهم بحر سوف الذي حوَّله لآبائهم إلى يابس لكي يعبروه، واجتيازهم نهر الأردن. بهذا عبروا من حياة العبودية المُرَّة في مصر إلى ورثة لأرض الموعد.

حديثه عن بيت الرب [13] لا يعني بالضرورة أن هيكل سليمان كان قد بُني، فقد دُعيت خيمة الاجتماع أيضًا بيت الرب (خر 23: 19؛ يش 9: 23؛ قض 18: 31؛ 19: 18).

يرى البعض أن حزقيا الملك هو واضع هذا المزمور بعد أن أرسل الله إليه إشعياء النبي يقول: "قد سمعت صلاتك. قد رأيت دموعك. هأنذا أضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة، ومن يد ملك أشور أنقذك وهذه المدينة" (إش 38: 5-6).

يقول القديس أثناسيوس الرسولي إن هذا المزمور يحتوي على نبوة عن قيامة النفوس التي تحققت بظهور السيد المسيح. كما يخبرنا عن الأحزان التي تحل بالرسل حين كرزوا بالإنجيل المقدس. وأن أحزان هذا العالم تدخل بنا إلى الراحة الأبدية. ويخبرنا أيضًا عن رفض اليهود قبول السيد المسيح.

وحدة المزمور

يدَّعي بعض النقاد أن هذا المزمور مكوَّن من نصفي مزمورين، وحجتهم في هذا أن الجزء الأول للمزمور [1-12] جاء بصيغة الجماعة، بينما الجزء الثاني [13-20] جاء بصيغة المفرد.

لا يمكن قبول هذا الادعاء لمجرد اختلاف الضمير في الجزئين، فقد يكون الجزء الأول هو تسبحة تنشدها الجماعة معًا، والجزء الثاني ينشدها قائد فرقة المُرَنِّمين باسم الجماعة.

لو كان الجزءان قد جمعهما شخص ما من مزمورين، ما كان قد فات عليه أن يغير الضمير في إحدى القسمين. هذا ويلاحظ وجود تناغم في الفكر في المزمور كله.

أقسامه:

1. دعوة كل البشرية للتسبيح                  1-5.

2. تذكر أعماله الخلاصية                      6-7.

3. تسبيح الله لخلاصه لشعبه                   8-12.

4. إيفاء نذور باسم الشعب                     13-15.

5. دعوة خائفي الرب لتسبيحه                  16-20.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ

المزموران 66، 67 هما الوحيدان بين المزامير اللذان لم يذكر في عنوانيهما واضع المزمور.

يُدعى أيضًا بمزمور القيامة كما جاء في الترجمة السبعينية والفولجاتا. وأنه يتنبأ عن قيامة ربنا يسوع المسيح البار [9، 16].

1. دعوة كل البشرية للتسبيح

اِهْتِفِي لله يَا كُلَّ الأَرْضِ [1].

يليق بالأرض كلها أن تسبِّح الله، بكونه ملك الملوك ورب الأرباب. فيقف حتى غير المؤمنين في دهشة أمام عجائبه العظيمة. أما المؤمنون فيتحركون بالتسبيح الدائم كرد فعل طبيعي للحياة المطوَّبة التي يختبرونها. فقد قيل: "طوبى للشعب العارفين الهتاف" (مز 89: 15).

الهتاف الذي رفع أصوات الجماعة معًا بالسرور والبهجة لله، هو أفضل كل الذبائح المقدمة لله، وهو شهادة صادقة عن نقاوة القلب وتقوى الحياة.

يليق بكل مؤمن أن يدعو الأرض كلها بحياته العملية كما بلسانه أن تسبِّح الله، وتتأمل أعماله القديرة والعجيبة. هذا هو دور الكاهن كما كل فرد في الشعب خاصة القادة من آباء وأمهات ومرشدين أن يحثوا الكل على تمجيد الله محب البشر!

v     التهليل هو صوت الفرح بالغلبة، والترنيم هو صوت الصلاة باتفاق الأنغام وآلات العزف. أما اسم الله الآب ومجده هو الابن، واسم الابن هو الآب، لأننا كما نعرف الناس بأسمائهم كذلك عرفنا الله الآب بالابن والابن بالآب، لقوله له المجد: إني أتيت باسم أبي، وأنا مجدت اسمك على الأرض.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور هو أغنية أو تسبيح مقدَّم بخصوص القيامة. وأن اليهود كانوا يترجون القيامة من الأموات، وإنهم وحدهم يقومون من الأموات للتمتع بالحياة المطوَّبة بسبب أعمال الناموس والتبرير بالأسفار المقدسة التي لهم دون الأمم. وقد جاء المزمور تسبحة تُقدَّم من أجل تمتع الأمم بالقيامة في المسيح يسوع.

v     انظروا يا إخوة بأي نوع جامعية الكنيسة، تنتشر في العالم كله... "اهتفي يا كل الأرض". أي هتاف (بهجة)؟ هتاف ليس بكلمات، بل بالصوت الخارج فقط من أناس متهللين، كما من قلبٍ عاملٍ، يُخرِج صوت سرورٍ لأمر يحسب أنه لا يُمكن التعبير عنه. "اهتفي لله يا كل الأرض". لا يهتف أحد منفصلاً، بل لتهتف كل الأرض. لتهتف الكنيسة الكاثوليكية (الجامعة). الكنيسة الكاثوليكية (الجامعة) تحتضن الكل. أما من ينفرد، وتقطع نفسه عن الكل، فيلزمه أن يولول لا أن يهتف.

القديس أغسطينوس

رَنِّمُوا بِمَجْدِ اسْمِهِ.

اجْعَلُوا تَسْبِيحَهُ مُمَجَّدًا [2].

جاء عن التسبيح في السماء: "وهم يرتلون ترنيمة موسى عبد الله، وترنيمة الخروف، قائلين: عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب القادر على كل شيء، عادلة وحق هي طرقك، يا ملك القديسين" (رؤ 15: 3).

هكذا تلتحم تسبحة العهد القديم مع تسبحة العهد الجديد. ففي القديم سبح الشعب الله من أجل خلاص الله لهم هذا الذي أنقذهم من عبودية فرعون، وانطرح فرعون ورجاله في عمق البحر. تبقى هذه الأنشودة قائمة في كل العصور والأجيال، على مستوى الجماعة كما الفرد. وبمجيء كلمة الله متجسدًا صارت لنا تسبحة جديدة حيث فتح أبواب الرجاء أمام كل الأمم لينالوا النصرة على إبليس وكل قوات الظلمة، ويتمتعوا بأن يملك السيد المسيح نفسه على قلوبهم. وكما قيل بملاخي: "لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرَّب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم، قال رب الجنود" (مل 1: 11).

من يُرَنِّم لمجد نفسه يأخذ أجرته في العالم أما من يُرَنِّم لمجد اسم الله، فيتقبل أجرة من أبيه الذي في السماوات.

الترنُّم لا يقف عند التسبيح باللسان، وإنما يترنَّم المؤمن عندما يمارس بكل كيانه الصالحات. فمن يعمل الخير لمجد نفسه يفقد مكافأته السماوية.

يرى القديس أغسطينوس أننا إذ نسبِّح الله بالكلام كما بالعمل، ويكون كل هدفنا في حياتنا هو مجد الله لا مجد أنفسنا، فإن الله من جانبه لن يترك أمرًا يَعبُر إلا ويمجدنا فيه. وكأن تمجيدنا لله من كل قلوبنا يرتد إلينا.

يقدم لنا القديس أغسطينوس مثلاً رائعًا لذلك، فإن الله اختار أولاً صيادي سمك يُحسَبون أغبياء العالم، لكن هوذا الإمبراطور عند ذهابه إلى مبنى تذكاري لصيادي السمك في روما، يضع تاجه جانبًا، ويبكي في خشية أكثر مما كان يبكيه صياد السمك أمام الإمبراطور!

فيما هو يطالبنا ألا نطلب مجد أنفسنا، يسكب مجده علينا!

v     انظروا كيف ينزع عنا ما هو لنا، لكي يعطينا ما هو له، يهبنا مجده!

يجعلنا فارغين لكي يعطينا الملء، يجعلنا متزعزعين لكي ما يهبنا الثبات...

رنِّم لا لأجل اسمك بل لأجل اسم الرب إلهك.

رنِّم لكي يتمجد هو.

عِش حسنًا، دَعه يتمجد! إن كنت تفعل هذا من أجل الأبدية، لن تحيا في الشر.

إن كنتم تفعلون هذا من أنفسكم (أعماقكم)، فإنكم لن تفعلوا إلا لتحيوا حسنًا. "أعطوا مجدًا لتسبيحه". ليكن كل اهتمامنا هو تسبيح الله حسب توجيهه، فلن يترك شيئًا به نحن نتمجد.

إذن لنمجد بالأكثر ونفرح. لنلتصق به، ونتمجد نحن فيه!

القديس أغسطينوس

قُولُوا لله: مَا أَهْيَبَ أَعْمَالَكَ.

مِنْ عِظَمِ قُوَّتِكَ،

تَتَمَلَّقُ لَكَ أَعْدَاؤُكَ [3].

v     قولوا لله: ما أهيب أعمالك!" [3]... لتسمعوا أيضًا صوت مزمور آخر: "اعبدوا الرب بخوفٍ، واهتفوا برعدةٍ" (مز 2: 11). اسمعوا صوت الرسول، يقول: "تمموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ" (في 2: 12). لماذا بخوفٍ ورعدةٍ؟ يقدم لنا السبب: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (في 2: 13). فإن كان الله يعمل فيكم، فإنكم بنعمة الله تعملون حسنًا، ليس بقوتكم. لهذا إذ تفرحون، خافوا أيضًا، لئلا ينزع عن المتكبرين ما يُعطَى للمتواضعين.

القديس أغسطينوس

يُسبِّحه الشعب من أجل عِظَم قوته التي يختبرونها: "الله لنا ملجأ وقوة. عونًا في الضيقات وُجد شديدًا" (مز 46: 1). "لكي أبصر قوتك ومجدك كما قد رأيتك في قدسك" (مز 63: 2). ومن جانب آخر فإن أعداءه في مذلة يخضعون له ويتملقونه (مز 18: 44؛ 81: 15).

"تتملق لك" جاءت في الترجمة السبعينية "يكذبون عليك". هذا ينطبق على فرعون الذي كان يخضع للرب حين يسقط في ضربة من الضربات، لكن ما أن تُرفع الضربة يعود إلى ما كان عليه بقسوة قلب أكثر من الأول.

""من عظم قوتك، تتملق لك أعداؤك" [3]. يقول القديس أغسطينوس إن كذب شهود الزور عند قيامة السيد أكَّد بالأكثر قيامته، وعظَّم الناس قوة المخلص، إذ تذكروا ما قاله لليهود: "انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 18). كما قال: "لأني أضع نفسي، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 17).

كُلُّ الأَرْضِ تَسْجُدُ لَكَ وَتُرَنِّمُ لَكَ.

تُرَنِّمُ لاِسْمِكَ. سِلاَهْ [4].

v     قوله: "كل الأرض" يدل على الأمم الذين يملأون المسكونة بكثرتهم.

قوله أولاً: "يسجدون" وبعد ذلك "يرتلون" يدل على أنه أولاً يكون الإيمان بالله وثانيًا الصلاة والابتهال لله الذي نؤمن به.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     انظروا فقد رسمتم صورة وملامح لأعضاء الله من جسد بشري. وقد يعرض على تفكيركم أن هذا يوافق الجسد الذي منه نحن صورة الله. سأقبَل هذا إلى لحظات حتى نتبصر في ذلك ونفحصه ونختبره بالجدل. الآن إن كان هذا يبهجكم فلتسمعوا لي فيما قد سمعت لكم. يجلس الله في السماء ويقيسها بالشِبْرِ، ماذا؟ هل تتسع السماء بكونها كرسي لله وتضيق عند قياسها؟ هل يبقى الله محدودًا عند جلوسه بقدر راحة يده؟ لو كان الله كذلك فإنه لم يخلقنا على شبهه، لأن راحة يدنا أصغر بكثير من الجزء الذي نجلس به. ولكن إن كانت راحة يده تتسع عند جلوسه، فإنه لم يصنع أعضاءنا على شبهه. ليست هنا مماثلة. ليخجل المسيحي من أن يقيم تمثالاً كهذا في قلبه. لهذا فلتفكروا في السماء إنها كل القديسين. لأنه يقال عن سكان الأرض "كل الأرض تسجد لك" (مز 66: 4)، فإن قلنا بحق عن كل سكان الأرض "كل الأرض تسجد لك"، فإننا نقول أيضًا يحق عن سكان السماء كل السماء تحملك، لأنه حتى القديسين الذين يقطنون الأرض يقطنون السماء بقلوبهم رغم أنهم يسيرون على الأرض بأجسادهم فليس باطلاً تنبيههم "ارفعوا قلوبكم"[41]. فعند تذكيرهم بهذا يجيبون أنهم قد رفعوها. لم يقل باطلاً "فان كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، اهتموا بما فوق لا ما على الأرض" (كو 3: 1-2). فبمقدار اختلاطهم بالسماويات يحملون الله ويكونون سماء لأنهم كمرسى الله، وعندما يعلنون كلام الله فإن "السماوات تُحَدِّث بمجد الله"[42].

القديس أغسطينوس

هَلُمَّ انْظُرُوا أَعْمَالَ اللهِ.

فِعْلَهُ الْمُرْهِبَ نَحْوَ بَنِي آدَمَ [5].

يرى البعض أن كلمة "انظروا" هنا كما في المزمور 46: 8 تعني الدعوة للتطلع في داخل القلب لنرى ملكوت الله. أيضًا الدعوة للتطلع إلى الكنيسة التي أقامها في كل المسكونة، حيث ملك الرب على الأمم، وأقام مملكته في قلوب الكثيرين! هذا ومن يتأمل ما فعله الرب قديمًا مع شعبه مثل اجتياز بحر سوف ونهر الأردن، يدرك كيف أنه إله مهوب.

v     كل من يؤمن به ويُفكِّر في أعماله يفهم أنه أشد رهبة في آرائه.

الأب أنثيموس الأورشليمي

2. تذكر أعماله الخلاصية

حَوَّلَ الْبَحْرَ إِلَى يَبَس،ٍ

وَفِي النَّهْرِ عَبَرُوا بِالرِّجْلِ.

هُنَاكَ فَرِحْنَا بِهِ [6].

سرّ فرحنا، كما يرى القديس أغسطينوس أن نفوسنا تتحول من بحر إلى يابس، وتَعبُر كما بالأقدام على النهر. بمعنى آخر إذ نؤمن بالسيد المسيح مخلصنا يحول نفوسنا من بحر مملوء مرارة واضطرابات وعواصف، إلى أرض تعطش دومًا إلى مياه الحب الإلهي، بهذا العطش تعبر مع مسيحها فوق نهر العالم، أي فوق كل محبة للزمنيات الفانيات.

كان اليهود يتطلعون إلى عبورهم بحر سوف ونهر الأردن كأعظم أعماله الخلاصية. "أنت شققت البحر بقوتك؛ كسرت رؤوس التنانين على المياه" (مز 74: 13). "شق البحر فعبَّرهم، ونصب المياه كندٍّ" (مز 78: 13).

الله الذي يبَّس البحر ليَعبُر موسى ومعه بنو إسرائيل بأرجلهم، وخلَّصهم من اضطهاد المصريين، وأجازهم نهر الأردن تحت قيادة يشوع بن نون إنما كان ذلك رمزًا لاجتياز الأمم المعمودية والتمتع بالفرح بالخلاص.

يرى أيضًا القديس أغسطينوس أن النهر الذي تعبر عليه النفس بالأقدام هو جسدنا القابل للموت. فقد قبل قائدنا أن يشرب من هذا النهر، فمات وقام. لهذا إذ نتحد به نفرح حيث نعبر على الموت بالأقدام، ونتمتع بالخلود.

لم يقل: "هناك فرحوا به"، بل قال "فرحنا به"، حاسبًا فرح الأجيال القديمة عند خلاصهم هو فرح للمرتل كما للجماعة الحاضرة. يحسب المرتل في كل العصور أن عبور الشعب القديم البحر عبوره هو، وفرحهم فرحه هو. وحدة عجيبة، وحب فائق، وشركة تتحدى الزمن!

v     كان البحر هو العالم، مُر بملوحة، مضطرب بعواصفٍ، تأثر بأمواج الاضطهادات. لقد كان بحرًا.

بالحق تحول إلى يابس، الآن يعطش إلى مياه عذبة هذا الذي كان ملآنًا بمياه مالحة.

مَنْ فعل هذا؟ ذاك الذي "حوَّل البحر إلى يابسٍ" الآن ماذا تقول نفوس كل الأمم؟ "نفسي نحوك كأرضٍ يابسة" (مز 143: 6).

"وفي النهر عبروا بالرجل" [6]. نفس الأشخاص الذين يتحولون إلى يابسٍ، هؤلاء الذين كانوا قبلاً بحرًا يعبرون النهر بالأرجل.

ما هو النهر؟ النهر هو كل موت العالم. تطلعوا إلى النهر، أمور تأتي وتعبر، وتحل مكانها أمور أخرى... في هذا النهر لا يلقي أحد بنفسه فيه بطمع، ليت النفس لا تلقي بذاتها بل تقف بثبات.

وكيف تعبر فوق ملذات الأمور التي مصيرها الدمار؟ لتؤمن بالمسيح، فتعبر بالأرجل، تعبر معه كقائدٍ، تعبر بالأرجل.

القديس أغسطينوس

مُتَسَلِّطٌ بِقُوَّتِهِ إِلَى الدَّهْرِ.

عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ الأُمَمَ.

الْمُتَمَرِّدُونَ لاَ يَرْفَعُنَّ أَنْفُسَهُمْ. سِلاَهْ [7].

ما فعله في الماضي يشهد لقدرته ولعنايته بمؤمنيه. هذه القدرة وهذا الحب لا يحدهما زمن ولا ومكان. فالله يعمل كل يوم إلى انقضاء الدهر، ويعمل في كل الأمم وفي حياة كل إنسان!

يقول المرتل: "مُلكك مُلك كل الدهور وسلطانك في كل دورٍ فدورٍ" (مز 145: 13).

هنا نفرح به على رجاء القيامة، أما في الأبدية فنفرح به على مستوى أبدي! لذلك يقول المرتل: "متسلط أو يحكم بقوته إلى الأبد" [7]

v     لنكون شركاء في قوته، فبقوته نصير أقوياء، أما هو فقوي بذاته. نحن مستنيرون، وهو النور الذي ينير. نحن إذ تركناه صرنا في الظلمة، أما هو فلا يترك ذاته. بحرارته نستدفئ، بانسحابنا منه نصير في بردٍ، وإذ نقترب إليه من جديد نصير في دفءٍ. لهذا ليتنا نتحدث معه لكي يحفظنا في قوته، فإننا فيه نفرح، الذي يملك بقوته إلى الأبد.

القديس أغسطينوس

v     بقوله: "يسود بقوته إِلَى الدهر" يعني أنه سيد على الدهر وكل ما فيه، وبقدرته يستطيع أن يُنَجِّي المؤمنين من شرور الدهر كقول الرسول: لينجينا من الدهر الحاضر الشرير...

قوله: "عيناه تراقبان الأمم" معناه أن الله يعتني بكافة الناس ليس بإسرائل فقط. بمعنى من حيث أن الإسرائيليين قد عصوا، رفع الله نظره عنهم وجعله ينظر إلى الأمم.

إن الله الذي اهتم باليهود فقدم لهم الناموس والوعود الإلهية بالخلاص، تراقب عيناه بالحب جميع الأمم، ليقدم لكل البشرية من فيض عطاياه الإلهية.

قوله "المتمردون" يدل على الإسرائيليين الذين أولاً تمردوا على الله في البرية، وثانيًا لما تجسد ابنه تمردوا بأفعالهم وأقوالهم. وأيضًا حين كان مصلوبًا سقوه خلاً ومرًا. وقد سبق الله وقال عنهم في نبوة دانيال: امضِ يا ابن الإنسان إلى بيت إسرائيل الذي تمرد عليّ.

الأب أنثيموس الأورشليمي

أما عن رعاية الله للجميع فيقول الحكيم: "في كل مكان عينا الرب مراقبتين الطالحين والصالحين" (أم 15: 3).

"المتمردون لا يرفعن أنفسهم" بمعنى أن المتمردين على الله لا يرفعون قرنهم ولا يقدرون على مقاومة مشيئة الله.

3. تسبيح الله لخلاصه لشعبه

بَارِكُوا إِلَهَنَا يَا أَيُّهَا الشُّعُوبُ،

وَسَمِّعُوا صَوْتَ تَسْبِيحِهِ [8].

إنها دعوة متجددة للأمم للتمتع بعمل الله وخلاصه، فتمتلئ بحياة الفرح والتسبيح.

v     بعد أن أحاط علمكم أيها الأمم بالعجائب التي صنعها الله سابقًا ولاحقًا فمجدوه وأخبروا أيضًا خلفاءكم بعجائبه ليكون صوت تسبحة مسموعًا في الأجيال القادمة.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     الآن يأتي نسل إبراهيم الذي فيه تتبارك جميع الأمم (تك 12: 3). "باركوا إلهنا يا أيها الشعوب، وسمِّعوا صوت تسبيحه" [8]. لا تمدحوا أنفسكم بل سبحوه. ما هو صوت تسبيحه؟ إنه بنعمته صرنا ما نحن عليه من صلاح.

القديس أغسطينوس

الْجَاعِلَ أَنْفُسَنَا فِي الْحَيَاةِ،

وَلَمْ يُسَلِّمْ أَرْجُلَنَا إِلَى الزَّلَلِ [9].

يطلب المرتل من الشعوب أن تتطلع إلى الواقع العملي، فالكنيسة عبر كل العصور تعاني من الاضطهادات والمحن حتى تبدو كأن رجليها تُسَلَّمان للزلل، لكن الله يرد لها الحياة، فتختبر الحياة الجديدة المقامة!

v     جعل الله أنفسنا في الحياة، ليس فقط لما نفخ في وجه آدم ومنحه روح حياة، بل أيضًا لما أعطاه وصيته إن حفَظها يكون في حياة ولا تزل قدماه...

عندما آمن الأمم بالمسيح، صارت نفوسهم فيه، الذي هو الحياة الحقيقية. تثبتت أقدامهم على صخرة إيمانه فلا تزل. وقد قال عنهم في نشيد الأناشيد: "ساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز، طلعته كلبنان، فتى كالأرز" (نش 5: 15).

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     انظروا صوت تسبيحه "الجاعل نفسي في الحياة". لقد كانت في الموت، كانت في ذاتها... أين تصير في الحياة إلا في ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6)؟... لقد جعلنا للحياة، جعلنا نُحفَظ حتى النهاية، حتى نعيش أبديًا.

القديس أغسطينوس

لأَنَّكَ جَرَّبْتَنَا يَا اللهُ.

مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ الْفِضَّةِ [10].

إذ يدعو المرتل الشعوب والأمم للإيمان بالله والتسبيح يؤكد لهم أنه إن كان شعب الله قد عانى محن وتجارب، فإنما بسماح إلهي لكي ينقيهم كالفضة والمعادن النفيسة بالنار لتتخلص من شوائبها.

قيل: "وأدخل الثلث في النار، وَأَمْحَصُهُمْ كَمَحْصِ الفضة، وأمتحنهم امتحان الذهب" (زك 13: 9). "وأرد يدي عليكِ، وأنقي زغلك، كأنه بالبورق، وأنزع كل قصديرك. وأُعيد قضاتك كما في الأول، ومشيريك كما في البداءة. بعد ذلك تُدعين مدينة العدل القرية الأمينة" (إش 1: 25-26).

v     كما أن الفضة... تُمحص بالبودقة في النار، كذلك النفس تتنقى بالأحزان.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يُعَلِّق القديس أغسطينوس على كلمات المرتل: "قدامه تذهب نار" )مز 3:97( قائلاً: [هل تخاف؟ لنتغير فلا نخف! ليخف التبن من النار، لكن ماذا تفعل النار للذهب؟![43]". كما يعلق على العبارة: "لأنك جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة" (مز 10:66)، هكذا: "لا لتحرقنا بالنار كالهشيم بل كالفضة. فباستخدام النار لا تصيرنا رمادًا بل تغسلنا من الدنس[44]".]

v     لا تكن النار بالنسبة لنا كما بالقش، وإنما كما بالفضة. باستخدام النار لا تتحولوا إلى رماد، بل تغتسلوا من الدنس.

القديس أغسطينوس

أَدْخَلْتَنَا إِلَى الشَّبَكَةِ.

جَعَلْتَ ضَغْطًا عَلَى مُتُونِنَا [11].

يسمح الله أحيانًا لأولاده أن يدخلوا في الشبكة التي ينصبها العدو، وأن يُثقل عليهم فينحنون في مذلة، ولكن إلى حين، لأجل تأديبهم وتنقيتهم، أو لأجل تزكيتهم وتكليلهم.

هذا ما حلّ بالشعب قديمًا حين خرج من مصر، فتبعهم فرعون وجيشه. وجد الشعب نفسه كما في شبكة، فالبحر أمامهم، والجبال عن يمينهم ويسارهم، وفرعون وجيشه خلفهم، وكأن لا مفرّ لهم. صاروا أشبه بحيوان قد سقط في فخٍ أو شبكةٍ.

v     قوله: "وضعت أحزانًا على ظهورنا" يدل على الأثقال التي كانوا يحملونها خلال السخرة.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     مع أن طريق الملكوت ضيِّق وكرب بالنسبة للإنسان، لكن متى دخل الإنسان رأى اتساعًا بلا قياس، وموضعًا فوق كل موضع، إذ شهد بذلك أولئك الذين رأوا عيانًا وتمتعوا بذلك. يقول البشر في الطريق: "جعلت ضغطًا (أحزانًا) على قوتنا" (مز 66: 11)، لكن عندما يرون فيما بعد الفرج عن أحزانهم، يقولون "أخرجتنا إلى الخصب"، وأيضًا "في الضيق رحبت لي" (مز 4: 1).

حقًا يا إخوتي نصيب القدِّيسين هنا هو الضيق، إذ هم يتعبون متألمين بسبب شوقهم إلى الأمور المستقبلية، مثل ذاك الذي قال: "ويل لي فإن غربتي قد طالت". إذ يتضايقون وينفقون بسبب خلاص الآخرين، كما كتب بولس الرسول إلى أهل كورنثوس قائلاً: "أن يذلني إلهي عندكم إذا جئت أيضًا، وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزنا والعهارة التي فعلوها" (2 كو 12: 21). كما ناح صموئيل بسبب هلاك شاول، وبكى إرميا من أجل سبي الشعب.

هؤلاء عندما يرحلون من هذا العالم، فإنهم بعد الحزن والكآبة والتنهد ينالون سعادة وسرورًا وتهليلاً إلهيًا، ويهرب منهم البؤس والحزن والتنهد.

البابا أثناسيوس الرسولي

v     إن كانت الشباك تُنصَب للطيور ليس ظُلمًا (بدون هدف) كما جاء في الأمثال (1: 17)؛ وبعدلٍ يقود الله البشر إلى الشبكة كما يُقال: "أدخلتنا إلى الشبكة" (مز 66: 11)؛ وإن كان حتى العصفور، أكثر الطـيور تفاهة، لا يسـقط في الشبكة بدون إذن الآب (مت 10: 29)... ليتنا إذن نصلي ألا نفعل شيئًا يتطلب أن الله لعدلٍ يُدخلنا في تجربة. هذا هو مصير من يترك الله لشهوات قلبه في نجاسة[45].

العلامة أوريجينوس

v     كل هذه الأشياء تعاني منها الكنيسة باضطهادات عديدة ومتنوعة. إنها تعاني منها في أشخاص أعضائها، وإلى الآن تعاني. فإنه لا يوجد واحد في هذه الحياة يمكنه أن يقول أنه مُستثني من تلك التجارب.

القديس أغسطينوس

رَكَّبْتَ أُنَاسًا عَلَى رُؤُوسِنَا.

دَخَلْنَا فِي النَّارِ وَالْمَاءِ

ثُمَّ أَخْرَجْتَنَا إِلَى الْخِصْبِ [12].

صورة مرعبة لما قد يحل بالإنسان لأجل تأديبه أو تزكيته، إذ يبدو كأن الأشرار يركبون على رؤوسهم، أي يتسلطون عليهم بلا رحمة. يعاني أحيانًا من الحريق وأحيانًا من الغرق، أي من الضدين. لكن الله يحول كل هذه المرارة إلى عذوبة وراحة. "إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تُلدغ، واللهيب لا يحرقك. لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل مخلصك" (إش 43: 2-3). "أخرجني إلى الرحب. خلصني، لأنه سُرّ بي" (مز 18: 19).

"دخلنا في النار والماء ثم أخرجتنا إلى الخصب" [12]. إن كان الله يسمح بنيران التجارب ومياهها، فإنها تؤول بالأكثر إلى إكليلنا. بالتجارب نَعبُر إلى الراحة الإلهية.

والعجيب إن كانت التجارب تُشبَّه بالنار والماء، فإن الله من جانبه يسمح بحلول روحه القدوس على شكل ألسنة نارية، لنصير على صورته ومثاله "النار الآكلة"، ونتشبه بخدامه "اللهيب نار". ننعم بروحه القدوس في مياه المعمودية، حيث ننعم بالميلاد الثاني، ويصير لنا الخصب العجيب: "ورثة الله، ووارثون مع المسيح".

v     النار والماء خطيران في هذه الحياة. بالتأكيد يبدو أن الماء يطفئ النار، والنار تجفف الماء. لكن النار تحرق، والماء يُهلك، يلزم الخوف من كليهما، من الاحتراق بالتجارب ومن مياه الفساد...

انظروا فإن النار لن تحرقكم، والمياه لن تهلككم. تعبرون خلال النار إلى الماء، حتى تعبروا من الماء أيضًا. لهذا فإنه في الطقوس السرائرية... تُستخدَم أولاً النار... وبعد ذلك تأتون إلى المعمودية، حتى تعبروا من النار إلى الماء ومن الماء إلى التجديد.

القديس أغسطينوس

v     "رفعت الناس على رؤوسنا" معناه سلطتهم على خلاف إرادتنا...

لقد دعا الأحزان نارًا لأنها تحرق الفؤاد، والاغتصاب ماء لجريانه بلا توقف، كقول الله في نبوة إشعياء النبي: "إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك، وإذا مشيت في النار فلا تُلدغ، واللهيب لا يحرقك لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل مخلصك" (إش 43: 2-3).

جزنا في النار والماء معناه نجيتنا من الحريق والغرق. هذا القول كأنه صادر عن الرسل الأطهار وكافة القديسين والشهداء الذين دخلوا في فخاخ، أي في الحبس والنيران والمياه كما نقرأ في سيّرهم. لكن بعد هذا كله أخرجهم الله إلى الراحة الأبدية التي هي ملكوته، لقوله له المجد إنه بأحزان كثيرة تدخلون إلى ملكوت الله.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     ولا تدخلنا في تجربة". هل هذا ما يعلمنا الرب أن نصلي لكي لا نُجرَّب أبدًا؟ فكيف إذن يُقال في موضع آخر: "الرجل غير المُجرَّب، يعلم قليلاً" (سي 34: 10، رو 5: 3-4)، وأيضًا يقول يعقوب: "احسبوه كل فرح يا أخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع 1: 2).

لكن هل يعني الوقوع في التجربة ألا يدع التجربة تغمرنا وتجرفنا؟ لأن التجربة كسيل الشتاء يصعب عبوره. لذا فهؤلاء الذين لا يغرقون فيها يمرّون مظهرين أنفسهم سبّاحين ممتازين، ولم يُجرفوا في تيارها أبدًا. بينما الآخرون يدخلون فيها ويغرقون. مثلاً دخل يهوذا الإسخريوطي في تجربة حب المال، فلم يَسبح فيها بل غَرق، وشنق نفسه بالجسد والروح (مت 27: 5). وبطرس دخل في تجربة الإنكار، لكنه دخل ولم يُسحق بها. لكن كرجل سبح فيها ونجا منها. أنصت ثانية في موضع آخر إلى جماعة من القديسين لم يُصابوا بضررٍ يقدمون الشكر لنجاتهم من التجربة. جربتنا يا الله - جربتنا بالنار كتجربة الفضة - وضعتنا في الشبكة، وضعت عذابات على ظهورنا. جعلت الناس يركبون على رؤوسنا. "جزنا في النار والماء لكن أخرجتنا إلى موضع راحة" (مز 65: 10-12). فخروجهم إلى موضع راحة يعني نجاتهم من التجربة[46].

القديس كيرلس الأورشليمي

v     يقول الكتاب: "دخلنا في النار والماء ثم أخرجتنا إلى الخصب" (مز 66: 12). الذين يريدون أن يُرضوا الله يجب أن يجتازوا في شدائد قليلة. كيف نسمِّي الشهداء القديسين مبارَكين بسبب الآلام التي تحمّلوها من أجل الله إن كنا لا نتحمّل الحُمَّى؟ قُلْ للنفس المتضايقة: "أليست الحُمَّى أفضل لكِ من الجحيم؟" ليتنا لا نجزع في المرض لأن الرسول قال: "حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قـوي" (2 كو 12: 10). اُنظر فإنّ الرب هو "فاحص القلوب والكُلى" (مز 7: 9). ليتنا نتحمّل، ليتنا نصمد، فلنصر تلاميذَ للرسول عندما يقول: "صابرين في الضيق" (رو 12: 12).

القديس برصنوفيوس

v     إن كان جسدكِ ملتهبًا كما بنارٍ، بحمّى شديدة، وقد تثقّل بعطش غير قابل للارتواء وغير مُحتمَل، وإن كنتِ تحتملين أنتِ الخاطئة تلك العذابات؛ فتذكري العقاب المزمع، أي النار الأبدية، والعقوبات التي يتطلبها العدل الإلهي، وأنتِ لن تضعفين أمام الظروف الحاضرة.

افرحي لأنّ الرب يفتقدكِ، واحتفظي بهذا القول المبارك على شفتيكِ:

"تأديبًا أدّبني الرب وإلى الموت لم يسلِّمني" (مز 118: 18).

إن كنتِِ حديدًا، فبالنار تتنقين من صدأكِ. وحتى لو رقدتِ بالمرض، فمع أنكِِ بارّة فإنكِ تتقدّمين من قوةٍ إلى قوة!

اذكري المكتوب: "إن كنا نتألم معه، لكي نتمجّد أيضًا معه" (رو 8: 17).

إن كنتِ بالفعل ذهبًا، فبالنار تصيرين أعظم قيمةً!

إن كان قد أُعطيَ لكِِ شوكةً في جسدك "ملاك الشيطان" (2 كو 12: 7)، فتفكّري فيمن صرتِِ مشابهةً له، لأنكِِ قد حُسِبتِ مستحقةً لشرف أن تكون لك نفس آلام القديس بولس!

هل جُرِّبتِِ بالحُمّى؟

هل تعلّمتِِ من أمراض البرد؟

يقول الكتاب:: "دخلنا في النار والماء، ثم أخرجتنا إلى الخصب (أو الرحب)" (مز 66: 12). فإن مكان الراحة قد أُعِدَّ هناك.

فإن كنتِ قد ذقتِِِِِِِِِِِِِِِِِ النصيب الأول (أي ضيقات الحاضر)، فانتظري الثانية (الراحة الأبدية).

وبينما أنتِ تمارسين فضيلتكِ، ارفعي صوتكِ بكلمات داود النبي: "أما أنا فمسكين ومكتئب" (مز 69: 29)، فتصبحين كاملةً بهذه الشدائد. فإنّ الكتاب يقول: "في الشدّة فرّجتَ عني" (مز 4: 3 السبعينية) "اِفغر فاك" (أي وسِّع فمك) لكي تتعلّم بواسطة ممارسات (أو اختبارات) النفس هذه مع الأخذ في اعتبارنا أننا تحت نظر عدونا.

القديسة الأم سنكليتيكي

4. إيفاء نذور باسم الشعب

أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ بِمُحْرَقَاتٍ،

أُوفِيكَ نُذُورِي [13].

هنا ينتقل المتكلم من صيغة الجمع حيث يتحدث باسم الجماعة، أو تشترك كل الجماعة في التسبيح معًا، إلى الحديث بصيغة المفرد.

يرى البعض أن المتحدث هنا المَلِكُ الذي يدخل إلى بيت الرب، ليقدم محرقات ونذور تعهد بها أثناء المحنة. إنه يقدم الشكر والتسبيح لله الذي أنقذ الشعب من الضيق.

يرى القديس أغسطينوس أن الإيفاء بالنذر هنا يعني أن المؤمن وهو يقدم كل حياته محرقة حب لله، يعترف بأن الله لا يحتاج إلى المحرقات. إنها لا تضيف إليه شيئًا، وإن كل ما يفعله الله لصالح المؤمن. إن أدرك المؤمن هذا يكون قد أوفى نذره الذي نطقت به شفتاه.

v     ما هي المُحرَقة؟

الذبيحة التي تُحرَق بكاملها ولكن بنارٍ إلهية. فإن الذبيحة تُسمَّى مُحرَقة عندما تُحرَق بالكامل...

كل مُحرَقة هي ذبيحة، ولكن ليس كل ذبيحة هي مُحرَقة.

فالمُحرَقات إذن قد وعد هو بها.

الذي يتحدث هو جسد المسيح، وحدة المسيح تتكلم... كل ما هو لي لتحرقه نارك، ولا تترك شيئًا يتبقى لي، ليكن الكل لك.

هذا يحدث في قيامة الصديقين، عندما يلبس هذا الفاسد عدم الفساد، وهذا المائت عدم الموت، عندئذٍ يتم المكتوب: "قد ابتُلع الموت في غلبة" (1 كو 15: 54). الغلبة كنارٍ إلهية، عندما تبتلع الموت تصير مُحرقَة. لا يبقى شيء قابل للموت في الجسد. لا يبقى أي شيء مستحق للوم في الروح.

ستهلك كل الحياة المائتة، حتى تزول في الحياة الأبدية، حتى نحفظ من الموت في الحياة.

هذه هي إذن المُحرقَات.

القديس أغسطينوس

v     النذر euche هو وعد بشيء ليُكرَّس لخدمة الله. أما الصلاة proseuche فهي تقدمة طلبة لله من أجل أمورٍ صالحة. لذلك إذ نحتاج إلى ثقة لنقترب إلى الله ونطلب ما هو نافع لنا، لهذا فإن تنفيذ النذر يلزم أن يأتي أولاً. فعندما نحقق ما هو من جانبنا نثق في نوال ما يعطيه الله من جانبه... النذر هو وعد بتقديم تقدمة شكر؛ أما الصلاة فتعني الاقتراب من الله بعد تحقيق الوعد... يليق بالشخص أن ينذر أولاً، وبعد ذلك يصلي. يزرع أولاً وبعد ذلك يحمل الثمر هكذا[47].

