حارة النصارى | ||||||||||||
وها نحن قد بصقنا مرارا في أبارنا ورغم ذلك نعود لتشرب منها بكل ما فيها من سمومنا !! لا أنسى وجه أمى وهى تقابلنى على باب منزلنا (بحارة النصارى) التى كنت قد أثرت الابتعاد عنها وعن وجه أمى طيلة الاثنى عشر عاما ثقيلى وبطئ الخطو والاحمال . لست أنا فقط ولكن المصريين دائمى القول بأن "الضفر مايطلعش م اللحم" … آوونا ورحبوا بنا وأكرمونا … وأجلسونا بين ظهرانيهم وهم الكفار … الذين أسهبنا فيهم من قصائد الكفر والتنديد بهم وبايمانهم … أستطيع ألان أن أعترف على ورقى أن ذلك كله بالنسبة لي كان شيئا عاديا بل وهينا … اذ كانت همومى وأحزانى كانت من نوع آخر … فهمومى أحملها منذ تركى لميدانى الرئيسى والاول (حارتى) … فأنا لا زلت أحمل أحلاما وأمالا عظام في القضاء على ؟أعداء الله في عقر دارى (حارة النصارى) … وعندما علمت في المهجر أننا سنعود للوطن لم أحزن كما حزن اخوتى في الجماعة بل تهللت … وتهلل معى وجهى من الفرح … لأننى تصورت أن الوقت قد حان لترى أحلامى النور وتتحقق … كنت أود أن أغمس يدى في دم أخر مسيحى بحارتى المعهودة … وكنت أود أن أكون شاهدا على خروج آخر مسيحى من الحارة … وأقسمت آنذاك أن أشترى (زير) واكسره عند خروج أخر مسيحى الحارة … وها أنا ألان أعود بالاحلام وقد تقوت لكنى لم أجد لها مسرحا … وجدت عالما آخر … لم يرحل المسيحيسون عن الحارة … بل تكاثروا وبدلوا بيوتهم الطينية بأخرى أسمنية من أربع الى خمس طوابق … وجدت صعوبة التمييز بين من هو مسلم ومن هو كافر … فالكل في الزى سواء … حتى المسجد الذي شهد اجتماعاتنا وتلمذتنا … ها قد تغير شكله ألان … وما كان منى أمام هذه التغيرات الكبيرة الا أن أسأل عن الشيخ امام المسجد … فاذا به كهل في أيامه الاخيرة وحدثنى عن مأساة الحارة … وما آلت اليه أحوال المسلمين فيها … خرجت من لدن الشيخ الجليل ومازالت كلماته عالقة بأذناى … ثم أن توقفت بوسط الحارة بمنطقة تسمح برؤية كامل الحارة من خلف بعض المبانى وأخذت أتأمل الجدران التى أصبحت تشبه أوجه قاطنى الحارة فوجوههم أصبحت صماء … حجرية … أين ايمانهم … أين حميتهم الدينية … أين … ؟! ماهذا … ؟! لقد وقع بصرى على المسجد الذي بنياه ملاصقا للكنيسة أوتدرون ما الذي شاهدته لافتا للنظر بقدر أعظم من شكل المسجد شبه المهجور لقد ارتفع البرج العالى الذي يعلوه الصليب … ويتوسطه جرس … بالحقيقة لم أستطع أن أصدق عيناي … فقررت أن أسهر طوال الليل لأرى … هل سيدق هذا الجرس في ديار الاسلام وفى الساعة السابعة صباحا كنت على موعد لم أكن أرغب فيه البتة !! صحوت من نومى في السابعة على صوت عدة دقات ربما عشرة أو تزيد ومع كل دقة كان قلبى يخفق … ويقطر دما في آن … أسرعت خارج البيت ؟لأننى اعتقدت ان الناس لم يسمعوا بهذا الجرس من قبل … وانهم عندما أخرج سأجدهم قد أخذوا طريقهم نحوه لتكسيره .ولكم شدنى شعورى الى الحارة … فاذا بى أجدنى أقف وحدى بطول الحارة لا أحد أمامى أو خلفى … لم أجد حتى المارة … اللهم رجل يجلس في زاوية من زوايا الحارة يعد الطعمية ذات الرائحة النفاذة … فاتجهت اليه ووجدت لسانى ينطق بهذا السؤال : - انت سمعت الجرس دا ياحاج ؟ - (محملقا بنظره دقائق ثم قام منتفضا قائلا) : مين … ؟! ابن الحاج محمد … أهلا … أهلا … حمدلله ع السلامة … خرجت امتى ؟! - (مستدركا في دهشة) خرجت منين ؟ - انت مش كنت في السجن ؟ - لأ ياحاج … أنت كنت مسافر . - والله زمان يابنى … انت بتسأل عن الجرس دا دلوقتى ؟ ده بقالوه عشر سنين بيرن وكل رنة بتنزل على دماغى زى المرزبة … لكن هنعمل ايه ؟ شباب الايام دى خلاص … لبسوا المناطيل الجينس … وحلقوا كابوريا … وربنا يسترها بقى . - معلش ياعم … سليمان ؟! … عم سليمان صح ؟ - أيوه يابنى - كل حاجة هتنعدل باذن الله والرسول اللى قال (لا تزال طائفة من أمتى على الحق … لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة) وانا واثق ان فيه مسلمين بجد لسه . وأخذت أفكر بعمق لماذا عدت ؟ لماذا لم أكن أصم حتى لا أسمع قرع هذا الجرس بأذنى في حارتى ؟ ما الحل ؟ هل أعود لأحرق الكنيسة مرة ثانية ولكنى لا أثق ألان في الكثير من حديثى العهد بالجماعة … ولكن حتما سيوجد حلا لتدمير هذا المنكر بطريقة لا يعلمها الاهو … !! كنت كلما اجتمعت مع أفراد الجماعة الباقية سواء عندما كنا نجتمع لدراسة القرآن أو اعادة صياغة أفكار الجماعة التى كنا قد أحرقناها قبل دخول مصر … حتى لا تقع أيدى رجال الامن … كنت دائما ما أستعيد وأجتر ذكرياتى في الايام الخوالى قبل حادث الشيخ / الذهبى … أيام أن كنا بالالوف وها نحن ألان نعد على أصابع اليد الواحدة … لكننا لميتسلل الينا اليأس فوعد الله ورسوله لا يتبدل مهما كانت الظروف والاحوال .ولكنى مع ذلك كرهت البقاء في حارة النصارى … كرهت أن أطالع في كل صباح وجوههم العاثرة وابتساماتهم الصفراء وكأنهم يرسلون الى نظرات تحد وامتهان ولسان حالهم يقول (هانحن هنا رغم كل ما حدث دارت الدائرة وعادت الينا لتجدنا وستظل الى الابد … فهى حارتنا) . وكنت كلما قابلت مسيحى حولت نظرى عنه واضع قطعة من القطن في أذنى حتى لا أسمع صوته وهو يلقى على مسامعى (صباح الخير) !! ماعدت أعرف ماهذا التصعيد الدائم والمتوالى للأحداث الغريبة … بالفعل ان اثنى عشر عاما مدة طويلة كافية وكفيلة بأن تصنع الكثير وتغيير الكثير في حياة الناس ولكن أن تلغى أو تقلل من الحس والحمية الدينية … أن تصل الناس لهذه الدرجة من التبلد الحسى واللامبالاة … ؟! أيكون التغيير في أن يصبح في ميدان صراعى الاول والاعظم (الحارة) برجا يعلوه صليب وينصفه جرس يقرع في أذنى ايذانا لاقامة صلوات العبادة لغير الله … ؟! ما هذا يارب ؟ انتظر فرجك … أنتظر أن تنير لي بصيرتى فأعرف ما أنا صانع لأجلك … ؟! الى أن جاء يوم يوم من أوائل عام ……… طالعت الصحف اليومية فوقع نظرى على خبر يقول : "القبض على مجموعة من المبشرين الذين يحولون الناس من الاسلام الى المسيحية" … أعدت قراءة الخبر أكثر من مرة … وأخذتنى الدهشة الى رفاقى في الجماعة وقرأت عليهم الخبر … ولا أستطيع أن أصف وجوههم وهم يتلقوا ذلك الخبر … !! ولكن كان يمكن تفسير جميع الانطباعات في كل الوجوه على أننا شعرنا بالامتهان والتقصير تجاه الله وقررنا أن نقوم بدور فعال إزاء عملية التبشير هذه وإيقافها بشتى الطرق ، وبعد مداولات شديدة وطويلة استبعدنا العمل المسلح لعدة أسباب منها : أن