حتمية الفداء |
|
الفصل الثاني: الفداء في الإسلام
رأينا مما سبق ما يتعلق بالفداء من وجهة النظر المسيحية. وسنرى هنا وجهة نظر الإسلام في ذلك. والواقع أن الفداء يتعلق بمشكلة العدل والرحمة كما رأينا في فصول سابقة، والإسلام أيضا يشهد بأن الله عادل وبعدله حكم على البشرية بالموت من أجل خطاياهم كما جاء في (سورة البقرة) "من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار". ولكن الإسلام يقر أيضاً أن الله رحيم ولا بد أن يغفر الخطايا ويخلص البشر من نار جهنم كما جاء في (سورة آل عمران) "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها". وهذا ليس بالأمر الهين أو البسيط بل إن الإسلام يشهد بأنها مشكلة ليست هينة إذ يقول القرآن في (سورة الزمر19) "أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار". وقد فسر الإمام النسفى ذلك قائلاً:"معناه أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه (أفأنت تنقذه) أي لا يقدر أحد أن ينقذه" (تفسير النسفى جزء4 صفحة41) ولهذا نرى أن الإسلام يقر الفداء كما يتضح مما يلي :- أولاً: فكرة الفداء في الإسلام 1- مفهوم الفداء: يقول الإمام النسفى: "الفداء هو التخليص من الذبح ببدل .. وليس هذا بنسخ للحكم، بل ذلك الحكم كان ثابتاً على طريق الفداء". (تفسير النسفى جزء 4 صفحة21). وهذا المفهوم يتفق تماما مع المفهوم المسيحي للفداء، نعم إنها أرضية مشتركة. 2- أمثلة للفداء: ضربنا في معرض الحديث عن الفداء في المسيحية عدة أمثلة وهي: فداء اسحق وفداء بكر الإنسان وذبائح الفداء للتكفير. وسنضرب أيضاً من الإسلام أمثلة تؤيد هذه النظرية: ( أ ) فداء ابن إبراهيم : لقد اختلف أئمة الإسلام فى تحديد المقصود بابن إبراهيم، هل هو اسحق أم إسماعيل؟ فقال بعضهم أنه إسماعيل وقال آخرون أنه اسحق. وقد ذكر الإمام النسفى الرأيين فيما كتبه، وقد آثرنا أن نقتبس كلامه بالحرف الواحد إذ قال: "الذبيح إسماعيل وهو قول: أبى بكر وابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين رضى الله عنهم. وعن على وابن مسعود والعباس وجماعة من التابعين رضى الله عنهم أنه اسحق، ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف عليهما السلام: من يعقوب إسرائيل الله ابن اسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله". (تفسير النسفى جزء4 صفحة 20 وطبعاً الأرجح هو أنه اسحق لأنه ثابت بالدليل السابق ذكره ولأن رواية التوراة والإنجيل تدل على أنه اسحق. على أي حال قد ذكر القرآن قصة هذا الفداء كالآتي:- سورة الصافات101-107 "فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي (أي يسعى مع أبيه في أشغاله) قال يا بني أنى أرى في المنام أنى أذبحك. فانظر ماذا ترى (أي ماذا تبصر من رأيك). قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما (أي انقادا لأمر الله وخضعا) وتله للجبلين (أي صرعه على جبينه ووضع السكين على حلقه) وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزى المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين (أي الاختبار البين) وفديناه بذبح عظيم". وقد فسر هذه الجملة الأمام النسفى قائلاً: "هنا إشكال وهو أنه لا يخلو ما أن يكون ما أتى به إبراهيم من بطحه (بطح ابنه) على شقه وإمرار الشفرة (السكين) في حلقه، في حكم الذبح أم لا؟ فان كان في حكم الذبح فما معنى الفداء الذي ذكر في الآية القائلة وفديناه بذبح عظيم؟ والفداء هو تخليص من الذبح ببدل … وقد وهب الله لإبراهيم الكبش لقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة في نفس إسماعيل بدلا منه . وليس هذا بنسخ منه للحكم، بل ذلك الحكم كان ثابتا على طريق الفداء. على أن المبتغى منه في حق الولد أن يصير قربانا بنسبة الحكم إليه ومكرما بالفداء". (تفسير النسفى جزء 4 صفحة 21 ) فلعلك تدرك من قول الإمام النسفى هذا تأكيدا لشريعة الفداء أي التخليص ( أو الخلاص ) من الحكم ببدل . ورغم أن الفادي هو الذي تحمل الحكم فلا يعتبر هذا نسخا ( أي نقضاً ) للحكم ذاته بل تثبيتاً له وتكريماً لشخص المفدى. (ب) فداء عبد الله بن عبد المطلب: لقد نذر عبد المطلب جد الرسول نذراً لله بقوله يارب، لئن رزقت أولاداً عشرة وبلغوا أشدهم معي ، لأنحرن ( أذبح ) أحدهم لك عند الكعبة. وعند ما رزق بأولاده العشرة، أراد ذبح من طلعت عليه القرعة، وهو عبدا لله أبو الرسول، فخرجت قريش لتمنع ذبحه، فقال لهم : وماذا أفعل وقد نذرت ذلك، فوجب على الوفاء ؟! قالوا : إن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وإن كانت بأنعامنا (أي مواشينا) نحرناها فى سبيله. وعندما استشاروا العرافة، سألتهم: كم الديّة فيكم، إذا أردتم أن تفدوا مذنباً؟ قالوا : عشرة من الإبل. قالت: تقربوا بها، فإن لم تقبل زيدوها عشراً بعد عشر حتى يرضى ربكم. وضربوا بالقداح (القرعة) بين عبد الله والإبل. فخرجت على عبد الله، فزادوا الإبل عشرة أخرى، وضربوا فخرجت كذلك على عبد الله، فما زالوا يزيدون فى الإبل وتخرج على عبد الله. وعبد المطلب قائم يدعو الله أن يقبل فداءه ويسمع شفاعته حتى بلغت الإبل مائة، فخرجت عليها. ففرح القوم وهللوا، وقالوا لعبد المطلب: لقد تقبل الله فداء ابنك يا عبد المطلب (عن كتاب المولد للشيخ محمد برانق ص 17) يتضح لك من هذه الحادثة أيضاً فكرة الفداء، فعبد المطلب نذر أن يذبح أحد أبنائه لله، ولابد أن ينفذ نذره، ولكنه إذ التجأ لرحمة الله، حتى لا يذبح ابنه، كان لزماً عليه أن يرضى عدل الله بتنفيذ حكم الذبح فى بديل بأن يقدم فداء عن ابنه ليموت عوضاً عنه. أليس هذا مثل واضح عن مبدأ الفداء؟! ومثل ثالث نسوقه لتأكيد فكرة الفداء في الإسلام: (ج) ذبائح عيد الأضحى: فعيد الأضحى يعرف باسم (عيد التضحية والفداء) (جريدة أخبار اليوم بتاريخ 25/4/1964 ) والذبائح التي تنحر فيه هي بقصد الفداء كما يتضح مما يلي: كتاب دين الإسلام : يسمى عيد الأضحى في بلاد الفرس (عيد القربان) أي الذبيحة، ويقال أثناء الوضوء في هذا العيد هناك: (اللهم اجعل هذه الذبيحة كفارة عن ذنبي وانزع الشر منى. (ص367) كتاب الفقه: روى مسلم عن أنس رضى الله عنه قال: ضحى النبى صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده الكريمة (جزء1ص711) · كتاب مشكاة المصابيح: أن النبي وهو يذبح الكبشين قال: "اللهم هذا عنى وعمن لم يضح من أمتي" (ص42) · كتاب إحياء علوم الدين : روى البزار وأبو الشيخ عن أبى سعيد قالا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فأشهديها، فان لك بأول نظرة من دمها أن يغفر لك ما سلف من ذنوبك. (جزء1 ص 243) كتاب إحياء علوم الدين: جاء فيه:"وأما ذبح الهدى (أي الضحية) هو تقرب إلى الله تعالى. فعليك أن تكمل الهدى (الضحية) واطلب أن يعتق (يحرر) الله بكل جزء منه (أي من الهدى أو الضحية) جزءا منك من