الله والشر والمصير

مقدمة

الأرواح الشريرة

الخطئية: تحديدها وأنواعها

مفهوم الخطئية الجدّية

الخطئية و التوبة و الاعتراف

موقف الله من الخطئية

ما معنى الفـداء؟

الدينونة و المصير

صـلاتنا ومصـير الراقـدين

طبيعـة اليوم الأخير

حمل هذا الكتاب

عودة للرئيسية

الفصل الرابع

مفهوم الخطئية الجدّية

ما هو المفهـوم الإيمانـى المسيحى الأرثوذوكسى للخطيئـة الجـدّية؟

 

ما سوف أقدمه هو المفهوم الأرثوذكسى للخطيئة الجـدّية المتفق مع جوهـر التراث المسيحى الشرقى المستقيم الرأى:

1ـ ليست خطيئة فرد بل خطيئة الإنسانية:

ليست الخطيئة الجـدّية خطيئة إنسان فـرد انتقلت فى ما بعـد إلى ذريته...

إنما هى خطيئـة الإنسانية كلهـا فى تاريخهـا الراهـن...

فإن " آدم" ( ومعنـى هـذ العبارة : التـرابـى )...

قد خُلِق كحالـة وسطى بين العالم الطبيعى والعالم الروحى, خلق من نفس وجسد...

فهـو من ناحيـة يرتبط بالعالم الطبيعى من جهـة الجسد التـرابى, ومن جهـة أخـرى ينتسب إلى العالم الروحـى من جهة بدئـه الروحى...

فالإنسان خُلـق مغـايرًا لجميع المخلوقات الأخـرى...

فبينمـا أن جميع الحيوانات خُلقت نفسًا وجسدًا من عناصر أرضيـة, وبأمـر إلهـى...

فبالنسبة للإنسان: فقد خلق الله آدم كما جاء فى سفر التكوين

[ وَجَبَلَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ اَلأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً ] [ تكوين 2:7]...

وخُـلقت المـرأة من ضلعٍ من أضلاعـه:

[ فَأَوْقَعَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأ مَكَانَهَا لَحْماً. وَبَنَى اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ اَلضِّلْعَ اَلَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ اِمْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: { هَذِهِ اَلآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى اِمْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ اِمْرِءٍ أُخِذَتْ} ] [ تكوين 2 : 21 ـ 23]...

وهكـذا تتبـدى لنـا العلاقة الوثيقـة التى تربط الإنسان بالأرض وبالله...

وما تميزت به طبيعته الجسدية والروحية...

والمفهـوم المسيحى السليم للإنسان, أنـه يتكون من الروح والجسد معـًا, فى وحـدة وتنسيق وانسجام وترابط وثيق...

 

ومن العقائـد الأساسية فى الكنيسة المسيحية أن الجنس البشرى يـُرد فى أصـله إلى " آدم وحـواء" فهـما يمثـلان الإنسانية كلهـا( وقد كـان من عادات الشرق القـديم أن تسمّى الذريـة بـاسم الشخص الـذى كان يُعتقد أنهـا تحـدّرت منه: فمثـلاً: كلمـة " إسرائيـل", وهـى لقـب أُعـطى ليعـقـوب, أصبحـت تشير إلى ذريتـه كلهـا, إلى الشعـب الإسرائيـلى عبـر التاريخ, الذى ينتسب إلى يعـقـوب كما إلى أصـله)...