القديس غريغوريوس النيسي

الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا شَفَتَاي،َ

وَتَكَلَّمَ بِهَا فَمِي فِي ضِيقِي [14].

كثيرًا ما نصرخ لله في وسط الضيق، وننساه عند حلول الفرج. ما يطلبه الله ليس النذور المادية إنما تكريس القلب لله. فمع تقديم النذور الملموسة يليق بنا أن نُقدِّم أجسادنا ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتنا العقلية (رو 13: 1).

v     إن الأسرى الذين كانوا في بابل قد دخلوا بعد رجوعهم منها إلى بيت إلههم الحيّ أي الأرضي، وقرَّبوا مُحرقَات حسية هذه التي نَذَروها حينما كانوا في الحزن والضيقة. أما الرسل الأطهار وكافة المؤمنين، فحين دخولهم بين الله الروحي، الكنيسة المقدسة، أي جماعة المسيحية، التي هي مسكن الله، فقرَّبوا أنفسهم كذبائح مُحرَقة بجملتها في النار أي احتمال لأحزان الطاهرة والمرضية أمامه. كذلك جماعة الحافظين البتولية والعفة يقدمون ذواتهم لله كمُحرَقات مقبولة.

الأب أنثيموس الأورشليمي

أُصْعِدُ لَكَ مُحْرَقَاتٍ سَمِينَةً

مَعَ بَخُورِ كِبَاشٍ.

أُقَدِّمُ بَقَرًا مَعَ تُيُوسٍ. سِلاَه [15].

إن كانت المُحرَقات تشير إلى تكريس القلب بالكامل، حيث يلتهب بنيران المحبة الإلهية، فإن "بخور الكباش" أي إصعاد البخور مع تقديم ذبيحة السلامة، فإنه يشير إلى الصلاة الدائمة.

v     أمر الله بتقديم هذه الحيوانات المذكورة بشرط أن تكون صحيحة بريئة من كل عيب... لهذا يقول المزمور: "مُحرَقات سمان" أما الرسل وخلفاؤهم الشهداء فقرَّبوا لله نفوسهم بعمل الفضائل. وعوض ثيران حارثة للأرض قدَّموا أجسادهم المجبولة منها، وذلك بالشهادة والاعتراف بالإيمان، وآخرون قرَّبوا جداء، أعني أعمال التوبة وأتعابها، لأن القدماء كانوا يقرِّبوا جداء لتطهيرهم على خطاياهم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     "تكلم بها فمي في ضيقي" [14]. يا لعذوبة التجربة في أغلب الأوقات! يا لضرورتها! في تلك الحالة بماذا يتكلم لسان نفس المتحدث الذي في ضيقة؟ "أصعد لك محرقات سمينة (حتى نخاع العظام)" [15] ما معنى نخاع العظام؟ أحفظ حبك في داخلي، وليس على السطح. أحبك من نخاع عظامي. فإنه ليس شيء أكثر عمقًا (داخليًا) من نخاع العظام. العظام في الداخل أكثر من الجسد، والنخاع في الداخل أكثر من العظام نفسها. لذلك من يحب الله من السطح يطلب بالأكثر أن يُسر الناس، ولكن إذ له شيء من العاطفة في الداخل لا يقدم محرقات نخاع العظام، أما من يتطلع (الله) إلى نخاع عظامه فإنه يتقبل منه الكل.

v     "مع بخورٍ وكباش": الكباش هم قادة الكنيسة: كل جسم الكنيسة يتحدث؟ هذا هو ما يقدمه لله. "البخور"، ما هو؟ الصلاة. فإن الكباش على وجه الخصوص تُصلِّي لأجل القطيع.

"أقدم ثيران (عجول) تيوس"... يقول الرسول عن الكارزين بالإنجيل إنهم يُشبَّهون بالثيران: "لا تكم ثورًا دارسًا. ألعل الله تهمه الثيران؟" (1 كو 9: 9).

لهذا يا لعظمة الكباش، ويا لعظمة الثيران.

وماذا عن البقية التي ربما تشعر ببعض الخطايا، الذين ربما انزلقوا في الطريق، وجُرحوا، وشُفوا بواسطة الندامة؟ هل هؤلاء يستمرون ولا يقدمون مُحرَقات؟ ليتهم لا يخافون فقد أضاف الماعز أيضًا.

القديس أغسطينوس

5. دعوة خائفي الرب لتسبيحه

هَلُمَّ اسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ الْخَائِفِينَ اللهَ،

بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي [16].

إذ يفي الملك أو المرتل نذوره التي نطق بها أثناء الضيق، يوجه أنظاره إلى الشعب ليشهد لله أمامهم، أن الخلاص من الضيق أو المحنة لم يكن بقوته أو حكمته أو مشورة رجاله، وإنما هو عمل الله معه!

ويرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن المؤمن وهو يشكر الله على عمله معه، ينطلق بفكره إلى خائفي الرب الذين سبقوه ليقول لهم إن الله الذي صنع معكم عجائب قديمًا لا يزال بمحبته يعمل حتى الآن.

v     يدعو المرتل كافة خائفي الله رؤساء الآباء والأنبياء والصديقين الذين قبل مجيء المسيح ليشاركوا المسيحيين الفرح لأجل خلاصهم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     "هلم اسمعوا فأخبركم يا كل الخائفين الله" [16]... لمن نأتي ونسمع؟... إن كنتم لا تخافون الله، لست أخبركم. لا يمكن أن يُخبَر أي شخص لا يخاف الله. لتفتح مخافة الله الآذان، لكي ما يدخل شيء ما، وأخبركم عن الطريق الذي تدخلونه. ولكن ماذا يخبرنا؟ "كم هي عظيمة الأمور التي صنعها لنفسي؟"

القديس أغسطينوس

صَرَخْتُ إِلَيْهِ بِفَمِي،

وَتَبْجِيلٌ عَلَى لِسَانِي [17].

يصرخ المؤمن بفم قلبه ويرفع صوته بلسان الداخلي. فالمرأة الزانية صرخت بقلبها وفي صمت خارجي قدَّمت طيبًا لقدمي المخلص، وحنة أم صموئيل صرخت بتحريك شفتيها فقط دون كلمات مسموعة. الأولى نالت غفران خطاياها، والثانية حملت في أحشائها جنينًا مباركًا.

"تبجيل على لساني" يترجمها البعض: "تبجيله تحت لساني"، بمعنى إن كنت أصرخ إليه بفمي علانية، فإن ما وراء هذه الصرخات تمجيد وتبجيل لله في أعماقي، تحت لساني، أعجز عن التعبير عنه بكلمات بشرية.

v     أنا إنسان كنت أصرخ إلى حجرٍ، إلى جذع شجرة أصم، إلى صنم أصم وأخرس، الآن عادت صورة الله إلى الخالق. أنا هو الذي كنت أقول "للعود أنت أبي، وللحجر أنت ولدتني" (إر 2: 27)، الآن أقول: "أبانا الذي في السماوات" (مت 6: 9)... يخبرنا عن كل تلك الأمور الأخرى التي صنعها لنفسي بنعمته.

القديس أغسطينوس

إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي،

لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ [18].

لم ينطق المرتل بهذا عن كبرياء أو تبرير ذاتي، لكن ثقة ويقين أنه في بساطة قلب يطلب الله بإخلاص. "أصغِ إلى صلاتي من شفتين بلا غش" (مز 17: 1).

"إن راعيت إثمًا في قلبي"، بمعنى "إن رأيت في قلبي إثمًا" وتعرفت عليه، وتجاهلته أو شجعته، وسررت به.

مهما بلغ صراخ الإنسان ما لم يجتنب الإثم والظلم فلا يُسمَع له، ولا يقبل الله صلاته.

v     سأل أخٌ أنبا أنطونيوس: "وعد الله بالسعادة للنفس التي تهذُّ على الدوام في الأسفار المقدسة، فلماذا لا تريد النفس أن تبقى في السعادة، بل تنهمك في المسرات الوقتية السريعة الزوال والنجسة؟"

أجابه الشيخ: "هذا هو الذي يفسّر كلام المرتل: "إن راعيتُ إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرب" (مز 66: 18). أَلا تعلم أن الخطايا الكثيرة تثور عندما تكون البطن مليئة بالطعام؟

هذه الخطايا التي أشار إليها الرب في مستهل إنجيله قائلاً: "ليس ما يدخل الفم ينجِّس الإنسان بل ما يخرج من القلب هو الذي يُهلك الإنسان" (راجع  مت 15: 11). لاحظ جيدًا أنه يقصد هنا في المقام الأول الأفكار النجسة والقتلة والمخادعين والغشاشين والزناة والسارقين وشهود الزور والمجدِّفين.

فالذي ليس له تذوُّقٌ كافٍ لعذوبة الأمور السماوية لكي يطلب الله من كل قلبه فهو يعود إلى حالته في نجاساته. مَنْ يستطيع أن يقول حقًا: «صرتُ كبهيمٍ عندك، ولكني دائمًا معك؟!" (مز 73: 22-23).

بستان الرهبان

v     ارجع إلى نفسك في الداخل وكن لنفسك ديانًا. تطلع إلى حجالك الداخلي، إلى أعماق قلبك ذاتها، التي لا يراها أحد غيرك أنت والله. لتدع هناك الإثم لا يُسرك، فتصير أنت نفسك موضع سرور الله. لا تراعيه، أي لا تحبه، بل بالحري لتحتقره أي تزدري به، وتهرب منه.

القديس أغسطينوس

لَكِنْ قَدْ سَمِعَ اللهُ.

أَصْغَى إِلَى صَوْتِ صَلاَتِي [19].

هنا يؤكد المرتل أن استجابة الله لصلاته ليست عن استحقاق شخصي أو برّ ذاتي، وإنما بفضل رحمته المجانية. "مبارك الرب، لأنه قد جعل عجبًا رحمته لي في مدينة محصَّنة" (مز 31: 21).

v     "لكن قد سمع الله لي"، لأنني لا ألاحظ إثمًا في قلبي. "أصغِ إلى صوت صلاتي" [19]... هكذا قد بلغ المتكلم إلى القيامة، هذه التي نحن نترجاها فعلاً.

القديس أغسطينوس

مُبَارَكٌ اللهُ الَّذِي لَمْ يُبْعِدْ صَلاَتِي،

وَلاَ رَحْمَتَهُ عَنِّي [20].

إن كنا في أوقات الشدة نطلب من الله الفرج، فإننا إذ نناله يليق بنا أن نقدم الشكر والتسبيح لله، ونذكر ونذكر دومًا رحمته علينا.

إذ يطلب المرتل من كل الأمم أن تهتف لله، يود أن يؤكد أن هذا الهتاف يحمل ترنيمًا بمجد اسمه، بمعنى أن هذا الهتاف لا يضيف شيئًا إلى مجده، إنما هو لخير البشرية كي تتعرف على اسمه وتتمتع بالفرح به.

v     عندما ترى أن طلبتك لم تُستبعَد عنك، فلتطمئن أن رحمته لم تُستبعَد عنك.

القديس أغسطينوس


 

من وحي مز 66

أهتف لك مع كل بشر!

v     أعماقي تصرخ إليك: متى يأتي كل بشرٍ إليك؟

متى تصير الأرض سماءً؟

متى تهتف كل الأرض لك، يا مخلِّص العالم؟

v     هتاف الأشرار لعنات، لأنه هتاف لأبيهم إبليس الشرير.

وهتاف أولادك بركات، لأنه مُقدَّم لك يا واهب البركات.

متى يرجع كل البشر إليك، فيقدِّمون هتافات سماوية مقدسة.

v     إن كان الأعداء يكذبون،

كما فعل فرعون في كل وعوده مع موسى،

لكن لتخضع الأرض كلها لك.

عوض الكذب، يلتصقون بك، يا أيها الحق!

تملأهم بقوتك، وتشبعهم بفرحك،

فلا يكفون عن التسبيح لاسمك!

v     حولت بحر سوف إلى يابس،

وعَبَرَ شعبُك نهر الأرض بأقدامهم.

أنت هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد.

تُحوِّل البحار المضطربة إلى يابسٍ!

تنزع عنا القلق، وتُسكِّت العواصف والأمواج الثائرة.

تملأ أعماقنا بسلامك الفائق.

جسدي كنهرٍ جارفٍ يود أن يستعبِد نفسي لشهواته.

ليخضع جسدي بروحك القدوس.

ويتحول إلى نهر يفيض بمياه مقدسة.

عوض أن يُغرق النفس بشهواته،

يُنزع عنه الجفاف، ويتحول إلى جنة روحية مثمرة!

v     من يُطفي الفرح على نفوسنا وأجسادنا سواك؟

تملك بقوتك في داخلي، وتقيم فيه ملكوتك الإلهي.

v     عيناك عليّ من أول السنة إلى آخرها.

عيناك تراقبان كل البشر.

من يستحق أن تتطلع إليه يا كلي الحنو؟

نظراتك تحطم كل قسوةٍ في أعماقي،

تنظر إليّ مع تلميذك بطرس،

فأخرج خارج دهليز مشاغل الحياة.

وأبكي معه بكاءً مرًا،

هو بكاء التوبة مع دموع الرجاء فيك!

أشهد دومًا إني أحبك!

v     إن كان الأشرار ليس لهم عمل إلا تحطيمنا.

بروحك القدوس الناري تدخل بنا كما إلى مياه الراحة.

لتشتعل نيران التجارب، ولتسكب مياه لإهلاكنا.

لكن نيران روحك القدوس وأمطاره،

تقيم منا خدامًا ناريين، وتجعل منه جنة مثمرة!

v     ماذا أُقدِّم لك أمام عملك معي، كما مع كل الأرض؟

أقدم لك محرقات الحب الناري،

أنذر لك أن أعيش كل حياتي لك.

تبقى أعماقي تهتف لك مع كل السمائيين!

لك المجد، يا محب البشر!

 

<<

 


 

اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ

صلاة من أجل امتداد

ملكوت الله

حوى هذا المزمور البركة التي كان هرون وبنوه يباركون بها الشعب كأمر الله (عد 6)، وهي لا تُقدَّم إلا في مدينة الله أورشليم. لذلك يرى البعض أن المرتل يتطلع إلى رجوع الشعب بعد سبيه في بابل لينال بركة الرب.

أقسامه

1. استنارتنا بوجهه                   1.

2. المعرفة واهبة الحياة              2.

3. دعوة الشعوب لتسبيحه            3-5.

4. الثمر المتكاثر                     6-7.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَار. مَزْمُورٌ. تَسْبِيحَةٌ,

بخصوص العنوان راجع المزامير 3، 4، 30.

جاء في عنوان المزمور في النسخة السريانية: "تغنَّى بها الشعب عندما عبروا بداود نهر الأردن"، وذلك بعد تمرُّد أبشالوم ابنه عليه. هذا الحدث ورد في 2 صم 11-43. وجاء في النسخة السريانية: "أما بالنسبة لنا فهي تخص نبوة بخصوص دعوة الأمم وكرازة الرسل، وأيضًا أحكام الرب"[48].

يرى البعض أن هذا المزمور هو تسبحة شكر لله يقدمونها بعد الحصاد. يُسبَّح به في عيد البنطقستي أو الحصاد، أو عيد المظال. ويرى آخرون أنه يُسبَّح به لأجل تحقيق وعد الله لإبراهيم أنه يُبَارك ويصير بركة.

1. استنارتنا بوجهه

لِيَتَحَنَّنِ اللهُ عَلَيْنَا وَلْيُبَارِكْنَا.

لِيُنِرْ بِوَجْهِهِ عَلَيْنَا. سِلاَهْ [1].

"ليتحنن الله علينا ويباركنا". يسأل المرتل الله أن يشرق على شعبه لا كديان، فإنه لن يتبرر أحد قدامه، وإنما كرحيم واهب البركات. ومن جانب آخر يقدِّم للشعب نوعًا من الأمان، فإن الله أب رحوم يسكب بهاءه عليهم، لأنهم موضع سروره.

v     "ليتحنن الله علينا وليباركنا" [1]. ليته لا يكون دياننا بل يكون رحيمًا بنا. "لينِر بوجهه علينا". ليتنا لا نتطلع إليه كحزانى، بل كفرحين. ليتنا لا نتطلع إليه بحزنٍ بسبب خطايانا، بل بفرح في فضائلنا. ليتنا لا نختبره كديانٍ، بل نعرفه كأبٍ...

لينِر علينا بصورته، فتشرق صورته علينا حتى يشرق هو نفسه علينا، لأن نور الآب هو نور الابن[49].

القديس جيروم

في تفسير يهودي قديم يُفسَّر وجه الله بكونه المسيا. إذ هو الوجه المنير الذي يُعلن عن حب الآب ونعمته، خلاله يتطلع الآب إلى شعبه فيراه شعبًا مقدسًا.

يرى القديس كيرلس أن وجه الله هو ابنه الوحيد، لأنه صورته ورسم أقنومه، كقول الرسول بولس. وكما قال السيد المسيح: "من رآني فقد رأى الآب". بتجسده وحلوله في وسطنا أشرق علينا، فتعرفنا خلاله على الآب، وتمتعنا بالمراحم الإلهية.

إنارة وجه الله على البشرية يعني تطلعه إليهم بحنوٍ وترفق، ببهائه يُفرِّح قلوبهم، ويسكب فيض بركاته وعطاياه عليهم. إنه يطلب خلاص الكل، حتى الأشرار، ولا يشاء هلاك أحد؛ يود أن يدخل في ميثاق مع الجميع، ويتمتع الكل بالحياة الأبدية.

وجه الله المشرق على شعبه لطيف كلي الحنو، يسند القلوب، ويسكب البركات على الشعب.

v     "ليُنِر بوجهه علينا" [1]... الله لا ينير وجهه قط كما لو كان بدون نور، إنما ينيره علينا، فما كان مخفيًا عنا يُعلَن لنا. وما كان عليه وهو مخفي عنا، يُكشَف لنا، أي يُنار.

أو يُفسَّر ذلك هكذا: "لتنِر صورتك علينا". لقد طبعت وجهك علينا، خلقتنا على صورتك ومثالك (تك 1: 26). جعلتنا عُملتك، ولا يليق أن تبقى صورتك في الظلمة. أرسل شعاع حكمتك، فيبدد ظلمتنا. إذن لتشرق صورتك علينا؛ لنعرف أننا صورتك.

لنسمع ما قيل في نشيد الأناشيد: "إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء" (نش 1: 8). فقد قيل هنا عن الكنيسة: "إن لم تعرفي نفسك". ما هذا؟ إن كنتِ لا تعرفين نفسك your soul أنكِ خُلقتِ على صورة الله. يا نفس Soul الكنيسة الثمينة، المخلَّصة بدم الحَمَل المعصوم من الخطأ، فلتلاحظي كَمْ أنتِ ثمينة، فكِّري فيما قد أُعطي لكِ.

ليتنا إذن نقول أن ينير وجهه علينا ونشتاق إلى ذلك. أن نلبس وجهه بنفس الطريقة كما نتكلم عن وجوه الأباطرة، إنه بالحقيقة نوع من الوجه المقدس الذي لله في صورته.

أما الأشرار فلا يعرفون أنفسهم أنهم صورة الله. فلكي ينير الله وجهه عليهم، ماذا يجب أن يقولوا؟ "أنت تضيء سراجي؛ الرب إلهي ينير ظلمتي" (مز 18: 28). أنا في ظلمة الخطايا، ولكن بشعاع حكمتك تبدد ظلمتي، فيظهر وجهك. وإن كان خلالي ظهر به تشويه، فأنت تصلح ذاك الذي أنت خلقته.

القديس أغسطينوس

2. المعرفة واهبة الحياة

لِكَيْ يُعْرَفَ فِي الأَرْضِ طَرِيقُك،َ

وَفِي كُلِّ الأُمَمِ خَلاَصُكَ [2].

طريق الله هو وصيته التي من خلالها نتمتع باللقاء معه ورؤيته. قدم هذه الوصية لجميع الأمم لكي يتمتعوا بخلاصه، بالحياة الأبدية وأمجادها.

يقول القديس أثناسيوس الرسولي إن الإنجيل المقدس هو طريق الله.

يقول السيد المسيح نفسه: "أنا هو الطريق... لا يقدر أحد أن يأتي إلى الآب إلا بيّ". وفي نفس الوقت الآب هو الطريق الذي يؤدي بنا إلى الابن، إذ يقول: لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يجتذبه أبي.

في المزمور 65 يترنم المرتل قائلاً: "تعهدت الأرض وجعلتها تفيض، تغنيها جدًا" (مز 65: 9). وها هو هنا يكشف عن هذه الرعاية الإلهية والافتقاد السماوي بنزول كلمة الله وتجسده، ودعوة الأمم والشعوب للتمتع بعمله الخلاصي. إنه مزمور مسياني يُصوِّر لنا حصاد الدعوة الإنجيلية التي تضم العالم بروح الوحدة.

v     "لكي يعرف في الأرض طريقك"، لكي ما نحن الذين على الأرض نعرفها. لتكن إرادتك كما في السماء كذلك على الأرض (مت 6: 10)، حتى أن ذاك الذي يسجد له الملائكة في السماء، يسجد له أيضًا البشر على الأرض[50].

القديس جيروم

"وفي كل الأمم خلاصك" هذا ما تغنَّى به المرتل قبل مجيء المخلص، وما ملأ قلب سمعان الشيخ بالفرح، حين حمله على ذراعيه، وسبَّحه قائلاً: "لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدام جميع الشعوب" (لو 2: 30-31).

v     ما هو طريقك؟ ذاك الذي يقود إليك. ليتنا نعرف إلى أين نحن نذهب، نعرف أين نحن وإلى أين نذهب، الأمر الذي لا نقدر أن نفعله في الظلمة... إننا نسأل أنفسنا عن هذا، لا لنتعلمه من أنفسنا. إنما يمكننا أن نتعلمه من الإنجيل. يقول المسيح: "أنا هو الطريق" (يو 14: 6).

فهل تخافون لئلا تضلوا؟ لقد أضاف: "والحق". من يضل في الحق؟ من يترك الحق يضل.

الحق هو المسيح؛ الطريق هو المسيح. اسلكوا فيه.

هل تخشون لئلا تموتوا قبل أن تنالوه؟ "أنا هو الحياة، أنا هو". وكأنه يقول: ماذا يخيفكم؟ بي تسيرون، وإليَّ تسيرون، وفيَّ تستريحون.

القديس أغسطينوس

3. دعوة الشعوب لتسبيحه

يَحْمَدُكَ الشُّعُوبُ يَا اللهُ.

يَحْمَدُكَ الشُّعُوبُ كُلُّهُمْ [3].

إذ يُعرَف في الأرض المسيح الطريق، يسلكه كل الأمم فيتمتعون بالخلاص، يسألهم المرتل أن يسلكوا بروح الفرح والتسبيح والترنم فإن حياة الفرح في المسيح تعطي أمانًا للمؤمنين.

جاءت كلمة "الشعوب" بصيغة الجمع، لأن باب الإيمان يُفتَح لكل شعوب العالم. أما تكرار العبارة فلجذب الأنظار أن ما يتكلم عنه هو عمل عظيم للغاية، حيث يُمارِس الأمم العبادة لله بفرح وابتهاج.

v     اسمعوا العبارة التالية كيف يتحدث ليس في جزئية: "يعترف لك كل الشعوب" لتسيروا في الطريق معًا مع كل الأمم؛ سيروا في الطريق معًا مع كل الشعوب، يا أبناء السلام، أبناء الكنيسة الواحدة الكاثوليكية (الجامعة). سيروا في الطريق متطلعين، وأنتم تسيرون.

v     حتى الذين يخافون اللصوص يغنون (في الطريق) فكم بالأكثر تكونون في أمان وأنتم تغنون في المسيح! هذا الطريق ليس فيه لصوص إلا إذا تركتم الطريق فإنكم تسقطون في أيدي اللصوص.

القديس أغسطينوس

v     إن تكرار قوله "تعترف لك الشعوب" يزيد الناس نشاطًا، ويشحذ هممهم على الشكر والاعتراف بحسنات الله.

الأب أنثيموس الأورشليمي

تَفْرَحُ وَتَبْتَهِجُ الأُمَمُ،

لأَنَّكَ تَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ،

وَأُمَمَ الأَرْضِ تَهْدِيهِمْ. سِلاَهْ [4].

يرى آخرون أن هذا المزمور كان يُرتَّل في عيد الحصاد (الخمسين أو البنطقستي)، أو في عيد المظال. يرى أيضًا بعض الدارسين أن المزمور يعلن عن تحقيق الوعد الإلهي لإبراهيم أنه يكون بركة، وتتبارك به الأمم.

سرّ تسبحة الأمم لله أنها قد تمتعت بحياة الفرح والبهجة. من يقرأ كتابات الآباء الأولين الذين جاءوا من الأمم إلى الإيمان بالسيد المسيح يدرك مدى فرحهم، فقد شعروا بأنهم كانوا في الظلمة ودخلوا إلى النور الإلهي، كانوا مَوْتى وتمتعوا بالقيامة. شعروا بالحق كمن كانوا في الجحيم ودعاهم الله لا للخروج منه فحسب، وإنما للتمتع بالنبوة له عوض العداوة القديمة.

v     بعد ظهور وجه الله على الأرض ومعرفة طريقه يفرح المؤمنون ويبتهجون ويسبحون عدله، لأنه أرشد الأمم إلى أرض الودعاء، أي إلى مسكن الصديقين.

الأب أنثيموس الأورشليمي

"لأنك تدين الشعوب بالاستقامة" [4]. حيث توجد العدالة والحكم لا يوجد فرح بل خوف الخطاة...

v     أي شعوب؟ "أمم الأرض تهديهم". الأمم التي كانت قبلاً لا تسير في الطريق المستقيم... جعلتها الآن تسير في طريقك، كي يعرفوا في الأرض طريقك، ويسيروا في سبيل واحد، لا في سُبل كثيرة. لكي بالطريق الواحد يأتون إليك، ذاك الطريق الواحد (يسوع المسيح) المولود منك. إننا لا نذهب إلى الآب إلا خلال الابن... من يظن أننا نجدف لأننا نقول بأن الطريق هو الابن، وخلال الطريق نذهب إلى (الآب)، فلننظر ماذا يقول الطريق نفسه: "لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ ما لم يجتذبه أبي إليَّ (راجع يو 6: 44). مع ذلك فالابن يقود إلى الآب، والآب يقود إلى الابن، وهما طبيعة واحدة وجوهر واحد[51].

القديس جيروم

v     هذا الاعتراف (الحمد) لا يقود إلى عقوبة، لذلك يكمل قائلاً: "تفرح وتبتهج الأمم" [4]. إن كان اللصوص بعد اعترافهم ينتحبون أمام الناس، ليت المؤمنين بعد اعترافهم يفرحون أمام الله...

"تفرح وتبتهج الأمم"؛ لماذا؟ بسبب الاعتراف نفسه.

لماذا؟ لأن الله صالح بالنسبة للذين يعترفون.

إنه يطلب الاعتراف بهدف أن يخلص المتواضعين.

إنه يدين من لا يعترف، بهدف معاقبة المتكبرين.

لذلك كونوا حزانى قبل الاعتراف، وإذ تعترفون ابتهجوا، بهذا تصيرون أصحاء.

القديس أغسطينوس

يَحْمَدُكَ الشُّعُوبُ يَا اللهُ.

يحْمَدُكَ الشُّعُوبُ كُلُّهُمُ [5].

v     يدعو النبي كافة الناس إلى التوبة والاعتراف بإحسان الله. فقوله: "الشعوب كلهم" يحتوي على نبوة أنه مزمع بكل مكان أن يُقرِّب لله ذبيحة التسبيح والصلاة، وليس عند اليهود وفي أورشليم فقط.

الأب أنثيموس الأورشليمي

4. الثمر المتكاثر

الأَرْضُ أَعْطَتْ غَلَّتَهَا.

يُبَارِكُنَا اللهُ إِلَهُنَا [6].

يدهش البعض كيف يرد في المزامير أننا نحث نفوسنا لتبارك الله، ونطلب من الله أن يباركنا. يعالج القديس أغسطينوس هذا الأمر موضحًا أنه في كلتا الحالتين يرتد النفع إلينا لا إلى الله. فالله بغنى نعمته يفيض بالبركة علينا، وإذ ننعم برسمها نقف شاكرين إياه، وبنعمته نباركه، بمعنى أن نشهد له: لك البركة، يا واهب البركات. يباركنا بعمله فينا فيقيم منا كرمة فريدة، وبناء أو هيكلاً مقدسًا. وإذ نصير كرم الرب وهيكله نسبحه ونباركه، ونشهد ببركاته المستمرة علينا.

v     تذكروا أيها الأحباء أنه في مزمورين تحدثنا عنهما (مز 103؛ 104) كنا نحث نفوسنا أن تبارك الرب، وبأغنية تقوية نقول: "باركي يا نفسي الرب"... وفي هذا المزمور قيل حسنًا: "ليتحنن الله علينا ويباركنا" [1]. لتبارك نفوسنا الرب، وليباركنا الله.

عندما يباركنا الله ننمو، وحين نبارك الرب نحن ننمو، ففي كليهما نفع لنا أنه لا يزداد بمباركتنا ولا يقل بسبنا.

من يسب الرب هو الذي ينقص.

أولاً فينا يتبارك الرب، والنتيجة أننا نحن نبارك الرب...

لنتغنى بهذه الكلمات ليس بتقوى عقيمة، ولا بصوتٍ فارغٍ، بل بقلبٍ مخلصٍ. واضح أن الله الآب يُدعى مُزارِعًا (يو 15: 1). يقول الرسول: "أنتم فلاحة الله، أنتم بناء الله" (1 كو 3: 9). في الأمور المنظورة في هذا العالم الكرمة ليست مبنى، ولا البناء هو كرمة، لكننا نحن كرم الرب، لأنه هو يفلحنا لأجل الثمرة (الغلة). ونحن بناء الله لأن ذاك الذي يحرثنا يسكن فينا... هذا يتحقق بالنعمة التي يهبنا إياها.

القديس أغسطينوس

v     ما هي الغلة (الثمرة)؟ "تعترف لك كل الشعوب". كانوا أرضًا، مملوءة أشواكًا. لقد جاءت يد ذاك الذي يقتلعها. جاءت الدعوة بجلاله ورحمته، فبدأت الأرض تعترف، الآن "الأرض أعطت غلتها" هل كان يمكنها أن تأتي بالغلة ما لم تسقط عليها أولاً الأمطار؟ هل كانت تعطي ثمرها ما لم تنزل أولاً رحمة الله من الأعالي؟... اسمعوا عن الرب الذي يمطر عليها: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات" (مت 3: 2).

القديس أغسطينوس

v     "الأرض أعطت غلتها"؛ الأرض هي القديسة مريم التي هي من الأرض، هي من زرعنا؛ من هذا الطين، من هذا الوحل، من آدم. "أنت تراب، وإلى تراب تعود" (تك 3: 9). هذه الأرض أنتجت ثمرتها.

ما فقدته في جنة عدن وجدته في الابن... أولاً أنتجت زهرة.

قيل في نشيد الأناشيد: "أنا زهرة الحقل، سوسن الوديان" (نش 2: 1). هذه الزهرة صارت ثمرة كي نأكلها، فنأكل جسدها... "الأرض أعطت غلتها"، أنتجت بذرة حنطة. لأن حبة الحنطة تسقط في الأرض وتموت، وتأتي بثمر كثير. لقد تضاعفت الثمرة في رأس الحبة. سقط واحد، وقام ومعه كثيرون. حبة حنطة واحدة تسقط في الأرض وحصاد مثمر يأتي منها[52].

القديس جيروم

v     يقول النبي: "الأرض" عن سكان الأرض من البشر، إذ قيل للإنسان: "من أرضً أنت وإلى الأرض تعود". هذه الأرض المعنوية أعطت ثمرها الذي هو الإيمان المستقيم والأعمال اللائقة بالإيمان، فتنال بركة من الله لتقديمها له ما يرضيه.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يُبَارِكُنَا اللهُ، وَتَخْشَاهُ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ [7].

يرى القديس كيرلس الكبير أن الله بارك إسرائيل باختياره الاثني عشر تلميذًا من أسباط إسرائيل، وهم كرزوا للعالم.

v     اُختير التلاميذ الطوباويون تقريبًا من كل سبط من أسباط إسرائيل، فصاروا حاملين النور للعالم، مُقَدِّمين كلمة الحياة.

القديس كيرلس الكبير

إذ قبلت شعوب الأمم الإيمان، وتركت الوثنية ورجاساتها جاءت تحمل خشية الرب أو مخافته حتى تتذوق أيضًا حبه.

v     من يفكر في دينونة الله يصنع أعمالاً صالحة (ويخاف الله)، فيستحق نوال البركة منه.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     "وتخشاه كل أقاصي الأرض"... الخوف (الخشية) هو علامة المبتدئين، والحب هو علامة الإيمان الكامل. لأن من يحب الله، تعمل كل الأمور لخيره (رو 8: 28)... الخوف علامة النفوس الصغيرة، وأما الحب فعلامة الكاملين[53].

القديس جيروم

v     إنه يمطر، ونفس المطر هو رعد. إنه يرعب! لتخشوه وهو يرعد، ولتقبلوه وهو يمطر!

v     الأرض أعطت غلتها. هذا الأمر، أقول، قد حدث بواسطة الرب الذي أمطر خلال فمه... وأمطر خلال سحابة بإرساله الرسل وكرازتهم بالحق. أعطت الأرض غلتها بفيضٍ، وها هو المحصول قد ملأ كل العالم.

ثمر الأرض كان أولاً في أورشليم. ومن هناك بدأت الكنيسة. هناك حلّ الروح القدس، وملأ القديسين المجتمعين معًا في موضعٍ واحدٍ، وتمت معجزات، وتكلموا بألسنة (أع 2: 1، 4). لقد امتلأوا بملء روح الله، واهتدى الناس الذين كانوا في هذا الموضع، قبلوا مطر الروح بخشية، وباعترافهم جاءوا بثمرٍ كثيرٍ هكذا... الثمر عظيم في ذلك الموضع. الأرض تعطي ثمرها، ثمر عظيم ونوع غاية في السمو...

القديس أغسطينوس


 

من وحي مز 67

لتشرق بنورك على الجميع

v     نفوسنا تهتف على الدوام:

ماذا نردُّ لك أيها الآب من أجل تدبيرك العجيب؟

أرسلتَ ابنك الوحيد، بنوره سكب النور علينا!

صليبه أعطانا دالة الحب!

نراك أبًا تترفق بنا، وليس ديانًا تطلب هلاكنا!

v     نزل ابنك، وجهك البهي.

صار لأجلنا طريقًا، به نأتي إليك.

نعرف أسرار حبك الإلهي.

به نتمتع بشركة الأمجاد السماوية.

v     مجيئه فتح أبواب الإيمان لكل الأمم.

انطلقت الشعوب كما من الجحيم،

لترتمي في أحضانك الإلهية.

عوض الظلمة، صاروا في النور السماوي.

عوض القبر والموت، تمتعوا بالحياة المقامة.

عوض الكآبة واليأس، امتلأت حياتهم فرحًا وتهليلاً

تحمدك الشعوب يا الله، تحمدك الشعوب كلها!

v     حملنا ابنك الوحيد إليك.

وهبنا برَّه وقداسته.

فصرنا لا نخشى الدينونة.

بل نترقب يوم مجيئه بفرح وابتهاج!

إنه يوم عرسنا السماوي!

إنه يوم إكليلنا وفرحنا الأبدي!

v     تجسدك قدَّس أرضنا!

لقد ازهرت أرضنا بأمك العذراء مريم.

هي أرض، لكنها حملتك

يا من لا تحدك السماء ولا الأرض.

هوذا زهرة الحقل وسوسن الأودية أتت بثمرة فريدة!

بالروح القدس نزلت أيها الكلمة، وتجسدت منها.

صرت حنطة لكي تُدفن في الأرض وتموت.

وإذ قمت، أقمتنا معك!

لك المجد يا من باركت البشرية كلها.

 

<<


 

اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ

الملك الغالب في كنيسته

اختلف الدارسون في تحديد مناسبة وضع هذا المزمور. فالبعض يرون أن داود النبي وضعه بخصوص الانتصارات على أعداء بلده بوجه عام. والبعض يرون أنه وضع بخصوص انتصارات وردت في 1 أي 19: 6-19؛ 2 صم 12: 26-31 ويرى آخرون أنه وضع ليُسبَّح به عند نقل تابوت العهد من قرية يعاريم أو من بيت عوبيد آدوم[54].

هذا المزمور هو الرابع والأخير في سلسلة مزامير التسابيح (65-68)، ترَنَّم به داود النبي عندما اهتزت نفسه فرحًا بالله الغالب في كنيسته. فقد انطلق موكب الفرح والتهليل بنقل تابوت العهد من بيت عوبيد أدوم إلى مدينة داود (2 صم 6: 12-15). انسحب قلب داود النبي وفكره وكل طاقاته ليرى الله الغالب، العامل في كنيسته عبر العصور، حتى يدخل بها إلى الموكب الأبدي، فقد عمل في الماضي، ويبقى عاملاً في الحاضر، وسيبقي هكذا في المستقبل حتى يهبها كمال نصرته على الظلمة وكل قوات العدو الشرير.

رأى داود النبي وهو يحتفل بموكبٍ كنسيٍ شعبي قيادة الله "الملك" لشعبه خلال موسى وهرون، ليحرر شعبه من عبودية فرعون، ويجتاز بهم إلى البرية بكل متاعبها وتجاربها وحروبها، ويدخل بهم إلى أرض الراحة أو أرض الموعد.

هذا عن الماضي، أما بالنسبة لعمل الله الخلاصي الذي ينعم به داود النبي، فقد رأى بعين النبوة السيد المسيح، كلمة الله المتجسد المصلوب القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات، يدخل بنا عبر الآلام والموت والدفن إلى قوة قيامته، وعربون المجد السماوي. فهو مزمور مسياني يكشف عن الخلاص الذي يُقدِّمه السيد المسيح لكل العالم. ويتنبأ أيضًا عن قبول الأمم للإيمان، وصعود السيد المسيح إلى سماء السماوات، وقيامته من الأموات، كما إلى امتيازات كنيسة العهد الجديد. اقتبس بولس الرسول عبارات من هذا المزمور، واعتبرها تحققت بالمسيح يسوع (أف 4: 8-13).

