لقائي مع المسيح
ما أجمل الحياة معك، مرت أيام كثيرة ألقي فيها الرعاية والمحبة من "أبونا" بطرس، كنت أواظب على الصلاة والتناول يومياً، كلي اشتياق إليك . . لقد أصبح عملي عبء ثقيلاً أشعر أني أبذل مجهوداً كبيراً كي أبدو كما كنت، ولكن كيف؟ كيف أخفى ما بداخلي . .! لقد بدأ الجميع يسألوني ما بك؟ لقد تغيرت؟ نعم وكيف اخفي وأنت ساكن أعماقي تضيئها بنورك العجيب، لقد أبدلتني . . شكلي تغير . . صوتي . . حتى ملمسي . . ملكت قلبي وعقلي . . ساعدني يا ربي أن أتماسك حتى نهياة العام الدراسي.
انتهى عام 1988، عام ميلادي الجديد وجاء عام 1989. استقبلت العام الجديد في الكنيسة. وفي عيد الميلاد المجيد 7/1/1989 وقفت بين يديك الكريمتين أشكرك وأمجدك. لقد مر عام على رؤيتك الغالية . . أشعر بوحشة إليك . . أريد أن أراك مرة أخرى . . أغمضت عيني وأنا أقول يا رب أرحم، وإذ بك يا إلهي واقف أمامي . . صدرك عاري ويداك مسمرتان على الصليب وتنزف دماً . . على رأسك إكليل من شوك، وكأن الشوك قد دق في جبهتك وانغرس في وجنتيك والدم يسيل . . غطى وجهك الكريم . . شعرك أيضاً قد ابتل من الدماء وكذلك لحيتك . . أردت وجهك لليسار واليمين لكي أرى بوضوح جراح وجهك والدماء تغطيه، من شدة ألمك وانفعالك بدت الشعيرات الدموية واضحة وكأنها منفجرة . . كل هذا رأيته في لحظة . . كل شيء واضح تماماً . . الدماء تغطي وجهك، وعينيك غائرتين من شدة الألم والإعياء . . كاد قلبي أن يعتصر من شدة الألم . . لم أتحمل، صرخت صرخة مكتومة وفتحت عيناي . . لكن صورتك أمامي . . كل هذه الآلام من أجلنا نحن . . لقد رأيت بعيني، إن ما رأيته لا يوصف ولا يتحمله بشر . . أنت تحملته يا حبيب.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى "أبونا" وأخبرته بما رأيت . .! من نظرته إليّ عرفت معنى ما رأيت، لقد نظر إليّ بإشفاق الأب الحنون وقال "إن السيد المسيح يريدك أن تعرفي كم تألم من أجلك" فهمت أنه ينبغي أن أتألم أنا من أجله، لابد من حمل الصليب . . لكن ساعدني يا إلهي الرحيم . . قوني . . أعن ضعفي.
لم يكن يمر علي عام دون أن أتعرض إلى حادث أو عملية جراحية كبيرة أو مرض خطير، كنت دائماً أشرف على الموت، وتنشلني بعد ذلك بأعجوبة، لكن لقد مر علي عام 1988 دون أن أتعرض لأي شيء بالمرة. سجدت إليك يا حبيب أشكرك على عنايتك ومحبتك . . جاء صوتك الحنون في صدري قائلاً "لا تظني أني كنت أعذبك بهذه الآلام . . لا . . بل كنت أعودك على الصبر وتحمل الألم." تحمل الألم . . لابد أن هناك آلام آتية، وتذكرت على الفور قول بولس الرسول "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضاً أن تتألموا من أجله."
علمت يا رب أنك إله رؤوف ورحيم بل إنك كثير الرحمة، كل هذا الإعداد من أجلي أنا يا رب، كنت زوجة وكان هناك ارتباط قوي بيني وبين زوجي وأم لثلاثة، كنت أرى الدنيا كلها في أولادي، كان عملي أو مدرستي مملكتي وتوجت نفسي ملكة فيها. لم يخطر ببالي أنه هناك من سأحبه أكثر من الدنيا ومن فيها. لكني أقولها الآن لا يوجد على الأرض شيء يساوي قطرة من الدموع الغزيرة التي انهمرت من عينيك. عملك فيّ يا إلهي القدير بصبر وطول أناة ما أعظمك.
تزوجت عام 1964 واستمر زواجي حتى عام 1983، لم يكن من الممكن أبداً أن ينتهي زواجي بهذه البساطة وأن أكون أنا صاحبة قرار الانفصال، والحقيقة لم أكن أنا بل هو . . إنها خطة القدير.
في عام 1980 وبالتحديد في شهر أبريل تعرضت لنزيف حاد، نقلت على أثره إلى مستشفى جامعة عين شمس حيث أن شقيقتي تعمل هناك، وأجريت لي عملية لوقف النزيف وأخذت عينة من الرحم لتحليلها. فوجئت أني مصابة بأورام سرطانية بالجدار الخارجي للرحم ولابد من استئصال الرحم فوراً خوفاً من انتشار الأورام في جدار البطن، وبالفعل أجريت لي عملية استئصال الرحم يوم الأحد الموافق 20 أبريل 1980 وكنت في حالة صحية سيئة جداً من أثر النزيف . . دخلت غرفة العمليات الساعة التاسعة صباحاً وخرجت الساعة الثانية عشرة ظهراً، ومن شدة الآلام كنت كلما أفقت من اثر المخدر أعطاني الأطباء مخدراً آخر واستمر ذلك حتى الساعة العاشرة مساءً. أفقت لأجد نفسي وكأني أهبط بالتدريج في حفرة سوداء مظلمة ورائحتها كريهة جداً وأصوات أنين وبكاء، أردت أن أصرخ لاستنجد بمن حولي لكني لم أقو على الكلام وأخيراً استسلمت في غيبوبة، وهنا قامت إدارة المستشفى بطرد أهلي وأقاربي وزوجي من المستشفى ونقلوني إلى حجرة العناية المركزة، طلبوا من زوجي أن يترك رقم تليفونه ليتصلوا به إذا مت. ويمد القدير يده وينتشلني من الموت. وفتحت عيناي على أول ضوء من صباح الاثنين وإذ بالطبيب يضربني على مكان العملية، حاولت أن استجمع قواي لأصرخ وأخيراً سمع صوتي . . وجدت الواقفين حولي يتهللون فقد حسبوني في عداد الأموات ثم كانت إرادة الله. انتظرت الصباح وأنا سعيدة لكي أخبر زوجي بنفسي أنا لا زلت حية وبدأ الجميع يتهافتون علي، اخوتي وأزواج أخواتي وأقاربي، حضر الجميع إلا زوجي، شعرت بالقلق والحيرة وقلت لعله أصابه سوء من أثر ما كنت فيه، أرسلت في طلبه ولكنهم لم يجدوه . . لقد ذهب إلى عمله! كيف يذهب دون أن يطمئن علي! وكتمت الألم في نفسي . . أنه أشد من ألم العملية . . وأخيراً حضر زوجي وعرفت منه أن أعصابه تعبت من منظري وخاف أن يصدم بموتي، لذلك ذهب إلى عمله ليغير جو!! . . ولكن كيف يتركني بين الحياة والموت ويذهب إلى عمله، وقلت في نفسي بعد أن ذبح مشاعري وقتلها لن أكون له زوجة بعد اليوم . . وكان حتى طلقت منه بأعجوبة عام 1983.
