في الشعر الجاهلي .. للدكتور طه حسين
" 1 "
قصص وتاريخ
نظن أن أنصار القديم لا يطمعون منا في أن نغير لهم حقائق الأشياء أو أن نسمي هذه الحقائق بغير أسمائها ، لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم ومهما نكن حِراصا على أن يرضوا ومهما نكن شديدي الكره لسخطهم فنحن على رضا الحق أحرص ، وللعبث بالحق والعلم أشد كرها .
ولن نستطيع أن نسمي حقاً ما ليس بالحق ، وتاريخاً ما ليس بالتاريخ . ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يروي من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين وما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الإطمئنان إليه أو الثقة به ؛ وإنما كثرة هذا كله قصص وأساطير لا تفيد يقينا ولا ترجيحاً ، وإنما تبعث في النفوس ظنوناً وأوهاماً . وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها في عناية وأناة وبراءة من الأهواء والأغراض ، فيدرسها محللاً ناقداً مستقصياً في النقد والتحليل . فإن إنتهى من درسه هذا إلى حق أو شيء يشبه بكل ما ينبغي أن يحتفظ به من الشك الذي قد يحمله على أن يغير رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد .
ذلك أن أخبار الجاهليين وأشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحه ، وإنما وصلت إلينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص والأساطير : طريق الرواية والأحاديث ، طريق الفكاهة واللعب ، طريق التكلف والانتحال . فنحن مضطرون أمام هذا كله إلى أن نحتفظ بحريتنا كاملة ، وإلى أن نقاوم ميولنا وأهواءنا وفطرتنا التي هي مستعدة للتصديق والإطمئنان في سهولة ويسر . ونحن لا نعرف نصاً عربياً وصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة يمكن أن نطمئن إليها قبل القرآن إلا طائفة من النقوش لا تثبت في الأدب حقا ولا تنفي منه باطلا . وهي إن أفادت في تاريخ الرسم وذك كل ما يمكن أن يؤخذ منها إلى الآن .
القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصا للعصر الذي تلي فيه . فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء وسجع هؤلاء الساجعين فلا سبيل إلى الثقة بها ولا إلى الإطمئنان إليها ، ولا سيما بعد ما بسطنا لك في الكتاب الأول من الأسباب التي تدعو إلى الشك في صحتها ، وبعد ما بسطنا لك في الكتاب الثاني من الأسباب التي كانت تحمل الناس على التكلف والانتحال .
وإذا فيجب أن يكون لمؤرخ الآداب العربية موقفان مختلفان : أحدهما أمام الأساطير والأقاصيص والأسمار التي تروى عن العصر الجاهلي . والثاني أمام النصوص التاريخية الصحيحة التي تبتدىء بالقرآن . وقد بينا لك في الكتاب الماضي أن هذا ليس شأن الآداب العربية وحدها ، وإنما هو شأن الآداب القديمة كلها ، وضربنا لك الأمثال بالأدب اليوناني والأدب اللاتيني . لولا أنا نحرص على الإيجاز لضربنا لك أمثالاً أخرى لطائفة من الآداب الحية الحديثة ؛ فلكل أدب قسمه الصحيح وقسمه المتكلف ، ولكل أمة تاريخها الصحيح وتاريخها المنتحل . ولسنا ندري لم يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العربي من سائر الأمم والآداب ؟ ومن الذي يستطيع أن يزعم ان الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا الجيل الذي كان ينتسب إلى عدنان وقحطان؟ كلا! الجيل العربي كغيره من الأجيال خاضع لهذه القوانين العامة التي تسيطر على حياة الأفراد والجماعات .
للعرب خيالهم الشعبي . وهذا الخيال قد جدّ وعمل وأثمر ، وكانت نتيجة جدّه وعمله وإثماره هذه الأقاصيص والأساطير التي تروى لا عن العصر الجاهليّ وحده بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضاً .
وقد رأيت في فصولنا التي سميناها "حديث الأربعاء" أنا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية التي تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي . ويجب حقاً أن نلغي عقولنا - كما يقول بعض الزعماء السياسيين - لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح ، لأنه ورد في كتاب الأغاني أو في كتاب الطبري أو في كتاب المبّرد أو في سفر من أسفار الجاحظ . نعم يجب أن نلغي عقولنا وأن نلغي وجودنا الشخصي وأن نستحيل إلى كتب متحركة : هذا يحفظ الكامل لا يعدوه فيصبح نسخة من كتاب الكامل تمشي على رجلين وتنطق بلسان ؛ وهذا يحفظ كتاب البيان والتبين فيصبح نسخه منه ؛ وهذا يحفظ أخلاطا من هذه الكتب فيصبح مزاجاً غريباً يتكلم مرة بلسان الجاحظ وأخرى بلسان المبّرد وثالثة بلسان ثعلب ورابعة بلسان أبن سلاّم .
لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية . أما نحن فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية أو كتبا متحركة ، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان . وهذه العقول تضطرنا ، كما أضطرت غيرنا من قبل ، إلى أن ننظر إلى القدماء كما ننظر إلى المحدثين دون أن ننسى الظروف التي تحيط بأولئك وهؤلاء . فأنا لا أقدس أحدا من الذين يعاصرونني ولا أبرئه من الكذب والانتحال ولا أعصمه من الخطأ والإضطراب . فإذا تحدث إليّ بشيء أو نقل لي عنه شيء ، فأنا لا أقبل حتى أنقد وأتحرّى ، وأحلل وأدقق في التحليل . وما أعرف أن أحدا من أنصار القديم أنفسهم يقدّس المعاصرين ويطمئن إليهم من غير نقد ولا تبصر . وآية ذلك أنهم يحيون حياتهم اليومية كما يحياها أنصار الجديد ؛ فهم يبيعون ويشترون ويدّخرون كما يبيع غيرهم وكما يشتري وكما يدّخر ، وهم يدّبرون أمورهم الخاصة كما يدبرها سائر الناس في مقدار من الذكاء والفطنة والحذر . فما بالهم يصطنعون ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين ولا يصطنعونها بالقياس إلى القدماء ؟ وما بالهم إذا كانوا يحبّون التصديق والإطمئنان إلى هذا الحدّ لا يصدقون البائع حين يزعم لهم أن سلعته تساوي عشرين ، بل يعرضون عليه عشرة وأقل من عشرة ويساومون حتى ينتهوا إلى ما يريدون ؟ ولو أنهم صدّقوا المحدثين واطمأنوا إليهم كما يصدّقون القدماء ويطمئنون إليهم لكانوا مضرب الأمثال في الغفلة والبله والحمق ، ولكانت حياتهم كداَّ وضنكا وعناء . ولكنا نحمد لهم الله ، فهم بالقياس إلى معاصريهم أصحاب بصر بالأمور وفطنة بدقائقها وحيلة واسعة للتخلص من المآزق ؛ وهو يشترون اللحم كما نشتريه ويبذلون في الخبز والسمن مثل ما نبذل .
وإذاً فما مصدر هذه التفرقة التي يصطنعونها بين القدماء والمحدثين؟ ما لهم يؤمنون لأولئك ويشكّون في هؤلاء ؟
ليس لهذه التفرقة مصدر إلا هذه الفكرة التي تسيطر على نفوس العامة في جميع الأمم وفي جميع العصور، وهي أن القديم خير من الجديد وأن الزمان صائر إلى الشر لا إلى الخير ، وأن الدهر يسير بالناس القهقرى : يرجع بهم إلى وراء ولا يمضي بهم إلى أمام ... زعموا أن القمحة كانت في العصور الذهبية تعدل التفاحة العظيمة حجما ، ثم غضب الله على الناس فأخذت القمحة تتضاءل حتى وصلت إلى حيث هي الآن .
وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوّة بحيث كان يغمس يده في البحر فيأخذ منه السمك ثم يرفع يده في الجوّ فيشويه في جذوة الشمس ثم يهبط بيده إلى فمه فيزدرد شواءه ازدرادا .