النظام الأمني في مصر قد تطور عما كان في السبعينات ، كذلك الكثير من القيادات النشطة في الجماعة والتي كانت تتولى عملية تهريب كل من يشعر أنه في خطر قد انتهت ولم يتم تعويضها بنفس الكفاءة ؛ إذ البعض من هذه القيادات قد حكم عليه بالإعدام والآخر بالسجن المؤبد ، ولهذه الأسباب استبعدنا الخيار المسلح وتوجهنا للبحث عن طريقة أخرى للتعامل مع حركة التبشير هذه ، وأخيراً اهتدينا إلى المواجهة الفكرية ، وتعرية الزيف والتزوير في التوراة والإنجيل ، ولاقى هذا الاتجاه ترحيباً وحماساً من كل القيادات التي كانت مجتمعة ، وبدأنا البحث عمن يقوم بهذا العمل العظيم الذي سوف يعلي كلمة الحق ويذهب كيد الكافرين ، لم أكن أتوقع ولو بنسبة ضئيلة جداً أن أكون أنا المرشح لهذا العمل ؛ ليس لعدم كفاءتي ولكن لما يعلمه الجميع عني من كراهية شديدة تجاه المسيحيين ، وبعد فترة صمت مريبة مرت خلالها الدقائق كساعات من ليل الشتاء الطويل انطلق صوت الأمير معلناً الشخص التي اختاره للقيام بهذا العمل ، وعندما سمعت أنه أنا كدت أفقد وعيي ، وانتابني شعور بالغيظ والتمرد ؛ إذ كيف يطلبون مني مثل هذا الأمر الذي بالطبع سيتطلب قراءة كتب النصارى واليهود ؟ لكن قضى على غيظي وأخمد تمردي صوت خافت من الأمير قائلاً : هذا أمر وما عليك إلا أن تنفذ إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر ، وذكر الآية التي تقول : ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " 36 الأحزاب " . حاولت إقناع الأمير بتكليف أحد غيري للقيام بذلك إلا أنه رفض وقال : إنني أشعر بأنك أفضل من يقوم بالعمل هذا ، ولو أنك أتممته جيداً ستكون قد أنجزت مهمتين في وقت واحد الأولى : أنك تكون قد قدمت لنا ولكل مسلم بل ولكل العالم حقيقة كانت وما تزال غامضة عن أذهانهم ، والثانية أنك سوف تجني ثمار هذا العمل الرائع لأنه سوف يتم ترجمته وبيعه في كل أنحاء العالم لأهميته ، وبهذا أيضا تستطيع أن تكسب مبالغ كبيرة بالحلال الطاهر ، دفعني حديثه هذا إلى استعجال نوعية وموضوع البحث ، قال الأمير : إن البحث ينقسم إلى قسمين : الأول : إثبات أن نبوة محمد رسول الله ثابتة من التوراة والإنجيل تصديقاً لقوله : " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل " 157 الأعراف ، أما القسم الثاني : إثبات أن التوراة والإنجيل المتداولين اليوم ليست هي تلك التي أنزلها الله وإنما تم تحريفها وتزويرها من خلال البحث في الاختلافات والتناقضات الموجودة فيها . قبلت هذه المهمة على مضض وقلت للأمير إن هذا يتطلب مني أن أشتري توراة وإنجيل وأقرأهما ؟ قال : نعم ولا بد أن تفعل ذلك ، فذهبنا في صبيحة اليوم التالي إلى القاهرة ، وقطعنا شارع الجمهورية نبحث عن مكتبة تبيع هذه الكتب ؛ وجدنا المكتبة ؛ لكن كان من الصعب أن ندخل بملابسنا التقليدية هذه المكتبة ؛ لأنها مثيرة جداً وقد يطلبوا الشرطة اعتقاداً منهم أننا جئنا للتخريب . وجدنا رجلاً يسير بالشارع فسألناه عن اسمه ولما وجدنا أنه مسيحي طلبنا منه أن يشتري الكتاب فوافق ، سلمني الأمير الكتاب وانصرفنا متوجهين إلى منزلي جنوب القاهرة ، كنت خلال السفر الذي استغرق أكثر من ساعتين ونصف أحاول