الحزب الهاشمي |
|
ظهورالنبي المنتظر
يتأكد مما سبق أن قدسية الكعبة ، وتحريمها ، ثم تحريم شهور محددة لانطلاق قوافل التجارة ، وحج العرب إليها ، قد جسد – رمزياً – مكانة مكة القيادية بالنسبة إلى القبائل العربية على الجانب السياسي ، وكان تحريمها ضماناً آخر لتقديسها ، وأماناً من مطامع من يريد السيطرة عليها من القبائل الأخرى ، مع ما أضافته بئر زمزم وقصتها مع عبد المطلب من قدسية أخرى ، تضاف إلى لبنات الأيديولوجيا الدينية المتنامية التي بلغت أوجها في توحيد القبائل على شعائر محددة تقام في مكة ، حددت نوع الولاء ، ونوع العبادة ؛ مما حمل في رحمه بذور الوحدة السياسية المقبلة التي ارتهنت بولاء القبائل لسلطان مكة ، وعندما جاء دين الإسلام العظيم ، لم يلغ شعائر الحج القديمة ولا حرمة مكة ، وإنما أخذ على عاتقه محاربة العصبية القبلية وتعدد الآلهة ، ثم اعتبر ذاته من جهة أخرى استمراراً لدعوة إبراهيم ( عليه السلام ) ، كما كان واضحا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اتخذ خطوات متسارعة لتكوين قوة عسكرية ؛ قامت بدورها في توحيد جزيرة العرب جميعاً . ومعلوم أن المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) – بعد أن طوت راحة الزمن جده عبد المطلب – شب في كنف عمه أبو طالب ، وببلوغه ( صلى الله عليه وسلم ) مرحلة الشباب ؛ تزوج السيدة خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) التي وصفها ابن إسحق بأنها " كانت امرأة تاجرة ؛ ذات شرف ومال " (1) ، ووصفها ابن سيد الناس بأنها كانت أكثر نساء العرب مالاً (2) ، وكانت تكبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنحو خمس عشرة سنة ؛ مما وفر له ( صلى الله عليه وسلم ) الوقت الكافي ، والاطمئنان النفسي للانصراف من السعي وراء الرزق ، إلى التفكير في شؤون قومه السياسية والدينية ، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد الشريف : " ثم أن النبي وجد بعد زواجه من خديجة بنت خويلد – وهي إحدى النساء الغنيات الشريفات في مكة – نوعاً من الراحة النفسية .. وقد كان في هذا الزواج من العوامل التي جعلته يتخفف من بعض أعباء الحياة ، ومن بعض عناء السعي ؛ فخديجة الغنية بمالها التي كانت امرأة نـَصـَف ؛ قد فارقت عهد الشباب الأول ، وكانت لها تجربة في إدارة أموالها ، كانت أقدر على حياة زوجية هادئة رصينة ، هيأت لمحمد أن يتخفف من أعباء الحياة لأفكاره الذاتية (3) .
ومعلوم أيضاً أن النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان الزوج الثالث للسيدة خديجة ، بعد عتيق بن عابد الذي أنجبت منه هندا ، وأبي هالة الذي أنجبت منه هالة وهندا أيضاً (4) ، وقد أوضح القرآن الكريم فضل هذه السيدة على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى المسلمين ؛ في قوله تعالى : ( ووجدك عائلاً فأغني ) ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول " .. أمنت بي حين كذبني الناس ، وواستني بمالها حين حرمني الناس " .
وعندما تزوج المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) من السيدة خديجة ( رضي الله عنها ) ؛ أكثر الناس من الكلام في هذه الزيجة ، وهنا يروي لنا ابن كثير " .. أن عمار بن ياسر كان إذا أسمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله ( صلى الله عيه وسلم ) خديجة ، وما يكثرون فيه ؛ يقول : أنا أعلم الناس بتزويجه إياها ، إني كنت له ترباً ، وكنت له إلفاً وخدناً ، وإني خرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم ؛ حتى إذا كنا بالحزورة ؛ أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها ، فنادتني ؛ فانصرفت إليها ، ووقف لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة ؟ قال عمار : فرجعت إليه فأخبرته ، فقال : بلى لعمري ؛ فذكرت لها قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فقالت : اغدوا علينا إذا أصبحنا ؛ فغدونا عليهم ، فوجدناهم قد ذبحوا بقرة ، وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته ( أي صبغت بالحناء ) ، وكلمت أخاها ؛ فكلم أباه وقد سقي خمراً ، فذكر له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومكانه ، وسأله أن يزوجه ؛ فزوجه خديجة ، وصنعوا من البقرة طعاماً فأكلنا منه ، ونام أبوها ، ثم استيقظ صاحياً فقال ما هذه الحلة ؟ وما هذه الصفرة ؟ وهذا الطعام ؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمار بن ياسر : هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك ، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة ؛ فأنكر أن يكون زوجه ، وخرج يصبح حتى جاء الحجر ، وخرج بنو هاشم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكلموه ؛ فقال : أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة ؟ فبرز له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما نظر إليه قال : إن كنت زوجته فسبيل ذاك ، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته (5) !!
