الله والشر والمصير |
الله والشر والمصير كوستى بندلى 1993 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمةدافعنا للكتابة:هذا الكتاب مكوّن من مجموعة من مقالات كُتبت بين حزيران 1982 وكانون الأول 1991, وقد استعيدت هنا وبُوّبت وأُدخل عليها بعض الإضافة والتعديل, وكانت تقوم على أسئلة يطرحها الشباب حول كل ما يتصل بالإيمان الأرثوذوكسى, وعلاقته بفكرهم وحياتهم, ثم يشاركون فى الإجابة عنها تحت إشراف محاضر ( وقد كنت واحدًا من هؤلاء المحاضرين ) كان ينسق مداخلاتهم ويختتمها بعض يلقيه حول السؤال المطروح.
هذا وإذا تمعنّا فى الأسئلة التى انطلقت منها مواضيع الكتاب, لفتت نظرنا صورة عن الله تُستشف من خلالها, وهى صورة إله جبار منتقم " يُنزل غضبه على الإنسان" و " يقتل فى سبيل التأديب" و " يرسل إلى جهنم" و يضحى بابنه الوحيد لارضاء عدالته المهانة , وأخيرًا " يفنى البشرية" فى اليوم الأخير.
ذلك التصوّر عن الله استمده الشباب من محيطهم العائلى والاجتماعى وتشربوه عبر التربية التى تلقوها ( وهى تربية قمعية عادة, تستند لتبرير نهجها إلى هذا التصور وتغذيه وتخلده بآن ).
لكن الشباب لم يرتاحوا إلى هذه الصورة , رغم تليقهم إياها, لا لأنها صدمت حسّهم الإنسانى وحسب, بل لأنهم اكتشفوا ـ كما تعبر بعض أسئلتهم ـ تناقضًا صارخًا بينها وبين الصورة التى وصلتهم عن الله من احتكاكهم بالإنجيل وتأثرهم بمناخه عبر انتمائهم إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسية, فأثار هذا التناقض مشكلة لديهم ودفعهم إلى السعى لاستجلاء الحقيقة رفعًا لكا غموض.
هذا ما قادنا إلى التركيز, فى هذا الكتاب, على التعرض لصورة شائعة بين الناس, تشوّه وجه الله تشويهًا فادحًا. إنها صورة إله تُنسب إليه الشرور الطبيعية كالأمراض والمصائب والكوارث, سواء أتمّت هذه النسبة بصورة فظّة كما فى التعبير الشعبى الذى يتردد على الألسنة بشكل تمنِّ: " الله لا يضرك" ( مما يفترض أن الله كائن يُخشى ضرره وأذاه ), أو بالصيغة الملطفة التى يستخدمها المتنورون وهى أن الله " يسمح" بهذه الشرور, وكأنه يتنصل منها ويغض النظر عنها بآن ( وكأن هؤلاء, كما أشار أحد اللاهوتيين, يجعلون من موقف الله موقفًا شبيهًا بموقف بيلاطس البنطىّ عندما " غسل يديه" متنصلاً من موت يسوع المسيح ), هذا بالنسبة للشر الطبيعى.
هل الله إرهابى:أما الشر الخلقى, أى الخطيئة, فموقف الله منها, على حدّ الرأى الشائع الذى نحن بصدده, أشبه ما يكون بموقف أحدنا إذا ما لحقته إهانة, فهو متربص لمرتكبى الخطيئة ويصبّ عليهم جام غضبه وينزل بهم أشد الويلات, ويميتهم " تأديبًا", وإذا ما أصروا على عصيانه " يرسلهم" بعد موتهم إلى جهنم ويعذبهم بالنار بلا رحمة إلى الأبد.
هذا الإله " الإرهابى", الذى هو على صورة قسوة قلب الإنسان ( الناتجة عن ضعفه وعجزه وفنائيته ), بدل أن يكون نقيض الشر, إنما هو كليًا من جهته, فهو الذى يرسل الشر الطبيعى أو يتغاضى عنه, وهو الذى يعاقب على الشر الخلقى بشر أعظم, باسم عدالة هى أشبه ما تكون بالانتقام. وبالتالى , فى هذا المنظور, يكون الشر هو المنتصر الأكبر, ويكون للموت الكلمة الأخيرة فى الوجود.