التخلص من الكتاب بأي وسيلة ، فتارة أتركه خلفي ، وتارة أتعمد نسيانه ، وفي كل مرة كان يحضره لي وينبهني إليه ، أخيراً وصلنا إلى منزلي ، وبعد فترة غادر الأمير منزلي إلى مدينته ، من هنا بدأت رحلة المتاعب مع التوراة والإنجيل . كان أول يوم أخذت فيه الإنجيل هو الاصعب على ، فقد كان لدي انطباع أنه ليس من عند الله وأنه سوف يجلب لي الشياطين بالبيت ولن أقدر أن أصلي ، فوضعته خارج غرفة نومي خوفاً من إزعاج الشياطين ، وطاردني هذا الهاجس أياماً عديدة ؛ فكنت لا أدخله غرفتي أثناء الصلاة حتى تستطيع الملائكة أن تدخل منزلي ، استمر هذا الخوف والقلق فترة من الوقت أدركت بعدها أنني لم اقتن هذا الكتاب بإرادتي بل أنني أنفذ إرادة الله من خلال طاعة الأمير الذي أوصى النبي بطاعته في حديثه : "من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" فأسارع قائلاً : لا يارب لن أعصيك أبداً واستغفر الله ثلاث مرات ثم أقوم للصلاة . ولم يكن يشغلني أي شيء عن إتمام هذا العمل ، ولدي الكثير من المراجع التي تساعدني على إخراجه في أفضل ما يمكن ، ولدي من الخبرة في أمور النصارى الكثير إذ كانت كل الوسائل ميسرة لي من قبل الجماعة ، فأنا أتقاضى 500 جنيه شهرياً كمصاريف نظير تفرغي لهذا العمل ، قررت بيني وبين نفسي أن أبدأ رحلة المتاعب هذه ، لكن ما أقلقني هو أنني لم أكن أدري من أين أو أين أبدأ ، ولم يكن لدي طريق واضح المعالم للتعامل مع شقي البحث هاتين ، مثلاً بخصوص إثبات نبوة محمد ، كنت قد توقعت أنني سأجد نفس الاسم " محمد " قي التوراة والإنجيل وفي أضعف الأحوال قد أجد أحمد أو محمود ، عن أي اسم في التوراة سأبحث ؟ هل عن محمد ؟ أم محمود ؟ أ م أحمد ؟ أم . . ؟ أم . . . أخيراً التبس علي الأمر فقررت الانتقال للجانب الآخر من البحث ، وهو البحث عن التناقضات والاختلافات التي تثبت أن التوراة والإنجيل ليستا من عند الله ، وعلى نفس المنوال فشلت في تحديد قالب معين أو معيار ثابت على أساسه أقيس كل ما هو في التوراة والإنجيل فإن توافق ؛ صحت التوراة والإنجيل ، وإن اختلفا أكون قد وصلت إلى ما أريده ، ذلك دفعني للشك في قدرتي على إتمام هذا البحث مما أثار حفيظتي وأشعل حماسي فقررت التركيز الشديد للوصول إلى الهدف لأنني لم أعتاد الفشل في كل مهمة كنت أكلف بها طوال حياتي . كنا نلتقي أنا والأمير مرة في كل شهر نتشاور ونتحاور حول موضوع البحث وفي كل مرة كنت أطلب منه العدول عن قراره وإسناد هذا العمل لأحد غيري وأنا مستعد للتعاون معه ، لكن كان لديه إصرار غريب على أن أقوم أنا بعمل هذا البحث ، صليت ركعتين استخارة لله ، وتملكتني جرأة غير عادية وقررت البدء في قراءة الكتاب لكن بدون نظام أو تحديد أو أي سند يعينني على الوصول للهدف ، بدأت بسفر التكوين ولم أكن أدري ما أبحث عنه ، وجدت أسماء غريبة أقرأها لأول مرة فضقت منها ألقيت بالكتاب بعيدا في أحد أركان غرفتي بطريقة عصبية قائلاً : إن هؤلاء اليهود والنصارى أغبياء كيف يقولون عن كتاب يتكلم بهذه الطريق وهذه الأسماء أنه من عند الله ، إنهم مجانين ، وتوقفت عن القراءة ، وبعد يومين عاودت القراءة ولكن قررت عدم قراءة سفر التكوين لما فيه من أسماء