حارة النصارى

أحيانا نتعامل مع ذكرياتنا التي تغتصب لنفسها مقاعد في أوجه الطفولة والصبى بشيء من التجاهل والتناسى ولكنى الآن أطرى على أطرى على كامل ذكرياتي أرى نفسي مهتما بل ومسؤولا عن حتمية الوقوف على ذكرياتنا التى دائما تفقأ عين حضور الواقع .

تنهال على الآن كل الذكريات لم أجترها ولكن قررت فجأة السفر بأخر قطار لألحق بعرس اللحظات الخوالي التي أستدعيها الآن ولا أعرف منها سوى طعم الذكرى مرقت بصعوبة وسط الزحام من الباب العالي الحديدي الذي دائما ما يكون في انتظاري في مثل هذه الأثناء باب محطة القطار الذي ما يزال مفتوحا على مصراعيه لم أكترث لا بقليل ولا بكثير أثناء حركتي تجاه العربة التي ستقلنى إلى قريتي قرية " ………………" إلى قدس أقداس الرصيد الذهبي من عمر أحزاني .أفراحي……. خواطري ……أينائي .. أبنائي الذين يفترشون جدار القلب تحت ملاءات العرى الصاخب - الأكثر صخبا من قريتي بقرة عيني في ليلة باردة . أبنائي الذين ساهم في وجودهم طقس القرية .جهل القرية . وحدة اللاائتلاف في حارتي ."حارة النصارى" .

على مسافة تقرب من خمسة وعشرين كيلو مترا غرب القاهرة تقع قريتي كلما كانت تقع عيناي بسرعة ذلك القطار الذي أقله  سنويا كثيرا  - بحثا عن الرطوبة مرة وعن الهدوء مرة وعن الجذور والهوية مرات ومرات على المنازل المتراصة بعشوائيتها المنتظمة التي دائما تنبئ عن أهلي وتشير إلى دوران الرحى في أنسجة مخيلتي ولكن بغير اتجاه .

دائما كنت أرى لعبي في أكوام الرمال .. وفى الطين الذي نشكله حسب رغباتنا التي نستقيها من سقف أحلام جنتنا كنا نصنع حيوانات معلومة وأخرى خرافية ومن كان يحلم بالمدنية كان يصنعها . السيارة .وهذه السفينة التي لا يحصل على مقعد فيها سوى خيرة أهل القرية

 " الحجيج" كنا نلعب ولا نعرف فروقا لألواننا لم توقفنا مرة نظرتنا في أعين كل منا للآخر . لم يدخل قاموسنا ."الصح والغلط " .لم ننجح بعد إلا في الوحدة والفرح .حتى الآن لم تكن قد اجتاحتني حمى الأسئلة المرهونة بإجابات تكبرني أو ليست في يدي . ولكن شئ واحد كان يثير انتباهي وفضولي في آن .كنت أرى رجلا يعد منتصف الليل بكثير يركب حماره ويحمل فانوسا موقد بشمعة شحيحة يعلق طبلته المستديرة متدلية على صدره يدقها قائلا " سحور سحور " وفجأة أجد الحياة قد عادت الى طبيعتها في بيتنا بعد سكون طويل فأتراقص فرحا لأني سآكل للمرة الرابعة خلال اليوم بدون تحفظ من أهلي !!

سريعا ما تمر الأشهر وفى شهر من أشهر الشتاء ألحظ انتشار القصب بطريقة لافتة للنظر في الكثير من المحلات والعديد من البيوت وكنا نشترى " حزمة " ونقطعها إلى " عقل " صغيرة وبعد المغرب نجتمع لنقشرها ونرتشف عصارتها اللذيذة والسكرية وعلمت من بعض الناس قد سمعتهم يهنئون بعضهم بموسم الغطاس !! .

لم أكن أدرك ما هو الغطاس أو ماذا يعنى ؟ .لكنني كنت أنتظره كل عام ……. لآكل القصب فقط !!!

وعلى الرغم من امتلاء قريتي بالتناقضات المعمارية والدينية والأخلاقية والأعرافية إلا إنني لم ألحظ يوما ما أنني أشعر بهذا التناقض يخترقنى مثلما يخترقنى التناقض المعماري بين دوارنا ودوار " عم فوزي " والد " مجدي " مجدي ما زلت أذكرك يا مفتاحي ومفتاح كياني على ذاتي ما زلت أذكر أنك مستصغر الشرر الذي قد أوقد نار جحيم الأسئلة في عقلي يا من بوجوده العفوي قد أيقظ كل مهارات العين على استنباط التناغم المصطنع في أنفس حارتنا .

