الله والشر والمصير |
|
الفصل السادسموقف الله من الخطئيةالجـزء الأول
هل يغضب الله على الإنسان؟" نعلم أن الله عادل ومحـب ورحـوم. ولكـن هناك أنـاس يشدّدون على فكــرة أن الله أراد إنـزال غضبـه على الإنسـان, لـذلك علينـا نحـن المـؤمنين أن نتجنب غضـب الله. فما هـو مـوقف الإنسان الأرثوذكسـى مـن هـذه الأقـوال؟"... أولاً: ارتبـاط صفـات الله كلهـا بالمحبـة:إن صفات الله المختلفة لا يمكـن وضعهـا على قـدم المساواة فـى ما بينهـا وكأنهـا وجـوه مستقلّـة متوازيـة فى أهميتها, بل ينبغـى فهمهـا على ضـوء التأكيـد المحـورى الذى ورد فى العهـد الجـديد بأن [ اللهَ مَحَبَّةٌ ] [ 1 يوحنا 4: 16 ], مما يعنى أن صفـة الله الأساسيـة هى المحبـة... أى أنـه يقتضـى علينـا أن نقـول بأن عـدل الله مثـلاً إنمـا هو عـدل المحبـة, وعلمـه علـم المحبـة, وقـدرته قـدرة المحبـة .... إلخ... ينتج مـن ذلك أمـران متكامـلان: 1ـ أن صفات الله تأخـذ معناها الحقيقى من إضافتها إلى المحبة:أ ـ فقـدرته قدرة المحبـة:
ولـذا لا يمكـن أن تكـون, بحـال من الأحـوال, تلك القـدرة الطاغيـة الساحقـة التى كثيـرًا مـا نتصـوّرها, مسقطـين على الله صـورة نزواتنـا ومخاوفنـا, متخيـلين إيـاه وكأنـه التحقيـق غيـر المحـدود لتلك النـزوات والموضـوع اللامحـدود لهـذه المخـاوف.. فى حيـن أن القـدرة الإلهيـة هـى التى تمـد المحبـوب بالحيـاة دون أن تغتصبـه أو تستوعبـه فى ذاتهـا... ومن أجمـل الصور, باعتقـادى, عـن هـذه القـدرة التى تُـحيى ولا تغتصـب, تلك التى وردت بقلـم طـاغور فى مقطـع يمكـن عنونتـه: " مـن يفتـح البرعـم": " لا, ليس من شأنـك أن تفتّـح براعـم الزهـر. حـرّك البرعـم, وإضـربـه, إنك لن تقتدر أن تصـيّره زهـرًا. لمستك يوسِخـه: إنـك تهشـم كمّـه, وتنثـره على التراب, ولكـن لا يطـلّ لون, أو يفـوح عرف. آه ! ليس من شانك أن تفتّـح براعـم الزهـر. من يستطيع تفتـيح البرعـم بكـل بساطة. إنـه يلقى نظـرة عليـه, فيـدبّ فى عـروقه رحيـق الحيـاة. لـدى لهـاثه تبسط الزهـرة جناحيهـا, وتخفـق بهمـا فى الـريح. الألـوان تطـلّ حمـراء كشهـوة القلـوب, والعـرف يبـوح بسـرّ عـذب. من يستطيـع تفتيح البرعم يعمـل بكـل بساطـة". [ طاغـور: جنى الثمـار, 18, فى: طاغور, مسرح وشعر, تعريب يوحنا قمير, دار المشرق, بيروت, 1967, ص 210 ـ211]. ب ـ كذلك علم الله هو علم المحبة:
من هنا أن معرفته الثاقبة لكـل شاردة وواردة فينا ليست تلك المعرفة العـدوانية التى تخترق كيـاننا لتنتـهك أسرارنـا وتعـرّيها وتفضحهـا, كمـا يتصـوّر الكثيرون " عين الله" ليرتعـبوا منهـا, وكمـا تصـورّها الطفل سارتر فثـار على هـذه العين المتطفلـة المقتحمـة وطردهـا من حياتـه...
إن " عين الله" هـى علـى العكس عين الرعـاية المحِبّـة: [ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ ][ متى 10: 30]... أى أن الله يهتـم بكـل شعـرة منهـا ليحفظهـا ويرعـاهـا... هـذه " العين" لا تنفـذ إلى أعمـاقنا إلا لتتعهـدهـا بحنـان فائـق وتوقـظ فيهـا طاقـات الحيـاة الخفيـة الدفينـة لتضعهـا تحت تصرّفنـا... ليست " عين الله" ذلك الشاهـد الدائـم على ذنـوبنا والمبـرّر الإلهـى لشعـور مضنٍ بالإثـم يعـذبنـا... إنهـا عين المحبـة الفائقـة التى تنفـذ إلى ما هـو أعمـق وأبعـد مـن آثامنـا... إلى ذلك التـوق الأصيـل المتوثـّب أبـدًا فى صميـم الصميـم منـا... وتكشفه لنـا ليطمئـن قلبنـا ويتشجـّع ويتـابع المسيرة والنضـال: [ عِنْدَئِذٍ نَتَأَكَّدُ أَنَّنَا نَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ الْحَقِّ، وَتَطْمَئِنُّ نُفُوسُنَا فِي حَضْرَةِ اللهِ، وَلَوْ لاَمَتْنَا قُلُوبُنَا؛ فَإِنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنْ قُلُوبِنَا، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ ] [ 1 يوحنا 3: 19, 20]... ج ـ وعدالة الله هى عدالة المحبة:
من هنـا إنهـا تتجـاوز المقـاييس الحسابيـة الضيـقة الشائعـة بين البشر والتى تعكس ضيـق قلوبهـم وبخلهـا واستئثـارهـا... هـذا ما يتضـح من مثـل رب الكـرم [ فَإِنَّ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ اَلصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ فَاتَّفَقَ مَعَ اَلْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي اَلْيَوْمِ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ.... اِذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى اَلْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ اَلْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ اَلْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: اِدْعُ اَلْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُِ الأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ الآخِرِينَ إِلَى اَلأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ اَلسَّاعَةِ اَلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. فَلَمَّا جَاءَ اَلأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ اَلْبَيْتِ قَائِلِينَ: هَؤُلاَءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ اَلَّذِينَ اِحْتَمَلْنَا ثِقَلَ اَلنَّهَارِ وَاَلْحَرَّ! فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ ! أَمَا اِتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ اَلَّذِي لَكَ وَاِذْهَبْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا اَلأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ ] [ متى20 : 1ـ 15]... حيث نـرى صاحب الكـرم يسلك سلوكـًا محيّـرًا لائقـًا بالله... فيـوفى عمّـال الساعـة الحـادية عشرة أكثـر من حقهـم بكثيـر بدافـع من كرمـه وسخـائـه... 2ـ سمات المحبة الإلهية:بالمقابـل فإن المحبـة الإلهيـة بدورهـا تتوضـّح سماتهـا من خـلال الصفـات التى تُنسب إليهـا, ممـا يجنبّـنا تأويل المحبـة هـذه وفقـًا لأهـوائنـا كمـا رأينـا يحصـل بالنسبة إلى الصفـات الإلهيـة الأخـرى: أ ـ فالمحبة الإلهية عادلة:
ولـذا فإنهـا لا تعـرف الانحيـاز الانفعـالى أو المصلحـى وهـو ما يسميه الكتاب" محاباة الوجـوه" وينـزّه الله عنـه, ذلك الانحيـاز الذى كثيـرًا ما يشـوّه محبتنـا البشـرية... [ لأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ اَلرَّبِّ إِلَهِنَا ظُلْمٌ وَلاَ مُحَابَاةٌ وَلاَ اِرْتِشَاءٌ ] [ أخبار الأيام الثانى 19: 7]... [ لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اَللهِ مُحَابَاةٌ ] [ رومية 2: 11]... [ وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَباً الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ ] [ 1 بطرس 1: 17]... ب ـ المحبة الإلهية عارفة:
لذا فإنهـا لا تتعامـى عن واقـع المحبـوب ولا تحب فيـه خيالاً يتناسب مع حقيقتـه لأنـه من نسج الهـوى, ولا تتجاهـل خيره الحقـيـقى لتقضـى مـن خـلاله مأربهـا, وهى انحـرافات كثيرًا ما تشـوب محبتنـا البشرية... ج ـ المحبة الإلهية قادرة:
أى أنهـا لا تنهـار أمـام نزوات المحبـوب فتطـاوعه فى مـا يسئ إليـه, كمـا قـد يحصـل للمحبـة البشرية, ولا تكتفـى بتمنـّى الخير للمحبـوب بـل هى ماضيـة فى تحقـيقـه إلى أبعـد الحـدود, وهى وحـدهـا أقـوى مـن المـوت الذى يقـف حبنـا البشرى عـاجـزًا أمـامـه... ثانيًا: كيف نفهم "غضب الله":1ـ صورة "غضب الله" الكتابية ينبغى أخذها على محمل الجدّ:
إن صـورة " غضب الله" تتكـرّر فى الكتـاب المقـدس, فى عهـديه القـديم والجـديد, وينبغـى أن تـُأخـذ على محمـل الجـدّ إذا شئنـا أن تستقيـم نظـرتنـا إلى الله... ينبغى أن ننـقـّى هـذه الصـورة من الاسقاطـات البشرية العالقـة بهـا دون أن نتخـلّى عنهـا, متجنبين مـا يسمّيـه المثـّل الألمانى " لا تقـذف الطفـل مـع مـاء حمّـامه"... ذلك أن هـذه الصـورة تسمـح لنـا بإدراك سمـات أساسيـة لمحبـة الله: أ ـ بأن محبة الله ليست حيادية, لا تبالى بسلوك المحبوب:
لأنـه, لو صـحّ ذلك, لكانت على نقيض المحبـة الحقـّة... فلـو كان لسان حـال موقفـى من المحبـوب هو : " افعـل مـا تشاء, فإن محبتـى لك لا تبـالى بمـا أنت فاعلـه ولا تكترث حتى لموقفـك منـى", فكأننى أقـول لـه:" إن شخصـك لا يهمّـنى. ما يهمّـنى فقط هـو أن أبقـى أنـا على مستـوى مـن السموّ الـذاتى, فأحـافظ على محبتـى لك لأطمئـن إلى نقـاوة الصـورة التى أرسمهـا عـن نفسى"... المحبّـة الحقـّة لا يسعهـا بالتـالى أن تبقـى لا مباليـة بسلوك الطـرف الآخـر, إنهـا لا بـدّ منجرحـة, متضـايقـة, إذا مـا كان المحبـوب يتصـرّف تصرفـًا مؤذيـًا بحـق نفسه أو إذا كان يقابل المحبـة الممنوحـة لـه بالرفـض والاعـراض... ب ـ محبة الله ليست من باب الترف والكماليات:
بأن محبـة الله ليست أمـرًا يمكـن للإنسان أن يستخـف به دون أن يلحقـه ضرر, وكأنهـا من باب الترف والكمـاليات... فالإنسان لا يحيـا ولا يوجـد إلا بفضـل محبـة الله له, تلك المحبـة التى منهـا يستمـد فى كـل لحظـة الحيـاة والوجـود: [ لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ ] [ أعمال 17: 28 ]...
ولكن هـذه المحبـة تستتر وراء عطـاياها تغـدق هـذه العطـايا بدون قيـد ولا شرط: [ فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى اَلأَشْرَارِ وَاَلصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى اَلأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ ] [ متى 5: 45]... بحيث قد يتخيّـل الإنسان بأن بإمكـانه أن يستغنـى عنهـا ويتجاهلهـا...