أما بالنسبة للمستقبل، فبنظرة آخروية انقضائية رأى موكب النصرة الأخيرة، حيث يأتي الملك الديان في مجده على السحاب، يحتضن كنيسته، وينطلق بها إلى حضن أبيه، لتتمتع بكمال شركة المجد الأبدي، بينما ينهار العدو تمامًا، وتتحطم مملكته.

كان لهذا المزمور التسبيحي المسياني الكنسي الاحتفالي الأخروي أثره في حياة الشعب قديمًا، فكانوا يرددونه في عيد الحصاد، وتذكار نزول الناموس على جبل سيناء. إنه مزمور عيديٌ احتفالي ليتورجي، يشير إلى عطايا السيد المسيح المُمجِّد لكنيسته.

سماته

 1. يبدأ بكلمات موسى النبي التي كان يرددها عند ارتحال تابوت العهد تحت السحابة: "قم يا رب، فلتتبدد أعداؤك، ويهرب مبغضوك من أمامك" (عد 10: 35). لعل رجال العهد القديم كانوا يرون في تحرك تابوت العهد قوة قيامة السيد المسيح. لا تزال تردد الكنيسة ذات الصلاة في أوشية الاجتماعات، وكأن سٌر بركة الشعب والاجتماعات هي قيامة السيد الغالب للظلمة والشر.

2. يقدم لنا صورة حية عن الكنيسة المتهللة بالروح، لتمتعها بحلول مسيحها الغالب فيها، مسيح اليتامى والأرامل والمحتاجين والمقيدين والمحكوم عليهم بالدفن كما في القبور، ليقيم منهم مركبة الله النارية التي لا تعرف روح الفشل أو اليأس، بل روح القوة والسلطة. إنها كنيسة تسبيح، تبارك الله الذي يهبها سلطانًا، ويقيم منها رؤساء وجبابرة بأس روحيين. فيها يُسمَع صوت المخلص، صوت القوة والمجد والبركة والعزة. في اختصار يصور كمال جمال الكنيسة وقوتها بقوله: "عجيب هو الله في قديسيه" [35]

3. يرى البعض أن شرح هذا المزمور صعب، لأنه مشحون بالتعبيرات المجازية.

4. يمثل نبوة رائعة عن السيد المسيح. اقتبست الكنيسة القبطية عبارات منه في الهوس الكيهكي، وهو تسبحة يحوى عبارات مُقتبَسة من المزامير تتحدث مجيء السيد المسيح وعمله الخلاصي، كتهيئة لاستقبال عيد الميلاد، نترنم به في شهر كيهك.

5. لأول مرة يَستخدم سفر المزامير لقب الله "شاداي"، أي القدير أو ضابط الكل.

الإطار العام

1. أقامنا معه                                     1.

2. يهبنا النصرة                                   2.

3. يهبنا فرحه السماوي                          3.

4. يهبنا سكناه فينا                               4-6.

5. يقودنا بنفسه                                  7-8.

6. يعمل بروحه القدوس فينا                      9.

7. يهبنا الوصية الإلهية                           10-11.

8. انهيار الأعداء وصعودنا معه                  12-14.

9. يقيمنا جبالاً مقدسة                            15-16.

10. يقيمنا مركبة إلهية                           17.

11. مسبيون متهللون                            18.

12. مسبيون ممجدون                            19-23.

13. مسبحون عظماء                            24-31.

14. دعوة كل الأمم للتمتع بالعطايا الإلهية       32-35.

العنوان

 "لإمام المغنين، لداود، مزمور، تسبحة".

جاء في النسخة السريانية "نبوة عن تدبير المسيح، ودعوة الأمم للإيمان".

إن كان داود الملك قد أقام رؤساء للمغنين؛ فإنه هو نفسه يُحسب "إمام المغنين"، أو رئيس فرق المُسبِّحين. إنه لقب يعتز به داود الملك أن يُحسب رئيسًا للمسبِّحين لله.

وُجدت فرق للمسبِّحين في العهد القديم، لكن التسبيح لم يكن قاصرًا على هذه الفرق، فإنه يليق بالملك والكهنة واللاويين وكل الشعب أن يشتركوا في التسبيح لله. في أكثر من موضع يدعو داود النبي والملك كل الأرض وكل الأمم والشعوب أن تهتف لله وتسبحه!

إنه مزمور تسبحة يكشف عن فرح الكنيسة بعريسها الغالب، الذي يرافقها كل الطريق، يتقدمها ويسكن فيها، ويرفعها إلى سماواته كنهاية الطريق. يحقق لها النصرة، حيث يدخل بها إلى عربون الحياة الأخروية وهي بعد في جهادها المستمر على الأرض.

يظن البعض أن هذا المزمور من وحي روح الله لداود النبي والملك الذي لم يكن يسعى ليكون ملكًا. وحتى بعد أن مسحه صموئيل ملكًا في الخفاء لم يطالب باستلام العرش. لكن بقدر ما كانت قوات الظلمة تعمل بكل قوة لتستبعده عن الحكم، كان الله الذي عينه ملكًا يحول الضيقات والمقاومة المستمرة إلى دفعات قوية لا لاستلام العرش على يهوذا أو إسرائيل، إنما ليرى الله نفسه يتقدمه ليملك على قلوب البشر. يرى المرتل نفسه كحمامة وُهب لها جناحا حمامة مغشاة بكلمة الله الفضة النقية، وريشها بصفرة الذهب، أي بالسِمة السماوية. ما كان يشغل قلب داود لا أن تستقر مملكته، بل أن يملك الله ويسكن في وسط شعبه الذي يصير أشبه بمركبات سماوية، تشارك السمائيين تسابيحهم.

كان داود النبي يرى ابن الله المتجسد، ابن داود، صاعدًا إلى السماء، حاملاً الذين فداهم بدمه كغنائم تستريح في حضن الآب، تتمتع بشركة المجد الأبدي.

1. أقامنا معه

يَقُومُ اللهُ. يَتَبَدَّدُ أَعْدَاؤُه،ُ

وَيَهْرُبُ مُبْغِضُوهُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ [1].

تعتبر هذه التسبحة خاصة بقيامة السيد المسيح، الذي يهبنا أن نقوم معه ونحمل نصرته على إبليس وكل قوات الظلمة، ويقدم لنا الغلبة على آخر عدو وهو الموت.

اقتبس المرتل هذه العبارة عن موسى النبي كما جاء في سفر العدد: "وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول: "قم يا رب فليتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك" (عد 10: 35). اعتاد اليهود أن يرتلوا بهذه العبارة، كلما نقل الكهنة تابوت العهد ليتحركوا به. فهو يرمز لحضرة الله، أو لإشراق السيد المسيح، شمس البرّ، على الجالسين في الظلمة. كما تتبدد ظلال الليل وظلمته أمام أشعة الشمس، هكذا يتبدد الشر، وتُزال الظلمة أمام شمس البرّ.

يرى القديس أغسطينوس أن الأعداء هنا هم جاحدو المسيح، الذين لن يقووا على مقاومته، ولا يحتملون الظهور أمامه في يوم الرب العظيم، حيث يقولون للجبال أن تسقط عليهم، وللآكام أن تغطيهم من وجه الجالس على العرش. أما المؤمنون الحقيقيون فيتمتعون بحضوره في وسطهم كمصدر سعادتهم وفرحهم وحمايتهم.

يليق بنا قبل كل تحرك أن نطلب من الله أن يخرج أمامنا، فنختفي نحن وراءه وفيه، فإننا لسنا نحن طرفًا في المعركة، وإنما طرفاها هما الله وإبليس. ليس لنا أعداء شخصيون، فلا نطلب نقمة من أحدٍ، إنما نطلب تدخُّل الله نفسه، وقيادته للمعركة ضد عدو الخير.

v     قال داود هذا عندما رفع تابوت العهد... ليأتي به إلى المحل الذي هيأه له. وكان هو وخلفاؤه عندما يرفعونه، عندما ينقلونه من مكانٍ إلى مكانٍ، كانوا يقولون: "قم يا رب، وليتبدد أعداؤك"، كما جاء في الأصحاح العاشر من سفر العدد. كلمة "قم" هي دعوة بأن يسرع الله إلى مجازاة الأعداء، أعني بهم الكفار والأبالسة.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     يمكن تفسير هذا المزمور تفسيرًا خاصًا وعامًَا. التفسير الخاص أنه يشير إلى الرب ذاته، كيف قام من بين الأموات وبدٌَد كل أعدائه، أعني الشيطان وجيشه أو اليهود.

والتفسير العام، أنه ينطبق علينا حينما نصرخ في ضيقاتنا وضعفاتنا: "استيقظ يا رب، لماذا تنام؟ أعنا" (مز 44: 23، 26). تمامًا كما أيقظ التلاميذ الرب في السفينة، صارخين: "يا رب نجنا، إننا نهلك" (مت 8: 25).

 القديس جيروم

كأننا في وسط الضيقة نصرخ، فنرى مسيحنا القائم من الأموات يعلن عن بهاء مجد قيامته في داخلنا، بينما لا يحتمل الأشرار حضرته، فيهربون من أمام وجهه. فتتحول ضيقتنا إلى خبرة لقاء مع المسيح المُقام، وإلى غلبة ضد الشر وتحطيم له.

الآن كيف يبدد الله عدوه في كل الأجيال؟ إنه لا يحتاج إلى حرب مادية، وإلى إعداد فرق عسكرية، وإنما بحضرته لا يقوى العدو على البقاء، بل يهرب ويتبدد.

2. يهبنا النصرة

كَمَا يُذْرَى الدُّخَانُ تُذْرِيهِمْ.

كَمَا يَذُوبُ الشَّمْعُ قُدَّامَ النَّار يَبِيدُ الأَشْرَارُ قُدَّامَ اللهِ [2].

يستخدم المرتل رمزين للأعداء المقاومين للحق، الدخان في مواجهة الريح، والشمع في مواجهة النار. فإن كان الأشرار يظنون أنهم قادرون على الدخول في معركة ضد السماء والأرض، فإنهم إذ يحاربون السمائيين يكونون كالدخان الذي يذريه الريح، وإذ يقاومون الكنيسة على الأرض يكونون كالشمع قدام النار. يظن الأشرار أن نار حسدهم وغيظهم وبغضتهم لله ولأتقيائه قادرة أن تُحطِّم اسمه القدوس، وأن تُهلك خائفيه. ولم يدركوا أن هذه النيران لا تصيب الله ولا قديسيه، إنما تهلكهم هم أنفسهم وتجعلهم دخانًا أو رمادًا فتذريهم. لا يدرك الأشرار أنهم في حقيقتهم كالشمع الذي يذوب قدام نار شرورهم فيُبادون!

v     الأعداء والمبغضون هم الشياطين. إنهم أعداء لأنهم يعادون الله وخلائقه، ومبغضون لأنهم يبغضون الخير...

الشياطين مثل دخان، لأنهم مثل تِبْنٍ تحرقه النار، ولسرعة زوالهم شبههم النبي بالدخان والشمع...

شبَّه الأشرار بالشمع المُذاب، وأيضًا بالدخان لأنه جاء في أمثال الحكماء: كما أن الحصرم مُضِرٌّ للإنسان والدخان للأعين، كذلك الشر يضر ويعطل أسنان النفس؛ أعني قواها التي بها تصنع المعاني وتذوقها وتطحنها، كما يضر أعينها أيضًا أي بصيرتها وعقلها.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يهِّبُ الله علينا كريحٍ عاصفٍ يبدد الأشرار كالدخان، بينما يُفَرِّح قلوب الصديقين ويهبهم تهليلاً، ويمتعهم بنعيم السرور وبعربون ملكوت النعيم. يُشَبَّه الأشرار بالدخان لأنهم يفسدون البصيرة الروحية بسبب هرطقاتهم أو فساد معتقداتهم، أو بث روح الفساد والشر. إنهم يعملون على نزع الاستنارة من القلب بالأفكار الخاطئة أو بالإغراءات المفسدة. عمل الروح القدس الذي حل في يوم الخمسين على التلاميذ وهم مجتمعين في العُلية حيث صار ريحًا عاصفًا هو نزع هذا الدخان، ورد للقلب بصيرته الداخلية، ليرى ملكوت الفرح في داخله.

هكذا يخشى الأشرار الالتقاء بالله كريح عاصف بينما يفرح المؤمنون ويتهللون به، إذ يرون يوم الخمسين أو عطية الروح التي نالوها في سرّى العماد والمسحة المقدسة (الميرون) عاملة فيهم لإدانتهم.

v     ليفرحوا أنهم يتعبون ويبتهجون أمام الله، فإنهم لا يبتهجون هكذا كمن هم أمام الناس بافتخار فارغ، بل أمام ذاك الذي لا يخطئ النظر فيما يهبهم. "ويطفرون فرحًا"، فلا يعودوا يبتهجون في رعبٍ، كما يحدث في هذا العالم، مادامت الحياة البشرية هي تجربة على الأرض (راجع أي 7: 1 LXX).

القديس أغسطينوس

v     يتبدد الدخان في الهواء فلا يترك أثرًا لوجوده، ولا يمكن للشمع أن يوجد بعد انصهاره. الأخير يُغَذِّي اللهب بمادته، فينصهر ويتبدد في الهواء.

كما يصير الدخان كلا شيء تمامًا، هكذا إذ يأتي ملكوت الله تتبدد كل الأشياء التي تسلطت علينا، فتنقشع الظلمة أمام النور، ويمضي المرض حينما تحل الصحة، وتتوقف الشهوات عن الإزعاج حينما يظهر اللاهوى apathia (غياب الأهواء الخليعة)، ويزول الموت ولا يوجد بعد الفساد، إذ تسود الحياة وعدم الفساد فينا بلا مناهض.

 القديس غريغوريوس النيسي

يرتجف الأشرار من الحضرة الإلهية، لأنهم كالشمع لا يحتملون الله، النار الآكلة، فيذوبون ويهلكون. أما نحن فنرى في النار الآكلة سٌر تهليلنا، إذ حل على الكنيسة بروحه القدوس على شكل ألسنة نارية، وتحّول المؤمنون إلى "خدام الله لهيب نار لا ينطفئ"! يحملون القلب الناري الذي لا تستطيع مياه العالم كله أن تطفئه!

حضرة الله وعمل روحه القدوس يسكب فرحًا على الصديقين، ويملؤهم تهليلاً، ويدخل بهم إلى التنعم بالسرور. بمعنى آخر يختبرون الفرح والتهليل (التسبيح) والنعيم. موكب النصرة الإلهي هو موكب الكنيسة المملوءة فرحًا، المُسبِّحة لله، والمختبرة لعربون ملكوت النعيم الأبدي! بالفرح والتسبيح وتذوُّق نعيم السماويات ننعم بالغلبة على قوات الظلمة أو بنصرة المسيح رأسنا!

لقاء الله يحول حياة الأشرار إلى فزع ونوح وعويل مستمر، وحياة الصديقين إلى بهجة روحية وتسبيح دائم وشركة مع السمائيين.

3. يهبنا فرحه السماوي

وَالصدِّيقُونَ يَفْرَحُونَ.

يَبْتَهِجُونَ أَمَامَ اللهِ، وَيَطْفِرُونَ فَرَحًا [3].

أي فرح أعظم مما يتمتع به المؤمنون في يوم الرب العظيم حيث يلتقون مع الرب وجهًا لوجه. ويلمسون حبه الإلهي العملي في أروع صورة. يدخلون كموكب متهلل مع العريس السماوي، تستقبلهم الطغمات السمائية وتتهلل معهم في دهشة، كيف صار للترابيين هذا المركز الأبدي الفائق، أن يستقروا في حضن الآب، ينعمون بشركة الأمجاد الأبدية.

v     يقول النبي عن الأشرار إنهم يهلكون ولا يُمحَى وجودهم... إنهم لا يرون وجه الله. أما الصديقون فيفرحون ويتهللون أمام الله، وذلك لمعاينتهم جلاله ومجده، لأن الروح الذي فيهم هو ثمرة المحبة والسلام.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     يليق بنا أن نفرح فقط مع الذين نراهم يمارسون عملاً يستحق أن يُكتَب في السماء، سواء كان عمل برٍّ، أو محبةٍ أو سلامٍ أو رحمةٍ... بالمثل إن رأينا أناسًا يتحولون عن الخطأ، ويتركون ظلمة الجهل وراءهم ويأتون إلى نور الحق وغفران الخطايا يلزمنا أن نفرح معهم[55].

العلامة أوريجينوس

v     لا يستحق الأشرار معاينة الله، "الصديقون يفرحون"، هؤلاء الذين يحفظون براءتهم بلا رذائل يبتهجون بالرب.

v     "يفرحون ويتهللون أمام الله"... إنها علامة الثقة العظيمة أن يفرح (الإنسان) بالرب. فالوكيل (لو 16: 1-3) الذي يُدَبِّر أموال (موكله) حسنًا يلتقي بالرب بسرور.

 القديس جيروم

يُترجَم هذا الفرح بالتسبيح على قيثارة الروح، وكما يقول القديس جيروم: [يتحقق التسبيح لله بالعمل الصالح، فمثلاً تمارس حاسة السمع خدمتها وهكذا الفم والعينان واليدان وكل أعضاء الجسم تتناغم معًا، وتعزف على أوتار القيثارة في وقار.]

إذ تختبر الكنيسة حضرة الرب وسط آلامها، وتحسب نفسها مغبوطة أن تشارك مخلصها آلامه، لتدخل معه إلى خبرة بهجة قيامته، وتتمتع بقوة نصرته، تتحول حياتها إلى تسبيح مستمر، بل ويصير عملها الأساسي دعوة أبنائها لحياة التسبيح كحياة شركة مع العريس الإلهي:

v     يُسبِّح لله من يعيش لله، يرتل (يزمر) لاسمه من يعمل لمجده.

 القديس أغسطينوس

إذ أدرك المرتل سلاح التسبيح وفاعليته، قال: "سبحوا لله، رتلوا لاسمه". نقدِّم التسبيح لا كعملٍ حماسي، ولا كاستعراض أمام الآخرين، وإنما كحياة داخلية تمس علاقتنا الشخصية بالله، واختبارنا لقوة اسمه.

4. يهبنا سكناه فينا

غَنُّوا لله. رَنِّمُوا لاِسْمِهِ.

أَعِدُّوا طَرِيقًا لِلرَّاكِبِ فِي الْقِفَارِ بِاسْمِهِ يَاهْ،

وَاهْتِفُوا أَمَامَهُ [4].

طأطأ كلمةُ الله السماءَ ونزل إلينا، ليعلن اسمه "ياه" أي الكائن أو الساكن في وسط شعبه. كائن معهم بكونه الطريق الذي يدخل بهم إلى الأمجاد الفائقة. فيه نسير وإليه نذهب، وعنده نستقر ونستريح أبديًا. سكناه فينا يحول حياتنا إلى سيمفونية فرح وهتاف لا ينقطع.

جاءت كلمة "القفار" في بعض الترجمات "المغارب". يشير الغرب إلى مسكن عدو الخير حيث لا يشرق فيه شمس البرّ. وجاء في سفر الأمثال: "سراج الأشرار ينطفئ" (أم 13: 9). وأيضًا كان اليهود يحسبون القفار مسكن إبليس، حيث الخراب والدمار. وكأن الله يتجه بمركبته لمقاومة إبليس وتحطيمه، من أجل خلاص المؤمنين.

أيضًا إذ يتجه إلى المغارب، إنما يتجه إلى الأمم التي عاشت زمانًا طويلاً في الظلمة، فيشرق عليهم بنوره، ويصيرهم أبناء النور، يسبحونه ويبتهجون به.

في القديم إذ كان الملك ينتصر، يقوم رجال الدولة بإعداد الطريق له حتى يدخل العاصمة، فمن جانبٍ يقدِّمون له الكرامة اللائقة بملكٍ منتصر؛ ومن جانب آخر يضعون في حسبانهم أية أمور طارئة في الطريق.

كان لتحرُّك تابوت العهد ونقله استعدادات خاصة به.

هنا يشير إلى السيد المسيح، "ياه"، أو "يهوه"؛ فإنه جاء العالم كمن يركب في القفار، إذ فقد العالم ثمار الفضيلة، وصار كمن في قحطٍ شديد، أو قفر. لقد أعَدَّ الآباء والناموس والأنبياء خاصة القديس يوحنا المعمدان الطريق لكي يتعرَّف العالم على شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي (إش 40: 3؛ مل 3: 1؛ مت 3: 3). من بين الإعدادات التي قُدِّمت له، التسبيح والهتاف له بروح الفرح والبهجة.

v     من يطأ العالميات ويُقرِّب لله تمجيدات لائقة من قلبٍ ناصع يُقال عنه يسبِّح الله، ويرتل لاسمه بكافة الحواس الجسدية وحركاتها. قوله عن الله إنه راكب يدل على أنه كائن بقدرته في تابوت العهد كمثل ملك راكب مركبته، وذاهب إلى أعدائه لمحاربتهم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يرى القديس أغسطينوس أن التسبيح لله لا يكون بالكلمات المجردة، وإنما يسبِّح له بحياته المتناغمة مع إرادة الله. كما يرى أنه يليق بالمؤمنين أن يعدُّوا طريق الرب في القفار، أي بين الأمم، لكي يأتي ويملك عليها. إنهم سيحتملون متاعب وآلام كثيرة، لكنهم يسبِّحون الله ويبتهجون أمام الله.

تسبيحنا الروحي النابع من أعماق القلب، والمترجم بالفكر المقدس والسلوك الروحي، يهيئ طريقًا للرب كي يحوِّل أهل المغارب إلى مركبة إلهية. يرى العلامة أوريجينوس أن اليهود إذ عرفوا الله في فجر حياتهم حُسبوا "المشارق"، أما الأمم فعَرَفوه في ملء الأزمنة، لذا دُعوا "المغارب". كأن المرتل يدعو الله هنا "الراكب على المغارب" بمعنى الجالس على قلوب الأمم كعرشٍ له.

يقول القديس جيروم: [إن لم تغرب شمس الدنس عنا، لا تشرق شمس البرّ والشفاء في أجنحتها (ملا 4: 2).]

ويقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [يركب على المغارب، أي على الخطاة التائبين الذين يبتعدون عن الشيطان الذي يتشبه بملاك نور (كأنه يشرق عليهم)، لذلك قيل إن نور المنافقين ينطفئ كما جاء في الأصحاح الثالث عشر من سفر الأمثال. بابتعادهم عنه وتركهم أعماله يقبلون نير المسيح الحلو وحمله الخفيف. هؤلاء هم المغارب الذين يركبهم المسيح. ويقول القديس كيرلس إنهم يُدعون بالمغارب، لأنهم ابتعدوا عن فردوس النعيم في المشارق، وصاروا في الظلمة، لكنهم إذ تابوا عن أعمال الظلمة، صاروا مركبة الله، وصار طريقهم هو العودة إلى الفردوس، كما قال ربنا للص التائب: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43). ويقول (القديس) أثناسيوس ويوسابيوس إن ركوب الله على المغارب هو تجسده وإخفاء نور لاهوته وقبوله صورة العبد,

باختصار ركوبه المغارب يعني:

أ. قبول الأمم الإيمان به في زمن متأخر.

ب. قبول الخطاة شمس البرّ بعد رفضهم الشيطان الذي يظهر كنورٍ بكوته مخادعًا، كشمس مشرقة لكنها تنطفئ.

ج. تجسد كلمة الله وتأنسه، إذ أخفى لاهوته، وشابهنا في كل شيء ما عدا الخطية.

v     بتسبيحكم وترتيلكم هكذا، أي بحياتكم وعملكم هكذا (في الرب) يقول: "اصنعوا طريقًا للصاعد على الجالسين". تصنعون طريقًا للمسيح، فإنه بواسطة الأرجل الجميلة للمبشرين بالخيرات، ينفتح له طريق بقلوب المؤمنين.

 القديس أغسطينوس

الآن من هو هذا الذي نسبِّحه ونرتل له، فنفتح له بحياتنا وشهادتنا وقلوبنا طريقًا؟

قائد المتألمين والمطرودين والمنكسرين وسندهم. إنه يود أن يُبهِجَ كل البشرية المشارق والمغارب، كل الأمم والألسنة والشعوب، وبوجه خاص الأيتام والأرامل والمحتاجين والمقيدين.

أَبُو الْيَتَامَى وَقَاضِي الأَرَامِلِ،

اللهُ فِي مَسْكَنِ قُدْسِهِ [5].

يُدعَى الله أب الأيتام وقاضي الأرامل، لأنه مهما بلغ اهتمام البشرية بهم، تعجز عن أن تُشبِع احتياجاتهم وتحميهم من الضيقات والمتاعب. الله وحده قادر أن يحقق هذه الأمور، مباشرة أو خلال البشرية أو الطبيعة.

إن كان المؤمن يهتف بصيحات النصرة ضد قوات الظلمة، فإنه يتهلل بالساكن فيه، بكونه أب اليتامى وقاضي الأرامل. فقد عانى الإنسان من حالة يُتم، إذ عزل نفسه عن أبيه السماوي، وصار يتيمًا تبناه إبليس ابنًا له، وصار في حالة ترمل حيث فقد اتحاده مع السماوي، كما تفقد العروس عريسها.

حلوله في وسطنا ينزع عنا حالة اليُتم والترمل، لننعم بروح التبني لله، والاتحاد مع العريس السماوي. في اختصار صار المؤمن هيكلاً مقدسًا، أي مسكنًا لله، ابنًا له، وعروس سماوية.

v     يرتجف أعداؤه، أي غير المؤمنين به من حضور ربنا، وأيضًا ترتجف الشياطين إذ قالت: "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله، أتيت لتعذبنا قبل الزمان". بقوله: "أب اليتامى وقاضي الأرامل" يخبر بزيادة عناية الله، كما يجب الاعتناء بالأكثر باليتامى والأرامل.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     إذ سبق النبي فقال "يقوم الله"، ثم قال "مهدوا الطريق للراكب على المغارب"، فلئلا يظن السامعون أن في الله انتقالاً مكانًا اتبع قوله: "الله في موضع قدسه" هذا يتفق مع ما قاله ربنا له المجد في بشارة يوحنا الإنجيلي: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3: 13). يعني بهذا الكلام أن الله لا يحصره مكان، ولا ينتقل إلى مكانٍ، لكنه لم يزل مستقرًا في قدسه، ولو أنه نزل إلى الأرض بالجسد إلا أنه لم ينفصل عن الآب والروح القدس...

أيضًا يُقال إن السماء موضع قدسه، كما جاء في نبوة ميخا النبي: "هوذا الرب يخرج من مكانه وينزل ويمشي على شوامخ الأرض، فتذوب الجبال تحته، وتنشق الوديان كالشمع قدام النار" (مي 1: 3-4).

وأيضًا مكان قدسه أورشليم لوجود الهيكل قديمًا لشريعته العتيقة.

وأخيرًا حلول ربنا بالجسد وآلامه وسائر أعمال تدبيره للخلاص. وأيضًا مكان قدسه هو الجسد الحي الناطق الذي اتخذه من البتول واتحد مع اللاهوت وجعله هيكلاً للاهوته.

أيضًا كنيسة المسيحيين هي مكان الله لوجوده فيها بجسده ونعمته وقدرته، كما وعد: "سأسكن فيهم وأتردد فيما بينهم". وكل من المؤمنين إذا طهر ذاته من الأدناس العقلية يكون مسكنًا لله.

يقول القديس أثناسيوس: إن قول النبي "الله في موضع قدسه" معناه أنه وإن نزل إلى الأرض متجسدًا وانحدر إلى أعماق الجحيم ليخلِّص المعتقلين، لكنه عاد صاعدًا إلى السماء، وهو المكان الذي يُعرف أنه فيه من كافة الأمم، إذ الناس جميعهم عند تضرعهم يرفعون أياديهم إلى السماء.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     قيل إنه كشف عن لمحة من لاهوته. لقد أعلن لهم أنه هو الله الذي يسكن في وسطهم[56].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     الآن فإنني أقدم هذه (الرسالة) لتكون الشهادة الأولى والعظمى عن عناية الله بك،ِ حتى لا يبتلعك الحزن، ولا تهدمك أفكارك الطبيعية، عندما تعمل هذه المضايقات فجأة على غمك. فإنكِ لستِ محتاجة إلى يدٍ بشريةٍ، بل يد القدير التي لا حد لفهمها. وإلى الحكمة التي اكتشفت "أبو الرأفة وإله كل تعزية" (2 كو 3:1)، فقد قيل: "هو افترس فيشفينا" (هو 2:6)، " سيضربنا ويعصب جراحاتنا ويشفينا".

لقد كنتِ تتمتعين بالكرامة بوجود زوجكِ الطوباوي معك، كما كنت موضع عنايته وغيرته. حقًا لقد تمتعتِ بما كنتِ تتوقعينه من زوج.

أما الآن وقد أخذ الله زوجكِ لنفسه، فإنه يحتل مكانه بالنسبة لك. هذا لا أقوله من عندي، بل يقول النبي الطوباوي: "يعضد اليتيم والأرملة" (مز 9:146). وفي موضع آخر يقول: "أبو اليتامى وقاضي الأرامل" (مز 5:68). وهكذا نجد الله يهتم بهذه الفئة من البشرية بغيرة كما عبَّر عن ذلك بعبارات كثيرة[57].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     يمكنني أن أُذكِّركم بأمور كثيرة الآن بطرق مغايرة، لكن على أي الأحوال أُقدِّم لكم شهادة أخرى حتى تتأكدوا أن الله يُدعى "أبًا للبشر" في معنى غير مناسب (أي ليس بالطبيعة). هكذا خوطب الله في إشعياء: "فإنك أنت أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم" و"سارة لم تتمخض بنا" (إش 63: 6).

وإن كان المرتل يقول "ليضطربوا من هيئته، أب لليتامى (للذين بلا أب) قاضي الأرامل" (مز 68: 5 LXX)، أليس من الواضح للجميع أنه يدعو الله أبًا للذين فقدوا آباءهم متأخرًا، ليس لأنه ولدَهم، بل من أجل اهتمامه بهم وحمايته لهم؟!

ولكن بينما نحن ندعو الله أبًا للبشر في معنى غير مناسب، فهو أب المسيح وحده بالطبيعة لا بالتبني.

فبالنسبة للبشر هو أب في زمان، أما بالنسبة للمسيح أب قبل كل زمان، إذ يقول: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك، بالمجد الذي كان لي عندك قبل كوْن العالم" (يو 17: 5)[58].

القديس كيرلس الأورشليمي

v     إنكم تهاجمون حتى اليتيم، أي تهاجمونني أنا، حيث قد حُرمت من كل عونٍ بشري. ولما كان الله هو أب الأيتام (مز 68: 5)، فإنكم تجعلونه يغضب عندما تقاومونني. تريدون أن تطأوا صديقكم تحت الأقدام وذلك بكلماتكم. تطأون عليه بأكثر عنف مما لو كان ذلك تحت أقدامكم، وتستخفون بشرائع الصداقة. لكن الله يصنع هذه الأخطاء في الحسبان، هذا الذي ليس فقط يأمرنا بحب قريبنا كأنفسنا، بل يريدنا أن ندعوه "الحب"[59].

هيسيخيوس الأورشليمي

يدعو نفسه أبًا لليتامى وقاضيًا للأرامل، حينما نقبل بإرادتنا التيتم بموت أبينا القديم إبليس (يو 8: 44) وأعماله الشريرة، ونتحد مع مسيحنا المقاوم له نقبل الله الآب أبًا لنا، يعتني بنا، ويدخل بنا إلى سماواته كبيت أبينا، وتصير لنا دالة للدخول حتى إلى عرش الله بكونه عرش أبينا. وحينما نرفض الاتحاد بإبليس تصير نفوسنا مترملة بالنسبة له، فتتهيأ لعريسها السماوي الذي يضمنا إلى حجاله، ونصير موضع اهتمام ورضا الآب بكونه "قاضيًا للأرامل".

v     يلد الشيطان الإنسان الذي يخضع له كمولود سوء، ويكون أباه، ويصير بمنزلة زوج لنفسه. لكنه إذا تاب ذلك الإنسان عن السوء، يصير يتيمًا وأرملاً، ويكون الله أباه وزوجًا لنفسه.

 الأب أنثيموس الأورشليمي

v     إذا أردتم زيارة أحد، فالأفضل أن تعطوا الكرامة للأيتام والأرامل والمعوزين أكثر من الأغنياء ذوي الشهرة والصيت. فقد قال الله نفسه إنه "أبو اليتامى وقاضي الأرامل: [6]، وأيضًا "اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة، وهلم نتحاجج يقول الرب" (إش 1: 17، 18).

v     الأرملة الحقيقية هي التي تصبح عروسًا للمسيح في ترملها[60].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

ربما يتساءل البعض: ما هو الارتباط بين دعوة الله أب اليتامى وقاضي الأرامل، وبين الإعلان عنه أنه يسكن في موضعه المقدس؟

v     مِنْ هؤلاء اليتامى والأرامل، أي الأشخاص المحرومون من شركائهم في رجاء هذا العالم، يبني الله نفسه هيكلاً، إذ يكمل (المرتل) قوله: "الله في مسكن قدسه" (مز 68: 5).

القديس أغسطينوس

اَللهُ مُسْكِنُ الْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ.

مُخْرِجُ الأَسْرَى إِلَى فَلاَحٍ.

إِنَّمَا الْمُتَمَرِّدُونَ يَسْكُنُونَ الرَّمْضَاءَ [6].

جاء في تفسير القديس أغسطينوس، "الله مُسكن الذين بمزاجٍ واحدٍ في بيت". وكأن ما يراه القديس هنا أن المرتل يتحدث لا عن متوحدين في عزلة عن البشر، وإنما عن وحدة في الفكر أو المزاج أو الطبع، يجمعهم الله ويسكن في وسطهم، ويقيم منهم هيكلاً له بسبب روح الوحدة. وكأنه ليس من هيكل يقدسه الله، مثل الوحدة بين المؤمنين.

v     إذ نكون بمزاجٍ واحدٍ نسكن في بيت، نتأهل أنه هو أيضًا يتنازل ويسكن بيننا... هذا هو مسكن الرب المقدس، الأمر الذي يطلبه أغلب الناس، الموضع الذي تُسمع فيه الصلاة... فالرب لا يسكن في أي موضع أيًا كان، وإنما في موضعٍ يكون بالأكثر خاصًا ومكرمًا. هكذا لا يسكن الله في كل البشر الذين في بيته (إذ هو لا يسكن في أواني الهوان)، إنما مسكنه المقدس هم أولئك الذين لهم مزاج واحد، أو لهم سلوك واحد في بيتٍ.

v     لكي يبرهن أنه بنعمته يبني لنفسه هذا الموضع، وليس من أجل استحقاقات مُسبقة لهؤلاء الأشخاص الذين يقيم منهم مسكنًا له، انظروا ما يلي ذلك: "الذي يقود المقيدين (الأسرى) في قوة". فإنه يحل قيود الخطية الثقيلة، التي كانوا مقيدين بها، فلم يكونوا قادرين على المشي في طريق الوصايا؛ لكنه يقودهم في قوةٍ لم تكن لديهم قبل نوالهم نعمته.

v     تقود نعمة المسيح في قوةٍ. بأي قوة سوى تلك التي بها يجاهدون ضد الخطية حتى الدم؟ فإنه خرج من كل نوع أشخاص متأهلون أن يصيروا مسكنه المقدس، هؤلاء الذين إذ حُلوا (من القيود) قاموا إلى الحياة. فإنه حتى المرأة التي ربطها الشيطان 18 سنة حلّ (المسيح) قيودها بأمره (لو 13: 16). وغُلب موت لعازر بصوته (يو 11: 45). ذاك الذي فعل هذا في الأجساد، قادر بالأكثر أن يفعل أمورًا عجيبة في الشخصيات، ويجعل البشر الذين من مزاجٍ واحدٍ يسكنون في بيت "يقود الأسرى في قوة، مثل أناسٍ منزعجين يسكنون القبور".

v     يبني الرب له هيكلاً من الأيتام والأرامل، أي من الأشخاص المحرومين من الشركة في رجاء هذا العالم، لذا يُكَمِّل حديثه: "الله في موضع قدسه"... أناس لهم فكر واحد، ورأي واحد، هذا هو موضع قدس الرب.

 القديس أغسطينوس

v     هل تظن أنه يمكنك أن تثبت وتحيا إن كنت ترتدّ عن الكنيسة، مُشيِّدًا لنفسك بيوتًا أخرى، ومسكنًا مختلفًا، بينما قيل لراحاب التي سبق وأخذت صورة الكنيسة: "ويكون أن كل من يخرج من أبواب بيتك إلى خارج، فدمه على رأسه" (يش ٢: ١٩). وأيضًا نجد أن سرّ خروف الفصح لا يحوي شيئًا آخر في سفر الخروج مثلما أن الحمل الذي يُذبح يجب أن يؤكل في بيتٍ واحدٍ، وهو يمثل الكنيسة. فيقول الكتاب: "في بيت واحد يؤكل. لا يخرج اللحم من البيت إلى خارج" (خر ١٢: ٤٦). إن جسد المسيح ومقدَّسات الرب لا يمكن أن تخرج إلى خارج، ولا يمكن أن يكون هناك بيت آخر للمؤمنين إلاَّ الكنيسة الواحدة. ويشير الروح القدس إلى هذا البيت، وإلى العائلة المتحدة، ويعنيها، عندما يقول في المزمور: "الله مُسكِّن المتوحدين في بيت" (مز ٦8: ٦). ففي بيت الله في كنيسة المسيح، يسكن المؤمنون بنفسٍ واحدة، ويستمرون كذلك في وئام وبساطة[61].

v     في بيت الله، في كنيسة المسيح، يسكن البشر بفكرٍ واحدٍ، ويستمرون في انسجامٍ وبساطةٍ.

v     إنهم يواظبون معًا في الصلاة، معلنين بإلحاح وباتفاق صلواتهم أن الله يُسكن من هم بفكرٍ واحدٍ في بيت، يُدخل فقط الذين لهم اتفاق في صلواتهم إلى البيت الإلهي.

v     أوصانا الله أن نكون صانعي سلام وفي وحدة وبفكرٍ واحدٍ في بيته... ويريدنا إذا وُلدنا ثانية أن نستمر هكذا. إذ صرنا أولاد الله نظل في سلام الله، وإذ صار لنا الروح الواحد يكون لنا أيضًا القلب الواحد والفكر الواحد.

الله لا يقبل ذبيحة المخاصم، بل يوصيه أن يترك المذبح ويتصالح أولاً مع أخيه، حيث يُسر الله بصلوات صانع السلام.