وألفاظ صعبة الفهم ، واسترسلت في القراءة ، أعجبت جداً بما هو مدون في سفري العدد والخروج وأيضاً التثنية ، حيث وجدت الكثير من الأمور التي تتعلق بموسى وفرعون وبني إسرائيل مذكورة بالتفصيل الذي يشبع رغبتي ، أنهيت العهد القديم ( التوراة ) قراءة في شهرين لكن بدون تركيز ، أعدت قراءتها ثانية وكنت أبحث عما ينتمي لمحمد أو أحمد أو محمود بصلة ولم أجد شيئاً ، تطرقت إلى العهد الجديد ( الإنجيل ) وقرأته كاملاً ، لكن لم يقودني لشيء فضقت ذرعاً بهذا البحث وكانت تنتابني شبه عصبية نحو الأمير الذي أمرني بذلك ، وفي آخر زيارة له لي أخبرته أنني لم أجد أي خيط يمكن أن يساعدني على إتمام البحث ، فقد قرأت التوراة والإنجيل ولم أجد شيئاً ، أخبرني الأمير بأن هناك كتاب كنا نتدارسه في الخارج سوف يساعدني كثيراً في بحثي وهو : " إظهار الحق للشيخ رحمة الله الهندي " ، بحثت عن هذا الكتاب في مكتبتي فوجدته ، وللحقيقة كان هذا الكتاب ذو قيمة عظيمة لنا عندما كنا ندخل في نقاشات مع المسيحيين لإقناعهم بالإسلام ، فبدأت أنظم طريقة البحث مستعيناً بعدة كتب بمعاونة الأمير مثل "الملل والنحل" للشهرستاني ، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم وبعض كتب التاريخ والسيرة ، وكلها كانت تهاجم المسيحية ، أخذت كل النصوص التي ذكرها ابن حزم وقال أنها تناقض بعضها البعض ، وبحثت عنها في الكتاب الأصلي فكنت كثيراً ما أجد النصوص إما مذكورة لكن بنصوص مختلفة أو منسوبة لأشخاص مختلفين ، ولا أخفي سراً أنني وجدت كثيراً من النصوص التي بها اختلافات لكن لو أخذنا هذه النصوص كحجة على عدم صحة التوراة فعلينا أن نقبل مثيلاتها في القرآن ويكون القرآن أيضاً من عند غير الله ( قمت فيما بعد بالرد عما كنت أعتقده تناقض واختلاف في بحث تحت عنوان الرد على ابن حزم ) ، كنت أبحث بإخلاص وبمحبة غامرة لله وللرسول ، لم أكن مدفوعاً بفكر عنصري بل كان الدافع هو الانتصار لله ولدينه الحنيف ، وقد لفت انتباه المجموعة الصغيرة التي أنا أميرها اهتمامي بالكتاب المقدس وكانوا دائمي الأسئلة عن سبب ذلك كنت كثيراً ما ألجأ للكذب عليهم لأن ذلك ضرورة فكنت أبرر ذلك بأننا نتقابل مع شباب مسيحيين ندعوهم للإسلام مما يحتم علينا ضرورة معرفة ما يقولون ، بعد أن تعثرت محاولاتي للبحث عن مدخل لهدم التوراة من خلال إيجاد الاختلافات والتناقضات ؛ قررت أن أحاول في الشق الثاني من البحث ، وهو إثبات نبوة محمد من خلال التوراة والإنجيل لتحقيق مصداقية آية سورة الأعراف ، فتشت كثيراً في كتاب رحمة الله الهندي ووجدت ما كنت اصبوا إليه وانتفضت فرحاً بما وجدت ، وشعرت أنني أخيراً قد وجدت ضالتي ، صليت ركعتين شكر لله على أن هداني إلى هذه النصوص ، بدأت في تدوينها بالترتيب كما يلي : 1. تــك 17 : 20 2. تــك 49 : 10 3. تــث 18 : 18-20 4. تــث 32 : 21 5. تــث 33 : 1-3 6. أشعيـاء 42 : 9 7. أشعيـاء 54 : 1-3 8. أشعيـاء 65 : 1-2 9. مــزمور 45 : 1-3 10. مزمـور 149 : 3 11. دانيـال 2 : 31-32 12. مـت 3 : 2 13. مــت 13 : 31 14. مـت 20 : 1 15. مـت 21 : 33 16. يـو 14 : 15 17. رؤ 2 : 27 لم تكن تلك هي كل النصوص التي ذكرها رحمة الله الهندي وزعم