وتذكرت أيضاً . . كنت أسير أنا وابني وكنت متأبطة ذراعه حيث أن أبني طويل القامة وشعرت للحظة بحنين إلى الماضي ونظرت إلى ابني كم هو جميل! إنه أبن عمري . . وإذ بصبي لا يزيد عمره عن خمسة عشر سنة راكباً دراجة يحاول أن يتفادى سيارة فيضطر أن يصدم كتفي صدمة خفيفة، وإذ بي أطير في الهواء وكأن وزني خمس كيلوات فأفقد توازني تماماً، ثم أقع على الأرض جالسة على قدمي وهو ملتو تحت ثقلي، وفي الحال ظهر ورم كبير في مفصل القدم ولا أقوى على تحريك قدمي . . وأشعر بآلام فظيعة، ويحملني ابني في سيارة أجرة إلى مستشفى هليوبوليس إلى الاستقبال، وتعمل لي أشعة في الحال ولكن أشكر الله لا يوجد كسر ولكن هناك تمزق في الأربطة والعضلات ونزيف داخلي. وينصحني الأطباء أن أريح مفصل القدم مدة لا تقل عن عشرة أيام وأن أعمل كمدات لإيقاف النزيف وعلي أن أرفع القدم لأعلى وإلا سوف أزيد من النزيف الداخلي ولن تلتئم الأربطة والعضلات. كنت أسكن بالدور الخامس ولا يوجد مصعد في منزلي وأقيم بمفردي فمن سيقوم بخدمتي؟ قررت أن أقيم عند أخي فشقته في الدور الأرضي وزوجته إنسانة ذات خلق وسوف تقوم على خدمتي، وبالفعل أوصلني ابني إلى بيت أخي . . مضى يومان وأنا أواصل الليل بالنهار من شدة الألم، ولكن كان هناك ألم أشد . . إني بعيدة عن الكتاب المقدس وعن الكنيسة التي اعتدت أن أصلي فيها كل يوم . . وفي الليلة الثالثة جلست أصلي "يا إلهي الحبيب سامحني، كيف أضع يدي على المحراث وانظر إلى الوراء، أنا أعرف أني أخطأت أرجو أن تسامحني وأرفع عني هذه الآلام" ووضعت يدي على قدمي وقلت "باسمك يا رب باسم يسوع المسيح المبارك العظيم أرفع عني هذه الآلام لا أستطيع احتمالها،" شعرت بسلام وهدوء ورغبة في النوم ونمت نوماً عميقاً. وفي صباح اليوم التالي إذ بزوجة أخي توقظني في التاسعة صباحاً وهي تقول "ما كل هذا النوم؟" ونظرت إلى قدمي . . لا أشعر بشيء أين الألم؟ أين الورم؟ لا شيء بالمرة وكيف؟ ولكن كيف أتعجب وأنا طلبت باسم يسوع المسيح . . باسم يسوع المسيح كل شيء يجاب. مجداً لله أبو ربنا وإلهنا يسوع المسيح. جاء أولادي ليطمئنوا علي وإذ بي واقفة، يا للعجب أقف على قدمي وكأن ليس بي شيئاً وصرخ ابني "ماذا تفعلين؟ لماذا تقفين هكذا لقد أمر الطبيب،" قاطعته "لن انفذ أمر الطبيب ومن يكون هو الطبيب؟ هيا سوف اذهب إلى شقتي الخاصة" وتذمر الجميع ولكني لم أبال. ذهبت إلى شقتي ودخلت الحمام للاستحمام وكانت المفاجأة . . في بطن قدمي المصابة، فقد وجدت مرسوماً عليها صليب صغير . . يا للعجب إنه مكان النزيف الداخلي، ولكني الآن عرفت وفهمت، سامحني يا إلهي الحبيب لن أنظر للخلف . . وكيف يدك الحبيبة تكون مع يدي على المحراث وأنظر للخلف . . سامحني . . أحبك أكثر من الجميع . . لا . . أن حبك لا يقارن بأي شيء في الوجود . . أنا لك بجملتي ولا أكون إلا لك، واستمر الصليب مدة ثلاثة أسابيع إلى أن شفى قدمي تماماً واختفى الصليب.
أوشك العام الدراسي أن ينتهي وتبدأ امتحانات نهاية العام. إني أبذل مجهوداً كبيراً وشاقاً لكي أبدو طبيعية . . أقوم بعملي ولكني أشعر بغربة في هذا العالم . . لا . . لن أستطيع أن احتمل، لابد أن أترك عملي. ولكن . . ساعدني يا إلهي إن الجميع ينظرون إلي بطريقة مختلفة ويتساءلون ما هذا التغيير العجيب والشامل، حتى مديرة المدرسة التي كانت صديقتي، صارت الآن بعيدة عني، كل شيء مختلف تمام الاختلاف.
وفي يوم دخلت إلي أخصائية اجتماعية وكانت تظن إني مريضة نفسياً . . أخذت تسألني ما بك؟ لا أحد يسمع صوتك . . أين ناهد التي نعرفها؟ وددت أن أجيبها لقد ماتت ناهد التي تعرفينها والتي أمامك الآن هي ابنة المسيح. أجبتها "لقد عرفت الله جيداً ولذلك تغيرت ويكفي ما مضى من عمري . . أريد حياة جديدة" . . بالطبع لم تعجبها إجابتي، أضافت قائلة "هل هناك مشكلة؟ أو أي شيء يضايقك! . . تكلمي ربما نجد الحل سوياً" قلت لها في هدوء "وهل هدوئي يدل على وجود مشكلة أو أي شيء يضايقني؟" فقالت وهي متعجبة "لا إن وجهك مضيء . . ويبدو أن صحتك تحسنت ولكن هناك سر غيرك تماماً" . . قلت لها "يكفي أنك تصفيني بهذا الوصف . . اطمئني، لا توجد مشكلة أو أي شيء يضايقني وأشكرك على شعورك" لن يفهم أحد ما بي . . إلا من اختبر حبك العجيب.
مرت الأيام طويلة وثقيلة . . ولكن أشكرك يا قدير . . انتهى العام الدراسي بسلام وبدأت الاجازة الصيفية . . سوف انطلق في كل مكان . . صباحاً . . ومساءً . . وقتي كله لك، بدأ أصدقائي المسيحيون يزوروني في منزلي . . قضينا أوقاتاً رائعة في دراسة الكتاب المقدس والترنيم والصلاة . . لم أكن أتوقع أبداً أنه هناك من يرصد تحركاتي . . من هم زواري! متى أخرج ومتى أعود ومع من؟ إنه صاحب البيت الذي أسكن فيه، وبدأ يتطاول بالكلام علي من يزوروني "أنا أعرفكم جيداً من انتم" . . "كثير منكم يزورها ويتردد عليها" . . "كثير من هذه النوعية يسأل عليها" لابد أن أترك هذه الشقة وانتقل إلى شقة أخرى . . ولكن كيف؟ هذا لا يتم بسهولة . . حاولت أن أنسى الموضوع واستمتع بحياتي مع الحبيب.
وفي صباح يوم السبت الموافق العاشر من يونية 1989 ذهبت مع بعض الأصدقاء في زيارة لدير الأنبا بيشوي . . طلب مني بعض الأباء الرهبان أن أسجل لهم شريط كاسيت، وأن اذكر لقائي الرائع برب المجد وعمل إلهنا القوي فيّ، وأن أذكر اسمي واسم كل من استخدمه الرب معي. وافقت وسجل الشريط ووعدني الجميع أن يكون هذا الشريط في سرية تامة ولن يخرج من الدير.
انتهت الإجازة الصيفية وبدأت عودة المدرسين إعدادا للعام الدراسي الجديد. في أول يوم ذهبت إلى المدرسة ومن أول لحظة عند دخولي من باب المدرسة انتابني شعور بالقلق . . كأن شيئاً يطبق على صدري لدرجة أني لا أستطيع التنفس . . وبعد لحظات قوبلت من الجميع بنظرات الاشمئزاز والسخرية . . تعجبت كيف يجرءون؟ انهم من كانوا يخافون الوقوف أمام باب مكتبي، يلاقوني بهذه النظرات!! . . أن بعضهم يوجه إلي كلمات لم أفهم معناها "خسرت الدنيا والآخرة" "ملعونة إلى يوم الدين" "إن قتلها رحمة" قلت في نفسي لابد أن أعرف السبب. ذهبت إلى حجرة وكيلة مسلمة لعلي أعرف ما حدث . . ولكنها عندما رأتني أدارت وجهها في غضب . .!! قلت لها "ما بك . . لماذا تقابليني بهذه الطريقة؟" ردت قائلة وهي تتعجب "ما بك . .! ألا تعرفين ما بي؟" قلت لها "صدقيني لا أعرف" قالت "أنا لا أصدقك، اقسمي أنك لا تعرفي" قلت لها "أنا لا اقسم ولا اعرض اسم الله للقسم" قالت "وهل تعرفين الله؟" قلت لها "طبعاً أعرف الله لا إله إلا الله" قالت وهي تصرخ في وجهي متحدية "أكمليها" حاولت أن أتظاهر أني لا أفهم ما تقصد وتظاهرت أني غاضبة وقلت "إلى هذا الحد يكون الكلام . . متأسفة لن يكون بيننا كلام مرة أخرى" انصرفت من أمامها مسرعة إلى مكتبي . . فهمت كل شيء . . ولكن كيف عرفوا . . كدت أن أفقد عقلي . . بعد لحظات حضرت إلى حجرة مكتبي زميلة مسيحية وأخبرتني أنه يوجد شريط من أشرطتي ذكرت فيه اسمي بالكامل واسم سامية ومفيد وغيرهم . . انتشر هذا الشريط واصبح متداولاً بين المسيحيين والمسلمين أيضاً ولذلك عرف الجميع . .! كيف انتشر هذا الشريط بهذه الطريقة ولم يمر على تسجيله إلا ثلاثة أسابيع، بالتحديد إحدى وعشرون يوماً . . وأين من عاهدني أنه سيكون في سرية تامة . . إني أكاد أن افقد توازني . . وكيف وصل إلى يد المسلمين؟ بدأت أنهار . . ماذا أفعل الآن؟ لم احتمل البقاء لحظة واحدة . . خرجت اجري إلى شقتي . . جرحي عميق . . أنا في حيرة . . ألقيت بنفسي بين يديك الكريمتين . . إلهي الحبيب ماذا أفعل؟ أنت تعلم أنهم في المدرسة يحاولون الاعتداء عليّ . . لا أستطيع أن أتحمل نظراتهم وكلماتهم التي يوجهونها إليّ . . أعن ضعفي يا سيدي. وجاء ردك يا قدير "قدمي استقالتك وغيري سكنك . . ولن يقوى أحد على أن يعتدي عليك أو يلمسك."