 

وهـذه العقيـدة يشهـد بهـا الكتاب المقدس, وهـى أصـل لازم وسابق للخلاص:

[ َدَعَا آدَمُ اِسْمَ اِمْرَأَتِهِ « حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ ] [ تكوين 3: 20 ]...,

 

[ وَجَبَلَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ اَلأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً.. فَأَوْقَعَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأ مَكَانَهَا لَحْماً ] [ تكوين 2: 7, 21 ]...,

 

 [ وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ اَلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ اَلأَرْضِ وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ اَلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ ] [ أعمال الرسل 17: 26]...,

 

[ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اِجْتَازَ اَلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ اَلنَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ اَلْجَمِيعُ.  فَإِنَّهُ حَتَّى النَّامُوسِ كَانَتِ الْخَطِيَّةُ فِي الْعَالَمِ. عَلَى أَنَّ الْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ. لَكِنْ قَدْ مَلَكَ اَلْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى وَذَلِكَ عَلَى اَلَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ اَلَّذِي هُوَ مِثَالُ اَلآتِي. وَلَكِنْ لَيْسَ كَالْخَطِيَّةِ هَكَذَا أَيْضاً اَلْهِبَةُ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ اَلْكَثِيرُونَ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً نِعْمَةُ اَللهِ وَاَلْعَطِيَّةُ بِالنِّعْمَةِ اَلَّتِي بِالإِنْسَانِ اَلْوَاحِدِ يَسُوعَ اَلْمَسِيحِ قَدِ اِزْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ.  وَلَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ قَدْ أَخْطَأَ هَكَذَا اَلْعَطِيَّةُ. لأَنَّ اَلْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ وَأَمَّا اَلْهِبَةُ فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ لِلتَّبْرِيرِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ اَلْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ اَلْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ اَلْبِرِّ سَيَمْلِكُونَ فِي اَلْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ اَلْمَسِيحِ.  فَإِذاً كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ اَلْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ اَلنَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هَكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ] [ رومية 5: 12ـ 18]...

 

[أَلَيْسَ أَبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّنَا؟ أَلَيْسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟] [ ملاخى 2: 10]...

 

فحسب الكتاب المقدس , فإن حالة الإنسان الأصلية كمـا يتبين لنـا مما قاله سفر التكوين فى:

[رَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً... َكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ آدَمُ وَآمْرَأَتُهُ وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ ] [ تكوين 31:3, 2: 5]...,

 

لا يمكننا أن نستنتج أن آدم خُـلق فى حـالة مطلقـة من الكمـال الأخلاقى والفكـرى...

أن الآية الأولى لا تتحدث عن الكمـال الأخلاقى والفكـرى للإنسان, بل تشير إلى أن حالة الإنسان الأولى قد صيغت وشُكّـلَت بحيث تلائم الغـاية التى خـلق من أجلهـا الإنسان...

والآية الثانية, أيضـًا, لا تشير إلى الكمـال المطلق للإنسان الأول ( آدم ) بل إلى حـالة البـر التى خُـلق عليهـا الإنسان قبـل التفتـح الخلاقى لقـواه...

 

ثم أن بولس الرسول يقول:

[ وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ اَلْجَدِيدَ اَلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اَللهِ فِي اَلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ اَلْحَقِّ ] [ أفسس 4: 24 ]

لا يشير على آدم الأول, بل إلى الإنسان الجديد كمـا يتضح من:

[ هَكَذَا مَكْتُوبٌ أَيْضاً: { صَارَ آدَمُ الإِنْسَانُ الأَوَّلُ نَفْساً حَيَّةً وَآدَمُ الأَخِيرُ رُوحاً مُحْيِياً }. لَكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلاً بَلِ الْحَيَوَانِيُّ وَبَعْدَ ذَلِكَ الرُّوحَانِيُّ. الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ. كَمَا هُوَ التُّرَابِيُّ هَكَذَا التُّرَابِيُّونَ أَيْضاً وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ هَكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضاً. وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ السَّمَاوِيِّ.] [ ا كورونثوس 15: 45 ـ 49]...

 

هنـا يميـز الرسول بولس بين الإنسان الأول ـ كإنسان ترابى ـ تقوم حياته على أسس طبيعية, وبين آدم الثانى الذى منـه يبدأ ملكـوت الروح...

وهـو أمـر لم يكن من الممكن أن يحققه بسبب الخطيئـة...

