لقائي مع المسيح

مقدمة الناشر

 باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين

 كنت

 لقائي برب المجد

 عمل الرب العجيب

 رحلتي مع الصليب

 خروجي من مصر

 

عمل الرب العجيب

 

مرت أيام كثيرة، لا أعرف كيف مرت؟ وكل يوم يمر يزداد شوقي إلى الحبيب . . وإلى معرفته جيداً ومعرفة ما هي المسيحية؟ وإلى قراءة الكتاب المقدس، أريد أن أذهب إلى الكنيسة لأصلي، أريد أن أقابل أب كاهن ولكن كيف، لابد أن جميع الأباء سوف يرفضون لقائي، لقد كنت بالأمس مصدر شكوى المسيحيين، طالبات ومدرسات ومدرسين، واليوم أنا مسيحية. وعدت أسأل سامية "أريد أن أقابل أبونا يا سامية، وأريد كتاب مقدس أقرأ فيه" أجابتني سامية في هدوء "لقد أخبرت "أبونا" بكل ما حدث وهو موافق أن يقابلك، ولكن أعطيه فرصة ليرتب هذا اللقاء، أما عن الكتاب المقدس فدعيني أسألك أولاً أين سوف تقرأينه؟ في المدرسة ومكتبك به حركة دائمة . . أم في منزل زوجك وأولادك؟ تذكرت في الحال شقتي . . نعم شقتي الخاصة، فهمت الآن لماذا استأجرت هذه الشقة؟ ورحت استرجع الأحداث، توفى والدي وكان لواء شرطة وكان يمتلك شقة كبيرة في عمارات ضباط الشرطة في العباسية، واختلفنا من يأخذ الشقة. واستقر الرأي على بيعها، وبالفعل بيعت الشقة وحصلت على نصيبي من ثمن بيعها، ووجدتني مندفعة لكي استأجر شقة خاصة بي، حاول أولادي منعي بحجة أن سيارتي صغيرة ويجب أن استبدلها بأخرى كبيرة، لكني رفضت وأصررت إصراراً عجيباً أن أستأجر شقة خاصة بي، كان المبلغ متواضعاً، سبعة آلاف جنيه، وبالتالي ستكون الشقة في منطقة متواضعة ولكني لم يهمني أين ستكون الشقة، المهم أن تكون لي شقتي الخاصة، وبالفعل استأجرت الشقة وكتبت العقد في نهاية عام 1986 واستلمتها في يناير 1987. ظلت الشقة خالية تماماً حتى اليوم وكنت من حين لآخر اشتري إحدى الأجهزة المنزلية الحديثة وأضعها في الشقة . . فمرة غسالة جديدة، ثم ثلاجة، بوتاجاز، سخان . . حتى استطعت أن أوفر كل الضروريات، والآن علي أن اتخذ قراراً هاماً، يجب أن انتقل إلى شقتي! ولكن كيف؟ إنه قرار صعب، ليساعدني الله ويقويني.

 

وفي صباح أحد الأيام وأنا ذاهبة إلى مدرستي . . وبينما كنت أعبر الشارع إذ بي أسمع صوت فرملة قوية، إنها سيارة كادت أن تصدمني وتوقف المارة ليروا ما حدث، ونزل سائق السيارة وأخذ يوجه لي بعض الشتائم، إني أنظر إليه ولا أعي تماماً ما حدث أو لماذا يوجه لي كل هذه الشتائم، أنا من عالم آخر، لا أشعر بخطواتي على الأرض ولا أرى غير تلك العينين المضيئتين، لا أسمع غير صوته الدافئ الحنون وما هو فوق العقل أن يكلفني الله برسالة!! لم أرد على أحد بكلمة.

 

واصلت سيري نحو المدرسة وبعد أول خطوة أخطوها يا للعجب أسمع صوتاً قوياً يقول "قولي بسم الآب والابن والروح القدس" لم أفهم من يقول هذه الكلمات، ومن أين هذا الصوت؟ قلت "ماذا؟" قال مرة ثانية "قولي بسم الآب والابن والروح القدس" قلت في ذهول "ماذا؟" كرر نفس الصوت للمرة الثالثة، نظرت حولي ربما جميع الناس يسمعون نفس الصوت ولكن لا، كل من في الشارع يسيرون في حركة طبيعية. عرفت أن هذا الصوت لي أنا، شعرت إني لا أقوى على الوقوف ولا أستطيع السيطرة على جسدي . . إني أرتعد بشدة ودخلت إلى المدرسة مسرعة كي لا أقع في الشارع، وتوجهت على الفور إلى حجرة سامية، فوجئت بي سامية وأنا في هذه الحالة فأسرعت نحوي أجلستني ثم قالت "أنت من كانت السيارة سوف تصدمها" قلت لها "المشكلة ليست في السيارة، المشكلة فيما سمعت الآن" قالت "ماذا سمعت" وجدت شيئاً ممسكاً بيدي ومن رأسي إلى وسطي ثم من الكتف الأيسر إلى الأيمن وأنا أقول "بسم الآب والابن والروح القدس" بدت علامات الدهشة على سامية وقالت وهي ترسم الصليب "من علمك هذا" قلت لها "إن هذه الكلمات سمعتها الآن بعد أن كادت السيارة تقتلني، أما حركة يدي . . إنه شيء أمسك بيدي وعلمني أن أرسم علامة الصليب بهذه الطريقة" قالت سامية "أكمليها إله واحد آمين" قلت لها "وماذا تعني هذه الكلمات" قالت "الله نزل من السماء في صورة ابنه الوحيد الذي به انتقلنا من اليسار إلى اليمين أي من الظلمة إلى النور" ثم سكتت قليلاً وأضافت "عندما تكوني قلقة . . عندما تكوني خائفة . . عند استيقاظك صباحاً قبل أن تنامي في دخولك وخروجك كرري ما علمك الرب اليوم إنه يعطيك حسب شوق قلبك . . ولكن أحذري من أن يراك أحد."