شكراً لك يا إلهي الحبيب أنت دائماً معي . . تجيبني . . لكن الاستقالة أمر سهل، وتغيير السكن؟!! لا لن أفكر . . أثق في تدبيرك . . بدأت أتماسك . . تذكرت . . اليوم يوجد اجتماع لابد أن أحضره، ربما أجد كلمة معزية أو رسالة من الرب. وكان أن التقيت بإحدى صديقاتي وإذ بها تقدم لي أحد أقربائها، إنه المهندس عيا . . إنسان مؤمن رقيق . . وجدته يسألني "هل أنت مرتاحة في سكنك؟" عرفت من قادني إلى الاجتماع؟ ولماذا؟ إنه الهي الطيب. أخبرته أني أريد أن أغير سكني وأن أسكن عند مسيحيين. رحب بالفكرة واخبرني أنه يعرف شقيقين مسيحيين يعملان في المقاولات ولديهم عمارة جديدة بها شقة صغيرة، وطلب مني أن أعطيه فرصة يومين. في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وقدمت طلب استقالتي، وافقت عليه المديرة بسهولة عجيبة، توجهت إلى الإدارة التعليمية إلى مكتب المدير العام . . وافق عليه المدير العام أيضاً وأرسل الطلب إلى مكتب وكيل أول الوزارة في نفس اليوم، شعرت بيدك يا قدير تحرك كل شيء حسب إرادتك . . مجداً لك . . وقفت أصلي "إلهي أعن ضعفي . . قوني وساعدني كي لا أخاف منهم، اجعلهم هم يخافون مني، سد أفواههم وأعم عيونهم حتى لا يرونني، اجعلني اقف أمامهم بقوتك ومعونتك حتى تقبل استقالتي ويصلني رد الوزارة بالموافقة."
في مساء اليوم التالي اتصل بي المهندس عياد وقال: لقد وافق الشقيقان على أن اسكن عندهم في منزل ملك لهم مكون من خمس طوابق، وفي سطحه توجد شقة صغيرة عبارة عن حجرتين وصالة، وحدد لي موعداً للذهاب إلى منزلهم لكي أرى شقتي. كدت أن أطير من الفرح وجاء الموعد وذهبت . . إنها شقة جميلة ولكن لم يكتمل بناؤها . . وعدوني انهم سوف يكملونها في أقل من شهر . . وقفت أنظر وجدت أمامي كنيسة القديسة العذراء مريم . . أغمضت عيني لأصلي وإذ بي أشعر أن هناك شخصان كل منهما ممسك بذراعي ويحاولان إلقائي من أعلى. فتحت عيناي بسرعة لم أجد أحداً، يا له من رعب . . ماذا حدث لي؟ أهذا الشعور من شدة فرحتي؟ كتمت شعوري . . وانصرفت . . قررت أن أذهب إلى المنزل مرة أخرى بحجة أني أتابع العمل، وإذ بنفس الشعور ولكن بصورة أوضح وأقوى، لدرجة أني كدت أن أصرخ . . ولكن ماذا أفعل؟ انصرفت في هدوء وفي طريق عودتي صرخت إليك يا حبيب . . أنا لا أفهم معنى هذا الشعور؟ ماذا تقصد به؟ قلت في نفسي لابد أن أخبر أبونا بطرس ربما أجد عنده معنى لما حدث، ذهبت إلى الكنيسة . . أين "أبونا بطرس؟" لا أحد يعلم . . تضاربت الأقاويل . . بعضهم يقول أنه في إجازة والآخر يقول أنه مريض، لكني أشعر أن الأمر أكبر من ذلك. بعد لحظات حضرت إحدى الخادمات في الكنيسة وكانت الصدمة القاسية "أبونا بطرس" في أمن الدولة منذ يومين. بكيت بمرارة . . إنه بالنسبة لي حضن الأب، كنت أجد عنده الجواب لكل سؤال . . كنت ألقي بمشاكلي بين يديه الأمينة، أحببت المسيح الساكن في أعماق قلبه ونفسه . . لكن لا فائدة الآن يجب أن أصلي من أجله، إلهي الحنون الرقيق ساعده وقويه . . قدم له العون . . اعرف أنه بنعمتك قوي . . وساعدني أن أتحمل هذه الصدمة . . أن أحرم منه.
بدأت أتماسك عندما عرفت أن أبونا بطرس عاد إلى منزله وهو الآن يقيم في أحد الأديرة.
حان موعد انتقالي إلى الشقة الجديدة، كلما اقترب الموعد كلما ازداد داخلي شعور بالرعب . . لكن لا أستطيع التراجع ... . أخبرت صاحب المنزل الذي أسكن فيه أني سوف أترك السكن وبدأت بالفعل في جمع حاجياتي، وفي وسط هذه الحيرة اتصل بي المهندس عياد انه يريد أن يقابلني وبسرعة. خرجت لمقابلته وإذ به يقول "أصحاب المنزل الجديد يريدون أن يقابلوك" ذهبنا وقابلتهم وكانت الصدمة القاسية، قال لي أحدهم "اعتذر! لن أستطيع أن أؤجر لك الشقة" صرخت بكل أسى "لماذا؟" قال "كنت استشير صديقاً لنا في أمن الدولة أنك سوف تسكني عندنا ونصحني قائلاً إياك أن تقدم أي مساعدة لناهد . . لها مشكلة كبيرة في أمن الدولة، وكل من يقدم لها أي مساعدة سوف يعرض نفسه للمسؤولية."
كانت الصدمة قوية، تذكرت في الحال هذا الشعور الذي كان ينتابني في كل مرة اذهب لهذه الشقة، لكن إلقائي من أعلى المنزل أهون عندي من هذا العذاب. عدت إلى منزلي محطمة ضعيفة . . ألقيت بنفسي في حضنك الرحيم "إلهي إن جرحي أعمق من أن أتحمله . . إلهي أرسل لي عوناً سريعاً، قوني وساعدني أن أتحمل" جاء صوتك الحنون في قلبي "إن ما حدث لصالحك وسوف تعرفين هذا مؤخراً، والآن اهدأي وغداً ستجدي المنفذ في زيارتك للدير."
وفي صباح اليوم التالي ذهبت في رحلة لأديرة وادي النطرون، تقابلت مع المهندس سمير إنه إنسان مؤمن، رقيق، به نعمة المسيح وعندما عرف ما حدث لي وجدته يقول "لك عندي شقة في مدينة نصر، ملك لابن خالتي، انه يريد بيعها وقد أعلن ذلك في أحد الجرائد ولن تكون هناك أية مسؤولية" واتفقنا على موعد نلتقي فيه لأعرف رد صاحب الشقة.
عدت أمجدك يا حبيب . . إلهي أنت هو أنت كما عودتني، تمد يدك لتمسح دموعنا وتعصب جراحنا . . ما أعظم تدبيرك . . فهمت الآن تفسير هذا الشعور المرعب، إن الجميع يعرفون أني سوف انتقل إلى شقة جديدة ولذلك منعتني من الانتقال إليها ولكن لن يعرف أحد البتة عنواني الجديد. التقيت بسمير وتمت إجراءات شراء الشقة وكتبت عقد الشراء واستلمت المفاتيح. إنها عبارة عن حجرة واحدة وغرفة معيشة كبيرة، إسكان تعاوني في الحي العاشر من مدينة نصر، سعرها مناسب . . أشكرك يا ربي الحنون أنت دائماً تختار لنا الأفضل، دبرت لي ثمن الشقة، موقع الشقة بعيد جداً وفي منطقة تعتبر خالية من السكان تقريباً. وبدأ سمير في عمل الإصلاحات في الشقة وتركيب عداد نور حيث أن الشقة لم يسكن فيها أحد قبلي. طلبت منك يا حبيب أن يأتي رد الوزارة بالموافقة على استقالتي ونقلي إلى الشقة الجديدة في وقت واحد لكي لا اضطر للنزول من الحي العاشر إلى حلمية الزيتون، وكان ردك "سيكون ما طلبت في نهاية شهر أغسطس 1989."
قررت أن انتقل إلى شقتي الجديدة بعد أن ملأت قلبي بسلامك، جاء مفيد ومعه سيارة نقل وحضر أيضاً سمير وصديق ثالث . . باركه يا رب بكل بركة . . حافظ عليه من كل شر . . خرجت من منطقة عين شمس بسلام بعد أن قضيت فيها خمسة عشر شهراً. وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى الوزارة، وإذ بمدير مكتب وكيل أول الوزارة يقول "مبروك يا ناهد لقد وافق السيد وكيل أول الوزارة على استقالتك." لم يكن يخطر على بالي أبداً أنه سيأتي اليوم الذي أقدم فيه استقالتي بنفسي وأفرح كل هذا الفرح عندما تقبل استقالتي، ليس لي فرح إلا معك . . أخذت القرار وانطلقت إلى الإدارة التعليمية وكانت يداك يا حبيب تحركا كل شيء بمنتهى السرعة.