ولكنـه يتحقق فى المسيح يسوع...

 

ومن أجـل ذلك فإن الآبـاء يؤكـدون بكـل قوة نسبية الكمـال الذى خُـلق عليه الإنسان الأول, ويقارنون فى تعاليمهـم بين الحياة على مستوى آدم الأول, وبين الحياة فى الرب يسوع المسيح...

كذلك يميزون بين " حسب الصورة" و " حسب الشبه"...

وهـذه العـلاقة يصيغهـا القديس باسيليوس الكبير صياغة فلسفية, فيلاحظ أن الصـورة ليست شيئًا آخر غير الشبه بالقـوة [ Dunamei  ], وأمـا الشبه فهـو الصـورة بالفعل [  Energeia ]...

 

وعندما يقارن الآباء بين الخلقة والفـداء, فإنهم يرون بوجـه عـام أن الفـداء بالمسيح يسوع هـو استحضـار وإعـادة بنـاء صورة الله فى الإنسان..

فالقديس غريغوريوس النيصى يقول: " أن نعمة القيامة ليست إلا إعـادة الإنسان إلى حالته الأصليـة" [ Apokatastasis ]...

فإنهـم يشددون على القـول بأن حـالة الإنسان الأول فى الفـردوس لم تكـن كاملـة...

ولكـن كان ينقصهـا هبـة البنـوة والحيـاة الروحيـة فى المسيح والتى صـارت لنـا فيمـا بعـد بالفـداء...

 

وعلى ذلك فإن آدم خُلق لكى ينمـو فى الحياة الروحيـة ويصير قديسـًا وبارًا متشبهـًا بالله...

وفى هـذا يتعارض الفكـر الأرثوذكسى مع الفـكر البروستانتى الذى يرى أن الإنسان خُـلق كامـلاً جسدًا وعقلاً...

ولو أن الإنسان ـ كما يقـول البروستانت ـ خُـلق كامـلاً, فكيف نفسر سقوط الإنسان وهـو كلى القداسة؟...

ويذهب الكاثوليك إلى القول: بان البر الذى كان لآدم الأول, هو هبة فوق الطبيعة, بينما يذهب البروستانت إلى القـول بأنه بأنه كائن فى التكوين الطبيعى للإنسان...

وكـلا الرأيين يجانبان الصـواب...

فالكاثوليـك يربطـون البر بجوهـر الإنسان رباطـًا خارجيـًا ميكانيكيـًا...

وهتذا يقتود إلى البيلاجية, والتى بحسبهـا لا تفترق حالة الإنسان قبل وبعد السقوط...

ومن ناحية أخـرى, يجعـل الخطيئـة الأصليـة مجـرد فقدان للهبـات المضـافة, ويؤدى إلى القـول, بانـه منذ البداية, لا يوجـد تناسق وتناغم بين الجسد والروح, أو أن الجسد والروح يوجـدان من البداية فى حالة صراع ...

وأمـا البروستانت, فإذا كان من الصـواب أنهـم وضعـوا البر الأصـلى فى الطبيعـة, فإنهـم أخطـأوا فى إبعـادهـم النعمـة الإلهيـة التى بهـا تتقـوى الطبيعة البشريـة...

ولا يمكن القـول بأن الإنسان فى الفـردوس, من حيث هـو تام الصلاح والبر, ليس فى حاجـة إلى نعمـة الله...

 

إن مـا يُـروى فى سفـر التكـوين على أنه حصـل لآدم, إنمـا يمثّـل لما تعيشه الإنسانية التاريخيـة كلهـا...

بعبـارة أخـرى ليس آدم سببـًا لمأساة البشرية, إنمـا هو صورة لهـذه المأساة...  

 

  

2إنهـا عبارة عن موقف هو أصـل كل الخطايا:

لـذا فالأصـح استعمـال عبارة " الخطيئـة الأصليـة" بدل عبارة " الخطيئـة الجـدّية" ...