 

يا لسعادتي . . يا لعملك العظيم أيها الرب الإله القدير، إني محظوظة بحبك، أنت تعلمني بنفسك . .! أشكرك يا رب، لو مكثت الباقي من عمري ساجدة بين قدميك، لن أوفيك ولو جزءاً قليلاً . . ولكن أنت تعطي بسخاء، وتوجهت إلى مكتبي . . وجدت مفيد جالساً يقرأ الجريدة اليومية كالعادة فقلت له في هدوء "بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين" ورسمت الصليب كما علمني القدير، ابتسم مفيد قائلاً "ألم أقل لك أن الله سوف يرشدك ويعلمك، أشكرك يا رب، اشكري الله دائماً، أنا الآن مطمئن عليك، أنت الآن في يد أمينة . . يد إلهنا الحبيب" جلست إلى مكتبي بجوار مفيد وأخرجت من حقيبتي علبة السجائر . . كنت أدخن بجنون، ووضعت سيجارة في فمي، وقبل أن أشعل الثقاب نظر إلى مفيد وقال في أدب "لا داعي أن تشعليها . . ليس لها أي ضرورة الآن" شعرت بالخجل من نفسي ونزعت بسرعة السيجارة التي كانت بين شفتي وألقيت بها وعلبة السجائر في سلة المهملات، وعاهدت الله ألا أعود إلى التدخين مرة أخرى أبداً . . أبداً . . كنت صادقة في عهدي ولذلك ساعدني الله، ولم أشعر بأي رغبة في التدخين منذ ذلك الحين.

 

مرت أيام جميلة سعيدة يشملني الحبيب بحبه وعنايته ورعايته، التي تفوق كل عقل وخيال وأشعر أن ذراعي الحبيب يحيطاني . . إلهي كنت أحبك ولكني كنت بعيدة عنك ولا أعرف الطريق إليك . . كان هناك حاجز بيني وبينك. رحت أبحث عنك في كل مكان . . ولكني الآن وجدتك . . أنت أقرب إلي من نفسي . . وجدتك ساكن في أعماقي . . لا أستطيع أن أقول أحبك . . لأني لو قلت أحبك فمعنى هذا أنك منفصل عني . . لكن أقول أنا فيك وأنت فيّ، كنت أخاف منك وأخاف يوم لقائك ولكني الآن أكاد أذوب اشتياقاً إليك وإلى يوم أن تنهي غربتي . . إن السعادة الحقيقية معك.

 

انفردت بالحبيب في إحدى الليالي، جلست أشتكي إليه مرضي والصداع الدائم الذي أعاني منه منذ فترة طويلة، وهو ناتج عن ارتفاع ضغط الدم فقط وصل ضغط دمي إلى 200/110، أمرني الطبيب ألا أغادر فراشي وإلا أكون معرضة أما إلى انفجار في أحد شرايين المخ أو أزمة قلبية. ولكني لا أحتمل البقاء في الفراش ورفعت قلبي إلى ربي الحنون "إلهي أريد لمسة يدك الحنونة فليس لي شفاء إلا من عندك أنت، أنت الإله القدير، اشفني يا حبيب." وفي الحال شعرت أن شيئاً مر على جبهتي وأزال الصداع. أضأت النور لكي أرى ما هذا الذي مر على جبهتي ولكني لم أجد شيئاً، وفي نفس الوقت عرفت ما حدث . . إن إلهنا الطيب الحنون تحنن علي ولمسني بيده الكريمة. سري في جسدي تيار هادئ ملأني بالسلام والهدوء ولأول مرة منذ لقائي مع رب المجد أشعر برغبة في النوم، شكرت الله وسألته أن يعطيني نوماً هادئاً، وفي الحال استغرقت في نوع عميق.

 

رأيت في تلك الليلة أني واقفة في حجرة صغيرة مفروشة بالسجاد، وبها حوض ماء كبير وعميق، مملوء ماء، والعجيب إني لا أرتدي سوى روب وحافية القدمين. كنت أعرف أني في كنيسة ولكن كيف أكون في كنيسة، ولأول مرة في حياتي، وأنا لا ارتدي سوى هذا الروب؟ وما هذا المنظر العجيب الذي أراه لأول مرة؟ لم أر في حياتي من قبل مثل هذا الحوض الكبير العميق . . فوجئت بمن يفتح باب الغرفة التي أقف فيها . . ولكني من شدة الخجل لم أقو على النظر إليه . . أمسكت الروب بيدي ونظرت إلى أسفل، وقف أمامي ومد يده البيضاء الناصعة البياض، وأخذ يعمل علامات في جسدي . . حاولت أن أقاومه . . ولكن كيف أقاوم ربي وحبيبي . . استسلمت له حتى انتهى من مسح جسدي بالعلامات، ثم تركني وخرج من الحجرة تاركاً وراءه الباب مفتوحاً، سرت وراءه وخرجت من الباب . . لأجد حوالي عشر أو أثنى عشر قساً يرتدون ملابسهم السوداء، بعضهم ممسك بشموع مضاءة ويرنمون بألحان عجيبة لم أسمعها من قبل أو أفهم معناها، سرت أمامهم وهم خلفي وكأني عروس أزف، سرت في ممر طويل ثم صعدت درجتين . . درت حول شيء أشبه بمنضدة وعليها مفرش أبيض جميل وهم يسيرون خلفي ويرددون تلك الألحان الجميلة . . نزلت إلى الممر وأوصلوني إلى باب الكنيسة وخرجت من الكنيسة. عندما استيقظت من نومي رحت استرجع ما رأيت مرة أخرى وأنا أكاد أن أجن من شدة الخجل، ما هذا الذي رأيت!! أول مرة أدخل كنيسة، أدخلها وأنا بهذا الروب فقط . . وما معنى هذه العلامات؟ وكلما لمست مكان العلامات أجد زيتاً . .! أسرعت إلى المدرسة لكي اسأل سامية ما هذا؟ ما الذي حدث ليلة أمس؟ جلست أمام سامية وأنا لا أستطيع النظر إليها من شدة الخجل ورحت أقص عليها ما رأيت، ولكني فوجئت بها تصرخ من شدة الفرح وقالت: هل نزلت في حوض الماء؟ قلت لها "لا . . لماذا؟" قالت "إنها المعمودية . . بقى لك أن تغطسي في الماء وتكوني قد اعتمدت." وأخذت تشرح لي ما هي المعمودية وما أهميتها وكيف أن كل مسيحي لابد أن يعتمد.

