يوم قبل وفاة محمد

صورة الفكر اليهودي والمسيحي إبان ظهور الاسلام



لم يظهر الاسلام في أرض فراغ روحي بالتأكيد؛ فالجزيرة العربية ، التي شهدت إعلان نبي العرب محمد عليه أفضل السلام ، كانت نهبا لتأثير اليهود الذين كانوا يحاولون أن يتنفسوا من جديد بعد شتات كارثي متكرر من فلسطين وكذلك لتأثير البدع النصرانية المتعددة التي اختلف أتباعها في ما بينهم باستمرار ، وهي التي دعي نبي الاسلام – بحسب القرآن – للتحكيم في ما بين اتباعها ، حتى استأثر ذلك بسورة كاملة في القرآن سميت ب "سورة الأحزاب". لكن الاسلام لم يقتصر على دور المتأثر، فقد أصبح طرفا مؤثرا فيما بعد.
والواقع أن مواطن التأثر الاسلامي بالديانة اليهودية وبالبدع النصرانية قد اتسع نطاق الكشف عنه في القرون التي أعقبت وفاة محمد عليه السلام ، حتى أن ابن خلدون. يعرض في مقدمته الشهيرة لمبدأ دخول الإسرائيليات في التفسير وتطوره ويوضح الأسباب التي دعت الى الاكثار من ذكرها فيقول التالي: "وقد جمع المتقدمون في ذلك (يعني التفسير النقلي) وأوفوا، الا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، واإنما غلبت عليهم البداوة والأمية ، واذا تشوقوا إلى معرفة شىء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات ، وبدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ، ومن تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك اإلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تتعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها ، مثل أخبار بدء الخليقة ، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ، ووهب بين منبه ، وعبد الله بن سلام ، وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم ...." (1).
واقع الأمر أن كتب التاريخ والتراث لم تصور لنا بدقة وضع اليهودية والبدع النصرانية في إبان ظهور الإسلام. ويقينا لا يمكن فهم اتصال نبي العرب محمد عليه السلام باليهودية والبدع النصرانية دون رسم لوحة للحياة اليهودية والنصرانية في الجزيرة العربية. ومن هنا مبلغ الحاحي أن أبحث في الظروف اليهودية والنصرانية لنشأة الإسلام ، إسهاما مني في تظهير الصورة المطلوبة. ومن بين المبررات لذلك أنه لا يكفي لفهم الاسلام وظروف نشأته أن نبحث في ظروف ولادة نبي الإسلام ، فالقرآن الذي ذكر تفاصيل كثيرة عن ولادة موسى والمسيح وآخرين ، لم يذكر شيئا عن ولادة محمد بن عبد الله. كذلك لا يكفي لفهم الإسلام أن نبحث في ظاهرة الوحي ، وفي مسألة القرآن إن كان معجزة بلاغية بالمعنى المعرفي ، وهل الإعجاز المعرفي يخالف ناموس الطبيعة....الخ.
صعوبة مهمتي تكمن في كتب التراث الإسلامي، وحتى ما يتعلق منها بالسيرة النبوية ، قد حجر على صورة الحياة اليهودية والنصرانية ، ولم يفرج سوى عن القليل من التفاصيل ولولا نتف وردت في ذكر يهود الأوس والخزرج وبني المصطلق ، وفي ذكر مسيحيي نجران والرهبان الذين بايعوا محمدا نبيا وآمنوا بأنه آخر الأنبياء ، لولا ذلك لاعتقد قارىء التراث الإسلامي أن اليهودية والمسيحية كانت مفقودة في تلك الآونة.
على سبيل المثال ، فان أحد الذين بحثوا في الإسلام كبدعة نصرانية كتب ما يلي:
"والعربي إجمالا يحب الكلام والمناقشة، كما عرف عنه ضعفه أمام الماورائيات ، والدخول في أي نقاش حولها ، لذلك كانت تعقد في تلك الأمسيات ندوات دينية يحضرها محمد (عليه السلام ( ويسمع ما يقال فيها ، ولربما رأى عند أولئك الرهبان أجوبة له عن أسئلته الكثيرة فارتاح اليهم ودلوه على ذلك (الشيء). ولربما حمّلوه رسائل الى ورقة بن نوفل ، القس النصراني الساكن مكة، وحمّله إليهم فكان ما كان .... وظهر الإسلام"(2).
وقد يكون ما كتبه هذا الباحث حقيقة ، وقد تكون الحقيقة أكثر مرارة ، لكنني مع ذلك أعترض على أسلوبه في الإستدلال. فالكاتب حتى يضعنا في الصورة الواضحة لما حصل يدعونا "لنغوص قليلا في كتب التاريخ لنرى ما كانت عليه المسيحية في تلك الأيام"(3) ، ومن أجل ذلك ، أي حتى نرى ما كانت عليه المسيحية في تلك الأيام ، يكتفي بدعوتنا لمطالعة قصة أولئك الرهبان (المشرورين) على طرقات مكة – الشام ، وما عندهم من تطلعات فنرى ما أخذ عنهم.
