لقائي مع المسيح
كنت ناهد محمود متولي، وكيلة شؤون الطالبات بمدرسة حلمية الزيتون الثانوية بنات، أكبر مدارس القاهرة. كان بالمدرسة حوالي أربعة آلاف طالبة ولذلك اضطرت إدارة المدرسة أن تقسم الدراسة إلى فترتين، فترة صباحية وفترة مسائية. وكنت أنا كوكيلة لشؤون الطالبات مسؤولة عن الفترتين، مع أني أصغر الوكيلات سناً وأحدثهم تخرجاً، ولكني وصلت لهذا المركز لسببين:-
السبب الأول:
وهبني الله شخصية متميزة، شخصية قوية و وهبني أيضاً الذكاء. كنت أثق بنفسي وقدرتي على أن أي عمل أقوم به، أعمله على أكمل وجه. كنت أتعلم كل شيء بمنتهى السرعة، دون أن أطلب من أحد أن يعلمني، ولكن بمجرد مراقبة الآخرين في هدوء بينما كنت أتظاهر أني لا أراقب أحداً.
رقيت إلى مركزي هذا قبل دوري بعشر سنوات. تعلمت أعمال شؤون الطالبات من وكيلة قبلي أكبر سناً، وأنا أساعدها في بعض الأعمال البسيطة حتى أتقنت عملي أكثر منها. أيضاً تعلمت أعمال الامتحانات وطباعة الأسئلة من وكيلة أخرى أكبر سناً، كنت أراقبها بمنتهى الدقة وهي تستعمل آلة الطباعة لطبع أسئلة الامتحانات وكل أعمال السريات حتى تفوقت عليها. أتقنت الطباعة أكثر منها، وجاءت الفرصة لأظهر كفاءتي عندما بلغت إحدى الوكيلتين سن الستين، وكانت المسؤولة عن الطباعة وأعمال الامتحانات وحصلت الأخرى – المسؤولة عن شؤون الطالبات – على إعارة إلى إحدى الدول العربية، وبالتالي قمت أنا بعمل الوكيلتين معاً. وأصبح كل عمل سري وهام في يدي وشعرت أني ملكة في المدرسة، كل شيء بأمري، لا يستطيع أحد أن يقف أمامي أو يرفض لي طلب. أصبحت الآمر الناهي في المدرسة، حتى مديرة المدرسة أصبحت صديقتي ولا تستطيع أن تتخذ قراراً بدون استشارتي. الجميع يحسبون لي كل حساب. كنت أشعر أن الله يزيدني قوة وذكاء ورهبة. الجميع يخافني ويحاول أن يرضيني، وزادني هذا علواً حتى أني أصبحت أنظر إلى الجميع على أنهم دوني بكثير.
ولم أقف عند هذا الحد ولكن طلبت أن أكون وحدي المشرفة على مجموعات التقوية. كنت أقوم بنفسي بتحصيل قيمة المجموعات من الطالبات، وكنت أجمع ما بين اثني عشر وخمسة عشر ألف جنيه شهرياً. كنت أحصل على مكافأة شهرية ما بين مائتي وخمسين جنيهاً وثلاثمائة جنيهاً، بالإضافة إلى ثلاثمائة جنيه من أعمال الطباعة والامتحانات.
والسبب الثاني: كان السبب الثاني في وصولي إلى هذا المركز هو أسرتي والمراكز المرموقة التي يشغلها أفراد أسرتي، فزوج شقيقتي الكبرى وكيل أول ونائب وزير الحكم المحلي ورئيس مجلس أباء المدرسة على مدى ست سنوات، حيث كانت ابنتاه طالبتين بالمدرسة. أخي مدير إدارة التوصيف بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة. زوج شقيقتي الصغرى مقدم طيار، برئاسة الجمهورية. أختي مديرة العلاقات العامة بإدارة مصر الجديدة التعليمية، وزوجها عميد بالمخابرات العامة.
زادني كل هذا غروراً واستعلاء، هذا بالإضافة إلى لباقتي في الحديث فقد كنت أتكلم لمدى ساعات ولا يمل أحد من حديثي، لدي الحجة القوية، والإقناع وقوة الشخصية وازددت ارتفاعاً وعلواً.
