|
قضيـة الفــداء
المذيع الدكتور نجم:- أطمع في أن أطرح عليك سؤالا يرتبط بالمناسبة التي نمر بها وهي
الاحتفال بالجمعة العظيمة. قلتم أن الجمعة الحزينة دعيت هكذا لأن المسيح عليه
السلام قد افتدى خطيئة البشر بنفسه. أنا أريد أن أطرح السؤال ليس من باب المصارعة
والملاكمة ولكن من منطلق الاستيعاب والفهم لهذه القضية.
القمص زكريا بطرس:- مرحباً بك.
المذيع الدكتور نجم:- (يستكمل حديثه):- لأن المناقشات الدينية أحياناً يعتريها بعض
التشنج إذا خرجت عن الموضوعية.
وأنا إنسان مسلم درجت على مفهوم معين. ولكنكم تقولون المسيح عليه السلام امتص (نحن
لا نقبل هذا التعبير كما سيتضح فيما بعد) خطية البشر. أريد أن أقف أمامها وأطرح
عليكم هذا السؤال: أبونا أدم وأمنا حواء ارتكبوا الزلة أو ارتكبوا الخطيئة وعلى
نسلهم أن يدفعوا الثمن! فأرسل الأنبياء ولم يغتفر لهم!، بالتالي وقعت الطوفانات
ووقعت الحرائق وحدثت مواجهات إلى أن أراد الله أن يمتص هذه الخطية! وحدث مزج بين
اللاهوت والناسوت فجعل الله من نفسه ابنا له ! وهذا في المفهوم المسيحي وهو السيد
المسيح عليه السلام الذي تمثل للبشر ابن إنسان.
طبعاً نحن المسلمين نرى أن الله جل وتبارك كمال مطلق، والكمال المطلق لا يحتاج.
بينما الإنسان يحتاج الأكل والشرب والغرائز. والله جل وتبارك ليس بحاجة لهذه
الأمور، فبما أنه أراد للبشر أن يخلق إنساناً مثلهم وهو متمثل في روح ابنه، نحن
نؤمن في روح الله كما أن محمدا حبيب الله، كما أن إبراهيم خليل الله، ولكن مفهومناً
لروح الله يختلف عن مفهومكم.
فكأن الله جل وتبارك وهو المحبة لم يرض أن يفتدى الخطيئة الإنسانية إلا بان يقبض
روح ابنه وبالتالي يسامح البشرية !. أما ترى أن هذه تتنافي مع كلمة "الله محبة" ؟
القمص زكريا بطرس:- إني أفهم وأعي قصدكم واستفساركم.
المذيع الدكتور نجم:- وأنا والله اطرح هذا السؤال بنية حسنة.
القمص زكريا بطرس:- (ضاحكا) وأنا أستقبله بنية أحسن.
المذيع الدكتور نجم:- شكراً.
القمص زكريا بطرس:- في الواقع إن الموضوع يتلخص في قضية معينة، فدعني أتحدث عن تلك
القضية بصفة مجملة حتى نستطيع أن ندرك المقاصد السامية التي وراءها.
إن الله قد خلق الإنسان على أبدع صورة وأحسن مثال.
المذيع الدكتور نجم:- (مقاطعا) نعم "وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم".
القمص زكريا بطرس:- (يستكمل الحديث) جاء هذا في سورة التين هكذا: "وأيضاً قلنا يا
آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا
من الظالمين"ومن هنا دخلت الخطية إلى الإنسان "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل
أدلك على شجرة الخلد (يضعان) عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى".
وفي الكتاب المقدس أيضاً نفس المعنى كما جاء في سفر التكوين "خلق الله الإنسان على
صورته على صورة الله خلقه وأوصى الرب الإله آدم قائلاً من جميع شجر الجنة تأكل
أكلاً أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت،
فقالت الحية (الشيطان) للمرأة لن تموتا بل الله عالم يوم تأكلان منها تنفتح أعينكما
وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها
فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر".