إن الكاتب هنا لا يرى سوى الرهبان ، ولا يلتفت إلى وجود أحبار اليهود وإلى توافر مدراس اليهود ولا سيما أن صورة المسيحية في تلك الأيام لا يمكن تظهيرها بعرض قصة أولئك الرهبان المعتزلين في صوامعهم على طريق مكة-الشام. والنصرانية كمجموعة بدع منتشرة في الجزيرة العربية لا يمكن عزلها عن تأثيرات اليهود الذين سكنوا الجزيرة العربية وبلاد الشام فرارا من بطش الدولة الرومانية. كما لا يمكن عزل ذلك عن الصراع البيزنطي-الفارسي آنذاك. فالظروف المؤثرة في نشأة الاسلام لا يمكن الإحاطة بها لمجرد الحديث عن الرهبان (المشرورين).
يقينا إن ذلك يقتضي دراسة معمقة وشاملة ، وبدون ذلك لا يمكن فهم الإسلام وظروف نشأته، سيما وأن القرآن نظرية خاصة جامعة في الأديان الموحدة. فالقرآن يؤكد بصراحة وحدة الكتاب المنزل على جميع الأنبياء ، ووحدة الرسالة النبوية عند جميع المرسلين، ووحدة الدين الموحى به لجميعهم.
نعم فالقرآن يؤكد أن أصل الكتب المنزلة واحد عند الله: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"( 4 ).
وكذلك ورد في القرآن قوله: "وخفف على داود القرآن" ….وهذا يعني أن الكتاب واحد ، سواء أكان إسمه "توراة" أم "انجيلا" أم "زبورا" أم "قرآنا" أم "ذكرا" …… إنه أم الكتاب"تارة ، وهو "اللوح المحفوظ" تارة ، وهو "الكتاب المبين" أيضا.
وطالما أن القرآن نزل أولا على داود فان الذي تلاه محمد عليه السلام هو اعادة قراءة للكتاب الموحد، انما باللغة العربية ، وهذا معنى قوله: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"(5). وهكذا يكون القرآن نسخة عربية عن الكتاب. ولذا يأمر القرآن الناس أن يؤمنوا إيمانا واحدا بالكتب المنزلة كلها على أنها كتاب واحد فالدين بحسب القرآن واحد في كل الكتب ، ومع جميع الأنبياء لأن الله إله واحد.
ولطالما أن النبيين ، بين موسى والمسيح مسلمون ، لقوله في القرآن: "انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا"(6). ولطالما أن المسيح نفسه وأنصاره الحواريين مسلمون بحسب القرآن(7)، فإن ذلك يعني أن سيرة اليهود والمسيحيين يجب أن لا تغفل عن بحث سيرة المسلمين المحمديين، وعلى الأقل في الفترة التي برز فيها نبي العرب. وإذا أغفلنا ذلك فكيف نفسر للقاريء أن في الاسلام قاسما مشتركا يجمع بين الديانات كلها ؟! كيف نبرر له إيمان المسلمين بموسى عليه السلام وتوقيرهم له. وإيمانهم بالمسيح وتكريمهم لمولده وتنزيههم لنسبته وتأكيدهم بأن الطعن في عفاف أمه أو شرف ابنها كفر ما بعده كفر ؟
لقد كانت وظيفته التعليم الجديد) الاسلام (هي تذكير الناس بما نزّل إليهم من قبل لعلهم يتفكرون (8). لا بل يأمر القرآن محمدا في سورة "يونس" اإذا ارتاب من نفسه أن يوطد إيمانه عند أهل الكتاب الأول: "فان كنت في شك مما أنزلنا اليك فسئل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك" وفي هذا النص إشارة إلى أن سورات من الشك كانت تنتاب محمدا عليه السلام فيطلب منه القرآن أن يتغلب عليها بإرشادات أهل الكتاب.
فكيف كان وضع أهل الكتاب ، وكيف آل بهم الحال الى ما أصبحوا عليه في إبان ظهور الإسلام؟…. يقينا هذا ما اقتضانا أن نبحث في طبيعة الظروف اليهودية والنصرانية المرافقة لظهور ونشأة الإسلام. وسنبدأ بأهل الكتاب من اليهود.

حمل هذا الكتاب

الصفحة الرئيسية

 مقدمـــــة

مدخــــل

ما هي هذه الحكمة الخفية

صورة الفكر اليهودي والمسيحي إبان ظهور الاسلام

وضع اليهود عامة إبان ظهور الإسلام

الإسرائيليات في الإسلام

الأسفار الحكمية والحديث

صورة الفكر النصراني قبيل وإبان ظهور الإسلام

مأساة الكنيسة

هل كان محمد نصرانيا

متاعب الكنيسة في الغرب

الحنيفية والكسائية

موقف نبي الاسلام من المسيحية

والقرطاس عليه الصليب

الصليب ليس وثنا

الآثار النصرانية في العبادات الإسلامية

الانجيل في الحديث والأمثال والحكم

الوثنية قبيل وإبان ظهور الإسلام

مواطن تأثر الإسلام بالوثنية

المرأة وتعدد الزوجات

تمييز العربي عن غيره

خاتمة الجزء الأول

الصفحة الرئيسية