في الشعر الجاهلي .. للدكتور طه حسين
" 4 "
عمر بن كُلْثوم - الحارث بن حِلّزِة
ونحن حين ندع مهلهلاً وامرأة أخيه إلى هذين الشاعرين من أصحاب المعلقات لا نتجاوز ربيعة بل لا نتجاوز هذين الحيين من ربيعة وهما حيّا بكر وتغلب . فعمرو بن كلثوم تغلبي ، وهو في عرف الرواة لسان تغلب الناطق ، هو الذي سجل مفاخرها وأشاد بذكرها في شعره ، أو بعبارة أدق : في قصيدته التي تروى بين المعلقات . وقد كان - فيما يقول الرواة - بطلا من أبطال تغلب ورث القوّة والأيد وشدّة البأس وإباء الضيم عن جدّه مهلهل ؛ فقد كانت أمه ليلى بنت مهلهل .
وقد أحيط عمرو بن كلثوم في مولده ونشأته بل في مولد أمه بطائفة من أساطير لا يشك أشدّ الناس سذاجة في أنها لون من ألوان العبث والانتحال :
زعموا أن مهلهلا لما ولدت له ليلى أمر بوأدها فأخفتها أمها ، ثم نام فأتاه آت وتنبأ له بأن إبنته هذه ستلد إبناً يكون له شأن ، فلما أصبح سأل عن إبنته وُئدت فكذب وألح فأُظهرت له فأمر بإحسان غذائها . ثم تزوجت كلثوما فما زالت ترى فيما يرى النائم من يأتيها فيخبرها عن إبنها بالأعاجيب حتى ولدته ونشأته . قالوا وقد ساد عمرو بن كلثوم قومه ولما يتجاوز الخامسة عشرة .
فكل هذه الأحاديث التي تشير إليها إشارة ، تدل على أن عمرو بن كلثوم قد أحيط بطائفة من الأساطير جعلته إلى أبطال القصص أقرب منه إلى أشخاص التاريخ . ومع ذلك فقد يظهر أنه وجد حقاً ، وقد يظهر أنه على خلاف من قدّمنا ذكرهم من الشعراء . وقد أعقبَ ؛ فصاحب الأغاني يحدّثنا بأن له عقبا كان باقيا إلى أيامــه .
وسواء أكان عمرو بن كلثوم شخصاً من أشخاص التاريخ . أم بطلاً من أبطال القصص ، فإن القصيدة التي تنسب إليه لا يمكن أن تكون جاهلية أو لا يمكن أن تكون كثرتها جاهلية . وهل نستطيع قبل كل شيء أن نطمئن إلى ما يتحدّث به الرواة من أن عمرو بن كلثوم قتل ملكاً من ملوك الحيرة هو عمرو بن هند المشهور ، وذلك حين بغى عمرو بن هند هذا وانتهى به الطغيان إلى أن طمع في أن تستخدم أمه ليلى بنت مهلهل أن تناولها طبقاً ؛ فأجابتها ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها ؛ فألحت هند ؛ فصاحت ليلى : وَا ذُلاَّه يا لَتغلب ! وكان ابنها عمرو في قبة الملك فسمع دعاءها فوثب إلى سيف معلق فضرب به الملك ، ونهضت بنو تغلب فنهبوا قبة الملك وعادوا إلى باديتهم .
