صورة الفكر
النصراني قبيل وإبان ظهور الإسلام
من العبث أن يقول المرء اليوم بأن "الإسلام" فكرة دينية محضة وإنها نبتت في
فراغ روحي. وثمة كثير من الباحثين كتبوا في نشأة الإسلام، والقرآن، بأن محمدا
(عليه السلام) دعا إلى إصلاح مجتمع فاسد متصدع، وذهب بعضهم إلى أنه دعم دعوته
بتعاليم إنجيلية في الفقر وعمل البر والإحسان. وما يبرر ضحالة مثل هذه
الأبحاث أن كتب السيرة والتاريخ الإسلامي، أغفلت ذكر الكثير من أخبار
النصرانية قبيل وإبان ظهور الإسلام "وكل علم ليس في القرطاس ضاع". وعلى سبيل
المثال فإن ما قيل في آثار الخطابة بين نصارى العرب في الجاهلية قليل جدا ،
وكذلك شأن شعر النصارى. وكأن مؤرخي العرب تعمدوا أن يصوروا العرب وكأنهم
عاشوا شبه عزلة عن المسيحية فلم يعرفوا منها شيئا.
وصحيح أن أهل الجاهلية لم يدونوا معارفهم في القراطيس وغيرها لقلة انتشار علم
الخط. إلا أنه صحيح أيضا أن الرواة المسلمين لم يكترثوا بتدوينها حين بدأوا
جمع آثار الجاهلية في القرن الثاني للهجرة ، وأهملوا بالتالي ما عرفه آباؤهم
من تاريخ النصرانية في الجزيرة العربية فلم يعيروه أهمية تذكر.
أما لماذا أخذت على نفسي مواصلة التنقيب في هذا الإتجاه (1(، فلأن أي لقاء
إسلامي - مسيحي جاد، لابدّ وأن يستند إلى تظهير صورة اللقاء الأول، لقاء
السنوات الأولى التي سبقت ومن ثم أعقبت إعلان رسالة الإسلام ، وذلك لتكون
الخلفية والأساس. وبدون ذلك ستبقى المجاملة هي الطابع لكل حوار، وستختفي
الجدية ويحل محلها النفاق والملق الظاهر ، هذا إذا استثنينا التسخير السياسي
ومتطلباته.
ثم انه لا بد من إعادة كتابة التراث الإسلامي. ومع أنني موقن تماما بأن عملية
التصحيح تتطلب عملا مؤسسيا ضخما ، فان الأمل يحدوني دوما أن يجد غيري الجرأة
والشجاعة لاقتحام هذا المجال ، وبعمق أكبر ، ولن يكون ثمة اقتراب من الحقيقة
بدون محاذرة التعصب ومجانبته تماما.
وخطتي في هذا المبحث أن أعرض للمآسي التي عاشتها الكنيسة المسيحية عامة
والنصرانية في بلاد العرب بصورة خاصة، قبل أن أعمد إلى تظهير صورة الفكر
النصراني ونشوء البدع النصرانية وخلافاتها ولا سيما في الجزيرة العربية ،
وسيكون ذلك ضروريا لازما قبل الخوض في ظروف الحنيفية التي تعاملت مع البدع
النصرانية ، سيما وأن الإسلام قام على القاعدة الحنيفية في التحكيم بين
البدع. وبعد ذلك سأستخدم أسلوب البحث المقارن لتبيان موطن التأثر والتأثير
بين الإسلام والنصرانية.
ولقد تبينت مبلغ حرج بعض الباحثين عند الخوض في شعر نصارى العرب في الجاهلية
، وذلك أن كثيرا من آيات القرآن الكريم جاءت في كثير منها مطابقة لبعض
أبياتهم ، ومشابهة لها في النص غالبا. والمرجح أن ابتعاد الباحثين عن ولوج
هذا المدخل سببه الخوف من أن المقابلات والمقارنات بين القرآن والمصادر
البشرية تقود إلى تقرير واقع ما. وهذا الواقع بنظر المتدينين قد يكون شتيمة
وكفرا. كما أن المتعصبين من المسلمين لا يقبلون أن يكون القرآن الكريم خاضعا
للبحث التاريخي. أو أن يكون له أي مصدر غير الله مباشرة. فالقرآن عندهم يعتمد
كليا على اللوح المحفوظ.
ومع ذلك فإن جميع الأنبياء والمرسلين ـ ومحمد عليه السلام يفخر بالإنتماء
إليهم ـ يدركون تماما أن الوحي في حقيقته يعتمد على ضعف الطبيعة البشرية
وتحولات التاريخ. ويوقنون تماما بأن محبة الله تحتم على الله ذاته أن يتدخل
مباشرة في تاريخ الإنسان وأن يشرك الإنسان في تدابيره.
وكلمة الله لا تكون فاعلة إلا إذا كانت مفهومة. وحتى تكون مفهومة يجب أن تكون
هي نفسها كلمة البشر. فلماذا الخوف إذا من مقابلة كلام الله مع كلام البشر.
ثم إن الحطاب القرآني نفسه يؤكد هذه الحقيقة: "إن الذين أوتوا العلم من قبله
إذا يتلى عليهم يخزون للأذقان سجدا (السراء ـ 107). وكذلك: "الراسخون في
العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك") النساء ـ 162). ولهذا يكتفي
محمد عليه السلام بشهادتهم: "قل كفى الله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم
الكتاب" (الرعد ـ 43).
ثم إن أعز الأشخاص على نبي الإسلام عليه السلام هم: إبراهيم وموسى ولم يظهر
الخطاب القرآني صورة لواحد منهما تداني الصورة التي يرسمها لعيسى بن مريم
(يسوع) كلمته وروحه. فهل يكون غريبا أن يأتي الخطاب القرآني موافقا لما نظمه
نصارى الجاهلية في المسيح شعرا ، أو ما قالوه في خطبهم نثرا ؟
حمل هذا الكتاب
الصفحة
الرئيسية |
|
مقدمـــــة
مدخــــل
ما هي هذه الحكمة الخفية
صورة الفكر اليهودي والمسيحي إبان ظهور الاسلام
وضع اليهود عامة إبان ظهور الإسلام
الإسرائيليات في الإسلام
الأسفار الحكمية والحديث
صورة الفكر النصراني قبيل وإبان ظهور الإسلام
مأساة الكنيسة
هل كان محمد نصرانيا
متاعب الكنيسة في الغرب
الحنيفية والكسائية
موقف نبي الاسلام من المسيحية
والقرطاس عليه الصليب
الصليب ليس وثنا
الآثار النصرانية في العبادات الإسلامية
الانجيل في الحديث والأمثال والحكم
الوثنية قبيل وإبان ظهور الإسلام
مواطن تأثر الإسلام بالوثنية
المرأة وتعدد الزوجات
تمييز العربي عن غيره
خاتمة الجزء الأول
حمل هذا الكتاب
الصفحة
الرئيسية |