الله محبة:إلا أن هذا " الإله" إنما هو على نقيض الإله الذى انكشف لنا فى تعليم يسوع وسيرته, والذى " لا نعرف آخر سواه", لأن كل تصور لله ما عداه مشوب بالأهواء والهوامات البشرية. وقد عرفنا بيسوع المسيح أن: [ اللهَ مَحَبَّة ] و [ وَمَادَامَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَذِهِ الْمَحَبَّةَ اَلْعَظِيمَةَ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً أَنْ نُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً ] [ 1يوحنا 4: 8, 11 ]. وأن المحبة اسمه الفريد وصفته المميزة. من هنا أن هذا الإله لا يرسل الشرور الطبيعية .... بل لا يجوز أن يقال أنه " يسمح بها", ما يسمح به بالحقيقة هو أن توجد الخليقة فعلاً لا شكلاً, أى أن لا تكون مجرد ظل له, مما يفترض أن يمدّها بالوجود ( وإلا لما كانت ) وأن ينسحب منها بآن ( وإلا لما كانت متمايزة عنه, أى لما كانت فعلاً ). هذا ناتج عن كون الله محبة وعن كون الخلق هو فعل محبة, ومن شأن المحبة أن تقيم المحبوب بإزائها وأن ترفض تذويبه فيها وإلغاء فرادته. لكن ارتضاء الله بأن توجد المخلوقات, يعنى السماح لها بأن توجد بما لديها من خصوصية, أى بما تتسم به من محدودية ناتجة عن طبيعتها كمخاوقات صادرة من العدم وبالتالى بعيدة عن كمال الوجود. وبعبارة أخرى السماح بأن تكون الكائنات الطبيعية ناقصة وبأن تكون العاقلة معرضة إلى جنوح حريتها, هكذا فإن الله, إذ ارتضى الخليقة, قيد قدرته الإلهية, إذ قبل أن تجد هذه القدرة لها حدودًا ترسمها محدودية المخلوقات, وهذا ليس تعبيرًا عن ضعف فى الله, كما قد نتصوره, بل عن هذه القدرة المذهلة لديه أن يعلو فوق اقتداره بدل أن يكون أسير هذا الاقتدار. سر الشرّ ( بوجهيه الطبيعى والخلقى ), هذا السرّ الذى لا يمكن لأحد أن يدّعى جلاءه بالكلية إنما جلّ همنا هنا أن نتصدى للتعابير المشوهة عنه, هذا السرّ إنما هو كامن فى ذلك الاحترام, المحيّر لمداركنا, الذى يبديه الله لواقع مخلوقاته المحدود, وفى إحجامه عن أن يغتصبها اغتصابًا.
ولكن الله, لكونه الخير المطلق والمحبة المطلقة, لا يمكنه أن يكون حياديًا حيال الشر الناتج عن محدودية مخلوقاته, كما توحى العبارة القائلة بأنه " يسمح" بهذا الشرّ ... كلا, فالشر نقيض الله ولا يمكن أن يقف منه الله موقف الحياد, إنه طعنة له فى الصميم ... والله يعانى من هذه الطعنة ( وإن كانت كيفية هذه المعاناة تفوق مداركنا وتتجاوز تصوراتنا ) كما انكشف لنا فى صليب يسوع المسيح ... إن ارتضاء الله بأن توجد الخليقة فعلاً لم يكن إذًا قبولاً بحد قدرته الإلهية وحسب, بل كان أيضًا دخولاً بمعاناة هى بمثابة صليب الجلجلة سوى أبلغ ترجمة له فى التاريخ البشرى ...
قصة الخليقة:من هذه الزاوية, ومنها فقط, يمكن أن نفهم مأساة الشرّ الخلقى, أى الخطيئة, على حقيقتها. فقصة الخطيئة ليست قصة عصيان وعقاب, إنها قصة حب مرفوض يعذّب المحبوب والمحبّ معًا. فالموت, بمعناه لا البيولوجى بل الكيانىّ, ليس قصاصًا ينزله الله بالإنسان, بل نتيجة محتومة لاغتراب الإنسان, بالانغلاق والرفض, عمّن هو ينبوع حياته, وضياعه, من جراء ذلك, فى صحراء العزلة والعقم والجفاف والعطش ... الله, بهذا المعنى, لا يحكم على الإنسان ولا يدينه, إنما الإنسان يحكم على نفسه بالجدب والتلاشى ... وما أبدية جهنم إلا ترجمة لهذه القدرة الرهيبة التى خُوّل الإنسان إياها, بأن يقول, إذا شاء ( ولكن هل يشاء؟ ), " لا" لله إلى الأبد, تلك القدرة التى هى الوجه الآخر, المظلم, لقدرته على أن يستجيب بحرية لنداء الحب الذى يخاطب به الله قلبه, فيسعد بلقائه إلى الأبد ...
فلا بدّ للحرية المخلوقة من أن يكون لها هذان الوجهان, والله, إذ ارتضاها, دخل , بسابق علمه المطلق, فى التعرض لرفض المحبوب له, بما يعنيه هذا الرفض من شقاء, لا للإنسان الرافض وحسب, بل لله أيضًا الذى, بما أنه يحب الإنسان أكثر مما يحبّ الإنسان نفسه, يشقى بالتالى لشقائه أكثر مما هو يشقى به ...