ذهبت إلى المدرسة كي أخبر مفيد وسامية، جلست في حجرتي على مكتبي لآخر مرة . . إن حجرة مكتبي أنيقة جداً مفروشة بالسجاد الأخضر ولون الحائط أبيض سكري والشباك أخضر نفس لون السجاد وبها ثلاثة مكاتب فخمة، مكتبي ومكتب وكيلة مسلمة ولكنها لا تجلس أبداً معي لأنها لا تحبني، ومكتب ثالث يتناوب عليه مدرستان تقومان بمساعدتي، وبها دولابي وخزانة حديدية كبيرة لوضع أسئلة الامتحانات وآلة الطباعة . . نظرت حولي لآخر مرة وقلت في نفسي كم تباهيت بنفسي وذكائي!! كم حاربت لكي تكون أهم الأعمال تحت يدي، كم استخدمت من أساليب غير مشرفة لكي أكون الكل في الكل، يا لسذاجتي إني الآن أترك كل شيء، معك لا أريد شيئاً، نعم إنه كله نفاية، فهمت كلمة بولس الرسول وعمق معناها. والآن أعلن بكل قوة أنه عندما نقع في حبك يا حبيب ونعرف مدى حبك لنا يهون كل شيء، لا إنه كلا شيء، أنت كل شيء . . جاء مفيد وجلس بجواري كالعادة، إني أشعر أنه ابني ونظرت إليه وتذكرت حينما سألته "لماذا يا مفيد تحملتني كل هذه الفترة، رغم أني كنت سليطة اللسان ولا أحسب أي حساب لمشاعر الآخرين" ورد علي قائلاً "سوف أخبرك بكل شيء. فمنذ حوالي عامين حين حولت أربع طالبات مسيحيات للتحقيق هن ومدرستي الدين المسيحي من أجل مجلة الحائط، عدت أصلي لله وأنا أبكي وأقول: لماذا يا رب تترك مثل هذه السيدة تهين أولادك بهذه الطريقة وترعبهم؟ وبعد أن استغرقت في النوم وجدتني أسير في غابة بها مجموعة كبيرة من الأشجار . . لكن الأشجار جافة عبارة عن الساق والأغصان فقط وتبدو كأنها لا حياة فيها، والأرض من شدة العطش والجفاف تبدو مشققة وكان المنظر يدعو إلى الاشئمزاز، وإذ بشجرة كبيرة يظهر بها ورق أخضر جميل نضر ويظهر بسرعة عجيبة وتمتد الأغصان إلى السماء، وقفت أمام الشجرة أتعجب من جمالها وأيضاً شجرة أخرى صغيرة منبثقة من الشجرة الكبيرة تخضر وتمتلئ بورق أخضر نضر وبسرعة عجيبة وقفت أتأمل الشجرتين وقلت في نفسي، عظيمة هي أعمالك يا رب ولكني لا أفهم ماذا تعني بهاتين الشجرتين فوجدت صوتاً عظيماً يقول "ابق بجوار ناهد وساند ناهد . . وغداً ستجد الله في ناهد" واستيقظت من نومي وأنا في أشد العجب مما رأيت، هل معقول أن ناهد تصبح شجرة مثمرة وأمجد الله فيها! ولكن هذا أمر الله ولابد أن أنفذه وبقيت بجوارك أساعدك وأبعد عنك أي ولي أمر يحاول التعدي عليك أو أي شيء يضايقك، حتى جاء اليوم الذي تعديت أنت على المدير العام المسيحية وقلت في نفسي لابد أن ما رأيت كان من الشيطان إنها سيدة مؤذية. وعدت إلى منزلي أبكي ندماً على المساعدات والحماية التي قدمتها لك، وفي تلك الليلة رأيت رؤية عجيبة، رأيت أني أسير في شارع واسع نظيف وإذ بأنوار تضئ في السماء فرفعت رأسي لأرى، فوجدت صليباً كبيراً مضيئاً حوله النجوم تضئ بأنوار ويظهر بجوار الصليب الكبير صليب آخر صغير مضيء، وحوله أيضاً نجوم تضئ وقلت في نفسي أنا لا أفهم يا ربي معنى هذا المنظر؟ وإذا بالصليب الكبير يختفي ويظهر وجهك مكانه والصليب الصغير يختفي ويظهر وجه ابنتك مكانه وقلت بصوت عالي وفي دهشة هل هذا معقول ناهد صليب كبير في السماء وابنتك . . لا هذا غير معقول! فتكرر هذا المنظر أمامي ثلاث مرات وجهك ثم الصليب ووجه ابنتك ثم الصليب وقلت في المرة الثالثة أعلم يا ربي أنك قادر على كل شيء، وعندما استيقظت من نومي تأكدت أنك مدعوة للإيمان وشكرت الله على عظيم صنيعه معك ومع ابنتك، وانتظرت اليوم حتى جاء ومجدت الله وسأمجده دائماً أبداً وكتمت كل ما رأيت في صدري عامين كاملين أو أكثر حتى حقق الله ما أراني."
ونظرت إلى مفيد إنه ابني الحبيب، وتذكرت يوم رؤيتك يا حبيب وعندما أخبرته بما رأيت، واسترجعت أحداث عامين دراسيين وأنت تضئ حياتي بنورك، لقد مرت الأيام مسرعة بكل ما فيها من أحداث، وكان علي أن اختار ولكن أشكرك يا ربي لأنك جعلتني اختارك وقويتني أن أصمد للنهاية.
وحضرت الحبيبة سامية واحتضنتني . . إني أشعر أنها ابنتي وفي نفس الوقت أمي، إنه شعور عجيب لم أشعر به من قبل، إني أحبها جداً . . احبها في اسمك . . وسألتها لماذا لم تخافي مني كالباقين؟ لماذا كنت قوية واثقة من نفسك أمامي؟ ورغم تحذير الجميع لك مني لم تبالي، من أين لك كل هذه الشجاعة؟ نظرت إلي بكل حب وقالت: "حينما استلمت نشرة نقلي إلى مدرسة حلمية الزيتون الثانوية كانت صدمة بالنسبة لي، كيف سأعمل في هذه المدرسة مع ناهد الوكيلة المتعصبة التي لا تتورع في إيذاء أي مسيحي أو مسيحية، أيضاً مديرة المدرسة أنها متعصبة ضد المسيحيين . . ووقفت اصلي إلى الله وأسأله أن يدافع عني ويساعدني في تلك المدرسة، وبعد أن انتهيت من الصلاة وذهبت لأنام . . رأيت أني أقف فوق أرض رخامية بيضاء اللون عالية بعض الشيء عن الأرض. ونظيفة رغم أنها محاطة بالقاذورات، ولكن تلك القاذورات بعيدة عني لأني أعلى منها، ويوجد بجواري صنبور ماء وحوض صغير أبيض نظيف جداً . . جاء "البابا كيرلس" إنه قديس وكنت أحبه جداً وكنت أزوره باستمرار قبل نياحته وقال: "اغسلي يديك يا سامية" فقلت له: "إن يداي نظيفتان" كرر ثانياً: "اغسلي يديك" وغسلت يدي ثلاث مرات وكلما عدت إليه كان يكرر نفس الكلمة حتى المرة الثالثة، فأمسك بذراعي وقال: "هيا اذهبي إلى حلمية الزيتون الثانوية إنه لك هناك عمل خاص" . . عندما استيقظت من نومي قلت في نفسي أني سكرتيرة وهذا عملي ربما يكون لي مهمة أخرى سوف اعرفها فيما بعد، وبعد أن قابلتك وبدأت أكلمك عن السيد المسيح، عرفت أنك أنت المهمة الخاصة التي حضرت من أجلها إلى هذه المدرسة، وأحببتك رغم كل ما سمعته عنك، ورغم كل التصرفات التي تصرفت بها أمامي وشعرت برباط قوي بيني وبينك، والآن عرفت لماذا أحببتك! وهل يوجد رباط أقوى من رباط المحبة في المسيح، وعانقني وقالت: "أنت ابنتي، لقد ولدت الولادة الثانية على يدي، إني محظوظة أن أرى هذا بعيني وأن يستخدمني الله في مهمة خلاص إنسانة مثلك."
"إلهي ما أبعد أحكامك عن الفحص وطرقك عن الاستقصاء" كل هذا التدبير لأجلي أنا؟ . . خطة الرب العظيمة . . من يستطيع أن يصل إلى فكر القدير أو إلى تدبيره؟ منذ متى يا ربي وأنت تعد لي كل هذا وبهذا الصبر، أعلم أنك رؤوف ورحيم، طويل الأناة ولكن إلى هذا القدر يا حبيب يا لعظم محبتك يا ربي . . والآن لابد أن أسلم مفاتيح الحجرة والمكتب وكل شيء للمديرة . . لن أدخل حجرة مكتبي مرة أخرى، جمعت كل أوراقي الشخصية وأدواتي الخاصة، أنا غير نادمة على أي شيء غير ذلك الوقت الممتع الذي كنت أقضيه مع سامية ومفيد، لن أنسى أبداً أني رأيت أمي الحنون العذراء مريم في حجرتي . . ورائحة البخور . . إنه مكان ميلادي الجديد . . لكني أعلم جيداً أنك معي في كل مكان، وكيف لا . . وأنت ساكن في أعماق نفسي وقد توجتك ملكاً على عرش قلبي بلا شريك . . نعم بلا شريك وأنت تعلم هذا جيداً . . وأنت تعلم أني صادقة وهذا ما يهمني. لن أقول أني بعت كل ما أملك لكي أتبعك! لو قلت هذا فأنا أعطي نفسي مجداً لا استحقه! ولكن الحقيقة أنك قرعت على بابي وسمعت صوتك الجميل وساعدتني أن أفتح الباب، ودخلت إلي، وتعشيت معي، وملكت على فكري، وعقلي، وقلبي، وكنت أنت المتصرف لا أنا، وأنت الذي يقرر ويفكر، هذه هي الحقيقة، من يسلم نفسه للحبيب بكل صدق، يكون هو عينه الذي يرى بها وأذنه التي يسمع بها ولسانه الذي يتكلم به . . آه يا حبيب ليت الجميع يعرفون! أريد أن أصرخ وأتكلم عنك في كل وقت وفي كل مكان، والآن لقد تفرغت لك ما أطيب مذاقك يا ربي . . لابد أن أعلن بما اشعر وبما أحس أنه فوق العقل والخيال، ليتني أجد الكلمات المناسبة لوصف ما أشعر به، ساعدني يا إلهي.