إذ أن الخطيـئة فى آدم ليست خطيئـة ارتكبهـا هـو فانتقلت منه إلينـا, ليست خطيئـة موروثة عـن الجـدّ الأول, إنمـا تمثّل الموقـف الذى هو, لـدى كـل إنسان, سواء الآن أو فى فجـر الإنسانيـة, أصـل الخطـايا كلهتا وجُـذرها...

 

3ـ هـذا الموقف هو محاولة الاكتفاء بالذات:

مـا هو هـذا الموقـف؟...

إنه محاولة الإكتفـاء بالـذات...

إنـه , كمـا يقـول اللاهـوتى الأرثوذكسى الكبير " أوليفيه كليمـان": انحـراف نرجسـى للحب المخلـوق...

أى تركيـزه المهـووس والمهـلك على الذات...

إنـه إرادتى بأن أمتلك ذاتى عـوض أن أتقبـل ذاتى هبـة من آخـر...

فى حين أن الخبـرة الإنسانية بمجملهـا تبيـّن أننـا إنمـا بالآخـرين نوجـد...

فالطفـل لا يتلقى الحيـاة وحسب من والديـه, إنمـا هو بحاجة إلى حبهمـا ليستمـر فى الوجـود ولينمـو على كـل الأصعـدة مـن جسدىّ وعقـلىّ ونفسىّ...

هـذا وإننى محتـاج, طيـلة حيـاتى, إلى محبـة الآخـرين وتقـديرهم وثقتهـم كى أحيـا وأنمـو وأنطلـق وأسعـد...

موقـف الإكتفـاء الـذاتى الذى هو صلب " الخطيئـة الأصليـة"

هـو أن أريـد الاستيلاء على الحب وجعلـه ملكـًا لى أتصـرف بـه كيفمـا أهـوى,

 فى حين أن الحب لا يـؤخـذ أخـذًا بل يُقبـل هبـة من آخـر...

هـذا مـا عبـّر عنه قطـف آدم للثمـرة الوحيـدة التى حُـرّمت عليـه فى الجنـة, بينمـا كانت الأشجـار كلهـا موضـوعة مجـانـًا تحت تصـرفه...

إنهـا إرادة الإنسان بأن يكـون هـو نفسـه المنبـع الأول لكـل شئ ومصـدره, عـوض أن يكـون فى تواصـل مع هـذا المنبع يستمـد منه وجـوده ويتلقـّى منـه الكائنـات كلهـا...

 

لمـاذا محـاولة الاكتفـاء بالـذات هـذه؟...

إنهـا نابعـة مـن حـذر أساسى حيـال الآخـر...

إذ, نتخيـّله, على صورتنـا, كائنـًا يكتفى بذاتـه ولا يـرى فى غيـره مـن الكائنـات سوى ذريعـة لتسلطـه ومتعتـه المنفردَين...

فنحـاول أن نقـلّد هـذه الاكتفـائيـة بعـد أن نكـون أسقطناهـا زورًا على الله وألطـقناهـا به, فى حيـن أنهـا غريبـة بالكليـة عـن الإلـه الثالـوثى, الإلـه المحبـة, وأنهـا بالفعـل صـورة شيطـانيـة عـن الله...

لـذا نـرى الشيطـان بصـورة الحيـة, فى رواية سفر التكـوين, يقـدمهـا لآدم وحـواء على أنهـا نمـوذج إلهـى يحسن الاقتـداء بـه:

[ بَلِ اَللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ اَلْخَيْرَ وَاَلشَّرَّ   ] [ تكوين3: 5 ]...

هـذه الإكتفـائية التى تدفعـنى إلى اعتبـار ذاتـى مصـدرًا لكـل شئ هى التى يعبـّر عنهـا سفر التكـوين بعبـارة " معـرفة الخير والشر" : [وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ اَلْخَيْرَ وَاَلشَّرَّ   ] [ تكوين3: 5 ]...