ولكنـه إذا فعـل, يحافظ عنـد ذاك على المقـوّمات الجسديـة والنفسيـة لحياتـه, إنمـا يفقـد المقومات الروحيـة التى بهـا وحـدها تكتمـل حياته وتأخـذ جدواهـا ومعناها وتحقـّق الهـدف الذى من أجـله وُجـدت وإليـه تسعى فى قرارة ذاتهـا...
لا بـلّ إن غيـاب هـذه المقوّمـات الروحيـة كثيـرًا مـا ينعكس على المقـوّمات الجسـدية والنفسـية عينهـا فيـزرع فيهـا الخـلل والاضـطـراب والموت ( فالفـراغ الروحـى قد يدفـع الإنسان إلى التهافت على الكسب والاستهـلاك على حساب سعـادته الحقيـقيـة, وقـد يدفعـه إلى إدمـان المخدرات التى تدمّـر النفس والجـد, وقـد يدفع البشر إلى التناحـر والتباغـض والاقتـتال...)...
2 ـ نحو فهم سليم لـ " غضب الله":مـن هنـا يمكننـا أن نفهـم المقصـود بـ "غضب الله" على الوجهين التاليين: أ ـ رفض الإنسان لمحبة الله المقدّمة له تجـرح الله فى الصميم:
إن رفـض الإنسان لمحبـة الله المقـدّمة له تجـرح الله فى الصميم... فإلـه الكتـاب, الرب يسوع المسيح, ليس ذلك " المحـرّك الذى لا يتحـرّك" الذى كان يتصـوّره أرسطـو... إنـه إله شخصى سمته الرئيسيـة المحبـة... لذا, فقـد أوجـد الكـون والإنسان حبـًا, وجعـل شبهـًا بين الإنسان وبينـه كى يتمكّـن الإنسان من التفاوض معـه والدخـول معـه فى علاقـة حب خالـدة... لذا فهـو يسعـى أبـدًا إلى الإنسان ويخاطب قلبـه إن مـن خلال بهـاء الكـون وخيراتـه أو مـن خـلال مـلازمته المباشرة لهـذا القلب... ولكنـه ينتظـر مـن الإنسان أن يستجيب للحب بالحب, ولا يمكـن لهـذه الاستجابـة إلا أن تـاتى حـرة وإلا فلا طعـم لهـا, ولا قيمـة للحب الذى يغتصب المحبـوب اغتصابـًا...
فإذا تجـاوب الإنسان مع الحب الإلهـى وأعطـى لله قلبـه بالمقـابل, كان لدى الله فرح الحب الذى بلـغ قصـده وغايتـه... ذلك هـو [ فَرَحٌ فِي اَلسَّمَاءِ ] [ لوقا 15: 7 ] أو [ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اَللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ ] [ لوقا 15: 10] ... الذى قال لنـا يسـوع أنـه يحصـل عنـد عـودة خاطئ واحـد...
والمعـروف لـدى المفسرين أن هـاتين العبارتين إنما همـا إشارتـان بالتوريـة إلى فـرح الله نفسـه...
أمـا إذا رفـض الإنسان التجـاوب مـع الحب الإلهـى, فيعـتـرى الله حينـذاك ما يشبـه الحـزن البشرى ( أقـول " ما يشبه", لأننـا, فى هـذه الدنيـا, لا نـرى الله : [ فَإِنَّنَا نَنْظُرُ اَلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ... ] [ 1 كورونثوس 13: 12], ولا يسعنـا بالتـالى التحـدّث عنـه إلا بصـور ورمـوز ) ومـا يمكـن التعبيـر عنـه بـ " الغضب", نظـرًا لمـا تحـويه هـذه العبـارة مـن معـانى الضيـق والخيبـة والاحبـاط...
علمـًا بأن مفهـوم" الغضب" هـذا يمكـن المقاربـة بينـه وبين مفهـوم كتابـىّ آخـر وهـو " غيـرة" الله... فكمـا أن الحب البشرى مقتـرن ولا بـدّ بالغيـرة على قـدر ما يوليـه للمحبـوب مـن أهميـة فائقـة وما يحـرص عليـه من علاقـة فريـدة معـه, هكـذا فـ " الغـيرة" تصلـح نعتـًا رمـزيـًا للحب الإلهـى ولما يعترى هـذا الحب مـن معانـاة عند رفض الإنسان له, شرط أن نجـرّد الغيـرة من معانـى التمـلّك الـذى كثيـرًا ما يشوب الحب البشرى: فالحب الإلهـى حب خالـص لا أثـر للتمـلـّك فيـه, لا يسعـده إحتـواء المحبـوب بـلّ مجـرّد إسعاده, لذا فهـو أبـدًا منفتـح للمحبـوب, حتى فى صميم المعانـاة التى يلحقهـا به هـذا الأخـير مـن جـرّاء إعراضـه عنـه, ومستعـد للتغـاضى عن كـل ما صـدر عنـه من عـقـوق وخيانـة إذا ما شـاء العـودة ( هـذا ما اختبره النبى هـوشع, فى القـرن الثامـن قبـل الميلاد, عبـر علاقتـه الشخصيـة بإمـرأة أحبهـا وتزوج منهـا فخانتـه وكانت تحمـل هداياه إلى عشاقهـا, فذاق منهـا الأمـرين, ولما شاءت العـودة إليه بعـد أن فقـدت رونق صباها وأعـرض عنهـا عشـّاقهـا, أدرك النبىّ بإلهـام الله أنـه ينبغـى له أن يعيـد لهـا حبـه, وانكشف له, مـن خـلال هـذه الخبـرة الشخصيـة المـاساوية, عمـق محبـة الله لشعبـه ومـدى أمانتـه للعهـد الذى قطعـه لـه )... ب ـ رفض الإنسان للحب الإلهى محطـم لهذا الإنسان:
ولكن رفض الإنسان للحب الإلهـى هـو أيضـًا محطـّم لهـذا الإنسان... إنـه يـؤدى, كمـا قلنا, إلى تدمير الحيـاة الحقـّة فيـه, فيرتـد عليـه رفضـه انتحـاريـًا ويتسرّب المـوت إلى صميم كيـانه... إن هـذه الآثـار المدمّـرة لرفض الإنسان لله قـد تتجـلّى منـذ هـذه الحيـاة الدنيـا عبـر ما يعتـرى الحيـاة الإنسانية الفـردية والجمـاعية مـن خلـل واضطـراب وبـؤس واقتتال ( فويـلات الحـرب البنـانيـة هـى مثـلاً, من ناحيـة من النـواحى, نتيجـة زيف تديّـن العـديد من اللبنـانيين ومحـاولتهـم الكفـرية, غيـر المعتـرف بهـا, لاحتـواء من لا يُحتـوى وهـو الله, واستخـدامه لنفـخ كياناتهـم الطائفيـة وتضخيمهـا صنميـًا ), ولكنهـا تتجـلى بمـا لا يحتمـل الالتباس عندمـا يُسلـخ الإنسان بالمـوت الجسـدى عـن الخيـرات الطبيعيـة التى كـان لا يـزال حبّ الله يكتنفـه بهـا رغـم رفضـه له, فيكتشـف إذ ذاك, وهـو فى حالـة العـرى الكامـل, حقـيقـة ذاتـه, التى كان يحجبهـا عـنه تلهّيـه بخيـرات الأرض, ويـدرك أن أساس كيـانه ومحـور هـذا الكيـان, ومـا هـو أبعـد وأبقـى من حاجاتـه كلهـا, إنمـا هـو رغبـة محـورية فى لقـاء الله عبر التجاوب مع نـداء الحب الذى يوجّهه الله إليـه...
فإن كان قد تحجّـر فى رفضـه لله, أضحـى ممزقـًا بين رغبتـه المحـورية هـذه ورفضـه...
يقـول اللاهـوتى الأورثوذكسى " أوليفيه كليمـان" واصفـًا هـذا الوضـع: " ... ما هو الجحيم إن لم يكن المكان, أو بالأحـرى الحالة والوضع اللذين اخترعهما الإنسان لكـى لا يكـون الله, إنـه العالم الذى طـُرد منه الله, الذى يكـون فيـه الله مهجـورًا مـن الإنسان, الـذى يحسّ فيـه الإنسان بصـورة غامضـة أنه مهجـور من الله, لأنـه صـورة الله وبالتـالى مشدود, شاء أو أبـى, نحـو مثـاله"... وقد أوضـح اللاهـوتى والفيلسوف الأورثوذكسى اليونانى خريستوس يانـّاراس أنـه, وفقـًا لتعليـم القـديس اسحـق السريانى: " الجنـة أو النار لا يرتبطان بنوع العـدالة الإلهية, وأن عقـاب الخطاة لا يأتى من الله .... بالحقيقـة كل شئ مرتبـط بقـدرة الإنسان أو عجـزه على المساهمـة فعـلاً فى وجـود الله وحياته... فالله سوف يعطى ذاته للكل, لكـل واحـد, سوف يكـون مع الكـل, ولكن هـذ المعيـة سوف تـؤول إلى أنمـاط وجـود مختلفـة: الجنـة أو النـار... كان ديستوفسكى يقـول أن" جهنم هى الألم المبرّح الناتـج عن العجـز عـن الحب "!!... ويقـول القـديس إسحـق السريانى نفس الشئ بالضبـط...
يشـدّه إلى الله عطشـه إلى اللامتناهـى, الـذى لا يرويـه إلا الله نفسـه, فى حين أن لا حيلة له, وقـد رفض الله, إلا أن يحـاول دون جـدوى أن يروى هذا العطش مـن فراغـه الذاتى...
هكـذا يكتـوى بعطش مقيـم لاهب أشار إليـه الكتأب المقدس بصـورة " النار الأبـدية"... عنـد ذاك لا بـدّ للحب الإلهـى, الذى لا يزال يحيط بـه ويناديه ( وهو الذى يخـلّده فى الوجـود), أن يبـدو لـه وبالاً ونقمـة, لا لأن هذا الحب قـد تحـوّل فعـلاً إلى نقمـة, بـل لأنـه يوقـظ فى ذلك الإنسان رغبـة عميقـة فى التجـاوب معـه ليس بمقـدور هذا الإنسان أن يلبيهـا نظـرًا لتحجّـره فى الرفض...
هكـذا تحصل هـذه المفارقـة ألا وهـى أنـه يتعـذّب بالحب الإلهـى لأنـه لا يشاء أن يعطى هـذا الحب فرصـة إسعـاده... وكأن الحب الإلهـى قـد تحـوّل, والحـالة هـذه, فى نظـر الإنسان, إلى " غضب" يصبـّه الله عليـه... فى حين أن " الغضب" هـذا ما هـو بالحقيقـة إلا نتيجـة تعطيـل الإنسان لمفعـول الحب الإلهـى فيه ودمغـه إياه بعـلامة سالبـة بـدل العـلامة الإيجـابية التى هـى له فى الأصـل...
مما يتسبّب فى مأساة هى, كمـا قالت إحـدى القديسات, مأساة الله نفسه قبل أن تكـون مأساة الإنسان...