 

لم أكن أدري أن لمسات ربي وحبيبي الحانية قد شفتني من داء عضال وأمراض مستعصية.

 

كم أنا محظوظة بحبك يا الله . . إنك تعلمني بنفسك كل شيء، إلهي أنت تشملني برعايتك، وكأني وحدي موضع اهتمامك . . إلهي أنت تحيطني بحبك، وكأني وحدي منفردة بهذا الحب. إلهي أنت ترعاني، وكأنه لا يوجد على الأرض من ترعاه سواي. أشكرك يا إلهي الحنون.

 

وعدتني سامية أن تقص على أبونا كل ما حدث وأن تحدد لي موعداً لألقاه. تركت سامية وذهبت إلى مكتبي لأجد مفيد جالساً بجوار مكتبي ينتظرني، عندما دخلت إلى حجرة مكتبي نظر إلي، وكأنه رأى على وجهي كل شيء فابتسم وقال في صوت هادئ "قولي بسرعة ما سبب هذه الفرحة المرسومة على وجهك." جلست إلى جواره ورحت أروي له كل ما رأيت، وهو يمجد الله ويشكره إلى أن انتهيت من كلامي، رفع وجهه ونظر إلي وهو يقول "أشكرك يا رب، أعرف أنك أنت هو أمساً واليوم وإلى الأبد، وإلى دهر الدهور لك المجد الدائم آمين . . لقد اختارك الرب لكي تكوني شاهدة له، وأثق في إلهنا القدير، إنه سوف يحافظ عليك ويرعاك وأنه لابد أن يكمل عمله فيك . . أشكريه دائماً ومجديه."

 

جاء موعدي مع الطبيب المعالج، ذهبت إليه مع أني لا أشعر بأي ألم أو صداع وسألني "هل لازمت الفراش كما اتفقنا؟" قلت له "لا يا دكتور" قال في تعجب "هل تريدين أن تموتي؟" قلت له "لا يا دكتور . . أرجوك افحصني أولاً ثم قل ما تشاء." وقام بقياس الضغط وكانت المفاجأة، لا يوجد أي أثر لإرتفاع ضغط الدم، لم يصدق ما يرى. أحضر جهازاً آخراً خشية أن يكون الجهاز الأول لا يعمل، ولكن نفس النتيجة . . لم يعلق بكلمة واحدة وأخذ يحدق فيّ. نعم لقد شفاني القدير بلمسة من يده الكريمة، لم أعد أحتاج إلى سواك.

 

مرت أيام وأنا متمتعة بعناية ورعاية إلهنا الطيب، فما أجمل الحياة مع الحبيب، ولكن كنت أزداد شوقاً إلى معرفة المزيد عن السيد المسيح، وعن الكتاب المقدس. وفي صباح اليوم التالي دخلت سامية إلى حجرة مكتبي وهمست في أذني "لقد وافق أبونا أن يقابلك." . . صرخت من شدة الفرح "سوف أقابله في الكنيسة!" قالت "لا . . في منزلنا، إن أبي مريض وقرر أبونا أن يزوره ليصلي من أجله وأنت تحضري أيضاً وتلتقي به،" قلت لها في لهفة "متى؟" قالت "غداً الأحد . . بعد القداس" كدت أطير من الفرح، عدت إلى منزلي أعد الدقائق الباقية، غداً سأقابل "أبونا" لأول مرة، نعم لقد قابلت آباء قبل ذلك عدة مرات، ولكن لقاء الغد مختلف تماماً، أنا بنعمة الله إنسانة جديدة. جاء المساء، ذهبت إلى فراشي مبكرة لعل الغد يأتي سريعاً، رأيت في هذه الليلة شخصاً يدعوني إلى زيارة دير في وسط الصحراء، يحيط به الرمل من كل جانب رمال لا نهاية لها، وللدير بوابة كبيرة معدنية تتحرك على مزلاج، وعلى البوابة ثلاث قباب، احداها كبيرة في الوسط وعليها صليب كبير، واثنتين صغيرتين على جانبي القبة الكبيرة. اقتربت إلى البوابة أنا ومن دعاني ففتحها شخص يرتدي جلباباً أسود وعلى رأسه غطاء به صلبان صغيرة، بعد أن عبرنا البوابة، دخلنا إلى ممر طويل محاط بالأشجار حتى وصلنا إلى نهايته، لنجد كنيسة جديدة ومن خلفها اخرى قديمة، دخلنا الكنيسة القديمة فرأيت أجساداً لقديسين رأيتهم وكأنهم نائمني أمامي. عندما استيقظت في الصباح فرحت جداً، سوف أصف لأبونا الدير كما رأيته، لابد أن أبونا يعرف الدير، وبذلك سوف يتأكد من صدقي.

 

وجاء الموعد، ذهبت إلى سامية مبكرة انتظر حضور "أبونا" بفارغ الصبر . . ثم جاء "أبونا" سلمت عليه وقبلت يده بكل حب وتقدير وجلست أمامه في القعد المواجه له، بدأت أروي كل ما رأيت، كنت ابكي بشدة ولم استطع السيطرة على نفسي وأنا أصف السيد المسيح: طريقة كلامه، حبه، حنانه، رقته، كأني أراه مرة أخرى وأسمع صوته، كذلك رويت له كل ما رأيت بعد ذلك وكل ما سمعت و "أبونا" ينصت إلي بكل اهتمام. بعد أن انتهيت من وصف الدير الذي رأيته قال "أبونا:" "هذا وصف لدير البراموس وأنا أدعوك لزيارته، هل تريدي أن تذهبي معي؟" قلت له في لهفة "طبعاً أريد أن أذهب" قال "سوف اذهب يوم الثلاثاء القادم وأعود نهاية يوم الخميس، وسوف نتحرك في الخامسة صباحاً ونتقابل أمام منزلي. تذكرت على الفور شقتي الخاصة، إنها في نفس الشارع على بعد مسيرة خمس دقائق أو أقل، عرفت الآن سبب ذلك الإصرار العجيب الذي كان بداخلي أن أستأجر شقة، وفي هذه المنطقة، نعم عرفت أنه تدبير القدير.