الله معاديًا للشرّ:لكن الله ليس معاديًا للشر فحسب, إنه مقاوم له أيضًا, هذا ما يشير إليه وجهـا السرّ الفصحىّ: صليب وقيامة ... إن احتجاب الله الظاهرى عن الخليقة ( كى يدعها تكون, كى لا يذيبها ذاته ) مقرون بحضور خفىّ فى قلبها, حضور لولاه لما كانت أصلاً ولما استمرت فى الوجود... هذا الحضور ( هذه " الطاقات الإلهية" المنبثّة فى الموجودات ) يوجّه الخليقة بخفر بدل أن يغتصبها اغتصابًا, ويسمو بها تدريجيًا فوق نواقصها وحدودها ... ولنا فى الخط التصاعدى الذى سلكه تطور المادة والحياة فى الكون رغم عثراته, صورة عن هذا التوجه الإلهى الخفى, الفاعل من خلال نواميس المادة ... ولنا فى المنجزات التى حققها تدريجيًا الرقىّ الإنسانى عبر آلاف من السنين, فى مجالات تنظيم الطبيعة وتحسينها وتجميلها, ومكافحة المرض والبؤس والظلم, وإحقاق القيم الحضارية من معرفة وفن وعدل وأمن ورفاهية, صورة عن كيفية إكمال الله لعملية الخلق من خلال الإنسان " صورته" , على حد تعبير الكتاب المقدس, " وخليفته", كما ورد فى القرآن... ولنا فى خطّ الوحى, الذى تُوّج بيسوع المسيح وبالكنيسة التى هى امتداده فى التاريخ, صورة عن تربية الله المتأنية, الصبورة, للإنسان, بغية مساعدته على التحرر من شروره وعلى إحقاق إنسانيته وفق المثال الإلهى ... ولم يكن موت يسوع المسيح, فى هذا المنظار, وسيلة لإخماد الغضب الإلهى, بل كان تتويجًا لنهج حياة كشفه الله لنا فى إنسانية يسوع المسيح, نهج محرّر من انحرافاتنا المميتة وقادر, إذا ما تمثلناه, أن يعتقنا منها وأن يعيدنا إلى أصالتنا الإنسانية...
هكذا يعانى الله ( على طريقته الإلهية التى تفوق إدراكنا ) ما نعنيه من شرور, ويكافحها معنا بآن. ولأنه يكافحها, فالكلمة الأخيرة لن تكون للشرّ بل له. لأنه وحده حقيقة الوجود, ولأن الشر لا حقيقة كيانية له, بل هو مجرد تزييف للوجود, يحيا منه ويشوهه بآن, كما تستمد الطفيليات حياتها من الكائنات الحية التى تعيش على استغلالها وتدميرها. انتصار الله النهائى على الشر, الذى هو أيضًا انتصار الإنسان, هو ما سوف يتجلى فى " اليوم الأخير", الذى به سيتوّج الله عملية تجديد الكون التى بدأها منذ القديم والتى دُشِّن اكتمالها بقيامة المسيح, وللمؤمنين رجاء, عبّر عنه أبرار كبار فى المسيحية والإسلام, بأن لا يبقى أحد خارج هذا التجديد, وبأن تعود كل حرية منحرفة عن انحرافها وتقبل إلى الله فى مصالحة شاملة يكتمل بها فرح الله بانتصار الحياة فى كل إنسان ... هدف الكتاب:تلك هى صورة الله التى حاولنا أن بيرزها من خلال صفحات هذا الكتاب. إنها تشكّل لحمته وحصيلته, ونرجو أن تتوضح للقارئ كلما تقدم فى مطالعة هذا المؤلف الذى حاولنا قدر الإمكان أن تأتى لغته خالية من التعقيد ومفهومة من إنسان اليوم. نأمل أن تكون هذه الصورة الإنجيلية مبيدة لأوهام طالما تساورما وتشوه علاقتنا بالله وبالتالى علاقتنا بالناس. نأمل أن تكون نورًا للقلوب والأذهان وسبيلاً إلى ألفة متزايدة مع الإله الذى كشف لنا ذاته بيسوع المسيح, وحافزًا على مزيد من الثقة بأننا محبوبون منه, وبأن حبه هذا أقوى من كل شر, وبأنه عربون لمصير نحظى به بما [ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اَللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ ] [ 1كو 2: 9 ]. إذا قبلنا أن نندرج فى تيار المحبة هذا ونقلنا لإخواتنا ما نتلقاه من حبّ. المؤلف طرابلس ـ الميناء(لبنان)فى 30/4/1993م ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الأولطبيعة الشرّ" هل الشرّ هو نتيجة غياب الخير أم أن الخير والشر وُجدَا فى وقت واحد؟". خلافًا للمذهب الثنوى الذى يقول بصراع أزلى بين الخير والشر, تؤكد المسيحية أن لا وجود أصيلاً إلا للخير وأن الشرّ ما هو إلا انحراف عن الخير.
