حارة النصارى | ||||||||||||
ما زلت حتى الان أتكئ بظهري على مقعدي الثابت من الأحداث في عربة القطار التى تخترق بى أفدنة طويلة وشاسعة وتقع عيناي على هذه الأرض المزروعة بالقطن …… القطن …………… فقريتنا تشتهر بالقطن وزراعته على مساحات كبيرة فالقطن هو المحصول الرئيسى في القرية ويمثل القطن مصدرا أساسيا للدخل هناك إذ أن موسم جنى القطن هو موسم الزواج في القرية وفى فترة العطلة الصيفية وبالتحديد في شهر يونيو من كل عام تنظم الجمعية الزراعية بقريتنا " فرق " وهى مجموعات من الأفراد " ذكور _ إناث " يقودهم شاب " خولى " من طلبة الكليات الزراعية …… أو حملة الدبلومات …… تقوم هذه الفرق بالــــ اليدوية " لبيض ودودة القطن " المسمى " لطعة " وفى صيف عام 1969 …… كنت قد أنهيت المرحلة الابتدائية وعرضت على والدى أن أشترك في هذه المجموعات واستثمار ما أحصل عليه لقاء أجر لشراء مستلزمات العام القادم فوافق والدى على الفور ………… والحقيقة وراء طلبى هذا …… هو اننى علمت أن صاحبى مجدى سيشترك هو الآخر … ولكم كنت سعيد جدا لهذا خرجت في الصباح وعلى رأسي " الطاقية " أحمى بها رأسي من حر الشمس وأحمل في يدي" بؤجة " الطعام … إذ لم يكن مسموحا لنا بالعودة إلى منازلنا لبعدها عن الغيطان …… . وكنا كلما حان وقت الغذاء جلسنا سويا أنا ومجدى نأكل طعامنا ونعمل " الغديوه " وكانت في هذه الأثناء بالذات ترقبنا نظرات جميع الفرق المشتركة وتلاحقنا بالاشمئزاز المتواصل بل وتقذف علينا نظراتهم وابل العتاب والغيظ … وكان الحل الوحيد … أن أتجاهل ما يحدث وأستمر في نقائي تجاه من أحب … ثم اننى لا أجد سببا للابتعاد عنه … يحبنى … ويحب اللعب معى … لايؤذينى … يعلمنى الكثير والجديد من الألعاب … هو من دفعنى للاشتراك في هذه المجموعات … لم يكذب على … لم يضمر لى شرا … ولكن " الخولى " كان له رأى آخر … إذ كان من من نطلق عليهم " متدينين " وكان شديد الكره للمسيحيين بل كان يسئ الى درجات بعيدة في معاملتهم … وذات مرة واجهنى : ـ حسك عينك أشوفك قاعد بتاكل مع الواد ده تانى فاهم ولا لأ ؟ ـ ليه ؟ هوه غلط ؟ أنا بأستريح معاه … تركنى ولم يجيب لكنه توعد بأن يخبر والدى فعرفت أن اجابتى البريئة المستفهمة لم تريحه … !! وهنا بدأت أكتشف سببا آخر لتعلقى بصديقى وهو اننى أمنع بقسوة وشدة عنه … !! وفى المساء بعد عودتى … قامت الدنيا ولم تقعد … ـ اياك تقعد مع الواد مجدى ده خالص بعد النهاردة … بقى إحنا بنمنعك من القعدة واللعب معاه تقوم تروح تاكل معاه … ؟ ـ يابا انتوا ليه زعلانين انى بالعب معاه ولاحتى باكل ده صاحبى اشمعنى يعنى ده ؟ ـ لانه كافر …… مشرك واللى ياكل معاه … يبقى زيه فهمت بقى ياسيدى ودا مش كلامى … دا كلام الرسول " من أكل مع مشرك أو سكن معه فهو مثله " !!! ـ طيب خلاص … أنا هابطل آكل معاه تانى … بس هابقى صاحبه … هاقعد معاه وألعب معاه … لاهاكل ولاهاشرب … ـ لأ ـ لأ … ليه ؟ ـ هى هى !! ـ بس أنا باحب مجدى ؟! وبعدين هو ولد طيب ومؤدب !! ـ يا محمد يابنى دا صحيح لكن الرسول منعنا إن إحنا نصاحبهم أو نحبهم دول مشركين فقال " يحشر المرء مع من يحب " انت عايز ربنا يحشرك مع الكفار في جهنم !!!! ـ لأ ـ خلاص اعمل اللى باقولك عليه . ولما جاء الصباح … كان بمثابة موعد التنفيذ … أستطيع أن أواجه أبى وكل أهل الحارة من أجل صديقى ولكنى لا أستطيع مواجهة الله من أجل كل الحارة !!! ذهبت كالعادة الى مكان تجمع الفرقة الخاصة بى …… استعدادا للذهاب الى موقعنا … ولكن كانت علامات الضيق والاكتئاب تبدو واضحة على قسمات وجهى … في نبرة صوتى … وعندما أقبل مجدى … ارتد للخلف خطوات في نفسه … قبل خطواته اللاهثة التى استمر فيها حتى وصوله الى شجرته العتيدة … التى كان دائب الذهاب إليها بمفرده من وقت لآخر …… ربما جرى هكذا ليبكى وربما لينفرد بنفسه ليفكر في سبب تحولى عنه … وربما …… وربما … وعندما جاء وقت الغذاء … أخذت طعامى وذهبت بعيدا وحدى …… حتى لا ير انى … وبدأت في الأكل ……… " بسم الله الرحمن الرحيم " وسمعت …… " باسم الأب والابن والروح القدس اله واحد آمين " لم أعبأ بوجوده وقبل أن أضع في فمى أول" لقمة " وجدت من يقول لى : ـ إيه يا محمد انت هتاكل من غير ى مش عاويدك ؟! (رافعا رأسي مواجها له فإذ بمجدى وعلى فمه ابتسامة غير مكتملة فقلت له باقتضاب ): ـ مجدى أنا مش هاكل معاك تانى من النهاردة ماشى ؟ ـ إيه ؟ انت بتقول إيه يا محمد ؟ ـ مش هاكل معاك تانى … كل واحد ياكل لواحده وأرجوك بلاش تسلم على قدام الخولى … ـ ليه يا محمد ؟ ـ ماعرفش هو كده وخلاص …… اسمع الكلام واسكت فلم أجروء على إخباره بأنه سئ في عينى الله وسيحشر في جهنم … وظل مجدى ينظر الى وأنا متعمد أن لا أنظر الى عينيه … استمر هذا الوضع قليلا ثم قرر مجدى الفوز بكرامته والابتعاد عنى … وذهب مجدى الى مكان بالقرب منى وتبادلنا النظرات الحاسرة وفى داخلى أتسائل …… ما هذا الذى يحدث لنا …… !؟ لماذا يرضى ويسر الله لهذا !!؟ وما أن مرت لحظات إلا وقد وجدت هجوم أعضاء الفرقة نحوى لمشاركتى الطعام ……… فتسائلت : ـ ما الذى حدث ؟ فلقد كنت أطلب منهم مرارا كثيرة أن يأتوا ويشاركوني أنا وصديقى مجدى ولكنهم كان يرفضون فما الذى حدث …… ؟؟ ـ براوة عليك ياد يا محمد …… طردت النجس ده بعيد لواحده … !! وساد الفتور علاقتى بمجدى وشيئا فشيئا وجدت نفسى أفقد حبى له واهتمامى به ومحاولة لقاءه … لا أدرى !؟ ولكن ربما كان الفوز بالجنة أفضل بكثير من مصافحة مشرك !! وانتهت المرحلة الابتدائية هكذا …… فحب الله أغلى من حب أى مجدى …… انتقلت إلى المدرسة الإعدادية …… وكانت المدرسة تبعد عن القرية بحوالى عشرة كيلو مترات فقريتنا بها مدرسة وحيدة ابتدائية ومن يريد إكمال مسيرة التعليم عليه مسيرة نحو عشرة كيلو مترات يوميا ذهابا وإيابا للمدينة المجاورة . وساد الاعتقاد لدى اننى ببعدى هذا عن القرية سأنجح في اختيار أصحابى بعيدا عن أبراج المراقبة الأبوية …… ولكن لم أكن وحدى …… فقد كان معى كثير من الطلاب من حارتى …… ينقلون أخبارى لوالدى عندما يطلب منهم ذلك وبعد فترة أصبح ذلك يتم بدون أن يطلب منهم …… …………………………………………………………… وكنت أشغل نفسى فى طريق عودتى من المدرسة بعد البيوت …… كم بيت في حارتنا …… !؟ بدأت العد وواصلت العد حتى اكتشفت انهم 75 منزلا بطول الحارة . وذات يوم فكرت بأن حارتنا " حارة النصارى " هكذا تدعى …… فقررت أن أحصى عدد المنازل المسيحية وأحصى كذلك بيوتنا نحن …… فكانوا خمسة عشر منزلا لنا …… وستون بيتا لحاملى لقب الحارة …… !! ولكنى اصطدمت بواقع عمرى فيها فهى " حارة المسلمين " إنها حارتنا فهى حارة الإسلاميين …… نعم فالنصارى فيها كثرة بلا صوت بلا فعل بلا ……………………………………………… .. …………………………………………………………… كـان والـدى يمثـل القطب الأكبر بالنسبـة للمسلمين … وعلى الطرف الآخر فالمعلم فوزى هو القطب الأكبر للمسيحيين وكان كلاهما موضع احترام وتقدير في عشيرته أو طائفته …… وهم أصحاب النفوذ في فض اشتباكات ونزاعات أهل الحارة من الطائفتين . كانت كل الأنظار تتجه نحو منزلنا ومنزل المعلم فوزى ولكن شتان الفرق بين كل منهما …… فمنزل المعلم فوزى الواسع والمؤسس تأسيسا جيد هو تماما عكس منزلنا المتواضع …… وكثيرا ما كنت أسأل نفسى وفى يوم من الأيام قررت أن أسأل والدى : ـ ليه بيتنا فقير وشكله وحش والبيت بتاع المعلم فوزى حلو وهو كافر ومشرك واحنا اللى ربنا بيحبنا اشمعنى يعنى يابا !؟ ـ هما ليهم الدنيا بنعيمها …… واحنا لينا الجنة بريحها ……… !!! وبالتأكيد لم تعجبنى الإجابة !! وقد مكننى وضع والدى القيادى هذا من الاضطلاع عن قرب على كل خبايا القرية ومشاكل الأسر بكـل تفاصيلهـا والـتى دائما ما تشير الـى مدى تقدمهم أو تخلفهم وقدرتهـم على حـل النزاعات وفهمهم لها ……… والتى تنم كذلك عن مدى التناقض الغريب الذى يسرى في عروقهم وكم الزيف الذى يسترون به وجوههم …… كان ما يميز بيوتنا عن بيوت المسيحيين أثناء النزاع هو الصخب والعويل والصياح … وكنت أعجب بادئ الأمر ولكن سرعان ما أقنعت نفسى بأنه وضع اضطرارى للنصارى يعيشونه رغما عنهم خوفا من غضب المسلمين عليهم ……… إن هم تسببوا في إزعاج جيرانهم الملكيين " المسلمين " !! كنت أرقد في ذلك العصر عندما أفاقت الحارة بأجمعها على صراخ شديد وتنابذ بالألفاظ فخرج الجميع للبحث عن مصدر هذا الصراخ وسببه … وكان هذا الصراخ يأتينا من لدن منزل المعلم عبده الجزار … وكانت زوجته هى التى تصيح وتصرخ وعندما وثبت الى النافذة لأرقب ما يحدث …… وجدت زوجة المعلم عبده تهرول الى منزلنا للاستغاثة بوالدى …… وخلفها يجرى أطفالها ويبكون بشدة وهم يتبادلون السقوط أثناء الجرى …… صحيح لم تكن هذه هى المرة الأولى ولكن هذه المرة كانت أشد هولا …… لدرجة جعلتنى اندفع الى الباب مستقبلا إياها لأسألها : ـ في إيه يا خالتى ؟ ـ فين الحاج يا محمد …… اندهللى الحاج قوام أبوس ايدك … ( كان والدى قد خرج لتوه من غرفته يكمل إسدال جلبابه …… هدأ والدى من روعها وأجلسها …… وطلب من أمى أن تحضر لها كوبا من الماء ) …… ـ واعملي لنا كوبيتين شاى يا أم أحمد . مالك بقى يا أم سيد ؟ اهدى كده واحكيلى اللى حصل … ـ أحكيلك ايه يا حاج ؟ هى دى أول مرة ما هو على يدك …… استمر الحديث الذى يدور دورته كل مرة في نفس الاتجاه فلقد كان دائم الشجار معها وفى كل مرة يصلح بينهما والدى ويتعهد المعلم عبده بعدم تكرار ما بدر منه بلا فائدة !! وسرعان ما تمر الأسابيع حتى يحدث ما قد حدث من جديد …… والذى أحيانا يصل للعنف وكالعادة جاء عم عبده ليأخذ زوجته وكأن شيئا لم يكن كما اعتاد . ـ يا راجل خللى عندك دم …… احترم دقنك الى مالية وشك دى يا شيخ دا انت حتى لسه حاجج بيت ربنا …… بص يأخى للنصارى اللى قدامك …… ضحكتهم علينا كل شوية . ـ أنا محقوق لك يا حاج ـ قوم خد مراتك وطيب خاطرها بكلمتين قوم …… قومى معاه ياللا يا أم سيد وان حصل حاجة تانى أنا اللى هأقف له . لم يمضى سوى أربعة أيام حتى تكرر ما حدث …… نفس الصراخ ولكن هذه المرة كان يضرب أولاده لانه علم بأنهم يدخنون …… وتطورت الأحداث فامسك عليهم السكين ليهدد به ابنه فهرعت إلينا زوجته طالبة النجدة . وخرج والدى مسرعا إلى منزل المعلم عبده ليفجأه المعلم فوزى وتقابل الاثنان معا على باب المنزل : ـ ايه اللى جابك هنا ياسى فوزى ؟ ـ باحاول أساعد يا حاج ـ طب مالكش صالح بيناتنا احنا نقدر نحل مشاكلنا من غيرك انت جاى تشمت فينا …… هى دى عادتكم يا مسيحيين …… شغل الكهانة دا …… تحبوا تصطادوا في الميه العكرة . عندها انسحب المعلم فوزى الى منزله يضرب كفا على الآخر هذا وقد توقف المعلم عبده عن ما كان يفعله على صوت والدى ينهر المعلم فوزى …… !! ثم ما أن لبث المعلم عبده يهدأ ـ ايه اللى حصل يا معلم ؟ ـ ابن الكلب قال بيشرب دخان ـ يعنى يا معلم عبده بتلوم ابنك ع الدخان وانت بتشربه ازاى يا راجل ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) ـ كمان يا حاج ابنى الأيام دى ماشى مع توفيق ابن المعلم فوزى النصرانى . ـ بص يا معلم ولاد المعلم فوزى والشهادة لله ولاد كويسين قوى ومتأدبين كويس ومفيش واحد فيهم بيشرب دخان وشطار في مدارسهم اياكش بس انهم نيلة مسيحيين …… !! عاد والدى للبيت شارد الذهن لا أدرى في ماذا ؟ حتى أنه لم يدرك أو يشعر بوجود خالى عندنا … إذ قد جاء لزيارتنا من القرية المجاورة: ـ مالك يا حاج في ايه ؟ ايه اللى شاغل بالك ؟ ـ أهلا …… أهلا … .. يا حاج سعيد … . لا مؤاخذة …… حاجة غريبة ياخى المعلم عبده الجزار عاوز يذبح ابنه عشان بيشرب دخان وآل ايه شافه كمان ماشى مع الواد توفيق ابن المعلم فوزى المسيحى . ـ طيب مالمعلم عبده نفسه بيدخن برضوا ! ـ تعرف يا حاج سعيد أنا ايه اللى شاغلنى ؟ ـ ايه يا حاج ؟ ـ العيال ولاد المعلم فوزى النصرانى عيال شطار وطيبين وبينجحوا كل سنة وعيال متأدبة وعيالنا احنا متنيلين بستين نيلة … أنا عارف ولاد فوزى دول ماكنوش مسلمين ليه !؟ ـ هدى نفسك يا حاج كده: الأدب والأخلاق مالهومش دعوة بالدين خليها على الله … انت عارف ولاد فوزى دول لو بقوا مسلمين هيكونوا عاملين ازاى يعنى ؟ ـ هيكونوا مفيش بعد كده ـ أبدا ماهم ولاد المعلم عبده ليه ما بقوش كويسين … . ماهم ماشين معاهم … . عاوز الحق … يبقوا زى ما هما أحسن !! |
|