النار. فكلما كان الهدى (أو الضحية) أكبر وأجزاؤه أوفر كان فداؤك من النار أعم"(جزء 1صفحة 243) من كل هذا يتضح لك جيداً أن ذبائح عيد الضحية يقصد بها الفداء والتكفير وبهذا قد اتضح لك اقرار الإسلام بفكرة الفداء. ثانياً: فداء البشرية والإسلام أيضاً يقر أنه لابد من فداء للبشرية، وأوضح هذا المعنى فى قول القرآن : سورة المائدة: "كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس ( أي من قتل نفساً بريئة لم تقتل نفسا ) أو فساد فى الأرض (أي نفسا طاهرة لم تفسد فى الأرض) فكأنما قتل الناس جميعاً". ولعلك تجد فى هذا المعنى فكرة الفداء واضحة. فالناس لكونهم خطاة فهم مستحقين الموت كما سبق أن أوضحنا "من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار" (سورة البقرة). ولكن إذا حمل هذا الحكم إنسان برئ طاهر، اعتبر موته موتاً للناس جميعاً. وهذا يقودنا أيضاً إلى بحث شروط الفادي من منطلق هذه الآية القرآنية: 1- شروط الفادي : من حديثنا عن الفداء فى المسيحية عرفنا شروط الفادي، وهنا نرى موافقة الإسلام أيضاً على نفس الشروط، فدعنا نستوضح ذلك على ضوء هذه الآية القرآنية السابق ذكرها وآيات أخرى غيرها: (أ) الفادي غير محدود: فلا يستطيع أحد أن يكفر عن خطيئة الإنسان غير المحدودة سوى الله الغير محدود، فنرى فى القرآن ما يشهد لذلك كما يتضح من الآيات التالية: سورة الطلاق: "من يتقى الله يكفر عنه سيئاته". أي أن الله هو الذي يكفر الخطايا. سورة المائدة: "لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار". فمن هذا يتضح أن الله وحده هو الذي يستطيع أن يكفر عن خطايا البشرية، لذلك نراه في الآية الأخيرة هذه يؤكد الأمر بقوله: لأكفرن أي أنه يؤكد أن الله بذاته هو الذي يكفر الخطايا. (ب) الفادي إنسان: ينبغي أن يكون الفادي إنسانا حتى ينوب عن البشرية ويعتبر موته موتاً للناس جميعا كما نرى : سورة المائدة (4): "كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس [أي بريئا لم يقتل نفسا] أو فساد في الأرض [أي طاهرا لم يفسد في الأرض] فكأنما قتل الناس جميعا. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. فمن هذا يتضح أن الفادي الذي يستطيع بموته أن يكفر عن الناس جميعاً، لا بد أن يكون [نفسا] من طبيعة نفوس البشر، فيعتبر موته موتاً للناس جميعاً. (ج) الفادي طاهر : ففي نفس الآية السابقة نرى هذا الشرط أيضا: سورة المائدة: "كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض ( طاهرة ) فكأنما قتل الناس جميعا". فالشخص الذي يعتبر موته موتاً للناس جميعاً يجب أن يكون طاهراً لم يصنع فساداً في الأرض). 2– المسيح الفادى: أ- غير محدود : لكونه كلمة الله وروح منه "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (سورة المائدة). وقد قال الشيخ محي الدين العربي: "الكلمة هي الله متجلياً … وهي عين الذات الإلهية لا غيرها". (كتاب نصوص الحكم جزء 2 ص 35). وقال أيضا "الكلمة هي اللاهوت". (كتاب فصوص الحكم جزء 24 ص 134) فبما أن المسيح هو كلمة الله وروح منه فهو غير محدود لأن روح الله غير محدود. (لزيادة المعرفة انظر كتاب المسيح ابن الله للمؤلف). ب- إنسان: والمسيح من جهة الناسوت (طبيعته الجسدية) هو مجرد إنسان عادي، فهذا ما قاله الملاك في بشارته لمريم، كما جاء في سورة مريم "قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (أي