الله والشر والمصير |
|
الفصل السادسموقف الله من الخطئيةالجـزء الثـانى ما معنى الفـداء؟ " طالمـا أن الله محبـّة, فلمـاذا اضـطر المسيح أن يقـدّم نفسـه ذبيحـة فـداء عـن خطـايانـا أمـام الله الآب؟"...
أولاً: نظـرية موت المسيح كوفـاء متطلبـات العـدل الإلهـى:
هـذه النظـرية شاعت فى الغـرب منـذ أن أطلقهـا " أنسلموس" أسقف كانتـبرى ( 1033 ـ 1109 ), ولكنهـا غريبـة عـن تـراث الشرق المسيحـى ولم تتسرب إليـه إلا بطغيـان التأثيـر الغـربى فى عهـد الانحطـاط ...
بمـوجب هـذه النظـرية: 1 ) الخطيئـة الجـدّية ومـا تبعهـا مـن خطـايا, ألحقـت بالله إهـانة لا تُحـدّ ( لأن الكـائن الذى وُجّـهت إليـه كائـن لا يُحـدّ ) واستوجـبت غضبـه على النـاس...
2 ) كان لا بـدّ, مـن أجـل كـفّ هـذا الغضب أن تلبَّى متطلبـات العـدالة الإلهيـة, وذلك بتقـديم التعـويض المناسب عـن الإهـانـة اللاحقـة بالعـزة الإلهيـة...
3 ) من هنـا أنـه كـان لا بـدّ أن تُقـدّم إلى الله ضحيـة تتحمّـل كل أوزار البشر وترضى بمـوتهـا متطلبـات العـدالة الإلهيـة...
4 ) ولـم يكـن ممكنـًا أن تكـون هـذه الضحيـة مـن البشر أنفسهـم: ا ـ لأنهـم كلهـم خاطئـون لا قيمـة فـدائية لموتهـم الـذى هـو مجـرّد العقـاب الواجب على خطـاياهـم. فى حين أن الضحيـة كان يجب أن تكـون بريئـة ليكـون لموتهـا قيمـة فـدائيـة... ب ـ لأنهـم محـدودون وليس بإمكـانهـم بالتالى, ولو ماتـوا كلهـم, أن يعـوضـوا عـن الإهـانة التى ألحقتهـا الخطيئـة بالله, إذ هـى إهانـة لا محـدودة كونهـا موجهـة إلى الكائـن اللا محـدود...
5 ) هـذه المعضـلة حـلّهـا التـدبير الإلهـى بتجسـد ابن الله الوحيـد ومـوته على الصليب: ا ـ فالضحيـة كانت كائنـًا بريئـًا من العـيب , وبالتالى يمكـن لمـوتـه الطـوعى أن يُقبـل كثمـن العـفـو عن الخطـأة... ب ـ والضحيـة كانت كائنـًا لا محـدودًا, وبالتـالى فإن موتهـا كان يوازى حجـم الإهـانة اللا محـدودة اللاحقـة بالله...
ثانيـًا: تقـويم هـذه النظـرية:
هـذه النظـرية الحقـوقيـة للفـداء التى سادت الفـكر المسيحـى لحـقبـة طـويلة ولا تزال رواسبهـا الشعـورية واللاشعـورية ممتـدة إلى يومنـا هـذا, تنـاقـض جـذريـًا الإعـلان المحـورى للإنجيـل, الـذى يجعـل منـه بالفعـل " إنجيـلاً" أى " بُشْـرَى", وهـو [ أَنَّ الله مَحَبَّـة] [ 1 يوحنا 4: 8, 16]...