 

بدأ "أبونا" يشرح لي التجسد وحتميته، قلت له "لا تتعب نفسك يا "أبونا" في الشرح لقد رأيت كل شيء بنفسي، بعيني رأيت الإنسان وفيه الإله، رأيت ما يعجز اللسان عن وصفه، ليت الجميع يعرف مقدار حبه لنا، ليتني أستطيع أن أجد الكلمات المناسبة لأعبر عما رأيت."

 

استمر لقائي مع "أبونا" خمس ساعات من الثانية بعد الظهر حتى السابعة مساءً، ولم أشعر كيف مرت هذه الساعات، كنا جميعاً سعداء بحضور الحبيب في وسطنا، انصرفنا على أمل لقاء في الخامسة صباح الثلاثاء التالي.

 

وفي طريقي إلى المنزل كنت أفكر كف سأمكث ثلاثة أيام بعيدة . . وبماذا أجيب لو سألني أولادي أين أنت ذاهبة؟ . . لقد حان الوقت لابد أن أنتقل إلى شقتي الخاصة اليوم التالي – الاثنين، لكي أكون اليوم اللاحق – الثلاثاء – مستعدة للذهاب إلى الدير مع "أبونا." ولكن كيف سأواجه أولادي؟ كيف أخبرهم؟ لم يبق على امتحانات ابني سوى أياماً قليلة، وهو في بكالوريوس هندسة عين شمس، لقد وفرت له كل راحة وهدوء طوال العام الدراسي، ولم أقصر في طلب له، إلهي ساعدني . . قوني في هذا الموقف الصعب . . هل سأتحمل بعد أولادي. ابني . . إنه ابن عمري لقد بلغ من العمر الثالثة والعشرين . . وابنتي الكبري وعمرها الآن اثني وعشرين عاماً . . وابنتي الصغرى عمرها الآن عشرون سنة. هذه أول مرة أفارق فيها أولادي، رغم إني مطلقة منذ عام 83، إلا إني لم استطع أن أتركهم. وهل سوف اتحمل لحظة وداعهم؟ وهل سيتركوني أرحل في هدوء؟ ساعدني يا رب سوف أكلمهم اليوم وأرحل غداً. انتهزت فرصة تجمع أولادي و والدهم أمام التلفزيون، قلت لهم في هدوء "على فكرة أنا ذاهبة غداً إلى شقتي الخاصة،" انتظرت رد الفعل، ولكن كانت المفاجأة! سكت الجميع! لم ينطق أحد بكلمة! وأخذوا يحدقوا فيّ! أضفت مسرعة "أظن إني لم أقصر في حقكم." تركتهم وذهبت إلى حجرتي أجمع حاجياتي دون أن أعطي أي أحد منهم الفرصة لمناقشتي لكي لا أضعف أمامهم أو أنهار، كم أنا سعيدة أشكرك يا رب وفي صباح الاثنين نزلت إلى المدرسة مبكرة، وبعد انتهاء اليوم الدراسي طلبت من اثنين من عمال المدرسة احضار سيارة نقل صغيرة. جاء العاملان ومعهما السيارة النقل . . بأت في إنزال حاجياتي إلى السيارة، يا للعجب . . كم أنا سعيدة . . سعادتي لا توصف! إن الموقف أسهل مما يتصور العقل، إني أشعر أني عروسة ذاهبة إلى بيت عرسها . . نعم أنا عروسة . . سوف انفرد بك يا حبيب، إن حبك يفوق كل حب . . وكل عاطفة. استسلم الجميع . . أعرف السر في استسلامهم . . إنه أنت يا قدير. رغم أن شقتي الجديدة متواضعة جداً ولا يوجد بها إلا الضروريات لكنها في عيني قصر مضاء بنور الحبيب، إن ما بداخلي أقوى من أي شيء آخر، إن لساني يعجز عن وصف مقدار شوقي إليك، عندما نعرف مدى حبك لنا . . نقع في حبك لأنك احببتنا أولاً. لا أريد معك شيئاً ملكت نفسي وتربعت على عرش قلبي بلا شريك . . فهنيئاً لي . . اسبحك . . أمجدك . . أشكرك لأنك جعلتني أعرفك وأحبك.

 

ركبت السيارة وانطلقت بنا إلى شقتي الجديدة، أكاد أطير من الفرح . . وصلنا . . اصعدوا حاجياتي . . انتهوا من عملهم وتركوني واصنرفوا. هذه أول ليلة قضيتها في عمري بمفردي . . لست بمفردي . . يداك الكريمتان تحيطاني . . قضيت الليل بطوله أنظف وأرتب شقتي حتى الفجر، لقد حان موعد "أبونا." خرجت مسرعة لأجد "أبونا" واقف في الشارع بجوار سيارته يرتقب حضوري، ركبنا السيارة وانطلقنا إلى طريق مصر الاسكندرية الصحراوي، وصلنا . . لك المجد الدائم، إنه نفس المنظر الذي رأيته ووصفته بالضبط أمام "أبونا" . . كل شيء كما رأيته تماماً، البوابة المعدنية، الممر الطويل المحاط بالأشجار، الكنيسة الجديدة، الكنيسة القديمة وبها توقفنا لحضور القداس الإلهي، أول مرة في حياتي لم أفهم ما يقال . . أشعر بالكلمات . . تمنيت أن أعرف ما يقال وما معناه . . وبعد لحظة أجد أحد الآباء الرهبان يقدم لي كتاباً لاتابع القداس . . إني أقرأ . . أفهم . . قرأت بسرعة اسم الكتاب، إنه "الخولاجي المقدس،" يجب أن أحصل على نسخة منه، أشكرك يا إلهي الطيب، أنت تعطي دون أن نطلب لأنك أنت الوحيد الذي يعرف احتياجنا، لم تمر إلا لحظات وشممت رائحة دم عجيبة تملأ المكان، وضعت يدي على انفي وأخذت أبحث عن مصدر الرائحة، لاحظ "أبونا" ما أشعر، جاء نحوي وسألني "ما بك" قلت له "إني أشتم رائحة دم قوية ولا اعرف مصدرها" ابتسم أبونا وقال "بعد القداس سوف أشرح لك." في نهاية القداس وجدت الجميع يذهبون إلى "أبونا" ويأخذون شيئاً في فمهم إلا أنا، سألت أبونا "ماذا يحدث حولي؟ لا أفهم! أريد ان آخذ مثلهم" قال أبونا "سوف أشرح لك. أولاً نحن نصنع القداس ذكرى ذكرى موت السيد المسيح وقيامته، وهذا الخبز هو جسده وعصير العنب والماء هو دمه، إن الله يحبك كثيراً، إنه يستخدم حواسك ليقرب إليك الحقائق" قلت له "آمنت أن هذا هو جسده ودمه الكريمين، اشتممت رائحة الدم، اشكرك يا ربي، إريد أن اتناول منهما" قال "أبونا:" "لا . . لابد أن تعتمدي أولاً،" قلت له "وماذا يمنع عمادي الآن؟" قال "ليس بهذه السهولة، يجب أن تمر فترة اولاً حتى أفكر في هذا الموضوع" إذاً علي أن أصبر، اعطاني أبوناً كتاباً مقدساً وأجبية، علمني كيف أصلي . . اشتريت شريط كاسيت به القداس الإلهي وكتاب الخولاجي لأحفظ وأفهم معنى كل كلمة في القداس. مر الثلاثاء والأربعاء والخميس . . لحظات جميلة ملؤها السلام والسعادة الحقيقية، لا أعرف كيف مر بي الوقت، كنت أستيقظ في الثالثة صباحاً لأحضر التسبحة ثم القداس، كنت أشعر أني لست في العالم، أنا في السماء مع الملائكة، إن الآباء الرهبان في ملابسهم البيضاء ملائكة بالفعل، كيف مر الوقت بهذه السرعة؟

