حارة النصارى

بدأت معرفتي بالقصة وتفاصيلها يوم أن جاء الحاج علي عبد الرحمن لوالدي بمنزلنا وهو على مقربة البكاء وسرعان ما شرع فيه عندما بدأ يتكلم وهو يشتكي لوالدي .

ـ مالك يا حاج علي كف الله الشر خير ؟

ـ الكلام اللي مالي البلد عن ابني ده صحيح يا حاج

ـ عرفت إزاي يا حاج علي

ـ أمه وهي بتفضي شنطته علشان تغسل هدومه لما رجع من الجامعة لقيت كتاب غريب زي المصحف فوريتهوني فلقيته إنجيل يا أبو أحمد … والواد كمان ما بقاش يصلي خالص أعمل ايه يا حاج دي فضيحة كبيرة ومصيبة من عندك يا رب

ـ أصبر يا حاج كل مشكلة وليها حل المهم دلوقتي نعَرف المسيحيين إن الكلام ده محصلش ولا حاجة … عشان نعرف نرفع راسنا في الحارة .

ـ هاتعمل إيه يا حاج

ـ العمل عمل ربنا لكن اسمع يا أبو عبد الرحمن إنت دلوقتي تروح تقعد في دكان فيصل الحلاق وهو عنده أخبار البلد كلها واعرفلي بالضبط منه موضوع ابنك .

( نفذ أبو عبد الرحمن وصية والدي وعاد إليه قائلاً ! )

ـ أيوه يا حاج .. أيوه .. حتى المسيحية بيسألوا الحلاق إن كان الواد اتنصر ولا لأ ؟!

ـ بص يا حاج لما ييجي عبد الرحمن من الجامعة يوم الخميس الجاي قوله الحاج عاوزك وهاته وتعالى .

وفي يوم الخميس جاء عبد الرحمن ووالده إلى والدي بعد المغرب وسأل والدي عبد الرحمن قائلا له قوللى يا عبد الرحمن :

ـ إنت صحيح بقيت مسيحي يا عبد الرحمن ؟

ـ يا عم الحاج دي حاجة تخصني أنا لوحدي والدين هو العلاقة اللي بين الإنسان وربه ودي خصوصيات وأنا ما حبش حد يتدخل في خصوصياتي

( ثار والدي )

ـ خصوصيات إيه يا دكتور هي الفضيحة عندك خصوصيات .. هو لما نمش وروسنا في الأرض خصوصيات .. هو ده اللي إنت اتعلمته في المدرسة والجامعة .. هي الخصوصيات قالتلك خلي أبوك يمشي مكسور في الناس . قسماً بالله العظيم ثلاثة بالله العظيم إن الكلام ده لو كان من عيل من عيالي لقطعت رأسه دلوقتي حالاً .

( واستطرد والدي بعدما وجد الحاج علي غير مدفوع على إبنه )

ـ بص لأبوك اللي وشه بقى زي الطين ولا أمك اللي هتموت من ساعة ما عرفت وأهي لا بتاكل ولا بتشرب .. حرام عليك هي دي وصية ربنا بالأب والأم

واستمر حديث والدي في هذا الإتجاه الذي كان يقابله عبد الرحمن دائماً بالإتجاه المغاير بالحديث عن الله وعلاقته بالإنسان وخصوصية هذه العلاقة بعيداً عن كسر الأسرة في الأرض أو موت الآباء والأمهات . وأمام اصرار عبد الرحمن ولباقته عرض عليه والدي أحد أمرين :

ـ بص بقى يا عبد الرحمن أفندي إما إنك تعزل إنت وأهلك من الحارة وتبيعوا البيت بتاعكم ده كمان يا إما تحط الجزمة في بقك وتخلي يا سيدي علاقتك بربنا بتاعتك دي تنفعك وليك لواحدك وعن شرط تيجي كل جمعة للجامع عشان يشوفك كل أهالي الحارة ويفهموا إنها إشاعة ومش بجد وقدامك أسبوع واحد وترد علىَ وإلا قسماً بالله العظيم لأهد بيتكم بجرار أو أولع فيه النار إحنا مش مستعدين نبهدل كرامتنا ونحط روسنا في الطين عشان واحد زيك يا دكتور .

وانصرف عبد الرحمن ووالده من منزلنا وقد كان موقف عبد الرحمن صعب التنبؤ به فهو شخص يحمل وجه خالي من الانطباعات ولكن يغلب عليه العقل والحكمة أكثر من الانطباعات .