أولاً: نظرية التصارع الأزلى بين الخير والشرّ.1ـ تقديم هذه النظرية: قوة الشرّ واستفحاله ومقاومته الضارية للخير قد توحى, وقد اوحت فعلاً, بأنه مبدأ أزلى يتصارع مع مبدا أزلى آخر وهو الخير. هذا ما نراه فى مذهب الزراداشتية الذى يقول بتصارع بين إله الخير أورموزد وبين إله الشر اهريمان, كما أننا فى عدة مذاهب " غنوسية" ( مذاهب المعرفة) , كالمانوية وسواها.
2ـ نقد هذه النظرية: I. أن هذه النظرية, بافتراضها وجود إلهين, تناقض طبيعة الألوهة وتتنكر لها. فالله, إما أن يكون المطلق وملء الوجود ( وهذا ما يقتضيه, من جهة, تعليل توق الإنسان إلى المطلق, ومن جهة ثانية, طبيعة الكائنات التى تحتاج أن تستمدّ وجودها العرضىّ من وجود مطلق ), وبالتالى أن يكون ذاك الذى لا يحدّه أى وجود آخر, أو أن لا يكون.
II. أن هذه النظرية تتجاهل كون الشرّ لا يستمد وجوده إلا من تستره بالخير وتقنعه به. إنه سعى إلى الخير يخطئ المرمى ويضلّ الطريق, فالإنسان, من خلال الشرور التى يرتكبها, يسعى إلى قيم خيّرة بحد ذاتها, كالسعادة والطمأنينة والقوة وتأكيد الذات, أى أنه يسعى إلى تحقيق وجوده على أكمل وجه, ولكنه يضل الطريق إذ يعتقد أن تحقيق وجوده يتم عن طريق التسلط أو الطمع أو الاستغلال أو الاعتداء أو السكر أو الشراهة أو الفسق أو الادمان أو الكسل ... فيما أن كل هذه الممارسات تدمرّ بالفعل إنسانيته وتنتقص بالتالى من وجوده. ليس الشرّ إذًا شيئًا قائمًا بذاته, إنما هو تزييف للخير وانحراف فى طريق السعى إليه.
3ـ من هنا إن الإنسان, إذا اهتدى إلى الخير بعد انصرافه إلى الشرّ, لا يشعر بأنه تغرب عن ذاته أو عن جزء من كيانه, بل أنه حقق اكتمال كيانه واهتدى إلى ذاته الحقيقة التى كانت محتجبة عنه ردحًا من الزمن, وأنه وجد ضالته التى كان عبثًا ينشدها إذ كان يفتش عنها فى غير موضعها, وأنه تحوّل من السراب الخادع إلى الحقيقة التى تروى وحدها عطش كيانه.
ثانيًا: نظرة مسيحية إلى الخير والشر والعلاقة بينهما:1ـ هناك مبدأ واحد للوجود:ليس من مبدأين للوجود, إنما هناك مبدأ واحد, وهو الله الذى هو بطبيعته ملء الخير والصلاح. فى النظرة الكتاابية, ليس الشيطان صنوًا لله, ليس إلهًا بل مخلوقًا.
2ـ الخليقة صالحة فى الأساس:الخليقة, من حيث أنها تستمد وجودها من الله, إنما صالحة فى الأساس: [ وَرَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً ] [ تكوين 1: 31 ]. والشيطان نفسه, فى النظرة الكتابية, كان فى الأساس ملاكصا نورانيًا يُدعى " كوكب الصبح". وقد ورد فى سفر الحكمة: [ فَإِنَّك تُحِبّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ, وَلا تَمْقُتْ شَيْئًا مِمَّا صَنَعْتَ, فَإِنَّك لَوْ أَبْغَضْتَ شيْئًا لِمَا كَوَّنْتَه, وَكَيْفَ يَبْقَى شَئ لَمْ تُرِدْه؟ , أَمْ كَيْفَ يُحْفَظ مَا لَمّ تَدْعُهُ؟ , إِنَّك تُشْفِق على كُلّ شَئّ , لأَنَّ كُلّ شَئْ لَكْ, أَيُّهَا السَيَّدِ المُحِبّ لِلْحَيَاةِ , فَإِنَّ رُوحَكْ غَيْر القَابِلِ لِلْفَسَادِ هُوَ فِى كُلّ شَئّ ] [ سفر الحكمة 11: 23 ـ 26 , 12: 1 ]. وكتب أحد شارحى الكتاب المعاصرين: " إن المؤلف ( الكهنوتى لرواية الخخليقة ) يردّد كما تردّد لازمة: [وَرَأَى اَللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ] [ تكوين 1: 10, 13, 21, 18, 25]. ويخلص قائلاً: [ وَرَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً ] [ تكوين 1: 31 ]. ولسوف يجد هذا التفاؤل مقابله عندما سيلاحظ الكاتب نفسه تكاثر الخطايا البشرية : [ وَفَسَدَتِ اَلأَرْضُ أَمَامَ اللهِ وَاِمْتَلأَتِ اَلأَرْضُ ظُلْماً. وَرَأَى اَللهُ اَلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى اَلأَرْضِ ] [ تكوين 6: 11, 12 ]. إنما الخليقة, بحد ذاتها, ينبغى أن لا تُصوّر حلبة صراع تتجابه فيها مبادئ متعارضة, صالحة وشريرة. كل أسطورية ثنوية غير واردة, لأن الله لم يعمل إلا ما هو حسن. إن هذه النظرة إلى الأشياء تتعارض مع أسطورة الخلق البابلية وتقف على نقيضها, ويجدر هنا التذكير بأن التاريخ المقدس الكهنوتى كتب أثناء نفى اليهود إلى بابل, كردّ فعل ضد الوثنية المحيطة ...".
