الله والشر والمصير

مقدمة

الأرواح الشريرة

الخطئية: تحديدها وأنواعها

مفهوم الخطئية الجدّية

الخطئية و التوبة و الاعتراف

موقف الله من الخطئية

ما معنى الفـداء؟

الدينونة و المصير

صـلاتنا ومصـير الراقـدين

طبيعـة اليوم الأخير

حمل هذا الكتاب

عودة للرئيسية

الفصل الخامس

الخطئية و التوبة و الاعتراف

 

لماذا الاعتراف أمام الكاهن؟

هل من الضرورى أن يعتـرف الإنسان عند الكاهـن, أم أن يختلى بنفسه ويعترف لله بصورة مباشرة؟.

 

1 ـ الاعتراف لله هو الأساس:

لا بدّ من الإشارة بادئ ذى بدء إلى أن الاعتراف لله هـو الأساس...

وأنـه أمـر لا بـدّ منـه على كل حـال...

وهو يعنى أن يعـود الإنسان إلى نفسـه...

[ فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ... ] [ لوقا 15: 17 ]...

 

منقطعـًا عن الهـواجس التى يلهـو بهـا عـن مواجهتهـا, ويواجـه الله بصـدق وإخلاص, ويعـّرى ذاتـه أمامـه, ملقيـًا عنـه كل الستائـر التى يحـاول عـادة أن يحجـب بهـا حقيقتـه عـن نفسـه وعـن الآخـرين متحجّـجـًا بسائـر الذرائـع والمبـرّرات, فتنكشف لـه هكـذا حقيقتـه فى نـور الله, ويـرى نفسـه " ابنـًا شاطـرًا" تلفـّه محبـة الله ولكنـه يتهـرّب منهـا ليتقـوقـع فى ذاتـه الضيـّقة وينكمش على نفسه ببخـل محتميـًا من محبـة الله, رافضـًا دعوتهـا له إلى فـرح المشاركـة...

 

إن هـذه المواجهـة أساس لكـل حيـاة مسيحيـة حقـّة, لا بـلّ لكـل تديـّن صحيـح, وهى منطلـق كل مصالحـة مـع الله...

ذلك هـذه المصـالحة تفتـرض أولاً الاعتـراف بالقطيعـة التى يقيمهـا الإنسان بينـه وبين الله, وأن يقـرّ المـرء بأنـه, مـن جرائهـا, فى عـزلة وفقـر وجـوع :

[ .... كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ اَلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!  ] [ لوقا 15: 17 ]...

 

وأن يعـزم بصـدق على العـودة إلى ربه, علمـًا بأن " تـاب", لغـويـًا, تعنـى " عـاد":

[ أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ] [ لوقا 15: 18 ]...

 

الله يتـقـبـّل دومـًا هـذه العـودة إذا كانت صـادقة...

إنـه ينتظـر رجعـة الإنسان كمـا كان الأب ينتظـر عـودة " الابن الشاطـر" :

[فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً ] [ لوقا 15: 20 ]...

 

ويقبـل إليه ويفتـح له ذراعيـه ويضـمّه إليـه:

[رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَه. ] [ لوقا 15: 20 ]...

 

ويفـرح أيّمـا فـرح بانتقـاله من المـوت إلى الحيـاة:

[وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ ] [ لوقا 15: 32 ]...

[أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي اَلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ ] [ لوقا 15: 7 ]...

[ قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ, إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ اَلشِّرِّيرِ, بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ اَلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا. إِرْجِعُوا إِرْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ اَلرَّدِيئَةِ. فَلِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟ ] [ حزقيال 33: 11 ]...

 

وأيضـًا:

[ هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ اَلشِّرِّيرِ يَقُولُ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ؟ أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟ ] [ حزقيال 18: 23]...

هـذا الإنسان الراجـع من إغترابه, يعيـده الله على مشاركتـه ويمتعـه مجـددًا بالحيـاة معـه, فتُغفـر خطاياه لأن الغفـران هـو بالضبـط تجـاوز العـزلة والعـودة إلى صفـاء المشاركـة وإلى مـا تعنيـه مـن حيـاة وفـرح وقـوة وأصـالة وغنى...