وما لبث أن مر يومان حتى جاء يوم الجمعة حاملاً معه عبد الرحمن ووالده وأعلن عبد الرحمن موافقته على الحل الثاني فطلب منه والدي الحضور إليه قبل الصلاة بساعة ليصطحبه معه إلى المسجد وكان والدي قد أعد " زفة " لعبد الرحمن لكي يجد عن طريقها أهل الحارة بأنه لم يزل مسلماً فألبسه والدي

" الطاقية البيضاء والشال الأبيض " وقد أمسكه مسبحة في يده وعند خروجهما من المنزل دوت زغاريد النساء وبدأن يوزعن الشربات والبعض منهن كن يهتفن هتافات موجهة للمسيحيين .

وهنا فقط وبعد طول انتظار تجرأ أحد المسيحيين من سكان الحارة وكأن كلمة السر " إمرأة " فخرج هذا المسيحي ووقف على باب منزله وصاح قائلاً :

ـ ما هو مش معقول يا خونا في الرايحة وفي الجاية تفضلوا تشتموا فينا وتخبطوا على بيوتنا إحنا مالنا . ماللي يسلم يسلم واللي يروح في ستين داهية يروح إحنا عملنا غيه يعني لكل ده ؟

أمال إزاي بيقولوا النبي وصى على سابع جار وأنا أول مش رابع ولا خامس جار حرام عليكم بقى … انتم يعني عوزينا نمشي من هنا ولا إيه ؟

رد عليه أحد رجالات الحارة لمسلمين

ـ أيوه يا سيدي النبي وصى على سابع جار لكن على الجار المسلم مش الكافر النجس اللي زيك استريحت ياللا بقى لم نفسك وخش بيتك أحسن لك

ـ يعني لو ما دخلتش ها تعمل إيه هتضربني ، اتفضل تعالى خدلك قلمين .. !!

وكادا يشتبكان لولا فصل بينهما بعض من أهالي الحارة وما أن بدأت تخمد روائح هذا الاشتباك إلا وقد إنطفئت معها نيران شائعة عبد الرحمن وبدأت تنزوي رويداً رويداً حتى لم يعد أحد يذكرها واستمر عبد الرحمن في الذهاب إلى المسجد كل صلاة جمعة حتى ترك الحارة هو وأسرته . ولا تعلم إلى أين ذهبوا وهكذا أسدل ستاراً آخر على رواية أخرى من روايات حارتنا حارة النصارى …… التي تنسدل فيها ستائر وقائع عديدة لا تكون ستائر نهاية ولكنها ستائر تعلن عن نهاية بعض الفصول الأولى من مسرحية طويلة .

وكالعادة التي تفوق أيادينا - عادة مرور عجلة الزمن بدون توقف - بدأ الزمن يلعب دوره في تشكيل ملامحي سواء الجسدية أو الفكرية أو النفسية فانتفت عن أفكاري البراءة التي خلعتها علي نفسها طيلة فترة كبيرة من حياتي وفقدت سذاجة الأسئلة البسيطة التي أبحرت فيها جزء كبير من حياتي .

فكما أشرت سابقاً أن البناء الجديد الذي لم يعد اليوم جديداً ( المسجد ) الذي بنى كرد فعل سريع لذلك البناية الوافدة إلينا ( الكنيسة ) ، قد بدأ يؤتي أول ثمار أو بذار للفتنة في داخلي بدأت تتولد بفعل تلك الدروس التي كانت تبث في أذني سواء إن كنت حاضراً الدرس نفسه بالمسجد أو أنا في منزلنا أو أنا قادم من طرف الحارة المهم أن هذه الدروس قد ملأت آذاني الخارجية والداخلية الأمر الذي دفعني عند أول حضور لي في هذا المسجد لدرس بين دروس المغرب كان يقوم بالتعليم فيها الشيخ عبد الجليل صاحب الكتاب فوجدتني أسأل

ـ يا سيدنا هو إحنا ليه بنعمل كده مع النصارى ؟ ( كانت " كده " هذه معلومة لدى سيدنا بل لدى الحارة بأسرها )

ـ لسه بدري عليك من الموضوع ده يا سيدي !!