ثم أن الخطية لم تقتصر على آدم وحواء فحسب لكنها امتدت إلى نسلهما ولهذا يقول
القرآن " اهبطا منها بعضكم لبعض عدو " (أي اخرجا من الجنة وسوف تكون بين نسلكم
وبعضه عداوة).
المذيع الدكتور نجم:- (مقاطعا) بعدها انطلقت كلمات الاعتذار فعفي عنه.
القمص زكريا بطرس:- هنا ينبغي أن نلاحظ شيئا مهما جدا، ألا وهو أن صفات الله عز وجل
هي صفات مطلقة: فصفة القداسة ويتبعها العدل هي صفة مطلقة، وكذلك صفة المحبة وتتبعها
الرحمة هي الأخرى صفة مطلقة في الله.
المذيع الدكتور نجم:- (معلقا) الله محبه.
القمص زكريا بطرس:- وكذلك العدل هو أيضا صفة مطلقة في الله.
المذيع الدكتور نجم:- (معلقا) والكمال مطلق.
القمص زكريا بطرس:- (مستكملا حديثه) إذن إن غفر الله للإنسان لمجرد توبته فذلك
يتعارض مع مطالب عدل الله لأن التوبة تعالج المستقبل لكنها لا تعالج أثار الماضي.
فماذا عن الماضي؟
فالواقع إن عدل الله لابد أن يقتص من الخطأ الذي يرتكب في الماضي والحاضر
والمستقبل. ونحن نعلم أن قصاص أو عقوبة الخطية هي الموت. فإن اقتص الله بحسب عدله
من الإنسان وأماته فأين إذن رحمته ومحبته؟؟! إذاً لابد من وجود معادلة حكيمة
للتوفيق بين رحمة الله وعدله، ومن هنا جاء مبدأ الفداء.
المذيع الدكتور نجم:- (مقاطعا) أين الربط بينهما ؟ أنا سؤالي واضح أنه عندما ارتكبت
الخطيئة التي اتفقنا عليها من القرآن ومن الإنجيل، واستمر إلى القرن الذي اعدم فيه
أو صلب فيه السيد المسيح عليه السلام، حدثت في قرون طويلة مآسي كثيرة الطوفان أو
الغرق الذي تعرضت له الأرض أيام سيدنا نوح، وما تعرض له سيدنا إبراهيم، وما تعرض له
سيدنا إسحق وسيدنا إسماعيل، وما تعرض له من تيه سيدنا موسى، وما حل باليهود وانشقاق
البحر، كل هذه إلى أن نصل في النهاية وبعدها تجسد اللاهوت والناسوت في السيد المسيح
وحدث ما حدث له لكي يمتص هذه الخطية، ثم عفي الله عن البشرية هذا هو سؤالي.
القمص زكريا بطرس:- (محتجا) دعني أكمل شرحي، فأنا لم اعترضك وأنت تلقى سؤالك،
فأستسمحك أن لا تعترضني وأنا أقول إجابتي. عندما أنتهي من الإجابة، لك أن تسأل كما
شئت.
المذيع الدكتور نجم:- تفضل.
القمص زكريا بطرس:- إن مبدأ الفداء موجود في كل الكتب الدينية، والفداء هو تنفيذ
العقوبة في شخص آخر يقوم بالفدية كما هو واضح في سورة الصافات 101ـ 107 "فبشرناه
بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا
ترى قال يا أبي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما (أي سلما
أمرهما لله) و تلّه (أي ألقاه على الأرض) للجبين (على وجهه) وناديناه أن يا إبراهيم
قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء (الاختبار) المبين
(الواضح) وفديناه بذبح عظيم". إذن مبدأ الفداء موجود، فعوض أن يذبح ابنه استبدل
بالكبش. ويقول الأمام النسفي تعليقاً على ذلك "إن الفداء هو تخليص من الذبح ببدل
وليس هذا بنسخ للحكم بل ذلك الحكم كان ثابتاً على طريق الفداء" (تفسير النسفي الجزء
الرابع ص 21). إذن مبدأ الفداء موجود في الكتب الدينية وتوجد أيضا آية جميلة في
القرآن.