 الشهيد كبريانوس

إذ يدخل الله إلى قلوب شعبه المنكسرة يعلن مملكته، أو سكناه في وسطهم، ويجعل منهم بيتًا واحدًا متناغمًا ومنسجمًا، لهم "شكل واحد" هو "شكل ابن الله" أو التشبه به، مع تنوع مواهبهم وقدراتهم. يؤكد القديس إكليمنضس السكندري أن غاية المخلص في تعليمه والبشر وتدريبهم وتهذيبهم أن يصيروا على شاكلته.

v     "الله في موضع قدسه". يسكن الله دائمًا بين قديسيه، وحيث توجد القداسة يكون موضع قدس الله. "يُسكِن الله البشر ذوى الطريق الواحد"، هؤلاء الذين يختارون طريقًا واحدًا للحياة، ويتمسكون به. حقًا إن الإنسان البار مثابر، فإنه يقرر مرة يحيا حياة فاضلة، أما الخاطئ فعلى النقيض، إذ هو متقلب: "الشرير متقلب كالقمر" (ابن سيراخ 27: 11). وفي النص العبري: "الله مَّسكن المتوحدين في بيت"، حيث لا تجد الخطية لها موضعًا وسط المتوحدين".

 القديس جيروم

v     لأن الرب يُسكن البشر بفكر واحد في بيت. من ثم يمكن للحب وحده أن يدوم دون انزعاج وسط من لهم هدف واحد وفكر واحد، يريدون ويرفضون معًا نفس الأمور.

 الأب يوسف

ماذا يقصد بمُسْكِن المتوحدين؟

أ. يرى البعض أن المتوحدين هنا يُقصد بهم المهجورون، مثل المرأة المُطَلقة أو الأرملة، وليس لها موضع للسكن. فإن الله بحبه يهتم بالفئات العاجزة عن وجود مسكن مستقر.

ب. يرى البعض أن المتوحدين هنا أولئك الذين يعانون من حدة الانفعال، فلا يجدون من يقبل السُكنَى معهم. فإن الله يترفق بهم، ويُعِد لهم مسكنًا حتى تستقر نفوسهم.

ج. ربما يقصد بالمتوحدين أولئك الذين يعتزلون المجتمع، وينفردون.

د. ربما يعني الذين سقطوا تحت أسرٍ، وحُرموا من بلدهم وبيتهم، فيشعرون بالعزلة القاتلة.

هـ. الشعب الذي عاش في مصر أثناء نظام السخرية وقد حُرِموا من أصدقاء لهم، أو الذين ساروا في البرية وقد عجزوا عن التمتع بالحياة الاجتماعية في صداقات... فإنهم يستقرون هم أو أولادهم في أرض الموعد، ويكوِّنون صداقات فيما بينهم.

و. يرى البعض في هذه العبارة الكشف عن دور الله في اختيار الزوج أو الزوجة، فهو مهتم بإقامة الأسرة المقدسة متى سلَّم الإنسان حياته في يد الرب.

"مُخْرِجُ الأسرى إلى فَلاَحٍ". خلق الله الإنسان ليتمتع بالحرية، فإن كان يسمح لبعض أولاده بالسقوط تحت الأسر، أو بالسجن، لكنه هو الذي يُطْلِقُ الأسرى ويُعْتِقهم من السجن، كما فعل مع يوسف. أو كما فعل بالشعب كله حين أطلقه من عبودية فرعون.

"إنما المتمردون يسكنون الرمضاء (الأرض الجافة)": من يتمرد على الله، يَحرِم نفسه من عطية مياه الروح القدس؛ وتجف أعماقه لتصير قفرًا بلا ثمر، لا يجد تعزية داخلية، ولا قوت يُشبِع نفسه، أو ماءً يرويها.

يتنازل الله ويجعل من شعبه مسكنًا له، فيقيم في وسطهم، وبحبه يقيم لهم بيتًا هو ملكوته، لكي يسكنوا فيه. إنه حب متبادل فائق! يشتهي الله السكنى وسط شعبه، ويهبهم الفرصة ليشتهوا السكنى في ملكوته.

يتحدث هنا عن المتوحدين بكونهم يتركون كل شيء من أجل الله، وبروح الحب يعيشون في بيت واحد، هو الكنيسة. والأسرى هم الذين استعبدتهم الخطية وأَسَرَهُم عدو الخير، يُحَررهم المخلص من قيود الشر. وعن المتمردين الذين يسكنون القبور، الذين يظنون في العصيان نوعًا من الحرية، فيحرمون أنفسهم من بيت الله أبيهم، ليعيشوا في القبور، تحت سلطان الموت وقوات الظلمة.

v     قوله: "متوحدون" يدل على اليهود الذين كان بينهم وقد أسكنهم في بيت، أعني في أورشليم. أما متوحدو الحال (يقول القديس أثناسيوس) فهم الذين يتجنبون كل شهوة دنيوية، ويصيرون في حياة البتولية لله وحده، أبرياء من كل ريبٍ وشكٍ. هؤلاء يسكنهم في بيت، أي في ملكوت السماوات أبديًا... وأما قوله "مخرج المقيدين (الأسرى)" برجولته (بشريته)، فهم المتمردون الذين يسكنون في القبور، ويعني الإسرائيليين الذين كانوا مغلولين برق العبودية في مصر، وكأنهم كانوا أمواتًا يسكنون القبور وهم أحياء، أخرجهم بقوة عظيمة، مع أنهم كانوا يتمردون بضجرهم وتقمقمهم عليه وعلى نبيه. وأيضًا الذين قيدهم الشيطان في الجحيم حلَّهم ربنا برجولته، أعني بأخذه صورة رجل وبتأنسه وإبطاله الموت.

أيضًا المقيدون هم الموجودون بعقال خطاياهم، المتمردون على الله بشنائعهم، الساكنون في قبور العقل والأموات بابتعادهم عن الحياة الأبدية. وأيضًا عابدو الأصنام الذين قيل عنهم في نبوة إشعياء النبي: "قائلاً للأسرى أخرجوا، للذين في الظلام اظهروا" (إش 49: 9). وأيضًا: "وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح عيون العُمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن" (إش 42: 6-7).

الأب أنثيموس الأورشليمي

قيل عن سجين أُطلق سراحه بعد سجنه زمانًا طويلاً ظلمًا، وفي الطريق وحوله عائلته وأصدقاؤه مبتهجين ومتهللين، وقف فجأة أمام تاجر حَمَامٍ ليشترى كل ما لديه من حَمَام، ثم فتح باب القفص، وترك الحَمَام يطير. سُئل عن سبب تصرفه هذا، فقال: "إن الذي ذاق مرارة الحبس لا يطيق أن يري كائنًا في حبس!"

معروف أن الطيور والحيوانات تموت في زمن مبكر جدًا (حوالي نصف عمرها) متى كانت حبيسة، ولو في أقفاص ذهبية، ومهما قُدِّم لها من طعام, هكذا كل كائن، خاصة الإنسان، يدرك ما هو مفهوم الحرية. وقد تولي الله نفسه هذا العمل، لا ليطلق المأسورين ويحل رباطهم فيمارسون بشريتهم التي قتلها الذل حتى ليَحسِبوا تحررهم خروجًا من القبر، وخلاصًا من فساد طبيعتهم المتمردة، وإنما ليهبهم أيضًا ذاته "قوة وجبروتًا".

v     الله ذاته بقوته يحرر مَنْ ربطتهم الخطية وقيَّدَتهم بالشيطان، وذلك كما حرر المرأة التي ذُكِرَتْ في الإنجيل، تلك التي قيدها الشيطان ثماني عشرة سنة (لو 13: 11-13)، "أما المتمردون فيسكنون في القبور". الله حلو بطبيعته، أما الذين يحركونه إلى المرارة فهم الخطاة، يجعلون الله مرًا لهم. لا يُغَيِّر الله طبيعته، لكن الخطاة أنفسهم يجعلون الله مرارتهم، "فيسكنون في القبور". "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون"، لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة!" (مت 23، 27).

كما أن القديس هو هيكل الله، هكذا يجعل الخاطئ نفسه قبرًا.

 القديس جيروم

5. يقودنا بنفسه

اَللهُمَّ عِنْدَ خُرُوجِكَ أَمَامَ شَعْبِك،َ

عِنْدَ صُعُودِكَ فِي الْقَفْرِ، سِلاَهْ [7].

بعدما تحدث المرتل عن الموكب الإلهي، موكب الملك الغالب في كنيسته، بدأ يستعرض مثالاً عمليًا عاشه الشعب قديمًا، عندما حررهم الله من عبودية فرعون، وانطلق بهم في البرية بيدٍ قويةٍ وذراعٍ رفيعة، حتى يَدخُل بهم إلى أرض الموعد، رمز كنعان السماوية.

لقد صعد رأس الكنيسة إلى سماواته، ليُصعد معه الجسد أيضًا.

1. يقول: "خرجت"، فإنه لا يستطيع الشعب أن يخرج ما لم يخرج الله أمامهم، ويقودهم بنفسه، وكما قيل عن الكنيسة: "من هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها" (نش 8: 5). إنه يفتح الطريق أمامها، ويخرج معها، ويرافقها الطريق، ويتحرك معها بكونه "الأول والآخر"، أي يبدأ معها لتبقى مستندة عليه كل الطريق حتى تبلغ نهايته. يقول القديس جيروم: [هذا يتفق مع التاريخ، حينما تقدَّم الله شعبه عند خروجه من مصر (خر 13: 21).]

يرى القديس أغسطينوس أن خروج الله ليس تحرُّكًا مكانيًا، وإنما هو اكتشاف المؤمنين عمله العجيب من أجلهم، وتمتعهم بإمكانياته في كل تحركاته.

v     لما كنت يا الله متقدمًا شعبك عندما أخرجتهم من أرض مصر، وجزت بهم في برية سيناء صار حينئذٍ ريح عاصف وغمام وصوت الأبواق وسائر الآيات التي فعلتها، فقد اضطربت وارتجفت من خوفها سكان الأرض عندما سمعت عن عظائمك. السماوات قطرت المن من أمام وجه سيناء، أي بأمر الله الذي ظهر في سيناء، وأيضًا الغذاء الروحي، أي بشرائع إلهية.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     خروجه يُعرف عندما يظهر في أعماله. لكنه لا يظهر لكل البشر، إنما لأولئك الذين يعرفون كيف يستكشفون أعماله. فإنني لست أتحدث الآن عن تلك الأعمال الواضحة لكل البشر: السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، إنما أتحدث عن الأعمال التي بها يقود الأسرى في قوةٍ، مثل أناسٍ منزعجين يسكنون القبور، ويجعلهم بمزاجٍ واحدٍ يسكنون في بيتٍ. هكذا يخرج أمام شعبه، أي أمام أولئك الذين يدركون نعمته.

القديس أغسطينوس

2. يسير الله نفسه في الطريق الصعب: "عند اجتيازك البرية"، لكي يحملها في قفر هذا العالم على منكبيه، كما تحمل الأم رضيعها والراعي خروفه المُتَعب. يُقَدِّم لها كل احتياجاتها، حتى تعبر برية هذا العالم، وتنعم بالسكنى معه في الأمجاد الأبدية!

إن كانت برية هذا العالم قد دُعيت "وادي الدموع"، فقد نزل إليها، ليرافقنا فيها، فننسي دموعنا بشركتنا معه، وحوار الحب الدائم معه! وجوده معنا وفينا يُحوِّل بريتنا إلى عربون للسماويات!

3. يرى القديس أغسطينوس أن البرية التي اجتازها هي الأمم التي عبر إليها المخلِّص ليعلن حبه لكل بشرٍ. [البرية هي الأمم التي لم تعرف الله، كانوا برية حيث لم ينالوا من الله شريعة، ولا سكن بينهم نبي، ولا سبق فأُخبروا عن مجيء الرب.]

الأَرْضُ ارْتَعَدَتِ.

السَّمَاوَاتُ أَيْضًا قَطَرَتْ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ.

سِينَاءُ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهِ اللهِ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ [8].

في العهد الجديد يحملهم المخلص إلى سماواته، هذا الذي أصعدهم في العهد القديم من أرض العبودية إلى أرض الموعد، كنعان. أخرجهم بيدٍ قويةٍ وبذراعٍ رفيعة، وقدم لهم كل احتياجهم، فأمطر عليهم المن من السماء، وأيضًا السلوى

4. إذ يخرج معنا طريقنا القفر ترتعد الأرض وتقطر السماوات ماءً، وتنهار الجبال، فلا تقف عائقًا في الطريق. هذا ما ترنمت به دبورة النبية عن خبرة عملية عاشتها (قض5: 4، 5).

يتزلزل جسدنا (أرضنا)، كما ارتجت مدينة أورشليم عند دخول المسيح (مت 21: 10)، يرتعد ليصير أشبه بالعُلِّية التي امتلأت "كما من هبوب عاصفة" (أع 2: 2). فلا يكون للشهوات الجسدية سلطان، بل تتقدس عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا بروح الله القدوس.

تقطر نفوسنا (السماء) بأمطار عمل نعمة الله السماوية، فتتحول كما إلى جنة مثمرة، لتناجي عريسها قائلة: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16).

تنهار كل العوائق في طريق عبورنا إلى السماء، فلا تقدر حتى الجبال الراسخة أن تقف أمامنا!

5. يقول الأب أنثيموس إن هذا الحديث يشير إلى الكرازة بالإنجيل، حيث خرج السيد المسيح من وسط شعبه وانطلق إلى برية الأمم، فتزعزع اليهود كأرض، وانهار بيتهم الذي تركه لهم السيد المسيح خرابًا، إذ رفضوا ما أمطرته السماوات من نعم، أي رفضوا المعاني الإلهية لنبوات الأنبياء. هذا ما حدث عند الصلب حيث تزلزلت الأرض، وتشققت الصخور، ليظهر أنه هو بنفسه الذي زلزل الأرض عند ظهوره في سيناء.

كما يقول لقد تزلزلت أرض الأمم لتقبل الإيمان بالمخلص، وترفض عبادة الأوثان. لقد أمطر عليهم الرسل مياه الكرازة بالإنجيل.

v     تزعزعت الأرض، إذ تأثر الأرضيون بالإيمان...

v     أخيرًا "عند صعودك في القفر الأرض ارتعدت" [7-8]. القفر هو الأمم التي لم تعرف الله. كانوا برية حيث لم يتسلموا من الله ناموسًا، ولا سكن بينهم نبي، يتنبأ لهم عن مجيء الرب.

لذلك "عند صعودك في القفر"، عندما يُكرز بك في الأمم، ارتعدت الأرض، إذ أثير الأرضيون للإيمان. "السماوات أيضًا قطرت أمام وجه الله".

ربما هنا يتذكر الإنسان ذاك الزمان الذي كان فيه الله يتقدم شعبه، أمام بني إسرائيل، على شكل عمود سحاب في النهار، وبهاء النار في الليل (خر 13: 21). ويقرر بأن "السماوات قطرت أمام وجه الله" منًا يُمطر على شعبه (خر 16: 15). نفس الأمر ما تلي ذلك: "جبل سيناء نفسه من وجه إله إسرائيل" [8]، "مطرًا غزيرًا نضحت يا الله لميراثك" [9]. بمعنى أن الله تكلم مع موسى على جبل سيناء عندما أعطاه الشريعة، فيكون المن هو المطر الغزير الذي نضح به على ميراثه، أي على شعبه، إذ هم وحدهم أطعمهم هكذا دون سائر الأمم الأخرى...

كل هذه الأمور حدثت معهم في رمزٍ، حتى يظهر النار، وتزول الظلال (نش 2: 17).

القديس أغسطينوس

6. يقول القديس جيروم: [تشير سيناء إلى التجربة، فإن الله يسكن في المُجَرَّبين والذين يُغلَبون في التجارب، أما في الشهوانيين فلا يقطن.]

7. يمطر علينا بالمن السماوي علامة رضاه عن شعبه، ميراثه ونصيبه، حتى لا يخوروا في الطريق.

6. يعمل بروحه القدوس فينا

مَطَرًا غَزِيرًا نَضَحْتَ يَا اللهُ.

مِيرَاثُكَ وَهُوَ مُعْيٍ أَنْتَ أَصْلَحْتَهُ [9].

جاء في الترجمة السبعينية أن الله وهب شعبه القَلِق منًا كعطية مجانية من قِبَلْ حنوه الإلهي. بالرغم من العنف الذي اتسم به هذا الشعب لكن الله في حبه للبشرية التي يود أن يقيم منها ميراثه، لم يترك شعبه في البرية خائرًا، بل أمطر عليهم منًا طازجًا وسلوى، وأخرج لهم ماءً من الصخرة. وكأنه حوَّل كل الطاقات والإمكانيات لحساب شعبه حتى يُصلِحَ من شأنه ولا يتركه في الضعف. استخدم السماء (المن) والجو (السلوى) والأرض (الصخرة) لخدمة مؤمنيه.

حينما نقبل الله ميراثًا لنا، يرتضي بفرح أن نكون نحن ميراثه الحي، الذي يُحرِّك كل شيء لحسابنا ولبنياننا.

v     "مطرًا اختياريًا تفرز يا الله لميراثك..." يقول النبي "مطرًا" عن المن الذي كان يُمطره على الإسرائيليين في برية سيناء، ويدعوه "اختياريًا" بما أنه كفاف اليوم، ولأنه كان يقودهم حسب اختيارهم، ولأن نزوله لم يكن في فعل الطبيعة إجباريًا، بل بحالٍ بديع كما اختار الله. وقوله: "تفرز يا الله لميراثك" معناه أن مطر المن لم يكن عامًا كالمطر المعتاد، لكنه مُفرَز لشعب إسرائيل الذي كان في ذلك الوقت ميراث الله الخاص.

وأيضًا تعليم الإنجيل المقدس يشبه المطر النازل على الجزة (قض 6: 37) لأنه اختياري... وقد أفرزه الله لميراثه وهم المؤمنون به.

 الأب أنثيموس الأورشليمي

يرى القديس أغسطينوس أنه كما أمطر الله على شعبه الذي هو ميراثه منًا ليقوتهم، هكذا يمطر الآن على كنيسته الإيمان بالمخلص، الذي هو عطية الله، لا بأعمالٍ، حتى لا يفتخر أحد بل بالله العامل فينا (أف 2: 8-10).

الآن يمطر بما هو أعظم على كنيسته، يهبها المن السماوي، جسد الرب ودمه المبذولين، ليعترف كل عضو فيها، قائلاً: "وضعفتُ، أما أنت فهيأتها" [9]. أي بذاتي أنا أرض جافة وبرية قفر، ولكن بأمطار نعمتك تحول بريتي إلى جنتك، وعوض جفافي أشبع بثمر الروح، وعوض فسادي أتهيأ للعرس السماوي الأبدي!

يري القديس أغسطينوس أن الضعف هنا يُنسَب للناموس الذي أُعطى للشعب القديم كمطرٍ نازلٍ من السماء على ميراث الله أو شعبه، إذ يقول: [يمكن أن يفهم الناموس أنه ضعيف، لأنه لم يُكَمِّل، ليس لأنه في ذاته هو ضعيف، وإنما لأنه جعل الناس ضعفاء، إذ هدد بالعقوبة دون أن يُعِين بالنعمة]. ويُكَمِّل القديس أغسطينوس تعليقه مؤكدًا أن الله لم يترك ميراثه في الضعف إذ قدم لهم ذاته: [أنت يا الله قد جعلت ميراثك كاملاً، فإنه في ذاته هو ضعيف لكنه بك يصير كاملاً.]

الآن، قد أمطرت على شعبك بالمن السماوي لإشباع أجسادهم، ووهبتهم الناموس عونًا، لكنهم بالناموس اكتشفوا ضعفهم، وأدركوا عجزهم، وشعروا بالحاجة إليك كي تكملهم. فإنك الغني القادر أن تغني ميراثك وتفيض عليهم بخيراتك!

7. يهبنا الوصية الإلهية      

قَطِيعُكَ سَكَنَ فِيهِ.

هَيَّأْتَ بِجُودِكَ لِلْمَسَاكِينِ يَا اللهُ [10].

يرى البعض أن الحديث هنا خاص بإسرائيل الذي عاش في أرض العبودية في مذلة كمساكين، أسكنهم في أرض الموعد في أماكن آمنة وفاخرة. عالهم في البرية وقدَّم لهم المن والسلوى، كما عالهم في أرض الموعد حيث الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا. إنهم القطيع الناطق الذي يتمتع برعاية الله الذي يتقدم شعبه ليدخل بهم إلى مراعيه الخضراء، وإلى مياه الروح القدس الواهبة الراحة، بصلاحه أو عذوبته يسد كل أعوازهم.

v     "الحيوانات التي لك (قطيعك) يسكنون هناك" [10]. "لك"، وليس "لأنفسهم"، فإنهم يخضعون لك، وليسوا لأنفسهم، هم محتاجون إليك، وليسوا مكتفين بذواتهم. أخيرًا يكمل حديثه: "هيأت بعذوبتك للفقير يا الله" [10]. صار ضعيفًا لكي يكتمل. إنه يعرف نفسه أنه معوز لكي يُزود. هذه هي العذوبة التي قيل عنها في موضع آخر: "لأن الرب يعطي عذوبة، وأرضنا تعطي ثمرتها" (مز 85: 2)، وذلك لكي يُمارس العمل الصالح لا عن خوف، وإنما عن حب، ليس خشية العقوبة، وإنما حبًا في البرَ.

 القديس أغسطينوس

إذ يدخل الله بشعبه إلى مراعيه، يهبهم أيضًا قوة، يهب جنوده الغلبة والنصرة على الأعداء، ويُسَلِّمهم غنائم كثيرة يفرح بها كل الشعب، يعطيهم قوة للكرازة المُفْرِحة بعجائب هذا الإله القائد المحبوب.

الرَّبُّ يُعْطِي كَلِمَةً.

الْمُبَشِّرَاتُ بِهَا جُنْدٌ كَثِيرٌ: [11]

مع تقديم أرض الموعد لشعبه الذي كان قبلاً مُستعبدًا، يهبه ما هو أعظم: كلمته ليكرز بها! كلمة الله لا تُقدَّر بثمن، تُوهَب كعطية مجانية يتمتع بها المؤمنون به، ويمارسونها بروح القوة مع الفرح والتهليل.

جاءت كلمة "المبشرات" في العبرية بالمؤنث. يشير هنا إلى تسبحة دبورة (قض 5)، فهي بوحي روح الله، بكونها كلمة الرب التي تبث روح البشارة والفرح. كان للنساء والفتيات دورهن في التسبيح والهتاف بألحان النصرة. كما فعلت مريم أخت هرون ومعها النساء (خر 15: 21)، وعندما غنين لداود بعد انتصاره العظيم (1 صم 18: 6)، كما أرسل السيد المسيح القائم من الأموات اثنتين تخبران التلاميذ بقيامته (مت 18: 10). وربما قصد بالمؤنث أن كل نفس تلتزم بالشهادة لعمل راعيها وقائدها أمام الغير. أما في الترجمة السبعينية فجاءت بالمذكر: "للمبشرين". وكما يقول القديس جيروم، [يشير المُرنم إلى الرسل، لأن الرب أعطاهم قوة عظيمة للكرازة بالإنجيل.]

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح أقام كنيسته، بكونها بيته الجميل، وقد قيَّد إبليس وجنوده، ونزع عنه غنائمه، ليجعلها غنائم المسيح التي تتمتع ببيت الرب.

v     جميل هو البيت الذي صنعه المسيح لنفسه، أي الكنيسة، بأن يقسِّم لها غنائمها...

يربط المسيح الشيطان بقيودٍ روحية، بنصرته على الموت، وصعوده من الجحيم إلى السماوات. لقد قيَّده بسرّ تجسده، إذ لم يجد فيه شيئًا له يستحق الموت، ومع هذا سمح بأن يُقتَل؛ بهذا قيَّده وأخذ أوانيه كغنائم. فإنه كان يعمل في أبناء المعصية (أف 2: 2)، الذين بعدم الإيمان جعلهم يتممون إرادته.

هذه الأواني غسلها الرب بغفران الخطايا، مقدسًا الغنائم التي انتزعها من العدو الذي انبطح وقُيِّد، هؤلاء قسمهم لجَمَال بيته. فجعل منهم البعض رسلاً والبعض أنبياء، والبعض رعاة، والبعض مُعلِّمين، وذلك لعمل الخدمة، لبناء جسد المسيح... هذا هو جمال البيت الذي فيه قُسِّمت الغنائم، حيث التهب ذاك المحب لهذا الجمال، فصرخ: "يا رب، أحببتك نعمة بيتك" (مز 26: 8).

v     "الرب يعطي كلمة"، بمعنى يعطي طعامًا لقطيعه الذي يسكن فيها.

 القديس أغسطينوس

يقول القديس غريغوريوس النيسي إن الذي أعطى الوصية هو يعطي القوة لتنفيذها. فإذ أمر بالبحث في الكتب المقدسة (يو 5: 39)، فإننا وإن عجزنا عن إدراك عظمة المفاهيم الموجودة فيها علينا أن نثابر قدر طاقتنا فإنه بالتأكيد يهبنا فهمًا. وهكذا يعطي أيضًا كلمة بقوةٍ عظيمةٍ للمبشرين[62].

8. انهيار الأعداء وصعودنا معه

مُلُوكُ جُيُوشٍ يَهْرُبُونَ يَهْرُبُونَ.

الْمُلاَزِمَةُ الْبَيْتَ تَقْسِمُ الْغَنَائِمَ [12].

يتحدث هنا عن جيوش الأعداء، سواء في البرية أو في أرض الموعد، فعلى الرغم من خبراتهم طويلة في الحروب، إلا إنهم هربوا في رعبٍ أمام شعب كان يعاني من العبودية، لا خبرة له بالحروب في ذلك الحين.

أما "الملازمة البيت" فيقصد بها المرأة، حيث كانت السيدات والفتيات يلازمن البيت، ولا يحاربن مع الرجال والشباب.

يشير هنا إلى ملوك عظماء لهم شهرتهم وقدرتهم العسكرية، هربوا أمام إسرائيل أو قتلوا بواسطتهم (مز 135: 10-11؛ 136: 17-20؛ يش 8: 2؛ قض 1: 6-7؛ 4: 24؛ 1 صم 30: 24).

إِذَا اضْطَجَعْتُمْ بَيْنَ الْحَظَائِرِ،

فَأَجْنِحَةُ حَمَامَةٍ مُغَشَّاةٌ بِفِضَّةٍ

وَرِيشُهَا بِصُفْرَةِ الذَّهَبِ [13].

كانوا كعبيدٍ يعيشون في مذلة بين الحظائر، ليس لهم بيوت يستقرون فيها. الآن جعلهم الله برعايته الفائقة أشبه بحمامة تطير نحو السماء، جناحاها مغشيان بالفضة، وريشها بصفرة الذهب. جميلة ورائعة وغنية، وقادرة على الطيران.

من هي هذه الحمامة المغشاة بالفضة وريشها بصفرة (بريق) الذهب إلا كنيسة العهد الجديد، التي إذ تمتعت بسكنى الروح القدس وقيادته لها صارت حمامة وديعة تحمل سمات عريسها السيد المسيح الوديع. أما أنها مغشاة بالفضة، فلأن الفضة تشير إلى كلمة الله المصفاة (مز 12: 6)، وريشها يشير إلى المؤمنين الذين أشبه بالريش الخفيف الطائر نحو السماء، وقد حملوا السمات السماوية التي يشار إليها بالذهب.

في حديث القديس أمبروسيوس عن إبراهيم يقول بأن لوطًا كان غنيًا بالقطعان والبقر والخيام (تك 13: 5)، لكن لم يكن له فضة ولا ذهب مثل إبراهيم (تك 13: 3)، إذ لم يكن بعد قد تمتع بكلمة الله ولا بالشركة في سمات المسيح السماوي.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه الحمامة العجيبة في شكلها هي الرحمة، التي تطير بمن يمارسها لتدخل به إلى السماء، وتقيم نفسه ملكة.

v     عمل الرحمة كما لو كان أعظم الفنون روعة، حاميًا العاملين به. الرحمة عزيزة لدى الله، تقف دومًا بجواره، مستعدة تسأل نفعًا لمن يريد، إن كنا لا نسيء استخدامها... عظيمة هي قوتها، حتى للذين يخطئون. إنها تُحَطِّم القيود، وتُبَدِّد الظلمة، وتُطفئ النيران، وتقتل الدود، وتنزع صك الأسنان. تُفتح لأبواب السماء بأمان عظيم. وكما عند دخول ملكة لا يجرؤ أحد من الحراس المقيمون عند الأبواب أن يسألها من هي، إنما يستقبلها الجميع حالاً، هذا ما يحدث مع الرحمة. إنها بالحقيقة مَلِكة، تجعل البشريين، متشبهين بالله، إذ يقول: "كونوا كاملين كما أن أباكم كامل" (لو 6: 36). إنها ذات جناحيْن ومبتهجة، لها جناحان ذهبيان بطيرانها تبهج الملائكة. لذلك يُقال: "أجنحة حمامة مغشاة بفضة، وريشها بخضرة الذهب" (LXX). تطير كحمامة ذهبية حية، بمنظر جميل وعين حانية. ليس شيء أفضل من تلك العين. الطاؤوس جميل، لكن بالمقارنة بها يُحسب غرابًا. جميلة ومستحقة كل إعجاب هذه (الحمامة)، تتطلع دومًا إلى فوق، ومحاطة على الدوام بفيضٍ من مجد الله. إنها بتول بأجنحة ذهبية، مزينة بمنظرٍ رائعٍ ورقيقٍ. إنها ذات جناحيْن ومبتهجة، تقف بجوار العرش الإلهي. عندما نُدان، فجأة تطير وتُظهِر ذاتها، وتُخَلِّصنا من العقوبة، وتحمينا بجناحيها. الله يحبها أكثر من الذبائح. كثيرًا ما يتحدث الله عنها، إنه يحبها![63]

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     "شُبهت عيناها بالحمامتين لأنها تفهم الآن الكتاب الإلهي، لا من خلال الحرف، بل بواسطة الروح، وتدرك فيه الأسرار الروحية. لأن الحمامة تشير غالبًا إلى الروح القدس. ولذا فإن إدراك الناموس وفهم الأنبياء بالمعنى الروحي هو أن يكون لنا عينا الحمامة، لهذا قيل هنا إن عينيها حمامتان.

وفي المزامير تشتاق تلك النفس أن يكون لها جناحا حمامة (مز 13:68) لتطير بهما نحو فهم الأسرار الروحية، فتستريح في أحضان الحكمة[64]".

العلامة أوريجينوس

إذ تطلع المرتل إلى كنيسة المسيح الجميلة، التي تقسم الغنائم التي انتزعها من يد إبليس وقوات الظلمة، يتحدث الآن مع هذه الغنائم. فإنها تستريح وتنام بين الحظائر. أي بين أسفار العهد القديم والعهد الجديد. تتمتع بالوعود الإلهية وعمل الخلاص، لتصير أجنحة الكنيسة، الحمامة الواحدة المحبوبة!

إنها أجنحة مغشاة بكلمة الله، أي الفضة، أما ريشها الذي به تطير في العلويات فهو من الذهب أي الحياة السماوية.

v     ما هي الأجنحة ذاتها سوى وصيتا الحب، اللتان بهما يتعلق الناموس كله والأنبياء (مت 22: 40)؟ ما هو الحِمْل الخفيف إلا الحب ذاته الذي في هاتين الوصيتين يتحقق؟ فإن ما يبدو صعبًا في وصية هو خفيف بالنسبة للمحب.

القديس أغسطينوس

عِنْدَمَا شَتَّتَ الْقَدِيرُ مُلُوكًا،

فِيهَا أَثْلَجَتْ فِي صَلْمُونَ [14].

قارن المرتل بين جيوش المقاومين التي هربت، ونسائهم وفتياتهم اللواتي سُبين في مذلة، وبين المؤمنين الذين انطلقوا من بين الحظائر ليعيشوا في أرض تفيض عسلاً ولبنًا. الآن يقارن بين ملوك الوثنيين الذين شتتهم الله القدير وبين المؤمنين الذين صاروا في بهاء مثل الثلج في صلمون.

لون تل صلمون قاتم بطبيعته، ومنظره معتم، لكن إذ يتغطى بالثلج، يصير منظره جميلاً وبهيًا. هكذا إذ يثير الملوك الأشرار المعارك تصير أرض المعركة معتمة، وعندما تتحقق نصرة شعب الله تصير أرض المعركة موضع بهجة وفرح لهم.

حينما تجلى السيد المسيح، صارت ثيابه بيضاء كالثلج، هكذا تصير كنيسة المسيح كالثلج وإن كانت في ذاتها ظلام، لكن يعكس شمس البرّ بهاءه عليها فتتلألأ بياضًا كالثلج. كنيسة المسيح تتلألأ بالفضائل التي في حقيقتها هي شركة الطبيعة الإلهية، أي في سمات السيد المسيح.

v     اعتمد المسيح في الأردن، حيث أسس شكلَ (طقس) form المعموديةِ الخلاصية (قابل مت 3 :13ـ17). الاسم "الأردن"، يعنى "نزول أو هبوط"، وقد نزل الرب يسوع، حينما طهَّر السكان القريبين من الأردن من عدوى الخطية... هذا المجرى يقسم أَرضَ الموعد. لهذا فإن المضطربَ، إذا ما أتبع المشورةَ الصالحة، عليه أن يخرج من مصر، ويتبع طريق النور، لأن حرمونَ تفسيره "طريق السراج أو المصباح". لهذا ـ اخرجوا أولاً من مصر، إن كنتم ترغبون في رؤية نور المسيح. وقد خرجت المرأةُ الكنعانية من مقاطعةِ الوثنيين فوجدت المسيح. فقالت له " ارحمنى يا ابن داود!" (مت 15 :22). وخرج موسى من مصر وصار نبيًا وأُرسِل ثانية إلى الشعب. ليخلِّص نفوسهم من أرض الضيقة (قابل خر 2 :11ـ4 :17) ـ أيضا فإن السراج هو في جسد المسيح، وهذا هو السراج الذي ينير الطريق، لهذا السبب أيضًا يقول القديس داود: "سراج لرِجَّلي كلامك" (قابل مز 119 :105)، وهو سراج. لأنه قد أنار أنفسَ جميعِ البشر (قابل يو 1 :9)، وأنار الطريقَ في الظلمة، وطريقُ السراج هو الإنجيل، الذي يُشرقُ في الظلام، أي العالم. ولهذا السبب أيضا نجد في نصٍ آخر: "سيصيرون بيضًا كالثلج، على جبلِ صلمون" (مز 68 :14 LXX) أي في الظِل. (كلمة صلمون معناها ظل[65].)

القديس أمبروسيوس

9. يقيمنا جبالاً مقدسة

جَبَلُ اللهِ، جَبَلُ بَاشَانَ.

جَبَلُ أَسْنِمَةٍ، جَبَلُ بَاشَانَ [15].

بعد أن تحدث عن أمم لها خبراتها في الحروب، ولها ملوكها الجبابرة، وقد سقطت وانهارت أمام شعب الله في ذلك الحين، يتحدث هنا عن مقارنة بين جبل صهيون والجبال الأخرى، التي تعتز بها الأمم المحيطة. حقًا كان جبل صهيون صغيرًا ومنخفضًا بالنسبة للجبال المرتفعة، مثل جبل باشان، لكنه يسمو على جميع هذه الجبال، إذ اختاره الله مسكنًا له، وهو يشير إلى كنيسة العهد الجديد (عب 12: 23).

جبل باشان يشير إلى الأمة الوثنية التي تود أن تتشامخ على شعب الله، إذ تحمل حسدًا وحقدًا ضده.

جبل باشان مشهور بحجمه وجماله وخصوبته، أما جبل صهيون فلا يُقارَن بجوار جبل باشان، أما ما سُكِبَ عليه من جمال فهو لاختيار الله له؛ بهذا صار أبرع جمالاً من جبل باشان. وكما قيل بإشعياء النبي: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وإليه تجري كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة، ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب" (إش 2: 1-2).

لماذا يدعو جبل باشان جبل الله؟ لم يختره الله ليكون جبله المقدس، الذي يقيم هيكله عليه، إنما دُعي هكذا لأنه بسبب ضخامته وجماله وخصوبته صار شاهدًا لعمل الله الخالق المُبدع.

لِمَاذَا أَيَّتُهَا الْجِبَالُ الْمُسَنَّمَةُ تَرْصُدْنَ الْجَبَلَ الَّذِي اشْتَهَاهُ اللهُ لِسَكَنِهِ؟

بَلِ الرَّبُّ يَسْكُنُ فِيهِ إِلَى الأَبَدِ [16].

تشير الجبال إلى الأمم، وهي كثيرة الأجراف المنحدرة، تتشامخ على جبل الله المقدس.

الكلمة العبرية المترجمة هنا "ترصدن" يترجمها البعض "تثبن". كأن الجبال المحيطة بجبل الله صهيون في نوع من السخرية لا تحتمل الصمت السكوت، بل تثب حوله وتسخر منه، وتدهش كيف يختار الله جبلاً كهذا، تاركًا الجبال الجميلة الشامخة والخصبة. لقد اختار الله الجبل المُحتقَر وترك الجبال العظيمة.

لعل كلمة "ترصدن" تعني أن عيون هذه الجبال على هذا الجبل، تحاول أن تجد شيئًا ما يبرر اختيار الله له. وكما يقول الرسول بولس عن التلاميذ والرسل والمبشرين كجبال مختارة من قبل الله: "اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمُزدرَى وغير الموجود ليُبطلَ الموجود؛ لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه" (1 كو 3: 27-29).

v     تخلَّص أنت، يا رجل الله، من هذا الروح الرديء ولا تصر جبلاً محترقًا خرِبًا، بل بالأحرى تكون جبلاً دسمًا قويًا (مز 16:68) يحب الرب أن يسكن فيه، وتكون فيك مركبة الله ربوات ألوف مكرَّرة (مز 18:68)، وتظهر رائحة بخورك الزكي في السماء يفوح عبيره وسط القديسين، وتكون معينًا للأرضيين، قويًا وظافرًا في الحرب، حتى يكمل عليك المكتوب: "إن جبل الرب يكون ظاهرًا" (مي 1:4)، و"جبل الرب يكون على رأس الجبال" (إش 2:2). فلتكن في هذه الكرامة، أيها المجاهد، فتحظى بإكليل الفرح من الرب لأجل أتعابك وأنت جالس في قلايتك.

القديس أنبا بولا الطموهي

10. يقيمنا مركبة إلهية

مَرْكَبَاتُ اللهِ رَبَوَاتٌ أُلُوفٌ مُكَرَّرَةٌ.

الرَّبُّ فِيهَا.

سِينَا فِي الْقُدْسِ [17].