هل يقتل الله فى سبيل التأديب؟هل يقتـل الله فى سبيل التـأديب؟ وكيف نفـهم حـادثـة سدوم وعـامـورة؟...مقدمة: المفهـوم الشائع عن الله:المفهـوم الشائع عـن الله بين الناس, حتى المسيحييـن منهـم, أن الله يقتـل أعـداءه... إنـه تصـوّر فطـرى ( لا بمعنـى الفطـرة النقيـة التى فطـرنا الله عليهـا, أى صـورتـه فينـا, بل بمعنـى ما نشعـر بـه تلقـائيـًا فى وضعنـا الساقـط, وهـو وضـع تحتـجب فيـه أصـالتنـا وراء " قنـاع الأهـواء"), يلصـق بالله نزعتنـا إلى التخلّـص ممـن يعتـرض سبيـلنـا ( فنصـوّر الله على شاكلـة بؤسنـا عـوض أن نتصـوّر نحـن على شاكلـة مجـده)...
إن عفـوية أهـوائى تجعلنـى انظـر إلى الآخـر من خـلال مشاريعـى: فإن اعترضهـا, جـازت بنظـرى إزالتـه... فإذا بـى ألصـق بالله الموقـف نفسـه, فأجعـل منـه إلهـًا يتـلاءم مـع مـا ألفتـه فى نفسى, واتجـاهـل كونته " الآخـر بالكليـة", ذاك الذى يدعـونى إلى تخطـّى ما ألفتـه وارتحـت إليـه من انحـراف وتشـويه فى ذاتـى " أخـرج من أرضـك" لأجـد بـه ذاتى الحقـيقيـة, تلك التى يتصـوّر هـو فيهـا...
الله يكشف لى ذاتـه باستمـرار, ولكننـى أتلـقى هذا الكشف من خـلال مـا أنـا عليـه من مواقـف وأوضـاع تلـوّن, وقـد تشوه, الكشف الـذى أتلقـاه منـه... الشمس واحـدة, ولكننى أراهـا حمـراء أو خضـراء أو زرقـاء حسب لـون النظـارات التى أضعهـا على عينـىّ... وحـدهـا النظـارة الصـافيـة تكشف لى كل حقـيقتهـا... هكـذا بقـدر ما تشـفّ نظـرتى إلى الله, بهـذا المقـدار عينـه يستقـيم كشفـه عـن ذاتـه...
مـن هنـا أن الله فى العهـد القـديم كثيـرًا مـا يبـدو إلهـًا بطـّاشـًا ينتقـم لنفسـه يقتـل أعـدائـه: إبـادة النـاس جملـة بالطـوفان, تدميـر سدوم وعامورة, قتـل أبنـاء المصـريين, إمـاتة الذيـن خالفـوا موسى, إرسـال الحيـات على شعب إسرائيـل فى البـرية لمعـاقبتـه على تـذمّـره ضـد الله ومـوسى ... هـذا كلـه, غالبـًا ما يُبَـرّر علـى أنـه " تـأديب" من الله...
ولكـن هـذه " العقلنـة" للتصـرّف المدمّـر المنسوب إلى الله لا تغيّـر شيئـًا فى جـوهـره ولا تجعـله أكثـر ليـاقة بالله... ذلك أنـه, إذا صـحّ هـذا التبرير, يكـون الله قـد إتخـذ من إنسان مـا, أو مجموعـة مـن البشـر, مجـرد أداة لتنفيـذ مشروع تـأديبى, أى أنـه يكـون, فى تلـك الحـالة, غيـر مقيـم وزنـًا لقيمـة هـذا الإنسان أو هـذا الجمـع بحـدّ ذاتـه...
من جهـة أخـرى يكـون, والحـالة هـذه, قـد ضرب عـرض الحائـط بحـريّـة النـاس, إذ يكـون قـد أرغمهـم بعنفـه على الخضـوع له, ناهيـك عن أن مثـل هـذا الخضـوع لا بـدّ وأن يكـون شكليـًّا وظاهـريـًا لا يتغيـّر من جـرّائه أى شئ فى قلوبهـم...
هـذا التصـوّر عـن الله يعكس, كمـا رأينـا, أنـويـة البشر العـدوانيـة... ولكنـه, بالمقـابـل, يرسخـّها أيضـًا وبغـذّيهـا, إذ يعطيهـا مبـرّرًا مستمـدًّا مما يُـعتقـد أنـه أخـلاق الله نفسـ÷... إنـه يمنحـنـا ذريعـة لنتحكّـم بمصير الآخـرين ونبطـش بهـم لتـأكيـد سلطـاننـا, مقنعـين أنفسنـا بأننـا, إذا فعلنـا ذلك, فإنمـا نحـن نخـدم الله وننـفـّذ مشيئتـه ونعليـه على " أعـدائـه"... من هنـا نـرى البشـر, ولـو كـانوا أعظمهـم وأقـدسهـم, يسيرون على منـوال الصـورة التى يرسمـونهـا عـن إلههـم ( بهـذا المعنـى يصـحّ القــول:" قـل لـى مـن هـو إلهـك, أقـول لك مـن أنت" ): فمـوسى العظيـم يأمـر سبط لاوى بـأن يقتـلوا جملـة من الإسرائيـليين الذيـن عبـدوا " العجـل الذهبـى"... [ هـذا مع العلـم بـأن موسى نفسـه, عندمـا تـراءى لـه أن الله سوف يبـيد الشعب كلـه عقـابـًا لـه على عبـادتـه لهـذا الوثـن, رفـض هـذا الاحتمـال بكل جـوارحه واستنـد فى ضراعتـه إلـى الله إلى مـا سبق لله أن عـبر عنه من رحمـة لهـذا الشعب, وكـانه يحتكـم ضـد صـورة الإلـه المنتقـم إلى مـا اختبـره من حقـيقـة الله فكـان هـذا الصـراع الذى عاشه فرصـة له لتنقيـة إيمـانه بالله من شوائب العتـاقـة البشرية ولكـن هـذه التنقيـة لم تصـل عنـده إلى آخـر المطـاف ] [ راجـع خـروج 32: 7 ـ 14 ]... ويشـوع بن نون يبيـد مدنـًا كنعـانيـة إبـادة كاملـة معتقـدًا أن هـذه هـى مشيئـة الله... وإيـليّـا, أعظـم أنبيـاء العهـد القـديم, يـذبح بيـده 450 كاهنـًا من كهنـة البعـل... وقـد امتـدّ ذلك إلى " العهـد الجديد" بفعـل استمـرار " عتـاقة" الأهـواء متحكّمة فى كثيرين من " أبنـاء النـور", على الأقـل فى مجـالات واسعـة من وجـودهـم, فـأدى إلى الحـروب الصليبيـة ( وإغـراق القدس بالدمـاء عنـد فتحهـا ) ومحاكـم التفتيش وإحـراق الهـراطقـة غـربـًا وشرقـًا... أولاً المسيح يكشف لنا صورة الله الحقيقية:ولكـن الله " بعـد أن كـلّم الآبـاء بالأنبيـاء", مجتهـدًا عبرهـم أن يرمّـم تدريجيـًا صـورتـه المشوّهـة فى الإنسان, متـّخـذًا لهـذا الغـرض شعـبـًا اختصـّه لنفسـه ليجعـل منـه خميـرة لجميـع شعـوب الأرض, الله " كلّمنـا أخيـرًا فى ابنـه" المتجسّـد يسوع المسيـح... وقـد كشف لنـا الرب يسوع المسيح حقيـقـة صـورة الله, كاملـة, دون زيـغ أو تشويـه... وذلك ليس فقـط لأنـه " كلمـة الله " , وبالتالى " صـورة جوهـره": [ اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي ] [ عبرانيين 1: 1ـ 3 ], بـلّ لأن إنسانيتـه شفـّت تمامـًا للنـور الإلهـى الحـالّ فيهـا, فأوصلتـه إلينـا دون تلوين أو تشويـه... ولم يتـمّ ذلك دون معـانـاة أو صـراع, لأن يسـوع الإنسان جُـرّب بالانقيـاد لصـورة الإلـه المحـارب, المنتقـم, السـاحـق, وقـد داهمتـه هـذه التجـربـة منـذ بـدء حياتـه البشـريـة, واحتـدمت إلى حـدّ النزاع وتساقـط العـرق من جبينـه كقطـرات الـدم فى بستـان جسيمانـى قبـل الآلام عندمـا جُـرّب بإبعـاد كأسهـا عنـه وحسم الموقـف لصـالحـه و [.. َظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ يُقَوِّيهِ ] [ لوقا 22: 43] لسحـق خصـمه, وامتـدت إلى الوقت الذى يحتضـر فيـه معلقـًا على الصليب ويواجـه تعـييـرات أعدائـه المتحـدّين له بقـولهم: " إن كنت ابن الله فإنـزل عن الصليب" ... [ وَكَانَ اَلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَاَلرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ اَلْمَسِيحَ مُخْتَارَ اَللهِ ] [ لوقا 23: 35]... إن يسوع, ببقـائـه عـلى هـذه الشفـافيـة الناصعـة لنـور الله, كشف لنـا حقـيقـة الله الكاملـة, إن بسلـوكه أو بتعليمـه: 1 ـ بسلوكه:سوف نبـرز هـذا السلوك مـن خـلال ثـلاث محطـات مـن سـيرة الرب يسوع المسيح: أ ـ جواب يسوع عن سؤال يوحنا المعمدان:
يوحنـّا السابق, ذاك الـذى شهـد عنـه يسوع نفسه بأنـه:" أعظـم المولودين مـن النساء" , كـان مـع ذلك مرتبطـًا بالعهـد القـديم مـن حيث تصـوّره لله... لـذا كان ينتظـر, على ما يبـدو ـ شأنـه فى ذلك شأن فرقـة " الآسانيـين" وهـم رهبـان يهـود عـاشوا فى ذلك العصـر وعرفنـا الكثيـر عنهـم من مخطـوطات البحـر الميت التى اكتشفـت بـدءًا مـن عـام 1947 ـ أن يـأتى الله بقـوة ساحقـة ليبيـد أعـداءَه ويقيـم على أشـلائهـم مملكـة البـرّ... هـذا ما يُستـدلّ من عبـارات الوعيـد التى تلفـّظ بهـا عندمـا أنـذر اليهـود بوجـوب التـوبـة, والتى يقتـرن فيهـا الإعـلان عـن إقتـراب عهـد المسيح بصـورة النـار التى تحـرق الأعـداء: [ وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ ] [ متى 3: 10 ـ 12]...
وقـد تعـرّف يوحنـّا بالـروح علـى يسوع بأنـه المسيح المنتظـر فـدلّ النـاس عليـه... ثـمّ اُعتقِـل بسبب إخـلاصـه لشريعـة الله, ولا بـدّ أنـه كـان ينتظـر فى سجنـه أن يُعتـلن غضب الله على يـدّ مسيحـه فيحطـّم الأشرار ويُطـلق الأبـرار من عقـالاتهـم... إن انتظـاره هـذا لـمّ يكـن بالأمـر الغريب وقـد كان منسجمـًا مـع كل ذهنيـة العهـد... لـذا حـيّره إحجـام يسوع عـن إطـلاق غضـب الله... لـذا [ أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي اَلسِّجْنِ بِأَعْمَالِ اَلْمَسِيحِ أَرْسَلَ اِثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ ] [ متى 11: 2, 3]... أدرك يسوع قصـد يوحنـّا مـن سـؤاله, فمـا كان جـوابـه إليه؟: [ اِذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ وَاَلْمَوْتَى يَقُومُونَ وَاَلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ ][ متى 11: 4 ـ6]...