كان هذا هو مظهري من الخارج، ولا أحد يعرف ما بداخلي، إنه مختلف تماماً. كنت بداخلي إنسانة رقيقة حساسة تحب الله، نعم أحبك يا رب من كل قلبي، وأخاف منك، وأشعر أني بعيدة عنك. كنت أبحث عن الله دائماً، وأشعر أن هناك حاجز بيني وبينه، ولا أعرف كيف أعبر هذا الحاجز. كنت أصلي كثيراً واقرأ القرآن كثيراً، ولكن. كلما قرأت أكثر، كلما ازداد البعد بيني وبين الله، ورغم أني أحببته أكثر إلا أني كنت أشعر أن هناك خطأ ما. كنت أكره المسيحيين لا لشيء إلا لأنهم لا يحبون الإله الذي أحبه ولا يعبدونه بطريقتي، ولأنهم ضلوا الطريق ولذلك يجب أن أكرههم.
كنت أتفنن في إهانتهم، وإيذائهم، والإيقاع بهم، لا لأني شريرة، ولكن لأنهم لا يحبون الله الذي أحبه، والذي أعبده. وكان هناك شيء يحيرني: ما هذا السلام الذي افتقده أنا، وأبحث عنه في كل مكان؟ إني أغنى منهم جميعاً، وارتدي أفخم الثياب، ولا ينقصني شيء، ولكن هناك شيء أقوى بداخلهم. كنت أعرف الشخص المسيحي من نظرة عينيه . . نظرة عميقة. ثابتة. هادئة . . لماذا؟
كان علي أن أحاول إثارتهم لأفقدهم هذا السلام الذي يحيرني، والذي أبحث عنه دون جدوى.
وفي يوم حضر إلى مكتبي قس، وعندما دخل من الباب بملابسه السوداء، شعرت برعشة قوية . . لكني تماسكت وقلت في نفسي لقد وقع في يدي. تجاهلته تماماً، تركته يدخل ويمشي إلى أن وصل أمام مكتبي، وقف ينظر إلي، وتظاهرت وكأني اقرأ في أوراق هامة أمامي. بعد فترة ناداني بصوت هادئ: "حضرتك مدام ناهد متولي؟"
رفعت رأسي ونظرت إليه، وحينما وقعت عيني على عينيه شعرت أني خائفة منه، إنه أكثر ثباتاً وسلاماً. ولكني تماسكت وقلت له باستهزاء "نعم" مد يده نحوي وهو ممسك بأوراق تحويل وقال في هدوء "أريد أن أحول ابنتي من مدرسة بالصعيد إلى مدرستكم." رفعت أنا صوتي مقاطعة "من الصعيد إلى حلمية الزيتون مرة واحدة . . لماذا؟" قال في أدب "ظروف خارجة عن إرادتي" وأضاف بسرعة "هذا إيصال نور باسمي يثبت أن سكني في المربع السكني التابع لمدرستكم، وهذه أوراق تحويل اخوتها بالإعدادي والابتدائي وكلها موافق عليها." أخذت منه الورق أفحصه لعلي أجد أي خطأ لكي أرفض التحويل، ولكني لم أجد شيئاً، رفعت رأسي ونظرت إليه فوجدته ينظر إلي نظرة عجيبة، كلها سلام وهدوء وثبات وفي نفس الوقت رقة وأدب. حاولت أن استفزه أو أثيره فقلت له "نريد تبرع للمدرسة" قال بكل أدب "موافق،" فقلت له "أثاث لا يقل عن 100 جنيه،" قال بكل ترحاب "موافق،" ثم أضاف في هدوء "لكن أرجوك أولاً وقعي بالموافقة لأني سوف أرسل هذا الورق إلى الصعيد الآن مع شخص سوف يسافر بعد ساعة، وأنا سوف أذهب في الحال وأشتري ما تريدين." ومع أن التحويل كان من حقه وكنت أتوقع أن يثور أو يرفض أن يتبرع، أجده يستعطفني، وثرت وقلت له بكل حدة "لا ما أريده أنا أولاً" قال في هدوء "ثقي في وصدقيني." لم أحتمل نظرته لي ووجدتني أوقع بالموافقة ودعوته للجلوس. أخذت الورق وانطلقت إلى الحجرة المجاورة لحجرتي، حجرة شؤون العاملين، لكي أختم الورق بنفسي مع أني لا أتصرف هكذا أبداً، شعرت وكأنه حرك شيئاً ما بداخلي لا أعرفه ولكنه شعور عجيب. إني معجبة به وأريد أن أعتذر له، أريد أن أقول له لا أريد منك تبرعاً، أريد أن أقول له سامحني على الطريقة التي عاملتك بها، ولكني لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة.