والمقصـود بالطبـع ليس التمييز بين الخير والشر ـ وهـو من خصائص العقل الممنـوح للإنسان على صورة الله ـ بل سلطـان تقـرير ما هـو الخيـر وما هـو الشرّ...

أى التحـكم بالمقـاييس الخلقـية وفـق الهـوى...

 

4ـ إنه يرتبط بخوف الإنسان من الموت:

هـذا الموقـف الإكتفـائى, الـذى يشكّـل, كمـا قلنـا, جوهـر" الخطيئـة الأصليـة" مرتبط, لـدى الإنسان, بخـوف من المـوت...

ذلك أن الإنسان يطمـح ويتـوق بطبيعتـه إلى اللامتنـاهى, ولكنـه يصطـدم, فى الواقـع, بمحـدودية كـل شئ, تـلك المحـدودية التى يشكّـل المـوت تعبيـرها الأقـصى...

هـذا التنـاقض بين واقـع الإنسان وتـوقه أمـر لا منـاص منه, والله يخـاطب عبره الإنسان ليقـول له أن معـنى وجـوده لا يمكـن أن يكـون فى ذاتـه هو, إنمـا هـو فى الله, وأنـه لا يستطيـع بذاتـه أن يبلـغ مـلء ذاتـه, إنمـا ينبغـى لـه أن يتلقّـى هـذا المـلء مجـانـًا مـن الله, وذلـك عبـر اعتـرافه العميـق بمحـدوديتـه...

هـذا هـو " الفقـر الروحـى" :  [ طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ] [ متى 5: 3 ]  ووضـع رجائـه فى الله وحـده...

 

ولكـن الإنسان, وقد ضعضعـه وبلبـله التناقض الـذى يعـانى منـه, يتصـوّر بأن الله يتلاعب بـه, فيبتعـد عنـه ويحـاول أن يجـد لتناقـض وجـوده حـلاً هـو بالفعـل أسوأ الحـلول...

ألا  وهـو بأن ينكـر محـدوديته ويتخيـّل بأن بوسعـه أن يسعـد ذاتـه بذاتـه, بمعـزل عن الله...

هكـذا, ينحصـر ضمـن جـدران عزلتـه, يغـلق على ذاتـه دون الله, وبالتـالى دون سائـر الكـائنـات إذ لا يـرى فى هـذه إلا ذرائـع لمتعتـه وتملكـه وسلطـانه بـدل أن يتعـامل معهـا بمحبـة ورعـاية واحتـرام لأنهـا مثلـه خلائـق الله...

 

بهـذه الإكتفائيـة يتوهّـم الإنسان بانـه اكتسب مناعـة ضـد الموت, وأصبـح بمـأمن من خطـره...

فى حين أنـه, بالحقيـقة, ينقـاد بهـا إلى لعبـة المـوت من حيث لا يـدرى...

ذلك أنـه بانقطـاعـه عـن الله وعـن الكائنـات خلائـقـه ـ تلك التى لا يستطيـع أن يقبلهـا على حقيقتهـا إلا إذا تقـّبلهـا من الله, أى تقـّبلها هبـة إليـه وليس ملكـًا له فى حـال من الأحـوال ـ بهـذا الانقطاع يجعـل نفسـه بمعـزل عـن منـابع الحيـاة, يحـرم نفسـه مـن فرح المشاركـة وغنـاهـا, يجـفّ ويختنـق روحيـًا, يصبـح بالفعـل ميتـًا وهـو لا يـزال على قيـد الحيـاة, يجهـض تحقـيق إنسانيته, يقيـّد ذاتـه ويستلبهـا, وبعبـارة واحـدة:

[ وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين 2: 15 ]...

أى الذى جعـل نفسه ( الإنسان ) فى العبـودية خوفـًا من المـوت...

أى أنـه ( الإنسان ) يعيش روحيـًا كالأمـوات لأنـه لم يجـرؤ على مواجهـة واقـع فنائيتـه...