3ـ الشر ينتج من كون الخليقة متمايزة عن خالقها:فإن كان الله لا يصدر عنه إلا ما هو حسن ... من أين يأتى الشرّ إذًا؟ ... الشرّ ناتج من كون الخليقة, وإن كانت تستمد وجودها من الله, متمايزة عن خالقها, ومن كون الخالق يحترم هذا التمايز, هذه الخصوصية التى لولاها لما كانت الخليقة قائمة فعلاً بل تحولت إلى مجرد ظل وامتداد للخالق... فالله يمدّ الخليقة بالوجود وينسحب منها بآن, كى يتسنى لهذا الوجود أن يقوم بحد ذاته ... ينسحب منها كما ينسحب البحر لتوجد القارات, يقول أحد اللاهوتيين فى صورة معبرة: " يحتجب ويتوارى كى تقوم لوجود الكون قائمة. يرتضى بالتالى بان يكون لوجود الخلائق نمطه الخاص المتميز عن نمط وجود الخالق. ومن طبيعة هذا النمط الخاص بالخلائق أن يكون عرضة للاضطراب, وبالتالى للشرّ, لأنه بالضبط متمايز عن كمال الخالق. هذا علمًا بأننا ندرك بالإيمان أن الله يعمل باستمرار فى صميم الخليقة موجهًا إياها نحو أقصى ما يمكن لطبيعتها أن تبلغه من كمال, إنما عمل الله هذا عمل تدريجى وطويل النفس لآنه يراعى طبيعة الكائنات ولا يغتصبها اغتصابًا ويحرص على أن يصنع الكون نفسه بمعنى من المعانى عبر تطوّر ومخاض, على منوال المربى الحكيم الذى لا بدّ وأن يراعى تدرّج مراحل المنوّ لدى الذين يرعاهم.
4ـ نوعا الشرّ: طبيعى وخُلُقىّ ( ناتج عن انحراف الحرية ):هذا الشرّ الناتج عن تمايز الخليقة, إنما على نوعين, طبيعى وخلقىّ:
أـ الشر الطبيعىّ : كالكوارث الطبيعية والأمراض وقسوة الصراع من أجل البقاء وناموس الموت والفناء. هذه الشرور الطبيعية تسبب آلامًا كثيرة وتسحق العديد من الكائنات.ولكن لا يصح أن يُقال أنها من الله تأتى, بل الحق" أنه لا يمكنها أن لا تكون, لأن الكون ليس الله"... لا بل لا يصح أن يُقال, كما نسمع عادة, بأن " الله يسمح بها", لأن الله, إذا سحق ناموس الكون الأبرياء, لا يتجلى , كما يوضح الفيلسوف الآرثوذكى الكبير نقولا بردياييف, إذ ذاك فى ناموس الكون بل فى آلام الأبرياء... وقد عرفنا, فى يسوع المسيح, أن الله يعانى معنا, وأكثر منا بكثير, من كل الشر الذى يفتك بالأرض, [ الفيلسوف الكاثوليكى الكبير جاك ماريتان ] , وبأنه هو " حاضر مصلوبًا على كل شر الكون" حسب تعبير أوليفيه كليمان.
ب ـ الشرّ الخلقىّ: وهو وليد الحرية التى يمنحها الله للكائنات العاقلة على صورة حريته ( من أجل محبته الخاصة لتلك الكائنات التى جعلها على شبهه وأعدها لاتصال شخصى به وإلفة معه ), ولكنها حرية مخلوقة, وبالتالى غير كاملة, ولذا فهى عرضة للجنوح والاضطراب, وبعبارة أخرى فهى عرضة للشر.