 

عدت إلى منزلي . . لقد كسر الحاجز الذي كان بيني وبين الكنيسة، وفي نفس الوقت انتهى العام الدراسي بسلام، اسعدي يا نفسي بالحبيب، سوف أذهب كل يوم إلى الكنيسة وأصلي وأقرأ في الكتاب المقدس في العهد الجديد أولاً كما نصحني "أبونا." إن كلام الإنجيل سهل ومسلسل وبسيط، إنه يغزو القلب مباشرة . . لا أمل ولا أتعب لكني ازداد شوقاً وجوعاً، عرفت أهمية المعمودية، الجميع يتناول جسد ودم المسيح بعد القداس إلا أنا . . لابد أن اعتمد ساعدني يا ربي.

 

كنت أزور أولادي بصفة مستمرة وأطمئن على ابني في امتحاناته، كلما انتهى من امتحان، أشكر الله، ثم جاء امتحان مادة التخلف من العام الماضي، وظهرت على ابني علامات القلق والإعياء، عندما سألته قال أنه غير مطمئن لإجابة هذه المادة، كانت صدمة لي، شعرت بالندم! كان يجب أن انتظر بجوار ابني حتى تنتهي مدة الامتحانات، ذهبت إلى "أبونا" وأخبرته بما حدث، حاول تهدئتي ودعاني مرة اخرى لزيارة الدير مع ابنته وصديقة لها، وافقت وحددنا الموعد. انطلقنا نحو الدير، وصلنا حوالي الخامسة بعد الظهر، قال "أبونا:" "ما رأيكم أتريدون أن تصلوا غروب في مغارة الأنبا كيرلس" وافقنا . . ذهبنا بصحبة أحد الرهبان، وقفنا نصلي . . إنها مغارة صغيرة، وقف "أبونا" الراهب خارج المغارة. كنت أبكي وأطلب من ربي الحبيب أن يساعد ابني وأن ينجح. كلما نظرت إلى صورة البابا كيرلس أشعر أن عينيه تتحركان، ولكني قلت ربما من أثر الدموع، كانت أشعة الشمس في ظهرنا، فجأة شعرت بمن يقف خلفنا، إنه شخص ضخم يحجب أشعة الشمس، كأنه يحيطنا نحن الثلاثة بذراعيه. أشعر بعينيه القويتين تثقبا ظهري، همست في أذن ابنة "أبونا" وصديقتها، وطلبت منهما أن ننصرف، عند خروجنا من المغارة لم أجد أحداً! يا للعجب!! عرفت أنه "البابا كيرلس" إنه قديس عظيم، وعرفت أيضاً إن الله يستخدمه في معجزات كثيرة لكني شعرت بالخوف، وطلبت من أبونا أن ننصرف من الدير وانصرفنا في اليوم التالي.

 

عدت إلى منزلي ولكني كنت لا أزال أفكر كيف كان يحاوطنا بذراعيه؟ وما هذه القوة؟ إني أشعر به حتى الآن . .! مكثت أفكر فيما حدث إلى أن استغرقت في النوم لأرى أني جالسة في حجرة مكتبي في المدرسة، وإذ ابني يدخل ولكنه طفل صغير وجهه مضئ، يجري نحوي ويمسك يدي ويقبلها وهو يقول "ماما أنا اعتمدت" قلت له وأنا أبكي بشدة من شدة الفرح"كيف يا ابني هذا غير معقول؟" كرر ابني مؤكداً وهو يقول "هذا بركة دعائك،" بكيت بشدة وكررت مرة ثانية وثالثة وابني يكرر نفس الكلام، استيقظت من نومي وأنا أبكي كأنه واقع، لكني لم اصدق . . لعلي أهذي من أثر ما حدث بالأمس وحاولت أن أنسى ما رأيت.

 

بدأت ألح على أبونا "أريد أن اعتمد" وفي كل مرة كان أبونا يقول "اصبري،" عرض علي أبونا الذهاب إلى سانت كاترين في رحلة مع الكنيسة فوافقت. رافقتني في الرحلة سيدة عرفت السيد المسيح، إنها سيدة مؤمنة فاضلة. قضيت أوقاتاً ممتعة زرت فيها دير سانت كاترين وجبل موسى ورأيت العليقة، جلست على الصخور مع تلك السيدة نتأمل عمل يدي الله، كان يدور بذهني نفس السؤال "متى سأعتمد؟ ومن سيقوم بهذه المهمة؟ افقت على صوت تلك السيدة تصرخ قائلة "أبونا بطرس،" تعجبت وسألتها "من هو أبونا بطرس؟" وإذ بسيارة رحلات تقف وينزل منها أحد الآباء. لم أكن أعرفه ولم أره من قبل، وجدت صديقتي تنطلق نحوه وهي تجري وأنا أجري خلفها بكل شوق وسلمنا عليه. ثم سألتها من هو؟ أجابت "كيف لا تعرفيه الجميع يعرف من هو" ثم عرفت منها بعد ذلك من هو، عرفت نعمة الله التي وهبها له وعرفت أيضاً أنه يقوم بعمل اجتماع كل يوم سبت، اتفقنا أن نحضر معاً اجتماعاته. من حسن ترتيب القدير أن هذه السيدة تسكن بجواري، كذلك أبونا بطرس، الذي يخدم في كنيسة في نفس المنطقة في شارع موازٍ للشارع الذي أسكن فيه على بعد مسيرة ربع ساعة، أشكرك يا إلهي الحنون.