 

ولكـن هنـاك لحظـات تنتـاب هـذا الإنسان بيـن الحيـن والحين, فينقشـع فيهـا الوهـم وتواجهـه الحقيقـة فى كـل عريهـا...

وإذا, بالمـوت الذى يحـاول عـادة أن يتناسـاه, يتراءى لـه على أنه نهـاية حتميـة لوجـوده تلقـى بظلـّها الثقيـل على كل ذلك الوجتود وتفضـح تفـاهة السدود التى نُصبت بغيـة الإحتمـاء منها:

[ فَقَالَ لَهُ اَللهُ: يَا غَبِيُّ هَذِهِ اَللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ اَلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ ] [ لوقا 12: 20 ]...

إنهـا لحظـات يائسـة يتراءى لـه المـوت فيهـا كارثـة لا تُعـوَّض, لأنـه, بانقطاعـه عـن الله, حـرم نفسـه مـن الرجـاء وترك للمـوت الكلمـة الأخـيرة...

 

ذلك هـو المعنـى المزدوج للتحـذير الوارد فى سفر التكـوين:

[  لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ ] [ تكوين 2: 17 ]... أى:

أ ـ أن الإنقيـاد إلى موقـف الاكتفائيـة يجعـل مـن الحيـاة نفسهـا ضربـًا من المـوت, مـوتـًا وجـوديـًا..

ب ـ أنـه يجعـل من الموت الجسدى كارثـة نهـائيـة لا تعـوّض...

 

هـذا وأن اختبـار المـوت على هـذه الصـورة على أنه نهـاية مطلقـة للوجـود ومفرغـًا إيـاه من أى جـدوى, ذلك الاختبـار الـذى هـو, كمـا رأينـا, وليـد محـاولة الإكتفــاء بالذات, قـد يقـود من جهتـه إلى التمـادى فى تلك المحـاولة...

ذلك أن إحساس الإنسان بأنـه سجين " نهائيـة مغلقـة", يتعـارض بعنف مـع " غريـزة الأبـدية" التى زرعتهـا فيه صورة الله...

فينـدفـع, نتيجـة تلك المعـاناة, إلى مزيـد من الإنحـراف بغيـة التهـّرب من مواجهـة بؤسه, فيهـرب, كمـا عـلّم الآباء, إلى الطمـأنينة الزائفـة التى يستمـدها من الانقيـاد إلى الأهـواء, متوهمـًا مـن خلالهـا, أنـه امتـلك المطلـق واكتفـى بذاتـه...

فى حين أنـه لا يتوصـّل بالفـعل, عن هـذه الطريـق, إلا إلى تعميـق اغترابـه وبالتـالى مأساتـه...

ممـا يدفعـه إلى تكـرار محـاولته اليائسة للاكتفـاء الذاتى...

وهكـذا دواليـك فى دوامـة جهنميـة يَضْحـى أسيرهـا...

 

5ـ ما معنى " انتقال" الخطيئة الجدّية؟:

ليست القضية ـ كمـا سبق وبيـّنا ـ قضيـة خطيئـة ارتكبهـا أحـد الأسلاف وانتقلت منـه إلينـا...

فالإنسان, فى المنظـور الأورثوذكسى لا يولـد مذنبـًا...

إنمـا هى قضية منـاخ خطيئـة نولـد فيه وننشأ ونحيـا...

إن المواقـف المؤذيـة التى يتخـذهـا الأهـل والمربـون, والعلاقـات الإنسانية المشوهـة والمفسدة بالكـذب والاستعلاء والجـور والاستغلال والكراهيـة والحسد وما شابه ذلك, والبنى الاجتماعيـة والسياسية الظالمـة, وكل ذلك يطبعنـا منـذ نعـومة أظارنـا ويدفعنـا بدورنا إلى ارتكـاب أغلاط وأخطـاء وآثام تضاف بدورهتا إلى سلبيات الإنسانية فتثقلهـا...       

 

إن البشرية لشبيهة بجسم حىّ تترابط كافـة أعضائه وتتأثر بعضهـا ببعض...