وخرجت من المدرسة ولكن علي أن أعود مرة أخرى لإخلاء طرفي وسيكون ذلك بعد صدور قرار الإدارة، أي بعد عشرة أيام تقريباً. تأكدت يا إلهي أنك صادق الوعد أمين! لقد انتقلت من شقتي القديمة بعين شمس إلى أخرى جديدة بمدينة نصر في السادس والعشرين من أغسطس وقبلت استقالتي في السابع والعشرين أنه كما وعدتني، شكراً! إن شقتي في الحي العاشر مكان هادئ جداً وأغلبية المساكن غير آهلة بالسكان لن يرصد أحد تحركاتي . . لا أحد يعرف من أنا . . ليس لي اختلاط بأحد ولن يعرفني أي ساكن . . وبدأت أزاول نشاطي في الكنائس وأتكلم عن معاملات الحبيب معي في كل مكان، في الأديرة، في منازل الأصدقاء كلما أتيحت لي الفرصة.
ذهبت إلى المدرسة يوم في التاسع من سبتمبر لأخلي طرفي من المدرسة ولا أعود أدخلها مرة ثانية، إن قلبي ينبض بسرعة عجيبة ولكن أنت معي تسير بوجهك أمامي لتنير لي الطريق، دخلت مكتب المديرة لتوقع على إخلاء طرفي وإذا بالمديرة تغلق الباب خلفي، وتستدعي إحدى الوكيلات المسلمات وتطلب من المشرفة أن تقف خلف الباب ولا تسمح لأحد بالدخول، قالت وعلامات الشر تعلو وجهها "قبل أن أوقع لك أريد أن أعرف حقيقة ما سمعته عنك" فقلت لها في هدوء "وما الذي تريدين أن تعرفي حقيقته" قالت "هل أنت الآن مسيحية؟" قلت لها "عليك أن تسألي من قال لك هذا الكلام" فرفعت الوكيلة صوتها قائلة "لا نريد مراوغة!! عليك بالإجابة بكل وضوح وصراحة" فرفعت صوتي أعلى من صوتها وقلت "أنا سيدة عمري 47 سنة ومتعلمة حاصلة على بكالوريوس تربية ولن أسمح لأحد التدخل في حياتي" وفوجئت بالوكيلة مندفعة نحوي وتجذبني بقوة آلمتني من ذراعي وهي تقول "أنت أختي في الإسلام والإسلام يقول أنه من رأى منكم منكراً لابد أن يقومه وأنا سوف أقومك بكل قوة" ورفعت قلبي إلى الله وقلت في نفسي "اللهم التفت إلى معونتي يا رب، أسرع وأعني" وقلت لها في هدوء "من أين لك هذا الكلام الذي تقوليه؟" فأسرعت المديرة نحوي وشعرت أنها تحاول تهدئة الموقف وقالت "هل أنت قلت أنك قمت بعمل مقارنة بين الدين الإسلامي والدين المسيحي ووجدت بعد الدراسة أن الدين المسيحي هو الدين المضبوط؟" فقلت لها بكل ثقة "لا . . أنا لم أقل هذا الكلام" ثم أضافت "هل أنت قلت أن السيدة مريم قالت لك كف يدك عن إيذاء المسيحيين؟" وأيضاً قلت بكل ثقة "لا . . أنا لم أقل هذا الكلام" ولكني خفت أن أكون بهذا الرد قد أنكرت السيد المسيح فقلت لها "إن ما قلته أني رأيت رؤية عبارة عن إنسان (ووصفته) جميل أبيض اللون، وشعره أصفر منسدل إلى كتفيه وعيناه زرقاء صافية كمياه البحر وكلمني وأخذ مني عهداً وأنا احترم ذلك العهد الذي عاهدته" فقالت لي "ومن هو يكون؟" فقلت "ملاك الرب" وهنا صرخ الاثنان معاً "لقد تأكدنا أن طريقة كلامك غير مريحة وردودك تثير الشك، إنك لا تستحقي الحياة ولا تستحقي أن تأخذي من الحكومة معاشاً وسوف تدفعين الثمن غالياً" وهنا وجدتني أصرخ في المديرة بقوة عجيبة "وقعي على الورق . . هيا وقعي" . . ووجدت المديرة تجلس على المكتب في هدوء وتوقع ورق إخلاء طرفي بسرعة غير عادية. وتمد يدها لتعطيني الورق فأخذته وجريت نحو الباب، وجدت كرسياً كبيراً موضوعاً خلف الباب لمنعي من الخروج ولكني طوحته إلى الأرض ولا أعرف من أين لي هذه القوة . . خرجت مسرعة إلى الباب الخارجي وحاولت المديرة والوكيلة أن يلحقا بي ولكنهما لم تتمكنا، وإذ بي أخرج من باب المدرسة إلى الشارع وسط ذهول الجميع وذهولي أنا أيضاً. كيف خرجت من وسطهم بسلام؟! وهنا التقطت أنفاسي، لا أستطيع أن أصدق نفسي! ما هذا الذي حدث؟ ولماذا؟ ومشيت في الشارع أبكي من شدة الألم واسترجع كل ما حدث ورفعت قلبي لك يا حبيب، سامحني يا قدير أعلم أني ضعيفة . . أرجوك يا إلهي أعن ضعفي وقوني واغفر لي، ذهبت بعد ذلك إلى الكنيسة . . إني أشعر وأنا في الكنيسة أني في حضنك الرحيم . . قابلت بعض الأصدقاء واخبروني أنه يوجد من حضر إلى الكنيسة يسأل عني، ومن طريقة كلامه عرفوا أنه غير مسيحي وأنه يتكلم كمن له سلطان وانه ينتظرني بالداخل، ولكني رفضت أن أقابله وانصرفت مسرعة إلى شقتي. إن جرحي من المديرة والوكيلة لا زال ينزف ولن أتحمل أي جرح آخر . . وجلست بيد يديك الكريمتين وسألتك ماذا أفعل الآن؟ وجاء ردك في صدري "لابد أن تسافري من هنا" شعرت أن قلبي يعتصر من شدة الألم، إنه لم يمر علي في شقتي الجديدة أسبوعان! وأين أذهب؟ ليس لي سواك فقد رفضني الجميع . . الجميع ابتعدوا عني انهم خائفون مني . . وفي صباح اليوم التالي خرجت لاتصل تليفونياً بمفيد، إنه قوي بنعمة المسيح، لابد أن سوف يمد لي يد المساعدة كما تعودت أن أجده دائماً وكانت الصدمة التي هزت كياني . . لقد تم القبض على مفيد وهو الآن في السجن . . مفيد في السجن! يا للعجب لماذا؟ وأي جريمة ارتكبها لكي يوضع في السجن . . رحمتك يا إلهي . . أنا أعرف جيداً أنه ابنك وأنت تحبه أكثر من حبه له، ولكن قلبي يتمزق من شدة الألم . . إنه في السجن بسببي . . لا إنها إرادتك . . ولتكن إرادتك لا إرادتي، بيدك كل شيء . . وعدت إلى شقتي وإذا بصوتك الحبيب يقول "لابد أن تسافري من هنا" وبينما أنا في حيرة حضرت إلي ابنتي وهي تقول "حضر أمس إلى منزلنا البوليس وهم يسألون عنك وأخبرناهم أننا لا نعرف عنوانك الجديد وذهبوا إلى المدرسة أيضاً وأخبرتهم المديرة أنك أخليت طرفك منذ يومين ولا أحد يعرف طريقك أو عنوانك" نعم يا إلهي إن عنايتك ورعايتك تحيط بي، إني أشعر بذراعك القوية تمسك بي، يحضر البوليس إلى المدرسة بعد إخلاء طرفي بيومين وأكون قد غيرت عنواني وانتقلت إلى شقة مدينة نصر ولا أحد يعرف طريقها . . الآن فهمت لماذا قلت لي عندما فقدت شقة الزيتون إن ما حدث لصالحي! نعم إن الجميع في المدرسة كانوا يعرفون أني سوف انتقل إلى شقة جديدة بالزيتون، ولكن أنها خطة القدير! يحافظ علي . . إنها الحقيقة، لقد لمستها بنفسي أن من يسلمك نفسه بصدق تكون أنت المدبر لكل حياته وتحركاته لك المجد الدائم، إن تدبيرك يفوق كل عقل، وتذكرت تلك الآية التي كتبها لي "أبونا بطرس" وطلب مني أن احفظها واضعها أمامي دائماً وهي واردة في مراثي أرميا 3: 37 "من ذا الذي يقول فيكون والرب لم يأمر."