غير أن النص التاريخي الذي يثبت هذه القصة لم يصل إلينا بعد . وهل من المعقول أن يقتل ملك الحيرة هذه القتلة ويقف الأمـر عند هذا الحد بين آل المنذر وبني تغلب من ناحية وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية أخرى ؟ أليس هذا لوناً من الأحاديث التي كان يتحدّث بها القصاص يستمدّونها من حاجة العرب إلى المفاخرة والتنافس ؟ بلى ! وقصيدة عمرو بن كلثوم نفسها نوع من هذا الشعر الذي ينتحل مع هذه الأحاديث . وأنت إذا قرأت هذه القصيدة رأيت أن مهلهلاً لم يكن يتكثر وحده وإنما أورث التكثر والكذب سبطه عمرو بن كلثوم ؛ فلسنا نعرف كلمة تضاف إلى الجاهليين وفيها من الإسراف والغلوّ ما في كلمة عمرو بن كلثوم هذه . على أن رأى الرواة فيها يشبه رأيهم في معلقة امرئ القيس ؛ فهم يشكون في بعضها وهم يختلفون في الأبيات الأولى منها : أقالها عمرو بن كلثوم أم قالها عمرو بن عديّ أبن أخت جَذيمة الأبرش ؟ فأما الذين يضيفون هذه الأبيات لعمرو بن كلثوم فيرون أن مطلع القصيدة :
* ألا هُبّي بصحنك فأصبحينا *
وأما الآخرون فيرون أن مطلعها :
* قفي قبل التفرّق يا ظعينا *
وأولئك وهؤلاء لا يختلفون في إنطاق عمرو بن عديّ بالبيتين :
صـددت الكأس عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجـــراها اليمينا
وما شَرُّ الثلاثـــــة أم عمــرو بصاحبــك الذي لا تصبحينــاوأنت حين تمضي في القصيدة ترى فيها أبياتاً مكررة تقع وسط للقصيدة وفي آخرها . ولكن هذا النحو من الإضطراب مشترك في أكثر الشعر الجاهلي ، مصدره إختلاف الروايات . فإذا قرأت القصيدة نفسها فستجد فيها لفظاً سهلا لا يخلو من جزالة ، وستجد فيها معاني حسانا وفخر لا بأس به لولا أن الشاعر يسرف فيه من حين إلى حين إسرافاً ينتهي به إلى السخف كقوله :
إذا بلغ الرضيعُ لنا فطاماً تخِزُّ له الجبابر ساجدينا
وستجد فيها أبياتاً تمثل إباء البدوي للضيم وإعتزازه بقوتـه وبأسـه كقــوله :
ألا لا يجهلَــنْ أحدُ علينـــا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
قلت إن هذا البيت يمثل إباء البدوي للضيم . ولكني أسرع فأقول إنه لا يمثل سلامـة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحدّ الممل :
ألا لا يجهلــن أحد علينـــا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فقد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات وأشتدّ هذا الجهل حتى مُلَّ . وهم يحملون على الأعشى بيتاً فيه مثل هذا النوع من التعسف .
ولكنا نشك في صحة هذا البيت الذي يضاف إلى الأعشى .
ومهما يكن من شيء ، فإن في قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيراً على أقل الناس حظاً من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه . وما هكذا كانت تتحدّث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن . وما هكذا كانت تتحدّث ربيعة خاصة في هذا العصر الذي لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر . بل ما هكذا كان يتحدّث الأخطل التغلبي الذي عاش في العصر الأموي أي بعد ابن كلثوم بنحو قرن . واقرأ هذه الأبيات وحدّثني أتطمئن إلى جاهليتها :