مرة أخرى يتحدث عن رعاية الله لشعبه. فما حدث قديمًا مع المصريين الذين هلكوا في البحر الأحمر، لم يكن بقدرة بشرية، إنما أرسل الله مركبات بأعدادٍ كبيرة قهرتهم.

عادة يشير رقم "ألف" إلى الإمكانية السماوية، كما يشير إلى كثرة العدد غير المُحصَى.

بقوله "ربوات ألوف مكررة" ربما يقصد ربوات (عشرة آلاف)، وهو أكبر رقم كان معروفًا في ذلك الحين، وألوف مكررة، ألوف ألوف (بمعنى الملايين).

الرب فيها، أي يسكن في صهيون، كما ظهر قبلاً على جبل سيناء، وقدَّم لهم شريعته على يدي موسى النبي.

كان أعداء إسرائيل غالبًا ما يحاولون أن يرعبوهم بالمركبات (خر 14: 7؛ قض 4: 3؛ 1 صم 13: 5؛ 2 صم 8: 4؛ 10: 18)؛ لكن كيف يمكن لهذه المركبات أن تقف أمام مركبات الله! عندما انفتحت عينا جيحزي كطلب أليشع النبي "أبصر، وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول أليشع" (2 مل 6: 17).

v     هكذا إنه عدد ضخم من القديسين والمؤمنين، الذين إذ يحملون الله يصيرون بطريقة ما مركبة الله... إذ يسكن فيها ويقودها كما لو كانت مركبته، يبلغ بها إلى النهاية، كما إلى موضعٍ معين. "المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه، وبعد ذلك النهاية" (1 كو 15: 23-24). هذه هي الكنيسة المقدسة التي تتبعه، "ألوف من البشر يفرحون". فإنهم بالرجاء هم فرحون، حتى يبلغون إلى النهاية، الأمر الذي يتطلعون إليه الآن بصبرٍ (رو 12: 12)... يعطي السبب لماذا هؤلاء الألوف يفرحون. لأن مركبة الله الحاملة الرب هي فيهم، كما يقول: "سينا في القدس"، أي الرب فيهم، الرب في الوصية، والوصية مقدسة، كما يقول الرسول: "إذًا الناموس مُقدَّس، والوصية مقدسة وعادلة وصالحة" (رو 7: 12).

القديس أغسطينوس

v     إن قوة غير مرئية دمرت قوات المصريين خلال معجزة البحر الأحمر، وهذه القوة يسميها النص "الفرسان"، ويمكن أن نفترض أن الفرسان كانوا جيشًا من الملائكة التي يذكرها حبقوق النبي: "ركبت خيلك ومركباتك مركبات الخلاص" (حب 3: 8). وذكر داود أيضًا مركبات الله قائلا: "مركبات الله ربوات" (مز 68: 17)[66].

v     جهز الملك الذي جاء من نسل داود الإنسان ليكون القلعة الآمنة من السقوط. بناها داود بالنعمة، وحصنها بالأتراس الكثيرة، حتى لا يتمكن العدو من الاقتراب منها بسهولة. والأتراس معلقة وليست على الأرض ويمكن رؤيتها معلقة في الهواء، ويوجد معها الحراب التي تُثير الفزع في العدو حتى لا يحاول الهجوم على البرج. إني أفكر فى أن هذا البرج بما عليه من أتراس وحراب يشير إلى الحرس الملائكي. لا يذكر النشيد ببساطة الحراب، ولكنه يضيف الرجال الأقوياء يحاربون إلى جانبنا فنغلب... رقم الألف ناتج رقم مائة مضروبًا في عشرة، يُشير إلى أن العدد كبير. هكذا يُشير الكتاب في العادة إلى الأعداد الكبيرة بالرقم ألف. كما يقول داود: "مركبًات الله ربوات ألوف مكررة، الرب في وسطها فصار جبل صهيون مماثلاً لجبل سينا في القداسة" (راجع مز 68: 18). ثم "شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مز 118: 72)[67].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     إذ يتكلمون ضد صعود المخلِّص كأمر مستحيل، ليذكروا كيف حمل ملاكٌ حبقوقَ من شعر رأسه[68]، فبالأحرى جدًا يستطيع إله الملائكة والأنبياء أن يصعد على سحابة من جبل الزيتون بقوته الخاصة.

يمكنكم أن تتذكروا عجائب كهذه لكن لتُعطَ المكانة الأولى لله صانع العجائب. فهؤلاء رُفعوا أما هو فرافع كل الأشياء.

تذكروا أن أخنوخ نقُل، أما يسوع فصعد.

تذكروا ما قيل بالأمس عن إيليا أنه أُصعد في مركبة نارية (2 مل 2: 11)، أما مركبات المسيح فربوات ألوف (مز 68: 17)[69].

القديس كيرلس الأورشليمي

11. مسبيون متهللون

هنا يعود فيوجه الحديث إلى الرب نفسه:

صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ.

سَبَيْتَ سَبْيًا.

قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ،

وَأَيْضًا الْمُتَمَرِّدِينَ لِلسَّكَنِ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ [18].

كان خورس المرنمين يسبحون بهذه العبارة عندما كان التابوت يبلغ إلى قمة صهيون، ويُوضع في المكان المخصص له. وهي تسبحة تبدو كأنها نشيد عسكري يُنشَد عندما تتحقق نصرة على الأعداء. فالمُنتصِر يوضع في أعلى موضعٍ في المركبة، بينما يُربط الملوك المنهزمين وقادتهم خلف مركبة المنتصر. يُربَطون معًا في المركبة، يسيرون تكريمًا للمنتصر. أيضًا كان من عادة الملوك المنتصرين، أن ينثروا أموالاً على جمهور الشعب الذي يستقبلهم بروح الفرح والهتاف.

وكنوعٍ من السخرية بالمتمردين، كان الملوك أيضًا يلقون بالمال عليهم، حتى يظهر المتمردون كمن يتلقفون فضلات المنتصرين[70].

"للسكن أيها الرب الإله"، كثير من الملوك المنتصرين، إذ يعودون ومعهم الغنائم، يقومون بعد الانتهاء من الاحتفالات الخاصة بالنصرة بالسكن وسط الشعب ليقدموا لهم من خيرات النصرة، ويحققوا نوعًا من الاستقرار بعد متاعب الحرب ونفقاتها الباهظة على الشعب. هكذا مع الفارق يسكن الله وسط شعبه ليعلن اهتمامه بشعبه، ورعايته، فيقدم لهم من خيرات نصرته، ألا وهو الشركة في حياته المقامة، والتمتع بعربون صعوده إلى السماء.

لقد قيد الله العدو إبليس وملائكته كما بقيود، وأعطى شعبه سلطانًا عليهم حتى لا يخافوهم، بل ولا ينشغلوا بهم، إنما يتهللون بالحياة المُقامة والجلوس في السماويات.

v     أشار الرسول إلى ذلك، موضحًا هذا في حديثه عن الرب يسوع: "ولكن لكل واحدٍ منا أُعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح، لذلك يقول: إذ صعد إلى العلاء سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا" (أف 4: 7-8)... لقد أعطى عطايا للناس، مرسلاً إليهم الروح القدس الذي هو روح الآب والابن.

القديس أغسطينوس

"قبلت عطايا بين الناس"، يرى القديس أغسطينوس أن الابن إذ صار إنسانًا، قبل روحه القدوس كعطية لحسابنا، مع أنه هو روحه الأزلي. ونحن إذ نناله كأعضاء جسده يحسب ذلك كأنه هو الذي ناله. وذلك كما عندما نُضطهد يحسب ذلك اضطهادًا له، فيقول لشاول: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4). فإن كان يقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (مت 25: 40)، فلماذا نتشكك أنه يتقبل في أعضائه الهبات التي يتقبلها الأعضاء؟

"سبيت سبيًا": لا نعجب إن كان الذين سباهم إبليس يحررهم السيد المسيح من هذا السبي ليصيروا مسبيين في الحب الإلهي بفرحٍ وسرورٍ بملكوت الله. الذين كانوا مسبيين للعبودية لحساب مملكة الظلمة، صارت مسرتهم أن يُسبوا بالحب لمملكة النور.

v     لماذا لا يكون السبي مُبهجًا إن كان البشر يُصطادون لهدفٍ صالحٍ؟ لهذا قيل لبطرس: "من الآن تكون تصطاد الناس" (لو 5: 10)... فإنهم إذ يخلصون من الخطية التي كانوا عبيدًا لها يصيرون عبيدًا للبرّ (رو 6: 18)، أبناء له. فإنه هو نفسه فيهم، يعطي عطايا للبشر، ويتقبل العطايا فيهم. ولهذا فإنه في هذا السبي، في تلك العبودية، في تلك المركبة، تحت هذا النير، لا يوجد ألوف من البشر في حزن،ٍ بل ألوف في فرحٍ، لأن الرب فيهم، في سيناء، في قدسه.

v     الصلاح هبة من الله كما يقول يعقوب الرسول: "كل عطية صالحة، وكل موهبةٍ تامةٍ، هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار" (يع 1: 17)، وحسبما يعلن يوحنا سابق المسيح: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطى من السماء" (يو 3: 27). إنه من السماء حيث أرسل الروح القدس عندما صعد يسوع إلى العلى سابيًا سبيًا ومعطيًا هبات للبشر (مز 68: 18؛ أف4: 8). فإن كانت استحقاقاتهم الصالحة هي عطايا إلهية، لهذا لا يكلل الله استحقاقاتكم لكونها منكم، بل لأنها عطيته[71].

v     تذكروا ما قاله المزمور بوضوح: "صعد الله بهتاف" (مز 47: 5). تذكروا أيضًا ما جاء في المزمور من حديث القوات الإلهية مع بعضها البعض: "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم" (مز 24: 7). تذكروا أيضًا المزمور القائل: "صعد إلى العلا وسبى سبيًا" (مز 68: 18). تذكروا النبي القائل: "الذي يبني صعوده نحو السماء..."[72]. وغير ذلك من الأمور التي سبق ذكرها بسبب مغالطات اليهود[73].

القديس كيرلس الأورشليمي

v     خلال الآلام صعد الرب إلى العُلى، وسبى سبيًا، وأعطى الناس عطايا (مز 68: 18؛ أف 4: 8)، ووهب الذين يؤمنون به سلطانًا أن يدوسوا على الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو، أي سلطان على قائد الارتداد[74].

القدِّيس إيريناؤس

v     يُسَلِّم حياته، لكن له سلطان أن يأخذها (يو 10: 17-18)... إنه يموت، لكنه يهب الحياة (يو 5: 21)، وبموته يحطم الموت، يُدفَن لكنه يقوم. ينزل إلى الجحيم، لكنه يُصعِد النفوس (أف 4: 8-9؛ مز 68: 18)؛ يَصعَد إلى السماء، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات[75].

القديس غريغوريوس النزينزي

12. مسبيون ممجدون

مُبَارَكٌ الرَّبُّ يَوْمًا فَيَوْمًا.

يُحَمِّلُنَا إِلَهُ خَلاَصِنَا. سِلاَهْ [19].

الكلمة العبرية amos المترجمة هنا "يحملنا"، تعني يرفعنا أو يحملنا إلى فوق، أو يسندنا أو يعيننا في أحمالنا. رعاية الله بنا يومية، عطاياه لا تنقطع. مراحمه جديدة في كل صباح. إنه إله خلاصنا، الذي يحمل أثقالنا اليومية حتى ننعم بالمجد الأبدي. مبارك هو الرب الذي لا يتوقف عن العمل حتى النهاية، فيسبي بحبه أناسًا كل يوم، ويقبل فيهم- كأعضاء جسده- ما يقدمه لهم.

v     يفعل هذا يوميًا حتى إلى النهاية، إذ يسبي سبيًا ويقبل عطايا في الناس.

القديس أغسطينوس

v     تنقسم الألقاب الأخرى لله إلى مجموعتين متمايزتين، المجموعة الأولى تخص قوته، والثانية ترتيبه للعالم بالعناية الإلهية... ومن الأمثلة الواضحة للألقاب التي تخص قوته: "إله الجنود"، "القادر على كل شيءٍ" (عا 3: 13؛ رؤ 4: 8)، "ملك المجد" (مز 24: 10)، "إله المجد إلى دهر الدهور" (1 تي 1: 17)، "إله القوات" (مز 68: 13)، "ملك الملوك" (1 تي 6: 15)، "رب الصباؤوت" (إش 1: 9؛ رو 9: 29)، "رب الأرباب" (1 تي 6: 15).

وفيما يخص ترتيب العناية الإلهية: "إله خلاصنا" (مز 68: 19)، "إله النقمات" (مز 94: 1) "إله السلام" (رو 15: 33) و"إله البرّ" (مز 4: 1)، "إله إبراهيم وإسحق ويعقوب" (خر 3: 6) أو إله إسرائيل الروحي (قارن رو 9: 6، 11، 26؛ غل 6: 16) الذي نظر الله وجهًا لوجه (تك 32: 30)[76].

القديس غريغوريوس النزينزي

اَللهُ لَنَا إِلَهُ خَلاَص،ٍ

وَعِنْدَ الرَّبِّ السَّيِّدِ لِلْمَوْتِ مَخَارِجُ [20].

كثيرًا ما يشعر الإنسان أنه ليس من مَخْرَجٍ من طريق الموت، فهو أمر حتمي على كل جنس البشر. لكن في يد الله الحياة والموت، وعنده مخارج من الموت. وكما تمتع الشعب بالخروج، عندما انطلقوا من أرض العبودية إلى أرض الموعد، هكذا بالصليب يخرج بنا من الجحيم إلى الفردوس، ويحملنا من العالم لنحيا في السماويات.

وَلَكِنَّ اللهَ يَسْحَقُ رُؤُوسَ أَعْدَائِهِ،

الْهَامَةَ الشَّعْرَاءَ لِلسَّالِكِ فِي ذُنُوبِهِ [21].

لعله يشير هنا إلى أبشالوم المتمرد على والده، الذي كان معجبًا بشعره الطويل والجميل، ولكن صار له هذا الشعر أشبه بحبل المشنقة حيث دخل فيه فرع شجرة وهو ممتطي فرسه، وإذ تحرك الفرس صار مُعلقًا في الشجرة، وانتهى الأمر بقتله.

قَالَ الرَّبُّ: مِنْ بَاشَانَ أُرْجِعُ.

أُرْجِعُ مِنْ أَعْمَاقِ الْبَحْرِ [22].

يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "باشان" معناها "ارتباك" وأيضًا "جفاف". فإنه الرب يسمع صرخات الذين في وسط الارتباك أو الذين يعانون من الجفاف والمجاعة. يرجع إليهم حتى وإن كانوا في أعماق البحر، لكي يهبهم السلام، والشبع الحقيقي. فالخطية التي تفسد القلب وتدخل به إلى مجاعة لا تقف حائلاً عند رجوع الله إلى الخاطي لكي يحمله من أعماق البحر ويضمه إلى مركبته المتهللة السابق الحديث عنها. إنه مخلِّص البشر، واهب النصرة على إبليس وكل جنوده وأعماله الشريرة.

ماذا يقصد بقوله: "من باشان أرجع؟" توجد ثلاثة آراء بخصوص هذه العبارة.

1. يُذَكِّر الرب شعبه كيف خلَّصهم من عوج ملك باشان، هو وجيوشه (عد 21: 32-35).

2. يَذْكُر أمثلة من المخاطر التي تعرضوا لها، منها سقوطهم تحت سلطان عوج ملك باشان، ومخاطر البحر الأحمر، ومع هذا فإن الرب لم يتركهم أثناء شدتهم.

3. الحديث هنا موجه لا إلى شعب الله بل إلى أعدائهم، فإنهم وإن هربوا إلى جبل باشان المرتفع؛ أو اختفوا في أعماق البحر، فمن هناك يأتي بهم ليعاقبهم.

الله في رعايته لشعبه واهتمامه بخلاصهم، يأتي بهم حتى إن كانوا في أماكن بعيدة مثل باشان، أو مواضع تبدو مستحيلة مثل أعماق البحر. فقد اهتم بشعبه القديم حين كانوا تحت العبودية في مصر وعبَر بهم خلال أعماق بحر سوف. كما اهتم بخلاصهم في باشان حين دخلوا في معارك سيحون وعوج.

لِكَيْ تَصْبِغَ رِجْلَكَ بِالدَّمِ.

أَلْسُنُ كِلاَبِكَ مِنَ الأَعْدَاءِ نَصِيبُهُمْ [23].

قلنا قبلاً إنه كان من عادة بعض الشعوب حين ينالون نصرة في معارك يغسلون أقدامهم في دم القتلى من أعدائهم علامة الغلبة النهائية (راجع 2 مل 9: 36؛ إش 63: 1-6؛ إر 15: 3). يرى البعض أنها عادة أخَف من شُرب دم القتيل التي تحمل عنفًا شديدًا وإصرارًا على قسوة القلب.

أما المؤمنون فتتطلع أعين قلوبهم إلى ما حدث ليلة خروج شعب إسرائيل حين دُهنت قوائم بيوتهم بدم الحَمَل، لكي لا يدخل المُهْلِك ويقتل أبكارهم. هكذا يرون في دم السيد المسيح، الحَمَل الحقيقي الغلبة على إبليس وملائكته الأشرار، والتطهير من الخطايا، والتمتع بالخلاص الأبدي.

"ألسن كلابك من الأعداء نصيبهم": يذكرنا هذا القول بما حدث مع إيزابل الشريرة ورجلها الملك أخاب.

جاء عن تأديب الأشرار المصريين على شرورهم وعصيانهم ومقاومتهم للحق الإلهي: "فألقى الملاك منجله على الأرض، وقطف كرم الأرض، فألقاه إلى معصرة غضب الله العظيمة، وديست المعصرة خارج المدينة فخرج دم من المعصرة حتى إلى لجم الخيل مسافة ألف وست مئة غلوة" (رؤ 14: 19-20).

v     اغمس جسدك في دم المسيح، كما هو مكتوب، إن قدمك يغمس في الدم (مز 68: 23). لتخضل (يرطب) أثر قدمي روحك وخطوات ذهنك بالاعتراف الأكيد بصليب الرب. إنك تغمس جسدك في دم المسيح، إذ تغسل الرذائل، وتنظف الخطايا، وتحمل موت المسيح في جسدك، كما يعلمنا الرسول قائلاً: "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2 كو 4: 10)[77].

القديس أمبروسيوس

13. مُسَبِّحون عظماء

رَأُوا طُرُقَكَ يَا اللهُ،

طُرُقَ إِلَهِي مَلِكِي فِي الْقُدْسِ [24].

جاء هذا تصويرًا لما يحدث عند رجوعهم بتابوت العهد إلى أورشليم بعد تمتعهم بالنصرة في الحرب. كان داود المرتل والملك يرقص قلبه طربًا، وتهتف أعماقه الداخلية حين كان ينظر موكب النصرة تحت قيادة الله نفسه الذي كان تابوت العهد يُمَثل حضرته وسط شعبه وقيادته للجيش.

يستقبل المُسَبِّحون موكب النصرة، ويشتركون فيه بالتسابيح والتماجيد لله واهب الخلاص، كما تشترك الفتيات ضاربات الدفوف، ويبارك كل الشعب الله واهب الغلبة، تخرج الجموع من كبيرهم إلى صغيرهم لينضموا إلى هذا الموكب.

هنا يسبِّح المرتل مع كل الجماعة، الله، إله الجميع. لكن في وسط عمله مع الجمع لا يستطيع أن يتجاهل لمسات الحب الشخصي والعلاقة الخاصة بينه وبين إلهه، فيقول: "إلهي، ملكي". ما يشغله ليست النصرة في ذاتها، وإنما طرق الله إله المستحيلات، الله القدوس، غالب الظلمة والفساد والشر!

"في القدس": وهم يسبِّحون الله الذي ينزل إلى شعبه ويقودهم في معركتهم ضد إبليس والخطية والظلمة، يحول أرض المعركة إلى مقادس إلهية، فيقول: "في القدس". فهو القدوس الذي يحول الأرض إلى سماء مُقدسَّة.

v     "يرون خطواتك يا الله" [24]. الخطوات هي أولئك الذين يكونون معك خلال مجيئك إلى العالم، كما لو كانوا المركبة التي بها تجتاز حول العالم، وهي مركبة السحاب الملاصقة له جدًا، بكونها قديسيه ومؤمنيه في الإنجيل، حيث يقول: "حينئذٍ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحابٍ" (مر 13: 26)... هؤلاء هم "خطواتك التي تُرى"، أي يعلنون نعمة العهد الجديد. لذلك قيل: "ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات" (رو 10: 15؛ إش 53: 7؛ نا 1: 15). فإن هذه النعمة وتلك الخطوات مختفية في العهد القديم، ولكن إذ يحل ملء الزمان يُسَر الله أن يعلن عن ابنه (غل 4: 4)، حيث يُعلَن عنه بين الأمم. "رأوا خطواتك يا الله، خطوات إلهي، ملكي في القدس" [24].

القديس أغسطينوس

مِنْ قُدَّامٍ الْمُغَنُّونَ.

مِنْ وَرَاءٍ ضَارِبُو الأَوْتَارِ.

فِي الْوَسَطِ فَتَيَاتٌ ضَارِبَاتُ الدُّفُوفِ [25].

صورة رائعة لكنيسة المسيح المُنتَصِرة على الدوام. يحتل صفوفها الأولى جماعة الشاكرين، الذين يسبِّحون الله الصالح، الذي يحوِّل الضيقات والمعارك إلى أفراح ومحافل مقدسة وأعيادٍ لا تنقطع. وفي نهاية الصفوف ضاربو الأوتار، الحاملون آلات العزف، الذين يلعب روح الله القدوس على أوتار أجسادهم وأحاسيسهم وعواطفهم وأفكارهم وكل طاقاتهم الخاصة بالروح والنفس والجسد، لكي ما تصدر سيمفونية مقدسة تعلن الحب نحو الله. إنها جماعة المُقدَّسين جسديًا وروحيًا! الذين يعمل روح الله فيهم وبهم كآلات موسيقية ثمينة. أما في الوسط، فالفتيات ضاربات الدفوف. إنه قلب الكنيسة الذي يرقص بالتهليل بالله والفرح بعمله الخلاصي. في اختصار الموكب كله موكب الهتاف والتهليل والفرح السماوي الذي لا ينقطع.

هذه الصورة تبدو كأنها صورة غير عادية تتشكل فقط عندما تقوم معركة، وتنتهي بالنصرة، فتتحول فرق الجيش إلى موكب ديني بقيادة الكهنة واللاويين، ويتقدم الموكب تابوت العهد. إنه موكب يومي يختبره المؤمن حيث ينعم كل يوم بنصرات جديدة، وتنطلق أعماقه من مجدٍ إلى مجدٍ، بقيادة روح الله القدوس، في المسيح يسوع السماوي، الذي يُصعِد قلوبنا إلى الأمجاد السماوية بلا توقُف.

جاءت كلمة "مغنون" في الترجمة السبعينية: "الرؤساء". ويرى القديس أغسطينوس أن الرؤساء هم الرسل الذين يتقدمون الشعب ويرتلون بأخبار الإنجيل المفرحة. يرتلون بمزمار الأعمال الصالحة كأدوات موسيقية تُسَبِّحه وتمجده. هؤلاء الرسل وسط ضاربات الدفوف أي الخدام الذين يمارسون الخدمة المُكَرَّمة، بإخضاعهم أجسادهم للعمل لحساب ملكوت الله.

فِي الْجَمَاعَاتِ بَارِكُوا اللهَ الرَّبَّ،

أَيُّهَا الْخَارِجُونَ مِنْ عَيْنِ إِسْرَائِيلَ [26].

"في الجماعات": موكب النصرة الديني لا يقوم في خيمة الاجتماع وحدها أو الهيكل.

من هم هذه الجماعات؟

يرى القديس أغسطينوس أن الجماعات هنا هي الكنائس التي تبارك الرب، إذ تعزف على الرقوق التي هي الأجساد العفيفة التي تُقدِّم نغمات روحية.

إنها الجماعات الخارجة من عين إسرائيل، أي من ينابيع الخلاص التي تقيم من البشرية شعبًا مقدسًا لله!

يرى المؤمن القائد الحيّ أنه قائد جماعة مقدسة؛ حواسه وعواطفه وأفكاره الخ.، الكل لا عمل له إلا مجد الله بوسيلة أو أخرى.

والبيت المسيحي الحقيقي، هو جماعة مقدسة، يسكن السيد المسيح واهب الفرح فيها.

الجماعة المقدسة هي الكنيسة التي تضم المؤمنين من آدم إلى آخر الدهور، حيث تتحول في يوم الرب العظيم إلى موكب سماوي على السحاب ينطلق في صحبة العريس السماوي، مع بهجة كل الطغمات السماوية بالعروس الممجدة!

يرى القديس جيروم "عين إسرائيل" هنا تشير ينابيع المخلص التي تفيض بالتعليم الإنجيلي، وذلك كقول السيد المسيح نفسه (يو 7: 37-39)[78].

هُنَاكَ بِنْيَامِينُ الصَّغِيرُ مُتَسَلِّطُهُمْ رُؤَسَاءُ يَهُوذَا،

جُلُّهُمْ رُؤَسَاءُ زَبُولُونَ رُؤَسَاءُ نَفْتَالِي [27].

كيف يأمر الله الآب الابن بعزه أو قوته؟ إذ صار الابن ممثلاً لنا، وحاملاً إيانا فيه، أقامه ورفعه لكي نقوم نحن فيه وبه ونرتفع معه إلى السماوات كأعضاء جسده.

هنا وصف لجانب آخر من جوانب هذا الموكب المفرح؛ حيث يذكر أربعة أسباط كممثلين لكنيسة العهد القديم المتحدة مع كنيسة العهد الجديد.

أ. يبدأ بنيامين الصغير الذي كان السبط الملوكي في عصر أول ملك لإسرائيل، شاول بن قيس. فمع ما فعله شاول من شرور بسببها فقد السبط سِمَته الملوكية، وكاد السبط كله أن يبيد (قض 19: 21)، إلا أنه يوجد بين هذا السبط رجال الله القديسين، لا ينساهم الله بسبب شرور الغالبية. وإن كان بنيامين قد صار صغيرًا، لكن الله يَذْكرَهم أولاً بين المشتركين في الموكب، ليفتح باب الرجاء لكل إنسانٍ في كل العصور، دون أن ييأس بسبب شرور أسرته أو مجتمعه! يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يتطلع إلى بولس الرسول الكارز بين الأمم، والقائل عن نفسه: "من سبط بنيامين" (في 3: 5). جاء في الترجمة السبعينية: "بنيامين الذي في دهش أو في نشوة". فإذ تحدث عن الكنيسة المتهللة التي تبارك الله، فهي في نشوة الفرح ودهش، تتمتع برؤية الله، وتتعرف على أسراره. إنها "بنيامين" الجديد، أي الابنة التي تجلس عن يمين أبيها السماوي كملكة، لأن كلمة بنيامين معناها "ابن اليمين".

ب. "متسلطهم رؤساء يهوذا": "يهوذا" معناه "اعتراف" أو "حمد"، فتعترف الكنيسة بصلاح الله الذي اختارها ملكة سماوية. هذا السبط الذي احتل مكان سبط بنيامين كسبطٍ ملوكي، صار في يديه السلطة والحكم. لكن ينضم السبطان معًا في موكب الخلاص بروح الحب والتواضع والوحدة على مستوى أبدي.

ج. رؤساء زبولون ورؤساء نفتالي: "زبولون" معناه مسكن، فإنها إذ تطلب السكنى في السماء تتحرر من كل الزمنيات. "نفتالي" معناها "متسع"، فإذ تحمل سمة عريسها "الحب الحقيقي"، يتسع قلبها ليصير مسكنًا لله، ومحبًا لكل البشرية. كانت أراضي زبولون ونفتالي بعيدة جدًا عن مدينة أورشليم، كأن لا دور رئيسي لهما في حياة شعب إسرائيل، ومع ذلك يقدمهما المرتل كممثلين كل الأسباط، أو كل الشعب. فالله لا يستخف بعمل أي إنسان أو جماعة.

قَدْ أَمَرَ إِلَهُكَ بِعِزِّكَ.

أَيِّدْ يَا اللهُ هَذَا الَّذِي فَعَلْتَهُ لَنَا [28].

ختم حديثه مع الشعب ببث روح الطمأنينة، فقد صدر أمر إلهي بعزهم ومجدهم. فيليق بهم أن يُقَدِّموا تسبحة شكر وحمد لله المعتني بعزهم. يوجه حديثه الآن إلى الله ليشكر على ما سبق ففعله الله مع شعبه في الماضي، وعن الأوامر الإلهية الصادرة لحساب مجد شعبه. وها هو بعد أن يشكر يسأل الله أن يُكَمِّل عمله، ليس لأن الله غير أمين في تنفيذ وعوده، إنما لأن الإنسان ينسى أحيانًا الله في وقت الفرج بعد أن ينال الكثير من بركاته، فيطلب التدخل الإلهي حسبما يحقق ما يشتهيه الله لشعبه.

v     عرف المغبوط داود جيدًا أنه لا يستطيع بمجهوداته الذاتية أن يضمن ازدياد عمله وجهده، ومن ثم توسَّل بصلوات متجددة أن ينال "التوجيه" لعمله من الرب، قائلاً: "وجِّه يا الله عمل أيدينا... وأيضًا يقول: "أيَّد يا الله هذا الذي فعلته فينا" (مز68: 28)[79].

القديس يوحنا كاسيان

مِنْ هَيْكَلِكَ فَوْقَ أُورُشَلِيمَ،

لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا [29].

يتحدث المرتل بروح النبوة عن الأمم القادمة، تقبل الإيمان وتصير أعضاء في الكنيسة، وتقدم هدايا لله. يتحدث عن ملوك وحكام وثنيين يؤمنون، مثل قسطنطين الكبير، كما يتحدث عن كل مؤمنٍ قادم من الأمم، إذ يصير مَلِكًا، باتحاده بملكٍ الملوك ورب الأرباب.

v     صار إبراهيم أممًا، بمعنى أن إيمانه قد انتقل إلى الأمم وإلى ملوك العالم، الذين صاروا مؤمنين، خاضعين لسلطان الرب يسوع، الذي قيل له: "لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا" (مز 68: 29). إنه ليس بالأمر غير المعقول، لأن سلالة إبراهيم لا تصير فقط ملوكًا من جهة الرُتبة، وإنما هم ملوك بالمعنى، إذ ليسوا عبيدًا للخطية؛ إنهم شعب لن يغلبه الشر، لأن لا سلطان للموت عليهم[80].

القديس أمبروسيوس

v     أية هدايا مقبولة مثل ذبائح التسبيح؟

القديس أغسطينوس

انْتَهِرْ وَحْشَ الْقَصَبِ صِوَارَ الثِّيرَان،ِ مَعَ عُجُولِ الشُّعُوبِ،

الْمُتَرَامِينَ بِقِطَعِ فِضَّةٍ.

شَتِّتِ الشُّعُوبَ، الَّذِينَ يُسَرُّونَ بِالْقِتَالِ [30].

من هم وحوش القصب إلا التماسيح وغيرها من الحيوانات المائية أو البرمائية المتوحشة. يطلب المرتل من الله أن ينتهر الذين يريدون افتراس الكنيسة، والمقاومين لإنجيل الخلاص، سواء كانوا من اليهود أو الأمم. إنهم يجدون مسرتهم في مقاومة الحق، والدخول في قتال ضد أولاد الله، لهذا يطلب المرتل أن يشتتهم، أي يُفسد خططهم، كما أفسد خطة شاول الطرسوسي، وهداه إلى الحق، ليصير كارزًا بعد أن كان مُجَدِّفًا ومُضطهِدًا ومفتريًا.

لا يحتمل عدو الخير أن يرى كنيسة المسيح وقد تمتعت بالعز والقوة، وصار أعضاؤها ملوكًا وكهنة، يُقَدِّمون هدايا مقبولة، أي تسابيح الحمد والشركة، فيثير عليهم الأشرار كوحوشٍ قادمة من بين القصب، وثيران وعجول من بين كل الشعوب.

v     يدعوهم ثيرانًا بسبب كبرياء عنقهم العنيد الذي لا يقبل الترويض، إذ يشير إلى الهراطقة. وبقوله: "بقر الشعوب" أظن أنها النفوس التي تنحرف بسهولة، إذ بسهولة تتبع تلك الثيران. فإن (الهراطقة) لا يُضلُّون كل الشعوب، الذين من بينهم أناس جادون وثابتون. لذلك كُتب: "في شعبٍ عظيم أُسَبِّحك" (مز 35: 18). إنما يضلون فقط البقر الذين يجدونهم بين الشعوب. فإنه من هؤلاء هم الذين يدخلون البيوت ويسبون نُسيات محملات خطايا، منساقات بشهوات مختلفة، يتعلمن في كل حين، ولا يستطعن أن يقبلن إلى معرفة الحق أبدًا (2 تي 3: 6-7).

القديس أغسطينوس

v     إذ يرى النبي المقدس داود بالروح أنه ينبغي علينا أن نصير بالنسبة للوحوش الضارية مثل ساكني السماء، يقول: "انتهر وحوش الغابة" [30] وهو لا يشير في الواقع إلى الغابة التي تهتز لركض الحيوانات المفترسة وتروع لزئير الحيوانات، بل الغابة التي كُتب عنها "وجدنا" في حقول الوعر (الغابة). (مز132: 6) التي فيها كما يقول النبي: "الصديق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان" (92: 12) تلك الغابة التي تهتز عند قمم الأشجار، تحدث عنها في النبوة إذ جاء منها غذاء الكلمة السماوي (اللوغوس)، تلك الغابة التي دخلها بولس حقًا كذئبٍ مفترسٍ، لكنه خرج منها راعيًا للخراف "لأنه في كل الأرض خرج منطقهم" (مز 19: 4).

لكن الآن بالروح القدس انتهى فإن هياج الأسود ووثبات النمور وخداع الثعالب وخطف الذئاب من مشاعرنا. عظيمة إذن النعمة التي غيَّرت الأرض إلى سماء، حتى أن سيرتنا نحن الذين كنا قبلا نجول كوحوش ضارية في الغابة، قد صارت في السماويات (في3: 20).

القديس كبريانوس

v     "انتهر وحش القصب"، أي المخلوقات التي تكتب إثمًا، وتتكلم بالأكاذيب ضد الرب، وترفع أفواهها ضد العلي[81].

القديس جيروم

يَأْتِي شُرَفَاءُ مِنْ مِصْرَ.

كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى اللهِ [31].

الكلمة المترجمة هنا "تُسْرِع"، يترجمها البعض "تسبق". وإن كانت الترجمتان تنطبقان على الأمم التي سبقت اليهود وصارت عروس المسيح، كنيسة الأمم، هذه التي متى كملت، يقبل اليهود الإيمان بالسيد المسيح في آخر الأزمنة، كقول الرسول بولس (رو 11: 25-26).

يرى القديس أغسطينوس في مصر وكوش إشارة إلى كل الأمم حيث يأتي منها سفراء للسيد المسيح أو شرفاء، يبشرون بكلمة الإنجيل المفرحة، ويسرعون بأياديهم إلى الله، إذ يعلنون إيمانهم بالعمل.

v     لم يقُل شيئًا سوى: "كوش تسرع بيديها إلى الله" [31]، بمعنى أنها ستؤمن به. فإنه هكذا ستأتي بيديها، أي بأعمالها.

v     ليس من الإسرائيليين وحدهم اُختير الرسل، وإنما أيضًا من بقية الأمم، لكي يكونوا كارزين بالسلام المسيحي.

القديس أغسطينوس

v     "كوش ستمد يدها لله" (مز 68: 31 LXX). بهذا تعني مظهر الكنيسة المقدسة، التي تقول في نشيد الأناشيد: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" (نش 1: 5). سوداء بالخطية، وجميلة بالنعمة. سوداء بحالها الطبيعي، وجميلة بالخلاص. هكذا هي سوداء بتراب أعمالها، لهذا فهي سوداء في جهادها، لكنها جميلة عندما تتكلل بزينة النصرة[82].

القديس أمبروسيوس

v     يمكن أن تكون العروس سوداء وجميلة في آن واحد، ولكن احذر، فإنه إن لم تُقدِّم توبة قوية ستوصف روحك أنها سوداء وذميمة، وحتى لا يكسيك الخزي مرتين لأنك أسود بخطاياك السابقة، ودميم لأنك ماضي في نفس خطاياك، أما إذا قدمت توبة، فنفسك ستكون سوداء بسبب الخطية ولكن من أجل توبتك سيكون لها الجمال الأثيوبي كما جاء في الكتاب حينما تكلم هارون ومريم على موسى بسبب المرأة الكوشية (عد 1:12) موسى الجديد اتخذ أيضا لنفسه زوجة كوشية. لقد وصلت وصاياه إلينا، فليتكلم إذن هارون كاهن اليهود، ولتتكلم مريم التي تمثل مجمعه، فموسى لا يضع وزنًا لكلامها، فهو يحب الكوشية، التي قال عنها النبي: "من أقصي عمق النهر يقدمون لك الذبائح" (مز8:71) وأيضا أثيوبية تسبق أيدي إسرائيل أمام الله (مز 31:68). بالحق تكلم الكتاب "يسبق" ففي العهد الجديد سبقت نازفة الدم ابنة رئيس المجمع (مت 18:9). بهذه الطريقة شفيت الكوشية ومازال إسرائيل مريضًا لأن بزلتهم (إسرائيل) صار الخلاص للأمم لإغارتهم (رو 10:11).

العلامة أوريجينوس

v     دعونا نشرح معني العبارة التي قالها القديس بولس الرسول، فما المقصود بأن جميع إسرائيل سيخلص، عندما يدخل ملء الأمم؟ كان يوجد إسرائيل للخلاص: فإن كان الجزء الأكبر من إسرائيل قد سقط، لكن حصلت بقية حسب اختيار النعمة (رو 11: 5)، بقية قيل عنها في إيليا: "أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل".

وفي شرح المقصود بهذه البقية، يقول بولس الرسول: "فكذلك في الزمان الحاضر أيضًا، قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة" (رو 11: 5). إذًا كان يوجد في إسرائيل بقية للخلاص حينما كانت إسرائيل مطرودة.

ولم يقل الرسول: "عندما يخلص جميع الأمم، فحينئذ سيخلص جميع إسرائيل"، وإنما: "إلي أن يدخل ملء الأمم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل". فإن إسرائيل سيخلص ولكن ليس بعد أن يخلص كل الأمم، وإنما بعد أن يخلص ملء الأمم[83]. فمن هو قادر أن يحسب لنا بعقله الوقت المتبقي، في رأيه، والذي فيه تعبد جميع الشعوب الله، وكما هو مكتوب في صفنيا: "من عبر أنهار كوش المتضرعون إلي متبددي يقدمون تقدمتي" (صف 3: 10). وكما يقول المزمور 68 أيضًا، حينما تسرع كوش بيدها إلي الله (مز 68: 31)، وبعد كم من الوقت والزمان سوف يعطي "كلمة الله" الأمر لجميع ممالك الأرض قائلاً: "يا ممالك الأرض، غنوا لله، رنموا لإله يعقوب" (مز68: 32)[84].