وكأنـه يقـول له: أنـك تنتظـر أن يعلـن الله عـن نفسـه بالغضـب السـاطع المـدمّـر, ولكنـه بالفعـل إنمـا يكشـف اقتـرابـه بالرحمـة المحييـة والمحـرّرة الممنـوحـة لمسحـوقى الأرض والتـى سبـق للنبـى إشعيـاء أن تحـدث عـن بزوغهـا فى يـوم مجـئ الرب: [ تَحْيَا أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ اَلْجُثَثُ. اِسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ اَلتُّرَابِ. لأَنَّ طَلَّكَ طَلُّ أَعْشَابٍ وَاَلأَرْضُ تُسْقِطُ اَلأَخْيِلَةَ ] [ أشعياء 26: 19], [وَيَسْمَعُ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ َلصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ وَتَنْظُرُ مِنَ اَلْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ اَلْعُمْيِ ] [ أشعياء 29: 18], [ حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ اَلْعُمْيِ وَآذَانُ اَلصُّمِّ تَتَفَتَّح ُ] [ أشعياء 35: 5 ], [ أَرْسِلُوا خِرْفَانَ حَاكِمِ اَلأَرْضِ مِنْ سَالَعَ نَحْوَ اَلْبَرِّيَّةِ إِلَى جَبَلِ اِبْنَةِ صِهْيَوْنَ ] [ اشعياء 16: 1]... أمـا شهـادة الحـق فلـن تفـرض نفسهـا الساحقـة بـل تشق طريقهـا عبـر إخـلاص حتى المـوت ... والقيـامـة...
بهـذا البرنـامج الـذى رسمـه وحقـقـه الرب يسوع المسيح لرسالتـه, قـلب المفـاهيـم الشائعـة عـن نمـط تدخـّل الله فى الأرض ليقيـم فيهـا مملكتـه...
وإننـا نجـد نفس البرنـامج فى تلك الخطبـة التى ألقـاها يسوع فى مجمـع النـاصرة ودشـّن بهـا رسـالتـه: [ وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: { رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ }. ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: { إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ } ][ لوقـا 4: 16 ـ 21 ]... ب ـ جواب يسوع على طلب وجّهه إليه يعقوب ويوحنا:
الموقف نفسه, ومـا يكشفـه مـن سلوك الله, نجـده فى جـواب يسوع على طلـب وجّـهـه إليه يعقـوب ويوحنـّا ابنـا زبـدى... كان السامريون واليهـود أعـداء ألـداء فى ذلـك العهـد... وكان السامـرين, مـن جـراء ذلك يتربّـصون باليهـود الذيـن كانـوا يمـرّون بقـراهم فيسيـئون معاملتهـم, خاصـة إذا كانـوا حجـاجًا صاعـدين إلى أورشليـم... هـذا مـا يلقـى ضـوءًا على تلك الحـادثـة التى يرويهـا لوقا الإنجيـلى: [ وَحِينَ تَمَّتِ اَلأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: { يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟ } فَالْتَفَتَ وَاِنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: { لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ }. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى ] [ لوقـا 9: 51 ـ 56]...
لقـد أطلـق يسوع بحـق على ابنى زبـدى لقب " ابنى الرعـد" , وها همـا فى هـذه الحـادثـة يتصـرفان وفقـًا للقبهمـا... ولكن الموقف الذى وقفـاه من السامـريين الرافضيـن استقبـال يسوع لم يكـن من عندياتهمـا... لقـد استلهمـاه من حادثـة يرويها الكتـاب عـن إيليـا عندما استنزل نـارًا من السمـاء أحـرقت على دفعتين رسل الملك أخـزيـا: [ وَسَقَطَ أَخَزْيَا مِنَ اَلْكُوَّةِ اَلَّتِي فِي عُلِّيَّتِهِ اَلَّتِي فِي اَلسَّامِرَةِ فَمَرِضَ، وَأَرْسَلَ رُسُلاً وَقَالَ لَهُمُ: [اِذْهَبُوا اِسْأَلُوا بَعْلَ زَبُوبَ إِلَهَ عَقْرُونَ إِنْ كُنْتُ أَبْرَأُ مِنْ هَذَا اَلْمَرَضِ ]. فَقَالَ مَلاَكُ اَلرَّبِّ لإِيلِيَّا اَلتِّشْبِيِّ قُمِ: [ اِصْعَدْ لِلِقَاءِ رُسُلِ مَلِكِ اَلسَّامِرَةِ وَقُلْ لَهُمْ: هَلْ لأَنَّهُ لاَ يُوجَدُ فِي إِسْرَائِيلَ إِلَهٌ، تَذْهَبُونَ لِتَسْأَلُوا بَعْلَ زَبُوبَ إِلَهَ عَقْرُونَ؟ فَلِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ اَلرَّبُّ: إِنَّ اَلسَّرِيرَ اَلَّذِي صَعِدْتَ عَلَيْهِ لاَ تَنْزِلُ عَنْهُ بَلْ مَوْتاً تَمُوتُ ]. فَانْطَلَقَ إِيلِيَّا. وَرَجَعَ اَلرُّسُلُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: [ لِمَاذَا رَجَعْتُمْ؟ ] فَقَالُوا لَهُ: [ صَعِدَ رَجُلٌ لِلِقَائِنَا وَقَالَ لَنَا: اِذْهَبُوا رَاجِعِينَ إِلَى اَلْمَلِكِ اَلَّذِي أَرْسَلَكُمْ وَقُولُوا لَهُ: هَكَذَا قَالَ اَلرَّبُّ: هَلْ لأَنَّهُ لاَ يُوجَدُ فِي إِسْرَائِيلَ إِلَهٌ أَرْسَلْتَ لِتَسْأَلَ بَعْلَ زَبُوبَ إِلَهَ عَقْرُونَ؟ لِذَلِكَ اَلسَّرِيرُ اَلَّذِي صَعِدْتَ عَلَيْهِ لاَ تَنْزِلُ عَنْهُ بَلْ مَوْتاً تَمُوتُ ]. فَقَالَ لَهُمْ: [ مَا هِيَ هَيْئَةُ اَلرَّجُلِ اَلَّذِي صَعِدَ لِلِقَائِكُمْ وَكَلَّمَكُمْ بِهَذَا اَلْكَلاَمِ؟ ] فَقَالُوا لَهُ: [إِنَّهُ رَجُلٌ أَشْعَرُ مُتَنَطِّقٌ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ ]. فَقَالَ: [ هُوَ إِيلِيَّا اَلتِّشْبِيُّ ]. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَئِيسَ خَمْسِينَ مَعَ اَلْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ، فَصَعِدَ إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ اَلْجَبَلِ. فَقَالَ لَهُ: [ يَا رَجُلَ اَللَّهِ، اَلْمَلِكُ يَقُولُ اِنْزِلْ ]. فَأَجَابَ إِيلِيَّا رَئِيسَ اَلْخَمْسِينَ: [ إ ِنْ كُنْتُ أَنَا رَجُلَ اَللَّهِ فَلْتَنْزِلْ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَتَأْكُلْكَ أَنْتَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَكَ ]. فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ هُوَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ. ثُمَّ عَادَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَئِيسَ خَمْسِينَ آخَرَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ: [ يَا رَجُلَ اَللَّهِ، هَكَذَا يَقُولُ اَلْمَلِكُ: أَسْرِعْ وَانْزِلْ ]. فَأَجَابَ إِيلِيَّا: [ إِنْ كُنْتُ أَنَا رَجُلَ اَللَّهِ فَلْتَنْزِلْ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَتَأْكُلْكَ أَنْتَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَكَ]. فَنَزَلَتْ نَارُ اَللَّهِ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ هُوَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ ][ 2 ملوك 1: 2ـ 12]...
لقـد كان إيليـا عظيمـًا... وقـد غـدت غيرتـه على الإلـه الحـىّ مضرب مثـل إلى يومنـا هـذا... وكـان ذا جـرأة مـدهشة فى التصـدّى للملوك المفسـدين... ولكنـّه كان يتصـوّر الله نـارًا تحـرق الكـافـرين... وفى جبـل الكـرمل, تحـدّى كهنـة البعـل قائلاً: [ ثُمَّ تَدْعُونَ بِاسْمِ آلِهَتِكُمْ وَأَنَا أَدْعُو بِاسْمِ اَلرَّبِّ. وَالإِلَهُ اَلَّذِي يُجِيبُ بِنَارٍ فَهُوَ اَللَّهُ ] [ 1 ملوك 18: 24]...
ولم يكـن يـدرك أنـه بمبـادرة الاقتـدار تلك التى أقحـم الله فيهـا, كان ينحـدر, مـن حيث لا يشـاء, بالإلـه الحـىّ إلى مصـف البعـل, الذى كان, باعتقـاد الكنعـانيـين, إلـه العـاصفـة والريـح والرعـد والصـاعقـة...
ولكنـه, بعـد أن نجـح فى مبـادرتـه تلك وذبـح على أثـر ذلك كهنـة البعـل وعـدا صاحب نفـوذ لـدى الملك, ارتـدّ عليـه انتصـاره واتـّضح لـه أنـه, فى لعبـة العنف هـذه, أضعـف من أن يجـارى الملكـة إيـزابيـل, فهـرب من أمـام انتقـامهـا واكتشف حـدود إقـتـداره... عنـد ذاك لقـّنـه الله درسـًا بليـغـًا على جبـل حـوريب, يرويـه سفـر الملوك : [ وَدَخَلَ هُنَاكَ اَلْمَغَارَةَ وَبَاتَ فِيهَا. وَكَانَ كَلاَمُ اَلرَّبِّ إِلَيْهِ: [ مَا لَكَ هَهُنَا يَا إِيلِيَّا؟ ] . فَقَالَ: [ قَدْ غِرْتُ غَيْرَةً لِلرَّبِّ إِلَهِ اَلْجُنُودِ، لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَرَكُوا عَهْدَكَ وَنَقَضُوا مَذَابِحَكَ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَكَ بِالسَّيْفِ، فَبَقِيتُ أَنَا وَحْدِي. وَهُمْ يَطْلُبُونَ نَفْسِي لِيَأْخُذُوهَا ]. فَقَالَ: [ اُخْرُجْ وَقِفْ عَلَى اَلْجَبَلِ أَمَامَ اَلرَّبِّ ]. وَإِذَا بِالرَّبِّ عَابِرٌ وَرِيحٌ عَظِيمَةٌ وَشَدِيدَةٌ قَدْ شَقَّتِ اَلْجِبَالَ وَكَسَّرَتِ اَلصُّخُورَ أَمَامَ اَلرَّبِّ، وَلَمْ يَكُنِ اَلرَّبُّ فِي اَلرِّيحِ. وَبَعْدَ اَلرِّيحِ زَلْزَلَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ اَلرَّبُّ فِي اَلزَّلْزَلَةِ. وَبَعْدَ اَلزَّلْزَلَةِ نَارٌ، وَلَمْ يَكُنِ اَلرَّبُّ فِي اَلنَّارِ. وَبَعْدَ اَلنَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ اَلْمَغَارَةِ ] [ 1 ملوك 19: 9ـ 13]...
إنـه لكشف رائـع لحقـيـقة الله, أتيح لإيليـا على جبـل حوريب... فقـد كانت الريـح الشديـدة " تصـدع الجبال وتحطم الصخور أمام الرب" ولكن الرب لم يكن فى الريح... كذلك, عبـرت الزلزلـة والنـار عن اقتـدار , ولكنـه لم يكـن فى هـذه أو تلـك... وكـان إيليـّا اكتشف, بعـد أن كان مأخـوذًا باقتـدار الله ومتخـذًا منـه ـ ربمـا من حيث لا يـدرى ـ سبيـلاً لتحقـيـق اقتـداره هـو وبسط سلطـانه, كأنه اكتشف أن الله, وهـو الكـلى الاقتـدار فعـلاً, إنمـا يتجـاوز اقتـداره هـذا, وأنـه بالتـالى أعظـم مـن اقتـداره ومتعـالٍ عليـه...
