الحزب الهاشمي |
|
جذور الأيديولوجيا الحنفية
يبدو أن التوحيد بمعناه الحنفي يعود إلى زمن بعيد ، فحوالي القرن الأول قبل الميلاد كان بعض أهل اليمن يعبدون إلهاً باسم ( ذوي سموي ) أو إله السماء ، كإله واحد ، وقد ذكرت نقوش المسند اليمنية عبادة إله واحد يدعى ( رحمن ) ، ويرى الباحثون أنهما كانا مسميين لواحد ، وتؤكد ( ثريا منقوش ) : " إن عباد هذا الإله كانوا يعرفون بالأحناف " (1) . ويذهب ( الدكتور جواد علي ) إلى افتراض أن تكون عقيدة حنفاء مكة التي نادى بها عبد المطلب بن هاشم ، بعد سبعة قرون : امتداداً لحنيفية رحمن اليمن ؛ رب السماء ذوي سموي ويلمح إلى ذلك في قوله عن أحناف مكة : " لا نستطيع أن نقول إنهم نصارى أو يهود ، إنما أستطيع أن أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء ذوي سموي ، أو عبادة الرحمن في اليمن " (2) .
ويذكر الفخر الرازي أن عقيدة أحناف اليمن ، كانت أركاناً أربعة هي : حج البيت ، واتباع الحق ، وملة إبراهيم ، والإخلاص لله وحده . ثم يضيف قوله : إن عدم معرفة هؤلاء لتاريخ نشوء عقيدتهم ؛ فقد نسبوها إلى إبراهيم النبي العبري !! ( لنا في جذور هذا الأمر بحث خاص ، ألقينا فيه الضوء على مساحات مظلمة في تاريخ هذه العقيدة ، بعنوان : النبي إبراهيم والتاريخ المجهول ) . ويذهب الألوسي إلى أن الصائبة هم قوم النبي إبراهيم ( عليه السلام ) وأهل دعوته (3) ؛ مما دفع بعض العلماء إلى حسبان الحنفاء صنفا من الصائبة ، وبالتحديد – الصنف المؤمن أو من بقى على الإيمان منهم (4) .
وكان منهم بالجزيرة العربية نفر غير قليل ، وكانوا يقيمون الصلاة عدة مرات في اليوم كفرض إجباري للإيمان ، يقومون فيها ويركعون ، ويتوضأون قبلها ، ويغتسلون من الجنابة ، ولهم قواعد في نواقض الوضوء (5) . ( ولعل ذلك يفسر لنا لماذا أطلق أهل مكة على من يتبع دعوة الإسلام و يشاهدونه يؤدي هذا الشكل من الصلوات : أنه قد صبأ )!! ولا بأس هنا من التعريف السريع بأهم حنفاء الجزيرة ، أو من شاء حظهم أن يذكرهم التاريخ ولو بكلمات ، ومنهم – كما أشرنا – قس بن ساعدة الإيادي ، الذي يكاد يجمع المؤرخون على موته قبل البعثة بقليل . وقد ورد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يسمع إليه في سوق عكاظ . ونقل الألوسي بعض ما نسب إلى قس فقال : " ومن خطباء إياد قس بن ساعدة ، وهو الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لجارود : يا جارود ، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق ، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني حفظته ، فقال أبو بكر : يا رسول الله فإني أحفظه ، كنت حاضرا ذلك اليوم ، فقال في خطبته : أيها الناس ؛ اسمعوا وعوا ؛ فإذا وعيتم فانتفعوا ، إنه من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت . إن في السماء لخبرا . وإن في الأرض لعبرا ، جهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور ، وبحار لن تغور ، ليل داج ، وسماء ذات أبراج ، أقسم قس قسما حتما ، لئن كان في الأرض رضي ليكونن بعده سخطا ، وإن لله دينا هو أحب إليه من دينكم " (6) ، ثم يعلن توحيده الخالص النقي ؛ منادياً " كلا ، بل هو الله المعبود الواحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدي ، وإليه المآب غداً (7) ، ثم يرسل شعره قائلاً :
فـــــــي الذاهبين الأوليــــــــــن في الشــــعــــــــوب لنا بصــــائر لمــــــــــــــــا رأيت مــــواردا للمــــــوت لــــــيس لهــــا مصادر ورأيـــت قومــي نحــــــوها تسعي الأصــــــاغـــــر والأكـــــابر لا يـرجــــعن قــــومــــي إلي ولا مــــن البــاقين غــــــــــــابـــــر أيقنت أنـــي لا مـــــحــــالة حـــيث صـــــار القـــــوم صـــائر(8)
ويقول أيضا : يا ناعي الموت والأموات في جدث عليهم من بقايــــا برعم خـــرق دعهم فإن لهم يومـــا يصـــاح بهم فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا حتى يعودوا لحال غير حــــالهم خلقا جديدا كما من قبله خلقوا فيهـــــم عـــــراة و منهم في ثيابهم منها الجـديد ومنها المبهج الخلـق
حتى قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " والذي بعثني بالحق ، لقد أمن قس بالبعث " (9) .