أما عمه أبو طالب ، فألقى في العرس خطبة ؛ منها قوله " .. فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله ، لا ينكر العرب فضلكم .. ورغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم .. وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف ، وفرح أبو طالب فرحاً شديداً (6) . وبعدها أخذ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يتابع خطوات جده عبد المطلب إلى غار حراء ؛ مما حول هذا الكهف إلى مكان مقدس ودخل التاريخ دون ملايين مثله ، وبالحنيفية أمن ، ولم يبلغ الأربعين من عمره حتى حسم الأمر بإعلانه أنه نبي الأمة ، بعد أن أوحى إليه إله إبراهيم ( .. أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ) – 123 النحل .
و كما حدث مع أمية بن عبد الله حدث مع محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فتحدثنا الأخبار أن راهباً مسيحياً يدعى ( بحيرا ) قد توسم فيه أمارات النبوة ، واكتشف خاتمها في كتفه . ويحدثنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن نفسه فيقول : " أنا دعوة إبراهيم ، وبشري عيسى ، رأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ، فبينا أما مع أخ لنا خلف بيوتنا نرعي بهما ، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض ؛ بطست من ذهب مملوء ثلجا ، فشقا بطني واستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه " (7) !!
وتقول سيرة ابن هشام : إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما بادأ قومه بالإسلام : لم يجدوا في دعوته غضاضة ، ولربما لم يكترثوا لها ، ولعل مرجع ذلك إلى حرية الاعتقاد التي كانت عرفاً مسنوناً ، عرفاً حتمته المصالح التجارية في مكة ؛ فكان المسيحي فيها يعيش إلى جوار الحنفي إلى جانب اليهودي مع الصابئ والزرادشتي ، وعبدة النجوم ، وعبدة الجن ، وعبدة الملائكة ، وعبدة الأسلاف وتماثيل الشفعاء ، دونما قهر أو فرض أو إجبار ؛ حتى أن العبد كان يظل على دين يخالف دين سيده ؛ دون أن يخشى في ذلك مساءلة أو ملامة ، وبرغم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من الفرع الهاشمي ؛ فإن حزب ( عبد الدار – عبد شمس – نوفل ) لم يهتم كثيراً في البداية للدعوة الجديدة ؛ خاصة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يخرج آنذاك عن أطر عرفهم المسنون في حرية الاعتقاد ؛ فلم يجبر أحدا لاعتناق دعوته ، كما لم يحاول فرضها أو اعتبارها الديانة الوحيدة الواجب اعتناقها ، وتشهد بذلك الآيات الكريمة : ( لكم دينكم ولي دين ) –6 الكافرون . ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) –99 يونس . ( أن أنت إلا نذير ) – 23 فاطر . ( وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ) – 107 الأنعام . ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) – 10 المزمل ومع أن المناوشات الكلامية التي دارت بين المكيين ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم تصل بالقوم إلى حافة شفير الحرب مرة أخرى ، فإنها نبشت الجمر الثاوي في القلوب ؛ بعدما أعلن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) دعوته ؛ مطالبا أهل مكة باتباعه ؛ فكان حتماً أن يتساءل الناس . لكن تساؤل الوليد بن المغيرة ( المقلب بالوحيد لمكانته بين سادات مكة ) ، والأخنس بن شريق ( كبير من رؤوس ثقيف ) – كان تساؤلاً مهيناً لشخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فقد قالا : أمفتون محمد أم مجنون ؟ (8) . فكان أن ردت لهما الآيات الكريمة الصاع صاعين ( بأيكم المفتون . . . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم ) – 6 : 13 القلم ، والزنيم هو ابن الزانية – ثم يخاطب الله نبيه في شأن الوحيد قائلاً له : ( ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً . وبنين شهوداً . ومهدت له تمهيداً . ثم يطمع أن أزيد . كلا إنه كان لآياتنا عنيداً . سأرهقه صعوداً . إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر ) – 11 : 20 المدثر ، وفعلاً مات الوليد قتيلاً بسهم مسموم ، قتله الله ، ثم قامت الآيات تشبه رؤوس القوم الذين لم يدركوا أبعاد الدعوة العظمى ومراميها الكبرى ؛ بالحمير ؛ فتقول : ( فمالهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة ) – 49 : 51 – المدثر .