ـ ( مندهشاً ومأخوذاً بالعجب ) لأ مش بدري أنا كبرت ولازم أعرف إن كان صح أشارككم وإن كان غلط يبقى حرام عليكم

ـ آه … طيب يا سيدي مدام عايز تعرف

ـ أيوه الله يكرمك يا سيدنا

ـ يا بني إحنا بنعمل كده من دماغنا ولا فيه حاجة بينا وبينهم لكن ده أمر الله ولازم نطيع ربنا

ـ ربنا أمر بكده يا سيدنا بجد ؟

ـ أيوه

ـ فين ؟

ـ قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في سورة المائدة آية 51 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فهو منهم )

ـ لكن يا سيدنا في آية برضه بتقول ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً وهم

لا يستكبرون )

ـ أيوه يا بني دي برضه في سورة المائدة آية 82 والآية صحيحة وكلام ربنا زي السيف لكن بص الآية وشوف بتقول إيه ؟

ـ بتقول إيه يا سيدنا ؟

ـ ربنا بيقول إنهم أهل مودة وده صحيح لكن ده لما كانوا متواضعين ومش مستكبرين

ـ لكن يا سيدنا النصارى اللي في الحارة ناس طيبين ومش مستكبرين أبداً ، ده حتى ما بيطلعلهمش صوت ويمكن إنت كمان حاسس بكده برضه … صح ؟

ـ إنت عارف يعني إيه الاستكبار اللي في الآية يا بني ؟ الاستكبار اللي هنا مش زي اللي إنت فاهمه .. لأ ده الاستكبار هنا هو استكبار العبادة لأنهم استكبروا ورفضوا يؤمنوا بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وعشان كده أمرنا ربنا بأننا ما نصاحبش حد فيهم ولا نديهم وش عشان يعرفوا إنهم كفار ومشركين ولو في البلد دي إسلام حقيقي وبجد دول كانوا لازم يدفعوا الجزية غصب عنهم أو تتقطع رقابيهم عشان ربنا بيقول في كتابه العزيز في سورة التوبة آية 29 ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )

ـ لكن يا سيدنا مين اللي قال إنهم مش بيعبدوا ربنا ولا بيؤمنوا بيه ؟

ـ إله مين ده يا بني هما دول ليهم غله .. دول بيقولوا إن سيدنا عيسى عليه السلام هو ربنا شوفت الكفر دول مجانين ده لولا الملامة كنا حرقناهم بنار يا شيخ

ـ معقول بقوا بيقولوا إن سيدنا عيسى هو ربنا ؟

ـ يا خبر إسود ! دول يستاهلوا أكتر من اللي بيجرالهم الله يفتح عليك يا سيدنا .

وفي أثناء هذه المناقشة تحديداً بدأت تتأصل بداخلي كراهية شرعية تجاه النصارى بل وألتمس العذر لوالدي ولكل سكان الحارة لكل ما كانوا يصنعونه مع أي مسيحي فقد خرج الموضوع عن التماس الإنساني الذي يصعب على فيه رؤية اضطهاد المسيحية بل أصبح هناك مشروعية بل وقداسة لأي عمل عنيف موجه لهذه الطبقة من البشر التي تأله بني الله وتجعل منهم آلهة .

ثم أن استطردت الحديث مع سيدنا

ـ على الكلام اللي إنت بتقوله ده يا سيدنا نبقى إحنا على حق والنصارى على باطل مش كده برضه ؟

ـ أيوه طبعاً

ـ طب إزاي نخليهم يحسوا أو يعرفوا إنهم على باطل ؟

ـ هما عارفين كل حاجة وفاهمين كل حاجة لكن الاستكبار بيمنعهم م الاعتراف .. دول مية من تحت تبن .. كهنة ..

ـ يعني إحنا ممكن نرغمهم على الإحساس بأنهم مشركين وكفار وإن مش من حقهم إنهم يعيشوا لأن ربنا بيقول ( إن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) وهي مش كده .

ـ إنت عايز تقول إيه ؟

ـ دلوقتي مش ربنا حدد لنا عيدين هي العيد الصغير ( عيد الفطر ) والعيد الكبير ( عيد الأضحى )

ـ أيوه !!