تلـك كانت ومضـة فى حيـاة إيليـّا, لحظـة سريعـة سقطـت فيهـا الحُجُب فأطـّـل عليـه وجـه الله بنـوره المحيـّر... ولكـن هـذه الومضـة تحـوّلت إلى حقـيـقـة ثـابتـة راسخـة فى فكـر يسوع المسيح ابن الله المتجسّد وسلـوكـه...
من هنـا " انتهـاره" لابنـى الرعـد عندمـا عرضـا عليـه تكـرار ما روى عـن إيليـّا من استنزال نـار من السمـاء لاحـراق جنـد ذلك الـذى لـم يراع حـرمـة النبـوّة... هـذا الانتهـار غـنى عن التعليـق, ولـو أنـه قـد وردت بعـد ذكـر هـذا الانتهـار, العبارة التاليـة على لسان الرب يسوع: { لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ }. ج ـ تصرّف يسوع عند إلقاء القبض عليه:
ثـمّ أن كشف يسوع لحقـيـقة الله بلـغ ذروتـه حين إلقـاء القبض عليـه... ولكـى نـدرك ذلك حـف الادراك, ينبغـى أن نضـع أنفسنـا مكـان التلاميـذ الذيـن شهـدوا ذلك الحـدث المريـع...
هـؤلاء كانوا قـد اكتشفـوا بشـقّ النفس, بعـد مرافـقة طويلـة للمعـلم, أنـه " المسيح", وعبّـر بطـرس عـن هـذا الاكتشاف فى الاعتراف الشهير الذى أدلى به أمـام يسوع فى قيصـرية فيلبس... وقد كانت صـورة المسيح مقـترنـة فى الذهنيـة اليهـودية التى نشأ عليهـا التـلاميذ وتشبـّعـوا منهـا, كانت مقـترنـة بصـورة الاقتـدار الكـلّى والجبرؤوت... فالمسيح, بموجب هـذه الذهنيـة, وإن لم يكـن قـد اتـّضح جليـًّا بُعـد أصلـه الإلهـى, إنمـا كان يُعـتبـر بحـق مُمثـّل الله فى الأرض والمُنفـّذ الأسمى لمقـاصـده فى التاريخ... مـن هنـا, الاعتقـاد الشائـع بأنـه سيسود فى الأرض دون منـازع لأن قـدرة الله ستسحـق الأعـداء تحت قدميـه... لـذا لم يكـن يـؤبه لتلك المقـاطـع الغامضـة من نبـوءة أشعيـاء المتعلقـة بشخصيـة " خـادم الـرب" وبغيرهـا من النبوءات المماثلة, التى كانت تصـوّر المسيح على أنه " رجـل أوجـاع", وبالعكس كانت تُبرز إلى الواجهـة نصـوص تـؤخـذ بمعنـاهـا الحرفى وهى تتحـدث عن عـزة المسيح واقتـداره الساحـق: " قال الرب لربى: اجلس عـن يمينى حتى أجعـل أعداءك موطئـًا لقدميك... عصا قـوة يرسل لك الرب من صهيـون فتسود فى وسط أعدائك... معك الرئـاسة يوم قـوتك ... الرب عن يمينك يحطـم فى يوم رجـزه الملوك ... يملأ الأرض جثثـًا..." إلخ...
تلك هى بالضبـط الصـورة التى قـفزت إلى أذهان التلاميـذ عنـدما تيـقـّـنـوا بأن يسوع هـو المسيح الرب... وإذا بيسوع يدمّـر هـذه الصـورة تدميـرًا, فيعـلن المـرة تلو المـرة عـن قـرب آلامـه وموتـه... والتـلاميـذ لا يفهـمون... وكيف لهـم أن يفهـموا أن يفشل المسيح فى إقـامة ملك ظـاهر فى الأرض ( ولـو أنهـم أخبروا أن هـذا الفشل سيتبعـه ظفـر قيامـة كان معنـاهـا لا يـزال مُغـلقـًا عليهم)... مجـرد التفكيـر بفشل المسيح هـذا كان يزعـزع مجمـل تصـورهم عن الله, إذ كيـف يُعقـل أن يقبـل الله بفشل ممثلـه ومنفـّذ أوامـره دون أن يزلـزل الأرض بالمتآمـرين ويسحقهـم سحقـًا ويبيـدهـم من أمـام وجهـه " كمـا يبـاد الدخـان وكمـا يذوب الشمـع من أمـام وجـه النـار"؟,,, ثم كيف يحتمـلون بأن تنسحب عـزة الله ومسيحـه عليهـم, هـم الأتباع المخلصـون, إلى حـدّ أنهـم شرعـوا يتنافسون على المقـامـات والأمجـاد العـتيـدة...
لقـد كان إنبـاء يسوع المسيح عـن إقتـراب آلامـه, ومـا تـراءى لهـم عبـر هـذا الإنبـاء مـن ضعـف ظاهـرى لله نابـع مـن احترامـه المـذهـل لحـرية المخلـوق, لقـد كان هـذا الاعـلان بمثـابة صـفعـة عـنيفـة لهـم, فثـار بطـرس وزجـر يسوع على كـلامـه هـذا, فنـال جوابـًا قاسيـًا وبّخـه فيـه المعـلّم على إنقيـاده إلى " أفكـار النـاس" ( النـاس الذين تشوّهت فيهـم صـورة الله فلـم يعـودوا قـادرين على تصـوّره بغيـر صـورة الإلـه الساحـق ) دون " أفكـار الله"... لكنهـم, على مـا يبـدو, بقـوا حتى اللحظـة الأخـيرة, ورغـم انـذارات يسـوع المتكـررة, متشبّـثـين بتصـوّراتهم عـن المسيح وعـن الله... لـذا فلا شكّ أنهـم صُعـقـوا حين أتـى الجنـد ليـلاً ووضعـوا اليـد على مسيح الله دون أن تنشـقّ الأرض وتبتلعـهم... وكـأنى بطـرس, فى تلك اللحظـة الرهيبـة, يقـوم بحـركة يائسة يعبّـر فيهـا عن مـرارة انهيـار أحـلامـه, فيستـلّ سيفـه ويضـرب بـه أحـد خـدّام رئيس الكهنـة فيقطـع أذنـه... وإذا بيسـوع يعـاتبـه فى هـذه المـرة أيضـًا فيقـول: [ رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ اَلسَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ اَلآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اِثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟ ] [ متى 6: 52 ـ 54]... وكـأنه يقـول لـه: إن الله كلّـى الاقتـدار فعـلاً, فهـو قـادر على إرسـال أكثـر من اثنتى عشر فيلقـًا من الملائكـة ( والعـد 12 إنمـا هـو عـدد الكمـال ويشير بالتألى إلى قـوة كاملـة, فتـكون العبـارة " أكثر من اثنـى عشر" إشارة إلى قـوة فائقـة الكمـال ) ليبـيـد أعـدائى وأعـداؤه... ولكـن الله يعـلو على اقتـداره هـذا لأنـه محبـة تحتـرم بصـورة مذهلـة, " جنـونية" ( ذلك هـو " الحبّ الجنـونى" الذى تحـدّث عنـه مكسيموس المعتـرف ونقـولا كاباسيلاس ), حـرية المحبـوب, إلى حـدّ القبـول بمعاناة رفضـه الكامـل, القاتـل, لهـا...
من هنـا إننى لن أسأل أبى أن يتصرّف خلافـًا لحقيقتـه, وهـذا هـو معنى هتـافى" لا كمـا أنـا أشاء, بـل كمـا أنت تشاء", ذلك الذى أطلقتـه فى بستـان جسيمانى حيث عشت المخـاض العسير الذى عَـبْـرَه سَـطعـت فى إنسانيتى صـورة الله على حقيقتهـا الناصعـة العجيبـة... أضف إلى هـذه المواقف, موقف يسوع من المـرأة التى أخـذت فى زنى, وأتـاه بهـا الكتبـة والفريسيون قائلين له: " يا معلم, إن هذه المرأة أخـذت فى الزنى المشهود وقد أوصانا موسى فى الشريعة برجم أمثالهـا, فأنت ماذا تقـول؟" [ راجع يوحنا 8: 1 ـ 11]. نرى أن يسوع رفض أن يغلق على هذه المرأة فى خطيئتهـا, أن يختزلهـا بهـا, وبالتالى إنه حـرّر الله من الصـورة التى أُلصقت به, صـورة الديان المنتقم...
يقـول لاهوتيان كاثوليكيان بهـذا الصدد: " ... يتوجـه يسوع إلى المـرأة كما إلى شخص مسؤول قـادر أيضـًا أن يفـعـل الخير... يسوع لا يقبـل أن يكـون ذنب هـذه المـرأة الكلمـة الأخيرة لحياتهـا... يدعـوها إلى عيش شئ آخـر... يخرجهـا من الصـورة التى يرسمهـا عنهـا فعلهـا... يخرجهـا من الدور الذى احتجـزها فيه موقف محيطهـا... إنه يفتـح أمامهـا مستقبلاً: " اذهبى ولا تعـودى إلى الخطيئـة" ... بتحريره المـرأة الزانية, بمنحهـا, ما وراء خطيئتهـا, فرصـة جديـدة للعيش, بصفحـه عنها, يسوع, بآن واحـد, يحرر الله من صورة الآب الجالد والديان المنتقم... يسوع لا يُسلّم, إنه يُحـرّر... ينبغى أن لا ننسى أن يسوع , بالغـة العبرانية, يعنى " الله يُخـلّص"...
ما ينبـغى التشديـد عليـه بهـذا الصـدد, أن سلوك يسوع هـذا لم يكن قنـاعـًا سترالله به وجهـه فى يسوع المسيح فتـراءى لنـا بـه لفـترة محـددة عاد بعـدها إلى ما يُفـترض أنه كان عليه من اقتـدار قاهـر, ساحـق... إنمـا قـد عـبّر هـذا السلوك نهائيـًا عن وجـه الله الحقـيقـى المتجـلّى فى إنسانيـة يسوع المسيح... من هنـا,إنـه لا يمكن أن تكـون لنـا معـرفة صحيحـة عن الله, معـرفة لا تشوبهـا إسقاطـاتنـا وهـواماتنـا, إلا تلـك التى نجنيـهـا من رؤيتنـا لإنسانية يسوع...