وقـد كان لهـذا آثـارًا فـادحـة: 1ـ فقـد رسمت عن الله صـورة رهيبـة... صـوّرته إلهـًا ساديـًا يرتضى عـذاب ابنـه الوحيـد وموتـه لا بـلّ يمعـن فى تعـذيبـه إخمـادًا لغضـبه... فقـد قال اللاهـوتى الكاثوليكـى المعـاصر الأب " جان كردونيل" من عظـة ألقـاها, سنة 1660, الواعـظ الشهير المطـران " بوسوّيه": " .... كان ( الله ) يخمـد غضبـه بتفريغـه. كان يضـرب ابنـه البـرئ, الذى كان يصارع غضب الله, هذا ما كان يجرى على الصليب, إلى أن قـرأ ابن الله فى عينى أبيه أن غـضبه هـدأ تمـامـًا, فرأى أنـه حان الوقت لكى يفارق العالم" ؟؟؟؟.... ولا عجـب إذا رأينـا الأب " كاردونيـل" ينعـت هـذا النصّ, مع أن المتلفـظ بـه أحـد أقطـاب الكـنيسة الكاثوليكيـة فى القـرن السابع عـشر, بأنـه " منفـّر ومعـادٍ جـذريـًا للمسيحيـة"... هـذا, وفى أيامنـا هـذه, سمعت ذات يوم, فى البرنامـج الدينى " حـول العالم" الذى يُبث بالعـربية على موجـات راديـو " مونت كارلو" عـظـة تقـول أن المسيح كان, وهـو على الصليب, يعـانى, عـدا الآلام الجسديـّة, آلامـًا مبرّحـة أنزلتهـا بـه يـد العـدالة الإلهيـة مستعيضـة عـن معاقبـة الخطـأة !!!... تلك الصـورة أثـارت اشمئـزاز الكثيرين من اللاهوتيين... وهى تؤول إلى هـذا الاعتقـاد الغـريب بأن الخلاص الذى كان الله يسعـى إليـه إنمـا كان بالدرجـة الأولى خـلاص ذاتـه بتفريغـه غـضبـه على ضحيـة بريئـة!!!...
2ـ هـذه الصـورة الرهيبـة أُتـّخـِذت تبريـرًا لاستبـداد المتسلطين من حكام ورجـال دين, الذين تماهـوا بهـا فى عـلاقتهـم بالنـاس ( من هنـا محاكـم التفتيش والحـروب الصليبيـة ومـا شابـه ذلك )... كمـا أنهـا أُتـّخِـذت ذريعـة لدعـوة النـاس إلى الخنـوع ( على مثـال المسيح الضحيـة ) أمـام الظلـم والتعسف والاستغـلال...
3ـ كمـا أن هـذه الصـورة كانت منطلـق دين إرهـابى فُـرض على النـاس طيلـة 600 سنـة ( من القـرن الرابـع عشر حتى مطلـع القرن العشرين ) وقـد بنى على إذكـاء الشعـور بالذنب والتخـويف من العقـاب الأبـدى, وبالتـالى كان على نقيـض البُشرى الإنجيليـة, بُشرى الخـلاص والتحـرّر والفـداء...
ويـرى اليـوم مؤرخـون مسيحيـون أمثـال Guillemin & Delumeau , أن هـذه النظـرية فى تعليـل مـوت المسيح ومـا نتـج عنهـا, كانت مـن الأسباب الرئيسيـة لانحسار المسيحيـة Dechristianisation فى الغـرب فى العصـر الحديث...
ثالثـًا: لمـاذا مات المسيح؟ قـراءة تاريخية للصلب:
من مساوئ النظـرية التى استعـرضناهـا, أنهـا تطـمس الوجـه التاريخـى لحيـاة المسيح, إذ أنهـا تهمـل الرسـالة النبـوية التى أدّاهـا فى حيـاته البشريـة, والتى لا تُعتـبـر, فى هـذا المنظـار, سوى الذريعـة التى كان لا بـدّ منهـا كى يبلغ مأربـه الأساسى, أعنـى المـوت التكفيرى...
والحـال أن من يطـّلـع بإمعـان على سيرة يسوع الأرضيـة يـرى بجـلاء أن مـوته لم يكـن تنـفيـذًا لنـوع من العقـد الضمنـى القـائم بينـه وبين الآب, بأن يقـدّم نفسه فى وقت محـدّد ذبيحـة عـن خطـأيـا البشر, بـلّ أن هـذا المـوت كان النتيجـة الطبيعيـة, فى أوضـاع تاريخيـة معينـة, لمجمـل المسار النبـوى الذى سلكـه يسوع فى حيـاته محقـقـًا بـه إرادة الله ومـؤلبـًا عليـه, من جـراء ذلك, قـوى الظلمـة...
تارخيـًا, لمـاذا صُلب المسيح؟ لأنـه تصـدّى طيلـة حياتـه بجـرأة لم تعـرف التخـاذل, للحكـم الدينـى التسلطـى القائـم فى شعبـه.