وكانت الصفعة قوية عندما عاد بعد أقل من ساعة وفي يده إيصال سداد لمكتب ثمنه 120 جنيه، قال وهو سعيد "تستطيعي أن ترسلي أحد عمال المدرسة لإستلام المكتب." ولأول مرة في حياتي أشعر بالندم. شكرني وصافحني وانصرف، وهو لا يدري ما يدور بداخلي . . إني في حالة سيئة جداً ويدور برأسي سؤال واحد: ما هذا الشيء الذي بداخل هذا الرجل؟ وكيف يتصرف بهذا الأسلوب الرقيق المؤدب؟ فيه ما افتقده وأبحث عنه . . السلام.
حاولت أن أنسى كل ما حدث ولكني من آن لآخر كنت أتذكر نظرته إليّ وعيناه المملوءتان عمقاً وسلاماً . . لكني تناسيت الموضوع وعدت إلى أسلوبي مرة أخرى بل وبأكثر شدة.
وفي العام الدراسي 1986 – 1987 صدر قرار الوزير بتعيين مدير عام مسيحية في مدرستي، وكانت صدمة بالنسبة لي إذ كيف تكون لي رئيسة مسيحية؟ كيف . . لا أستطيع أن أحتمل هذا الموقف. بدأت أدبر خطة محكمة لأرغمها على ترك المدرسة، لابد أن أكثف جهودي ضدها لأدفعها أن تهرب من المدرسة. بدأت أتجاهلها كأنها غير موجودة، أخذت أشعرها أنها لا شيء بالنسبة لي، وأنها تجعل اللوائح التي احفظها أنا عن ظهر قلب، وكلما أبدت رأياً في أي موضوع أجيبها بخيبة أمل، وأخذت أتصيد لها الأخطاء وانتهز أية فرصة لأشعرها أنها ليست في موضوع احترام بالنسبة لي.
وجاءت الفرصة الذهبية لكي أوقع بها، لقد أخبرتني إحدى المدرسات المسلمات أن أحد الفصول بالفرقة الثانية علمي به عدد كبير من الطالبات المسيحيات وقد قمن بعمل مجلة حائط بها بعض الآيات من الإنجيل، وعلى الفور توجهت لهذا الفصل ونزعت المجلة من على الحائط. إنها الفرصة التي كنت انتظرها من زمن، وجلست لأكتب خطاب سري وهام إلى مدير عام إدارة شرق القاهرة متهمة فيه تلك السيدة، إنها هي المحرض للطالبات اللاتي قمن بهذا العمل الفظيع، وأنها تقصد بذلك إثارة فتنة طائفية في المدرسة، وطلبت سرعة التحقيق واتخاذ اللازم. ولم أستطع الصبر إلى الغد لأرسل هذا الخطاب السري الهام بالبريد بل أرسلته مع مندوب خاص ليسلم باليد. وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة مبكرة لأرى بنفسي ما سيحدث. أرسل مدير عام الإدارة محققة مسلمة محجبة للتحقيق في هذا الموضوع، وبدأ التحقيق مع الطالبات الأربعة اللواتي قمن بعمل المجلة كل واحدة على انفراد. رأيت الرعب الذي ملأ الطالبات، كانت كل طالبة تدخل إلى المحققة وتمكث ساعة أو أكثر وتخرج منهارة باكية، حتى انتهى التحقيق مع الطالبات. وجاء دور مدرسة الدين المسيحي وكانت هي إحدى مدرسات العلوم بالمدرسة، وتقوم أيضاً بتدريس الدين المسيحي، ومكثت مع المحققة مدة أطول، ثم شاهدتها وهي خارجة وعينيها حمراوتين كالدم من شدة البكاء. أما أمينة الفصل وهي مدرسة مسيحية كانت تقوم بتدريس مادة الرياضة . . وهي إنسانة رقيقة ومؤدبة، فقد نظرت إلي والدموع تنهمر من عينيها، وكادت أن تستعطفني وقالت "هل أنا مجنونة يا أبلة ناهد لكي أحرض الطالبات لمثل هذا العمل؟" ولم استطع الرد عليها.