ومن الحنفاء ( سويد بن عامر المصطلقي ) . ذكرت المصادر أنه كان على دين الحنيفية وملة إبراهيم ، وقد جاء في شعره ذكر المنايا وحتمها ، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي ، وأنه ليس للمرء يد فيما يصبيه من القدر ، فكل شئ محتوم مقدور . قال مسلم الخزاعي المصطلقي : " شهدت رسول الله " صلى الله عليه وسلم " وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي : لا تأمنن وإن أمســــيت في حرم حـــتى تلاقي مــا يمني لك المــاني فالخــير و الشر مقرونان في قرن بـــكل ذلك يأتيـــــــــــك الجــــديدان فكل ذي صـــــاحب يــــوما يفـــارقه وكـــــــل زاد أبقــــــــيته فان فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لو أدركته لأسلم " (10) .
ومنهم أيضاً – قبل عبد المطلب – ( اوكيع بن سلمة بن زهير الإيادي ) ، الذي بني صرحاً بأسفل مكة جعل فيه أمة يقال لها حزورة ، وبها سميت حزورة مكة ، جعل فيه سلماً يرقاه ، زاعماً أن الله يناجيه فيه ، وكان يتكلم بالخير ، وزعم العرب أنه صديق من الصديقين (11) ، وهو بهذا المعنى رجل متأله مدعي الوحي متنبئ وذكروا عنه كلمات مسجوعة مثل : " إن ربكم ليجزين بالخير ثواباً ، وبالشر عقاباً ، وإن من في الأرض عبيد لمن في السماء ، هلكت جرهم وزيلت إياد ، وكذلك الصلاح والفساد " ، أو مثل " من رشد فاتبعوه ، ومن غوى فارفضوه ، وكل شاة برجلها معلقة " (12) .
ومنهم أيضاً ( أبو قيس صرمة بن أبي أنيس ) ، وهو من بني النجار أهل يثرب ؛ أنسباء البيت الهاشمي ، وتقول الأخبار إنه فارق الأوثان واغتسل من الجنابة ، وتطهر ، ودخل بيتاً له اتخذه مسجداً لا تدخله طامث ولا يدخله جنب ، وقال أعبد رب إبراهيم ، وكان قولا بالحق ، معظما لله ، وقال ابن حجر : إنه لما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يثرب ، أسلم وحسن إسلامه ، وهو شيخ عجوز ، وكان ابن عباس يختلف إليه ويأخذ عنه الشعر (13) ، ومن هذا الشعر قوله : فو الله ما يدري الفتــــي كيف يتقـــي إذا هو لــــــم يجـــعـــل له الله واقيـــــــا و لا تحفل النخــل المعيمــــة ربـــها إذا أصبـــــــحت ريا وأصبـــح ثــــــاويا وقوله : يا بني الأيام لا تأمنوها واحـــــذروا مـــــــــــــــكرها و مــــر الليالـــــي واعلمـــــوا أن أمـرها لنفاد الخلـــــق مـــــا كــــأن من جـــــــديد و بالي وقوله : سبحوا الله شرق كل صبـــــــاح طلعت شمـــسه وكل هلال عـالــم الــــسر و البيــان لـــــدينا ليس مـــا قـال ربنا بضـــــلال(14)
ومنهم أيضاً ورقة بن نوفل الذي قال عنه الألوسي أنه ممن وحد الله ، وترك الأوثان وسائر أنواع الشرك ، واجتهد في طلب الحنيفية دين إبراهيم ، ثم تنصر ، لكنه لم يتبع النصاري في التبديل ، وظل موحداً (15) وقد سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ورقة فقالت له خديجة ( رضي الله عنها ) : إنه كان صدقك وإنه مات قبل أن تظهر ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : رأيته في المنام وعليه ثياب بيض ، ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك (16) .