المذيع الدكتور نجم:- (معلقاً) مادامت جميلة فأكيد في القرآن.
القمص زكريا بطرس:- (وكل الكتب السماوية والإلهية جميلة). في سورة المائدة يقول
"كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل
الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
إذن عندما تقتل نفس طاهرة برئيه (أي نفس المسيح)، فكأنما قتل الناس جميعا، هذا هو
الفداء. ومن أحياها من الموت (بقيامته من الأموات) فكأنما أحيا الناس جميعا، وهذه
هي القيامة الجديدة مع المسيح. إذن مبدأ الفداء مبدأ إلهي عظيم وهو التوفيق بالحكمة
الإلهية بين الرحمة المطلقة والعدل المطلق، وإلا صارت أحكام الله تلغى بواسطة مجرد
كلمة. ولكن لا بد أن يفهم الإنسان أن غفران الخطية إنما هو أمر ليس بالسهولة التي
يتصورها كأن يتوب ـ مجرد التوبة أو الأعمال الصالحة التي يعملهاـ تغفر له الخطايا.
لأن ذلك يتصادم مع عدل الله، ولهذا كان مبدأ الفداء في فكر الله وحكمته التي بها
فدي الله البشرية إذ أخذ الحكم الذي كان محكوما به عليه ونفذه في نفسه هو بدافع
المحبة الفائقة.
تسألني أيضا وتقول كيف تؤخذ نفس طاهرة وتمتص غضب الله ويقتل؟ ما ذنبه؟ وكيف يكون
هذا موافقا لحب الله؟
دعني أقول لك هاتين الآيتين من القرآن:-
(1) في سورة البقرة آية60 "كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق".
(2) وفي سورة البقرة آية 86 "أ فكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم
ففريقاٌ كذبتم وفريقاٌ تقتلون".
فهنا نفوس نبيين تقتل بغير الحق. هل في ذلك ظلم؟ إذن كون المسيح يتقدم بحب ليتحمل
هذا الموت فهذا لا يتعارض مع محبة الله بل إنها المحبة المضحية الباذلة تلك التي
تتحمل فدية الإنسان بدافع الحب لأجل الغفران. هذا هو المبدأ الذي نحن نؤمن به،
وتؤمن به المسيحية في قضية الفداء والغفران.
المذيع الدكتور نجم:- جميل، جميل، جميل … ولكن أضيف إليه سؤالا.
القمص زكريا بطرس:- تفضل.
المذيع الدكتور نجم:- هل امتصاص الخطية قد تم لبني الإنسان فوق هذا الكوكب علي ما
ارتكبوه من خطايا قبل الفداء أم بعد الفداء ؟
القمص زكريا بطرس:- كان الفداء لخطية البشرية الأم. وخطية البشرية الأم هي الانفصال
عن الله. فيوم أن خلق الله الإنسان خلقة ليكون معه يحيا في محبته ويتمتع بسلامه
وبكل ما خلقه له بطهارة وبر. ولكن الإنسان انفصل عن الله بسبب الخطية وأراد أن يكون
هو شيئا عظيما وأراد أن يصير مثل الله. هذا الانفصال هو الخطية الأم، ونسميه موت
روحي. وفي عودة الإنسان إلي الله هو العلاج، وأما الخطايا الأخرى فسوف يسهل علاجها،
لأن الإنسان الذي يتحد بالنعمة الإلهية ويعيش في حضرة الله القدسية إنما تشبع نفسه
بالله، ويقول الكتاب ( النفس الشبعانة تدوس العسل ) فلو كانت الخطية شهدا لداسها
بأقدامه. إذن الفداء هو علاج للخطية الأم أي الانفصال عن الله. فكل من يقترب من
الصليب يعود إلي حضن الله. فالصليب إذا ينقل الفداء إلى عامة الناس ولجميع الناس
فهو يشمل البشرية جمعاء، وليس أناسا معينين أو جنسا بذاته لكن الحب الإلهي هو
للجميع. |
|