يوم قبل وفاة محمد

مدخــــل



إنها مأساة فعلا أن ينهض واحد مثلي اليوم ليقول لنحو مليار من المسلمين إنهم خدعوا ، وتوارثوا الخديعة، أبا عن جد ، على مدار أربعة عشر قرنا!
أعترف أن في الأمر قسوة لا يمكن وصفها ، لأن ذلك يمسّ الجذور في الأعماق ، والتاريخ الموغل في القدم ، والعادة المتأصلة في النفوس. وأنا نفسي عانيت الكثير الكثير ، فهل أصمت كما صمت غيري حتى لا أتهم بالزندقة ؟! وإذا سكتّ كما فعل غيري على مدار ألف وأربعمائة عام أو نحوها ، فأين الخلاص ومتى يكون ؟!
قرب ظهيرة يوم الإثنين ، أول الربيعين ، في السنه الحادية عشر للهجرة أي في السابع من حزيران / يونيو عام 632 ميلادية ، توفي نبي الإسلام عليه السلام دون أن يتمكن من كتابة ما طلب أن يكتب . وبدأ اللغط حول الكتاب الذي منعه بعض صحابته من تدوينه ، والذي تناولته تخمينات شتى ، معظمها يتعلق بالخلافة وشؤونها ، فقد قال "البكريون" أن الكتاب الذي لم يتمكن محمد عليه السلام من وضعه ليس أكثر من وصية لإثبات الخلافة لأبي بكر الصديق ، وقال العلويون أنها كانت لإثبات الخلافة لعلي بن أبي طالب. وتعددت الظنون مع أن الكتاب لم يكتب ، وهو في الأصل لم يدون لأن أحدا من صحابته لم يشأ المغامرة بقبول كتاب جديد قد ينسف جزءا من البناء العقائدي الإسلامي ، وربما كله ، إذ لا أحد يدري ماذا يمكن لنبي الإسلام محمد عليه السلام أن يكتب قبل ساعات من وفاته. ولهذا لابدّ من وقفة قصيرة عند مقولة ابنته فاطمة ، إذ خاطبت بعض صحابته في أثر الدفن قائلة: "فلتفرح قلوبكم فقد واريتموه التراب". ومثل هذه الكلمات تعكس مناخا نفسيا عاشه بعض صحابة أبيها، فكأنما موته قد خلصهم من همّ أن يطلع عليهم بمفاجأة يكون وقعها أكبر من وقع وفاته. ومن المؤكد أنهم توقعوا أن يتناول في كتابه جوهر الدين ، ولو فعل ما جرؤ أحد منهم أن يقاوم عملية الردة ، أما وأنه لم يتمكن من ذلك فانه أتاح لهم ، وللفقهاء وكتّاب السيرة والمفسرين من بعدهم ، أن يستبعدوا المساس بجوهر الدين. وبمعنى آخر فإنهم آثروا الاختلاف في مسألة الخلافة على الإختلاف في العقيدة بجوهرها وبنائها.
في أمس ذلك اليوم الذي انقضى عليه نحو أربعة عشر قرنا ، كان محمد عليه السلام يغالب سكرات الموت في بيت أصغر زوجاته ، عائشة ، وفي رعايتها. وقد طلب ممن كانوا في حضرته من الصحابة قرطاسا وقلما قائلا: أعطوني قرطاسا وقلما أكتب لكم كتابا لا تضل بعده أمتي"(1). فقال ابن العباس:"الرزية ما فصل الرسول عن كتابه"(2 .(وقال عمر بن الخطاب: "دعوه إنه يهجر فقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله" (3) .وإذا لم يجبه أحد إلى طلبه وكثر اللغط بين أقربائه وأصحابه أمرهم محمد عليه السلام بالإنصراف ، وأسند رأسه على راحتي زوجته السيدة عائشة ، ومات دون أن يكتب تلك الورقة أو الوريقات.