وقس هو الذي كان ينادي الناس ناصحاً : لا تعـبـــدون إلهـــا غـــير خالقكم فــــإن دعـوكم فقــــــولوا بيننا حدد سبحان ذي العرش سبحانا نعوذ به وقــبل قد ســـبح الجودي والجمد مسـخر كل ما تحت السمـــاء لــــــه لا ينبــــغي أن يناوي ملكــــه أحـد لاشيء مما نري تبقي بشــاشــتـــه يبـقي الإله ويودي المال والولد
وهو الذي قال في ( زيد بن عمرو بن نفيل ) رفيقه على درب الحنيفية بعد موته : رشدت وأنعمـت بن عمرو وإنمـا تجنبت تنورا من النار حــاميا بدينك ربا ليـس رب كــمــــثله وتركك أوثان الطواغي كما هيــا وإدراكك الدين الذي قد طلبته ولم تك عن توحيد ربك ســاهيا فأصبحت في دار كريم مقامها تعلل فــيها بالــكرامـــة لاهيــــا تلاقي خليل الله فيها ولم تكن من الناس جبارا إلى النار هاويا وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ولو كان تحت الأرض سبعين واديا (17)
ومنهم ( عامر بن الظرب العدواني ) ، وكان من حكماء العرب وخطبائهم ، وكانت له نظرات وأراء في العقيدة ؛ تتضح في قوله في وصية طويلة منها : " إني ما رأيت شيئاً قط خلق نفسه ، ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً ، ولا جائياً إلا ذاهباً ، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء .. إني أرى أموراً شتي وحتى ( قيل له : وما حتى ؟ ) قال : حتى يرجع الميت حياً ، ويعود اللاشئ شياً .. " 018) ، وقالوا عنه : إن إيمانه بملة إبراهيم ، دفعه إلى تحريم الخمر على نفسه (19) ، وفي ذلك يقول : أن أشـــــــرب الخمر للذتها وأن أدعها فإني ماقت قال لولا اللذاذة و الفتيان لم أرها ولا رأتني إلا من مدي الغال سئالة للفتي ما ليـس يمـلكه ذهابه بعقول القوم و المال مــــورثة القوم أضغانا بلا إحن مــزرية بالفتي ذي النجدة العال أقسمت بالله أسقيها وأشربها حتى يفرق ترب القبر أوصالى (20)
ومنهم علاف بن شهاب التميمي الذي أمن بوحدانية الله وبالبعث والنشور والحساب والثواب و العقاب ، وهو القائل : ولقـد شهدت الخصم يوم رفاعة فأخذت مـنه خطـة المغتال وعلمـت أن الله جـاز عبـده يوم الحساب بأحسن الأعمال (21)
ومنهم ( المتلمس بن أمية الكناني ) الذي كان يخطب في فناء الكعبة منادياً بنبذ الفرقة القبلية عن سبيل نبذ الأوثان ، والاتجاه إلى رب كعبة مكة ، وكان يقول لهم : " إنكم تفردتم بآلهة شتي ، وإني لأعلم ما الله راض به ، وإن الله رب هذه الآلهة ، وإنه ليحب أن يعبد وحده (22) . ومن الحنفاء أيضا من حاز بعض الشهرة ، مثل ( زهير بن أبي سلمي ) ،وذكر أنه كان يتأله ويؤمن بالبعث والحساب . ويروي أنه كان يمر بالعضاة قد أورقت بعد يبس فيقول : " لولا أن تسبني العرب ، لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم " ، وقد سلكه ابن حبيب ضمن من حرموا على أنفسهم الخمر والسكر والأزلام (23) ، وهو القائل مقسماً بالكعبة :
أقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم يمينا لنعــم السيـــدان وجــدتما على كل حال من سحيل ومبرم (24) وهو القائل : ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفي على الناس تعلم ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم (25)