1ـ من كان يمثّـل هـذا الحكـم:
هـذا الحكـم كان يمثـّله: ** من جهـة رؤسـاء الكهنـة وشيـوخ الشعـب ( أى الوجهـاء ) وهـم أصحـاب السلطـة السياسيـة والاقتصـادية...
** من جهـة أخـرى المتبـة ( أى الفقـهاء أو اللاهـوتيـون ) والفـريسيون ( وهـم فريـق من الأتقيـاء المتشدّدين, كان ينتمتى إليـه كثيـرون من الكتبـة ), وهـم أصحـاب السلطـة المعنـوية والدينيـة [ ..عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ ] [ متى 23: 2]... وكان هـؤلاء وأولئـك يتخـذون من الله ذريـعـة لتأكيـد سلطـتهم على حساب سحـق الشعب وإذلالـه: ـ فرؤساء الكهنـة وشيـوخ الشعـب كانـوا يحتـقـرون الشعـب لأنـه كان بسواده الأعظـم فقـيرًا, فكانـوا يـرون فى غـنـاهم علامـة على رضى الله عـليهم ويـرون فى فـقر الشعـب لعـنة مـن الله... وكان رؤساء الكهنـة يتوافـقون مـع أغـنيـاء التجـار للإثـراء على حساب الشعـب من خـلال تجـارة الهيكـل, وكان خـدّام رؤساء الكهنـة يضـربون الشعـب, وكانت عـائلات رؤساء الكهنـة تحتـكر وظـائف الهيكـل... وكان رؤساء الكهنـة يستفيـدون مـن فتـوى تسمـح لمـن شاء بالتمـلص من واجب مساعـدة الأهـل المسنّين شرط أن يقـدّم للهيكـل جـزءًا رمـزيـًا منهـا...
ـ أمـا الكتبـة والفريسيون فقـد نصـّبوا أنفسهـم حمـاة للشـريعة وعقـّدوا فرائضهـا إلى حـدّ أنـه أصبـح شبـه مستحيـل على عـامـة النـاس أن يعـرفـوا دقـائقهـا وأن يـوفـّقـوا بين تنفـيذ أوامـرها الكثيـرة وبين انهمـاكهم فى أعمـالهم اليوميـة وتحصيـل رزقهـم... من هنـا أن الكتبـة والفـريسيين كانوا يحتـقـرون عـامـة الناس: [ وَلَكِنَّ هَذَا اَلشَّعْبَ اَلَّذِي لاَ يَفْهَمُ اَلنَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ ] [ يوحنا 7: 49 ]... ويصنـّـفـونهم فى مصـفّ " الخطـاة" ( وكان معظـم هـؤلاء " الخطـاة" من الفـقـراء الذين لم تكن تسمح لهـم ظـروف حياتهـم القاسيـة لا بدراسة الشريعـة ولا بتنفيذها بحـذافيرهـا ) ... بالإضافـة إلى ذلك, كانـوا يؤولـون الشريعـة بحيث تصبـح للنـاس عيئـًا وقيـدًا : [ فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ ] [ متى 23: 4]... فيُشبعـون بذلك, من حيث يشعـرون أو لايشعـرون, شهـوتهم للحكم والتسلّط... من هنـا تفسيرهم لوصيـة السبت, التى وُضعـت أصـلاً رأفـة بالنـاس, تفسيرًا ساحقـًا يمنـع من معـالجـة المريض فى ذلك اليـوم إلا إذا كان مشرفـًا على المـوت [ ثُمَّ دَخَلَ أَيْضاً إِلَى اَلْمَجْمَعِ وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي اَلسَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لِلرَّجُلِ اَلَّذِي لَهُ اَلْيَدُ اَلْيَابِسَةُ: قُمْ فِي اَلْوَسَطِ! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يَحِلُّ فِي اَلسَّبْتِ فِعْلُ اَلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ اَلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟ .فَسَكَتُوا. فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ . فَمَدَّهَا فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. فَخَرَجَ اَلْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ اَلْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ ] [ مرقس 3: 1ـ 6 ]... ويمنـع جائعـًا مـن اقتـلاع بعـض سنابـل القمـح فى ذلك اليـوم ومن فركهـا بين يـديه إشباعـًا لجـوعـه [ وَاِجْتَازَ فِي اَلسَّبْتِ بَيْنَ اَلزُّرُوعِ فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ اَلسَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. فَقَالَ لَهُ اَلْفَرِّيسِيُّونَ: اُنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي اَلسَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ اِحْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اَللَّهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ اَلْكَهَنَةِ وَأَكَلَ خُبْزَ اَلتَّقْدِمَةِ اَلَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إلاَّ لِلْكَهَنَةِ وَأَعْطَى اَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضاً؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اَلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ اَلإِنْسَانِ لاَ اَلإِنْسَانُ لأَجْلِ اَلسَّبْتِ. إِذاً اِبْنُ اَلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ اَلسَّبْتِ أَيْضاً ] [ مرقس 2: 23ـ 28]...