العلامة أوريجينوس

v     ثم إن ملاك الرب دعا فيلبس في الطريق من أجل الإثيوبي الخصي التقي جدًا، إذ سمع بوضوح الروح يقول له: "تقدم ورافق هذه المركبة" (أع 8: 29). لقد علَّم الخصي، وعمّده، فذهب إلى إثيوبيا كرسول المسيح، كما هو مكتوب: "إثيوبيا تبسط يدها" (مز 31:68). واختطف الملاك فيلبس، فصار يبشر بالإنجيل في المدن بالتتابع[85].

القديس كيرلس الأورشليمي

14. دعوة كل الأمم للتمتع بالعطايا الإلهية

يَا مَمَالِكَ الأَرْضِ غَنُّوا لله.

رَنِّمُوا لِلسَيِّدِ. سِلاَهْ [32].

شهوة قلب داود إمام المغنين أن يتحول العالم كله إلى خورُس المسبِّحين لله. فحينما يدعو الأرض كلها للإيمان، يسألهم أن يهتفوا وأن يُغنُّوا ويرنموا لله مخلصهم. فمن يتحول قلبه إلى خورُس للتسبيح يكون حتمًا قد قَبِلَ الإيمان.

لِلرَّاكِبِ عَلَى سَمَاءِ السَّمَاوَاتِ الْقَدِيمَةِ.

هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ [33].

إذ صعد الرب إلى سماء السماوات أعطى صوته، صوت القوة القادر أن يجتذب حتى المقاومين إلى الإيمان به والالتصاق به، لكي يتمتعوا بعربون السماء.

v     قال العريس: "لا يكفي أن تقوموا من سقطتكم على الأرض، ولكن يجب أن تتقدموا في عمل الخير وتَصِلوا إلى آخر الطريق في الفضيلة." نتعلم هذا من مثال المفلوج في الإنجيل (مت 8: 6)، فلم يقل السيد المسيح للمفلوج أن يحمل سريره فقط، بل أمره أن يمشي. إنني اعتقد أن هذا النص يوضح التقدُّم والسير نحو الكمال. يقول المسيح: "قُمْ وتعالَ". ما هي القوة التي تَكْمُنُ في هذا الأمر؟ حقًا إن صوت الله هو صوت القوة (مز 68: 33). يقول: "أعطوا عِزًّا لله على إسرائيل جلاله وقوته في الغمام". ثم يقول: "لأنه قال فكان، هو أَمَرَ فصار" (مز 33: 9). انظر أيضًا ما يقوله العريس لعروسه: "انهضي ثم تعالي"، وفي الحال يتحوَّل أمره إلى حقيقة، وفي نفس الوقت تستقبل العروس قوة كلمة الله، فتقف وتتقدم نحوه، وتقترب من النور. ويشهد كلمة الله عندما يراها ويقول: "أجاب حبيبي، وقال لي: قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالي" (نش 2: 10)[86].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

جاء في الترجمة السبعينية: "للراكب على سماء السماوات نحو الشرق eastward. "يرى القديس مار أفرام السرياني أن السيد المسيح الذي صعد من المشارق يوجِّه نظره إلى العالم، وبالتالي ينجذب العالم إلى الشرق، مشتاقًا أن يسمع صوته الإلهي.

v     من لا يؤمن بقيامته وصعوده لا يفهم هذه الكلمات عن المسيح. لكن، أليس بإضافة قوله "نحو الشرق" يُعبِّر عن تلك البقعة عينها، حيث قام وصعد في مناطق الشرق؟ لذلك فوق سماء السماوات جلس عن يمين الآب. هذا ما يقوله الرسول: "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السماوات" (أف 4: 10).

القديس أغسطينوس

v     حقق لنا أن إلهنا يسوع المسيح جالس بناسوته على عرشه في الشرق، ووجهه إلى العالم ناظر، لكي يكون كل من يُصلِّي إلى الشرق ويسجد بين يديه، يُصلِّي ويتضرع إلى رحمته[87].

القديس مار افرام السرياني

أَعْطُوا عِزًّا لله.

عَلَى إِسْرَائِيلَ جَلاَلُه،  وَقُوَّتُهُ فِي الْغَمَامِ [34].

إذ يسمع العالم صوت المخلِّص، لا ينتفع السيد بشيء، فهو ليس بمحتاج إلى عبادتنا. إنما يرتد هذا إلينا، فيمتلئ إسرائيل الجديد، أي الكنيسة بإشراقات جلال الله وبهائه، وتُعلَن قوة المخلِّص في قديسيه الذين يُشَبَّهون بالغمام أو السحاب.

مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اللهُ مِنْ مَقَادِسِكَ.

إِلَهُ إِسْرَائِيلَ هُوَ الْمُعْطِي قُوَّةً وَشِدَّةً لِلشَّعْبِ.

مُبَارَكٌ اللهُ! [35]

يقيم الله من مؤمنيه هيكلاً مقدسًا، يحمل مهابة الله فيه، ويقدم له قوة وإمكانيات سماوية، فيصير الكل خورُس للتسبيح، يباركون الله مخلِّص العالم.

v     "لا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير... لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الدهور". فالله إنما يهب القوة للإنسان الذي يطيعه "لأن لك القوة"، لأنه مكتوب: "الرب يعطي القوة والشدة لشعبه". (مز 35:68)

القديس إسطفانوس الطيبي


 

من وحي مز 68

موكب المسيح الصاعد إلى السماوات

v     في تهليل فائق ودهشة، يستقبلك السمائيون، يرون موكبك العجيب!

أنت وحدك الذي من السماء، تقدر أن تدخل بنا إلى سماواتك،

لتقم وتقيمنا معك. لتصعدنا معك نحن أعضاء جسدك.

تقبلنا كمركبات مقدسة، تصعد، وليس من يقدر أن يعوقها،

فأنت قائد الموكب كله!

يهيج إبليس وجنوده، لكنهم يتبددون كالدخان أمام الريح،

ويذوبون كالشمع أمام النار.

v     تقود موكبك السماوي، إذ يجد الأيتام فيك أبًا لهم،

وتجد الأرامل وكل المظلومين فيك قاضيًا.

تقيم منهم مركبات نارية، تجعلهم هيكلاً مقدسًا،

وتدخل بهم إلى أورشليم العليا.

تقيم للمنبوذين مسكنًا خاصًا يستقرون فيه،

وتجعل لك مسكنًا تستريح فيه.

تَحِل قيود المربوطين وتُحَرِّر الأسرى،

تأسرهم بحبك وغنى نعمتك.

عوض أسر إبليس المظلم الكئيب، يأسرهم برُّك ويملأهم فرحًا.

يحملون نيرك العذب، ويشتركون مع السمائيين في تسابيحهم.

v     أنضحت على شعبك منًا في القديم،

والآن تنضح عليهم بروحك القدوس قائدًا ومُقَدِّسًا لهم.

يهبهم روحك جمالاً فائقًا.

يطيرون كما بأجنحة حمامة، مغشاة بفضة كلمتك،

وريشها يحمل سمة السماويات.

يطفي عليهم بهاءً فائقًا، ويصيرون كالثلج عوض الطبيعة القاتمة.

v     موكبك عجيب، يضم مؤمنيك الذين اخترتهم بحبك!

تجعل منهم جبالاً لك، مثل جبل صهيون المُزيَّن ببيتك المقدس.

ليس لهم في ذواتهم ما يفتخرون به.

لكن عطشك إليهم وشوقك إلى السُكنَى فيهم سرّ بهائهم.

v     موكبك عجيب، تكشف لمؤمنيك طرقك،

ويتعرفون على أسرارك، فيمتلئون فرحًا وتهليلاً.

لا يتوقفون عن العزف معًا.

يعزفون بأرواحهم وأجسادهم، بعقولهم وعواطفهم وأحاسيسهم.

كل كيانهم يُهَلِّل لك بكل الطرق.

لك المجد يا قائد الموكب العجيب!

v     ما أعجبك أيها القدوس،

نزلت إلىَّ، والتقيت بي، أنا المدفون في قبر خطاياي!

من أجلي، قبلت الآلام والموت والدفن!

قمتَ يا مخلصي بالجبروت، وحطَّمتَ كلَّ قُوَى العدو،

وأدخلتني إلى موكب نصرتك، فأحيا دومًا ببهجة قيامتك وقوَّتها!

v     أرسلتَ لي روحك القدوس، قائد كنيستك،

كريح عاصف يُبَدِّد شرِّي كالدخان،

فأنعم برؤية صادقة لأسرار حبك لي!

وكنارٍ ملتهبةٍ تحرق كل أشواك الخطية،

وتُشعِل فيها نيران حب، لا يقدر العالم كله أن يُطفئها!

v     عجيب أنت في قيادتك!

حضورك يحطم الشر، ويبهج مؤمنيك!

بحضورك تهرب الظلمة، فتتهلل نفوسنا وتسبحك!

علمني كيف أرتل لك بالمزامير.

ينطق بها لساني، ويلهج بها قلبي وفكري،

وتمارسها كل أعضاء جسدي!

v     إن كان العدو قد خدعني بنوره الكاذب،

أشرَق عليّ فملأني ظلمة، وصرتُ من المغارب.

فلتُشرق يا شمس البِر عليَّ، ولتحتل قلبي طريقًا لك في المغارب.

لقد رفضتُ نورَ العدو المُخادِع، لأصير له من المغارب،

وقبلت قيادتك، فأصير لك من المشارق.

لتغرب أيها العدو عن أعماقي،

ولتُشرِق أيها العريس السماوي في إنساني الداخلي!

v     يا قائد موكب النصرة،

يا أب الأيتام وقاضي الأرامل ومُحَرِّر المأسورين.

لقد رفضتُ أبوة إبليس وشركته،

تعالَ إليّ، فإني يتيم وأرمل ومأسور!

تعالَ، اسكنني مع كل المحتاجين إليك،

فأصير لك مقدسًا، احمل روح القداسة والحب والوحدة!

حرَّر نفسي من قيود الخطية، أطلقني من قبر خطاياي.

اخرجْ أمامي أيها القيامة فأخرج معك!

 

v     لتجتز معي أيها القائد برية هذه الحياة،

فيتزعزع إنساني القديم كأرض يابسة،

وتمطر نفسي بعمل نعمتك كسماءٍ جديدةٍ!

سرّ معي في سيناء حيث التجارب والآلام،

حتى أنعم بكنعان السماوية.

v     لتمطر عليّ بفيض نعمتك،

هذا المطر العجيب الذي أفرزته لأولادك الذين هم ميراثك!

أنت وحدك تعرف قفر حياتي وجفافها،

أنت وحدك تهبني بمطرك السماوي ثمر الروح!

v     أمطرت على شعبك بالناموس من السماء،

هذا الذي صار ضعيفًا، لأنه هددنا بالعقوبة دون أن يُقَدِّم النعمة!

وأما نحن الضعفاء، فبك صرنا ميراثك الكامل،

لأنك قدَّمت ذاتك نعمةً لنا، يا واهب النعم السماوية!

v     أيها القائد العذب، ملك القوات الجبار،

بعذوبتك أغنيتني أنا الفقير،

وبروحك أعطيتني قوة للكرازة بأعمالك،

لأحمل إلى بيتك البهي غنائم كثيرة!

v     هب لي أيها القائد أن أضطجع وسط الأنصبة،

أستريح وسط مواعيدك الإلهية،

فأصير في عينيك كحمامةٍ نقيةٍ،

أطير بجناحي الحب إلى أغصان شجرة الصليب،

وتتسم أعماقي بالفكر السماوي.

v     هب لي سلطانًا، وأقمني مَلِكًا،

أعرف بروحك القدوس كيف أضبط جسدي،

وأُسَلِّمك كل أعضائي آلات بَّر تعمل لحساب ملكوتك.

v     أعطني أن أنعم بالحياة الكنسية الإنجيلية،

فأصير كحمامة تطير بنقاوة وبساطة نحو السماويات،

وكجبل دسم يحمل ثمر الروح،

وكمركبة نارية لا تكف عن الجهاد الروحي ضد الظلمة!

 

<<

 


 

اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ

صرخات طريد

يُعتبَر المزمور 22 من أكثر المزامير التي اقتبس منها العهد الجديد، يليه مباشرة هذا المزمور. لهذا كثيرًا ما يُفَسَّر كمزمور مسياني يشير إلى شخص ربنا يسوع المسيح وعمله الخلاصي.

ليس من دارس يتجاهل سمة هذا المزمور كمسياني، لكن التساؤل بينهم هو: هل هذا المزمور نبوي، يسجله داود المرتل متنبئًا عما يتم بمجيء المسيح وتحقيق عمله الخلاصي، أم هو رمزي، بكون داود الكاتب كان رجل الآلام يتحدث عن نفسه كرمزٍ للسيد المسيح.

اقتباسات العهد الجديد

أ. مز 69: 4- يو 15: 25.

ب. مز 69: 9- يو 2: 17؛ رو 15: 3.

ج. مز 69: 21- مت 27: 34، 48؛ مر 15: 23؛ يو 19: 28-29.

د. مز 69: 25- أع 1: 16، 20

يقول ثيؤدورت أسقف كورش: [إنه نبوة عن آلام المسيح، والدمار النهائي لليهود بسبب ذلك.]

سماته

1. يرى كثير من الدارسين نوعًا من الشبه بينه وبين المزمور 22.

2. في النص العبري يتسم المزمور بروعة الأسلوب وإبداع في الشعر.

3. يمثل المزمور مرثاة شخصية لنفسٍ مرة بسبب كثرة المقاومين وعنفهم، لكنه كأغلب المزامير التي تمثل مراثي تنتهي بتسبحة شكر لله وفرح عظيم بخلاصه. ابتداء من الآية 30 تتحول المرثاة هنا إلى تسبحة شكر.

4. غالبًا ما كان يُسبَّح بهذا المزمور في العبادة الجماعية، ليهب تعزية للنفوس المُتألِّمة. إنه يلهب القلوب نحو الغيرة على بيت الله [9]، واحتمال الألم من أجل الله [7، 9].

أقسامه

1. مرثاة تنبع من القلب                          1-12.

2. صرخة لأجل الخلاص                          13-21.

3. مجازاة الأشرار المقاومين                     22-28.

4. تسبحة نصرة                                  29-35.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَى السَّوْسَنِّ. لِدَاوُدَ

ذِكْرُ "على السوسن" وُرِدَ في عناوين المزامير 45 و69، 80.

يدعو القديس أغسطينوس المزمور 45 مزمور حجال الملك، إذ هو مزمور حفل الزواج السماوي بين السيد المسيح وعروسه الكنيسة، الملك والملكة الجالسة عن يمينه، المخلص وشعبه المفديين بدمه. والمزمور 69 هو مزمور الصليب، حيث يحتمل السيد المسيح الموت من أجل عروسه. والمزمور 80 خاص بالكرمة التي نقلها الرب من مصر- أرض العبودية- إلى أرض الموعد، هذه التي غرستها يمينه.

فالمزامير الثلاثة تخص الكنيسة العروس، الملكة، التي قدَّم لها عريسها مهرها دمه الثمين، والتي غرسها بنفسه ويتعهدها. هذه العروس التي يقول عنها العريس: "كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 1: 2).

إنه مزمور خاص بالمهر الذي يُقَدِّمه المُخلِّص عن عروسه المحبوبة لديه!

1. مرثاة تنبع من القلب      

خَلِّصْنِي يَا اللهُ

لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي [1].

يبدأ المرتل وصف حاله كمن هو في وسط بحر من الضيقات والمتاعب. يبدو كأنه إنسان في حالة غرق، تبتلعه الدوامات وأمواج البحر الثائرة ضده.

هذه هي مشاعر يونان النبي وهو في جوف الحوت: "لأنك طرحتني في العمق، في قلب البحار... جازت فوقي جميع تياراتك ولُججك" (يون 2: 3).

في موضع آخر يقول المرتل: "نشلني من مياه كثيرة" (مز 18: 16).

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح وحده بإرادته قبل الموت، أما نحن وإن كنا لا نَقْبَله بإرادتنا، إلا أننا نحتمله بصبرٍ، لأنه هو الطريق الوحيد للالتصاق به. يليق بنا أن نشرب المَرَّ الذي قدَّمه اليهود للسيد المسيح في وقت آلامه. حقًا إن الملذات الزمنية لذيذة، والتجارب المؤقتة مُرَّة، لكننا نستخف بملذات العالم من أجل عذوبة الحياة الأبدية.

v     يقول إن المياه دخلت إلى نفسه، لأن تلك الجموع التي أشار إليها تحت اسم المياه قادرة أن تحقق قتل المسيح... لهذا هل هو يصرخ كمن يتألم بغير إرادته، إلا لأن الرأس هنا يمثل الأعضاء (المتألمة). لأنه هو تألم لأنه أراد، أما الشهداء فلم يريدوا ذلك. فقد سبق فأنبأ لبطرس عن آلامه، قائلاً: "متى شخت فإنك تمد يديك، وآخر يمنطقك، ويحملك حيث لا تشاء" (يو 21: 18). فمع أننا نرغب في الاقتراب من المسيح إلا أننا لسنا نريد الموت. ولذلك بإرادتنا أو بالصبر نتألم لأنه لا يوجد طريق آخر يُعطَى لنا (سوى الألم) لكي نلتصق بالمسيح.

القديس أغسطينوس

v     لا تأتمن نفسك في أشياء تفيض دومًا، حتى تستطيع أن تقف ثابتًا. ليس من يستطيع أن يقف على الماء، إنما يجد الكل أمانًا عن الوقوف على صخرة الأمور الأرضية مثل الماء، مثل سيل جارف يعبر. يقول: "المياه قد دخلت إلى نفسي" [1]. الأمور الروحية صخرة، إذ يقول: "أقام على صخرةٍ رجليَّ" (مز 40: 2). الأمور الزمنية مثل وحلٍ وطينٍ، ليتنا نتخلص منها. فإننا هكذا يمكننا أن نبلغ إلى ظهور المسيح[88].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لم يكن داود النبي بالشخص الذي يضعف أمام التجارب والضيقات، لكن هذا المزمور يكشف مدى ما لحقه من متاعب، حتى كاد يشعر بأن نفسه قد أوشكت على الغرق.

أما عن السيد المسيح، فلا يمكن أن ننكر حقيقة تأنسه، وبالتالي فإنه من جهة الناسوت يعلن أنه تألم حقيقة. فبحبه وتواضعه تأنس ليحمل آلامنا، ويشاركنا أتعابنا. لم يتجاهل العهد الجديد آلامه، بل أبرزها ليؤكد حقيقة تأنسه.

"كان يُصلِّي قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (مت 26: 39).

"الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يو 12: 27).

"الذي في أيام جسده، إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت، وسُمِعَ له من أجل تقواه" (عب 5: 7).

غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَيْسَ مَقَرٌّ.

دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ

وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي [2].

يصوِّر المرتل موقفه أنه كإنسان في دوامة نهر أو بحر مملوء وحلاً، عاجز عن أن يتصرف، فقد صار ألعوبة في يد الدوامة وسط الوحل، وليس من مقر، إنما ينحدر على الدوام. شعر كأنه في أعماق بعيدة وسط المياه، وليس من منقذ، أو كمن يجرفه سيل شديد، وليس من نهاية!

ليس من شيءٍ جامد يمكن أن يضع عليه قدميه ليتحرك في اتجاه معين، أو يجلس عليه حتى ليفكر كيف يَخلُص، وليس من عمق معين يبلغه... إنه في حاجة إلى عون من الخارج.

يرى القديس أغسطينوس أن المُضطهَد والمضطهِد كليهما من الوحل. الثاني بسبب فقدانه البرّ صار وحلاً عميقًا يود أن يبتلع المُضطهَد الذي هو أيضًا مخلوق من الطين. لكن ماذا يفعل الضيق بالمُضطَهد؟ إنه يصير صورة الله وعلى مثاله. أي يصير ذهبًا! يَعبُر من التراب إلى الذهب!

v     ما هو الذي يُدعَى حمأة؟ هل هم ذات الأشخاص الذين يُضطهَدون؟ لأنه من الطين خُلِقَ الإنسان (تك 2: 7). لكن هؤلاء البشر الذين سقطوا من البرِّ صاروا وحلاً عميقًا، ومن لا يوافقهم يضطهدونه، ويريدون أن يسحبوه إلى الإثم فيخرجون من طينه ذهبًا. لأن الطين الذي لهم مثلهم يتأهل أن يتحوَّل إلى شكل سماوي.

v     شكرًا لرحمته ذاك الذي جاء إلى عمق البحر، ومنحنا أن يُبتلع بواسطة حوت البحر، لكنه لفظه في اليوم الثالث (مت 12: 40). جاء إلى عمق البحر، في ذاك العمق الذي أُلقينا فيه، ذاك العمق الذي حدث فيه دمارنا. جاء إلى هناك بنفسه، والعاصف جعله يغطس إلى أسفل، إذ عانى من الأمواج التي هي أصوات البشر القائلين: "اصلبه، اصلبه". تزايدت العاصفة حتى غطس في أعماق البحر. احتمل الرب الألم من أيدي اليهود، الذي لم يعانِ منه حين سار على المياه (مت 14: 25)، الأمر الذي لم يعانِ منه هو ولا سمح حتى لبطرس أن يعاني منه.

القديس أغسطينوس

تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي.

يَبِسَ حَلْقِي.

كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ انْتِظَارِ إِلَهِي [3].

يُعْلِنُ المرتل أنه قد طالت صلواته جدًا وعَلت صرخاته واشتدت جدًا انفعالاته أمام الخطر الذي يلاحقه مع الحزن الشديد الذي خيَّم على نفسه، فيبس حلقه وصار في حالة خوار وإنهاك لكل قواه الجسمية والنفسية. لقد بُحَّ صوتُه وصار أجش، وكلَّت عيناه وذلك بسبب تركيز النظر لمدة طويلة في اتجاه معين انتظارًا لمجيء من ينقذ ويخلِّص. هذا ما يحدث مع العينين كما مع الجسد ككل، بل ومع القلب والفكر والنفس. في موضع آخر يقول داود المرتل: "خسفت من الغم عيني، نفسي وبطني. الآن حياتي قد فنيت بالحزن، وسنيني بالتنهد، ضعفت بشقاوتي قوتي، وبليت عظامي" (مز 31: 9).

يرى القديس أغسطينوس أن السيد نفسه التزم الصمت أثناء محاكمته كما جاء في مزمور آخر: "وأكون مثل إنسانٍ لا يسمع، وليس في فمه حجة" (مز 38: 14)، وما جاء في إشعياء: "ظُلِم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُساقُ إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش 53: 7)، فكيف يقول هنا: "تعبت من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3)؟

لقد قال: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مز 22: 1). ولكن ما هو مدى شدة صوته، وإلى أي مدى زمني، حتى يجف حلقه؟ لقد طال وقت صراخه، إذ قال: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون" (مت 23: 13) إلى قوله: "ويل للعالم من العثرات" (مت 18: 7). لقد طال صراخه، حتى قال كثيرون من تلاميذه: "إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يفهمه؟" (يو 6: 60). إننا لا نعرف ما يقوله، قال كل هذه الكلمات؛ لكن حلقه يبس بالنسبة للذين لم يفهمونه.

بخصوص قوله: "كلت عيناي من انتظار (الرجاء) في إلهي" [3]، لا يُقصَد بهما العينين اللتين في رأسه، فقد جاء خصيصًا لكي يصالح العالم مع الآب، فكيف كلت عيناه من الرجاء في الآب. إنما الحديث هنا عن عينيه اللتين في جسده، أي في أعضائه. إنه صوت أعضائه، لا صوت الرأس، كما يقول القديس أغسطينوس.

v     إن لم تصر عبدًا فالزم النوح على نفسك وأنت تقول: "تعبتُ من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3). لكي لا يُقال لك كما قيل إن "العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته يُضرَب كثيرًا... ومَنْ يودعونه كثيرًا يُطالبونه بأكثر" (لو 47:12-48). لأنه كما أخذنا معرفة عظيمة فإننا بالمثل نصير في خطر عظيم.

القديس إسطفانوس الطيبي

أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ.

اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْمًا.

حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ [4].

جاء المزمور كله يصوِّر ما حل بداود النبي من آلام ليس بسبب جريمة ارتكبها، وإنما بسبب حسد الأشرار له. فما حلّ به كان من أجل الله، إذ سلك في طريق مستقيم. هكذا السيد المسيح حمل الآلام ظلمًا، عوض ما كان يجب أن يحتمله آدم ونسله عدلاً!

في حديث السيد المسيح الوداعي يقول لتلاميذه: "لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية. وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب" (يو 15: 24-25).

من جهة العدد فيبدو كأن أعداءه بلا عدد، أكثر من شعر رأسه، ومن جهة الإمكانيات فإنهم يعتزون بقدرتهم وإمكانياتهم.

مما أحزن قلبه أن ما حلَّ به كان بلا سبب، ظلمًا. لو أنه ارتكب خطأ ما، لاعتذر عنه أو عوَّضهم عنه، لكنه ليس من سبب حقيقي سوى البغضة الدفينة في قلوبهم من جهته وروح العداوة والحسد.

إنهم يقابلون حبه بالعداوة، وكما قال في موضع آخر: "يجازوني عن الخير شرًا ثكلاً لنفسي. أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا" (مز 35: 12-13).

لقد اُتهم داود ظلمًا، حين خرج شمعي بن جيرا يَسِبَّه ويرشقه بالحجارة، وكان يقول له: "اخرج، اخرج، يا رجل الدماء ورجل بليعال. قد ردَّ الربُ عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه، وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك، وها أنت واقع بشرِّك، لأنك رجل دماء" (2 صم 16: 7-8).

بالأكثر احتمل السيد المسيح الآلام عنا ظلمًا. وكما يقول إشعياء النبي: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمَّلها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحُبره شُفينا" (إش 53: 4-5). ويقول القديس بطرس: "فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يُقَرِّبنا إلى الله، مماتًا في الجسد، ولكن مُحْيىً في الروح" (1 بط 3: 18).

بإرادته قَبِلَ كلمة الله المتجسد أن يحقق العدل الإلهي فيه، عن خطايا ومعاصٍ وأخطاء لم يرتكبها، إنما ارتكبها آدم الأول وبنوه. لقد تُمم فيه الناموس، وحمل عقوبته عنا، هذا لم يكسر الناموس قط، لكي يردَّ الضالين إلى البرّ الذي هو مصدره. إن كان داود قد تألم بلا سبب، بسبب حسد البعض له، فإن ابن داود تألم عن البشرية كلها لكي يسدد دينها ويقدِّم لها بره وقداسته.

يقول المرتل عن السيد المسيح إن أعداءه أكثر من شعر رأسه، وقد صُلِبَ السيد على جبل الجلجثة أي الجمجمة حيث نُزعَ الشعر عن الرأس، هؤلاء الذين أبغضوه بلا سبب، ونحن كأعضاء جسده لنترك العالم يبغضنا، ولكن بلا سبب، حيث لا نرد بغضة بالبغضة.

v     قارن أعداءه بشعر رأسه. لهذا فإنهم جُزوا عندما صُلب في موضع الجلجثة (الجمجمة) (مت 27: 33). والآن أيها المسيحي إن كان يلزم أن يبغضك العالم، لماذا لا تسمح له أن يبغضك بلا سبب؟

القديس أغسطينوس

v     "رددت الذي لم أخطفه" [4]. لهذا فإن المسيح باحتماله الموت ظلمًا دفع ما كان يجب أن يقدمه آدم عدلاً. بسط الأخير يده لثمارٍ حلوة، والأول بسط يديه للصليب المُر. واحد يشير نحو شجرة الموت، والآخر نحو شجرة الخلاص. ارتفع واحد ضد الله وسقط، وتواضع المسيح لكي يرفع كل البشر. جلب آدم الموت لكل أحد، واسترد المسيح الحياة لهم جميعًا[89].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته.

جسده صار خبزًا ليحي موتنا!...

المجد للديان الذي دين، وجعل تلاميذه الاثنى عشر يَدينون الأسباط،

والجهلة يلومون كتبة الأمم![90]

v     اجتمعت الأمم وجاءت لتسمع ضيقاته!

المجد لابن الصالح الوحيد، الذي رذله أبناء الطالح!

المجد لابن البار وحده، الذي صلبه أبناء الشرير!

المجد للذي حلّ رباطاتنا، ورُبط من أجل جميعنا!

المجد لذاك الجميل الذي أعادنا إلى صورته!

المجد لذاك الحسن الذي لم ينظر إلي قُبحنا!

المجد لذاك الذي زرع نوره (مز11:97) في الظلمة،

فصار باختفائه موضع تعبير، فكشف أسراره،

ونزع عنا ثوب قذارتنا (زك 3:3)!

المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته.

جسده صار خبزًا ليحي موتنا!

السبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 4:69 ، لو 6:16)،

وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا![91]

v     المجد للذي حل رباطتنا، ورُبط من أجل جميعنا!

السُبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 69: 4)، وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا!

بحمله نيره كسر عنا قيود ذاك الذي أسرنا!

 المجد لكرَّام عقولنا الخفي! بذاره سقطت على أرضنا فأغنت عقولنا! ثمره جاء بمئة ضعف في كنز نفوسنا!

مبارك هو "الراعي" الذي صار حملاً لأجل مصالحتنا!

مبارك هو "الغصن" الذي صار كأسًا لأجل خلاصنا!

مبارك هو "العنقود" الذي هو دواء الحياة!

مبارك هو "الفلاح" الذي صار "قمحًا" لكي يزرع، و"حِزْمة" لكي تقطع!

لنُسَبِّحه، فهو الذي أحيانا بتقليمه!

لنُسَبِّحه، فهو الذي حمل اللعنة عنا بإكليل شوكه!

لنُسَبِّحه، فهو الذي أمات الموت بموته!

لنُسَبِّحه، فهو الذي زجر الموت الذي تغلب علينا!

القدِّيس مار افرآم السرياني

v     من جانب آخر، فإن السيد المسيح لم ينطق بغش من فمه (1 بط 2: 22، إش 53: 9). فالذي أظهر كل برّ وتواضع ليس فقط لم يتعرض لهذا النوع من الألم عن استحقاقه، بل وفُرِضَ عليه لتتحقق فيه نبوات الأنبياء، التي أعلنت أنها ستتم فيه، كما جاء في المزامير إذ سبق روح المسيح فتغنَّى قائلاً:

"يجازونني عن الخير شرًا" (مز 35: 12).

"حينئذ رددت الذي لم أخطفه" (مز 69: 4).

"ثقبوا يديَّ ورجليَّ، أحصوا كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ" (مز 22: 16-17).

"ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني ماء" (مز 69: 21).

"يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 17).

لقد احتمل هذا كله لا عن شر ارتكبه، لكن لكي يتم فيه كلام الأنبياء...

العلامة ترتليان

v     واضح أن الشَعْرَ أحيانًا يشير إلى الفضائل وأحيانًا أخرى إلى الخطايا. فعندما تكلم النبي عن خطاياه قال: "هذا الشَعْرُ الذي بلا عدد لرأسي[92]".

الأب قيصريوس أسقف آرل

يَا اللهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي،

وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ [5].

ربما يتساءل البعض: كيف يحسب داود النبي ما حلّ به كان ظلمًا، وطُلب منه أن يرد ما لم يخطفه [4]، بينما يعترف هنا بحماقته وذنوبه؟

أ. إن كان ما حلّ به من أعدائه لم يكن بسبب خطية أو شر أو خطأ ارتكبه ضدهم، لكن داود لا يقدر أن يتبرر أمام الله، فقد يكون هذا تأديبًا من قبل الله عن خطايا ارتكبها خفية.

ب. بالنسبة للسيد المسيح الذي بلا لوم ولا خطية، فإن ما احتمله من آلامٍ وصلبٍ وموتٍ ليس عن خطية ارتكبها، وإنما تكفيرًا عن خطايانا، فينسب ما نفعله نحن إليه، لكي يدفع الثمن في جسده بالصليب. لقد قدم نفسه ذبيحة خطية عنا. وكما يقول الرسول: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية (أو ذبيحة خطية) لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21).

ج. يرى البعض أن المزمور كغيره من المزامير أو الأسفار النبوية تتنبأ عن السيد المسيح في عبارات معينة، لكن ليس كل المزمور أو أي أصحاح من الأنبياء يشير بكامله عن السيد المسيح.

يقول القديس أغسطينوس ليس في السيد المسيح، قوة الله وحكمته، شيئًا من الحماقة والذنوب، إنما هنا صوت أعضاء جسده التي هي نحن. صوت اعترافنا بجهالاتنا وخطايانا ليغفر لنا خطايانا.

لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوك،

يَا سَيِّدُ رَبَّ الْجُنُودِ.

لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوك،

يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ [6].

يطلب المرتل من إله السمائيين الإله القدير رب القوات، وإله شعبه المحبوب لديه، أن يسند منتظريه الذين يتكلون عليه، وأن يعطيه نعمة أمام قديسيه.

في رأي القديس أغسطينوس إن هذا هو صوت السيد المسيح الرأس الذي يقول: "أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي" (يو 14: 1). وهو أيضًا صوت الكنيسة كلها التي بحق تقول: "لا يخزَ بي منتظروك يا رب، إله القوات" [6].

لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ.

َغطَّى الْخَجَلُ وَجْهِي [7].

يؤكد المرتل أن ما حلّ به ليس بسبب خطأ ارتكبه أو شر مارسه ضد أحدٍ، وإنما من أجل الله نفسه. هذا حق بالنسبة لداود، كما بالنسبة للسيد المسيح، وللمؤمنين به.

v     ليس بالأمر العظيم ما قيل هنا: "احتملت"، فإن ما قيل هنا هو "لأجلك احتملت". أما إن كنت تحتمل لأنك تخطيء، فإنك تحتمل لأجل نفسك، لا من أجل الله. يقول بطرس: "لأنه أي مجد هو إن كنتم تُلطَمون مخطئين فتصبرون؟ بل إن كنتم تحتملون لأنكم تحفظون وصية الله فبالحق تحتملون لأجل الله، وتبقى مكافأتكم إلى الأبد." (1بط 2: 20)

v     يليق بالمسيحي أن يكون له عدم الخجل هذا، عندما يأتي بين أناس يكون لهم المسيح عثرة. إن كان يستحي من المسيح، فسيُمحى من كتاب الحياة. يليق بك ألا تخزى عندما تُهان من أجل المسيح. عندما يقولون لك: يا عابد المصلوب، يا متعبد لمن مات موتًا شريرًا، يا من تكرم المذبوح! هنا إن كنت تستحي فأنت ميت! انظر العبارة التي لا تخدع أحدًا. "من ينكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضًا قدام أبي الذي في السموات" (مت 10: 33؛ لو 9: 26).

القديس أغسطينوس

صِرْتُ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ إِخْوَتِي،

وَغَرِيبًا عِنْدَ بَنِي أُمِّي [8].

ما يحزن قلب المرتل أن إخوته، أي بني جنسه، تجاهلوه وحسبوه غريبًا عنهم. أما ما هو أمَرّ من ذلك فإن بني أمه أي أقربائه جدًا الذين يحبهم أيضًا يتجاهلونه. "تجلس تتكلم على أخيك، لابن أمك تضع معثرة" (مز 50: 20). بلغ بالنبي أنه شعر بأن أقرب من له، أباه وأمه قد تركاه. إن أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمني" (مز 27: 10). كما عانى من أحبائه وأقربائه: "أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي، وأقربائي وقفوا بعيدًا" (مز 38: 11).

v     صار غريبًا عن بني المجمع... لماذا لم يعرفوه؟ لماذا دعوه أجنبيًا؟ لماذا تجاسروا قائلين: لا نعرف من أين هو؟ "لأن غيرة بيتك أكلتني" [8]، بمعنى أنني أضطهد فيهم آثامهم؛ لأنني أحتمل بصبرٍ الذين أنتهرهم؛ لأنني طلبت مجد بيتك، لأنني ضربت بالسوط الذين سلكوا في هيكلك بدون لياقة (يو 2: 15).

القديس أغسطينوس

لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي،

وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ [9].

كان المرتل مملوءًا غيرة على بيت الرب، كما على الوصية الإلهية، وعلى خلاص كل نفس وقدسية الحياة.

"أهلكتني غيرتي، لأن أعدائي نسوا كلامك" (مز 119: 39).

v     لاحظوا وجود نوعين من الغيرة، نوع مملوء حبًا والآخر مملوء بغضة. أشير إلى الأول في الكلمات: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9)، والآخر في الكلمات: "أمسكت الغيرة بالشعب الجامد، والآن تلتهم النار أعداءك" (راجع إش 26: 11)[93].

القديس أغسطينوس

v     إن السيد له المجد قد طَرد الباعة من الهيكل مرتين. الأولى في بدء كرازته (يو 2: 12-17)، والثانية قبل آلامه (مت 21: 12). وقد تم المكتوب في سفر المزامير: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9).

v     لكن كيف يمكننا أن نصير مقتدين بالمسيح؟ بممارسة كل شيء من أجل المصلحة العامة وليس لمجرد نفعنا الخاص. يقول بولس: "لأن المسيح أيضًا لم يُرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (رو 15: 3). ليته لا يطلب أحد شيئًا لنفسه. بالحق يطلب الإنسان ما هو لخيره، عندما يتطلع إلى خير قريبه. ما هو لخير الأقرباء هو خيرنا نحن، فنحن جسد واحد، وأعضاء لبعضنا البعض[94].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     في المزمور الثامن والستين (LXX) يقول المخلص إنه لم يأتِ لأجل مسرته بل لأجل مسرة الله الآب. إذ يقول: "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني". (يو 6: 38) اعترض اليهود وحكموا عليه بالموت كخاطئ. لذا يضع المرتل نفسه في موضع المسيح ويقول: "تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (مز 69:9)[95]

الأب أمبروسياستر

وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي،

فَصَارَ ذَلِكَ عَارًا عَلَيَّ [10].

إذ بكى المرتل في تذلل أمام الله رافق البكاء بالصوم. يقول في موضع آخر: "أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13).