بهـذا المعنى قال السيد : [ اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟ ] [ يوحنا 14: 9], وأيضـًا [ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً ] [ يوحنا 8: 19], [ وَالَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي ] [ يوحنا 12: 45], [ اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ ][ يوحنا 1: 18], [ كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ اَلاِبْنَ إِلاَّ اَلآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ اَلآبَ إِلاَّ اَلاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ اَلاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ ][ متى 11: 27], وعن المسيح قال الرسول بولس أنه: [ اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ ] [ كولوسى 1: 15], كمـا قال أيضـًا: [ لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اَللهِ وَاَلنَّاسِ: اَلإِنْسَانُ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ ] [ 1 تيموثاوس 2: 5]... 2 ـ بتعليمه:ومما يؤكـد ذلك كون يسوع أيّـد بتعليمـه عن الله صحّـة صـورة الله التى تتجـلّى فى سلـوكه الإنسانى... فمثلاً نـرى أن محبـة الأعـداء التى نـادى يسوع بهـا اتـّخـذت نمـوذجـًا لهـا سلوك الله نفسـه, بحيث تبيـّن بأن الله ليس الإلـه المنتقـم الذى يقابـل الشر بالشر, بـل هـو ذاك الذى يُنعـم بخيراته على الأخيـار والأشرار على حـد سواء, ذاك الذى هـو " رحيـم" أى واسع القلب إلى حـدّ أنـه يشمـل برحـابة حبـّه الأبـرار والأثمـة: [ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ اَلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى اَلأَشْرَارِ وَاَلصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى اَلأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ اَلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ اَلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ ] [ متى 5: 44 ـ 48]... [ بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي اَلْعَلِيِّ فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ اَلشَّاكِرِينَ وَاَلأَشْرَارِ.فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ ] [ لوقا 6: 35, 36]... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــثانيًا: المسيح يكشف لنا المعنى الحقيقى لعبارتى" الدينونة" و " غضب الله":على ضـوء مـا عرفناه من حقـيقـة الله فى سلوك يسوع المسيح وتعليمـه, يتسنّى لنا أن ندرك المعنى الحقـيقى الكـامن فى عبارتى " الدينـونة" و" غضب الله", اللتين كثيـرًا ما تتكـرّران فى الكتـاب المقـدس بعهـديه, واللتين ينبغى بصـددهما أن نتجنـب بحـرص نوعيـن من الشـطط لا يقـلان خطـرًا أحـدهما عن الآخـر: شطـط تجاهلهمـا واستبعادهمـا من هواجسنـا, مما يـؤول إلى تمييـع صـورة الله وبالتـالى علاقتنـا به, وشطـط تأويلهمـا تـأويلاً بشريـًا بحتـًا لا يقيـم الـوزن الكافى لجـدّة كشف المسيح لنـا عـن طبيعـة الإلـه الحـق, مما يـؤول إلى تشويـه مـن نوع آخـر نلحقـه أيضـًا بصـورة الله وبعـلاقتنـا به على حـدّ سواء... 1ـ مفهـوم " الدينونة":ولنـأخـذ أولاً مفهـوم " الدينـونة"... إن نصّـًا هامـًا من إنجيـل يوحنـّا يوضـّح لنـا كيف ينبعى أن نفهمهـا فى ضـوء ما تلقينـاه من كشف عن حقيقـة الله فى يسوع المسيح: [ لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ. وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ ] [ يوحنا 3: 16 ـ 20]... يتـّضح من هـذا النـصّ أن " الدينـونة" ليست عقـابـًا ينزلـه الله بالـذين يخالفـون أوامـره, بغيـة الاقتـصاص منهـم على مـا فعلـوه من شرور... فالله لا يريـد سوى خـلاص الإنسان... إن اقتـداره الكـلّى يتجـلّى لا بالقمـع والسحـق ـ اللذان يراودان أحـلامنـا بالاقتـدار, بالضبـط لأننـا كائنـات ضعيفـة, محـدودة و تحتـاج, مـن أجـل تأكيـد قدرتهـا والتعـامى عـن هشاشة هـذه القـدرة, إلى التسلّط على من هم أضعـف منهـا ـ بل بكـونه " معطـى الحيـاة" ( وإعطـاء الحيـاة إنمـا هو أصعـب مـا فى الوجـود, بدليـل أن البشر الـذين أضحـوا قادريـن على إفنـاء الحيـاة عـن وجـه الأرض بأسلحتهم الفتـّاكة, لم يتوصـلوا حتى الآن إلى ابتكـار خليـّة حيـّة واحـدة )...
الله محبـة ونـور وحيـاة ليس إلا: [ وَهَذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنَ الْمَسِيحِ وَنُعْلِنُهُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ نُورٌ، وَلَيْسَ فِيهِ ظَلاَمٌ الْبَتَّةَ ] [ 1يوحنا 1: 5]... هـذا مـا تجلّى بإرسال الحبيب إلى عالمنـا: فقـد أتى لا ليُهـلك بـلّ ليـُحيى: [لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ ] [ يوحنا 3: 16]... ومـع ذلك فإن النصّ يشير إلى " دينـونة" ... فمـا هى طبيعـة هـذه " الدينـونة" يا تُـرى؟... العبـارة اليونانيـة التى تشير إلى " الدينـونة" فى العهـد الجـديد هى KRISIS , والمدلول الأصـلى لهـذه العبـارة فى اليـونانية إنمـا هـو التمييز... فنـور الله ومحبتـه, إذا ظهـرا, يضطـران النـاس إلى إتخـاذ موقف صريـح منهمـا, يكـون إمـا التجـاوب معهمـا أو رفضهمـأ... هكـذا يتميـز النـاس بعضهـم عن بعـض بمـوجب الموقف الذى يتخـذونه... فالـذين يفتحـون قلوبهـم لنـور الله ومحبتـه يصبحـون مشاركين لحيـاة الله, وبالتـالى فهـم يقيمون فى النـور والفـرح والحيـاة... أمـا الذين ينغـلقـون دون نـور الله ومحبتـه, فإنهـم يجعلـون أنفسهـم خـارج حيـاة الله, وبالتالى فى عـزلة وضيـق ومـوت...
من هنـا هـذا التنـاقض الظـاهرى فى النصّ... فمـن جهـة يقـال أن المسيح لم يأت إلى العـالم " ليـدين العـالم", بمعنى أنـه لم يأت ليحكـم عليـه... ومـن جهـة أخـرى يشير النصّ إلى أن هنـاك " دينـونة" قائمـة... ولكنـه واضح أن هـذه " الدينـونة" ليست من بـاب المحاكمـة القضـائيـة, بل هى نتيجـة موقف يتخـذه البشر من النـور الـذى جـاءهم, فيتميزون بهـذا الموقف بعضهـم عن بعض, إذ يجعـلون أنفسهـم إمـا من جهـة النـور أو من جهـة الظلمـة: [ وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ ] [ يوحنّا 3: 19 ـ 21]...
الله لا يريـد إذًا سوى الخـلاص... إنمـا, مـن وضع نفسـه بأعمـاله الشريرة خـارج الخـلاص, فقـد حكـم على نفسـه بالعـزلة والمـوت... بهـذا المعنى قيل فى النصّ: " من لا يؤمن به ( بالمعنى الحقيقى للإيمـان, الذى ليس هـو مجـرّد التصـديق بل تسليم النفس لله وتغـيـير القلب يتقبـّل فعلـه المحيى فينـا ) فقـد دين"... وكـأن الله قـد حكـم عليـه, لأن صيغـة المجهـول هنـا, كما فى مواضـع أخـرى من الإنجيـل, تشير إلى الله... فى حين أن سيـاق النـصّ يظهـر أنـه هـو الـذى دان نفسـه بنفسـه عندمـا واجـه نـور الله فرفضـه... أمـا من فتـح قلبـه على الخـلاص منسجمـًا وإيـّاه بأعمـاله الصـالحة, فهـذا قـد تقبّـل فى ذاتـه حيـاة الله وفرحـه... عن هـذا يقول النص:" من يؤمن به لا يـدان"... والمقصـود أنـه ينجـو من حكـم المـوت الـذى ينزلـه الأول بنفسـه عندمـا يضـع ذاتـه خـارج نور الله...
2ـ مفهـوم " غضب الله":من المنطلـق نفسه نفهـم ما هـو المقصـود بعبـارة " غضب الله" كما تـُقرأ فى المقـطع التالى من إنجيـل يوحنّـا: [ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ ] [ يوحنا 3: 36 ]...
ليس المقصـود بـ" غضـب الله" أن محبّـة الله تتحـوّل فى وقت من الأوقـات إلى رغبـة فى الانتـقـام ممن يخـالف... بـلّ إن مـن يُغـلق قلبـه دون محبـة الله المقـدّمة لـه, هـذا يجعـل نفسـه خارج المحبّـة والحيـاة, وبالتـالى يصبـح حـبّ الله المرفـوض منـه تعـذيبـًا لـه...
فلنـأخـذ مثـلاً على ذلك مـن عـلاقاتنـا الإنسانيـة... فقـد أخـتلـف مع صـديق عـزيـز على جدًا, صـديق أعتبـره " أنـا الآخـر", إلى حـد أننى أقـدم على الانفصـال عنـه, مدفـوعًا برغبـة فى تـأكيـد وجـودى بمعـزل عـن هـذا الصـديق... هـو يتمـنّى عـودتـى إليـه... وأنـا, فى قـرارة نفسـى, أشعـر بأننى لـن أكتمـل بدونـه وأحـنّ بمـلء جوارحـى إلى إعـادة الصـلة بـه... ولكننـى مـع ذلك أتشبث بمـوقفـى الـرافـض مقنـعًا نفسـى ـ ومـا أسهـل بـأن يخـدع المـرء نفسـه ـ بأنـه خيـر لى أن أكـون المـرجـع الوحيـد لـذاتى... فأعـانى عنـد ذاك مـن تمـزّق أليـم بسبب التعـارض بين رغبتـى العـميقـة فى لقـاء الصـديق وبين إصـرارى على أن تكـون حيـاتى ملكـًا أحتفـظ بـه لنفسـى ولا أشـارك بـه أحـدًا, على أن أوجـِد نفسـى بنفسـى ولا أتلقـّى من سـواى زخمـًا من الوجـود... فيتـراءى لى, وأنـا فى خـضـمّ تمـزّقـى, أن محبّـة صـديقـى لى قـد تحـوّلت بالنسبة إلىّ إلى عـذاب لأنهـا تـوقـظ فىّ حنيـنـًا عميـقـًا إلى التجـاوب معهـا, حنيـنـًا يعـذبنى لأننـى لست مستعـدًا للانقـيـاد إليـه...
تلك هى أيضـًا مـأساة الإنسان فى عـلاقتـه بالله... فالله قـد أحـبّ الإنسان إلى حـد أنـه جعـل فى قلبـه ميـلاً لا يُـقهـر إلى لقـائـه, ميـلاً يـعبّـر عنـه عـطش الإنسان إلى اللامتنـاهى وعجـزه عن أن يـروى غـليـله من خـيرات الأرض مهمـا توافـرت وسمـت... لكـن الإنسان مهـدّد دومـًا بأن ينحـرف عن خـط تـوقـه الأصيـل هـذا, الذى هـو عـطش إلى الله, فيُـوهـم نفسـه أنـه بمقـدوره أن يشبـع هذا التـوق بتركيـزه على ذاتـه وحـاجاتهـا بـدل الانفتـاح إلى ذلك الآخـر الـذى ينـاديـه والسعـى إلى لقـائه فى تجـاوز حقـيقـى لـذاتـه... هكـذا ينغـلق على حيـاته الـذاتيـة ويتشبّـث بهـا وكأنـه صانعهـا ومالكهـا, عـوض أن يقبـل بأن يتلقـّاهـا من الله مصـدرها وينبـوعهـا فى إسـلام للنفس إليـه... عنـد ذاك تتجمّـد فيـه الحيـاة وتتنـاقض, بسبب انقطـاعهـا عـن ينبـوعهـا الدائـم التـدفـّق... فيتحقـق فى ذلك الإنسان كـلام الله الـوارد فى نبوءة إرميـا: [...تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ اَلْمِيَاهِ اَلْحَيَّةِ لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ آبَاراً آبَاراً مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً ] [ إرميا 2: 13]... فإذا استمـر الإنسان على هـذه الحال, بقـى فيـه العطش إلى الله, إنمـا, بـدل أن يتـّجـه هـذا الإنسان إلى الينبـوع الـذى يستطيـع وحـده أن يروى غـليله, فإنـه يحـاول أن يرتـوى من الميـاه الضحلـة الآسنـة التى اختـزنها لنفسه... ليس بوسعـه أن يلغـى ذلك العطش الـذى يكـوّنه كإنسان, ولكنـه يحـاول عبثًا أن يرتـوى من ذاتـه, أى من فـراغه, فإذا بـه يلتهـب بسعير عطشـه الذى لا يجـد الارتـواء... إن حقـيقـة جهنّـم كامنـة فى هـذا التنـاقض الرهيب النـاتج عـن عطش لا متنـاهٍ يصـرّ عبثـًا على الارتـواء من الفـراغ... إنهـا كامنـة فى هـذا التنـاقض, وليس فى تصـوّر ينطـلق من تفسيـر حـرفى للنصـوص الكتـابيـة فيتخيـّل إلهـًا يقتـصّ من البشر بتعـذيبهـم بالنـار ويعـطى عبـاده بالتـالى ذريـعة ليعـاملوا النـاس بالمثـل ( كمـا فعـل قضـاة محاكـم التفـتيش الذيـن كانـوا يسلمون الهـراطقـة للحـرق, ممـا دفـع فـولتير إلى التهـكّم بهم قائـلاً: إنهـم كـانوا يخـفّـفـون عـن الله بعضـًا من أعبـاء مهمّـته!!! )...