قررت بعد أن سمعت صوتك الحبيب بكل وضوح أن أسافر إلى الإسكندرية، لكن ينبغي أن أنهي إجراءات المعاش أولاً في الإدارة التعليمية، وذهبت إلى الإدارة ولكني قبل أن أدخل مبنى الإدارة شعرت بعدم ارتياح وبقلق شديد . . تغلبت على مشاعري ودخلت وأنا أردد "اللهم إلى معونتي يا رب أسرع وأعني" وتم كل شيء بسرعة عجيبة، إن يديك الرحيمتين تحركا كل شيء، وباق أن استلم شيك مكافئة إنها خدمة، عبارة عن مرتب ثلاثة أشهر، ولكنه سوف يستغرق بعض الوقت ولا بد أن أعود مرة أخرى بعد أسبوع لاستلمه، لابد أن أسافر ثم أعود بعد أسبوع لاستلم الشيك أو أرسل ابنتي لتستلمه، إن الجميع يعرفون أنها ابنتي. عدت إلى شقتي لأعد للسفر إلى الإسكندرية ولم يخطر على بالي أبداً أني لن أعود إلى شقتي الجديدة مرة أخرى، لقد أنفقت كل ما أملك في شراء تلك الشقة وعمل الإصلاحات اللازمة والتركيبات الجديدة الضرورية. إن بها كل الأجهزة الكهربائية . . إنها بسيطة ومريحة ولكن لتكن إرادتك لا إرادتي، وفي السادسة من صباح اليوم التالي أخذني أحد الأصدقاء بسيارته الخاصة وانطلقنا إلى الإسكندرية، وفي الطريق طلبت منه أن نمر على دير الأنبا بيشوي وتوقفنا هناك، ورحت أسلم على الآباء الرهبان ووقفت أمام من وعدني أن يبقى الشريط الذي سجلته في الدير وألا يخرج خارج الدير أبداً، نظرت إليه عاتبة ليرى ماذا فعل بي! وأين مفيد الآن! وماذا سيجري لسامية ولكني أعلم جيداً أنها إرادتك أنت ولن أتدخل . . لقد سلمتك نفسي وحياتي وكل ما أملك، افعل بي ما تشاء وأنت أبي الحنون ولابد أن أترك كل شيء حتى أكون مستحقة أن احمل اسمك المبارك العظيم.
وصلت إلى الإسكندرية واستقبلنا بعض الأصدقاء وأوصلوني إلى فيلا العجمي، إنه مكان بعيد هادئ وجميع المصيفين قد عادوا ولا يوجد غيري في المكان. عاد الجميع إلى القاهرة وتركوني وحدي، طلبت من أبنتي أن تذهب إلى المنطقة لتستلم الشيك وتخبرني ماذا تم حتى أعود للقاهرة لأصرف الشيك حيث أنه الشيء الوحيد الذي امتلكه الآن.
انفردت بك يا حبيب وارتميت عند قدميك . . إلهي إني أتألم! إني أحمل حملاً ثقيلاً . . ساعدني أن ألقي بأحمالي عندك . . ضمني إلى صدرك الرحيم وامسح دمعي ودم جراحي . . مجداً لك أنك تجعل لنا دائماً في كل ضيقة تعزية، ولن أنسى أبداً ما رأيت في أول ليلة أقضيها معك في الإسكندرية، لقد رأيت وجهك الحبيب والدم يسيل منه ونظرت إلي بإشفاق، وأنت من تألمت من أجلي أشد الآلام، تذكرت آلامك! سامحني يا إلهي، إنه ينبغي أن أشعر كم تألمت من أجلي وينبغي أيضاً أن أتألم أنا أيضاً من أجلك، لكن أعن ضعفي . . قوني وساعدني كي أكون مستعدة أن أحمل صليبي وأتبعك.
ومرت أيام ثقيلة وطويلة حتى نهاية الأسبوع، حضرت ابنتي مع بعض الأصدقاء وقالت أنها عندما ذهبت لاستلام الشيك رفض الموظف المسؤول تسليمه لها وقال "أنه لابد من حضوري بنفسي" . . تركتهم وتوجهت لشقيقتي، إنها تعمل بالإدارة، مديرة العلاقات العامة، وطلبت منها أن تحاول هي استلام الشيك نيابة عني ولكن الموظف المسؤول رفض أيضاً تسليم الشيك لشقيقتي بناء على أوامر مدير عام الإدارة، لأني مطلوبة لأمن الدولة وبعد ذلك أرسلت لي شقيقتي رسالة مع ابنتي والرسالة عبارة عن أنه علي أن أختار واحدة من ثلاث:-
الاختيار الأول: أن أذهب إلى أمن الدولة مع شقيقتي وزوجها حيث أنه ضابط بالمخابرات العامة وأيضاً زوج شقيقتي الصغرى وهو ضابط طيار برئاسة الجمهورية وأقول لهم أن هذا الشريط كذب، وأني كذبت بتحريض من بعض الآباء الكهنة وعلى رأسهم "أبونا بطرس" وأنهم أغروني، وأسجل شريطاً آخراً بصوتي أكذب فيه الشريط الأول وبذلك أكون بر الأمان ولن أتعرض لأي متاعب.
الاختيار الثاني: إذا رفضت الاختيار الأول فسوف تقوم العائلة بوضعي في مستشفى للأمراض العقلية، وسوف يشهد جميع أفراد العائلة أني مجنونة من يوم ميلادي، وبالطبع سوف يصدقونهم وذلك للمراكز المرموقة التي يشغلها أفراد الأسرة حيث أن لي شقيقتين أخريين، زوج الكبرى وكيل أول ونائب وزير الحكم المحلي وزوج الأخرى أستاذ اللغة الإنجليزية في كلية اللغات والترجمة، إلى جانب الضابط بالمخابرات والطيار برئاسة الجمهورية وأخي المدير بالجهاز العام للتنظيم والإدارة.
الاختيار الثالث: إنه في استطاعتهم خطفي وقتلي ودفني دون أن يسأل أحد عني، وأنهم قاموا بالفعل بعمل بلاغ بأني مفقودة ويريدون البحث عني، كما أني لن أستطيع السفر إلى الخارج وذلك لأنهم قاموا بإبلاغ جميع المطارات والمواني أني مطلوبة وصورتي في كل مكان.
سألت نفسي لا . . لا يمكن أن تكون شقيقتي جادة . . هل هذا معقول؟ لابد أنها تهددني فقط . . قررت أن أتصل بها حتى أتأكد . . أتصل بها الآن. اتصلت بها . . ليتني لم أتصل بها . . إنها تقسم لي بكل قسم أنها ستنفذ ما قالته في الاختيار الثالث إذا لم أختار بين الأول والثاني أيضاً زوجها – إنه يعمل في المخابرات العامة – لقد أكد لي أنه سوف يقبض علي في ظرف يومين وسوف يرغمني أن أفعل ما يريد. أهكذا تتغير القلوب وتصبح حجرية . . إنها أشد قساوة من الحجر . . أشعر أن الدنيا كلها أضيق من ثقب إبرة . . ضاقت بي نفسي، اشتهي الموت . . ليتني أموت الآن. عندما سمع أصحاب الفيلا ما حدث طلبوا مني أن أخرج إلى مكان آخر لأنهم خائفين ولا يريدون التعرض للمسؤولية.
ولكنك يا قدير لا تدخلنا في تجربة وتتركنا، بل مع التجربة تعطي المنفذ. وتضيف ابنتي: لقد عرف المهندس سمير كل شيء وسوف يحضر بعد ساعتين تقريباً ليأخذك إلى شقة في المعمورة، إنها أيضاً شقة للمصيف في منزل ولا يوجد سكان وتستطيعين أن تقيمي هناك. جاء سمير وأخذني إلى شقته ثم عاد الجميع إلى القاهرة وتركوني وحدي، لكني لست وحدي! إلهي الحبيب أنت مؤنس وحدتي . . أنت أهلي وأقاربي . . يكفيني حبك وحنانك.
مرت ثلاثة أيام وإذا بصوتك الحبيب يوقظني قبل طلوع الشمس قائلاً "يجب أن أخرج من شقة سمير بأقصى سرعة" تعجبت وصرخت إليك يا حبيب . . أين أذهب؟ ولماذا أخرج؟ لم تمض إلا ساعات قليلة وإذا بإبنتي تتصل بي تليفونياً وتخبرني أن أمن الدولة قبض على سمير ويجب أن أترك شقته بأقصى سرعة، ألقيت بنفسي بين يديك الرحيمتين . . إلهي ماذا أفعل الآن؟ وإذا بصوتك الحنون يرشدني أن أذهب إلى الدير وسوف أجد الحل، وبالفعل ذهبت وإذ بأحد الآباء يستقبلني فرحاً قائلاً "كنت أصلي أن يرشدك الله للحضور" وأضاف قائلاً "يوجد صديق مؤمن عندما عرف ما حدث لك أعطانا مفتاح شقته الخاصة بالإسكندرية في وسط المدينة أمام البحر مباشرة في عمارة كبيرة، لكن لا يوجد هناك أحد بالعمارة لأنها مصيف وهو مستعد أن تقيمي هناك أطول فترة ممكنة."
إلهي الحبيب لو ظللت أمجدك وأشكرك وأسبحك مع كل نفس يخرج من صدري لن أوفيك، لو ظللت ساجدة بين قدميك الكريمتين حتى آخر لحظة من عمري لن يكفي . . لكن أنت هكذا دائماً تجرح وتعصب . . تسحق ويداك الحنونة تشفيان.