ترصد عينى الآن هذى البيوت التى يعلوها الصليب الطينى على جدرانها يلاصقها بيوت أخرى قد انتشرت عليها السفن والبواخر التى تعلن عن مشاركة أحد أفرادها في عملية الحج ترصد الآن عينى عبارات طبعت بداخلى ولم اكن اعرف لها مكنون أو مردود ترصد عيناي الآن

 " الله محبة " فباب للدار الذى يليه فـ " حج مبرور وذنب مغفور " على الجدار الآخر المكسو باللون الأخضر .والمنازل التى لم يشارك أفرادها بالحج تعلو جدرانها " الله أكبر " …………

" لا اله إلا الله " وحتى الان كان كل ما يمكن أن أؤمن به أنها تجميل لأشكال بيوتنا حتى الان لم أكن أدرك أن هناك دوافع لهذه الكتابات أو لهذا السعف المجدول ولهذه الصلبان الطينية …………

………………… الشئ الوحيد المشترك بين كل هذه البيوت القديم منها والحديث هو تعليق فانوس كبير على باب كل دار " لمبة نمرة عشرة " يتم إشعاله عند حلول الظلام فتجد الحارة كلها قد أضاءت .

لازلت حتى الان أذكر كيف كانت بنات حارتنا " حارة النصارى " التائهة بين خضم الحارات التى تشتهر بها قريتى تستيقظ يوميا بعد ساعات العصر وبدء إشعال اللمبات ملبية للنداء السحري المدوي بها " يا مغرفتنا يا منقرشة قومى سامية من ع العشا " وهذا هو نداء قائدة حركة اللعب الجماعى لبنات القرية …… زلزال من الأفراح لا يعرفن سره هرولة بالحارة مارين بالزروع وصولا الى شجرة الجميز المعهودة .

هات هن بنات الحارة جاءوا من منازلهم تشدهم بهجة اللعب سويا …… كانت ألعابهن مألوفة محفوظة مرتبة بمجرد سماعهن النداء يخرجن حتى يكتمل عددهن الذى غالبا لا يقل عن عشرة فتيات بينما الأولاد يلعبون ألعابهم الخشنة العنيفة مثل سباقات الجرى( ولعبة الشجاعة ونطة الإنجليز ) …… ولم يكن لديهم طقوسا في تجمعهم أو في ترتيب ألعابهم بعكس هاته الفتيات ………

………………………… وعند سماعى لهذا النداء انطلقت مندفعا نحو الأولاد في طريقنا الى مكان اللعب وكانت أولى صداماتى في الحياة هو منعى من اللعب معهم بدعوى أنى صغير السن …… فذهبت اجر ذيل جلبابي "المقلم " الخشن حافى القدمين  …… بى شعور يصعب على تحديده في هذه السن أو التعبير عنه ولكن من الجائز أنه كانت تعلو جبهتى امتعاضه أو "تكشيره" لا يذهبها سوى حبات الراحة التى سرعان ما تنفرط على صدرى  عند وصولى الى اختى في مكان تجمع الفتيات وأجلس عند الشجرة أرقبهم وليس هذا فقط بل قد صنعوا لى دورا خاصا بى على عكس برود النفور الذى واجهته مع الأولاد فها هم يسلمونني أحذيتهن أعهدها برعايتي وبعد الانتهاء من اللعب أعطى كل واحدة منهن حذائها وكنت أتقاضى نظير هذا العمل بعض من الحلوى تليق بمتعهد مثلى !!!!!

وكم كانت سعادتي لإحساسي بقيامي بدور في هذا العمل الجماعى " اللعب " حتى انهم كانوا إذا تأخرت ينتظرونني …… ويسألونها عن " حارس الأحذية " !!

………………………………………… تتتالى على الفصول والسنوات …… ألحقتى والدي في الرابعة من العمر بالكتاب الذى كان بمثابة الحضانة …… أبهجتني فكرة دخول الكتاب إذ كان تجمع كبير لكل الأولاد …… أولاد الحارة   كما أنني بدأت أتعلم القراءة قيل دخولى المدرسة ولكن الشئ الغريب في الكتاب أننى فوجئت بعدم وجود زملائي جميعا أصدقاء اللعب فكنت أسألهم بعد خروجي …… ورحت أسأل مجدى :

ـ      لماذا لم يدخلك والدك الكتاب معى ؟

ـ      لا أدرى !!!!

وذات يوم قررت أن أسأل والدى صاحب كنوز الإجابات لكل أسئلتي المحيرة ……

ـ      بابا ليه مجدى جارنا مابيروحش الكتاب معايا ؟

ـ      " ضاحكا " ازاى يروح الكتاب ؟! ده " نصراني "

ـ      ( مأخوذا بالدهشة ) يعنى إيه نصراني ؟!