ثم هو يحدد موقفه واضحا من لعقة الدم في حلف الأحلاف المناوئ للمطيبين في قوله : ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة وذيبان ، هل أقسمتم كل مقسم فلا تكتمن الله ما قي نفوسكم ليخفي ، ومهما يكتم الله يعلم (26) ثم يقول مؤمناً : ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أري من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا بدا لي أن الله حق فـــزادنــــي إلى الحق تقوي الله ما كان باديا (27)
إن الفكر السليم ليعزو انتشار الحنيفية في الجزيرة والحجاز ؛ إلى تمهيد هؤلاء وتوطئتهم ، حتى تحولت إلى تيار قوي قبل الإسلام ،وإن أهم رجالات الحنيفية وأساتذتها –وربما كان أولهم من حيث الهمية والأثر – هو ( عبد المطلب بن هاشم ) ، إضافة إلى اثنين من تلامذة الحنيفية الكبار هما : ( زيد بن عمرو بن نفيل بن حبيب ) ، ذاك الذي استطاع جده إقناع النفيل محمود بالعودة إلى اليمن راشداً ، وكان حليفاً لعبد المطلب ، والثاني ( أمية بن عبد الله بن أبي الصلت ؛ ) وكان جده حليفاً بدوره لعبد المطلب ، ورفيقه في رحلته لتهنئة ابن ذي يزن باستقلال اليمن .
ويؤكد الدكتور جواد علي أن أم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن غيرهم ، هي : الاختتان ، وحج مكة ، والاغتسال من الجنابة ، واعتزال الأوثان ، والإيمان بإله واحد بيده الخير والشر ، وأن كل ما في الكون محتوم مكتوب (28) ، وفي ملل الشهرستاني نجد أن الحنفاء كانت تقول : " إننا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر ؛ تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانية ، ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية (29) .
إذن هي النبوة ؟! ولابد للأحناف من نبي !! وهنا يقول لنا الدكتور أحمد الشريف : " والدليل على أن الجاهليين كانوا يتطلعون إلى نظام جديد ؛ أنهم كانوا – حسب تفكيرهم – يتحدثون عن علامات ونذر تنبئ عن قرب ظهور نبي منهم ، وقد روي القدماء معجزات ونذراً قالوا إنها وقعت قبل ظهور الإسلام ؛ إرهاصاً به ومنبئة بقرب ظهوره ، وتلك الروايات – إن صحت – كانت دليلاً على أن الجاهليين تطلعوا إلى الإصلاح ، وإلى ظهور مصلح من بينهم ، وكان الإصلاح قديماً لا يأتي إلا على أيدي الحكماء والأنبياء ، وهذا التطلع الطبيعي في كل جماعة إحساس ضروري يسبق كل حركة إصلاحية ويمهد لها .. وكانت البيئة مستعدة لقبول النظام الجديد ؛ لأنها بيئة لها وحدتها المتميزة ؛ من الناحية اللغوية ، ومن ناحية الجنس .. وكان من المتوقع لو لم يظهر الإسلام أن يدخل العرب في أحد الدينين ، لولا أنهم بدأوا نهضة قومية .. لذلك يريدون ديانة خاصة يعتبرونها رمزاً لقوميتهم .. ديانة تعبر عن روح العروبة وتمون عنواناً لها ، لذلك ؛ بحث عقلاؤهم عن الحنيفية دين إبراهيم الذي كانوا يعدونه أباً لهم .. وقد ظهرت حركة التحنف قبل الإسلام مباشرة ، وكانت رمزاً إلى أن الروح العربي كان يتلمس يومئذ ديناً آخر غير الوثنية ، والإسلام حين جاء .. كان دليلاً على نضوج ديني فلسفي ، استعد له العرب في القرون المتطاولة السابقة .. وكذلك كانوا يحسون بأن عدم وجود دولة تجمعهم أمر فيه ذلة وعار .. في هذه الظروف المواتية من الناحية الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ؛ ظهرت النهضة العربية ؛ وكانت دينية ؛ والدين كان عاملاً من عوامل التطوير والتقدم في العصور القديمة ، ولم يتنازل الدين بعض الشيء عن هذه الناحية إلا بانتشار العلوم ، ووجود العوامل التي تنافسه في القيام بهذا الدور في العصر الحديث " (30 ) .