لقد اتجه معظم الدارسين والفقهاء من المسلمين إلى الإفادة من كلام نبي الإسلام محمد عليه السلام قبيل ساعات من وفاته في مناقشة الأساس الفقهي لنظرية الخلافة في الإسلام وحسب ؛ وهذا يعني سلخ حديث محمد عليه السلام عما تبعه من رد عمر بن الخطاب وجواب ابن العباس. ولو كان الأمر الذي عناه قبل وفاته يتعلق بمسألة الخلافة أو الولاية لما قال عمر بن الخطاب: "إن رسول الله يهجر أي يهذي. ولما قال ابن العباس: "الرزية ما فصل الرسول عن كتابه". لقد اتهم ابن الخطاب رسول الإسلام بأنه "يهجر"، وذلك في العربية يعني أنه يهذي. فيما ينزهه الخطاب القرآني عن الهذيان بقوله: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"(4 .(ولكن لنعد إلى أيام قليلة سبقت ذلك. فثمة حدث يشير إلى تمرد خطير مارسه كبار صحابته عليه.
فقد جهّز رسول الإسلام جيشا لغزو الروم قبل وفاته بيومين، وجعل على السرية المقاتلة أسامة بن زيد بن حارثة أميرا ، وعمره آنذاك لم يتجاوز السابعة عشر عاما ، وقد عبأ في هذه السرية كبار صحابته من المهاجرين والأنصار ، ومنهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب ، وعبيدةبن الجراح ، وطلحة بن الزبير ، وغيرهم ، فطعن هؤلاء في تأمير أسامة ، وقالوا: كيف يؤمّر علينا شاب لانبات بعارضيه ؟ …. وكانوا قد طعنوا قبل ذلك في تأمير أبيه حتى غضب محمد أشد الغضب مما سمع من طعنهم ، وكان بعد ذلك أن اتهمه إبن الخطاب بالهذيان ، فخرج معصب الرأس. محموما ، يتهادى بين رجلين يحملانه ، وقدماه تخطان في الأرض من شدة ما به من لغوب. فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال: "أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله ، وأيم الله إنه كان خليقا ، وإن ابنه من بعده لخليق بها"(5).
ثم جعل رسول الإسلام يحضهم على التعجيل وجعل يقول: جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة ، أرسلوا بعث أسامة"(6 (وجعل يكرّر ذلك على مسامعهم وهم لا يفعلون.
وكالعادة عند قراءة مثل هذه الأحداث التي تمس كرامة كبار الصحابة يحاول المسلم تكذيب مثل هذه القضايا وتجاهلها ، ولكن لا يمكن تكذيب ما أجمع عليه المؤرخون والمحدثون من علماء السنة والشيعة معا.
ونقرأ اعتذار أهل السنه على هؤلاء بأنهم كانوا مشايخ قريش وكبراءها ولهم الأسبقية في الإسلام ، بينما أسامة كان حدثا ولم يشارك في المعارك المصيرية مثل بدر وأحد وحنين ، ولم تكن له سابقة ، بل كان صغير السن عندما ولاّه رسول الإسلام إمارة السرية ، ولذلك طعنوا في تأميره وأرادوا من رسولهم أن يستبدله بأحد من وجوه الصحابة.
ولكنه اعتذار لا يستند إلى دليل شرعي في الإسلام ، ولا يمكن لأي مسلم قرأ القرآن وعرف أحكامه إلا أن يرفض مثل هذا الإعتذار لأن الخطاب القرآني كان صريحا في ذلك لقوله: "وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"(7).
ومع ذلك تثاقلوا وتباطأوا ولم يذهبوا حتى توفي وفي قلبه حسرة منهم. لقد أغضبوه وتمردوا عليه يوم الخميس ، ثم اتهموه بالهجر والهذيان بعد يومين ، أي يوم السبت ، وقالوا: "حسبنا كتاب الله" ..... أما: "كتاب الله" فقد وصل إلى المسلمين عن طريقهم. وإذاً فالصحابة ليسوا كلهم ثقاة وهذا ينسف الأساس في وصول القرآن إلينا.