الحقـيقـة أن الإنسان يحـترق مـن جـرّاء حنيـنه إلى الله إذا انحـرف هذا الحنين عـن موضـوعه الحقـيقـى وحـاول أن يرتـوى من فـراغ الـذات المنقـطعـة عن ربهـا المنهمكـة برغـائبهـا الأنـانيـة الضيقـة... عنـد ذاك يتحـوّل الحب الإلهـى الـذى أيقـظ ولا يـزال يـوقـظ هـذا الحنين إلى لعنـة ووبـال, لا من جـرّاء تغييـر طـرأ على موقـف الله من الإنسان, بـلّ بسبب رفـض ذلك الإنسان للحب المقـدّم لـه ومحـاولتـه الاكتفـاء بذاتـه... فإذا بالحب الإلهـى نفسـه يتـّخذ بالنسبة إلى ذلك الإنسان قنـاع الغضب, وبـدلاً من أن يكـون مصـدر فرح له يصبـح مصـدر عـذاب...
لقـد كتب اللاهـوتىالأرثوذكسى الفرنسى المعاصر " أوليفيه كليمان": " قـد لا تكـون جهنّـم سوى هـذه المواجهـة بين العطش والفـراغ, الإنسان يشرب مـن فراغـه الذاتـى فيتزايد إلتهـابه باستمـرار"...
وقد كتب القـديس اسحـق السريانى بهـذا الشأن: " الحب يعمـل بطريقتـين مختلفتين, فإنـه يصبـح عـذابـًا فى الهـالكين وفـرحـًا فى المطـوَّبين"...
ولكـن ما تـُرى يكون موقف الله من ذلك الإنسان الذى يتشبث بالارتـواء اللاهب من فراغـه؟... هـل يكـون موقـف المتفـرّج الذى لا يؤثـّر المشهـد فى غبطـته اللامتنـاهيـة؟... لقـد شاعت فى تراثنـا صـورة الإلـه اللامنـفـعـل, ولكنهـا برأيى صـورة يونـانية أكثـر منهـا مسيحيـة... إذ ليس هـذا هـو وجـه الله كمـا تعـرّفنا عليه فى يسوع المسيح... فقـد عرفنـا أن الله محبـة, والمحبـة لا بـدّ لها أن تشارك المحبـوب فى معـاناته... لنعـد إلى مثل الصـديق العزيز الذى انفصلنا عنـه, فغـدونا نحترق فى عزلتنا المميتة, يلهبنـا حنين إليه نمعن فى تجـاهله... أو يبقى الصديق متفرّجـًا علينا, أم أنـه على العكس يتحـرّق عندمـا يـرانـا نحتـرق؟... ثم ألم يقـدّم لنا الرسول بولس عنـاصر الجـواب عندما هتف: [ من يضعف ولا أضعف أنا؟ من يعثـر ولا ألتهـب أنـا؟]... أفيكـون الرسول أفضـل من مرسلـه؟... أتكـون المحبـة أقـوى فى البشر مما هى عنـد ذاك الذى هـو ينبـوع المحبـة وزارعهـا فيهـم؟... إذا كان الله محبـة, فـلا بـدّ أن للألم مكانـًا فى كيانـه, ولو كان يصعب علينـا أن نتصـوّر طبيعـة هـذا الألم... هـذا ما يكشفه اللاهـوت المعاصر فى ضـوء مآسى إنسانية اليوم, مستنـدًا إلى عناصر مغيّبـة من صلب التراث... قـد يكـون أحـد الفـوارق بين ألـم الله وألمنـا أننا كائنـات ضعيفـة فانيـة, بحيث أننى إذا تألمت لصديقى فإن ألمـى هـذا يمتزج لا محـالة بالحسرة على نفسى وعلى مآسىّ وفنائـيتى... أمـا الله اللامحـدود, الذى لا يقـوى المـوت عليه ولا تطـاله صروف الدهـر, فإنـه, إذا تـألم لألـم الإنسان, فإنـه إنمـا يتـألم من أجـل هـذا الإنسان وحسب... فيكـون ألمـه خالصـًا, خاليًا من كل انطـواء على الذات...
ومـن الإشارات الكتـابية التى نستـدل يها على ألـم الله هـذا, أذكـر تلك الحادثـة من سيرة " داود" الملك... فقـد ثـار عليـه ابنـه " أبشالـوم" واستـولى على الحكـم, فاضطـر داود إلى الهـرب من أمـام وجهـه ذليـلاً مهـانـًا... ثم جـرت موقعـة حاسمـة انهـزم فيهـا جيش " أبشالوم" وقُتـل فيهـا هـذا الأخيـر على يـد أحـد قـادة " داود", رغـم ما كان الملك قـد أوصى بـه جميـع قـادتـه بأن يرفقـوا بالفتـى... فلمـا بلـغ الخبـر إلى " داود", وقـع عليه وقـع الصاعقـة: [ فَانْزَعَجَ اَلْمَلِكُ وَصَعِدَ إِلَى عِلِّيَّةِ اَلْبَابِ وَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَهُوَ يَتَمَشَّى: { يَا اِبْنِي أَبْشَالُومُ، يَا اِبْنِي يَا اِبْنِي! أَبْشَالُومُ، يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضاً عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ اِبْنِي يَا اِبْنِي } ] [ 2 صموئيل 18: 33]...
داود يبكـى لموت ولـده بلـوعـة تنـمّ عـن حنـو عجيب... إنـه يبكـى على ذاك الذى ثـار عليـه وطـرده مـن ملكـه... ولا يكتـفى بالبـكاء بـلّ يـودّ لـو أنـه مـات عـوضـًا عن ذاك الذى أدّى بـه رفضـه لأبيـه إلى المـوت... ولكـن الله قـد سبق فقـال عـن داود أنـه: [ اِنْتَخَبَ اَلرَّبُّ لِنَفْسِهِ رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِهِ ] [ 1 صموئيل 13: 14]... لقـد إخطـأ " داود" وضـلّ ولكنـه, تحت وطـاة الألـم الذى عصـره, تبلورت فيـه صـورة الله المشار إليهـا فى الآيـة أعـلاه فتحقـق فيـه الشبـه الذى تشير إليـه بين قلبـه وقلب الله... من هنـا أن سلوك " داود" عنـد مقتـل ابنه, هـذا السلوك الذى تكشـّف فيـه أفضـل ما فى الأبـوة البشريـة عنـدما تتـوهّـج هـذه الأبـوة فترتسم فيهـا صـورة أبـوة الله, إن " داود" هـذا يوحى لنـا بموقف الله مـن الذيـن يختـارون الهـلاك باختيـارهـم الانفصـال عنـه... يقـول أحـد اللاهـوتيين المعـاصرين بهـذا الصـدد أن صيحـة " داود" المفجـوع إنمـا هى الصيحـة التى يطفـح بهـا قلب الله عنـدما يـرى أبنـاءه يختـارون الموت فى رفضـهم لحبـّه,,,, وأن الله إنمـا يقـول, بلسان " داود" شبيهـه: أنـه يريـد أن يمـوت بـدلاً عـن أبنـائـه المتمـردين...
هـذا ما انكشف لنـا تمامـًا فى يسوع المسيح الذى بصليبـه أدركنـا أن هـمّ الله ليس أن يُـلقى الخطـأة فى الجحيـم بـلّ أن ينحـدر إلى جحيـم الخطـأة ليحـرّرهم منـه...