بمـا أننا, كمـا يقول الرسول بولس: [ أَعْضَاء بَعْضُنَا لِبَعْضٍ ], فإننا متضامنون مع الجنس البشرى من حيث الأخطـاء التى راكمهـا عبر تارخـه المأساوى...

 

6ـ ما معنى " السقوط"؟:

بالواقـع, وخلافـًا لتصـوّر شائـع ـ برز بنوع أخصّ فى الكثلكـة التقليدية ـ لم يكن هنـاك أولاً كمـال تمتع به آدم...

ثمّ خسره بعـد ذلك وخسره من جـرّاءه الإنسان ...

ليست القضيـة قضيـة تعـاقب زمنى...

إن صورة " ما قبـل" و " ما بعـد" , كما وردت فى قصة الخلق فى سفر التكوين, تترجم بالواقع وجهـين للوضـع البشرى همـا بمثـابة وجهـين لعمـلة واحـدة...

فمـا هو " قبـل" يمثـّل رغبـة الله بالنسبة للإنسان, المصير الذى أعـده له والذى زرع إمكانيـة تحقيقـه فى صميم الكيـان البشرى ( تلك هى صـورة الله فى الإنسان )...

ولكن هـذه الرغبـة الإلهيـة لم تتحقـق حتى الآن فى حيـّز الواقـع, إنمـا تحقيقـهـا ـ الذى دشّن فى الكلمـة المتجسد يسوع المسيح عبر حياتـه وصليبـه وقيامتـه وصعـوده ـ سوف يتم فى نهايـة الأزمنـة, بعـد صيرورة طويلـة ومخاض عسير يترتب فيه الإنسان أن يستثمـر بنفسه مواهب الله, أن يصنـع نفسـه إذا صـحّ التعبير, إنمـا عِبـْرَ تقَبـُّل ذاتـه من الله وتحقيـق الطاقات التى يوقظهـا الله فيـه...

ذلك هـو معنى التمييز بين " الصـورة" و" الشبه" كمـا أوضحـه التقليد الآبائى الشرقى...

 

فالإنسان, أصلاً وأساسًا, " صـورة الله", ولكن هـذه الصـورة لـن تتحقـق, لن يصبح الإنسان " على شبه الله ومثاله" فعلاً, إلا عبـر صيرورة ومعـاناة تتطلب مساهمتـه الحـرّة وجهـده المتواصـل...

بعبـارة أخـرى, ينبغـى للإنسان أن يجـد ذاته الحقيقيـة عبـر رحلـة طويلة وشاقـه, محفوفـة بالأخطـار...

فالكنيسة الأرثوذكسية ترفض كل عقيدة للنعمة تنقص من حريـة الإنسان...

وتستعمـل الكنيسة تعبير [ SYNERGEIA ] أو " التآزر" للتدليل على الصلات بين النعمة الإلهية وحـرية الإنسان...

والرسول بولس يقـول:

[ فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اَللهِ وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اَللهِ بِنَاءُ اَللهِ  ] [ 1 كورونثوس 3: 9 ]...

 

فليس بوسع الإنسان أن يحقق الشركة الكاملة مع الله بدون مساعدة الله, ولكن ينبغى له أن يساهم هو أيضـًا فى هـذه العملية...

وعلى الرغـم من أن ما يفعله الله أعظم بكثير مما يمكن ان يفعله الإنسان, فإن عليهمـا كليهمـا الإسهام فى العمل المشترك...

فالله ينتظـر الإنسان كى يفتح الباب [هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي ] [ رؤ 3: 20] فهو لا يحطمـه...

 

ونعمـة الله تدعـو الناس جميعًا لكنها لا ترغـم أحـدًا...

فالإنسان بوسعـه أن يعثر على الله إذا ما نظتر إلى صميم قلبه هو , إذا عاد إلى نفسه لأن:

[ وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ ] [ لوقا 17: 21 ]