وجاء دور المدير العام وسمعت صوتها وهي تصرخ قائلة "لا . . لا، يمكن إني أرفض هذا الاتهام وأرفض الإجابة وأرفض أن يحقق معي . . أنا ذاهبة إلى الوزير." وخرجت تجري من المدرسة.
لا أستطيع أن أصف حالة الرعب وجو الخوف الذي ساد على مسيحيي المدرسة. وزادني هذا الشعور كبرياء، ورحت أطيح بالكل دون أن يوقفني أحد، وأصدرت أمراً بمنع أية طالبة مسيحية أن تعلق صليباً. وزاد جفائي للمسيحيين لدرجة أني لم أكن ألبي لأحد منهم أي طلب، حتى ولو كان من حقهم، وبدأ الجميع يخافني أكثر وأكثر ويتحاشاني.
ولم أقف عند هذا الحد . . لابد أن أضرب المدير المسيحية ضربة قاضية، وأخذت انتهز الفرص لكي أنفرد بها. مكثت أراقبها . . متى تحضر إلى المدرسة ومتى تتصرف، ولاحظت أنها تأتي مبكرة، فرسمت خطتي على هذا الأساس وأحكمتها بحيث انفرد بها فور وصولها إلى المدرسة وقبل حضور الجميع. في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة مبكرة جداً، وبعد لحظات حضرت ودخلت إلى مكتبها المجاور لمكتبي، فدخلت عليها في مكتبها وعلامات الشر واضحة على وجهي. وعندما نظرت هي إلي بدى عليها الخوف والرعب، فزادني هذا شجاعة، وقلت لها في حدة: "ماذا تفعلين هنا؟ أنا لا أطيق وجودك معي في هذه المدرسة، ولا أريد أن تبقي هيا أخرجي." ولم تصدق نفسها ولم تصدق ما سمعت ونظرت إلي في ذهول وقالت: "ماذا تقولين؟ هل جننت يا ناهد؟" قلت لها: "أنا جننت!! أنت المجنونة ولن يجمعنا مكان، هيا اخرجي." لاحظت أنها تحاول الهروب من أمامي، فمددت يدي وكأني سأضربها وقلت لها: "إن مكثت هنا سوف أقتلك!" وإذ بها تجري من أمامي باكية، رفعت صوتها تطلب نجدة، فجريت إلى مكتبي وجلست وكأن شيئاً لم يحدث، وسمعتها تصرخ وتقول: "الحقوني ناهد تريد أن تضربني وتقتلني." تجمع بعض المدرسين ووجدوني جالسة في مكتبي هادئة مبتسمة ونظرت إليها مشفقة وقلت: "ما هذا الذي تقولينه؟ لن يصدقك أحد . . لماذا تتهميني بهذه الحماقة؟" لكنها خرجت مسرعة من المدرسة إلى مكتب وكيل الوزارة، وفي نفس اليوم أرسل وكيل الوزارة محقق للتحقيق معي، وكان المحقق مسلماً، وعندما أنكرت كل ما قالته عني، صدقني على الفور وخصوصاً أن هناك مجموعة كبيرة تطوعوا وشهدوا أنهم كانوا جالسين معي في مكتبي في ذلك الوقت، وشهد الجميع أن هذه السيدة تكرهني وأنها دبرت هذه القصة لتتخلص مني لتحل مكاني أخرى مسيحية، وتحولت القضية إلى تعصب ديني وكان ذلك لمصلحتي.
ولم تستطع المديرة البقاء في المدرسة أكثر من ذلك وطلبت نقلها إلى الوزارة، وبالفعل صدر قرار نقلها وخرجت من المدرسة بلا عودة. وشعرت بعد هذا الانتصار أني ازداد كبرياء وازددت قسوة على مسيحيي المدرسة، وأيضاً ازداد الجميع خوفاً مني، وأصبحت بالفعل ملكة. وسيطرت أكثر وأكثر . . لا يرد لي طلب ولا ترفض لي كلمة، ولا يتم شيء بالمدرسة – حتى وإن لم يكن من اختصاصي – إلا بموافقتي عليه. ولم يقوى أحد على أن يقف أمامي أو أن يناقشني، وإذا تصادف ووجدت طالبة تعلق صليباً على صدرها لم أكن أتورع عن أن أنزعه منها، وألقيه على الأرض.
هكذا كانت ناهد محمود متولي