المهم ؛ انه عندما وصل الحنفاء إلى النتيجة المحتومة ، بدأت مباراة تتسم بسمو الروح الرياضية ورقيها ؛ فأخذوا يتنافسون في الترفع عن صغائر الأفعال ، وهذه الأفعال التي تعففوا عنها هي التي أصبحت فيما بعد أفعالاً شريرة ، ويجب تجنبها في نظر الناس ، أما عندما جاء الإسلام فقد أوجب تحريمها ، ومن هؤلاء الرواد الذين لا ينبغي أن يتخطاهم البحث المحايد ، من يصح الوقوف معهم رويداً .
الوقفة الأولى : مع ( زيد بن عمرو بن نفيل ) : الذي تعود أرومته إلى قصي بن كلاب وأمه هي أمية بنت عبد المطلب !! ويعد ثاني الحنفيين أثراً وأكثرهم خطراً بعد عبد المطلب بن هاشم ، وعنه يقول ابن كثير : " إنه اعتزل الأوثان ، وفارق الأديان ؛ من اليهود والنصاري والملل كلها ، إلا دين الحنيفية ، دين إبراهيم ، يوحد الله ويخلع من دونه .. وذكر شأنه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : هو أمة وحده يوم القيامة .. يبعث يوم القيامة أمة وحده .. وكان يحيي الموءودة ؛ يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : لا تقتلها ، أنا أكفيك مئونتها فيأخذها .. وكان يقول : يا معشر قريش إياكم والزنا ، فإنه يورث الفقر .. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحشر ذاك أمة وحده ، بيني وبين عيس ابن مريم – إسناده جيد – وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل : فقال غفر الله له ورحمه ، فإنه مات على دين إبراهيم .. مات زيد بمكة ، ودفن بأصل حراء .. قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين " (31 ) .
ويقول البيهقي في دلائل النبوة : إنه التقى برجل من أهل الكتاب فقال له عليك بالدين الحنيف ؛ " قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، ولكن كان حنيفاً مسلماً ، ومن ثم عاد مؤمناً بدين إبراهيم وحنيفيته الإسلامية (32) . ولكلام البيهقي هنا مصداقية خاصة يدلل عليها شعر زيد ذاته الذي أفصح فيه عن " إعلان حنيفيته تحت اسم الإسلام ، وعندما تنبأ المصطفى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، كان يترحم على زيد ويقول : " قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا " (33) . وعرف عنه الجاهليون دأبه الذي لا يكل ولا يمل ؛ متنقلاً دوماً ، يدعو لنبذ الأسلاف المتفرقة في أرباب شفيعة ، والعودة إلى أب واحد يجمع العرب هو إسماعيل بن إبراهيم ، وإلى رب واحد هو رب إبراهيم ؛ مباشرة ومن دون وسيط ، نبذاً للفرقة القبلية ، وتهيئة للوحدة . ثم لا يأتي شهر رمضان إلا ويصعد إلى غار حراء متحنفاً متحنثاً معتكفاً يتأمل ويتعبد (34) .
وفي ( البداية والنهاية ) ، يطالعنا زيد بشعره قائلا : أسلمت ؟! أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما رأها استوت على الماء ، أرسي عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالا (35)
( وليلحظ قارئنا أننا نستند هنا في أمر هذا الشعر إلى مصادره الأصلية ، إضافة إلى العودة إلى حل مسألة الانتحال فيه ، والأخذ بما انتهى الباحثون لتأكيده غير منحول ، فهي مهمة رجالها المتخصصون ، وإليهم مرجعنا في الأمر ، وينسحب ذلك على كل ما أوردناه من أشعار الحنفاء ) (36) .