ـ      يعنى مسيحي اسكت بقى وبلاش وجع دماغ ………!!

عندها تملكنى الضيق …… إذ أحسست أن هناك شئ قوى سيحول بينى وبين صديقى طوال فترة الكتاب .

سأحرم من قاموس الابتكارات في ألعابنا …… فمجدي هو صاحب أكبر العاب جديدة لم نـألفها من قبل صاحب أكبر إحساس لا أعلمه ولكن ما أعلمه جيدا هو أننى أحب أن أظل بجواره فترات طويلة أحبه .

وكنت في بعض الأوقـات أشعر بالغـيرة من كونه صاحب أفكـارا جديدة في اللعـب فسرعان ما سألته :

ـ      مجدى ازاى انت اتعلمت كل الألعاب دى فين ومين اللى علمها لك ؟

ـ      المدرس بتاعنا في مدارس الأحد ولو عايز تتعلم تعالى معايا وهو يعلمك .

تقافزت في الهواء سعادة وفرحا وأسرعت في طريقى الى المنزل قاطعا الحارة بأقصى سرعة مندفعا من الباب الخشبى الذى يتوسط جدار المنزل من الخارج وهرعت بطول المسافة بصحن الدار حتى غرفة أبى حتى اصطدمت به عند باب غرفته .

ـ      بتجرى كده ليه ؟

ـ      كنت عايز أقولك على حاجة يابا

ـ      خير ؟

ـ      أنا عاوز أروح مدارس الحد مع مجدى عشان أتعلم لعب جديدة

يارب يخليك يابا وديني المدرسة دى

لم أشعر إلا بيد والدى وهى تهوى كالمطرقة على وجهي وسالت الدماء من فمى ولم أدرى لماذا ؟  فصرخت في ذهول وكنت أشعر أن الذى ضربنى ليس والدى فاندفعت نحوه أحتضنه وأقول :

ـ      الحقنى يابا

فدفعني بعيدا عنه وقال :

ـ      أوعى تقول كده تانى فاهم ولا لأ ؟

أحسست أننى قد تحدثت يشئ خطير يغضب منى والدى فاعتذرت وقلت :

ـ      حاضر يابا معلش مش هاقول كده تانى

وفى اليوم التالى قابلت مجدى فسألنى :

ـ      هاه ..؟ قولت لابوك ؟

ـ      اسكت يا عم مجدى عشان امبارح أبويا زعل منى وضربنى عشان الموضوع ده ……أنا خلاص يا عم بقى مش هاينفع أروح معاك .

أذكر أننى قد قلت هذا إرضاء لوالدى فقط وتجاوبا معه ولكن كان هذا الوقت هو وقت ميلاد أول وأكبر علامة استفهام تبتلعني خصوصا بعد أن قام مجدى بالمجيء معى الى الكتاب ولم يعترض والده على ذلك …… وأعتقد أنه كان سيظل يحضر معى دروس الكتاب اللهم أن سيدنا كان قد قام بطرده من مجلسنا وحرم عليه دخول الكتاب مرة أخرى ………………

………………………… تمر السنوات وأكبر في العمر وأدخل المدرسة الابتدائية .

بدأت معاملة والدى لى يتخللها نوع من التغيير والتطوير فقادني فيما يشبه الدرس وأخذ يشرح لى ويصرح بأشياء لم يذكرها من قبل …… فكشف لى لاول مرة أن هناك ما يسمى الإسلام وهو ديننا ملتنا ما نؤمن به ومسيحية وهى دين من يعرفون باسم النصارى اللى منهم عم فوزى وولاده ؟

ـ              بص يابنى أنا عايزك تعرف انه ماينفعش تقول عم فوزى دى تانى …… كلمة عم دى تقدر تقولها لأى حد من المسلمين ومش عايز أتكلم تانى في الموضوع ده .

وما كان منى إلا أن سمعت وظللت صامتا وقمت بالذهاب الى المدرسة في الصباح بصحبة صديقى مجدى …………………………………………………

…………………… ذهب اليوم في متعة جديدة بالزي الجديد والتجمع الكبير لأولاد الحارة والحارات الأخرى وبعض الأولاد من القرى المجاورة .