في نفس الوقت وجه إلي "أبونا" لقضاء يومين مع أسرته في قليوب، كنت قد اعتدت أن أتصل تليفونياً بأولادي من حين لآخر لكي اطمئن عليهم، وفي آخر مكالمة طلبت مني ابنتي الصغرى أن لا أتصل بها عند جيرانهم بحجة أنهم يخجلون، وطلبت أن اتصل بهم في شقة أختي الصغرى حيث أنها ستكون بجوار أولادي. شعرت بعدم الراحة من طلب ابنتي . . ولكن لماذا؟ إن جارتها سيدة فاضلة وكذلك أولادها في كل مرة كنت أكلمهم تسرع في طلب أولادي، سألت ابنتي "إياك أن تكون هناك مؤامرة؟" ردت مؤكدة أنه لا توجد مؤامرة وأني أصبحت أخاف أكثر من اللازم . . حددنا موعداً كي أجدهم عند خالتهم. جاء الموعد المحدد واتصلت بهم من منزل أسرة "أبونا،" لاحظت أن ابني يحاول إطالة المكالمة بحجة أنه يريد أن يطمئن علي . . وأيضاً أختي أنها تريد أن تساعدني . . ولكن كان هناك شعور قلق يكاد أن يقتلني. انتهت المكالمة التي استغرقت حوالي 15 – 20 دقيقة وجاء صوتك في صدري "لقد دبروا لك كمين استطاعوا أن يلتقطوا رقم تليفون أسرة أبونا" وبعد أقل من نصف ساعة رن جرس التليفون وإذ بمن يريد معرفة اسم وعنوان صاحب التليفون بحجة وصول طرد من الخارج ولا يوجد عليه اسم أو عنوان بل رقم تليفون فقط وفي الحال فهمت لماذا طلبت ابنتي أن أتصل بها في منزل شقيقتي فإن زوجها برئاسة الجمهورية، وبالطبع استطاع أن يلتقط رقم تليفون "أبونا" وهكذا أنت دائماً يا قدير تصيبهم بالغباء إلى هذا الحد، لم يستطيعوا أن يصبروا ساعات قليلة حتى يصلوا إلى الاسم والعنوان، وكان التحذير لي أن أهرب صادراً منهم . . يا للعجب. خرجت مسرعة، إن قلبي يكاد أن يتمزق من شدة الألم . . أختي وابني وابنتي يدبرون لي كميناً . . مع أمن الدولة، ابني الكبير . . ابن عمري . . وابنتي الصغرى الغالية وأختي . . أكاد أن أفقد عقلي. لا أستطيع أن أصدق ما حدث! لكن . . إنه مكتوب "وسيسلم الأخ أخيه إلى الموت والأب ولده. ويقوم الأولاد على والديهم ويقتلونهم. وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص"
إلهي لي رجاء فيك، ساعدني أن اصبر حتى ألاقيك.
أشكرك يا إلهي أنت تقويني وتساندني، أجدك دائماً بجواري.
أشكرك يا إلهي أنك تجعلني بنعمتك المعطاة لي، أقوى من التجربة.
أشكرك يا إلهي أنك جعلتني مستأهلة، أن أتألم من أجل أسمك.
ذهبت إلى دير مار مينا لأقضي هناك ثلاثة أيام دون أن أخبر أحداً من أنا، كنت أستيقظ مبكرة لحضور القداس والتناول وأقضي بقية الوقت في الصلاة . . بدأت أتماسك وأشعر بالراحة والهدوء.
وفي اليوم الرابع فوجئت بشقيق أبونا الذي كنت أقيم عنده قادماً ليأخذني وسألته "هل عرف البوليس اسمك وعنوانك؟" قال "بكل تأكيد لا، لم يحضر البوليس، يبدو أنه من خوفك أصبحت تتوهمين أشياء لا وجود لها، هيا بنا نعود لنقضي معاً بعض الوقت" لكن شكله وطريقة كلامه غير مريحة بالمرة، ماذا أفعل الآن؟ ليس أمامي اختيار آخر، جمعت حاجياتي وفيما أنا ذاهبة معه لأركب السيارة جاء صوتك الحبيب في صدري "إن هذا الرجل قادم ليسلمك للبوليس" تملكني شعور بالرعب . . إلهي ماذا أفعل؟ أأتركه وأنصرف إلى الإسكندرية! ولكنه أيضاً يعرف عنواني في الإسكندرية . . أنا في حيرة . . ركبت معه السيارة ورفعت قلبي إليك يا حبيب "إلهي لا أريد أن أقع في أيديهم . . إنهم وحوش لن يرحموني . . هل ستتركني لهم؟" وجاء ردك يا قدير "لا تخاف سوف أنقذك في الوقت المناسب ليعرف الجميع ويمجدوني" قلت "إلهي أعن ضعفي، وسامحني . . إن كنت فعلاً سوف تنقذني أعطني علامة قوية لأني خائفة، إن السماء تمطر والسحب تحجب الشمس الآن، دع المطر ينقطع في الحال وتختفي السحب وتطلع الشمس." لم تمر إلا لحظة وإذ بالمطر ينقطع ويد القدير تبعد السحاب وتسطع الشمس، أشكرك يا إلهي ملأت قلبي بسلامك. لاحظت أنه يقود السيارة بسرعة تتراوح ما بين ستين وسبعين كيلومترات في الساعة في طريق مصر – الإسكندرية الصحراوي، وبين الحين والحين ينظر خلفه. تظاهرت أني لا أفهم شيئاً وسألته "لماذا تقود سيارتك بهذا البطء؟" رد قائلاً "إن في السيارة عيب فني ولا أريد أن أزيد السرعة لكي لا تعطل" وفي الطريق سمعت صوتك الرحيم قائلاً "توقفي هنا عند مزرعة دير الأنبا بيشوي وسوف تريد عملي" طلبت منه أن نمر على مزرعة الدير ولكنه رفض في بادئ الأمر ثم بعد لحظات وافق بعد إلحاحي عليه على شرط ألا نمكث هناك إلا دقائق نسلم على الأباء وننصرف في الحال. وكانت المفاجأة! أنهم يعرفون تفاصيل ما حدث وبدى الذهول على الجميع "أين أنت ألم تعرفي أن البوليس هجم على منزل أسرة "أبونا" بعد منتصف الليل؟ وقبضوا على الجميع! كانت الصدمة قوية وعنيفة رغم أني أعرف ولكن . . نظرت إلى شقيق "أبونا" عاتبة، قال "سامحيني لقد ضعفت عندما رأيتهم يضربون أبي الرجل المسن بكل وحشية." قلت له "لقد سامحتك وليسامحك الله ولكن الآن عليك أن تنصرف بمفردك" قال "لا . . أرجوك لابد أن تحضري معي" قلت له "هل أنا مجنونة . . اذهب إليهم بنفسي، بالأمس سجل لي شقيقك شريط كاسيت وطلب مني أن أذكر اسمي بالكامل واسم كل من استخدمهم الرب معي ووعدني أن يكون في سرية تامة ويكون هذا الشريط وثيقة خاصة بالدير . . ولكن فوجئت به يغطي مصر كلها، واليوم أجدك تحاول أن تسلمني للبوليس . .!" يا لعذابي! إني أشعر بالمرارة . . أكاد أن أتمزق، لقد عرفت الآن كيف يكون شعور الإنسان عندما يتعرض للخيانة، سامحني يا ربي أنا لا أدين أحداً . . نحن ضعفاء . . إن لم نلتمس منك العون لا نحتمل شيئاً. عرفت الآن يا حبيب مدى ألمك وعذابك عندما تعرضت لخيانة أحد تلاميذك، أشكرك يا إلهي الحبيب لقد جعلتني أعيش جزءاً صغيراً من آلامك، والآن ماذا أفعل؟ التف حولي رهبان مزرعة دير الأنبا بيشوى وقال أحدهم "لابد أن تسلمي نفسك للبوليس، لا فائدة من هروبك لقد ضاقت الحلقة حولك ولا مفر" وقال آخر "لقد رأيتك في رؤية وحول رقبتك دم وهذا معناه أنك سوف تقتلي" وقال ثالث "ألا تريدين أن تكوني شهيدة من أجل المسيح وينادي عليك ربنا يسوع المسيح ويقول لك: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم . ." شعرت كأن كل واحد منهم ممسك بسكين ويمزق في لحمي بدون رحمة أو شفقة، وقلت في نفسي ربما يكون كلامهم هو الحق ولابد أن أسلم نفسي، فتحت حقيبة يدي وأخرجت محتوياتها وسلمتها لهم وقررت أن أسلم نفسي ولكن لابد أن أذهب أولاً للإسكندرية وأجمع جميع حاجياتي حتى لا يجدها البوليس في هذه الشقة وأعرض صاحب الشقة للمسؤولية، وأيضاً ينبغي أن أسلم ابنتي لوالدها حتى لا تتعرض هي أيضاً لما سأتعرض أنا له وأنا أعرف جيداً ما ينتظرني في أمن الدولة، ولكني واثقة أنه الحبيب الذي كان مع الفتية الثلاث في أتون النار سيكون معي وسينقذني . . وكيف لا! وأنا أشعر أني ابنته المدللة. تركت شقيق "أبونا" ينصرف بمفرده ووقفت أنا وابنتي نوقف سيارة إلى الرست، ومن الرست نستقل الأتوبيس إلى الإسكندرية، وبالفعل وقفت لنا سيارة نقل بضائع صغيرة وركبت أنا وابنتي حتى الرست ووقفنا هناك نوقف أي سيارة أجرة متجهة إلى الإسكندرية ولكننا لم نجد، انتظرنا حوالي ساعة حتى جاء الأتوبيس . . ركبنا، وفي الطريق رفعت قلبي لك يا حبيب وقلت لك "هل هذه هي النهاية أن أسلم نفسي إلى أمن الدولة أنت تعرفهم وتعرف وحشيتهم وأنا ضعيفة، أعن ضعفي ربما لا احتمل تعذيبهم، أجبني ماذا أفعل؟" وجاء رد إلهي الحنون الطيب "لو كنت أريدك أن تقعي في أيديهم لما أخبرتك أنه قادم ليسلمك، وقلت لك "مري على مزرعة دير الأنبا بيشوي لتعرفي الحقيقة وأعطيتك علامة أنك لن تقعي في أيديهم؟" لا . . لا تسلمي نفسك، عودي إلى الإسكندرية واختبئ هناك" إلهي ما أعظمك! أنت إلهي الحي الحنون تشعرني وكأنه لا يوجد أحد على الأرض غيري تراقبه وتدافع عنه وتحافظ عليه، تشعرني وكأني وحدي موضع اهتمامك ورعايتك، يا لعظم محبتك أحبك يا إلهي لأنك فعلاً تستحق الحب لأنك أحببتني أولاً ثم جعلتني أحبك وأعرفك وأثق فيك.