طاهرا)" فهو يبشرها بغلام أي بشر طاهر. ج- طاهراً: فالقرآن والحديث يشهد للمسيح بأنه الإنسان الوحيد الطاهر دون البشر جميعاً. سورة مريم: التي سبق ذكرها من قبل يقول فيها الملاك:" قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (أي طاهرا)" فالمسيح بشر طاهر. سورة آل عمران: "وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها(أي المسيح) من الشيطان الرجيم". وقال الامام الرازى في تفسير كلمة (المسيح) "أنه مسح من الأوزار الآثام... مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً من مس الشيطان] (تفسير الرازى جزء 3 ص 676). وعن أبى هريرة قال [ سمعت رسول الله (ص) يقول ما من مولود من بنى آدم إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من لمسه إياه ، إلا مريم وابنها ] وجاء في البخاري: " ابن آدم يطعنه الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب (الشيطان) ليطعن فطعن في الحجاب. أي لم يمسه بشيء". من هذا يتضح لنا جلياً أن المسيح هو وحده الطاهر الذي لم يستطيع الشيطان مسه. وبهذا اكتمل في المسيح شروط الفادي الكاملة: غير المحدودية، الإنسانية، الطهارة. ثالثاً : عمل الفداء أوضحنا في حديثنا عن عمل الفداء في المسيحية أنه شمل عدة أمور جوهرية قد تمت بالمسيح وهنا نرى شهادة الإسلام أيضاً لذلك. 1- الرحمة: فالفداء هو عمل رحمة الله إذ جاء بالحديث في صحيح البخاري:"ما منكم أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى قيل ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا يتغمدنى الله برحمته ) . والقرآن يلقب المسيح أنه هو رحمة الله كما جاء في: سورة مريم : ( ولنجعله (أي المسيح" آية للناس ورحمة منا). 2- الشفاعة: وقد وضح القرآن وأئمة الإسلام أن الشفاعة هي: ( أ ) من حق الله وحده: كما ذكر في سورة السجدة : ( الله الذي خلق السموات والأرض .. مالكم من ولى ولا شفيع ) . وفي تفسير الجلالين تفسير هذه الآية . (من دونه) أي غيره (ولى) أي ناصر، (شفيع) أي يدفع عذابه عنكم . (ب) الشفاعة منسوبة للمسيح: فقد نسب القرآن الشفاعة للمسيح بقوله في سورة آل عمران:"إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ). وقد أجمع المفسرون: الرازى والزمخشرى والبيضاوى والنسفي وغيرهم على أن "الوجاهة في الآخرة هي الشفاعة" 3- الموت عن البشرية: سورة المائدة : "كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) والمسيح الذي قتله بنو إسرائيل دون أن يقتل أحداً، بل على العكس كان يحيى الموتى، ودون أن يفسد في الأرض، بل هدى الناس إلى السلام، فهم بذلك كأنهم قتلوا الناس جميعاً. 4- إحياء البشرية: في سورة المائدة جاء القول: "كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) والمسيح بعد أن توفاه الله على أيدى اليهود الماكرين، ورفعه إليه أي أحياه فكأنما أحيا الناس جميعاً. والشهادات على قيامة المسيح من الأموات كثيرة نقتصر منها على ما يأتى:- سورة مريم: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا". سورة آل عمران: "إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى". قال وهب :- ( توفى الله عيسى ثلاث ساعات ثم رفعه إلى السماء فذلك قوله تعالى (إني متوفيك ورافعك إلى) من هذا نرى أن المسيح قد قام من الأموات واعتبرت قيامته هذه هي إقامة لكل البشرية معه، وهذا من بركات الفداء العديدة. |