ـ يبقى ليه نسمح للنصارى إنهم يبتدعوا أعياد جديدة من عندهم

ـ واحنا هنعملهم إيه ؟ هنمنعهم إزاي ؟

ـ ما أقصدش نمنع خالص .. ولا إحنا نقدر نرغمهم . إنهم ما يشتروش ولا يلبسوش هدوم جديدة لكن اللي أنا عايزه حاجة تانية

ـ أيوه ( وقد نفذ صبره ) إيه يعني ؟

ـ يوم الأحد الجاي بيقولوا عندهم عيد معرفش اسمه إيه لكن أنا سامع الناس بيقولوا إن فيه عيد

ـ إحنا ممكن نبوظ عليهم فرصتهم ونخليهم يحسوا إن مفيش عيد غير عيدنا … إحنا هنقول لصحاب الدكاكين اللي في الحارة إنهم يقفلوا محلاتهم اليومين بتوع العيد الأحد والأثنين فالعيال مايلاقوش حته يشتروا منها اللعب والبلونات والزمامير فيقعدوا في بيتهم إيه رأيك يا سيدنا ؟

ـ الله ينور عليك يا بني يحميك لشبابك ؟! هي دي الشباب اللي غيرانة على دينها .. ما هو صحيح ابن الوز عوام

ـ يعني موافق يا سيدنا

ـ أيوه طبعاً

وبالفعل قد تم الاتفاق عليه ففي يوم الأحد صباحاً فوجئ الأطفال النصارى بكل المحلات المغلقة وظلوا وقوفاً منتظرين ليشتروا ألعابهم ولكن لما طال انتظارهم عادوا من حيث أتوا كل إلى منزله حاملين أشياء غير التي كانوا يبتغون .. عادوا بدموعهم تلك التي كنت بدأت أبتغيها .. فيا لشدة سعادتي بهم وهم يبكون ويا لهذا الفرح الذي انتابتني وأنا أفسد عليهم فرحتهم بعيدهم المبتدع .. ولكن بعد أن انتهى اليوم وخيم على الحارة السكون الرهيب الذي يغلفها في كل أيامها .. وعندما استفردت بنفسي بداخل حجرتي .. تذكرت مشهد دموع هؤلاء الأطفال وأنبت نفسي كثيراً ولكن ما كان يعنيني على هذا التبكيت هو أنني أفعل ذلك لكي يعرفوا الإله الحقيقي وأن يتوبوا عن ابتداعاتهم . وفي صباح يوم من أيامي في حارة النصارى استقبلت صباحي كسيح الرجاء في كوني أستطيع قلب كل نظام الحارة وحدي ولم تمهلني الأحداث كثيراً إذ سرعان ما كان يذاع في الحارة عن وفاة أحد رجالاتها الأفاضل والمعروفين الحاج أحمد وكان لدينا بالقرية مكاناً يطلق عليه دار مناسبات يقام فيه مثل هذه المناسبات وفي المساء وقف أهل المتوفى يتلقون فيه العزاء كعادتنا وجاء ثلاثة من النصارى لتأدية واجب العزاء فاستقبلهم الرجل استقبالاً حسناً وأجلسهم في أماكنهم ولكن على غرار ما دائماً يحدث في حارتنا أن تسير الأحداث دائماً في اتجاه معاكس طلب والدي أثناء جلوس الثلاث نصارى من المقرئ أن يتلو علينا ربع من سورة المائدة وأخذ المقرئ يتلو إلى أن وصل إلى الآية 17 ( لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح إبن مريم ) وسرعان ما تتكرر مرة أخرى في الآية 72 وبمجرد أن سمع الرجال المسيحيون ذلك حتى تصببوا عرقاً وبدا عليهم الخجل .. ولكنهم تماسكوا وجلسوا حتى ينتهي المقرئ من التلاوة . وعندما تكررت مرة أخرى بفعل الإعادة في التجويد صرخ الشيخ عواد المهووس :

- الله .. الله .. الله يا عم الشيخ قول كمان الله يفتح عليك . قول كمان أصل التكرار يعلم .

هنا وقف النصارى الثلاث وقالوا :

ـ الله يكرمك يا شيخ ( ثم رد الثاني )

ـ كتر خيرك ( فرد الشيخ عواد )

ـ خيركم سابق يا خويا إنت وهو .. هو في إيه هو اللي على راسه بطحة بيحسس عليها ولا إيه ( رد ثالثهم )

ـ حسن ملافظك يا شيخ عواد .. دي جنازة .. واحترم المكان يا شيخ وهنا تدخل أهل المتوفى ووبخوا الشيخ وهنا تدخل أهل المتوفى ووبخوا الشيخ عواد وقبلوا رؤوسهم في سلوك هو الأول من نوعه في حارتنا ومن مسلميها .. والحقيقة ما من أحد تجرأ على الاعتراض عليه .

ولكن كان هذا السلوك خاص بموقف بعينه ولكن الحقيقة هو أن الموقف العام من النصارى بديهي ومعروف ومترجم بداخل جميع مسلميك يا حارة النصارى .