استمتعت كثيرا بطريقة الدراسة هذه " فالمدرس " يقف أمام هذا الجمع من التلاميذ الجالسين على دكك خشبية نظيفة وتسع لثلاثة مجتمعين !!! مقارنة بجلستنا في الكتاب تلك الجلسة على الحصير بدون هذا الزى ولكن لم تختلف طريقة مدرسنا عن طريقة سيدنا في التحفيظ أبدا ولا في الرعب الذي أدخله علينا من أول لحظات هل فيها علينا .

وكان هناك وقتا لم نكن نعرف عنه من قبل ألا وهو " الفسحة " فانفردت بمجدى حيث أنني لم أكن أعرف غيره من التلاميذ إذ أنني أنا ومجدى الوحيدين من الحارة الذين نتمتع بعمر يؤهلنا للذهاب الى المدرسة  وسألته :

ـ      صحيح يامجدى انتم نصارى ؟

ـ      لأ إحنا مسيحيين !!!!!

ـ      ليه يا مجدى ماكنتوش مسلمين عشان بابا ما يزعلش منكم ؟ بأقولك إيه يا مجدى

        …………… ممكن تقول لأبوك يخليك تبقى مسلم عشان بابا مايزعلش منك وما يمنعنيش من اللعب معاك تانى ؟

ـ      بس أنا أبويا ما بيزعلش منك …… ولا بيقوللى ما تلعبش مع محمد عشان كده قول لأبوك يخليك مسيحى أحسن !!!

حسنت الفكرة في عينى إذ أن المشكلة سوف تنفرج …… ذهبت للمنزل وببراءة الأطفال ونشوة وجود حل لمشكلتي مع مجدى فقلت لوالدى :

ـ      ممكن يابا تخلينى مسيحى ……!! عشان أبقى زى مجدى وتخلينى ألعب معاه من غير ما تبقى زعلان منى ؟

        ( فجأة انفع والدى خارج المنزل مسرعا نحو منزل والد مجدى وعلا صوته بالحارة كلها وهو يهدد ويتوعد …… )

ـ      إن ما بتلطوش اللى بتعملوه مع الواد والمصحف لأولعلكم في بيتكم

        ( واخذ ينادى على شيوخ الحارة ليشهدهم على المعلم فوزى …… اللى بيسلط ابنه عشان يضحك عليا و أبقى مسيحى ).

لم تقف الدنيا عند هذه المشكلة فقط فقد سببت هذه المشكلة مضاعفات لا حصر لها إضافة الى ما كان قائما من قبل ……فازدادت كراهية المسلمين من أهل القرية لمسيحييها وازداد خوف المسيحيين من المسلمين ومن مضايقاتهم المتزايدة …… شعرت بألم وحسرة شديدين لاننى كنت السبب في كل ذلك …… علاوة على هذا……………………

فقد خسرت صديقى مجدى …… ومنعنى والدى من التعامل مع مجدى أو حتى مجرد مصافحته كما طلب من ناظر المدرسة أن يفرق بيننا فنقل مجدى الى فصل آخر!!!… ……………………

……………………………………………………… هذا وقد بدأت الواقعة تؤثر تأثيرا مباشرا على هدوء الحارة وعلى نفوس أهلها .

كانت أول واقعة في مسلسل الاحتكاك الدائم بين الفئتين تزلزل هذا الهدوء هى واقعة الاحتفال بالمولد النبوى الشريف ومن المعلوم لنا دائما أن الاحتفالية ذات طابع خاص وخاصة الاحتفال الذى تقيمه الفرق والطرق الإسلامية المختلفة وعلى الأخص الطريقة الحامدية الشاذلية الذى كان خالى أحد أقطابها فكانوا يطوفون القرية بالأعلام الخضراء المنقوش عليها الهلال والمكتوب عليها " لا اله إلا الله " ويحملون السيوف و" السنج " رمز القوة الإسلامية .

كان الركب الاحتفالى يجوب الشارع الرئيسى الذى يتوسط القرية ثم يقومون برفع علم الطريقة على صاري خشبى يدقونه في أرض فضاء مقابلة لمنزل الشيخ ثم تتم الاجتماعات المسائية لقراءة الأوراد حتى موعد الليلة الكبيرة …………………………………………………. ولكن هذا العام الذى صادف ما كان من والدى ……… فقد أخذت الاحتفالية طابعا آخر ……

ولأول مرة يتعمد شيخ الطريقة اختراق الحارة الضيقة التى يقطنها غالبية مسيحية في ظاهرة لم تحدث من قبل .