حتى ذلك الحين : كانت قريش لا تزال في هدوء وترقب ، لكن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الذي صمم على إتمام الأمر مهما تكلف من مشقة ، قام يؤلب العبيد على أسيادهم يناديهم : " اتبعوني أجعلكم أنساباً ، والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسري وقيصر " ، وهنا بدأ القوم يشعرون بحجم الخطر الآتي ؛ فالأرستقراطية القرشية حتمت مصالحها وجود العبيد ، بل أن يتكون جيشهم الذي يحمي التجارة من هؤلاء العبيد في أغلبه ، وبات الأمر أمر حياتهم ومعاشهم ، ثم إن دعوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جعلهم أنساباً التي تمثلت في عتقه لعبده زيد بن حارثة ثم إعطائه أفضل النسب وأشرفه بتبنيه إياه ؛ كان يعني لبقية الدهماء من الأعراب أملاً عظيماً ؛ لما كان للنسب من خطورة وأهمية ؛ تعطي صاحبها حماية عشائرية وقبلية ، ثم إنه يعدهم بأموال أعظم ؛ بأموال كسري وقيصر ؛ إن هم تبعوه ، وعندما وصلت قريش إلى ذلك الفهم : أصبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نظرهم ، وحسب منطقهم المصلحي ؛ مجرد مغامر طموح يهدف لفرض سياسي يبدأ بضرب قريش في مقتل ؛ في مصالحها ، حتى إذا تهيأ له الأمر امتلك أمر الحجاز ، وزحف على ممالك الروم والعجم . وما يتبع ذلك بالضرورة في منطق العشائر من رفع شأن بيت هاشم ، وخفض شأن بيت عبد الدار وعبد شمس ونوفل ؛ هكذا تصوروا الأمر العظيم !
ثم ها هو ينزع عنهم صفة أخرى ترتبط تماماً بمصالحهم التجارية ؛ تلك الصفة التي أكسبها لهم انكسار حملة الفيل على حدود مكة ؛ صفة أنهم ( أهل الله ) . وينادي أهل مكة : ( قل يا أيها الكافرون . . . . لكم دينكم ولي ديني ) – سورة الكافرون ، نعم : ما زالت الآيات تبرز التسامح الديني ( لكم دينكم ولي ديني ) ، لكنها نعتت أهل مكة بأنهم الكافرون ؛ برغم تأكيدها من قبل أنهم قوم يؤمنون بالله رب العرش خالق السماوات والأرض : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأني يؤفكون ) – 61 العنكبوت . ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم . سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجبر ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون . سيقولون لله . قل فأني تسخرون ) – 86 : 89 المؤمنون . ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) - 9 الزخرف .
وسعياً وراء تعليل ؛ اكتشفت قريش أن إيمانها بالشفعاء هو الكفر ؛ خاصة عندما بدأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعيب أربابهم ؛ فاستنتجوا أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) قد جعل شرط الإيمان به كرسول لإله واحد ؛ انطلاقاً من قرن الشهادة له مع الشهادة لله ؛ في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ، فهو في فهمهم العنيد ، إنما يطلب منهم الاعتراف بسيادته عليهم بهذه الشهادة ، ويطلب توحدهم جميعا تحت راية قيادته وحده ، بسلخ كل الشفاعات إلا شفاعته ، ويذكر لنا الطبري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حينما دعا قومه لما بعثه الله . لم يبعدوا منه أول ما دعاهم ، وكادوا يسمعون له حتى ذكر طواغيتهم (9) وهو ذات ما أوضحته رواية عن لقاء وفد قريش وفيه أو الحكم ، بأبي طالب وابن أخيه ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ ليطلب من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم : " أي عم ، أو أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها ؟ قال : وإلام تدعوهم ؟ قال : أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين بها لم العرب ، ويملكون بها العجم !! فقال أبو جهل ( التسمية الإسلامية لأبي الحكم ) من بين القوم : ما هي ؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها " ، وكانت الكلمة هي الشهادة الإسلامية ؛ فنفروا منه وتفرقوا (10) .
وهنا تحول أرق الحزب المناوئ ، وترقبه ، إلى تحفز واستنفار خاصة عندما أخذت الآيات الكريمة في فواصل قصيرة مؤثرة ، تؤجج الحمية القتالية ، وما يحمله ذلك من احتمال وقوع المجابهة العسكرية ، وتقول : ( هذا مع التحول الذي بدأ يطرأ في سلوك النبي تجاههم ، وتحوله عن الصبر الجميل إلى الهجوم ، وما جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص ، عندما غمز أشراف قريش من قناة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يطوف بالكعبة ، فكان أن التفت إليهم هاتفا : " أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده ، لقد جئتكم بالذبح " (11) ، وبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقسمه في بدر الكبرى !
هوامش
|