 

عدت من رحلة سانت كاترين وكلي أمل أن أعتمد وأتناول جسد ودم السيد المسيح، لابد أن أحدد موقف "أبونا!" هل سيعمدني أم لا؟ قررت أن أذهب إلى "أبونا." وبينما كنت أسير في الشارع مسرعة كنت أسأل الله، إلهي إذا مت الآن هل ستقبلني أبنة لك، مسيحية؟ إلهي أنت تعلم شوق قلبي إليك وإلى المعمودية ولكن لا أستطيع أن أفعل شيئاً، أرجوك يا ربي ساعدني ورتب لي أمري، أنا أعرف أهمية المعمودية، أنت شاهد يا إلهي أني أحاول بكل جهدي، أرجوك يا ربي حقق لي طلبتي. فوجئت بسيدة عجوز توقفني، وإذ بها واقفة أمامي فاتحة ذراعيها وممسكة بعضا كبيرة تستند عليها، وبيدها الأخرى كيس نايلون به طماطم كبيرة الحجم وحمراء اللون لفت نظري منظرها، أوقفتي وهي تسأل "الكنيسة خرجت؟" تعجبت من سؤالها وقلت لها "الكنيسة . .! أي كنيسة" قالت "كنيسة العذراء مريم" قلت لها "لا أعرف،" قالت "ألم تكوني بالكنيسة،" قلت لها "لا ومن أدراك إني كنت بالكنيسة،" قالت "ألست مسيحية" كنت في ذلك اليوم أضع طرحة على رأسي، قلت لها "وهذه الطرحة التي على رأسي!!" قالت مؤكدة بكل ثقة "برضه مسيحية" قلت في نفسي لعل أحد طلب منها أن تقول لي هذا الكلام ليعرف سري، قلت لها "من قال لك إني مسيحية؟" أشارت إلى السماء وقالت "هو" وأضافت "أنا أيضاً مثلك مسيحية" أشارت على معصم يدها اليمنى الممسكة بالعصى ورفعت يدها لأعلى، وإذا بصليب كبير جديد لونه أزرق مرسوم على يدها. هنا شعرت براحةو سلام، عرفت من طلب منها أن تطمئني، أشكرك يا إلهي الحنون، حاولت أن أتركها وأسير في طريقي ولكنها بكت بشدة، سألتها عن سبب بكائها قالت "إن الأيام صعبة والظروف قاسية وقلوب الناس أصبحت قاسية جداً" فتحت حقيبة يدي وأخرجت مبلغاً بسيطاً ووضعته في يدها ومشيت وبعد خطوتين عاتبت نفسي، كيف أكون بخيلة لهذه الدرجة مع هذه السيدة التي حملت لي هذه البشرى فأخرجت مبلغاً كبيراً، التفت خلفي أبحث عنها ولكني لم أجدها، جريت للأمام في أثرها ولكن لا أثر لها . . عرفت أنك أنت أرسلتها لتطمئني . . إلهي الرقيق كل الرقة تجيبني في الحال . . يا لعظم محبتك، ليت الجميع يعرفون مقدار حبك لنا، لأنهم لو عرفوا لما كان هناك شخص حزين على الأرض.

 

واصلت سيري حتى منزل "أبونا" وازددت اصراراً أن أعتمد وأن أكون فعلاً مسيحية، جلست أمام "أبونا" وسألته "هل ستعمدني أم لا؟" رد قائلاً "لا تسأليني مرة أخرى فلن يكون ذلك قبل سنة" كان رد أبونا صدمة كبيرة لي، لم أصدق ما سمعت . . ليست قبل سنة! هل يضمن أبونا عمري بعد سنة أو حتى لمدة ساعة واحدة أو يضمن عمره هو؟ لا . . لابد أن أجد طريقاً آخراً.

ذهبت إلى صديقتي كما اتفقنا لنحضر اجتماع أبونا بطرس، بكرنا في الذهاب وجلسنا في الصف الثالث من الأمام، كان موضوع العظة التوبة والرجوع إلى الله، كم كانت كلماته رائعة تغزو القلب وتوقظ الضمير، قررت أن أواظب على حضور الاجتماع. وبعد الاجتماع قابلنا "أبونا" بطرس واخبرته صديقتي أني من الحظيرة الأخرى، كم كانت فرحته بي لن أنسى ابداً تلك النظرة وتلك الابتسامة التي رسمت على وجهه وهو يحدق فيّ. وفي أحد الاجتماعات قابلت احدى زميلاتي بالمدرسة، وجدتها تكلم سكرتيرة "أبونا" بطرس، كانت المفاجأة أن سكرتيرة "أبونا" بطرس كانت طالبة بمدرستي منذ خمس سنوات، وتعرضت لموقف سيء مني وذلك لأنها مسيحية، إن لقائي بها في الكنيسة كان أكبر مفاجأة فلم تكن تتخيل ابداً أن تراني في الكنيسة ولكن إنها إرادة القدير، وحددت لنا موعد لقاء مع "أبونا" إنه يوم الأربعاء القادم بعد القداس.