فيطيلون الوقوف عند منازل المسيحيين ويبدلون إنشادهم بهتافات قائلين ( لا اله إلا الله …… محمد رسول الله )

ثم أخذوا بالطرق على الأبواب وكان الأطفال يبالغون لما لديهم من طفولية في ذلك بقذف النوافذ بالحجارة وتمزيق سعف النخيل وتحطيم للصلبان الطينية ………… وانفردت بى بعد ذلك كل علامات الاستفهام والاندهاش ثم تملكنى الخوف على صديقى وظللت أبكى بشدة وبهذا الخوف اندفعت مخترقا الموكب وجميع الأطفال بصورة لا إرادية طالبا منهم عدم قذف هذا المنزل …… فدفعنى أحد الشيوخ وهددنى بإبلاغ والدى……… ………………

………………… ومرت الليلة طويلة …… كئيبة وأنا قلقا مضطربا …… منتظرا الصباح لاطمئن عليه …… تتقاذفني الأسئلة …… هل أصابه ضر ؟……………… هل اصطدم به أحد من الأطفال أو الشيوخ ؟ …… هل هل ؟

وها قد لاح الصباح وذهبت في طريقى الى المدرسة فشاهدته متجها للمدرسة ………فطرت سعادة وتمنيت لو ذهبت لأقبله وأهنئه على سلامته……… لكن منعنى عنه هذا الهلع الذى أحاطنى به والدى وصاحبنى في طريقى للمدرسة استعراض رد فعل المسيحيين إبان الاحتفال ……… ففى هذه الأثناء لم يبدر منهم سوى الهدوء …… إغلاق الأبواب والنوافذ …… التزام المنازل …… لماذا لم يبدر منهم رد فعل عنيف لذلك التعدى . أهو الخوف أم الذوق الذى وان كان فلن يكون في موضعه أبدا هكذا ……………!!

واستمر حال هذه الاحتفالية  منذ ذلك الحين وحتى يوم خروجى من الحارة الى القاهرة كما هو …… وكان المسيحيون يحفظون ذلك التاريخ جيدا فيشتروا حاجيات المنزل كلها قبل هذا التاريخ بيوم أو يومين حتى لا يضطروا الى مغادرة منازلهم في هذا اليوم ……… واستكمالا لسلسلة التناقضات أن عم فوزى أو المعلم فوزى كما يروق لوالدى أن أناديه يذهب في يومها صباحا لوالدى مهنئا إياه

ـ      كل سنة وأنت طيب يابو أحمد

وكان والدى يرد له التحية بالفتور والتحفظ الشديدين والغيظ المستتر .

لقد احتدمت الحالة بينهم وتهديد والدى لا يزال يتردد في أصداء حارتنا كما يتردد في آذان عم فوزى……

والان وقد مر شهر ونصف الشهر على احتفالية المولد النبوى التى كانت بمثابة شبح الذعر الذى خيم على مسيحيي البلدة . تدخل بعض من من نطلق عليهم عقلاء الحارة في محاولة للصلح بين والدى وعم فوزى ……كان يتردد دائما اسم الدكتور "………" وهو طبيب مسيحى يحظى باحترام المسلمين والمسيحيين وكان مديرا للوحدة الصحية بالقرية وقد اشترك هذا الرجل مع مقاول كبير وعضو مجلس الشعب عن دائرتنا ممن يحظون باحترام الجميع …………………………………………………………

وفى دوار العمدة وسط القرية كان لقاء والدى وعم فوزى وكنت أنا ومجدى نقف بخلفية المشهد بعيدا عن الأحداث والسعادة تغمرنا وننتظر بلهفة التصالح الذى سرعان ما سيسفر عن تلاقينا بلا تحفظ .

وما أن انتهت الجلسة بالصلح حتى قفزت في صدر مجدى أحتضنه ويحتضننى في الوقت الذى اخترقت فيه مشاعرى نظرة أبى نافذة الى دفئ صدرى …… !!

بدأت أكبر وبدأت الأشياء والمعارف من حولى في عريها وبدأت تتكشف لى أشياء غير التى أألف …… وتفقد المعارف براءتها …… ففجأة علمت أن هذا المنادى صاحب الحمار يدعى………….

" المسحراتى " وهو يقوم بهذا الواجب اليومى لإيقاظ الناس من سباتهم للاكل " السحور " تلك الوجبة التى تقض مضجعى أثناء النوم لعسر هضمها وعلمت أن هذا يحدث في شهر اسمه

 " رمضان " واجب فيه الصيام على المسلمين ورغم صغر سنى داهمنى والدى بإرغامي على الصوم لاعتاد ذلك …… في الحقيقة لم يضايقنى هذا بل كنت سعيدا جدا بهذا الشهر