أنها إثبات لنبوة محمد ، بل كان هناك نصوص أخرى قمت باستبعادها لضعف دلالتها ، فلقد كان تعاملي مع هذه النصوص غاية في التدقيق والموضوعية لأن هذا كان شأننا كجماعة مؤمنة فريدة على ظهر الأرض ، فلم نكن نقبل لأي نص من أي فرد بدون دليل ودليل صادق موثوق فيه ، لا أخفي أن هذه النصوص من حيث الظاهر كانت مغرية لأي مسلم لأن يقبلها ؛ لكن بالتدقيق وهذا حال المسلمون الأصوليون قد يفاجأ بعدم صحة الاستنباط المستنتج من الدليل ؛ لذا قمت بتجميع كل الكتب التي رأيت أنها قد تساعدني في بحثي هذا ، وبدأت أرسم مستقبل حياتي بعد نجاحي في هذا البحث ، وكم سأكون قد قدمت خدمة لله وللرسول إضافة إلى الربح المادي الذي ينتظرني والذي بدأت معالمه عندما ذهبت أنا والأمير إلى مكتبة أنصار السنة وعرضنا عليهم فكرة الكتاب التي نالت إعجابهم بل إنهم قد طلبوا مننا فصل واحد فقط من الكتاب وهم سيشترون حقوق طبعه ، كل تلك الأحلام كانت تراودني لكن كان يطغى عليها انتصاري لدين الله . أخذت أعيد قراءة الكتاب المقدس وأصبحت علاقتي به على أحسن وجه حتى أنني أدمنت قراءته ، وكنت أكتب الدليل تلو الآخر وأحاول أن أثبت بالحجج والبراهين أنه ينطبق على محمد ، كانت المفاجئة غير سارة ، وربما كان سبب ذلك أنني كنت مبالغاً في تدقيقي ليس لغرض المبالغة فقط بل للجزم بصدق نبوة محمد ، فكنت استعين بكتاب ياقوت الحموي ( معجم البلدان ) عندما تعرضت لاسم مدينة تسمى فاران ؛ لأعرف أين تقع وما هو اسمها الحالي ؟ وأحياناً معاجم لغوية مثل لسان العرب ومعاجم عبرية لأعرف ما معنى "شيلون" مثلا ،وكنت أريد أن أخرج كتاباً لا يمكن لأحد أن يطعن أو يحتج عليه ، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن إذ بدأ الانهيار التدريجي للنصوص واحداً تلو الآخر ،كما يلي : انهار أمامي أول دليل بمعنى أنني لم أوفق في إثبات أن نص التكوين ينطبق على محمد من عدة وجوه لا مجال لذكرها هنا ؛ إذ قد كتبتها في كتيب منفرد تحت عنوان ( الحق المكتوم ) وسجلت في هذا الكتيب كل الأدلة وكيف كنت أستدل بها ، وكيف اكتشفت أنها لا تدل على شخص محمد ، ولذلك لن نتناول التعليق على هذه النصوص هنا . انتهيت من دراسة كل هذه النصوص ولم أجد فيها ما يدل على ما كنت أبحث عنه ، امتزجت لدي مشاعر الحزن والأسى بالقلق والاضطراب ، لكن لم يتبادر إلى ذهني مجرد التفكير في أن يكون محمداً ليس بنبي ، بل كان تعليقي الذي أواسي به نفسي هو أنني قد فشلت في الربط بين الأدلة وشخص الرسول ، قررت أن أعيد المحاولة ثانية من خلال دراسة كتب أخرى غير إظهار الحق ، كان لدي كتاب اسمه دلائل النبوة ، معجم البلدان ، وإعلام الموقعين ، والموسوعة العربية الميسرة ، كنت أحاول بكل جهدي لكي لا أفشل لأن الفشل يعني بالنسبة لي الدمار الكامل لتاريخ حياة مملوءة بالمشقات والضيقات ، فكيف يصبح ذلك سراباً ؟ لم تكن المحاولة الثانية أفضل من الأولى بل على النقيض من ذلك ، قد اكتشفت في المرة الثانية أشياء لم أكن أعرفها في المرة الأولى ، ولم تكن أشياء في صالح البحث بل كانت ضده ، كنت بين لحظة وأخرى استرق نظرات أجول بها هنا وهناك متفرساً في الكم الكبير من الكتب والمراجع الإسلامية التي تملأ مكتبتي ، وأجدني أحياناً أخاطب نفسي : هل من المعقول أن تكون كل هذه الكتب خادعة لنا ، وتقدم لنا شخصية وهمية ؟ إن صح ذلك فلا يستحق الله منا أن نعبده ، لكن لم أكن أسترسل في ذلك بل على الفور كنت أردد أستغفر الله العظيم وأنهض متوضئاً لأصلي ركعتين أطرد بهما إبليس . فجأة وبدون مقدمات وجدت نفسي أهمل التفكير في موضوع البحث وأعاود قراءة الكتاب للمرة الثالثة وفي كل مرة كنت أقرأ فيها الكتاب كنت أجد حلاوة غريبة حتى أنني كنت أخشى على نفسي من سحر هذا الكتاب الذي قد يصيبني نتيجة القراءة المستمرة فيه ، لأننا كنا نقول أن النصارى سحرة ويستمدون سحرهم مما يسمونه التوراة والإنجيل ؛ إذ كان يشدني إليه بطريقة غريبة لا أستطيع مقاومتها . كان الأمير منتظماً في زيارته لي ، وفي كل مرة كنت أتوقع منه أن يضيق مني لعدم عمل أي شيء ، وتوقعت منه كذلك أن يعفيني من البحث ، لكنه كان في كل مرة أكثر إصراراً من سابقتها على أنني الأفضل لعمل هذا البحث . عاودت القراءة في إنجيل متى وتعثرت من مطلعه في الإصحاح الأول عندما رأيتهم يردون نسب المسيح إلى داود ، فقلت ما هؤلاء إلا مجانين حقاً ، وكنت أتعزى بذلك وأحتفظ ببعض الأمل في أن أجد ما أريد ، سحرني إنجيل متى في إصحاحاته الرابع والخامس والسادس ، ورغم أنني قد قرأته مرتين من قبل إلا أنني في هذه المرة وجدت نفسي وكأني أقرأه للمرة الأولى وشعرت كأن يداً تمتد نحو رأسي لتربت على ذهني ولسان حالها يقول : أما آن الأوان لتفهم ما تقرأ ولا تنشغل بالا بالخطأ والصواب ، وفي نفس الوقت كنت أشعر وكأني أغيب عن الوعي وأحس بقشعريرة خفيفة لا أدري سببها ، وجدت الإنجيل يتكلم عما نفعله مع المسيحيين وكأنه يعيش بيننا ، وجدته يتكلم عن الاضطهاد والتعيير والقتل الذي كنا نحسبه طاعة لله ، قلت غريب أمر هذا الإنجيل كيف علم بما نقوله وما نقوم به إزاء المسيحيين ، قد يكونوا علموا بذلك وقاموا بتدوينه حديثاً ، كنا نفسر محبة المسيحيين وتواضعهم على أنها جبن وخوف منا نحن المسلمون لأنهم قلة مستضعفون ، وكان لا بد أن ينطبق عليهم قول الله : "ضربت عليهم الذلة والمسكنة" ولكنني وجدت نصوص تحثهم على المحبة والطاعة والخضوع ومحبة الأعداء ، فكيف يمكن لإنسان أن يكتب سبب مذلته بنفسه ؟ وللأمانة كنت كلما قرأت أمر الله للمسيحيين أن يحبوا حتى أعداءهم طافت بذاكرتي معاملتي السيئة لوالدي ووالدتي ، كنت أتفنن في القسوة عليهم ، ولم يكن يهدأ لي بال حتى أرى علامات الألم على وجوههم ، وأتمادى في القسوة حتى أرى ثمارها ، وذات مرة مرضت ودخلت أحد المستشفيات وأجريت لي عملية جراحية خطيرة وأراد والدي أن يراني ليطمئن عليّ فرفضت وقلت إنه كافر لا أريد أن أراه ، كذلك والدتي التي كانت تتعرض لأبشع من ذلك ، حتى أنها عندما كانت ترسل لي الطعام كنت أرفضه الامر الذى دفعها الى أن ترسله عن طريق طرف آخر ، وكانت تقف في الشارع أمام شباك غرفتي بالمستشفى ساعات طويلة تلفحها حرارة الشمس الحارقة علها تسترق نظرة أو نظرات لتراني فيها ، كنت كلما تذكرت ذلك سالت عيني بالدموع ، وألعن ذلك اليوم الذي عرفت فيه الله ، وكنت أعزي نفسي بأن أحاول أن أتذكر ما فعله أبو عبيده ابن الجراح وأبو بكر