لا شك في أن الغموض الذي يكتنف نصارى حارتنا في العبادة إذ أنه محجوب عنا قد أرثنا بعض الأساطير حول ممارسة الدعارة بدون حرج بين حوائط الكنيسة أثناء الاحتفال بعيد رأس السنة في منتصف الليل وأصبحت هذه القصة .. قصة حقيقية في رؤوسنا جميعاً واستهوت هذه الفكرة بعضاً من شباب الحارة ممن هم لا ميول دينية لهم فقرروا أن يدخلوا الكنيسة في تلك الليلة تحديداً لينعموا بلمسات تروي ظمأ احتياجهم الذي تولده برودة طين منازلنا .. واتفقوا على أن يدخلوا الكنيسة على أن يتابع كل منهم فتاة ويدخل في إثرها وعند انطفاء الأنوار التي نظل في حالة انطفاء لأقل من عشرة ثوان معلنة عن انقضاء عام آخر في حياتنا على هذه الأرض وسرعان ما أمسك كل منهم بفتاته فصرخن وتجمع الناس حولهم واقتادوهم إلى نقطة الشرطة وهناك عرف أولياء الأمور النصارى أن الشباب الذين اقترفوا هذه الفعلة هم من المسلمين وما كان من مأمور النقطة إلا أن أطلق سراحهم في صباح اليوم التالي وأخذ عليهم التعهد بعدم تكرار الواقعة .. ومرت كواقعة عابرة ..

ومررنا جميعاً بمشاهد ووقائع وأحداث عديدة جداً في حلبة الصراع الأبدي بين قطبين كل منهما يريد البقاء إلى النهاية .. والنهاية كما أعرفها أنا وتعرفها أنت ، لمن ستكون !! ولكن لابد من أن تدور الدائرة دورتها ..

فلقد كان بقريتنا كسائر القرى المجاورة ظاهرة بدأت تنتشر وكانت من الظواهر التى أفادت قرانا بعد طول سنين وهى ظاهرة الاهتمام بالصحة العامة متمثلا فى إنشاء الوحدات الصحية الريفية … التى تقدم الرعاية الصحية المجانية لاهالى القرية .

وفى ذات يوم قامت الحكومة بتعيين طبيبا مسيحيا بهذه الوحدة الصحية وكان من خارج أهالى القرية … زادت شهرته بازدياد عدد أيام إقامته بالقرية وكان مثار حديث الناس فى القرية بأسرها عن مهارته وأخلاقه … ولما كان هذا الطبيب ذائع الصيت _ رغم أنوفنا جميعا ( الغائرين على الدين ) _ رجل مسيحى … فكرنا واتفقنا على ضرورة إرغام هذا الطبيب على الرحيل … كان منشأ الفكرة " شيوخ حارتنا " الأفاضل فتقدمنا بشكاوى لمركز الشرطة عن بعض المخالفات من الطبيب لقوانين مهنته " شكاوى كيدية " وليس لها أساس من الصحة وكان أنه فى كل مرة يتم فيها التحقيق بهذه الشكاوى لا يدان فيها … ثم أن تحفظ … !!

الى أن قررنا الاجتماع بالمسجد ذات ليلة للتفكير فى طريقة لإزاحته عن قريتنا … ثم أن هبطت علينا فكرة ذات أبعاد دراماتيكية وصفناها آنذاك بأنها الفكرة التى هبطت علينا من السماء … فأحضرنا فتاة ممن يتمتعن بسمعة سيئة لدى القرية ومعروفة للشرطة كذلك ولقاء مبلغ من المال اتفقنا معها على صياغة الفكرة وبداية تنفيذها .

فوجئ الطبيب فى ساعة متأخرة من الليل بالحاج " محمود أبو السيد " يصطحب فتاتنا الى مسكن الطبيب الخاص مدعية المرض … وما كان من الطبيب إلا أن دعاهم للدخول بسرعة وأثناء ذلك انسحب الحاج محمود خارجا بحجة الذهاب الى أهلها لطمأنتهم وأثناء قيام الدكتور بالكشف على " ناهد " أخذت تصرخ بأعلى صوتها وتدعى بأن الدكتور قد قام بمحاولة للاعتداء عليها … برعت فتاتنا جدا فى تصوير وتجسيم فكرة الاعتداء المصطنعة تلك … وكنا قد سبقناها لابلاغ الشرطة … لكى تلحق بهذا الجرم الاخلاقى الذى سيودى بهدوء القرية … والذى سيشعل نار الفتنة بين الطائفتين … الأمر الذى دفع برجال الشرطة لان يتحركوا سريعا على غير المعتاد والمألوف .