" غضب الله" غذًا, كمـا فهمنـاه فى يسوع المسيح, هـو الوجـه الذى يتـّخذه الإلـه المحبّ فى نظـر الذيـن يرفضـون حبـّه وحياتـه سعيـًا وراء سـراب الاكتفـاء بذواتهـم... هـذا المفهـوم الإيجـابى لـ " غضب الله", ترجمـه يسوع المسيح فى سلوكـه عندما كان يتصـرّف بغضب حيـال قـادة شعبـه, من كتبـة وفريسيين, الذيـن كانـوا يتذرعـون بالله نفسه ليتمـادوا فى أهـوائهـم فيتـّخـذون من شريعـة الله حجّـة للاستعـلاء على النـاس, وإلقـاء الأعبـاء الساحقـة عليهـم إرضـاء لشهـوة الحـكم فيهـم... غضب يسوع حيـال هـؤلاء لا يحمـل طـابع البغضـاء ولا يُقـصد منه التـدمير بـلّ إيقـاظ تلك النفـوس الغـارقـة فى سبـاتهـا, المرتاحة إلى بـرّها الظـاهرى, كمـا يرتـاح المدمـن إلى مخـدّره, المتشبثـة باكتفـائيتهـا إلى حـدّ أنـه لم يعـد بوسعهـا أن تدرك الفقـر الداخـلى المريـع الذى جلبتـه عليهـا هـذه الاكتفـائيـة... لقـد كان غضب يسوع يُقصـد منـه أن تُصـدم تلك النفـوس فتراجـع ذاتهـا وتعيـد النظـر فى ما ارتاحت إليـه, علّهـا تكتشف طـريق التحـرّر والحياة... أمـا كـون هـذا الغضب كان يُبطـن الرأفـة والرجـاء, فهـذا ما تُظهـره صـلاة يسوع على الصليب من أجـل صـالبيـه: [ يَاأَبَتَاهُ اِغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ ] [ لوقا 23: 34]... وكـذلك فهـو يتبين فى مـا ورد فى مثـل الابن الشاطـر حيث نرى الأب ( وهو يمثل الله ) يخـرج إلى الابن الأكبـر المستاء من عـودة أخيـه الضـال إلى أحضـان أبيه ( والابن الأكبر يمثـل استعـلاء الفريسيين )... يخـرج إليـه ويلاطفـه ويحـاول أن يوقـظ قلبـه من تحجـّره... وينتهـى المثـل عنـد هـذا الحـدّ دون أن نعـرف جـواب الابـن الأكبـر على سعى أبيـه, وكـان يسوع, الـذى روى هـذا المثـل أمـام الفريسيين المعتـزّين ببرّهـم, المحتجّـين على معـاشرتـه للخطـأة, كـانـه يُلقـى الكـرة فى ملعـبهم ويتـرك لهـم الجـواب, راجيـًا حتى النهـاية أن تنتصـر قـوى المحبـّة فى قلوبهـم على قـوى الانعـزال والمـوت...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــثالثًا: كيف نفهم حادثة سـدوم وعمـورة؟:استنـادًا لمـا سبـق, نستطيـع الآن أن نتمعّـن فى الحادثـة التى يرويهـا الكتاب المقدس عـن تدميـر سدوم وعمـورة, وأن نتساءل كيف يمكننـا أن نفهـم هـذه الروايـة فى ضـوء ما عرفنـاه عن الله فى يسوع المسيح... 1ـ الرواية الكتابية:لن نذكـر هنـا تفاصيـل الحادثة كما وردت فى سفـر التكـوين , إنمـا نكتفـى بمـا نجـده من وصف لتـدمير المدينتين: [ فَأَمْطَرَ اَلرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتاً وَنَاراً مِنْ عِنْدِ اَلرَّبِّ مِنَ اَلسَّمَاءِ. قَلَبَ تِلْكَ اَلْمُدُنَ وَكُلَّ اَلدَّائِرَةِ وَجَمِيعَ سُكَّانِ اَلْمُدُنِ وَنَبَاتَِ اَلأَرْضِ. وَنَظَرَتِ اِمْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ! وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي اَلْغَدِ إِلَى اَلْمَكَانِ اَلَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ اَلرَّبِّ وَتَطَلَّعَ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ اَلدَّائِرَةِ وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ اَلأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ اَلأَتُونِ ] [ تكوين 19: 24ـ 28]... 2 ـ كيف نفهم اليوم هذه الحادثة؟:أ ـ واقـع الحادثة:الروايـة تستنـد إلى واقعـة حـدثت فعـلاً, وهى عبـارة عن زلزلة مدمّـرة " قَلَبَ تِلْكَ اَلْمُدُنَ وَكُلَّ اَلدَّائِرَةِ.." ...عقبهـا على الأرجـح حريـق " فَأَمْطَرَ...َ كِبْرِيتاً وَنَاراً .... وَإِذَا دُخَانُ اَلأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ اَلأَتُونِ "... وبالاستناد إلى النـصّ الكتابى, يمكـن تحـديد موقـع الزلزلة فى المنطـقـة الجنـوبية من البحـر الميت... والواقـع أن هنـاك هبـوطًا حاصـلاً فى تلك المنطقـة يعـود إلى حقبـة حديثـة العهـد بالنسبة لعمـر طبقـات الأرض... هـذا وقـد بقيت المنطقـة عـرضـة للهـزات الأرضيـة حتى العصـر الحـديث... ب ـ تأويل الحادثة فى الكتاب:
والحـال أن الأقـدمين كانـوا ينسبون كل ظـاهـرة طبيعيـة إلى الله مباشرة, لكـونهم لم يكونوا قد أدركـوا بعـد دور الأسباب الطبيعيـة البحتـة... فالرعـد صـوت الله: " اَلرَبّ أَرْعَدَ مِنْ السَمَاء وَ اَلْعَلِىّ أَطْلَقَ صَوْتَه", والبرق نبـاله:" أرْسَلَ اَلنِبَال فَشَـتَّتَهُم, ضَاعَـفَ اَلبِرُوقَ فَشَـرّدَهُم", وهو يطلـق الريـاح المخـزونة فى خـزائنـه ... إلخ... من هنـا أنـه كان مـن الطبيعى أن ينسبـوا هـذا الزلزال لعمـل الله بالذات... فقـد قالت المزامير: " اَلْذِى يَنْظُرُ إِلَى اَلأرْضِ فَيَجْعَلَهَا تَرْتَعِدْ وَيَمِـسَّ اّلجِبَالِ فَتُدَخّـنْ"... الكتـاب المقـدس كلام الله مكتـوب بأسلوب بشرى يحمـل طابع الزمان والمكان اللذين قيل فيهما...
مـن جهـة أخـرى, فأن أهـل سدوم وعمـورة كانـوا مشهـورين بممارستهم الشذوذ الجنسى المتمثـّل بالجنسية المثـلية, أى الشهـوة المتجهـة نحـو أشخـاص من الجنس نفسـه... من هنـا أن هـذا الشذوذ تسمّى بعـد ذلك باسمهـم, فـدُعِى " سدوميـة" ( وقـد دُعى أيضـًا " لواطيـة" نسبة للـوط الذى كان ساكنـًا فيمـا بينهم )... وقـد كان الشذوذ مكـروهـًا حـدًا عنـد اليهـود: [ َلاَ تُضَاجِعْ ذَكَراً مُضَاجَعَةَ اِمْرَأَةٍ. إِنَّهُ رِجْسٌ ] [ لاويين 18: 22 ]... وكـان يُعـاقب عنـدهم بالمـوت: [ إِذَا اِضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ ذَكَرٍ اِضْطِجَاعَ اِمْرَأَةٍ فَقَدْ فَعَلاَ كِلاَهُمَا رِجْساً. إِنَّهُمَا يُقْتَلاَنِ. دَمُهُمَا عَلَيْهِمَا ] [ لاويين 20: 13]... وقـد أضـاف أهـل سدوم إلى هـذا الشذوذ الجنسى عدوانيـة جعلتهـم لا يراعـون حـرمة الضيافـة فيطـالبون لـوط بتسليـم الرجلين ( رسولى الله ) اللذيـن باتـا عنـده بغيـة اغتصـابهمـا... ولمـا رفـض الاستجـابة لطلبهـم همّـوا باقتحـام البيت لاختطـافهمـا...
من هنـا نشأ التصـوّر بـأن الكارثـة التى حلـّت بسدوم وعمـورة إنمـا كانت عقـابـًا أرسلـه الله للاقتصاص من شر أهـل المدينتين...
ج ـ ما يمكن أن نفهمه اليوم , بالهام الروح, من هذه الحادثة:
بقـى أن نتسـاءل كيف يمكننـا اليـوم أن نفهـم النصّ الكتـابى حـول تدمير سدوم وعمـورة؟... إن الروح نفسه هو الذى ألهـم فى المـاضى لرواة الحـادثة الكتابيـة معـانى روحيـة تتجـاوز التصـوّرات الأسطـورية التى غُـلّـفت بهـا, هـو نفسه يرشدنا اليـوم إلى فهـم أفضـل للنص الكتـابى المتعـلّق بهـذه الحـادثـة, فى ضـوء الكشف الـذى تلقيـناه بيسوع المسيح...
ما يمكـن أن نفهـمه نحن اليـوم, إذا مـا طالعنـا هـذا النصّ, هـو أن شرور الإنسان تعـطّـل صـورة الله فيـه وبالتـالى تدمّـر إنسانيته, ماديـًا ومعنـويـًا, تلك الإنسانيـة التى لا تستقيـم ولا تنتـعش إلا إذا كانت صـورة الله محـورًا لهـا ودافعـًا وموجّهـًا...
د ـ كيف نفهم ما يُروى عن تحوّل امرأة لوط:
أمـا تحـوّل إمـرأة لـوط إلى نُصُب من ملح.... إنما قـد تبنت كلمـة الله هـذا التفسير الرمـزى لتحمّـله معنى روحيـًا يمكن تلخيصـه كما يلى: كـان لـوط متنقـلاً من سكنـاه بين الأشرار إلى أرض جديـدة, مما يوحى بانتـقـال مـن وضـع العتـاقة إلى وضـع التجـدّد, مـن الظـلام إلى النـور... مـن هنـا إن إلتفـات إمرأته إلى الـوراء فى مسيرته نحـو الله, يتـوقف نمـوّه الروحـى, يتـجمّـد روحيـًا لأن حنينـه إلى المـاضى يشـلّ انطـلاقتـه ويجهضهـا... هـذا ما ندركـه بشكـل أفضـل فى ضـوء كلمـة الرب يسوع المسيح: [ لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى اَلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى اَلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اَللهِ ] [ لوقـا 9: 62]...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخلاصةبرأيى أن أفضـل خـلاصـة لهذا البحث, إنمـا هى فى هـذا المقطـع من إنجيـل لوقـا الذى ينقـل إلينـا بعضـًا من توصيـات الرب يسوع المسيح إلى تـلاميـذه عنـدما أرسلهـم للتبشيـر, خـاصة وأن هـذا المقطـع يـأتى على ذكـر مصيـر سدوم, قال يسوع: [ وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحِلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. وَأَقِيمُوا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ وَاشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلَكِنِ اعْلَمُوا هَذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِييَة ] [ لوقـا 10: 5 ـ 12]... من هـذا النصّ, ومن العبـارات التى أبرزتها فيـه و يتّضـح الوجـه الـذى بـه يطـلّ الله على الأخيـار والأشـرار على حـدّ سواء, إنمـا هـو الوجـه نفسه, وجـه المحبـة التى لا حـدّ لهـا, تلك المحبـة التى لا تعطـى سوى الحيـاة, والتى سبق للنبى حزقيـال أن قال عنهـا: [ هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ اَلشِّرِّيرِ يَقُولُ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ؟ أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟... حَيٌّ أَنَا يَقُولُ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ, إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ اَلشِّرِّيرِ, بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ اَلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا ] [ حزقيال 18: 23, 33: 11]... لذلك يُكـلّف الرب يسوع المسيح التـلاميـذ بتبليـغ الأخيـار والأشرار على حـدّ سواء نفس الرسـالة " قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ "... وهـى بحـدّ ذاتهـا رسالـة مفـرحة إلى أبعـد حـدّ ( إنهـا تختصـر الإنجيـل , وعبـارة " إنجيـل" تعنـى , كمـا هو معروف, " بشـرى" )... ذلك لأن " ملكـوت الله" , أى أن يملك الله فى الأرض فيغيـّرها, يعنـى بالنسبة للإنسان الوعـد بالنـور والحيـاة والفـرح والحـريـة... [ وَقَالَ لَهُمُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ ][ مرقس 9: 1, لوقا 9: 27]... أى ما نحيـاه الآن وهـو ما يُعـرف بـ " الملك الألفـى" بالمفهـوم الروحـى لكنيستنـا الأرثوذكسية... ولكـن هـذا الملكـوت عينـه قـد يكـون نعمـة أو نقمـة للإنسان الذى يواجهـه... دون أن يعنـى ذلك البتـة أن تغييرًا ما يحصـل فى طبيعـة ملكـوت الله من حـال إلى حـال أخـرى... فهـو أبـدًا ملكـوت الحيـاة والفـرح, وليمـة المحبـة التى لاتنتهـى, [ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ ] [ لوقا 17: 21]... فهـو نعمـة للـذين يتقبّـلونه فيشاركـون الله فى حيـاته عبر هـذا التقبّـل... ونقمـة للذين يديـرون لـه الظهـر, إذ لأنـه يثـير فى هـؤلاء حنيـنـًا لا قِبَـلَ لهـم على إزالتـه لأنـه مكـوّن لكيـانهـم , ولا قِبَـلَ لهـم, من جهـة أخـرى, على إروائـه طـالما هـم متحجّـرون فى رفضهـم للحب الـذى يدعـوهـم... إن رفضـهـم لهـذا الحب, ورفضـهـم فقـط يحـوّله بالنسبـة إليهـم من نـدى منعش إلى نـار لاهبـة شبيهـة بتلك التى أحـرقت سدوم...
مجمـل الكـلام أن الله لا يقتـل فى سبيـل التـأديب, ولا فى هـذه الدنيـا ولا فى الآخـرة... إنمـا الإنسان قـد خُـوّل هـذا السلطـان الرهيب بأن يطعـن قـلب الله فى الصميـم بإصـراره على اختيـار الموت بـدل التجـاوب مع نـداء الحبّ المجـانى الموجـه إليـه ... أى يحيـا مصـرًا على التجـديف على الروح القـدس... |