( وفي السيرة النبوية ) لابن هشام ؛ نجد زيداً دخل الكعبة قال : " اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به ، ولكنني لا أعلمه ، ثم يسجد على الأرض " (37) . ويؤكد ( ابن هشام ) أنه حرم على نفسه أموراً – نقلها الناس عنه من بعد كتشريعات ؛ لانبهارهم بشدة ورعه وعلمه وتقواه – مثل تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير الله من ذبائح تذبح على النصب (38) . نعم ؛ لقد أصبحت هذه التشريعات لمجرد امتناع زيد عنها ، وربما كان امتناعه عن بعضها لا لعيب فيها ، وإنما لأنه كان لا يسيغها ، ومع ذلك كان لإعجاب الناس به دور كبير في تحولها إلى قوانين متعالية .
وتروي لنا الأخبار أن زيدا قد عاصر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه إلتقاه ؛ عن عبد الله بن عمر : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقي زيدا بأسفل بلدح ، فدعاه إلى تناول طعام مما يذبح للأرباب ، فقال زيد للنبي : " إني لست أكل ما تذبحون على أنصابكم " ؟! ويعلل ابن هشام أكل النبي قبل بعثه نبياً ، لأضحيات أو قرابين الأصنام بقوله : " إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأكل مما ذبح على النصب ، فإنما فعل أمراً مباحاً ، وإن كان لا يأكل فلا إشكال " !! (39) ويورد لزيد شهره القائل في فراق الوثنية : أربا واحدا أم ألف رب دين إذا تقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزي أدين ولا ابنتيها ولاصنمي بن عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الرب الغفور فتقوي الله ربكم احفظوها متى تحفظوها لا تبوروا تري الأبرار دارهم جنان وللكفار حامية السعير وخزي في الحياة وإن يموتوا يلاقوا ما تضيق به الصدور
وقال حجير بن أبي إهاب : رأيت زيد بن عمرو بن نفيل ، وأنا عند صنم بوانة – بعدما رجع من الشام – وهو يراقب الشمس ، فإذا استقبل الكعبة ، فصلى ركعة وسجدتين ثم يقول : هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل ، لا أعبد حجراً ولا أصلي إلا إلى هذا البيت حتى أموت ، وكان يحج فيقف بعرفة ، وكان يلبي فيقول : لبيك لا شريك لك ، ولا ند لك ، ثم يدفع من عرفة ماشياً وهو يقول : لبيك متعبداً لك مرقوقاً " (41) . وقالت أسماء بنت أبي بكر : " رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً ؛ مسنداً ظهره إلى الكعبة ، يقول : يا معشر قريش ، ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، وكان إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال : لبيك حقاً حقاً ، تعبدا ورقاً ، البر أرجو لا الخال ، وهل مهجر كمن قال ، ثم قال : عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل الكعبة وهو قائم يقول أنفي لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم (42 ) ويقول أيضاً : إلى الله أهدي مدحي وثنائيا وقولا رصينا لا يني الدهر باقيا إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه إله ولا رب يكون مدانيا رضيت بك اللهم ربا فلن أرى أدين إلهاً غير الله ثانياً (43)
الوقفة الثانية : مع ( أمية بن عبد الله بن أبي الصلت ) : الذي تصله أمه رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف ببيت عبد مناف بن قصي (44) وهو صاحب القول المأثور : كل دين القيامة – إلا دين الحنيفية - زور !! وكان يحاور أبا سفيان ويقول له : " .. والله يا أبا سفيان ، لنبعثن ثم لنحاسبن ، وليدخل فريق الجنة ، وفريق النار " (45) ، وحول عقيدته في البعث والحساب يقول شعرا : باتت همومي تسري طوارقها أكف عيني و الدمع سابقها مما أتاني من اليقين ولم أوت برأة يقصي ناطقها أم من تلظي عليه واقدة النار محيط بهم سرادقها أم أسكن الجنة التي وعد الأبرار مصفوفة نمارقها لا يستوي المنزلان ولا الأعمال لا تستوي طرائقها هما فريقان : فرقة تدخل الجنة حفت بهم حدائقها وفرقة منهم أدخلت النار فساءتهم مرافقها (46)