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان صائمًا، أي جائعًا وعطشانًا عندما تركه الذين آمنوا به.

v     إنه جوعه أن يؤمن الناس به، وعطشه عندما قال للمرأة: أنا عطشان، أعطيني لأشرب (يو 4: 7)، نعم كان عطشانًا إلى إيمان أولئك الذين قال عنهم: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). ولكن ماذا قدَّم له هؤلاء الذين كان يعطش إليهم؟ قدموا خلاً. الخل Vetus يُدعى أيضًا قديمًا old. لقد أعطوه الإنسان القديم ليشرب، ولم يريدوا أن يتجددوا... لقد قبل أن يصوم عن أن يقبل المرارة... وخلال هذا الصوم قبل العار، فصار موبخًا لأنه لم يقبل الشر.

القديس أغسطينوس

v     من لا يصوم ينفضح ويتعرى ويتعرض للجراحات. لو أن آدم ستر نفسه بالصوم لما صار عريانا (تك 3: 7). تحررت نينوى من الموت بالصوم. والرب نفسه قال: "هذا الجنس من الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" (راجع مت 17: 21؛ مر 9: 29)[96].

القديس أمبروسيوس

v     بعد أن أعطيتِ اهتمامًا عظيمًا لأفكاركِ، يلزمكِ أن تلبسي سلاح الصوم، مترنمة مع داود: "أدَّبتُ بالصوم نفسي" (راجع مز 69: 10). "أكلتُ الرماد مثل خبزٍ" (مز 102: 5). "أما أنا فعندما أقلقتموني كانت ثيابي مُسحًا" (مز 35: 13 الفولجاتا) طُرِدَتْ حواء من الفردوس، لأنها أكلت من الثمرة الممنوعة، وإيليا من الجانب الآخر بعد أربعين يومًا من الصوم حُمِلَ على مركبة نارية إلى السماء[97].

القديس جيروم

جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحًا،

وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلاً [11].

كانت علامات الحزن عند اليهود هي البكاء، والصوم، ولبس المسوح؛ وأحيانًا وضع التراب والرماد. يقول المرتل: "حوَّلت نوحي إلى رقصٍ لي؛ حللت مُسحي، ومنطقتني فرحًا" (مز 30: 11). أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا؛ أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13).

v     جعلت لباسي مسحًا، بمعنى وضعت ضدهم جسدي لكي ينفسوا عن غضبهم، أخفيت عنهم لاهوتي. إنه "مسح"، لأن جسدي كان قابلاً للموت، لكي يدين الخطية في الجسد.

القديس أغسطينوس

يَتَكَلَّمُ فِيَّ الْجَالِسُونَ فِي الْبَاب،ِ

وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي الْمُسْكِرِ [12].

كانت مجالس القضاء عادة تقام عند أبواب المدينة (أي 29: 7-17؛ تث 25: 7؛ يش 20: 4؛ را 4: 1-2؛ 1 مل 22: 20؛ مرا 5: 14). وكان الهدف منها أنه إن أراد مُتَّهم أن يدخل المدينة يلزم دراسة حالته، فلا يُسمَح للظلم أن يُمارَس داخل المدينة.

داود النبي الملك والقاضي صار كمن هو تحت محاكمة ظالمة، أو تحت سخرية من الذين أقاموا أنفسهم قضاة يحكمون عليه. وجاءت محاكمة ابن داود سواء في مجامع دينية أو دور قضاء مدينة تمثل فضيحة للطبيعة البشرية التي تود أن تحكم على ديان المسكونة كلها.

وَجَدَ السكارى الذين يسلكون بلا تعقل في منظر المحاكمة مجالاً للسخرية، يرون في داود مثلاً وهزءًا وأضحوكة.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المُسكِر هو "عرقي بلح" المستخرج من البلح.

v     إخوتي، من يخاف الله يذكر كلمات الرسول بطرس "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (١ بط ٥: ٨). فإن لم يستطع أن يبتلعه عن طريق الانحراف به نحو الشر، يحاول أن يفسد حياته – إن كان ممكنًا – عن طريق انتهاره للناس وقبوله وشايات الألسنة المفترسة، وبهذا يسقط في فخ إبليس.

فمتى عجز الشيطان عن إفساد حياة شخص بريء، حاول إهلاكه بإسقاطه في الشك القاسي من جهة أخيه، والحُكْم عليه بتسرُّع، ممَّا يُسقطه في فخاخه وبهذا يسهل افتراسه.

ومن يستطيع أن يعرف أو يتكلَّم عن كل حيل إبليس وشباكه؟! ومع هذا أشير إلى ثلاث طرق من حيله حَذَّرنا الله ضِدَّها على فم الرسول.

أولاً: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنَّه أية خُلطة للبرّ والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14)

ثانيًا: أن لا نقبل وشاية الألسن المفتريَّة...

ثالثًا: ألاَّ نكون في أدنى شك مُضِر، لا أساس له، من جهة أي خادم من خدَّام الله، متذكرين كلمات الرسول: "لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام، ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله" (١ كو ٤: ٥). كما قيل أيضًا أن الأمور التي من الخارج تخصُّكم أمَّا خفايا الأمور فتخص الرب إلهكم.

إنه من الواضح أن مثل هذه الأمور لا تحدث في الكنيسة دون أن يحزن القدِّيسون والمؤمنون بسببها. ليت الله ذاته يكون عزاءنا هذا الذي أمرنا بأن نحزن وأوصانا ألاَّ نكون فاترين في الحب بسبب هذه الشرور، إنَّما نصبر إلى النهاية حتى نخلص.

فلا تضيفوا إلى آلامي شيئًا بشكوككم التي لا أساس لها، من جهة أي إنسان.

أتوسَّل إليكم ألاَّ تفعلوا هذا، حتى لا أقول لكم إنكم قد زدتم آلام جروحي. لأنَّه من السهل عليَّ احتمال تعييرات من هم يتلذَّذون بشرورهم، هؤلاء الذين قيل عنهم بخصوص المسيح نفسه "صرت لهم مثلاً. يتكلَّمون فيّ. الجالسون في الباب. (وصرت) أغاني شرابي المسكر" (مز ٦٩: ١٢).

هذه التعييرات منهم أسهل عليَّ من أن تصدر من أولئك الذين تعلَّموا الصلاة وطلبوا السعادة. لأنَّه لماذا يجلس مثل هؤلاء عن الباب ويراقبون الساقطين ولو كان الساقط أسقفًا أو كاهنًا أو راهبًا أو راهبة. هؤلاء الذين لهم رجاء للإيمان والقيام؟!

v    إن لم يكن وقت لكثرة رحمتك، ماذا نفعل من أجل كثرة آثامنا؟... لماذا الرحمة؟ في غفران الخطايا! ولماذا الحق؟ في تحقيق الوعود!

القديس أغسطينوس

2. صرخة لأجل الخلاص

أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلاَتِي يَا رَبُّ فِي وَقْتِ رِضًى.

يَا اللهُ بِكَِثْرَةِ رَحْمَتِكَ اسْتَجِبْ لِي بِحَقِّ خَلاَصِكَ [13].

لم يجد المرتل من يرفع إليه شكواه، فقد تكتَّلت كل القوى ضده، وسخر الجميع به، لذا لم يعد أمامه سوى أن يرفع شكواه إلى العرش الإلهي. فإن الطغاة والظالمين لا يقدرون أن يغلقوا هذا الباب أمام المظلومين. يبقى باب العرش الإلهي مفتوحًا، والوقت دائمًا هو وقت رضى، فالله لا يغلق أبواب مراحمه في أوقات معينة. فإن هذه هي مسرته أن يستمع إلى صرخات المظلومين والمضطهدين.

الله يود أن يسمع، ليس من أجل استحقاقات الصارخين، ولا من أجل لجاجتهم، وإنما من أجل كثرة رحمته، واهتمامه بخلاص الجميع، وتمتع الكل بالحق الإلهي.

"هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك" (إش 49: 8).

"اطلبوا الرب مادام يوجد، ادعوه وهو قريب" (إش 55: 6).

"هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو 6: 2).

نَجِّنِي مِنَ الطِّينِ فَلاَ أَغْرَقَ.

نَجِّنِي مِنْ مُبْغِضِيَّ،

وَمِنْ أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ [14].

سبق أن رأينا أن الطين يشير هنا إلى الأشرار، فإن كان الأشرار يضغطون بالاضطهادات على الصديقين لكي يغرقوا، فإن الصديقين من جانبهم يطلبون من الله أن يُحَرِّر نفوسهم حتى لا تسقط تحت قيود الطين، فتتسخ نفسه بالشرور.

يقدم الأشرار اتهامات ظالمة، لكي يشوهوا صورته، فيكون كمن هو غارق في الطين، وتحوطه البغضة من كل جانب، فلا يقبل الأشرار أقل من موته والخلاص منه.

v    "ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا فصارت شباكهم تتخرَّق" (لو 5: 7).

شباكهم امتلأت سمكًا عن طريق المعجزة، لكي يثق التلاميذ بأن عملهم التبشيري لا يضيع سُدى، وهم يلقون شباكهم على جمهور الوثنيِّين والضالِّين.

لكن لاحظوا عجز سمعان ورفاقه عن جذب الشبكة، فقد وقفوا مبهورين صامتين، وأشاروا بأيديهم إلى إخوانهم على الشاطئ ليمدُّوا إليهم يد المساعدة.

معنى ذلك أن كثيرين ساعدوا الرسل القدِّيسين في ميدان عملهم التبشيري، ولا زالوا يعملون بجد ونشاط...

لازالت الشبكة مطروحة، والمسيح يملؤها بمن يخدمونه من أولئك الناس الغارقين في بحار العالم العاصفة والثائرة، كما ورد في المزامير: "نجِّني من الطين فلا أغرق. نجِّني من مبغضيَّ، ومن أعماق نفسي" (مز 69: 14).

البابا كيرلس الكبير

لاَ يَغْمُرَنِّي سَيْلُ الْمِيَاهِ،

وَلاَ يَبْتَلِعَنِّي الْعُمْق،ُ

وَلاَ تُطْبِقِ الْهَاوِيَةُ عَلَيَّ فَاهَا [15].

سبق فأعلن أن جسده قد بلغ إلى أعماق المياه؛ ها هو يطلب ألا تنحدر نفسه إلى أعماق المياه، أي لا تسقط تحت سلطان الأشرار، فيشاركهم شرورهم.

يرى المرتل أن الأحزان والمضايقات والاضطهادات قد تكتلت ضده. ليس من يقدر أن ينقذه منها سواء ساكن السماء، فقد انهارت عليه سيول مياه جارفة، وفتحت الأعماق فاهها لتبتلعه، وأبواب الهاوية تتلقفه.

v     دعونا نفحص خدود العريس ونستمع للعروس التي تتكلم عنها "خداه كخميلة الطيب وأتلام رياحين ذكية" يعني النص أن خديه يشبهان كوبًا للشرب أو آنية ليست عميقة ولا عالية ويعتبر هذا التشبيه مدحًا. فإذا مدح أي شخص نوع من التعليم المفتوح البسيط النقي مثل هذه الآنية فإن عمقه لا يمكن أن نخطئه. كما يقول النبي: "لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا تطبق الهاوية عليَّ فاها" (مز 15:69)[98].

القديس غريغوريوس النيسي

v     "لا تطبق الهاوية عليَّ فاهها" [15]، لأنها عندما تستقبل الخطاة البائسين دون نوالهم دواء التوبة، تُغلق من فوق وتُفتح من تحت. فيكون في الهاوية طريقًا متسعًا، ولكن لا يوجد تنفّس حُر بعد، حينما تضغط الأبواب من فوق إلى أسفل[99].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     "إذًا، مَنْ يظن أنه قائمٌ فلينظر أن لا يسقط"، لأنّ الذي سقط له فكرٌ واحدٌ فقط، هو أن يقوم مرةً ثانيةً، أمّا الذي هو قائمٌ ثابتٌ فعليه أن يكون متيقِّظًا حتى لا يسقط. والسقطات لها أنواعٌ مختلفة. والذين سقطوا فقدوا بلا شكٍّ رسوخ أقدامهم. أما الذي احتفظ برسوخ قدميه فينبغي ألاّ يحكم على الذي سقط بأنه أدنى منه، بل عليه أن يخاف على نفسه لئلاّ يسقط ويهلك ويذهب إلى هوّةٍ أعمق. لأنه حيث إنّ صراخه لأجل النجدة يكون مكتومًا بسبب عمق الهوّة، فربما لا يستطيع أن يطلب معونةً، لأنّ الإنسان البار يقول: "(لعل) العمق لا يبتلعني ولا تُطبِق الهاوية عليَّ فاها" (مز 69: 15).

القديسة الأم سنكليتيكي

اسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ.

كَكَِثْرَةِ مَرَاحِمِكَ الْتَفِتْ إِلَيَّ [16].

صار ملجأ المرتل الوحيد هو مراحم الله الصالحة والفيَّاضة.

"التفت إليَّ وارحمني، لأني وَحْدٌ ومسكين أنا" (مز 25: 16).

v     "استجب لي يا رب، لأن رحمتك عذبة". إنه يقدِّم هذا سببًا لضرورة أن يُستجاب له؛ لأنه عذبة هي رحمة الله... من يسقط في ضيق يلزم أن تكون رحمة الله له عذبة. بخصوص حلاوة رحمة الله، انظروا ما يقوله الكتاب في موضع آخر: "مثل مطر في وقت جفاف، هكذا حسنة هي رحمة الله في الضيق" (سي 17: 28).

ما يقوله هناك حسنة (جميلة) يقول عنها عذبة. حتى الخبز لا يكون حلوًا ما لم يسبقه جوع. لهذا فإنه إن كان الرب يسمح لنا بتعب فهو رحوم. فإنه لا ينزع المعونة بل يلهب فينا الشوق إليها.

القديس أغسطينوس

وَلاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ لأَنَّ لِي ضِيقًا.

اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا [17].

حَجْب وجه الله يحطم النفس، لأن الله هو مصدر حياتها، تحتاج دومًا إلى عنايته الإلهية، والتمتع بالشركة معه.

حَجْب الوجه هو موت للنفس لذا يصرخ طالبًا النجدة، لا بإزالة الاتهامات الظالمة والضيقات وإنما بظهور وجهه الإلهي عليه.

v     إنني في ضيق، حزني قد تقدَّم، فلتتبعه رحمتك.

القديس أغسطينوس

اقْتَرِبْ إِلَى نَفْسِي.

فُكَّهَا.

بِسَبَبِ أَعْدَائِي افْدِنِي [18].

غالبًا ما يشعر الإنسان في لحظات الضيق كأن الله قد ابتعد عنه، وسلَّمه لمضايقيه، أو للضيقات. هنا يصرخ المرتل إلى الله لكي يقترب من نفسه ويفكها، أي يخلِّصها. يشعر المرتل كأن الأعداء قد وضعوا نفسه في موقف لا يمكن لإمكانيات البشرية أن تحلها، فمن أجل هؤلاء الأعداء القساة يتدخل الله بكونه المخلص الوحيد. تدَّخُل الله بمراحمه ونعمته هو الدرس العملي ليدرك الأعداء أن حكمتهم وقدرتهم وسلطانهم كلا شيء أمام الله.

في موضع آخر يصرخ داود النبي: "إلى متى تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أجعل همومًا في نفسي، وحزنًا في قلبي كل يوم؟ إلى متى يرتفع عدوي عليَّ؟ انظر واستجب لي يا رب إلهي... لئلا يقول عدوي قد قويت عليه، لئلا يهتف مضايقي بأني تزعزعت" (مز 13: 1-4).

يطلب المرتل من الله أن يقترب من نفسه ليحلها من رباطاتها، ويخلصها بسبب أعدائها. هنا يرى القديس أغسطينوس أن هذه الطلبة عجيبة، وأن الخلاص إما أن يكون خفية أو علنًا فالله لم ينقذ أجساد الإخوة المذكورين في سفر المكابيين (2 مك 7) من نار المُضطهِدين، بينما أنقذ أجساد الثلاثة فتية المذكورين في سفر دانيال (دا 3: 26). أنقذ نفوس المجموعة الأولى سرًا، وأنقذ أجساد المجموعة علانية.

يرى القديس أغسطينوس إنه لو طبقنا هذا على شخص السيد المسيح، فإنه سمح له أن يخلِّص نفسه سرًا، حيث نزل إلى جحيم وتمم رسالته من جهة الذين كانوا مسبيين، ولكن من أجل الأعداء المقاومين خلص جسده أيضًا حيث قام من الأموات وصعد إلى السماوات، فلم يرَ جسده فسادًا.

أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي.

قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ [19].

كثيرًا ما يشير الكتاب المقدس إلى عار الصليب الذي في حقيقته هو قوة الله للخلاص. وإذ يرتبط المؤمنون- كجسد المسيح- بالمصلوب، يضايقهم العالم، متهمًا إياهم بالعار والخزي والخجل. يُميِّز القديس أغسطينوس بين هؤلاء الثلاثة، متطلعًا إلى العار بكلمات الاستخفاف التي تصدر ضدهم. والخزي هو اتهامهم أنهم بلا ضمير، أو تصرفاتهم تنخر في الضمير، وأما الخجل فهو أن تصرفاتهم تسبب احمرارًا لوجه.

ما هي جريمة المسيحيين- أعضاء جسد المسيح- التي تسبب عارًا وخزيًا وخجلاً؟ يقول القديس أغسطينوس: [يُوَجَّه الاتهام ضد المسيحيين، والجريمة الحقيقية هي أنهم مسيحيون.]

عانى داود النبي الكثير من شاول الملك، كما من ابنه أبشالوم المتمرد. أما بخصوص ما لحق بالسيد المسيح من إهاناتٍ وعارٍ وخزيٍ فقد قيل عنه: "أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر، ومحتقر الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه، وينغضون الرأس، قائلين اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سُرّ به" (مز 22: 6-8). "من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2).

"قدامك جميع مضايقي" [19]. ما أشتكي منه ليس افتراءً، فأنت يا الله العالم بكل شيء، وما يفعله الأعداء الأشرار في الخفاء منظور بالنسبة لك.

كان داود يشعر أنه يشبه حَمَلاً لا حول له، وقد التف حوله ذئاب لا عدد لها.

الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ.

انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ [20].

حتى النساء عندما بكين لما رأين آلام السيد المسيح، قال لهن: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن" (لو 23: 28).

بلا شك أن الضيق والشعور بالظلم يسبب انكسارًا للقلب، ويؤدي إلى إصابة الجسد بالمرض. فالدواء أو العلاج هو وجود معزٍ رقيق المشاعر، يشاركه آلامه. لكن من يستطيع أن يدخل قلب المتألم ويواسيه مثل الله الكلي الحب والحنو؟

يظن بعض الدارسين أن موت السيد المسيح السريع كان بسبب شدة الحزن والضيق، الأمر الذي سبب انكسارًا لقلبه. لكن حقيقة موته- مهما تكن الأسباب- فهي بناء على سلطانه أن يضع نفسه وأن يأخذها، فقد قبل العار والخزي كما قبل الآلام الجسمانية بإرادته من قبل حبه للبشرية، ولأجل خلاص العالم.

إذ تأنس قبل الآلام جاء عنه:

"فصرخ يسوع أيضًا بصوتٍ عظيم، وأسلم الروح" (مت 27: 50؛ راجع مر 15: 37؛ لو 23: 46).

"وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوتٍ عظيمٍ، قائلاً: ألوي، ألوي، لما شبقتني. الذي تفسيره: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مر 15: 34).

"ومعزين لم أجد"، بقدر ما تكاتلت كل القوى المعادية ضده، لم يكن حوله أحد من المعزين. فقد خانه أحد تلاميذه، وأنكره آخر، وتركه الكل في اللحظات المُرَّة. حتى في البستان لم يستطع التلاميذ أن يسهروا معه ساعة واحدة. يقول في إشعياء النبي: "قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب، لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). على الصليب، إذ حمل خطايانا، شعر كلمة الله المتجسد كأن الآب قد حجب وجهه عنه.

هذه الصورة من التخلي عنه من الجميع فريدة، داود النبي لم يعانِ منها هكذا.

v     تطلع النبي بعينيّ النبوة إلى يسوع المتألم فرآه آتيًا من آدوم بثياب حُمر فسأله: "ما بال لباسك مُحمرّ وثيابك كدائس معصرة" (إش 63: 2).

رأى لباسه قد أغرق بالدماء، وثيابه كمن قد اِجتاز معصرة، فانسكبت دماؤه كلها. وقد صور يسوع نفسه حاله على لسان أنبيائه فقال: "قد دُستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3).

"اِنتظرتُ رقَّة فلم تكن، ومعزِّين فلم أجد" (مز 69: 20).

"أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اِكتنفتني. فغروا علي أفواههم كأسد مفترس مزمجر. لقد أحاطت بي كلاب جماعة من الأشرار اِكتنفتني" (مز 22: 12، 13، 16).

"فنظرت ولم يكن معين وتحيرت إذ لم يكن عاضد" (إش 63: 5).

ربي... لقد اِجتزتَ المعصرة وحدك... أُهرق دمك الزكي وليس من يدافع ولا من يترفق!

القدِّيس مار يعقوب السروجي

v     الذين يقابلوننا في الطريق – الآتون إلينا من الشرق أو من أرمينيا أو من أية بقعة في الأرض - تنساب دموعهم كالنهر كلما رأونا، كانوا ينوحون وهم يرافقوننا في الطريق في أنينٍ!

أقول هذا لكي تعرفي أن لي أحباء كثيرين، يشاركوننا عذابنا، وهذه تعزية كبيرة لنا. فلو أن الأمر على خلاف ذلك لكان الوضع ثقيلاً يصعب احتماله، وهذا ما يشتكي منه النبي قائلاً: "انتظرت إنسانًا يشاركني آلامي فلم يكن، ومعزِّين فلم أجد" (مز 69: 20).

يا لها من تعزية عظيمة أن يجد الإنسان العالم كله يشاركه أحزانه!...

إننا نجد أيضًا في ذكرى الآلام مصدرًا للفرح المستمر.

إذ تفكرين في هذا انزعي عنكِ غيم الحزن، واكتبي لي باستمرار عن صحتك.

تأملي هذا أن الأمور المفرحة والمحزنة في الحياة الحاضرة تعبر جميعها. فإن كان الباب ضيقًا والطريق كربًا، فإنه مهما يكن الأمر فهو طريق! اذكري هذه العبارة التي كررتها لك كثيرًا: "إن كان الباب واسعًا والطريق رحبًا فإنه هو أيضًا مجرد طريق" (راجع مت 7: 13).

عندما تتركين الأرض وتنحلين عن الجسد، ابسطي جناح الحكمة، حتى لا يهلكك سواد الدخان. إنها أمور أرضية، لا تنسحبي إلى الأرض!

إن رأيتي ظلمًا كثيرًا صنعوه بنا، وقد سيطروا على العاصمة، وتمتعوا بكرامات، وساروا في مواكب الحرس، رددي هذه العبارة "واسع هو الباب ورحب هو الطريق الذي يؤدى إلى الهلاك".

بالأحرى أبكي عليهم. ونوحي من أجلهم!

إنهم يصنعون آثامًا في العالم، وعوض تفكيرهم في خطاياهم يتمتعون باحترامات الناس. سيذهبون ومعهم احترامات الناس بكونها جزاءًا قد نالوه! [100]

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إذا أذابت الحرارة الشمع فإنّ البرودة تكون سببًا في صلابته. فإذا جعل المديح النفس تفقد عافيتها، إذًا فمن المؤكَّد أنّ التوبيخ والإهانة يقودان النفس بكل تأكيد إلى قمم الفضيلة. يقول الكتاب: "اِفرحوا وتهللوا... إذا قالوا عليكم كل كلمةٍ شريرةٍ من أجلي كاذبين" (مت 5: 12-11)، وفي مكانٍ آخر: "في الشدّة فرّجتَ عني" (مز4: 1 حسب السبعينية)، وأيضًا: "انتظرَت نفسي انتهارًا وإذلالاً" (مز 68: 20 حسب النص). وتوجد أيضًا آيات لا حصر لها مثل هذه في الكتاب المقدس نافعة للنفس.

القديسة الأم سنكليتيكي

وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا،

وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاً [21].

هذا لم يحدث مع داود النبي، لكنه حدث حرفيًا مع السيد المسيح عند صلبه، كما ورد في الإنجيل المقدس.

يرى البعض أنه قُدم له على دفعتين أو ربما على ثلاث دفعات.

أ. قدموا له خلاً ممزوجًا بالمر (مت 27: 34).

ب. قدموا له خلاً غير مضاف إليه مُرّ (مت 27: 48).

ج. ربما قدم له خمر ممزوج بمرٍ.

كان شرب الخل شائعًا بين الجنود الرومان، أما الخمر الممزوج بالمُر فبين اليهود. وهذا كله كان يُقدَّم من أجل التخفيف عن الآلام التي للصلب غير المحتملة، لكن هنا في المزمور ورد ذلك كنوعٍ من الاستخفاف والسخرية، وليس كنوعٍ من الشفقة على المصلوب. ورد في لو 23: 36، أنه قُدم له كنوعٍ من السخرية.

ورد المُر gall في النسخة العبرية للكتاب المقدس 11 مرة، 8 مرات جاءت بمعنى المُر، ومرة بمعنى السم، ومرة بمعنى حقد venom، ومرة بمعنى الشوكران hemlock، وهو نبات يُستخرج من ثمره شراب سام. هذا المر غير مستخرج من كبد حيوانات، وإنما من نباتات أو من جذورها (تث 29: 18).

رأينا في حديثنا عن صوم السيد المسيح، أنه كان جائعًا وعطشانًا لإيمان الناس به لأجل خلاصهم. لقد عطش، فقدموا له خلاً، الذي معناه "قديم". يطلب للبشرية التجديد المستمر ليحملوا بالإيمان صورته، لكنهم مصرون على تقديم الخل، أي الحياة القديمة.

v     كنت عطشانًا، فقدموا لي خلاً، بمعنى كنت مشتاقًا لإيمانهم، ولكنني وجدت فيهم القدم (الإنسان القديم لا الجديد).

القديس أغسطينوس

v     هكذا تكلم أيضًا داود النبي مشيرًا إلى الصليب قائلاً: "ثقبوا يديَّ ورجليَّ" (مز22).

لم يقل "سيثقبون"، بل "ثقبوا"، و"أُحصي كل عظامي" (مز 22: 17).

ويصف أيضًا ما يحدث بين الجنود قائلاً: "مقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 18).

وأشار أيضًا إلى تقديمهم المر إليه ليأكل، وخلاً ليشرب فقال: "ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلاً" (مز 69: 21).

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     بالرغم من احتمال كل هذه الآلام إذ جاء لخلاص الجميع إلاّ أن الشعب (اليهودي) جازاه مجازاة شريرة. قال يسوع "أنا عطشان". هذا الذي أخرج لهم الماء من الصخرة الصماء، يطلب ثمر كرمته التي زرعها، فماذا فعلت كرمته؟ هذه الكرمة التي بحسب الطبيعة هي من الآباء القديسين، لكنها بحسب قلبها مثل سدوم. "لأن جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة" (تث 32: 32). قدمت هذه الكرمة لسيدها إسفنجًا مغموسًا خل فوق قصبة. "ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلاً" (مز 69: 21).

ها أنت ترى وضوح النبوة وصفاءها! لكن أي نوع من العلقم وضعوا في فمه؟ "أعطوه خمرًا ممزوجًا بمرّ" هذا المر طعمه كالعلقم شديد المرارة. أبهذا تجازي الرب أيتها الكرمة؟! أهذه تقدمتك له؟! بالحقيقة قال إشعياء في القديم مولولاً عليك: "كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة. فنقبّه ونقّىّ حجارته وغرسه كرم سورق... فانتظر أن يصنع عنبًا (إذ عطش طالبًا عنبًا) فصنع شوكًا" (راجع إش 5: 1-2).

هل رأيت الإكليل التي تزينت به؟! لكن ماذا أفعل؟ "سأوصي السحب أن لا تمطر عليه مطرًا" (راجع إش 50: 6). لأن السحب هي الأنبياء الذين نُزعوا من بينهم وصاروا للكنيسة...[101]

القديس كيرلس الأورشليمي

v     لقد قبَّل يهوذا ليس لأن المسيح يعلمنا أن نتظاهر، وإنما يعلمنا أنه لم يرد أن يهرب من الخائن. لهذا لم يحرم يهوذا من تقديم التزام الحب له. مكتوب: "كنت رجل سلام مع الذين يبغضون السلام" (مز 69: 21 LXX) [102].

القديس أمبروسيوس

v     من بين الأمور الأخرى التي تنبأوا بها عنه، مكتوب: "يجعلون في طعامي علقمًا (سمًا)، وفي عطشي يسقونني خلاً" (مز 69: 21). نحن نعرف في الإنجيل كيف حدثت هذه الأمور. أولاً قدموا علقمًا. أخذه وذاقه وتفله. فيما بعد وهو على الصليب معلقًا فلكي تتحقق هذه النبوات قال: "أنا عطشان" (يو 19: 28). أخذوا إسفنجة مملوءة خلاً ووضعوها على قصبة، وقدموها له حيث كان معلقًا. أخذها وقال: "قد أكمل" (يو 19: 30). ماذا يعني: "قد أكمل"؟ كل ما قد تنبئ له قبل آلامي قد تحقق[103].

القديس أغسطينوس

3. مجازاة الأشرار المقاومين

لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخًّا،

وَلِلآمِنِينَ شَرَكًا [22].

ترتبط هذه العبارة بالعبارات الثلاث التالية [23-25]. وكما يقول القديس أغسطينوس لم يكن هذا القول إلا نبوة قيلت في أسلوب يبدو كمن يشتهي للأعداء هذا. فالسيد المسيح لم يُصَلِّ ضد أعدائه، وإنما من أجلهم (لو 23: 34).

لقد صار طعامهم ليس موضوع لذةٍ وسرورٍ، وإنما كفخٍ يصطادهم، كما يحدث مع الحيوانات عند اصطيادهم بوضع طُعم لها. فما يظنونه طعامًا يقوتهم، يصير لهم فخًا لهلاكهم. وما يحسبونه لسلامهم، إذا به يكون لسقوطهم. فيما هم يظنون أنهم قد صاروا في أمان بعد صلب السيد المسيح، إذا بهم في فخٍ لا يعرفون كيف يهربون منه.

في جوعه وعطشه إلى إيمانهم وحبهم يود أن يهبهم ذاته حياة أبدية، فقدموا له عوض الطعام والشراب علقمًا وخلاً. جحدوا الإيمان به ونصبوا فخًا خفيًا للخلاص منه. أما هو فحزين عليهم، لأنهم في طعامهم يُنصب لهم الفخ. طعامهم أن يبتلعوه هو ومؤمنيه وهم أحياء. يقول المرتل: إذًا لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا" (مز 124: 3).

بقوله "قدامهم" يُعلن أنه يود أن يكتشفوا الخطر الذي حلّ بهم، فيعترفوا بخطئهم ويهربوا من الفخ الذي نصبوه لأنفسهم.

v     قد يبدو لقليلي الفهم أن بعض النصوص الكتابية مناقضة لشريعة السيد المسيح الآمر بمحبة الأعداء. فلقد جاء في العهد القديم كثير من الأدعية ضد الأعداء، مثال ذلك "لتَصِر مائدتهم... فخًّا" (مز 22:69)، "ليكن بنوهُ أيتامًا وامرأته أرملة" (مز 9:109) وغيرها من تلك العبارات التي جاءت في نفس المزمور متنبئة عن يهوذا.

أما في العهد الجديد فلقد جاءت بعض النصوص التي يبدو فيها شيء من التعارض مع وصية الرب ووصية الرسول "باركوا لاعنيكم". مثال ذلك ما قاله رب المجد عندما لعن المدن التي لم تقبل كلمته (مت 20:11-25)، وما جاء على لسان الرسول عن شخص معين ليجازه الرب حسب أعماله" (2 تي 14:4)[104].

القديس أغسطينوس

لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ الْبَصَرِ،

وَقَلْقِلْ مُتُونَهُمْ دَائِمًا [23].

“الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله" (2 كو 4: 4).

اقتبس الرسول بولس هذا النص في حديثه عن اليهود الذين رفضوا الإنجيل (رو 11: 10). الذين قاوموا السيد المسيح وكنيسته يفقدون روح الفهم والمعرفة ويصيرون عميان روحيًا.

جاءت كلمة "متون" في الترجمة السبعينية: "ظهور"، فإن قوة الإنسان في حقويه، فإن كان ظهر الإنسان (أو حقويه) ضعيفًا لا يقدر أن يمارس عملاً ما، بل غالبًا ما يكون ظهر محنيًا أو في حالة شبه فالج.

v     هذا يعني أنه ليت تعزياتهم وخيراتهم تتحول إلى هلاكهم، وأن يكونوا مفتوحين لكي يهاجمهم كل أحدٍ[105].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     لما ضُرب إخوة يوسف بالحسد قدَّموا ظهورهم لا وجوههم للحب الأخوي، هكذا أيضًا اليهود التعساء فضَّلوا الحسد عن الحب لمصدر الخلاص، الذي جاء إليهم. مثل هؤلاء قيل عنهم في المزمور: "لتظلم عيونهم عن البصر، ولتكن ظهورهم واهية دائمًا" [23].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     كانت هذه (الظلمة أثناء الصلب) علامة واضحة لليهود أن أذهان صالبيه قد التحفت بالظلمة الروحيَّة، إذ حدث عَمَى جزئي لإسرائيل (رو ١١: ٢٥)، وقد لعنهم داود في محبَّته لله، قائلاً: "لتَظلمّ عيونهم فلا ينظروا" (مز 69: ٢٣).

انتحبت الخليقة ذاتها ربَّها، إذ أظلمت الشمس، وتشقَّقت الصخور، وبدا الهيكل نفسه كمن اكتسى بالحزن، إذ انشقَّ الحجاب من أعلى إلى أسفل. وهذا ما عناه الله على لسان إشعياء: "أَُلبس السماوات ظلامًا، وأَجعل المُسح غطاءها" (إش ٥٠: ٣)[106].

القدِّيس كيرلس الكبير

v     عدم استحقاق الراعي غالبًا ما يكون متلازمًا مع عدم استحقاق الرعية، فإذا كان الرعاة لا يملكون نور المعرفة نتيجة لخطيئتهم الشخصية فإنه تبعا لذلك تعثر الرعية بسبب جهلها حسب قصاص القضاء. من أجل ذلك قال رب المجد يسوع: "إن كان أعمى يقود أعمي يسقطان كلاهما في حفرة." (مت 15: 14؛ لو 6: 39) وفي هذا قال صاحب المزامير متنبئًا: "لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائمًا." (مز 69: 23). إن القادة هم بالحقيقة عيون، إذ أنهم في واجهة أعلى الرتب وقد أخذوا على عاتقهم توضيح الطريق، أما الذين يتبعونهم فقد ارتبطوا بهم وعليه فهم يدعون "بالمتون". وهكذا عندما تظلم العيون، تنحني المتون أيضًا، لأنه عندما يفقد القادة نور المعرفة، ينوء الذين يتبعونهم تحت نير خطاياهم[107].

الأب غريغوريوس (الكبير)

v     لأننا حين نكد في عملٍ ما، وننحني بانشغال به والميل إليه، فإننا نستلقي عادة ونستريح. لكن الخطاة الذين اقترفوا آثامًا شنعاء، خاصة الأشرار منهم لا يمكن أن يستلقوا ويستريحوا. إذ قيل عنهم: "إحنِ ظهورهم دائمًا" (مز 23:69). لأن الذين لا يلتصقون بالمسيح، لا يرتفعون بأنفسهم إلى السماويات، من ثم لا يرتفع معه الذين موتهم شرير جدًا، كما هو مكتوب "موت الأشرار شرير للغاية" (مز 21:34)، لكن الإنسان الذي يموت مع المسيح، ويدفن مع المسيح، لا يجد راحةً فقط بل وقيامة أيضًا (راجع رو 4:6). وعن هذا الإنسان قيل بحق "شفيتَ كلَ ضعفاته في مرضه" (مز3:41)، خاصة إذا كان شهيدًا، تنكشف ضعفاته في الآلام، وموته بالقيامة[108].

القديس أمبروسيوس

صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ،

وَلْيُدْرِكْهُمْ حُمُوُّ غَضَبِكَ [24].

لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَابًا،

وَفِي خِيَامِهِمْ لاَ يَكُنْ سَاكِنٌ [25].

هنا نبوة عن العقوبات المفجعة التي تحل عليهم من قبل الغضب الإلهي.

أعلن ذلك السيد المسيح حين بكى على أورشليم ورثاها، قائلاً: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت 23: 37-38).

اقتبس القديس بطرس هذه العبارة وطبَّقها على يهوذا الخائن: "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خرابًا، ولا يكن فيها ساكن" (أع 1: 20).

لأَنَّ الَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ،

وَبِوَجَعِ الَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ [26].

من الصعب جدًا أن يُطبق هذا على داود النبي، لكنه تحقق بالنسبة للسيد المسيح حيث قيل عنه: "ونحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله، ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه" (إش 53: 3-4). "فيقول له ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول: هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي... اضرب الراعي فتشتت الغنم، وأرد يدي على الصغار" (زك 13: 6-7). لقد ضُرِبَ السيد المسيح بكونه الراعي، فتشتت الغنم[109].

ربما يتساءل أحد: لماذا يلقي باللوم عليهم إن كانوا يطردون أو يضطهدون من يضربه الله ويضيفون جراحات لمن يجرحه الله؟

بالنسبة للسيد المسيح فإن ما حلَّ به هو حسب مسرته ومسرة الآب أن يتألم ويُصلب من أجل خلاص العالم. أما هم ففعلوا هذا لا لأجل هدف صالح، وإنما بسبب حسدهم وحقدهم.

أما بالنسبة للمؤمنين فيَسمَح الله أحيانًا بتأديبهم لأجل بنيانهم، أو لأجل تزكيتهم، أم هم فيستغلون هذا ليمارسوا بغضهم وكراهيتهم.

v     لم يرتبك التلاميذ فقط، بل بالحري الأمر كان قد أقلقهم جدًا، وكان من الصعب عليهم إدراك هذا السرّ، كيف يمكن أن يقوم من الأموات، أو كيف من يصنع آيات لا حصر لها لحساب الشعب يُسلم لموت والعار؟ لكن هذا يتفق مع ما قاله النبي: "اضرب الراعي" (زك 13: 7). يقول أيضًا داود للآب: "لأن الذي ضربته أنت هم اضطهدوه" (مز 69: 29 LXX)... لقد قبل الآب باختيار الابن أن يتألم هكذا. لقد سمح له أن يتألم مع أنه كان له السلطان أن يمنع الألم. هذا الأمر واضح من العبارة الخاصة بسلطان بيلاطس على المسيح. "لم يكن لك سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق" (يو 19: 11)، أي "لو لم يسمح لي الآب أن أتألم"[110].