قفي قبــــــل التفـــرّق يا ظعينا نخبــِّرْكِ اليقـيـن وتُخبـــرينا
قفي نسالْك هـل أحدثت صَرْمَّا لَو شْك البين أم خُنتِ الأمينا
بيوم كريهة ضــرباً وطعنــــــاً أقـــرّ بــــــه مواليـــك العيونا
وإن غدا وإن اليـــــــوم رهـــن وبعد غـــد بمـــــا لا تعلمينــا
تُريك إذا دخلتَ على خَــــــلاَءٍ وقد أمِنت عيــونَ الكاشحينا
ذراعيْ ععَيْطل أدمـــــاء بكــرٍ هجان اللــون لم تقــرأ جنينا
وثدياً مثل حُقَّ العاج رَخْصـاً حصــانا من أكف اللامسينا
ومَتـْنيْ لَدْنةٍ سَمَقت وطـــالت روادفهـــا تنـــوء بمــا ولينا
ومأكَمَة يضيق الباب عنهــــا وكشحــا قد جُننت به جنونا
وساريتيْ بَلَنْـــطٍ أو رُخــــام يرنّ خشاش حليهمــا رنيناوأقرأ هذه الأبيات أيضاً :
أَلاَ لا يعلم الأقـــــوام أماّ تضعضعنـا وأنــــــا قد ونينا
ألا لا يجهلنْ أحـــد علينا فنجهـل فـوق جهل الجاهلينا
بأي مشيئة عمروّ بن هند نكــــون لَقْيلكـم فيهــا قطينا
بأي مشيئة عمرّو بن هند تُطيع بنا الوشــــاةَ وتزدرينا
تَهَدَّدْنا وأوعِدْنـــا رويـــداً متــى كنــــا لأمــــك مقتويتا
فإن قناتَنا يـاعمرو أعيت على الأعِـــداء قبلك أن تليناوهذه الأبيات :
ونحن التاركون لما تخطِنا ونحن الآخذون لما رضينا
وكنا الأيمنينَ إذا إلتْقينـــــا وكـــان الأيسرين بنـــو أبينا
فصالوا صولةً فيمن يليهم وصُلْنـــا صولـــة فيمن يلينا
فآبَوْا بالنهاب وبالسبايـــــا وأُبنــا بالملــوك مُصَفَّــدينـا
إليكم يا بني بكــر إليكـــم ألَّمــــا تعرفــــــوا منـا إليقيناوهذه الأبيات وقارن بينهما وبين الأبيات الأخيرة :
وقــــــــد علم القبائــل من مَعَدَّ إذا قُبــــَبٌ بأبطحهــــا بُنِينا
بأنــــــــا المطعمــون إذا قدَرنا وأنـــاّ المهلكـــون إذا ابتُلينا
وأنـــــــا المانعون لمـا أردنــا وأنـــا النازلـون بحيث شينا
وأنـــــــا التاركون إذا مَخِطـنا وأنـــا الآخذون إذا رضينـا
وأنـــــــا العاصمون إذا أُطعنا وأنــا العارمون إذا عُصِينا
ونشرب إن وردنا الماء صَفْواً ويشرب غيرنا كَدَراً وطيناوهذه الأبيات:-
إذا المَلْكُ سام الناس خَسفـاً أبينـــــا نقــــرّ الــــذل فينـــا
لنا الدنيا ومن أمسى عليــها ونبطش حين نبطش قادرينا
ملآنا البر حتى ضـاق عنا وماءَ البحـــــر نملــؤه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنــا فِطـاماً تخزّلــــه الجبابـــر ساجديناأمتن من هذه القصيدة وأرصن قصيدة الحارث بن حلّزة ، وكان لسان بكر ، يقول الرواة ، ومحاميها والذائد عنها بين يدي عمرو بن هند أيضاً . زعموا أن عمرو بن هند أصلح بين القبيلتين المختصمتين بكر وتغلب وإتخذ منهما رهائن ، فتعرّضت رهائن تغلب لبعض الشر وهلكت أو هلك أكثرها ، فتجنت تغلب على بكر وطالبت بدية الهلكى ، وأبن بكر ، وكادت تستأنف الحرب بينهما ، واجتمعت أشرافهما إلى عمرو بن هند ليحكم بينهم ، وأحس الحارث ميل الملك إلى تغلب فنهض فأعتمد على قوسه وأرتجل هذه القصيدة . قالوا وكان به وضح ، وكان الملك قد أمر أن يكون بينه وبينه ستار ، فلما أخذ ينشد قصيدته أخذ الملك يعجب به ويدنيه شيئاً فشيئاً حتى أجلسه إلى جانبه وقضى لبكر .
ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها ليست مرتجلة إرتجالاً وإنما هي قصيدة نظمت وفكر فيها الشاعر تفكيراً طويلاً ورتب أجزائها ترتيباً دقيقاً . وليس فيها من مظاهر الارتجال إلا شيء واحد هو هذا الإقواء الذي تجده في قوله :
فملكنا بذلك الناس حتى ملك المنذر بن ماء السماء
فالقافية كلها مرفوعة إلى هذا البيت . ولكن الإقواء كان شيئاً شائعاً حتى عند الشعراء الإسلاميين الذين لم يكونوا يرتجلون في كل وقت . تقول إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم . وقد نظمتا في عصر واحد ، إن صح ما يقول الرواة ، فهما مسوقتان إلى عمرو بن هند . فاقرأ هذه الأبيات للحارث وقارن بينهما في اللفظ والمعنى وبين ما قدّمنا لك من شعر عمرو :
ملكُ أضرعَ البريــّةَ لا يـــو جد فيهــــــا لما لديــــه كِفاءُ
ما أصابوا من تغلبيَّ فمطلو ل ، عليـه إذا أصيــب العَفاء
كتكاليف قومنا إذ غزا المنـ ـذر هل نحن لابـن هند رِعاء
إذ أحلّ العلياء قبــة مَيْسُـــو ن فأدنى ديارها العـوصـــاء
فتأوّت لـــه قَراَضِبــةُ مـــن كـــل حـي كأنهـــم ألقـــــــــاء
فهداهم بالأسودين وأمر الــ ـله بَلْغ تشقى بــــه الأشقيــاء
إذ تمنونهم غرورا فساقتــــ ـهم إليكـــم أمنيــــــة أَشْــراء
لم يغرّوكُمُ غرورا ولكــــن رفع الآلُ شخصَهم والضَّحاءوأنظر إلى هذه الأبيات يعير فيها الشاعر تغلْب بإغارات كانت عليهم لم ينتصفوا لأنفسهم من أصحابها :
أعلينا جُناح كِنْــــــدة أن يغـ ـنم غازيهــــمُ ومنّا الجــــزاء
ليس منا المضِّربون ولا قيـ ـس ولا جنـــدل ولا الحـــذّاء
أم جنايـا بني عتيق فمن يغـ در فإنا من حربهــم بــــــرآء
أم علينا جرّى العباد كما نيـ ـط يجـــوز المحمّل الأعبـــاء
وثمانون من تميم بايديــــــــ ـهم رماح صدورهن القضاء
تركوهــــم مُلَحَّبين وآبــــــوا بنهـــاب يُصم منهــا الحــداء
أم علينا جرّّى حنيفة أم مـــا جمعت من مُحارب غبـــراء
أم علينا جَرَّى قُضاعة أم ليـ ـس علينــا فيمــا جنوا أنـداء
ثم جاءوا يسترجعون فلم تر جع لهــم شامــة ولا زهـراءفأنت ترى أن بين القصيدتين فرقا عظيماً في جودة اللفظ وقوّة المتن وشدّة الأسر . على أن هذا لا يغير رأينا في القصيدتين ، فنحن نرجح أنهما منتحلتان . وكل ما في الأمر أن الذين كانوا ينتحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوّة وضعفا وشدّة ولينا . فالذي انتحل قصيدة الحارث بن حِلِّزة كان من هؤلاء الرواة الأقوياء الذين يحسنون تخير اللفظ وتنسيقه ونظم القصيد في متانه وأَيْد . ولسنا نتردّد في أن نعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين في الإسلام لا في الجاهلية
الكتاب الأول :
1- تمهيد
2- منهج البحث
3- مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
4- الشعر الجاهلي واللغة
5- الشعر الجاهلي واللهجاتالكتاب الثاني :
أسباب انتحال الشعر
1- ليس الانتحال مقصورا على العرب
2- السياسة وانتحال الشعر
3- الدين وانتحال الشعر
4- القصص وانتحال الشعر
5- الشعوبية وانتحال الشعر
6- الرواة وانتحال الشعرالكتاب الثالث :
الشعر والشعراء
1- قصص وتاريخ
2- امرؤ القيس . عبيد . علقمة
3- عمرو بن قميئة . مهلهل . جليلة
4- عمرو بن كلثوم . الحارث بن حلزة
5- طرفة بن العبد . المتلمسملحق :
نص قرار النيابة
1- نص بيان الاتهام
2- عن الأمر الأول
3- عن الأمر الثاني
4- عن الأمر الثالث
5- عن الأمر الرابع
6- القانون ونص الحكم