……………………فهناك العديد من الطقوس التى أتفاعل معها وأفرح بها كثيرا خاصة عندما يقترب موعد الإفطار ( آذان المغرب ) إذ كنا نجتمع ثلاثة أو أربع أفراد ونذهب عند أقرب مسجد قيل المغرب بنصف الساعة وكل منا يحمل معه نوعا ما مما في منزله من الفاكهة ليأكله وبمجرد سماع صوت " الصافرة " التى كانت تنطلق من ماكينة الغلال على مشارف القرية معلنة آذان المغرب ……… كانت لبهجة التلاقى وخصوصية هذا التجمع عظيم الأثر في وجدانى حتى يومنا هذا ولكن ما كان يعكر صفو هذا الاستمتاع ……… أن الأطفال بعدما نأكل ونصلى المغرب يذهبون في طريق عودتهم لمنازلهم منشدين ………

" يا فاطر رمضان يا خاسر دينك  قطتنا السودا ها تقطع ديلك" أمام أبواب منازل المسيحيين.

 في بادئ الأمر كنت أنهرهم ومع مرور الوقت أصبحت عادة ألفناها ولكن البيت الوحيد الذى لا أجد في نفسى الرغبة في قول هذا النداء أمامه هو منزل ……… كنت أسرع وأهرول حتى أصل للمنزل الذى يليه نفس الشئ كان يتكرر مع السحور فكنا نلتف حول المسحراتى وحماره ونحمل له الفانوس وهو يدق على طبلته وكالعادة كان المسحراتى مدفوعا من رجال الحارة …… فيطيل الوقوف والنداء والدق على طبلته أمام بيوت المسيحيين فسألته :

ـ     يا عم " على " دول مسيحيين بتخبط لهم كتير ليه ؟

ـ     اسكت انت مش شغلك عاوز تخبط خبط …… مش عايز اسكت أنا عارف انهم زفت مسيحيين لكن لازم نقلق مناهم الكفرة دول !!……………

وتقدم البعض بشكوى للعمدة وشيخ الحارة وعضو مجلس الشعب مما يحدث لهم من إزعاج في رمضان فكانت الإجابة الذهبية ………

ـ     دول عيال وبيلعبوا………… نمنع عيالنا من اللعب يعنى عشان المسيحيين يرتاحوا ؟!!!

والشئ المحزن إن والدى كان بيشجعنى مبتسما وكان بيفرح جدا لما يعرف انى كنت مع الولاد .

………………… ظلت الحياة تسير بنفس دورتها وسرعتها الرتيبة نفس الأحداث نفس الفراغ نفس الأحاسيس التى لا تنمو ولاترقى بدين .

فكياننا تأثر تأثرا كبيرا بهذا الهدوء الجغرافي الذى يحيط بنا في حقولنا في طريقة بناء منازلنا فالطبيعة الطينية قد أورثتنا البرود والحصير قد أورثنا الجفاء …… ولهيب الشمس في الحقول علمنا التناحر على الظل الوارف في طبيعة الفراغ .

الى أن اخترق هذا الهدوء ذلك النبأ الذى طار لنا من خلال راديو " عم إسماعيل " بأن الحرب قد نشبت بين مصر وإسرائيل ……………………………………………………

وكان الخامس من يونيو 1967 .

وفى هذه الأثناء كان والدى يعمل بورش الصيانة الميكانيكية بأحد جراجات القوات المسلحة ويوم نشوب الحرب لم يعد والدى الى منزلنا ……… تركنا أنا واخوتي تنهشنا مخالب الاستفسارات تركنا لدوامات الاستنتاجات المشوبة بالريبة .

لم يعد والدى في موعده المعتاد يوميا …… تأخر حتى دخل الليل علينا كنت أسمع أصوات القذائف المضادة للطائرات تنطلق من حولنا وصافرات الإنذار تنتهك جلودنا …… الطيران الأسود في سماء القرية على ارتفاع منخفض وكلما اقترب الليل ازداد خوفى وهلعى وفجأة تملكنى الرعب وعلا صوتى بالبكاء ولم أكن أدرى أخوفا على والدى أم رهبة المدافع والصواريخ وأزيز الطائرات .

كان منزل عم إسماعيل هو مركز تجمع أهالى القرية لمتابعة أخبار الحرب من خلال الراديو الكبير والوحيد في البلدة الذى كان يملكه ……… ومضى أكثر من ثلاث أيام ولم يعد والدى …… لم يصلنا منه أى رسالة وانقطعت كل أخباره الذى صاحب انقطاع ظهور بعض المجندين من أهل الحارة ……………..وفى خضم هذه الأحداث حدث ما لم يكن يتوقعه أحد …… إذ في اليوم الرابع جاء المعلم فوزى الى منزلنا يسأل عن والدتى :

ـ     يا محمد فين أمك ؟

ـ     (أجبته في سرعة وشرود ذهن ) جوه هاندهالك .