و بالطبع كنا نحن تحت المنزل مباشرة وما أن سمعنا صوتها حتى دخلنا بكسر باب المسكن وطلبنا من الدكتور أن لا يتحرك من مكانه حتى يأتى رجال الشرطة .

عندها دخل ضابط " المركز " الهمام الى شقة الدكتور فوجد " ناهد " فى حالة يرثى لها … تبكى وهى عارية تماما … وعندما سألها ضابطنا قالت :

ـ أنا يابيه … جيت هنا مع عم الحاج محمود أبو السيد باشكى من مغص فى معدتى ولما قاللى ادخلى اقلعى هدومك دخلت الاوضة وأنا مش عارفه إن دى أوضة النوم يابيه … ماكنتش أعرف يا بيه انه هيعمل كده ( وأخذت تولول وتصرخ )

ـ " الضابط وهو يرد عليها " خلاص بقى يابت يعنى هو انت أول مرة …

ـ " مقاطعة اياه " أيوه ياباشا بس مش بالغصب مش بالعافية … وبعدين ياباشا بص شوف عورنى ازاى وهو بيقلعنى غصب عنى … ( كانت هذه الجروح أثناء قيام الدكتور بمنعها من تمزيق ملابسها ومحاولة الإيقاع به )

وما كان من رجال الشرطة إلا انهم اقتادوه " للمركز " وعندها عند بداية التحقيق الرسمى طلبنا جميعا ـ من حضروا وقاموا بالتنفيذ ـ كشهود … وبالطبع أجمعنا أننا أوصينا الحاج محمود أبو السيد أن يصطحب الفتاة الى مسكن الدكتور حيث أن الفتاة ليس لها إلا أخ صغير وتعيش مع والدتها وما أن جاء إلينا الحاج محمود حتى وصلنا صراخها الذى دوى بالقرية كلها واندفعنا جميعا نحو منزل الدكتور " رياض " يغلف اندفاعنا صراخها المستغيث الذى لا يتوقف الى أن أعاننا الله على كسر باب الشقة … فوجدنا دكتور رياض جاثيا عليها فى محاولة الى تقبيلها عنوة … فجئنا إليكم على الفور … كانت هذه هى شهادتنا جميعا .

ولم يستطع الطبيب أ يتفوه بكلمة واحدة من فرط اندهاشه … عندها والحمد لله تم فصل الطبيب من مهمة الإشراف على الوحدة الصحية وتم نقله الى مكان آخر وعند خروجه من القرية كانت غالبية سكان القرية يبكون عليه إلا حارتنا " حارة النصارى " !!

بدأ والدى مع الأيام يطعن فى السن ويفتر حماسه وتقل حركته وفى نفس الوقت بدأت بعض العائلات المسيحية ترحل عن الحارة نتيجة الضغط الواقع عليهم إما ببيع منازلهم أو تركها مغلقة ولا شك أن هذا قد شجعنا على الاستمرار والتطوير فى طرق الإيذاء !!

وبدأت الأيام تمن على بظهور مشجع لى حالا محل والدى فى هذه النقطة وهو ابن عمى الأكبر سنا منى … تخرج فى الأزهر وقد عمل لفترة طويلة " إمام " مسجد و " خطيب " لإحدى مساجد الدول العربية ( الأردن ) … وأخذ يشجعنى على القراءة فى الفكر الاسلامى والتعمق فيه … بارك كل سلوكى ضد النصارى … بدأت بالفعل أشترى بعض الكتب لكبار الأئمة واستهوانى بالطبيعة البحث فى علاقة الدولة الإسلامية بالنصارى وبأهل الكتاب بصفة عامة … ووجدت ما فعله النبى " محمد " مع " يهود بنى قريظة " عندما حرق مزارعهم وسبى نسائهم وقتل رجالهم … وتعاهدت مع نفسى ألا أخالف سلوك النبى معهم … فالمشكلة واحدة ولكن الفارق الوحيد بيننا فى حارة النصارى وبين نبينا فى يهود بنى قريظة هو أنه كان يتعامل مع اليهود أما نحن فمع قطب آخر من أهل الكتاب هم النصارى … ولكنهم فى الكفر سواء فلا فرق بينهم إطلاقا .