 

 

2 ـ العودة إلى الله تفترض العودة إلى البشر:

ولكن علاقتنـا بالله ليست بمعـزل عن علاقتنـا بالناس, بـلّ أن هناك تشابكـًا وتداخـلاً بين العلاقتين..

فمـن جهـة, الله يكشف لنـا ذاتـه من خلال أنـاس عاشوا أو يعيشون الآن فى ألفـة معـه, فنتعـرف إليـه مـن خـلال معاشرتنـا لهـم واستماعنـا إليهـم ورؤيتنـا لنـوره على وجوههم وتحسّسنـا لنبرتـه فى أقـوالهم...

 

ومن جهة أخـرى, فكلمـا استقامت وتعمّـقت علاقتنا بالله, اغتنت وتأصلت علاقتنا بالناس...

والعكس صحيح, إذ أن تفكك علاقتنا بالناس يسئ إلى سلامة علاقتنا بالله ويهـدّدها بالتحول إلى مجـرد علاقة ذهنية وكلاميـة لا حيـاة فيهـا ولا حـرارة ولا عمـق, كمـا أن انتعاش علاقتنا بالناس عبـر انفتاحنـا عليهـم وإخلاصنـا لهم يقربنـا من الله ويرسّـخ علاقتنـا به ولو غاب ذلك عن وعينـا:

[ ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ.  لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ.  فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ ] [ متى 25: 34ـ 40]...

الأبرار الذين جاء ذكرهم فى حديث الرب يسوع عن الدينونة, لم يكونوا يدرون أنهم بهـذه الممارسات كانوا يتعاملون مع الرب نفسه...

 

خلاصـة الكلام أن قصـة علاقتنـا بالله وقصـة علاقتنـا بالناس, قصـة واحـدة فى العمـق, تتخللها مخاطر القطيعة والابتعاد والغـربة, كما تتخللها محاولات العـودة والمصالحة ورأب التصـدّع وإعادة الإلفة...

 

ومن هنـا أن كـل عـودة على الله تفتـرض عـودة إلى الإنسان الآخـر لتكتمـل وتستقـم...

 

3 ـ من هنا الاعتراف أمام الكاهن:

هـذا هـو معنى الاعتـراف بالخطايا للكاهـن...

وإذا شئنـا مزيـدًا من الدقـة قلنـا أن الاعتراف ليس بالحقيـقة إعترافـًا للكاهـن...

إنـه اعتراف لله ( يقول التائب فى بـدء اعترافه: أيهـا الآب, رب السماء والأرض, إنى اعتـرف لك ...), إنمـا بحضـور الكاهن وشهـادته...

والكاهـن هنـا يمثّـل الكنيسة,

أى تلك العائلـة الروحية التى هى عائلة الله فى الأرض ونواة ومقـدمة اتحـاد البشرية قاطبة فى جمـاعة واحـدة متحـابة يرعاها الله ويحييهـا...

إن كـل خطيئـة ارتكبهـا تصـدّع علاقتى ليس بالله وحسب, إنمـا بالإنسانية كلهـا, لأن كل تقوقـع على ذاتـى وانكمـاش على أهـوائى يغربّـنى لا عـن الله فقط بل عن إخوتى أيضـًا, ويعطـّل المشاركة بينى وبينهم, فيتـأذون هـم وأتـأذّى أنـا بتلك القطيعة...

 

مـن هنـا أن رغبتـى فى العـودة والمصـالحة تدفعنـى إلى الاعتـراف بهـذه القطيعـة ( الاعتراف الذى رأينا أن لا بـدّ منه لتجـاوز القطيعـة ) ليس فقط أمـام الهه بل أمـام الناس, الذين يمثلهـم الكـاهن الذى يتقبّـل اعترافى...

 

والاعتراف هذا إنمـا هو مجـرّد تمهيـد للانسلاخ عن الماضى وطىّ صفحتـه بغيـة فتـح صفحـة جديـدة...