       (ثم ذهبت لنداء أمى وظللت أتابع حديثهم )

ـ     هاه يا حاجة مفيش أخبار عن أبو أحمد ؟

ـ     أبدا والله ( وانسكبت الدموع من عينيها )مش عارفين ايه اللى حصل له ؟ هوه بخير ولا حصل له حاجه الشر بره وبعيد .

ـ     طيب يا حاجة اهدى كده أمال …… ممكن تديني العنوان وأنا هاروح اطمن عليه بنفسى ؟

ـ     ازاى يامعلم …… دى حرب هتطمن عليه ازاى ؟!

ـ     مش عارف بس مش مشكلة برضوا يا حاجة …… ما تقلاقيش انتى بس وهاتى العنوان وأنا هاتصرف .

ـ     بس العنوان مش معايا …… خلاص لما ييجى أحمد من بره هو عارفه

ولما عاد أحمد أخى الى الدار كتب العنوان وجاء عم فوزى وأخذ منه العنوان وانطلق لا ندرى الى أين ………………………

وعند غروب ذلك اليوم العاشر من يونيو 1967 عاد عم فوزى وهو مبتسم وعلى وجهه علامات السرور …… وأخذ يربت على كتفى :

ـ     أمك فين يا محمد ؟ …… اطمن أبوك طيب وبخير يابنى (أسرعت والدتى من  الداخل وهى تزغرد قائلة )

ـ     صحيح يابو مجدى …… الحاج كويس عايش مجرالوش حاجه ؟

ـ     أيوه يا حاجة ومعايا أمارة كمان .

ـ     إيه هيا ؟

ـ     بطاقة التموين بتاعتكم أهيه ……ادهالى عشان أجيب لكم التموين بكره إن شاء الله .

أحسست ساعتها اننى لم أفقد بعد كل الأمن بتأخير والدى عنى ولكن عندما انفرد بنفسى وكلما يجن علي الليل تنفرد بى كل أحاسيس الخوف وفى مساء 11 يونيو 1967 سمعت أزيز تلك الطيران الأسود يحلق في سماء غرفتى ……فصرخت صراخا عاليا …… شعرت بأنها ستقتلنى بقذائفها على غرفتى فأسرعت خارجا ……… سمع عم فوزى صراخى ……فأتى الى نجدتى وضمنى إليه وقال :

ـ     مالك يابنى ……في إيه ……؟ ما تخافش .

واستأذن والدتى في أن يصحبني الى داره لأجلس مع صديقى مجدى وألعب معه حتى أهدأ .

لم أستطع إدراك دافع عم فوزى نحو هذا التصرف وخصوصا أن كل تصرفات المسيحيين معنا في القرية لابد لها من تفسير ومردود هكذا تعودنا واعتقدت أن والدى ربما يكون قد مات الان وهو يعلم ذلك وهو يفعل ذلك من منطق العطف على طفل يتيم ……… فسألته :

ـ     والنبى يا عم فوزى ربنا يخليك قوللى …… أبويا عايش صحيح ولا مات ؟

ـ     صدقنى يا محمد ……… صدقنى يابنى أبوك بخير وكويس ويعلم ربنا كلها يوم ولا اتنين وهيرجع لكم بالسلامـة …… ياللا ……ياللا …… تعالى معـايا مش عـاوز تشوف صـاحبك مجدى ولا إيه ؟