يقول اللاهوتى الأرثوذكسى كالّيسوس وار: { ... حاصل الكلام, لماذا سمح الله للملائكة والإنسان بأن يخطئوا؟ ... نجيب: لأنه إله محبة, المحبة تعنى المشاركة.المحبة تعنى أيضًا الحرية. الله, وهو ثالوث محبة, كان يرغب بأن يشرك فى حياته أشخاصًا مخلوقين, مصنوعين على صورته, وقادرين أن يجيبوه بحرية عبر علاقة حب. حيثما لا توجد حرية, لا يمكن أن يوجد حب. الإكراه ينفى الحب. وكما كان بول أفدوكيموف يقول: الله يستطيع كل شئ ... إلا إرغامنا على محبته. لذا فإن الله, إذ كان راغبًا فى مقاسمة حبه, لم يخلق كائنات آلية تطيعه آليًا, بل ملائكة وبشرًا زودّهم بالحرية. ومن جراء ذلك عينه, فقد خاض مجازفة, إذ مع هبة الحرية هذه وردت أيضًا إمكانية الخطيئة, ولكن الذى لا يجازف لا يحب فعلاً ... لولا الحرية, لما كانت خطيئة, ولكن لولا الحرية لما كان الإنسان على صورة الله. لولا الحرية, لما كان الإنسان قادرًا أن يشارك الله فى علاقة حب }.
وقد كتب لاهوتى أرثوذكسى آخر: { كما بيّن دوستويفسكى بشكل رائع فى أعماله الروائية, حتى الشرّ الذى نفعله يذيع مجد الله لأنه مؤشر حريتنا التى بتحوّلها المفسد إلى تعسّف, إلى تأكيد متمرد للذات, تقودنا إلى الشرّ. الشر, برأى دوستويفسكى, دليل على أنه يوجد, فى كيان الإنسان الشخصىّ, عمق هو عمق الحرية, عمق يذيع, بصفته هذه, مجد الله }.
5ـ انحراف الحرية إلى الشر يأتى من سعيها إلى خير زائف:أما انحراف الحرية الإنسانية نحو الشرّ, فإنه يتمّ من خلال سعيها إلى خير زائف لأنه جُعِل فى غير موضعه. ويحصل هذا الانحراف بموجب النمطين التاليين, المتكاملين: أ ـ التوقف عند الذات الراهنة:فقد يتوقف المرء عند ذاته الراهنة ويضفى على هذه الذات صفة مطلقة ويعتبرها محورًا للوجود. ولكنه, من جراء هذا الموقف, يسئ إلى ذاته معتقدًا أنه يسعى إلى خيرها, وذلك لكونه, بموقف هذا, يحجّمها, يقزّمها, يحكم عليها بالتقوقع وبالتالى بالاختناق, لأنه يحول دون انفتاحها على الآخرين وعلى الآخر المطلق ( أى الله ), ودون اتصالها بهم وانطلاقها من جراء ذلك فى رحاب المشلركة التى لا حياة لها حقيقية بدونها, لأن الإنسان, تحديدًا, هو ذاك الذى يشارك ولا يحقق إنسانيته إلا بالمشاركة. فمن تعبّد لذاته المحدودة يحول دون ولادة ذاته الواسعة, الرحبة, الغنية, المنتعشة, التى لا تتحقق ألا بتجاوز الإنسان لنفسه دون إنقطاع: [ مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا ] [ لوقا 17: 33 ].
ب ـ عزل رغبة من الرغائب وتضخيمها:هذا التأليه للذات كثيرًا ما يتمّ عن طريق عزل رغبة من الرغائب, وإضفاء صفة الإطلاق عليها على حساب الرغائب الحيوية الأخرى التى يجرى تجاهلها وطمسها, مما يؤدى إلى تعبئة الطاقات كلها لتلبية حاجة جزئية تتضخم بشكل سرطانى فتمتص الحيوية كلها وتحول دون تحقيق متكامل للكيان الإنسانى يحفظ توازنه وانسجامه وياخذ بعين الاعتبار كل أبعاده ومقوماته. هكذا ينقلب الخير المبتور, المحجّم, المنعزل, ذات الأفق الضيق, إلى شرّ.
فالحاجة إلى التملك مشروعة شرط أن تقترن بالسخاء, الذى يلبى حاجة المرء إلى العطاء. والحاجة إلى تأكيد الذات مشروعة شرط أن تقترن بمراعاة ذات الآخر والانفتاح إليها واحترامها ورعايتها, ذلك الآخر الذى احتاج إلى إيلائه أهمية لأنى به وحده اغتنى وبدونه أبقى عل هزالتى. والحاجة الجنسية أمر مشروع شرط أن تقترن بحاجتى, كى أبقى إنسانًا, إلى التوصل مع الآخر بتعهده بالحنا وبالاعتراف بفرادته. فالرغائب الإنسانية تسعى بحد ذاتها إلى غايات خيّرة, إنما تنقلب هذه الغايات إلى شرّ إذا تفرّدت إحدى هذه الرغائب واستقلت , وانعزلت , واستأثرت بطاقات المرء على حساب رغبته المحورية فى تحقيق ذاته على وجه متكامل. هذه الرغائب التى تزيح الرغبة الأساسية لتحتل مكانها هى ما يُسمى بالأهواء.