ولأنـه اعتراف بالقطيعـة الكيانيـة وليس " تأديـة حسابات" عن السلوك, فهـو, فى الكنيسة الأرثوذكسيـة, ليس عبارة عن سرد تفصيلى للخطايـا ( كمـا يمـارس فى الكنيسـة الغربيـة ),

إنمـا هـو كشف لجـذور الخطيئة فىّ,

 أى للدوافع والنوازع التى هى أصـل لسائر ممارساتى الخاطئـة ومنبـع لهـا,

وبالتالى أساس تغـرّبى عن الله والناس

 

أمـا الكاهـن, الذى هـو شاهـد لصـدق عـودتى إلى الله والناس, فإنه يتوسل, باسم الكنيسة التى يمثلهـا, إلى الله من أجـلى, كى يتقبـّل الله عـودتى ويعيـدنى إلى ألفتـه ومشاركتـه...

يقـول: " أيهـا الرب إلهنـا, يـا من منحت بطـرس والزانيـة غفـران الخطايا بواسطة الدمـوع, وبرّرت العشار لمـا عـرف ذنـوبه, تقبّـل اعتراف عبـدك ( فلان ), وأن كان قـد خطئ خطيئـة طوعيـة أو كرهيـة, بالقـول أو الفكـر, اغفـر له بمـا أنك صالح ومحب للبشر ...".

 

وباسم الكنيسة التى وعـد الرب يسوع أن يكـون معهـا إلى الأبـد بقـوة قيامته المحييـة, يعلـن للتائب الصفح عـن خطاياه, لا  كأن هـذا الصفـح آت منـه هـو الكاهن ( كمـا توحى الصيغـة المستعملـة فى الطقس اللاتينى : إنى أحلّـك ego absolvo te  ) بل بصفتـه شاهـدًا لرحمـة الله...

يقـول: " ربنـا وإلهنـا يسوع المسيح, بنعمـة ورأفـات محبتـه للبشر, ليصفح لك, أيهـا الابن الروحـى ( فـلان ) عن جميع زلاتك. وأنـا الكـاهن الغير المستحـق, بقـوة السلطـان المعطـى لى منـه, أقـول لك لتكـن مسامحـًا ومحلولاً من جميع خطايـاك. باسم الآب والابن والروح القـدس. آمين"...

 

" وأمـا ما اعترفت به من الذنـوب, فلا تهتـم له البتـة بـل اذهب بسلام"...

 

ويوضـّح اللاهـوتى الأرثوذكسى الكبيـر ألكسندر شميمن دور الكاهن هـذا كشاهـد للتـوبة والغفـران, بقـوله:

" ...... فى المفهـوم الأرثوذكسى الأصيـل ينبـع الحـل مـن أن الكاهـن هـو شاهـد على التـوبة, وعلى حقيقتهـا وهـو مؤهّـل بالتالى ليعلـن " ويختم" على الصفـح الإلهـى وعلى " مصالحـة التائب بيسوع المسيح مع الكنيسة المقدسة" [ الأب ألكسندر شميمن : الصوم الكبير. ملحق : القدسات للقدسين. بعض الملاحظات حول المناولة, ص 131, تعريب الأب إبراهيم سروج, طرابلس, 1978 ]...

 

وقـد كتب الأب ميشال نجـم بنفس المعنى:

" ... لذلك يقف الكاهن والمؤمن جنبـًا إلى جنب, وهـذا الوقوف دليل على أن الله هو التوّاب على مساوئ الناس , وأن الكاهن شاهد وخادم... فى الكنيسة الأرثوذكسية لا يوجـد كرسى للاعتراف وفى طقوسها لا يستخـدم الكاهن صيغة المتكلم فى منح الأسرار وفى صـلاة الحـل من الخطايا حيث يقـول " ليسامحك الله" أى أنـه لا يقـول إنى أسامحك. " يا ولـدى الروحى ... إنى أنـا الحقير الخاطئ لا أقـدر أن أغفـر الخطايا لكن الله هو الذى يغفـر الخطايا ... أمـا نحن فنقـول أن كـل ما اعترفت به لحقـارتى الذليلة وكل ما لم تقله عن جهل أو نسيان فليسامحك  الله به فى هذا الدهـر وفى الدهـر الآتى". ويشار إلى شهادة الكاهـن فى الاعتراف من خلال النص التالى: " يا ولدى اذكـر بدون إحجـام كل ما اقترفتـه, لكـى تحـوز الغفـران مـن ربنـا يسوع المسيح. أنظـر إلى أيقـونة ربنـا, ومـا أنـا سوى شاهـد أمامـه لكـل ما ستقـوله" [ الأب ميشال نجم: التوبة فى مفهومهـا الآبائى وممارستهـا الحقيقية, ص 85 ـ 86, " النـور" 1985, العددان 2و3, ص 80ـ 87 ]...