ويقول جواد علي : إن أمية حرم على نفسه الخمر ، وتجنب الأصنام ، وصام والتمس الدين ، وذكر إبراهيم وإسماعيل ، وكان أول من أشاع بين القرشيين افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بعبارة : باسمك اللهم ( استعملها النبي محمد " صلى الله عليه وسلم " ثم تركها واستعمل بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وقد روي الإخباريون قصصا عن التقاء أمية بالرهبان ، وتوسمهم فيه أمارات النبوة ، وعن هبوط كائنات مجنحة شقت قلبه ثم نظفته وطهرته لمنحه النبوة (47) . وأمية هو القائل في رب الحنيفية الخلاق : إله العالمين وكل أرض ورب الراسيات من الجبال بناها وابتني سبعا شدادا بلا عمد يرين ولا حبال وســـــواها وزينهـا بنور من الشمس المضيئة الهلال ومن شهب تلألأت في دجاها مـــــراميها أشـد من النصال وشـق الأرض فأنجبت عيونا وأنهارا من العذب الزلال وبارك في نواحيها وزكي بها ما كان من حرث ومال
يعتبر أمية أحسن الحنفاء حظاً في بقاء الذكر ، فقد بقي كثير من شعره وحفظ قسط لا بأس به من أخباره ، وسبب ذلك عند ( جواد علي ) بقاؤه إلى ما بعد البعثة ، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالاً مباشراً ، وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام ، برغم أنه حضر البعثة ولم يسلم ، ولم يرض بالدخول في الإسلام ، لأنه كان يأمل أن تكون له النبوة ، ويكون مختار الأمة وموحدها ، ولذلك ، برز كنموذج للاستقامة والإيمان والتطهر والزهد والتعبد ، وقد مات سنة تسع للهجرة بالطائف كافرا بالأوثان وبالإسلام (48) !!
ويذكر الإخباريون المسلمون أنه لما سمع بخبر البعثة ذهب ليسلم ، لكن بعض أهل مكة علموا بمسيرة ، فأرادوا رده عن غايته ، فالتقوه عند القليب حيث قبر المسلمون سادات قريش في بدر الكبرى ، ولعلم القرشيين بحكمة أمية – التي دعته من قبل إلى تقدير السادات ؛ من حكماء مكة وأشرافها – فقد قالوا له : هل تدري ما في هذا القليب . قال : لا ؛ فقالوا له : فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان ، فجدع أنف ناقته ، وشق ثوبه وبكى قائلاً : لو كان نبياً ما قتل ذوي قرابته ، وعاد يرسل نواحه شعراً يرثي قتلى بدر من أهل مكة ، في قصيدته الحائية التي يقول في بعضها : ألا بكيت على الكرام بني الكرام أولي الممادح كبكا الحمام على فروع الأيك في الغصن الصوداح من كل بطريق لبطريق نقي اللون واضح ومن السراطمة الجلاجمة الملاوثة المتجح القائلين الفاعلين الآمرين بكل صالح المطعمين الشحم فوق الخبز شحما كالأنافح خذلتهم فئة وهم يحمون عورات الفضائح ولقد عناني صوتهم من بين مستشق وصابح (49)
وقال الإمام أحمد : " حدثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول قال الشريد : كنت ردفاً لرسول الله ( أي راكباً معه على بعير واحدة ) فقال لي : أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ ؟ قلت : نعم ؛ قال : فأنشدني بيتاً ، فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتاً : إيه حتى أنشدته مئة بيت " (50) ومن هذا الشعر ما يصح الوقوف معه كنموذج – لا شك رائع – لمعتقدات واحد من رجالات الحنيفية ( مع ملاحظة أن هذا الشعر قد يختلف الأمر في نسبته إليه أو إلى زميله في الحنيفية زيد ابن عمرو بن نفيل ، وما عدا ذلك فمتفق عليه ) : فهو يقول في إيمانه : الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صبحنا ربي ومسانا رب الحنيفية لم تنفذ خزائنها مملوءة طبق الآفاق سلطاناً وفي إيمانه – مثل عبد المطلب وزيد – بيوم بعث ونشور ؛ يقول : ويوم موعدهم يحشرون زمرا يوم التغابن إذا لاينفع الحذر