6ـ عبرة مثل الزوان فى الحقل:[ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُّوُهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضاً. فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هَذَا فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ فَقَالَ: لاَ! لِئَلا تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى الْحَصَادِ وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أوَّلاً الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي ]. [ مت 13: 24 ـ 30 ]. إن هذا المثل يلقى ضوءًا كاشفًا على الموضوع الذى نحن بصدده. ما يستوقفنى فى هذا المثل أمران:
أ ـ إن الزوّان لا ينبت بشكل مستقل, إنما ينبت على حساب الحنطة, يغتذى مما هو معدّ أصلاً لغذائها. وبعبارة أخرى, إن كيانه طفيلى مستمد من كيان الحنطة ومسلوب منه. هكذا الشرّ لا يقوم إلا على حساب تحويل الطاقات الساعية أصلاً إلى الخير وتحريفها عن مسارها وغايتها.
يقول كاليستوس وار: { خلافًا للثنوية بكل إشكالها, تؤكد المسيحية أنه يوجد " خير أسمى" , أى الله نفسه. ولكن لا يوجد, ولا يمكن أن يوجد " شرّ اسمى" , ليس الشر أزليًا مثل الله. فى البدء, لم يكن سوى الله, فكل الموجودات إنما هى خليقته, سواء السماء أوالأرض, سواء الكائنات الروحية أو المادية, بحيث أنها كلها, فى حقيقتها الجوهرية, حسنة.
{ ماذا يسعنا إذًا أن نقول عن الشر؟ ... إذا كانت كل الأشياء المخلوقة حسنة بحد ذاتها, فالخطيئة أو الشرّ ليس " شيئًا" بحد ذاته, ولا كائنًا, ولا جوهرًا موجودًا ... " الخطيئة عدم", يقول لنا القديس أوغسطينوس:" الشرّ بحصر المعنى, ليس جوهرًا, إنه غياب الخير, كما أن الظلمات هى غياب النور".
{ ويؤكد القديس غريغويوس النيصصى أنه : لايوجد شرّ خارج خيار, شر يمكن رؤيته بقوامه الذاتى فى طبيعة البشر.
{ الشياطين هى أيضًا ليست بطبيعتها شريرة, كتب القديس مكسيموس المعترف, ولكنها صارت هكذا باستعمالها الردئ لملكاتها الطبيعة".
{ الشر هو دائمًا طفيلى. إنه ينتج عن تشويه شئ حسن فى منطلقه وعن إساءة استعماله. الشر يكمن لا فى الشئ نفسه, وإنما فى موقفنا حيال هذا الشئ, فى إرادتنا.
{ وقد يُعتقد أن وصف الشرّ على أنه " نقص", هو قلة تقدير لقوته وديناميته. ولكن ك.س.لويس يلفتنا إلى أن " اللا شئ قوى جدًا". القول بأن الشرّ انحراف للخير وأنه إذًا, فى آخر المطاف, وهم ولا حقيقة, ليس إنكارًا لسلطانه القوىّ علينا. ذلك أن ما من قوة فى الخليقة أعظم من قوة الخيار الحر الذى يمنحنا وعيًا وقدرة على الفهم الروحى. لذا فإن سوء استعمال هذا الخيار الحرّ يمكن أن تكون له نتائج مرعبة }. [ كاتب روحىّ انكليكانىّ 1898 ـ 1963 ].
ب ـ ما يمليه هذا التلازم الوثيق بين الخير والشر:إن هذا التلازم الوثيق بين الخير والشر فى الحياة الإنسانية يدعو إلى كثير من الحكمة والحذر, كما يشير المثل الإنجيلى الذى نحن بصدده, بتحذيره من اقتلاع الزوان قبل الأوان المناسب لئلا يُقتلع القمح معه [ متى 13: 28, 329 ].
والحكمة المطلوبة فى هذا المجال ( وهو المشار إليها فى التراث بموهبة " تمييز الأرواح" ) لها وجهان متكاملان:
· التنبه إلى الشرّ الذى قد يتستر وراء خير ظاهرىّ فمن جهة ينبغى أن نتنبه إلى أن الشر قد يتستر وراء سلوك خيّر بظاهره. فالتقوى قد تُبطن التكبر والاستعلاء ( تلك هى التقوى الفريسية ). والإيمان قد يضمر التعصب وما يتضمنه هذا التعصب من خوف وكراهية وإدعاء احواء الله وتملك الحقيقة. والطاعة والتواضع قد يُتخذان ذريعة للجثبن وستارًا للتهرب من المواجهة ومن تحمّل عبء المسؤلية. والعفة قد تخفى خوفًا من الحياة ومحاولة لاستبعاد الآخر والاكتفاء بالذات. وهلم جرا.