وزعموا أن أهل الأجيال القديمة كانوا من الضخامة والجسامة بحيث استطاع بعض الملوك ، أو بعض الأنبياء ، أن يتخذ فخذ أحدهم جسرا يعبر عليه الفرات .
فالقديم خير من الجديد , والقدماء خير من المحدثين . يؤمن العامة بهذا إيمانا لا سبيل إلى زعزعته . وهذا الإيمان يتطوّر ويتغير ؛ ولكن أصله ثابت . فأصحاب الحضارة والمدنية الذين أخذوا من العلم بحظ لا يؤمنون بمثل هذه الأحاديث التي قدمتها لك ؛ ولكنهم يرون أن الأخلاق مثلا كانت أشدّ استيقاظا في العصور الأولى ، وأن الأفئدة كانت أشدّ ذكاء ، وأن الأبدان كانت أعظم حظا من الصحة . وعلى هذا النحو يكون تفضيل القديم ، لأنه قديم لا نراه من جهة ، ولأننا ساخطون بطبعنا على الحاضر من جهة أخرى .
فهل تظن أن الذين يثقون بخلف وحمَاد والأصمعي وأبي عمرو أبن العلاء يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك ؟ كلا ! كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقاً وأقل منهم ميلا إلى الكذب ، كانوا أذكى منهم أفئدة ، كانوا أقوى منهم حافظة ، كانوا أثقب منهم بصائر . لماذا لأنهم قدماء! لأنهم كانوا يعيشون في هذا العصر الذهبي! أليس العصر العباسي عصراً ذهبياً بالقياس إلى هذا العصر الذي نعيش فيه؟
أما نحن فلا نزعم أن القدماء كانوا شرا من المحدثين ، ولكنا لا نزعم أيضا أنهم كانوا خيرا منهم . وإنما أولئك وهؤلاء سواء ، ولا تفرّق بينهم إلا ظروف الحياة التي تصوّر طبائعهم صورا ملائمة لها دون أن تغير هذه الطبائع . كان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون ، وكان القدماء , يخطئون كما يخطىء المحدثون ، وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المدحثين ، لأن العقل لم يبلغ من الرقي في تلك العصور وما بلغ في هذا العصر ولم يستكشف من مناهج البحث والنقد ما أستكشف في هذا العصر . فإذا أخذنا أنفسنا بأن نقف أمام القدماء موقف الشك والاحتياط فلسنا غلاة ولا مسرفين ، وإنما نحن نؤدّي لعقولنا حقها ونؤدّي للعلم ماله علينا من دين . وإذا كنا نطلب إلى أنصار القديم شيئا فهو أن يكونوا منطقيين ، وأن يلائموا بين حياتهم حين يقرءون ويكتبون وحياتهم حين يبيعون ويشترون .
وإذاً فلنتناول مع الإيجاز الشديد من البحث عن الشعر والشعراء في العصر الجاهلي لنرى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار والأخبار التي امتلأت بها الكتب والأسفار .
الكتاب الأول :
1- تمهيد
2- منهج البحث
3- مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
4- الشعر الجاهلي واللغة
5- الشعر الجاهلي واللهجاتالكتاب الثاني :
أسباب انتحال الشعر
1- ليس الانتحال مقصورا على العرب
2- السياسة وانتحال الشعر
3- الدين وانتحال الشعر
4- القصص وانتحال الشعر
5- الشعوبية وانتحال الشعر
6- الرواة وانتحال الشعرالكتاب الثالث :
الشعر والشعراء
1- قصص وتاريخ
2- امرؤ القيس . عبيد . علقمة
3- عمرو بن قميئة . مهلهل . جليلة
4- عمرو بن كلثوم . الحارث بن حلزة
5- طرفة بن العبد . المتلمسملحق :
نص قرار النيابة
1- نص بيان الاتهام
2- عن الأمر الأول
3- عن الأمر الثاني
4- عن الأمر الثالث
5- عن الأمر الرابع
6- القانون ونص الحكم