 

 

4 ـ ... يرفده اعتراف للناس الذين أعايشهم:

 

ولأن الاعتـراف أمـام الكاهـن لإنسان تعبير عـن إقـرارى يتصـدّع العلاقـة بينى وبين الناس, وعـن تصميمى على رأب هـذا التصـدّع وعلى إعادة الصـلة بينى وبينهـم, فلا بـدّ من الإشـارة إلى أن ممارسـات أخـرى من شأنهـا أن تعبـّر أيضـًا, على طريقتهـا, عن هذا الإقـرار وعـن هـذا التصمـيم, وهـى الاعتـراف لأنـاس أعايشهـم أو جمـاعات انتـمى إليهـا ( كالأسرة أو مجمـوعة رفاق أو فـرقة فى حركـة أو جمعيـة ما, أو ما شابـه ذلك ) بمـا أخطأت به إليهـم, والتمـاس الصفـح منهـم عمـا أسأت إليهـم به...

 

وقـد وردت هذه الوصيـة فى العهـد الجديد:

[ اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِالّزَلاَّتِ ] [ يعقوب 5: 16 ]...

من هنا العادة التى كانت جاريـة عندنـا بأن يستغفـر التائب مـن معارفـه عند تقـدمه من سر الاعتراف...

إنمـا قـد يحسن أن يتخـذ هـذا العمـل شكـلاً أكثـر عمقـًا وجـدّية, وذلك مثـلاً من خـلال إجـراء حـوار بين أشخـاص أو ضمـن جمـاعة, يحـاول عبره كل واحـد أن يكتشف المواقف التى عكّـرت علاقتـه بالآخـرين ( عبـر توضيـح هؤلاء له لوقـع بعض أقـواله وأفعـاله عليهـم, الذى كـان ربمـا غافـلاً عنـه ), وأن يقـرّ بهـا, تمهيـدًا لتجـاوزها فى المستقبـل سعيـًا إلى المصالحة...

 

 

5 ـ الاعتراف والارشاد الروحىّ:

 

أخيرًا فإن الاعتـراف للكـاهن يسمح بتقبّـل الارشـاد الروحـىّ من إنسان يُفـرض أن تكـون له خبـرته بهـذا الشأن ( لذا لا يُعطى حق تقبّـل الاعتراف لكـل كاهن, بـل لذاك الذى يـرى فيـه الأسقف النضـج والكفـاءة المناسبين, وفى المـاضى كان النـاس يعترفـون لراهب لم يتلقّ رتبـة الكهنـوت, لا لينالوا حضـلاً بـل ليتقبّـلوا الارشاد الروحى من إنسان توغّـل فى الخبرة الروحيـة ), فيكـون للتائب " أبـًا روحيـًا", أى شخصـًا يساعـده على معـرفة ذاتـه فى نـور الله وعلى تحقيـق طـاقة الحيـاة التى زرعهـا الله فيـه واكتشاف ما يعيقهـا ويكبّـلها من قيود بغيـة العمـل على التحـرّر منهـا...

 

إن الكـاهن الذى يمـارس هـذه المهمـة يكـون " أبـًا روحيـًا" لأنـه يساهم فى أبّـوة الله, فيرعـى الحيـاة فى من يرشدهـم, بكـل محبـة وتأنٍ واحترام, على طريقـة الله نفسه, فلا يفـرض عليهـم ذاتـه وآراءه بـل يساعـد كـلاً منهـم على تحقيـق الاسم الفـريد الذى يدعـوه الله بـه...

 

6ـ الخلاصـة:

إن الاعتراف إلى الله هـو البعـد الإلهـى, والاعتـراف للكاهـن هو البعـد الإنسانى, للتـوبة...

والبعـدان مترابطـان, متلازمان, وفقـًا لمنطـق التجسّد, وعلى شاكلتة بُعـدى صليب المسيح

 ( العمـودى, الذى يشير إلى مصالحتـه للبشر مع الله, والأفقى, الذى يشير إلى مصالحته للبشر بعضهـم مع بعض )...