· التنبه إلى الطاقات الخيّرة الموظفة فى الشر: بالمقابل, ينبغى أن ندرك ـ كما يدعونا المثل الإنجيلى بشكل مباشر ـ أن السلوك المنحرف نفسه يوظف طاقات إيجابية ينبغى تحريرها من انحرافها وتوجيهها فى طريق الخير والبنيان, وأن نظرة سلبية بحتة إلى ذلك السلوك من شانها أن ترسخه فى سوئه وأن تعقّم طاقات الخير الكامنة فبه ( أى أنها تقتلع القمح مع الزوّان ), بينما النظرة المترفقة دون تساهل, والمتفهمة دون تواطؤ, والعامرة بالرجاء, كنظرة يسوع إلى الخطأة ( راجع مثلاً نظرته إلى زكا العشار: [ لوقا 19: 5 ] ), من شأنها أن توقظ وتحرر فى المرء أصالته السليبة وأن تحوّل فيه مجرى الطاقات المنحرفة وتعيدها إلى جادة الصواب وسبيل الحياة الحقة.
وقد يكون الإنسان الذى اندفع بكليته فى سبيل غرض منحرف, وجارف فى سبيله, أقرب إلى الخلاص من " الآدمى" الذى همّم الأول تجنب المشاكل واسترضاء الناس وتحاشى انتقاداتهم والمحافظة على سمعته بينهم: [مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي اذْهَبِ الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ: مَا أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّانِي وَقَالَ كَذَلِكَ. فَأَجَابَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الاِثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟ } قَالُوا لَهُ: { الأَوَّلُ }. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ ][ متى 21: 28 ـ 32 ]. [أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِداً أَوْ حَارّاً. هَكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي ] [ رؤيا 3: 15, 16 ].
قد يكون المسترسل فى حب فاسق أقرب إلى الله من ذاك الذى يحتمى ببخل من الحب محافظة على طمأنينته فيحيا فى الإكتفائية وجفاف القلب وعقمه. وقد يحوّل الأول, إذا اهتدى, زخم حبه المنحرف إلى توغّل فى أعماق المحبة الخالصة وفى دروب القداسة ( كما حصل للبارة مريم المصرية ).
وقد كتب القديس يوحنا السلّمى بهذا الصدد: { رأيت نفوسًا نجسة هائمة هيامًا شديدًا بعشق الأجسام. ولما أخذت تحفظ التوبة استفادت من تجربة العشق إذ نقلت غرامها على الرب وعلت فوق كل خوف وذاقت حب الله ذوقًا لا يشبع. ولهذا لم يقل ربنا للزانية أنك خشيت كثيرًا بل أحببت كثيرًا. وهكذا تمكنت أن تدفع عشقًا بعشق }.
من هنا أننا, فى التربية, ينبغى أن نواجه خطر الانحرافات, بالتوجه البنّاء لا بالموقف القمعّ. فالميل الجنسى البارز قد يؤول, إذا كُبت بفعل القمع, إلى شحّ فى العاطفة وقسوة القلب, أما إذا وُجه بشكل إيجابى بفعل المناخ الذى يوجده المربى بكلامه ومواقفه, فمن شانه أن يتسامى فيغذى طاقة الحب على اختلاف وجوهها. كذلك فالميل العدوانى البارز ( لدى ولد مشاكس مثلاً ) قد يؤدى, إذا كُبت بفعل تربية قمعية, إلى نشوء شخصية مراوغة ترضخ للقوة وتستأسد بالمقابل على الضعفاء ... أما إذا وُجّه بالتى هى أحسن, فمن شأنه أن يساعد على تكوين شخصية مستقلة مقدامة لا تخشى النضال فى سبيل قناعاتها, والتصدى للظلم بغية تحرير الضعفاء منه, والشهادة لما تراه حقًا وعدلاً.
الخلاصةهكذا نرى أن الشر, على فداحة واقعه المدمرّ, ليس جوهريًا... إنه نتيجة غياب الخير ... كما ورد فى نص السؤال الذى انطلقنا منه .. إنه, فى ىخر المطاف, مجرد كيان طفيلى يعطّل الخير ويشوهه وينحرف به عن مساره ... ولكنه لا يحيا إلا من زخمه .... هذه الرؤية تتطلب منا يقظة حادة وحذرًا وتمييزًا ... ولكنها تدعونا بآن إلى تغليب الإيجابية والرجاء فى موقفنا من أنفسنا ومن الآخرين ... |