 

جاء يوم الأربعاء وبعد القداس ذهبنا إلى مبنى ملحق بالكنيسة حيث مكتب "أبونا" بالدور الثاني، سارت أمامي وأنا اتبعها وإذ بي أمام حجرة مكتوب عليها "حجرة المعمودية،" وقفت أمام الباب اسأل الله متى سأدخل هذه الحجرة وإذ بباب الحجرة يفتح من الداخل ويخرج منها اثنان ومعهما طفلة كانا يعمداها، نظرت إلى داخل الحجرة . . يا للعجب أنها نفس الحجرة التي رأيتها في رؤيتي . . شعرت براحة وسلام وعرفت أني سوف اعتمد هنا . . شكراً لك يا رب أنت دائماً تطمئني. أسرعت وراء زميلتي، دخلنا لمقابلة "أبونا،" جلست امامه وبدأت أقص عليه رؤيتي وكأني أراها مرة أخرى. رحب "أبونا" بي وأعطاني موعداً آخراً لمقابلته في نهاية شهر يونيو 1988.

 

تجدد لقائي مع "أبونا" بطرس، وجدت فيه كل ما كنت افتقده، رعاية، عناية فائقة، حناناً أبوياً مع شخصية قوية حازمة، إني أشعر أمامه أني طفلة وهذا ما كنت أريده.

 

انتهت الإجازة الصيفية وبدأت عودة المدرسين للإعداد للعام الدراسي الجديد، ساعدني يا ربي أن أقوم بعملي كما كنت ولكي كيف لقد تغيرت تماماً . . أين صوتي العالي؟ كان صوتي يملأ الإدارة إما ضاحكة أو في مشاجرة مع آخرين، كنت أدخن بجنون . . إني أخجل من صورتي السابقة. كنت أستعمل جميع أنواع مساحيق التجميل وأقوى العطور وأفخر الثياب. الآن لا فرق عندي بل إني  أبحث عن المتواضع والبسيط منها، أنا . . لست أنا!! لقد بدأ الجميع يلاحظون ويتسائلون ماذا حدث؟ أحب كل الناس أريد أن أخدم الجميع بلا تفرقة . . أشعر أني أريد أن أعانق كل من يحمل اسمك، إن قلبي مضئ بحبك . . لابد أن أطلب الصفح من كل من أسأت إليه، ساعدني يا إلهي الحبيب لقد ملكت على قلبي وعقلي وجميع حواسي، أريد أن اترك عملي، لن أكون أبداً كما كنت، أنا لك بجملتي، إن جميع مسيحيي المدرسة عرفوا، لقد رأوني في الكنيسة، نعم كانت مفاجأة ولكن غير المستطاع عند البشر مستطاع عندك أنت يا قدير.

 

وفي أحد الأيام فوجئت بابني يدخل حجرة مكتبي ووجهه مضئ من شدة الفرح، جرى نحوي وهو يهتف ويقول: "ماما أنا نجحت وحصلت على البكالوريوس" لم أصدق ما سمعت، بكيف من شدة الفرح وقلت له "لكن كيف؟ هناك مادة لم تكن راض عن اجابتك فيها،" امسك يدي وقبلها وهو يقول "هذا بركة دعائك." نعم تذكرت في الحال تلك الرؤية . . إنه نفس الوجه المضئ، أشكرك يا إلهي . . يا محب البشر.

 

مرت ايام وأنا اواظب على حضور اجتماع "أبونا" بطرس وأيضاً حضور القداس يومياً، شعرت أني أنمو بسرعة وازددت شوقاً إلى المعمودية، كنت كلما قابلت "أبونا" أكرر له طلبي "أريد أن اعتمد" وفي يوم الأربعاء الموافق 23/11/1988 كان موعد لقائي مع "أبونا" وكانت المفاجأة السارة أن أجد "أبونا" يقول في هدوء "هل أنت مستعدة للمعمودية؟" صرخت في لهفة "طبعاً مستعدة،" قال وهو يبتسم "سوف أعمدك يوم الأربعاء القادم الموافق 30/11/1988 أثناء القداس،" وأخرج من درج مكتبه ورقة صغيرة وكتب عليها "سوف تواجهين حرباً من الشيطان، ولكن لكي تقوى على المواجهة عليك بالمواظبة على الصلاة وقراءة الكتاب المقدس" أخذت الورقة وانطلقت من أمامه أجرى وهو يقول "لا تخبري أحداً البتة غير زميلتك لأنها ستكون اشبيتنك."

 

ظللت أعد الدقائق الباقية، أواصل الليل بالنهار أصلي إليك يا قدير "إلهي الحبيب أرجوك يا ربي ألا تسمح لعدو الخير أن يعطل أو يمنع عمادي، أرجوك يا ربي تمم لي طلبتي حتى وإن كانت هذه الطلبة هي آخر طلبة لي، فيها كفايتي، أموت معك في المعمودية واحيا معك، أعدك يا ربي أن أكون لك باقي عمري بكل كياني، أعدك أن أكرس نفسي لك، لن أكون إلا بك ومعك ولك."

 