                                                                   

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

إحياء سر الاعتراف:

كيفية إحياء سر الاعتراف مع أهميته بالنسبة لحياتنا ولعلاقتنا بالرب..

 

أولاً: معانى سـرّ الاعتراف

1 ـ الاعتراف هو أساسًا اعتراف أمام الله:

 

أى أن اكتشف, فى نور الله, نواحـى الشرّ فىّ, فأعلـن رفضـى لهـا وانسلاخى عنهـا وتصميمى على السير فى طـريق التحـرّر والتجـدّد...

أى فى طـريق التوبة...

من هنا إن الاعتراف مرتبط بالتوبة...

 

2 ـ لماذا الاعتراف أمام الكاهن؟:

أ ـ لأننى لست وحـدى بـل أنا عضـو فى جمـاعة..

لـذا فالشرّ الذى فىّ لا يؤذينى وحـدى بل يؤذى الجمـاعة التى أنتمـى إليهـا...

إن مرض أى عضـو فى الجسم يضعف الجسم كلـه نظـرًا لترابـط الأعضـاء فى ما بينهـا...

انتقـاص الحب فىّ يحجب الدفء والانتعـاش عن سواى ( ألا  نلاحظ  ذلك فى الفـرقة التى ننتمـى إليهـا أو نرشدهـا؟ )...

 فى رسالة وجّههـا الكاتب الفرنسى الكبير " فرنسوا مورياك" إلى الشباب وحاول أن ينقـل لهم نـداء الرب يسوع المسيح إليهـم, يقـول:

" يوم يتوقف التهابك بالحب, كثيرون سواك سيهلكون بردًا"...

ومن هنا أنه يصلـح أن تكـون الجمـاعة التى أضعفتهـا بخطيئتى شاهـدة على توبتى:

[ اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِالّزَلاَّتِ ] [ يعقوب 5: 16 ]...

فى الكنيسة الأولى كان يجـرى اعتـراف علنىّ بالذنـوب الكبيرة...

ثم, ابتـداء من القـرن الخامس, حُصر الاعتراف بالكاهن كممثل للجمـاعة...

 

ب ـ وكمـا أن الجماعة شاهدة على توبتى التى يعبّـر عنهـا اعترافى بخطاياى أمـام الله, فهـى أيضـًا قنـاة يأتينى عبرهـا غفـران الله...

الرب قادر بالطبـع أن يغفـر لى مباشرة, ولكنـه يحب أيضـًا أن يمنحنى غفـرانه عن طريق تلك الجمـاعة التى أقامهـا فى الأرض مكانـًا مميزًا  لحلـول حياتـه وخلاصـه...

من هنـا أن الكاهن, ممثل الجماعة, يكون , فى سرّ الاعتراف, واسطة يأتينى عن طريقهـا خلاص الله...

وقد ورد بهـذا المعنى فى دعاء يتلوه الكاهن اثناء ممارسة سر الاعتراف:

" الله الذى صفـح لداود عن خطاياه  بواسطـة ناثان النبى لمـا  اعترف  بهـا

ولبطـرس لمـا نـدب بحـرارة جحـوده

 وللزانيـة لمـا وقعت على قدميـه

وللعشار وللابن الشاطر

هو يصفـح لك بواسطتى أنا  الخاطئ عن جميع خطاياك ..."...

 

ج ـ بالطبـع هناك أيضـًا الارشاد الروحى الذى يمكن أن أتلقـاه من الكاهن...

ولكـن لا يبـدو لى أن هـذا مـن الأسباب الجوهـرية التى تدعو إلى الاعتراف أمـام الكاهن, ذلك:

        1ـ لأن الارشاد يمكن أن يتمّ خارج الاعتراف...

        2ـ لأن الارشاد يمكن أن يقـوم به غير الكاهن ...

ثانيًا :كيفية إحياء سرّ الاعتراف:

لـن أتعـرض لجوهـر القضية, لأننى اتركهـا لكهنـة اكتسبوا خبرة روحية غنيـة وتمرسوا طويـلاً على التعـاطى مـع المؤمنين عبر ممارسة الاعتراف والارشاد الروحـى ...