كنت قد رأيت عينى أمى وهى تدمع لقولى فدموعها لم تقدر على حجز مقعد لنفسها خلف جفونها المنهكة والمبتلة دائما وجرت بعنف فاندفعت داخلة الى منزلنا بينما اتخذت أنا طريقى مع عم فوزى ……………… كانت هذه هى المرة الأولى التى تطأ فيها قدماى منزلا مسيحيا على الإطلاق وأنا لا أخفى اننى طالما راودتنى نفسى بالرغبة في استطلاع ذلك المجهول الذى طالما أخفوه وأحجبوه عنى أهلى وبيئتى …… وعند وصولى لعتبة الدار تملكنى الرعب إذ قد انصبت في آذانى كل العبارات التى كنت أسمعها آنفا من عدم حب المسيحيين لنا وأنهم من الممكن أن يضعوا لهم السم في الطعام أو الشراب ……… وأكد ذلك لدى أن والدتى كانت تحضر لى الطعام بنفسها في موعد تناوله من منزلنا ……… استعرضت بعينى كل تفاصيل المنزل بداية من الصور المعلقة وحتى أضخم قطعة أثاث ……… لقد لفت نظرى بشدة تلك المرأة الجميلة التى تحتضن طفل بارع الجمال …… أخبرونى أن هذه المرأة هى مريم العذراء ……أما الطفل فهو المسيح ……ثم استعرضت الجدار المقابل لاجد صورة أخرى لرجل كثيف اللحية ……مسبط الشعر ويجلس على مائدة طويلة وحوله رجال كثيرين يتناولون الطعام …… قالوا لى أن هذا الرجل هو المسيح والرجال هم اثنى عشر تلميذا " الحواريون " لقد كان البيت المسيحى بالنسبة الى مجهولا رغبت طيلة ما سبق من عمرى اكتشافه وفى نفس الوقت كنت أخشى الاقتراب منه …… وها هو الان قد أصبح هذا المجهول معلوما وفى هذه الأثناء بدأ يتلاشى خوفى تماما …… وبعد يومين من الإقامة هناك عاد والدى …… بعد انتهاء الحرب ……فجاء أخى يخبرنى ويطالبنى بالعودة سريعا …… لان والدى يسأل عنى وقال لى :

ـ     إن سألك كنت فين أوعى تقول انك كنت هنا .

أسرعت نحو منزلى وارتميت في أحضان أبى في أحضان أمنه في دفئه الذى غاب عنى …… قبلنى والدى كثيرا في جميع أجزاء وجهى وقال لى :

ـ     كنت فين يا محمد ؟

ـ     كنت بره ……بـ ……ألعب .

لم يعلق والدى وكأنه يفهم أننى أكذب ودخل غرفته ودار بينه بين أمى هذا الحديث :

ـ     بقى كده يا حاجة………!!؟

ـ     في إيه يا حاج ……

ـ     على أخر الزمن تبعتيلى واحد مسيحى نجس يدور عليا …… هو أنا عيل صغير تايه ؟ إيه خلاص مفيش لا عقل ولادين …… فوزى العضمة الزرقا المعفن ده يدور على أنا ؟

ـ     وماله يا حاج …… الناس لبعضيها ……… والراجل كتر خيره عمل اللى حتى اخواتك ما عملوه ……… مفيش ولا واحد قريب ولا بعيد جه يسأل عليك في غيابك ما احنا ما بنتعرفش غير في المشاكل بس …… احنا نشكره ونسيب ملته دى لربنا يا حاج .

ـ     لكن في أصول …… على العموم أهى مرة وعدت ودى انشالله هتكون آخر مرة يحشر نفسه فيها الجدع ده .

ـ     أنا مش عارفه انت بتكره الجدع ده دون عن خلق الله المسيحيين كلهم ليه ياحاج ……هو عمل إيه معاك ؟

ـ     قلنا خلاص …… اتقفل الموضوع على كده ……ومحمد ابنك كان فين كده ؟

ـ     كان …… كان…… كان عند المعلم فوزى .

ـ     كمان …… كمان يا أم أحمد ابنى أنا يدخل بيت فوزى النصرانى ؟ وأظن ما كان بياكل ويشرب هناك ؟ …… مش كده ؟

ـ     حد الله ياحاج أنا كنت بابعتله الاكل من عندنا …… بس أصل الواد كان مخضوض ياعينى من البتاعة دى ……… اللى اسمها ……أبصر إيه دى …… الطياره

عندها توقفت أذناى عن السمع لا إراديا…… تألمت كثيرا إذ ما الذى حدث لكى أكذب على والدى ثم يتكلم والدى عن عم فوزى بهذا الكلام وهو الذى فعل كل شئ لم يقم به غيره وظللت بسؤال واحد لماذا كل هذه الكراهية لرجل لم يفعل معنا إلا الخير ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟

لماذا لايشترك الناس جميعا فىكسب كراهية والدى ……؟‍

وكنت ألوم الأقدار التى جعلتنى أرتبط بشخص يحكم به على …… ولكن الشئ الذى لا نقدر على الهرب منه هو الزمن فالزمن يمضى …… يمر ولايتوقف …… الحرب تنتهى ووالدى يزداد غضبه ……ويقل ……ويتوقف ……يعلو بحنوه…… تزداد قسوته …… ثم يعتدل …… كل الأضداد في والدى الذى هو صورة من هذه الحارة

                                               هذه المدينة

                                                        ذاك الوطن…………

الصفحة الرئيسية

 الاولى
الثانية
الثالثة
الرابعة
الخامسة
السادسة
السابعة
الثامنة
التاسعة
العاشرة
الاخيرة

الصفحة الرئيسية