الصديق بوالديهما ، ومصعب بن عمير بوالدته فيهدأ بالي قليلاً ، انتهيت من إنجيل متى لكن كلماته لم تنتهي من ذاكرتي واستمرت تطاردني ليل نهار كلما هممت بفعل شيء شرير ، وقرأت باقي الأناجيل والرسائل ووجدت فلسفة وبلاغة تفوق ما هي للقرآن ، وحيث أن هذه سابقة للإسلام ب630 سنة فكيف نقول إن القرآن لا يماثله شيء في البلاغة ، وفي إحدى ليالي الشتاء القارس كنت أقرأ أحد السور القرآنية علي أستطيع أن أتخلص مما علق بذهني من كلام إنجيل متى . كنت أنا وبقية الأخوة نغار أو نحقد على المسيحيين لأنهم كانوا قريبين من الناس ويكسبون محبتهم وودهم بسهولة في الوقت الذي كنا نحن عاجزين عن إقامة مجرد علاقة يتوافر لها الحد الأدنى من التسامح الذي يمكننا من دعوتهم للإسلام ، وكثيراً من الأحيان ما كان يمثل ذلك لنا عقبة شديدة ؛ إذ أن طريق دعوتنا لا يعطينا أي قدر من التسامح الذي به نقدر أن نبني نوع من العلاقات التي تقربنا منهم ثم اجتذابهم للإسلام ، كانت كل حياتنا عنف وقسوة وإرهاب ، ولا تستغربوا فلم يكن سلوكنا هذا من عند أنفسنا بل إننا لو لم نفعل ذلك فلسنا من الله في شيء ، إذ أن الله قد حدد لنا في القرآن والسنة كيف نعامل الكفار على اختلاف كفرهم ، سواء كانوا أهل كتاب أو مشركين أو متمسلمين ،ففي أهل الكتاب قال : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [1] " هذا بخصوص أهل الكتاب أما بخصوص الكفار من نوعيات أخرى كمسلم لا يصلي أو لا يذكي أو لا يطلق لحيته أو يرتكب أي معصية ولا يتوب عنها فقال : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " [2] وبخصوص الأهل والأقارب قال : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون " [3] وهناك آية أعم وأشمل تقول : لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . . " [4] ، ولو أضفنا إلى كل تلك الآيات الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر أن محمد قال : لا تسلموا على أهل الكتاب ولا تردوا عليهم السلام وإن قابلوكم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " [5] وهناك أضعاف هذه الآيات التي كانت تحكم علاقتنا بالأهل والأصحاب وغير المسلمين ، لم يكن لنا نحن أي دخل أو أي سلطة في تحديد هذه العلاقة ، وببساطة لأن الفكر الإسلامي عامة والقرآن خاصة لا يعطي للمسلم مساحة لاستخدام العقل ، لكن العكس كل من يستخدم عقله للتأمل في آية أو حديث يعد كافراً إذ عليه أن يقبلها كما فسرها محمد وإن لم يقل محمد فيها قولاً فليسكت عنها ويعتبرها من المتشابه الذي لا يجوز الاقتراب منه ومن هنا كان الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري عن ابن عباس : " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" . ترى بعد هذا الكم من النصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة هل كان بإمكاننا أن نكون مهادنين أو لطفاء أو ودعاء لكل من ليس على شاكلتنا ؟ بالطبع لا ؛ ولو حدث فنحن كما يقول القرآن نكون قد ركنّا إلى الذين كفروا " و لا تركنوا للذين كفروا فتمسكم النار " . [1] المائدة 51 [2] النساء 114 [3] 23 التوبة [4] المجادلة 22 [5] البخاري كتاب السلام 121 |
|