مرت الأيام طويلة وثقيلة حتى فجر الأربعاء 30/11/1988، خرجت من منزلي في السادسة صباحاً، أكاد أن أطير، بعد لحظات وصلت إلى الكنيسة وأيضاً وصلت زميلتي، يا له من صباح مشرق جميل عظيم، إنه ميلادي الحقيقي، صعدنا بعد ذلك إلى مكتب "أبونا" بطرس ننتظر وصوله، كل شيء حولي سعيد يكاد أن ينطق، سمعت صوتاً . . إنه صوت وقع أقدام "أبونا" . . نعم . . بعد لحظات حضر "أبونا" إن وجهه مضئ مشرق، لن أنسى أبداً وجهه، صافحنا وهو ينظر إلي بكل حب وحنان وسعادة . . توجهنا إلى حجرة المعمودية ووقفنا ثلاثتنا جهة الغرب وجحدنا الشيطان، ثم واجهنا الشرق وأعلنت إيماني بربي وإلهي ومخلصي يسوع المسيح، ثم تركني "أبونا" وخرج من حجرة المعمودية. ارتديت قميص المعمودية، نزلت في جرن المعمودية، يا لها من لحظة عندما لمس الماء جسدي، إنه شيء مختلف تماماً لم اشعر به من قبل، ليتني أستطيع أن أصف . . كأنه تيار كهربائي يسري في جسدي ويشعرني بسلام لم أشعر به من قبل إلا وأنا بين قدمي الحبيب، كأني فعلاً بين قدميه، أتمنى أن أمكث هكذا أطول فترة ممكنة، دخل "أبونا" وسألني "هل هناك اسم معين تحبي أن يطلق عليك؟" قلت له "لا . . فليسميني أبونا." قال "يختار لك الله اسم . . ثم أضاف ما رأيك في فيبي" قلت "فيبي . . أوافق" وضع يده على رأسي وقال "عمدتك يا فيبي باسم الآب" وضغط على رأسي ونزلت تحت الماء، فتحت عيني يا له من منظر، إني في بلورة كريستال واسعة مضيئة أكاد أن اسمع أصواتاً عالية جميلة . . إنه منظر عجيب! تمنيت لو أمكنني البقاء تحت الماء فترة أطول ولكن . . صعدت وأخذت نفساً عميقاً ثم ضغط أبونا على رأسي وهو يقول "والابن" نزلت تحت الماء مرة ثانية . . إنه نفس المنظر الجميل ونفس الأصوات، حاولت أن أبقى فترة أطول . . ولكن صعدت، وقررت أن أبقى هذه المرة فترة أطول فأخذت نفس أعمق . . ثم ضغط أبونا على رأسي للمرة الثالثة وهو يقول "والروح القدس" حاولت أن أملأ عيني بهذا المنظر الجميل واستمتع بهذه الأصوات الرائعة حتى كدت أن اختنق تحت الماء . . ولكن صعدت . . قال "أبونا:" "أطلبي من الله أن يهبك عطية الروح القدس" وقفت في جرن المعمودية في الماء أصلي "إلهي الحبيب الحنون الرقيق . . امنحني يا رب روحك القدوس . . يا رب كما انعمت به على تلاميذك الاطهار ورسلك المكرمين ومنحتهم سلامك أنعم به علي" شعرت بلمسة الحبيب . . لك نفسي . . لك حياتي . . كل ما لي فهو لك، وعدتك أن أكرس نفسي لك وها أنا اسلمك حياتي وأيامي، وما فائدتي على الأرض إن لم أكن لك.

 

قام أبونا بعد ذلك بدهن وجهي وكفي بالميرون وخرج وتركني لأرتدي ملابسي. يا له من شعور يغمرني! نعم يا إلهي الحبيب لقد فهمت الآن وعرفت . . لمست بنفسي ما هي المعمودية، إنه سر عظيم يفوق كل وصف. من أنا الآن؟ كل شيء مختلف تماماً لقد مت معك وقمت معك وبك ولك، لقد مر عام على إيماني بك . . لكن اليوم شيء آخر!! والآن وبعد أن قرأت كثيراً في الإنجيل المقدس أصبح لكل كلمة عمق جديد، كلماتك الخالدة أعيشها الآن، كنت أفهمها ولكني الآن ألمس وأحس، ما أعظمك يا إلهي! ليت الجميع يعرفون . . ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب . . جاء صوت الحبيب في صدري "الآن تستطيعين أن تتكلمي،" يا له من تصريح أشعر أنه كسر قيدي . . لا يهمني شيء لو قتلوني سأصل إليك بسرعة، ومعك لا أريد شيئاً، سوف أتكلم وأتكلم ولن أكف عن الكلام في كل مكان وفي وكق وقت كلما أتيحت لي فرصة.

 

خرجت من حجرة المعمودية، حجرة ميلادي الحقيقي توجهت إلى الكنيسة للتناول، يا له من يوم مشرق عظيم . . كم تمنيت تلك اللحظة! وأنا ذاهبة للتناول شعرت كأني عروس أزف إلى الحبيب، يمشي ورائي كثيرون في موكب عظيم لا أكاد أن أراهم ولكني أسمع صوت وقع أقدامهم، إنهم يرنمون بفرح، بصوت جميل، إن أقدامي لا تلمس الأرض، خطواتي في الهواء، إني أطير . . وقفت أمام "أبونا" للتناول . . حلماً جميلاً طالماً تمنيته. لكنه الآن حقيقة أعيشها، فتحت فمي وتلقيت المناولة . . يا للعجب! إنها قطعة لحم في فمي . . ماذا أفعل لابد أن أبتلعها . . وكان، ثم تناولت دمك العجيب . . إلهي يا لعظم محبتك! من منا يستحق أن يأكل جسدك وأن يشرب دمك! أي فم يستحق هذه الكرامة . . أن تستقر في داخلنا . . أنت تعطي حسب غنى مجدك، إلهي أسكن في أعماقي، لكي تضئ ظلماتي بنورك العجيب ولكي لا أكون أنا بل المسيح الساكن فيّ . . فهمت الآن معنى كلمة بولس الرسول "لبستم المسيح" ما أعذب الحديث عنك . . ما أجمل وأثمن الوقت الذي يقضى معك . . لا توجد قوة على الأرض تمنعني عنك . . لقد أصبح لحياتي معنى . . إن بداخلي نار تتأجج تزداد اشتعالاً، ليت الجميع يشعرون بما أشعر . . لن أخاف . . لن أكف . . لن أكتفي . . أنت معي . . تقويني وتساندني.

 

إنطلقت في كل مكان أتحدث عن الحبيب، قمت بتسجيل خمسة أشرطة كاسيت، آه لو عرف الناس ما أشعر به وأنت يا قدير تستخدم حقارتي لمجد اسمك، وكم مدى فرحتي عندما أجد استجابة ممن اكلمهم . ! فكم بالحري فرحتك أنت بخاطئ يعود إلى حضنك الرحيم. وأيضاً لا أستطيع أن أصف المرارة التي أشعر بها عندما التقى بقساة القلوب . . فكم بالحري ما تشعر أنت به ممن لا يلتفتون إليك وهم من صنع يديك ولا يعرفونك وأنت محصى شعور رؤوسهم، لا يريدونك وأنت تريد الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، لكن يا إلهي أنت أب للجميع . . أنت منبع الرحمة والحنان، ولابد أنه سيأتي يوم ويعرفك الجميع أنك أنت الرب الإله محب البشر.

 

أعن ضعفي يا إلهي واغفر لي خطاياي، احفظني في إيمانك إلى النفس الأخير، اشكرك يا من أبدلت قلبي الحجري بآخر أنت ساكن فيه، هذا هو عمل الرب العجيب في أنه صادق الوعد مع الذين يحبونه بكل قلوبهم.

الصفحة الرئيسية