إن تاريخ الإسلام يصور لنا صحابة رسول المسلمين وكأنهم ملائكة لا يخطئون ولا يذنبون لأن القرآن والحديث وصل عن طريقهم. ولقد سألت مرة أحد علماء المسلمين ، كيف يقتل خليفة المسلمين عثمان ذو النورين وهو صهر رسول الإسلام ، كذلك هو الذي أمر بجمع القرآن ، وصار القرآن الحالي يعرف باسم ه، وجاءني الجواب فورا ، فأنهى الموضوع كله بجملتين :" إن المصريين - وهم كفرة - جاءوا وقتلوه" .ولكني وجدت في تاريخ الإسلام شواهد أكيدة تدل على أن قتلة عثمان بالدرجة الأولى هم من الصحابة أنفسهم، وفي مقدمتهم أم المؤمنين عائشة، وهي التي يزكيها رسول الإسلام بقوله: " خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء"، فقد كانت تحرض على قتل عثمان بقولها: "اقتلوا نعثلا فقد كفر"(8(ولا يخفى على أحد أن نعثلا كان وراء القرآن المتداول حاليا.
كذلك وجدت طلحة والزبير ومحمدا بن أبي بكر، وغيرهم من مشاهير الصحابة هم الذين منعوا دفن جثته في مقابر المسلمين ، فدفن في " حش كوكب" وهي من مدافن اليهود ، دون غسل ولا كفن. ويقال لنا أنه قتل مظلوما ، وأن الذين قتلوه ليسوا مسلمين. وهذه القضية فيها أمران لا ثالث لهما. فإما أن يكون عثمان مظلوما وعند ذلك نحكم على الصحابة الذين قتلوه أو شاركوا في قتله بأنهم مجرمون لأنهم قتلوا خليفة المسلمين وتتبعوا جنازته يحصبونها بالحجارة ، وأهانوه حيا وميتا ، أو أن هؤلاء الصحابة استباحوا قتل عثمان لما اقترفه من أفعال تتنافى مع الإسلام كما جاء ذلك بالقول: "إن المصريين ، وهم كفرة ، هم الذين قتلوه" ! وفي كلا الحالتين نفي قاطع لعدالة الصحابة ، ونفي أكيد لكونهم ثقاة، فإما أن يكون عثمان غير عادل، وإما أن يكون قتلته غير عدول وغير ثقاة. ولكن أن يكون الضحية والجلاد عادلين في الآن ذاته ، وتحت سقف واحد ، فذلك جزء يسير من المأزق الفكري الذي لا يستطيع فقهاء المسلمين الإفلات منه، ولا سيما فقهاء السنة.
كذلك يتمثل المأزق الفكري عند فقهاء الشيعة في نظرتهم إلى "القرآن" ذاته، فهم يعتقدون بأن عليا بن أبي طالب ، وبتكليف من رسول المسلمين قبل وفاته ، جمع القرآن ونسخه خلال عزلة في بيته دامت نحو ستة أشهر ، فلما جاء به إلى أبي بكر قال له عمر بن الخطاب: "لا حاجة لنا بك وبقرآنك" فمنعه عنهم ، ولن يظهر بحسب معتقدهم إلا مع عودة الإمام الغائب.
وهنا يتعمق المأزق إلى أقصى الحدود. فالإسلام الذي ظهر وكأنه رسالة لتحرير الدين من هيمنة السحر والكهنوت تحول على أيدي الفقهاء إلى رسالة مسخّرة لخدمة مذهب صوفي يهودي قائم على الإيمان بالعلم السري ، وتعدد مراتب المعاني في الكتب المقدسة ، وهي كارثة افتتح مسيرتها أهل السنة ولا سيما في عصر الشيخ المتصوف محي الدين ابن عربي ثم ما لبث الشيعة أن أظهروا تفوقا ملحوظا في تطويرها إلى مذهب حلولي متطرف ، وقصة ذلك تبدأ مع قصة الحكمة الخفية التي تبناها القرآن.

حمل هذا الكتاب

الصفحة الرئيسية

 مقدمـــــة

مدخــــل

ما هي هذه الحكمة الخفية

صورة الفكر اليهودي والمسيحي إبان ظهور الاسلام

وضع اليهود عامة إبان ظهور الإسلام

الإسرائيليات في الإسلام

الأسفار الحكمية والحديث

صورة الفكر النصراني قبيل وإبان ظهور الإسلام

مأساة الكنيسة

هل كان محمد نصرانيا

متاعب الكنيسة في الغرب

الحنيفية والكسائية

موقف نبي الاسلام من المسيحية

والقرطاس عليه الصليب

الصليب ليس وثنا

الآثار النصرانية في العبادات الإسلامية

الانجيل في الحديث والأمثال والحكم

الوثنية قبيل وإبان ظهور الإسلام

مواطن تأثر الإسلام بالوثنية

المرأة وتعدد الزوجات

تمييز العربي عن غيره

خاتمة الجزء الأول

الصفحة الرئيسية