هـؤلاء أتمنى عليهم أن يقبـلوا بالدخـول مع الناس, وخاصـة الشباب منهـم, فى حـوار يُسمح فيـه لهؤلاء أن يبدوا بصراحة الموانـع والتحفّـظات التى تحـول دون اقترابهـم من سـر الاعتراف...

 

مساهمتى الشخصية سوف تقتصر على نقطتين اعتقـد أنه قد يكون لهمـا دور فى إحياء سـرّ الاعتراف:

أ ـ إحياء روح الاعتراف فى سائر المجموعات التى تتكون منهـا حركة مسيحية من مجال ولجـان وغيرهـا, خاصة هـذه الخلايا التى هى الفرق, تلك التى ينبغى أن تكون كل منها كنيسة مصغّـرة تتجسّد فيهـا الأخـوة فى المسيح عبر علاقات شخصيـة صحيحة, فيتيقـظ وينمو بفضل الانتمـاء إليهـا ومعايشتها حسّ الكنيسة...

 

من المفيد برايى أن تتم بين الحين والحين فى تلك الجماعات ما قد بُسمّى بجلسات " مصارحة" أو جلسات " تقييم", فيها يعترف كل واحد ( بدءًا من مرشد الفرقة أو رئيس اللجنة أو المجلس ) بطل ما يصـدر عنه من مواقف تنعكس سلبـًا على حياة الجماعة, من فتـور وتهـاون وإهمـال وتقوقـع واستعلاء وعدوانيـة...إلخ...

 

فيتصـالح مع الله عبر تصالحه مع الجماعة, فى عمليـة اعتراف متمايزة عن سر الاعتراف ولكن أهميتها لا يستهان بها فى بنائـه الروحى, ومن شأنهـا, من جهـة أخـرى, أن تهيئه ـ نفسيـًا وروحيـًا ـ إلى التقـدم من سر الاعتراف...

 

ب ـ إحيـاء الفرق الصلاتية, تلك الجماعات التى تتكاثر فى العالم المسيحى اليوم والتى تتعاطى معـًا قراءة كلمـة الله من خلفيـة هواجس الحيـاة الفرديـة والاجتمـاعية, وتنطلـق من هذا التعاطى إلى الصلاة عفـوية ينفتـح فيهـا المـرء إلى الله فى مناجـاة حميمة, فى حـديث من القلب إلى القلب, يرفـع عبرها إليه كل خبراته ومعاناته واهتماماته الشخصية والجماعية...

 

إن خبرة طويلة عشتهـا مع سواى فى هذا المجال أكّـدت لى أن هذه اللقـاءات الحميمة التى تجمـع المشاركين المرة تلو المرة إلى الرب وإلى بعضهم بعضـًا فى كنفـه, تنشئ بينهـم ثقـة وارتياحـًا متبادلين يسمحـان لهـم يكشف جراحهـم بين الحين والحين علنـًا أمام الرب وأمام الإخـوة, ومن بين هذه الجراح, جراح الاغتراب عن الله بالخطيئة...

 

هذه " الاعترافات" تأتى تلقـائيـًا لشعـور كل واحـد اليقينى بأن الآخـرين يتلقونها بروح التعاطف والمشاركة ويحملونهـا فى صـلاتهم, وبأنه بها يعود إليهم بعودته إلى الرب يعد اغتراب مزدوج عن الرب وعنهم بسبب خطيئته وما تمثـّـله من انهماك بذاتـه...

 

إنه يصعُب لمن لم يختبر هـذه الظـاهرة أن يتصـوّر مـدى عمقهـا وعفويتهـا, من هنا أن هذه الاجتماعات الصلاتية قد تكون تمهيـدًا للاقبـال إلى سـرّ الاعتراف, لا بـلّ قد تتحـوّل أحدهـا, إذا شارك به كاهـن, إلى ممارسة جماعية لسرّ الاعتراف ...

ولو أن الناحية الارشادية هنـا قد تتقلّـص , ولكننى أعود فأقـول أن هذه الناحية ـ على أهميتها ـ ليست باعتقـادى العنصر الجوهرى فى سـرّ الاعتراف...