بدأت علاقتى بابن العم تتطور انطلاقا من كوننا شباب غيور على دينه واسلامه وأخذنا نجمع من الشباب ما نقدر عليه ممن لديهم ذاك الحس الدينى المرتفع ونفس الغيرة حتى أصبحنا ما يشابه الجماعة … عاهدنا بعضنا البعض وعاهدنا الله على إكمال المسيرة التى بدأناها حتى طرد آخر مسيحى وتطهير حارة النصارى نهائيا من جميع مسيحييها .

وبالطبع فلن ينجح هذا التخطيط ولا هذه المعاهدات بدون أهل الحارة ومساعدتهم فأحيانا كنا نخطط وأهل الحارة يقومون بالتنفيذ وفى مرات أخرى نقوم نحن بالتخطيط والتنفيذ .

وكان من أحد مرات التنفيذ الذاتى أن كان من بين المسيحيين واحدا يمتلك أرضا زراعية تجاور أرض رجل من الحارة من المسلمين من أصحاب الدم الحار وكان معروفا بشره وسرعة غضبه وإثارته للمشاكل … فكان المسيحى يمتلك " مسقاة " يروى بها أرضه عن طريق " ……… " التى تقوم بدورها فى سحب المياه من الترعة المجاورة وقررنا أن يذهب ليلا أحد أفرادنا ونفتح المياه على أرض الرجل المسيحى من جهة أرض الرجل المسلم وعندما يبدأ المسيحى فى الرى تندفع المياه فى أرض المسلم فنسرع عندها ونخبره بذلك … وعندما تأكدنا من اندفاع المياه نحو أرض الرجل المسلم أسرعنا بإخباره … وعندما علم أسرع حتى من دون أن يكمل ملابسه .

وحمل فأسه وجرى كالبرق … فوجد أرضه غارقة … ولم يكن صاحبنا المسيحى يعلم شيئا عن ترتيبنا هذا فكان أن وجد الرجل المسلم ينهال عليه ضربا بالفأس فشق رأسه وتسبب له فى عاهة مستديمة … وفى المركز وعند بداية التحقيق … طلبنا عم عمر صاحب الأرض المغرقة للشهادة … فقلنا شهادتنا بأن سعد المسيحى قد فتح المياه على غيط عم عمر من القناية القريبة على أرضه فأغرقها … وتم تصعيد الموضوع الى النيابة التى أمرت بخروج عم عمر بكفالة ما لم يتوفى سعد المسيحى .

أو تظنون أن هذا كذب ؟ حاشا لله … إن هذا الكذب مباح بنص حديث رسول الله " ثلاثة أحل الله فيهم الكذب ( الحرب ، الرجل وامراءته ، الصلح ) وبما أننا فى حرب مع أهل الكتاب حتى يسلموا … فمباح هو الكذب … فلا تقرروا أرجوكم أنه كذب ولكن هناك أسباب قامت عليها أفعالنا … !!

وكان رد فعل النصارى لا يحتاج الى رصد كالمعتاد فرد فعلهم السلبى الممتد على طول دهر أحداث حارتنا كما هو مما جعلنى أؤكد دعوى أنهم ليسوا على حق مطلقا !! أو تتفقون معى … لو كانوا على حق لكانوا دافعوا عن أنفسهم ولو باللسان وهذا أضعف الإيمان … !! أقسم أنهم لو كانوا فعلوا لاحترمتهم … ولكنهم كانوا فى حالة ثبات ولا يديرون بالا لكل ضربة وأخرى … حتى عندما قررنا أن نكتب على جدران منازلهم " إن الدين عند الله الإسلام " وكذلك " لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم " … فلم نجد فى أى من المرتين أى أصداء فى الحارة سوى أصداء فرحتنا بإحراز تقدم جديد … !!

وفى يوم من الأيام قامت للنصارى قائمة جديدة فودوا فى شراء منزل صغير منهار ومتهدم منذ زمن بعيد هذا المنزل هو المنزل الملاصق للكنيسة مباشرة فرغبوا فى شراءه لتوسعة الكنيسة … وهبت الحارة عن بكرة أبيها واستطاعوا فى أقل من أربعة وعشرين ساعة أن يقوموا بجمع تبرعات … مبلغ لشراء ذلك المنزل … ثم تركوه بل وتعمدوا إلقاء القمامة به والأكثر من هذا هو تجميع بقايا ومخلفات محل جزارة عم عبده والقائها فيه الأمر الذى يجعل من المكان مكانا لا يطاق … مما أثارهم بشدة فلا هم استطاعوا شراء المنزل ولا هم قادرين على الاستمتاع المصطنع الذى يقومون به فى الكنيسة من فرط شدة الروائح المنبعثة باستمرار من ذلك المكان … !!