وصلت إلى الإسكندرية متعبة منهكة القوى ولكن سلامك الذي يفوق كل عقل يملأ قلبي ونفسي، لابد أن أغير مسكني وأذهب إلى مكان آخر . . ربما يخبرهم هذا الصديق عنواني ويأتوا إليّ ولكن الوقت متأخر وبينما أنا في هذا الحوار مع نفسي أرى وجهك الحبيب الجميل يضئ الظلمة التي حولي ويشعرني بالأمان، قررت أن أبقى هذه الليلة وأذهب غداً إن شاء الله أبحث عن شقة أخرى، وفي صباح اليوم التالي قادني الحبيب إلى أسرة مسيحية مؤمنة عندهم شقة مفروشة صغيرة استأجرتها منهم وانتقلت إلى هذه الشقة أنا وابنتي ولم أخبر هذه الأسرة من أنا لكي أمكث أطول فترة ممكنة في هدوء. اتصلت تليفونياً بأصدقاء القاهرة ووجدت أحدهم من كان يكلمني لا يصدق أذنيه وقال "هل أنت فعلاً ناهد! لا أستطيع أن أصدق نفسي لقد سمعنا أن أمن الدولة القي القبض عليك وأنهم قتلوك بعد ذلك ابق في مكانك ولا تخرجي لمدة أسبوع حتى نحضر إليك ونعرف كل شيء" وحاولت أن أبقى بالمنزل ولا أخرج إلا للضرورة وفي أحد الأيام فوجئت بزوجة صاحب الشقة تدق جرس الباب وعندما استقبلتها وجدتها تقول "هل سمعت عن السيدة المسلمة التي آمنت بالسيد المسيح وأصبحت مسيحية واسمها ناهد" قلت لها وأنا ارتعد من شدة الخوف "نعم سمعت عنها" قالت في فرحة شديدة "لقد أحضرنا الشريط الكاسيت المسجل بصوتها تروي فيه كيف آمنت بعد أن رأت السيد المسيح في رؤيا وكلمها" قلت لها وهل تصدقيها؟" قالت: "نعم بكل تأكيد فما الذي يدعو سيدة في مركزها ومن أسرة كبيرة أن تعرض نفسها لهذا الخطر! إن لم يكن كل ما تقوله صدق وحقيقة" مجداً لك في هذا كفاية لي . . يكفيني انك اخترتني، وليس لبر في ذاتي ولكنك تعطي من غنى مجدك ولا تعير، أشكرك سأظل باقي عمري أشكرك مع كل نفس اتنفسه ولن أفي بشكرك. ذهبت معها وسمعت الشريط وكأني أسمعه لأول مرة وعشت معك لحظة بلحظة. ما أروعك يا إلهي! ما أعظمك! ما أحلاك! أنت أحلى ما في الوجود ولم أجد شيئاً أشبهك به فليس لك شبيه، وبعد أن سمعنا الشريط قالت "إن البوليس يعرف أنها في الإسكندرية ويقوم الآن بالبحث عنها." لابد أن أترك الإسكندرية وأذهب إلى مكان آخر ولكن يجب أن أنتظر حتى يحضر إلي من ينقلني إلى مكان آخر. بعد يومين حضر إلي صديق أثق فيه ولم يصدق نفسه حين رآني وقال "عرفنا أنك اتصلت تليفونياً بأولادك عن طريق شقيقتك وأنها كانت مدبرة هذا مع أولادك لإلتقاط رقم التليفون عن طريق الذي سوف تتصلي به ويعرفون طريقك، وتم بالفعل التقاط رقم التليفون عن طريق أمن الدولة وبعد ذلك عرفوا اسم وعنوان صاحب التليفون وذهب البوليس في منتصف الليل إلى العنوان وفتشوا المكان جيداً، وعندما لم يجدوك قبضوا على كل من في هذا العنوان وضربوهم بمنتهى القسوة وعذبوهم. اضطر هذا الصديق تحت الضغط والضرب والتعذيب أن يحاول أن يسلمك لهم، اتفق مع البوليس أن يذهب إليك في دير مار مينا ويسلمك لهم، كانت ترافقه سيارتان ملاكي من أمن الدولة وسارتا خلف السيارة التي ركبتيها أنت وابنتك وحين توقفت في مزرعة دير الأنبا بيشوي سبقتكم السيارتان إلى الرست وبعد ذلك انتظرت السيارتين حين جاءت سيارة هذا الصديق وظنوا أنك لا زلت داخل السيارة. ساروا خلف سيارته حتى مدخل القاهرة أي بعد ساعة ونصف ساعة واكتشفوا أنك غير موجودة بالسيارة فأوقفوا جميع السيارات المتجهة إلى القاهرة وفتشوها وعندما لم يجدوك، ذهبوا إلى مزرعة دير الأنبا بيشوي على أمل أن يجدونك هناك وبعد ذلك أشاعوا أنهم قتلوك وأنت تجري في الصحراء محاولة الهرب منهم وتركوك هناك، أما هذا الصديق فهو الآن في السجن يعذب. وأيضاً قبضوا على المهندس سمير لأنه ساعدك في الحصول على شقة، وكذلك شاب مسيحي كان يعمل في المكتبة الصوتية بأحد الكنائس، لأنه كان يطبع الشريط الخاص بك، كذلك المهندس رشاد لأن ابنتك كانت تعمل في مكتبه سكرتيرة وكان يساعدكم مادياً. وجهت إليهم تهمة التبشير بالمسيحية ومساعدتك على الارتداد واعتناق المسيحية والطعن في الإسلام، والآن بعد أن عرفوا أنك هربت منهم فإنهم يقومون الآن بالبحث عنك في الإسكندرية وعند مدخل القاهرة والإسكندرية."
مجداً لك يا رب للمرة الثانية يصاب أمن الدولة بالغباء وبالعمي ترافق سيارتنا سيارتان لأمن الدولة مسافة مائة كيلوا مترات أو أكثر دون أن يتعرضوا لي أو يتعجلوا القبض علي وحين نتوقف في مزرعة دير الأنبا بيشوي يسبقونا إلى الرست وعندما تمر السيارة التي كنت أركبها يظنون أني بداخلها وتمر ساعة ونصف ساعة دون أن يكتشفوا أني غير موجودة بالسيارة، تصيبهم يا ربي بالعمي لا يرون أني غير موجودة وأتمكن أنا من العودة إلى الإسكندرية في هذا الوقت وتصيبهم أيضاً بالغباء بحيث أنهم يبحثون عني في السيارات المتجهة إلى القاهرة ولا يفكرون أنني قد أكون في طريقي إلى الإسكندرية وعندما يتنبهوا إلى ذلك أكون قد غيرت شقتي التي كنت أقيم فيها واستأجر شقة مفروشة صغيرة لا يعرف أحد طريقها، كل هذا التدبير لي أنا؟ إنها خطة محكمة! لقد وعدتني ألا أقع في أيديهم، فكيف يستطيعون أن يصلوا إلي وأنا في حمايتك، اختبئ في حضنك الرحيم وتحيطني بذراعيك، نعم شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني، نعم حبيبي لي وأنا له. والآن يجب أن أترك الإسكندرية وأذهب إلى القاهرة . . لقد دبرت لي يا حبيب فقد دعتني إحدى الصديقات للإقامة في إحدى شقق عمارة تمتلكها، وهي شقة تؤجرها مفروشة. وجمعت حاجياتي وركبنا السيارة وتوجهنا إلى القاهرة وفي الطريق عند مدخل الإسكندرية وجدت لجنة توقف جميع السيارات الخارجة من الإسكندرية والمتهجة إليها، ولكن أجد سيارتنا تمر من أمام اللجنة دون أن يوقفها أحد بل بالعكس يلوح لنا أحد الضباط لكي نمر بسرعة، وكيف توقفنا لجنة وأنت يا حبيب تسير بوجهك أمامنا وتنير لنا الطريق.
وصلنا إلى القاهرة ثم إلى مصر الجديدة . . إن العمارة التي سوف اسكن فيها تقع بجوار قسم النزهة والجميع يعرفونني جيداً، ويجب ألا أفتح نافذة أو أخرج إلى الشارع أو يصدر من الشقة أي صوت أو حتى يفتح باب الشقة لكي لا يراني أحد، ولا أحد في العمارة يعرف أن هناك سكان بهذه الشقة . . انهم يعرفون أنها خالية ومغلقة ويجب الاستجابة لكل هذه الأوامر التي وجهت إلي . . ليس أمامي اختيار.