وأبرزوا بصعيد مستو حرز وانزل العرش والميزان والزير ويستطرد شارحاً مفصلاً عن هذا اليوم : عند ذي العرش يعرضون عليه يعلم الجهر والكلام الخفيا يوم نأتيه وهو رب رحيم إنه كان وعده مأتيا رب كلا حتمته النار كتابا حتمته مقضيا ويحذر من عذاب الدار الآخرة فيقول : وسيق المجرمون وهم عراة لي ذات المقامع والنكال فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً وعجوا في سلاسلها الطوال فليسوا ميتين فيستريحوا وكلهم بحر النار صالي وحل المتقون بدار صدق وعيش ناعم تحت الظلال لهم ما يشتهون فيها وما تمنوا من الأفراح فيها و الكمال
وعن إبراهيم ( عليه السلام ) وابنه إسماعيل ( عليه السلام ) اللذين يرجع إليهما الحنفاء عقيدتهم ؛ يحكي قصة الذبح والفداء ؛ في حوار طويل ممتع نجتزئ منه : ابني إني نذرتك لله شحيصا فاصبر فدا لك خالي فأجاب الغلام أن قال فيه كل شئ لله غير انتحال فاقض ما قد نذرته لله واكفف عن دمي أن يمسسه سربالي وبينما يخلع السراويل عنه فكه ربه بكبش حلال وعن يونس يقول : وأنت بفضل منك أنجبت يونسا وقد بات في أضعاف حوت لياليا وعن موسى وهارون ولقائهما بفرعون مصر يقول : وأنت الذي من فضا ورحمة بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقلت له أذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان طاغيا وقولا له : أأنت سويت هذه بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا وقولا له : أأنت رفعت هذه بلا عمد ، أرفق ، إذا بك بانيا وعن عيسي وأمه يقول : وفي دينكم من رب مريم أية منبئة بالعبد عيسي بأن مريم تدلي عليها بعدما نام أهلها رسولا فلم يحصر ولم يترمرم فقال : ألا تجزعي وتكذبي ملائكة من رب عاد وجرهم أنيبي وأعطي ما سئلت فإنني رسول من الرحمن يأتيك بانبم فقالت : أني يكون ولم أكن بغيا ولا حبلى ولا ذات قيم فسبح ثم اغترها فالتقت به غلاما سوى الخلقة ليس بتوأم فقال لها : إني من الله أية وعلمني ، والله خير معلم وأرسلك ولم أرسل غويا ولم أكن شقيا ، ولم أبعث بفحش ومأثم
ويقول جواد علي ما نصه : " وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من أراء ومعتقدات ووصف ليوم القيامة والجنة والنار ؛ تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً ، لما ورد عنها في القرآن الكريم ، بل نجد في شعر أمية استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث ، فلا يمكن – بالطبع – أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن ؛ لم يكن منزلاً يومئذ ، وأما بعد السنة التاسعة الهجرية ؛ فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضاً ؛ لأنه لم يكن حياً ؛ فلم يشهد بقية الوحي ، ولن يكون هذا الفرض مقبولاً في هذه الحال .. ثم إن أحداً من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه ، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك ، ولكان الرسول أول الفاضحين له " (51) .
وهذا – بالطبع – مع رفض فكرة أن يكون شعره منحولاً أو موضوعاً من قبل المسلمين المتأخرين ؛ لأن في ذلك تكريماً لأمية وارتفاعاً بشأنه ، وهو ما لا يقبل مع رجل كان يهجو نبي الإسلام ( صلى الله عليه وسلم ) بشعره ، ولا يبقى سوى أنه كان حنيفياً مجتهداً استطاع أن يجمع من قصص عصره ، وما كان عليه الحنفاء من رأي في شعره ؛ خاصة مع ما قاله بشأنه ابن كثير : " وقيل إن كان مستقيماً ، وإنه كان أول أمره على الإيمان ، ثم زاف عنه " (52) . ولا ريب أن الاستقامة تفرز الاستقامة وتلقيها ، وربما كتب ما كتب إبان هذه الفترة التي يحددها لنا ابن كثير ، ولا ريب أنها كانت قبل البعثة النبوية : لأنه بعده – ولاشك – زاغ عن إيمانه واستقامته ؛ إذ رأي الملك والنبوة تخرجان من بين يديه بعد أن أعد نفسه لهما طويلاً .
هوامش
|