واستمر الوضع هكذا الى نهاية السنة الثمانين من القرن الماضى عندما فقدت الحارة رجالاتها وفقدت من نخوة رجالها الجدد من نحو دينهم وغيرتهم عليه … فلقد باعوا المكان وأقيم محله " مينا للملابس الجاهزة " لرجل مسيحى من خارج القرية !!

وعلى الرغم من ذلك إلا أن حصارنا لحارة النصارى قد نجح نجاحا ملحوظا لدرجة أنك تستطيع بسهولة أن تلاحظ السكون الذى يخيم على منازلهم فى الأعياد مثلا … إذ قد بدؤوا يرحلون الى المدينة البعيدة فى الأعياد بعدما تأكدوا تماما بأنه لن يكون لهم عيدا بالحارة مطلقا مدى الحياة أو على الاقل مادمنا بها وطالما أبقوا على نصرا نيتهم .

كانت قريتنا تحظى بمدرستين ابتدائيتين فقبط … وكانت إحدى هاتين المدرستين بالقرب من حارة النصارى والأخرى تبعد عنها مسيرة الكيلو متر لذا كان من الطبيعى أن يلحق الأطفال من الحارة " المسلمين " والمسيحيين بالمدرسة القريبة وكان بالمدرسة اثنان من المدرسين من خيرة أهل الحارة الذين يتمتعون بغيرة وحمية دينية … وفى أثناء حصة الدين كان المعتاد أن يتم عزل الأطفال المسيحيين فى فصول منفردة حيث كان يأتيهم مدرس من مدينة أخرى … مدرس للدين المسيحى .

وهنا قررنا بأن يقوم أحد أفراد عائلة الحارة بمتابعة هذا المدرس من الحضور الى المدرسة … إذ كيف يتم تدريس الكفر والشرك فى المدارس وان كانت الحكومة لا تلقى بالا فسنقوم نحن بالدور التى تنأى الحكومة عن القيام به تحت مبرراتها الخاصة وبالفعل تم تكليف أحد الشباب بمتابعة خط سير المدرس ورصد تحركاته من ساعة حضوره الى ساعة انصرافه وتبين أنه يأتى عن طريق القطار من مدينة بعيدة تاركا دراجة تقله الى المدرسة لدى عامل البلوك بالمحطة وكان يقل الدراجة يوميا مسيرة اثنين من الكيلو مترات حتى المدرسة وهنا كان من السهل الإيقاع به لتعطيله عن الحضور فى موعده .

ذهب أحد رجال الحارة الى عامل البلوك بمحطة السكة الحديد الذى لم يكن من أهالى القرية بل من قرية أخرى مجاورة مسلما عاديا تقليديا وتفاوض معه رجلنا على عدم السماح للمدرس المرصود بترك الدراجة لديه مرة أخرى ونحن سندفع له ما كان يدفعه ذلك المدرس وتم تحفيزه عن طريق إبراز أنه مدرس يدرس للأولاد الكفر والشرك فى مدارسنا الأمر الذى يلهب مشاعر أى فرد ويؤلب أى " بنى آدم " على آخر … !!

وبدأ عامل البلوك يمنع المدرس من ترك دراجته لديه … ولم يجد المدرس مكانا آخر وكان من الصعب عليه حملها بالقطار فى كل مرة … فبدأ يتعطل عن موعد حصته ولم ينتظم … ولما علم أهالى الحارة من النصارى أولياء أمور الطلبة المسيحيين بتأخر المدرس وعدم التزامه وانتظامه الأمر الذى ينعكس على سوء تعليم أبنائهم وبعد التقصى وجدوا أنه لا يجد مكان يترك به دراجته ففكروا وقرروا بأن يتولى أحد شباب الحارة من المسيحيين توصيل المدرس ذهابا وإيابا فى الأيام التى يكون بها حصص دين … وكان هذا الحل غير وارد ولا متوقع لنا جميعا … !!

حمل هذا الكتاب

الصفحة الرئيسية

 الاولى
الثانية
الثالثة
الرابعة
الخامسة
السادسة
السابعة
الثامنة
التاسعة
العاشرة
الاخيرة

الصفحة الرئيسية