القديس كيرلس الكبير

اِجْعَلْ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِمْ،

وَلاَ يَدْخُلُوا فِي بِرِّكَ [27].

إذ يسقط الإنسان في إثم يجد نفسه ينجرف إلى إثم آخر، وهكذا كل خطية تدفع الإنسان إلى خطية أخرى. أو كما يقول آباء البرية، إنه إذ يسقط الإنسان في خطية ولا يقدم توبة عنها يصير ألعوبة يتلقفه شيطان ليسلمه لآخر في سخرية. بهذا يفقد الإنسان رجاءه في الخلاص والتمتع ببرّ المسيح، إذ يجده نفسه قد سقط في كم خطير من خطايا متباينة!

يرى البعض أن السقوط في خطية يولِّد خطية جديدة، فتتكاثر الخطايا، ما لم يركز الإنسان عينيه على المخلص القادر أن يقيمه ويهبه إمكانية الشركة معه.

يرى القديس أغسطينوس أنهم إذ صلبوا السيد المسيح وهم يحسبونه إنسانًا عاديًا ارتكبوا إثمًا، أما وقد أعلن عن نفسه وشخصه وأصروا على مقاومته فيزداد إثمهم إثمًا، وكما يقول السيد المسيح نفسه في مثل الكرم والكرامين: "وأما الكرامون، فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38). كما قال لهم: "لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية. ولكن الآن تقولون إننا نبصر، فخطيتكم باقية" (يو 9: 11). وأيضًا: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية. وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22).

لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ الأَحْيَاء،ِ

وَمَعَ الصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا [28].

"سفر الحياة": أشار إليه موسى النبي بكونه رمزًا، كأن الله يسجل أسماء الصديقين الذين يتمتعون بالحياة الأبدية. عندما أخطأ الشعب خطية عظيمة وبخهم، وصعد إلى الرب ليكفر عن خطيتهم، حيث صنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب؛ وفي نفس الوقت شفع فيهم، قائلاً للرب: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32).

يرى البعض[111] إن فكرة هذا الكتاب مصدرها الآتي:

أ. ربما ما اعتاد عليه قادة الجيوش من حذف اسم الجندي الذي يهجر الجندية أو يموت من سجل الجندية.

ب. وجود سجلات دقيقة لبعض المدن يُسجَّل فيها أسماء المواطنين، كحصر لهم. يحذف من هذه السجلات أسماء المرتدين عن الإيمان، والفارين والمجرمين وأيضًا الأموات.

ج. ربما جاءت من فكرة قيام بعض الممالك والإمبراطوريات بعمل اكتتاب من حين إلى آخر لكل الدول التابعة لها (لو 2: 1).

الله بسابق علمه يعرف الصديقين فيختارهم ويمجدهم. فمحو اسم الشرير من سفر الحياة، إنما صورة رمزية لدور الشرير نفسه في حرمانه من المجد الأبدي.

عندما قاوم اليهود الرسولين بولس وسيلا، قال الرسولان: "كان يجب أن تُكلَموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46).

يقول الرسول بولس: "لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه... والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا. والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا. والذين بررهم، فهؤلاء مجدهم أيضًا" (رو 8: 29-30).

v     الذين لا يلتصقون بالمسيح لا يرتفعون إلى السماويات، وبالتالي فإن هؤلاء الذين موتهم شرير للغاية لا يقومون معه كما هو مكتوب: "موت الخطاة شر للغاية". أما الإنسان الذي يموت مع المسيح ويُدفن معه، لا يجد فقط راحة، بل وقيامة[112].

القديس أمبروسيوس

v     بينما كان لا يزال يصلِّي ظهر له ملاك الرب مُرعِب للغاية، وقد أمسك بيده سيفًا ناريًا استله. قال لأبينا باخوميوس: "كما أن الله محا اسمه من سفر الحياة (خر 32: 32-33؛ مز 69: 28) هكذا فلتسحبه من وسط الإخوة، فإنهم ليسو جاهلين. فإنه بالحقيقة حتى بالنسبة للجاهلين فان النجاسات التي من هذا النوع تظهر كرجاسات أمام الرب"[113].

سيرة القديس باخوميوس

ربما يتساءل أحد إن كان بيلاطس بنطس الوالي قال: "ما كتبت قد كتبت" (يو 19: 22)، فكيف يمحو الله اسم شخص سجله في كتاب الحياة؟ ألا يعلم الله مسبقًا إن كان سيتمتع بالحياة الأبدية أم لا؟ للإجابة على ذلك فإن المرتل يُحدِّث أناسًا أشرار يَحسبون أنفسهم أبرارًا، فهم يظنون أنهم ببرهم قد سجلوا أسماءهم في سفر الحياة مع طغمة الصديقين. يؤكد لهم المرتل أنهم وإن ظنوا هذا فإن الله يمحو أسماءهم من سجل الصديقين.

هذا ومن جانب آخر، فإن الله في محبته للبشرية كثيرًا ما يحدثهم بلغتهم البشرية حسب مفاهيمهم. فبقوله يمحو أسماءهم لا يعني المفهوم الحرفي، لأنه لا يوجد كتاب بالمفهوم المادي.

4. تسبحة نصرة

أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ.

خَلاَصُكَ يَا اللهُ فَلْيُرَفِّعْنِي [29].

إن كان النبي يشكو من هؤلاء الأعداء القساة، المقاومين في تشامخ، يعترف أنه مسكين وبائس، عاجز بنفسه عن المقاومة. لا يقاوم العنف بالعنف، إنما يشعر بثقل المرارة والحزن الشديد، ليس من يقدر أن يعزيه ويرفع نفسه المنحنية غير الله.

لقد حمل السيد المسيح كل خطايا العالم، وصار ذبيحة خطية عنهم، وقبل بإرادته أن ينزل عن الجحيم، لكي إذ يقوم ويصعد إلى السماء يحمل فيه أصحاب القلوب المنكسرة.

صار الغني - خالق السماء والأرض - مسكينًا وحزينًا، لكي يحمل المساكين والحزانى إلى ملكوته السماوي المفرح.

أُسَبِّحُ اسْمَ اللهِ بِتَسْبِيح،ٍ

وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ [30].

جاء السيد المسيح إلى أرضنا يشاركنا آلامنا، لكنه وهو متألم، بل وهو حامل آلامنا كان متهللاً بالروح من أجل البسطاء والأطفال الذين يتمتعون بإعلانات إلهية يعجز الحكماء عن إدراكها (لو 10: 21). وإذ قام من الأموات لم نسمع عنه أنه بكى أو حزن بعد. إنه يود أن نشاركه الحياة المُقامة فتتحول أحزاننا إلى تسبيح لا ينقطع، وفرحٍ مجيد دائم. إنه يحملنا بصليبه إلى بهجة قيامته، وحياة النصرة على آخر عدو وهو الموت (1 كو 15: 55-57).

هنا يكشف للمساكين والحزانى الغنى الحقيقي والفرح الذي لا يُنزع منهم، وهو التسبيح لاسم الله، وتقديم الحمد لعظمته.

فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ الرَّبِّ،

أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ [31].

إذ تتحول حياتنا إلى تسبيح دائم، يتقبل هذه التسابيح كذبيحة يُسر بها أفضل من الذبائح الحيوانية. "ذابح الحمد يمجدني" (مز 50: 23).

v     تخرج تسبحته من فمي فتسر الله أكثر من ذبيحة ثمينة تُقدَّم على مذبح.

القديس أغسطينوس

يَرَى ذَلِكَ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ،

وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي اللهِ [32].

ليس ما يُسر قلب المؤمن أكثر من قبول الله لذبائح الحمد والشكر والتسبيح. إنه بهذا ينعم بعربون الحياة الأبدية والشركة مع السمائيين. "يُسبِّح الرب طالبوه، تحيا قلوبكم إلى الأبد" (مز 22: 26).

يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن وهو يوجه بصيرته الداخلية لتتفرس في الله إنما تطلبه لكي تجده فتحيا نفسه. وإذ تجده تشتاق إليه لتبلغ إلى أعماق جديدة فتطلبه، وتبقى في هذا الطلب في نمو دائم لا ينقطع!

v     لنوجِّه نظرات عقولنا بمعونة الرب، فتطلب الله. كلمة النشيد الإلهي هي: "اطلبوا الله، فتحيا نفوسكم" (راجع مز 69: 33). لنطلب ذاك الذي يوجد، بهذا نطلب الموجود. إنه يختفي لكي نبحث عنه ونجده. إنه فوق كل قياس حتى عندما يوجد؛ وعندما يوجد يمكن أن يُبحَث عنه... لهذا لم يُقل: "اطلبوا وجهه دائمًا" كما يحدث بالنسبة لبعض البشر: "دائمًا تتعلمون ولن تبلغوا معرفة الحق"، بل بالحري يُقال عنه: "عندما يبلغ الإنسان إلى النهاية عندئذ تكون البداية"[114].

v     اطلبوا الرب يا أيها المساكين، الجائعين والعطاشى، فإنه هو نفسه الخبز الحي النازل من السماء (يو 6: 33، 51). "اطلبوا الرب فتحيوا". أنتم تطلبون خبزًا لكي يحيا جسدكم، وتطلبون الرب لكي تحيا نفسكم.

القديس أغسطينوس

لأَنَّ الرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ،

وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ [33].

يشتاق الله أن يجيب طلبات شعبه وصلواتهم، إن حملوا روح التواضع. إذ يسمعونه يقول: "ويكون إني قبلما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" (إش 65: 24). إنه لا يستخف بالذين سجنوا لأجله، وصاروا من أجل اسمه أسرى. ينسبهم إليه، فيدعوهم النبي "أسراه" أو المسجونين لأجله. "لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق" (إش 61: 1). "مُخرج الأسرى إلى فلاحٍ" (مز 68: 6).

لا يكف الله عن أن يمل أذنيه ليسمع تنهدات المأسورين. "ليدخل قدامك أنين الأسير" (مز 79: 11).

v     الغِنَى الحقيقي للإنسان المسكين هو التأمل في الخليقة وتسبيح الخالق.

القديس أغسطينوس

تُسَبِّحُهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْبِحَارُ،

وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا [34].

كل المسكونة تُسبِّح الله، السماء والأرض والبحر، كل المؤمنين أينما وُجدوا في اتحاد مع السمائيين يكونون جوقة رائعة للتسبيح لمخلص العالم.

لأَنَّ اللهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْن،َ

وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا

فَيَسْكُنُونَ هُنَاكَ وَيَرِثُونَهَا [35].

يبدأ المرتل بعض المزامير بصيغة الجمع وينتهي بصيغة المفرد كما في المزمور 66 حيث يبدأ بهتاف الأرض كلها لله [1-12] وينتهي بعبادته الشخصية في بيت الرب وتمتعه بمراحمه الإلهية [13-20]. وفي مزامير أخرى يبدأ بعلاقته الشخصية بالله [69: 1-31] وينتهي باشتراك سكان السماء والأرض والذين في البحار في التسبيح لله، واهتمام الله بخلاص صهيون وبناء مدن يهوذا [69: 32-36]. أحيانًا يتحدث بصيغة المفرد كل المزمور، وتارة بصيغة الجمع. ماذا يعني هذا سوى أنه ليس من عزل بين العلاقة الشخصية التي تربط المؤمن بالله، وعلاقته كعضو في الجماعة المقدسة بالله. فإذ يبني الله أورشليم الداخلية في القلب إنما يعمل في الجماعة كلها، وإذ يهتم بالجماعة فإنه يعمل في كل مؤمن كأن حبه له يعادل حبه لكل الجماعة.

"فيسكنون هناك ويرثونها" [35]، من هم الذين يسكنون في مدن يهوذا سوى الودعاء وطالبو الرب والمساكين والأسرى والمُسَبحين سواء كانوا في السماء أو على الأرض أو في رحلتهم عبر البحار [32-34]. إنه يجمع الكل متى تمتعوا بعمله الخلاصي ليقيم منهم صهيون الجديدة، كنيسة الله المقدسة.

v     "لأن الله يخلص صهيون" [35]. إنه يجدد كنيسته، المؤمنين من الأمم المنضمين إلى ابنه الوحيد. إنه لا يخدع الذين يؤمنون به بخصوص مكافأة وعده. "لأن الله يخلص صهيون، ويبني مدن يهوذا". هذه هي الكنائس عينها. لا يقل أحد متى يبني مدن يهوذا؟ يا من تريد أن تتعرف على الصرح العظيم، كن حجرًا حيًا حتى تدخل فيه. الآن مدن يهوذا تُبنَى، لأن كلمة "يهوذا" معناها "اعتراف". بالاعتراف في تواضعٍ تُبنَى مدن يهوذا، حتى تبقى بدون المتشامخين الذين يستحون من الاعتراف.

القديس أغسطينوس

وَنَسْلُ عَبِيدِهِ يَمْلِكُونَهَا،

وَمُحِبُّو اسْمِهِ يَسْكُنُونَ فِيهَا [36].

السِمَة العامة في كل شعب الله الحقيقي الذي يتمتع بالسكنى مع الله، أو سكنى الله في وسطهم هي الحب "محبو اسمه يسكنون فيها" [36] يتمتعون بذلك هم ونسلهم الذين يسلكون على منوالهم ويشتركون معهم في إيمانهم.


 

من وحي مز 69

من الأعماق صرخت إليك

v     انهمرت سيول الأشرار عليَّ،

دخلت المياه إلى نفسي،

وغاصت كما في أعماق وَحْلٍ بلا حدود!

ماذا يطلب الأشرار مني؟

إنهم تراب ووحل،

لن يستريحوا حتى تتحول أعماقي إلى وحلٍ وفسادٍ!

أصرخ إليك، فتُحوِّل مقاومتهم لبنيان نفسي.

بنار الضيقات تُحوِّل ترابي إلى ذهب ثمين!

وتُخرِج من الإناء الفخاري إناء للكرامة!

v     أنت وحدك تسمع صرخات قلبي!

لقد يبس حلقي من الصراخ.

وكلَّت عيناي من ترقبي لمجيئك.

لتحل في داخلي،

تحول مرارتي إلى عذوبة.

وينفتح فمي للتسبيح والحمد،

وتنفتح عيناي، لترى عظم جمالك وبهائك!

v     إن كان الأعداء قد كثروا أكثر من شعر رأسي،

فإني أتحد بك يا رأس الكنيسة.

فتتبدد كل خطط الأشرار.

v     هاج الملوك والرؤساء عليك بلا سبب.

حكموا عليك ظلمًا.

بحبك قبلت الصليب، لتدفع دينًا لم تقترضه.

لأتحد بك أيها المصلوب،

فتتحول كل الاضطهادات إلى شركة مجد معك!

أجد في العار، عار الصليب، قوتك للخلاص.

عوض الخزي والخجل أعتز بنَسَبي لك.

v     ليحسبني العالم غريبًا عنه وأجنبيًا.

بك صرت من أهل بيت الله!

صمت عن العالم وكل ما فيه،

لأنك أنت شبعي وفرحي.

v     ليلبس جسدي المسوح، وليحسبني العالم مثلاً،

وليسخر الساكرون بالعالم بي.

فأنت هو لباس نفسي ومجدي، وإكليلي!

أنت هو تسبحتي وفرحي.

v     هوذا العدو – إبليس - بكل طاقاته يود أن يغرقني.

هل تقدر الهاوية أن تبتلع ما هو لك؟

هل يقدر إبليس أن يحطم من يختبر عذوبة رحمتك؟

لتكثر الضيقات، فبدونها لا أستعذب رحمتك.

بدونها لن تعطش نفسي للتمتع ببهاء وجهك.

بدونها لا تصرخ أعماقي لتقترب أنت إليَّ

v     في وسط آلامك صرخت وأسلمت الروح، يا خالق الأرواح والأجساد!

تركك الجميع، ليس من يقدم رقة وحنوًا،

ولا من ينطق بكلمة تعزية.

حقًا إذ صرت مجرَّبًا تعين المجربين.

وحين يطردنا العالم من المحلة،

نحمل معك عار الصليب.

v     ليقدم لي العالم علقمًا وخلاً!

أنت طعامي وشرابي،

تحول المرارة إلى حلاوة.

أنت طعام الملائكة، تشبع النفوس!

v     نفسي حزينة للغاية،

من أجل الذين أعدوا لأنفسهم مائدة،

فإذا بهم يُعدُّون فخًا لأنفسهم.

أظلمت عيون قلوبهم، ففقدوا رؤية السماويات.

وضعفت قوتهم، فانحنت نفوسهم كما في عبودية مرة.

تحولت بيوتهم إلى خراب،

لأن قلوبهم صارت خاوية لا يسكنها روحك القدوس.

v     في محبتك لي تسمح بتأديبي.

فيجد الأشرار فرصتهم لبث سمومهم.

يضيفون إلى جراحاتي جراحات جديدة.

شتان بين جراحاتي التي تسمح لي بها لبنياني،

وجراحات الأشرار التي تكشف عن حسدهم وكراهيتهم!

v     يمارسون شرورهم عن معرفةٍ وعمدٍ،

فيضيفون إلى إثمهم إثمًا

ويغلقون أبواب برَّك حتى لا يدخلوا إليه.

في تشامخهم يظنون أنهم أبرار.

يحسبون أسماءهم مسجلة مع أبرارك في كتابك!

لكنهم بإصرارهم على عدم التوبة،

لم تُكتب أسماؤهم في كتابك!

v     أخيرًا أعترف لك إني مسكين حزين.

تفتح لي أبواب رحمتك، فأغتني بالتسبيح لك.

وتملأ قلبي بتعزيات روحك القدوس!

تنصت إلى صلاتي يا سامع للمساكين.

وتشتم ذبيحة التسبيح رائحة سرور ورضى.

لك المجد يا من صرت مسكينًا لتضم إليك المساكين!

<<

 


 

اَلْمَزْمُورُ السَّبْعُونَ

أسرع لنجاتي يا رب!

جاءت هذه القصيدة تشبه إلى حدٍ كبير المزمور الأربعين.

يرى البعض أن هذا المزمور يُعتبَر مُلحقًا للمزمور السابق (69)، ومقدمة للمزمور التالي (71)

يبدو أن داود كان في كارثة خطيرة لحقت به، ويشعر أن كل لحظة من لحظات عمره لها ثمنها. لذا يفتتح المزمور طالبًا من الله أن يسرع لإنقاذه [1]، ويختمه بأن يسرع إليه ولا يبطئ [5]

قام القديس أغسطينوس بتفسير هذا المزمور في عظة ألقاها في عيد الشهداء. إذ حسب هذا المزمور يُمَثِّل قصيدة يقدِّمها السيد المسيح للآب باسم أعضاء جسده المُتألِّمين، خاصة الشهداء بهذا يمكننا القول أنه لحن كنسي خاص بالشهداء، الذين اقتدوا برأسهم السيد المسيح، الذي بإرادته قَبِل أن يدفن كحبة الحنطة لكي يأتي بثمر كثير. (يو 12: 24).

v     شكرًا لحبة الحنطة، هذا الذي أراد أن يموت فيأتي بثمرٍ مُضاعَف. شكرًا لابن الله الوحيد، ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي لم يستنكف من أن يخضع لموتنا ليجعلنا أهلاً لحياتنا. انظروا ذاك الذي كان بمفرده حتى ذهب إلى هناك... كان حبة حنطة واحدة بطريقة ما حتى تتمثل به حنطة كثيرة في آلامه فنرتفع عندما نحتفل بأعياد ميلاد الشهداء![115] كثيرة إذن هي أعضاؤه تحت رأس واحد هو مخلصنا نفسه، مرتبطة معًا برباط الحب والسلام، كأنها إنسان واحد، فنسمع غالبًا صوتًا واحدًا لإنسانٍ واحدٍ، وواحد يصرخ كأن الكل يصرخ معًا في واحدٍ.

القديس أغسطينوس

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ لِلتَّذْكِيرِ

اَللهُمَّ إِلَى تَنْجِيَتِي يَا رَبُّ،

إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ [1].

الصلاة النقية هي أسرع رسالة يمكن أن ترتفع من القلب إلى السماء وفي لمح البصر تنعم بالاستجابة الإلهية، أكثر مما تسأل وفوق ما تطلب.

أحيانًا يؤجِّل الرب الاستجابة لكي نتزكى أمامه إننا واثقون في حكمته وتدبيره، كما يزداد بالأكثر شوقنا إلى مراحمه العذبة.

v     بخصوص هذا التدبير (نظام الصلاة الدائمة)، إذا قارنته بتعليم الأطفال (الذين ليس لهم القدرة أن يتلقنوا الدروس الأولية الخاصة بالحروف الهجائية، لكنهم يتعرفون على شكلها، ويتدربون على رسمها قدر ما يستطيعون، حيث تُقدَّم لهم نماذج منها على الشمع...) هكذا يلزمني أن أقدم لك شكل التأمل الروحي لتضعه نصب عينيك على الدوام... وتتدرب على التأمل فيه باستمرار لأجل نفعك... حتى تصعد إلى نظرة أعلى.

سنعرض عليك طريقة خاصة لبلوغ هذا التدبير الذي ترغب فيه، وتلك الصلاة التي يجدر بكل أحد أن ينفذها لأجل تقدمه الروحي في تذكر الله، متذكرًا هذا التدبير في قلبه بغير انقطاع، طاردًا كل أنواع الأفكار الأخرى. لأنه لا يقدر القلب أن يتمسك به ما لم يتحرر من كل اهتمامٍ خاص بالجسد.

لقد سُلِّمت إلينا هذه الطريقة بواسطة قليلين تسلَّموها عن آباء شيوخ حاذقين... فلكي تحتفظ بتذكر الله الدائم ضع قدام عينيك هذه الصلاة الورعة: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني" (مز 1:70).

اُختيرت هذه الآية من الكتاب المقدس كله ليس جزافًا، إنما تحمل كل المشاعر التي يمكن أن توجد في الطبيعة البشرية، وتتفق مع كل الظروف والأخطار التي تحلّ بنا. فهي تحمل تضرعًا إلى الله من أجل كل الأخطار، وتحمل اعترافًا ورِعًا مملوء انسحاقًا واهتمامًا يقظًا ومخافة دائمة.

إنها تحمل إحساس الإنسان بضعفه، مع ثقة في الاستجابة، وتؤكد بأن المعونة حاضرة وسريعة، لأن الإنسان إنما يدعو الله الحاضر معنا على الدوام لكي يعينه.

إنها تحمل تأجج حب ومحبة، وتحمل فهمًا بخصوص مؤامرات الأعداء (الشياطين) ومهالكهم. فمن يرى نفسه محوطًا بهم ليلاً ونهارًا يعترف بعجزه عن التحرر منهم بغير مساعدة معينة.

هذه الآية حصن منيع للذين يتعبون من هجمات الشياطين، ودرع حصين، فهي لا تسمح للذين يسقطون في اكتئاب وقلق فكري أو المتضايقين بالحزن أو المهمومين بالقنوط وكل أنواع الأفكار المشابهة، أن ييأسوا من وجود علاجٍ شافٍ، إذ تُعلِن أن الله الذي نتضرع إليه ناظر إلى صراعنا على الدوام، وليس ببعيد عن سائليه.

إنها تنذرنا نحن الذين نصيبنا هو النجاح الروحي وبهجة القلب، فلا ننتفخ قط لسعادتنا، إذ تؤكد لنا أنه لا يمكننا أن نعيش بدون الله حافظنا...

هذه الآية هي معين، ونافعة لكل واحد منا مهما كانت أحواله، لأن الإنسان يحتاج في كل أموره إلى معونة. محتاج إلى مساعدة الله، ليس فقط في الأحزان والضيقات، بل وأيضًا في النجاح والأفراح، حتى يُنقَذ من الأولى ويستمر في الثانية. لأن الضعف البشري يعجز عن أن يحتمل كليهما بغير معونة الله[116].

الأب إسحق

v     سنعرض عليك هذه الطريقة لبلوغ ذلك التدبير الروحاني الذي تهواه كل نفس تسعي لتذكر الله علي الدوام مع ضبط العقل. أول كل شيء انسَ نفسك واترك أفكارك وهيا تقدم معي نحو الله عاريًا من كل اهتمامات الجسد، وثق أن الطريق الذي ستسير فيه اجتازه آباؤنا الشيوخ الذين تمكنوا من معرفة أسرار الروح.  عليك بهذه الصلاة: "يا الله التفت إلي معونتي. يا رب أسرع وأعني".

أما هذه الآية فلم تنتخب جزافا" بل بعد خبرة لأنها تتوافق مع كل ظروف الحياة البشرية. فهي تحمل تضرعًا إلي الله مقابل كل الأخطار والضيقات وتحمل أيضًا اعترافًا منسحقاً بالعجز واهتماماً متيقظاً ومخافة دائمة فهي تشير إلى إحساس الفرد بضعفه مع ثقة في الاستجابة وتأكيد بأن المعونة حاضرة سريعة، وهي تشير خفياً إلى قرب الله منا وأنه كل حين حاضر معنا يستمع إلينا.

الأب اسحق تلميذ أبا أنطونيوس الكبير

لِيَخْزَ وَيَخْجَلْ طَالِبُو نَفْسِي.

لِيَرْتَدَّ إِلَى خَلْفٍ وَيَخْجَلِ الْمُشْتَهُونَ لِي شَرًّا [2].

طبيعة الخطية أن تُقدِّم الخزي لصانعها، وإن لم يتب يلحقه الخزي على مستوى أبدي.

طلبته هنا ضد طالبي نفسه تميل بالأكثر إلى النبوة عما سيحل بهم، وليس إلى لعنة تصدر منه ضدهم.

لِيَرْجِعْ مِنْ أَجْلِ خِزْيِهِمُ،

الْقَائِلُونَ: هَهْ! هَهْ! [3].

من أكثر الأسلحة التي يستخدمها الأشرار ضد أولاد الله هي السخرية بهم واحتقارهم. هذا ما فعله العالم بمخلصه، فكم بالأكثر بالكارزين به!

السخرية ليس بالأمر الجديد، فهي لغة الأشرار في حديثهم مع الصديق، لكي يتزكى الأخير باتزانه وثباته كالصخر أمام زوابع لا حول لها.

كلمة "هَهْ" تكررت في مز 35: 21، 25، وهي تعبير عن نوعٍ من السخرية

يرى القديس أغسطينوس إن القول: "هَهْ! هَهْ"، يصدر إما من الذين يسخرون من المؤمنين، أو الذين يتملقونهم بكلمات مديح معسول.

وَلْيَبْتَهِجْ وَيَفْرَحْ بِكَ كُلُّ طَالِبِيك،َ

وَلْيَقُلْ دَائِمًا مُحِبُّو خَلاَصِكَ:

لِيَتَعَظَّمِ الرَّبُّ [4].

بينما يسخر طالبو نفس الصديق به، يُسَبِّح الصديق الرب ويعظمه على عمله الخلاصي، ويفرح به.

لم يكن ممكنًا لسجن فيلبي الداخلي أن يسحب قلبي بولس وسيلا من أفراح السماء!

أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَفَقِيرٌ.

اللهُمَّ أَسْرِعْ إِلَيَّ.

مُعِينِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ.

يَا رَبُّ لاَ تَبْطُئ [5].

المسكنة من أجل الرب تجعله يسرع إلى الخلاص ولا يتباطأ.

المسكنة بالروح والفقر الاختياري من أجل الرب هما جناحا الصلاة لتبلغ إلى حضن الله وتغتصب مراحمه العظيمة.

لا يستطيع غِنَى العالم ولا كراماته أن ينزع عن الصديق شعوره بالمسكنة والفقر، إذ لا يجد ما يغنيه ويعزيه سوى مراحم الله الفائقة.

v     ماذا يعني: "لا تبطئ"؟ لأن كثيرين يقولون، إنه يوجد وقت طويل حتى يأتي المسيح. ماذا إذن، هل سيأتي قبل الأوان الذي عيَّنه عندما نقول: "لا تبطئ"؟ ماذا تعني هذه الصلاة "لا تبطئ"؟ ليت مجيئك لا يبدو لي إنه يتأخر كثيرًا. فإنه بالنسبة لكم يبدو أنه يتبقى زمن طويل، أما بالنسبة لله الذي ألف سنة عنده كيومٍ واحد أو هزيع من ثلاث ساعات فهو ليس بزمن طويل.

القديس أغسطينوس

 


 

من وحي مز 70

من يقدر أن يسحب فرحك عني!

v     مع كل صباح يُعد لي العدو فخاخًا لاصطيادي،

ومع كل صباح أتذوق عذوبة مراحمك الفائقة.

لتكثر مضايقات العدو،

فمع كل ضيقة أختبر طَعْمًا جديدًا لمراحمك الإلهية.

يبذل العدو كل الجهد ليصطادني.

وأنت تُسرع إليَّ لترفعني إليك.

ماذا تعمل فخاخ العدو،

مادمتُ مرتفعًا بك كما إلى سماواتك؟

v     لن يكف العدو عن أن يُعَيِّرني.

يسخر بي، ويحسبني أضحوكة ومثلاً!

لا يكف عن القول: ههْ! ههْ!

ها هو يجمع في رصيده كم لا يُقدَّر من السخرية.

يسخر بي إلى لحظات، فتسخر به جهنم أبديًا.

v     كلما طلب العدو نفسي ليستعبدها،

أتمتع بصليبك واهب الحرية.

تبتهج نفسي بخلاصك!

وتتعظم أعمالك فيَّ.

هل يمكن للعدو أن يسحبني من بين يديك؟

هل تقدر كل قواته أن تحرمني من بهجتك؟

v     إن ألقى العالم كله بكل إمكانياته في يدي،

أبقى مسكينًا وفقيرًا،

حتى أغتني بك،

يا من افتقرت لكي بفقرك تغنيني!

v     لتسرع يا مخلصي إليَّ ولا تبطئ!

لتسرع لا لتنقذني من العدو فحسب،

وإنما لكي أقتنيك وتمتلكني.

أنا لك، وأنت لي، يا حبيب نفسي!

 

<<

 

 


 

المحتويات

اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: صرخة استغاثة وشكر لله                    

العنوان، 1. صرخة إلى الله مخلصه، 2. شكر على مراحم الله، 3. نذر تكريس حياته، 4. صلاة من أجل الملك، 5. الوعد بإيفاء النذر.

اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالسِّتُّون: الاتكال على الله                                 

العنوان، 1. الله صخرتي وخلاصي، 2. خداع المقاومين وعنفهم، 3. تأكيد الاتكال على الله، 4. حث الآخرين على الاتكال على الله، 5. الله كلي القدرة والرحمة والعدل.

اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّون: إليك عطشتُ يا إلهي!                          

العنوان، 1. عطش نفس المرتل إلى الله، 2. شبع النفس بالله، 3. ثقة النفس واتكالها على الله.

اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: تعزيات في وسط الضيق                      

العنوان، 1. فاعلو الإثم، 2. التدخل الإلهي.

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّون: نعمة الله ورعايته الفائقة                   

العنوان، 1. لك التسبيح أيها المخلص، 2. لك التسبيح أيها الخالق، 3. لك التسبيح أيها المعتني بنا.

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: دعوة للتسبيح للرب!                        

وحدة المزمور، العنوان، 1. دعوة كل البشرية للتسبيح، 2. تذكر أعماله الخلاصية، 3. تسبيح الله لخلاصه الجدير لشعبه، 4. إيفاء نذور باسم الشعب، 5. دعوة خائفي الرب لتسبيحه.

اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالسِّتُّون: صلاة من أجل امتداد ملكوت الله            

العنوان، 1. استنارتنا بوجهه، 2. المعرفة واهبة الحياة، 3. دعوة الشعوب لتسبيحه، 4. الثمر المتكاثر.

اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: الملك الغالب في كنيسته                       

موكب النصرة، سماته، العنوان، 1. أقامنا معه، 2. يهبنا النصرة، 3. يهبنا فرحه السماوي، 4. يهبنا سكناه فينا، 5. يقودنا بنفسه، 6. يعمل بروحه القدوس فينا، 7. يهبنا الوصية الإلهية، 8. انهيار الأعداء وصعودنا معه، 9. يقيمنا جبالاً مقدسة، 10. يقيمنا مركبة إلهية، 11. مسبيون متهللون، 12. مسبيون ممجدون، 13. مسبحون عظماء، 14. دعوة كل الأمم للتمتع بالعطايا الإلهية.

اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّون: صرخات طريد                                  

اقتباسات العهد الجديد، سماته، العنوان، 1. مرثاة تنبع من القلب، 2. صرخة لأجل الخلاص، 3. مجازاة الأشرار المقاومين، 4. تسبحة نصرة.

اَلْمَزْمُورُ السَّبْعُون: أسرع لنجاتي يا رب!                                   

العنوان.

 

<<

 


 

[1] Sermon 95: 2.

[2] Sermon 21: 6.

[3] Hymns on the Nativity, 2.

[4] Explanation of Psalms 61: 4.

[5] Plumer, Ps. 61.

[6] On Divine Providence, Disc, 9: 11.

[7] Fr. Valerian: Homilies, 4 (Frs of the Church).

[8] عظة 4 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[9] Homilies on Psalm 61 (62): 2.

[10] First Epistle, 15.

[11] Orations on Psalms 1.

[12] Cassian, Conferences 21:22.

[13] Sermon on NT Lessons, 10: 3.

[14] إسحق أو النفس، 2: 4.

[15] The Institutes, 3: 3.

[16] Palmer, P. 630.

[17] Commentary on Galatians (Gal. 2: 20).

[18] Commentary on Rom. 1: 8.

[19] Epistles, 122.1.

[20] Glaphyra on Genesis, 5: 3.

[21] رسالة6:51.

[22] إسحق أو النفس، 1: 1.

[23] The Prayer of Job and David, 3: 4: 10.

[24] On the Epistle to the Hebrews, 14:9.

[25] Homilies on the Acts if the Apostles, homily 26.

[26] الرسالة الحادية عشر:6 (ترجمة الأب سليم دكاش اليسوعي).

[27]St. Jerome: Letter 130 to Demetrias, 7.

[28] إسحق أو النفس، 3: 6.

[29] Cassian: Conferences, 7:4-6.

[30] حياة موسى، 250.

[31] Lettres des Pères du Dèsert, p. 133, traduit de P. G. 40, 925 D - 941 B.

عن: فردوس الآباء ج 1.

[32] Plumer, P. 633.

[33] In Lev. 11.

[34] الرسالة الفصيحة الأولى، ترجمة د. ميشيل بديع عبد الملك، مايو 2004، ص 15.

[35] رسالة رقم 101، 11 الرسالة الأولى إلى كليدونيوس الكاهن.

[36] Continence,11.

[37] Forty Gospel Homilies 11: 4.

[38] Fr Dorotheos of Gaza: On Fear of Punishment.

[39] Homilies on Statues, homily 9: 9.

[40] Hexaemeron, homily 4: 3.

[41] القداس الإلهي.

[42] Sermon on NT Lessons, 3:14.

[43] On Ps. 66;10.

[44] المؤلف: رؤيا يوحنا اللاهوتي ، 1979، ص62-66.

[45] On Prayer 2: 29: 16.

[46] الأسرار 5، 17.

[47] The Lord's Prayer, Sermon 2.

[48] Plumer on Ps 67.

[49]  Hom. 6.

[50]  Hom. 6.

[51]  Homily 6.

[52]  Homily 6.

[53] Homily 6.

[54] Plumer, Ps. 68.

[55] Commentary on Rom. 12: 15..

[56] Eutropius and the Vanity of Riches, Hom.

[57] رسالة تعزية إلى أرملة شابة.

[58] مقال 7: 10.

[59] Homilies on Job 9: 6: 27.

[60] Homilies on 1 Timothy, hom 15.

[61] The Unity of the Catholic Church, 8.

[62] Cf. Homilies on Ecclesiastes, 1.

[63] Homilies on Hebr., 32: 7.

[64] Origen: Comm. on the Songs of Songs, book 3:1 (ACW).

[65] Prayer of David 4:4:14.

[66] عظة 3 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[67] عظة 7 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[68] جاء في حزقيال 8: 3 "ومد شبه يد وأخذني بناصية رأسي ورفعني روح بين الأرض والسماء فأتى بي في رؤى الله".

[69] مقال 14: 25.

[70] Adam Clarke Comm.

[71] Grace & Freewill, 15.

[72] عا 9: 6 "الذي بني في السماء علالية".

[73] مقال 14: 24.

[74] Adv. Haer 5:24:2:20:3.

[75] Theological Oration 3 (29): 20 (On the Son).

[76] العظة اللاهوتية الرابعة رقم 30 عن الابن، 19.

[77] Exposition of Luke 5: 105-106.

[78] Commentary on Isaiah. 4: 12: 3.

[79] The Institutes, 12:14.

[80] On Abraham 2: 10: 77.

[81] Letter 108 to Eustochium, 23.

[82] On the Holy Spirit 2: 10: 112.

[83] يقصد بتعبير "ملء الأمم" الجزء الذي من الأمم والذي وصل إلي درجة "الامتلاء" أي إلي درجة الكمال.

[84] عظات للعلامة أوريجينوس على سـفر إرميا ترجمة جاكلين سمير كوستى، 5:4.

[85] مقال 17: 25.

[86] عظة 5 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[87] تفسير تك 2: 7-8.

[88] Homilies on 2 Tim., 9.

[89] Sermon 112: 1.

[90] مقتطف عن التسبحة الثانية من تسابيح الميلاد بتصرف.

[91] التسبحة الثانية.

[92] Sermon 120: 2.

[93] City of God 20: 12.

[94] Homilies on St. John, 15: 3.

[95] Commentary on Paul’s Epistles Rom (15:3).

[96] Letter 44.

[97] Letter 130 to Demetrias, 10.

[98] عظة 14 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[99] Sermon 206: 3.

[100] Epistle 8 ad Olympias PG 25: 607 – 608.

[101] مقال 13: 29.

[102] Exposition of Luke 10: 63: 64.

[103] Tractates on John, 37: 9.

[104] Sermon on Mount, 1:21:71.

[105] In Rom, homily 19.

[106] In Luc. Ser. 153.

[107] Pastoral Care, 1:1.

[108] Prayer of David 3:3: 7.

[109] Plumer, Ps. 69.

[110] Fragment (on Matt.) 292.

[111] Plumer, Ps. 69.

[112] The Prayer of Job and David, 3: 3: 6.

[113] Life of Pachomius (Bohairic), 108.

[114] Tractates ob John, 63: 1.

[115] يتطلع القديس أغسطينوس إلى يوم استشهاد الشهداء أنه يوم ميلادهم الجديد.

[116] Cassian, Conferences 10:10.

 

الصفحة الرئيسية