2ـ الخيـار الذى اعتمـده يسوع حيـال تسلّط رؤساء شعبـه:
حيـال هـذا التسلّط الدينى ـ الذى هـو أبشع أنـواع التسلّط لأنـه يتخـذ من الله تبريـرًا وتغـطية لـه ـ كان ليسوع خيـارات ثلاثـة ممكنـة: أ ـ أن ينصـاع للأمـر الواقـع حفـظـًا على سـلامتـه... ولكـن هـذا الخيـار كان بمثـابة تواطـؤ مـع الظـلم والاستبـدار وبالتـالى خيـانة لرسالتـه الخلاصيـة...
ب ـ أن يسعـى إلى الاستيـلاء على الحـكم الدينى, فيـزيح المتنفـذين الدينيين من موقـع السلطـة ويحتـل مكـانهم فيحكـم بدوره باسم الله ويأتى حكمـه أكثـر عـدالة ورأفـة... ولكن هـذا الخيـار كان يعنـى أن يسوع المسيح تبنّـى منطـق الحكم الدينى القـائم فى عهـده وإتخـذ من الله ذريعـة لفـرض حكمـه على النـاس, وأنـه بالتـالى رضـخ أمـام متطلبـات شهـوة الحكـم وأعـطاها تغـطية إلهيـة... تلك هـى التجـربة التى سقـط فيهـا إيليـا النبى على جبـل الكـرمل عـند ما أراد أن يفـرض ذاتـه على الملك والشعـب عبـر فـرضه الله عليهـم بقـوة النار, مما أدى بـه إلى ارتكـاب مجـزرة بحـق مئـات من كهنـة البعـل, فتلـقّى من الله بعـد ذلك درسـًا معبـّرًا حين تراءى له الله على جبـل حـوريب لا من خـلال الريح ولا من خـلال الزلزلـة ولا من خـلال النار, بـلّ من خـلال نسيم لطيـف يكـاد لا يُسمع صـوتـه...
هـذه التجـربة رفضهـا يسوع رفضـًا قاطعـًا فى بدايـة رسالتـه فى تجـربة الشيطـان الثالثة فى البريـة: [ ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا وَقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي . حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ ][ متى 4: 8 ـ10]... وكافحهـا وصـدّها كـلّ ما أعـادت الكـرة فى حياتـه...
ج ـ لم يبـق بالتـالى أمـام يسوع سوى خيـار واحـد ينسجـم مع أمانتـه للإلـه الحـق, الإلـه المختلف عـن أهـواء البشر... وهـو أن يتصـدّى دون هـوادة لانحـرافات الحكم الدينى ولكـن دون أن يعتمـد فى هـذا التصـدّى منطـق الحكـم الدينى الذى كان يقـاومـه وأساليبـه... لـذا نـراه, باسم الله وتمثـّلاً بمواقفـه: ** يتصـدّى لاستعمـال الهيكل مكـانـًا للمتـاجـرة والاستغلال ( طـرد الباعـة من الهيكـل )... ** يشهّـر بتـأويل الشريعـة وفقـًا للمصـلح الجشعـة... ** ينـادى بالطـوبى للفـقـراء وبالويـل للأغـنياء... ** يعـاشر " الخطـأة" ويـؤاكلهـم... ** يجـعل همّـه شفـاء المرضى وأصحـاب العـاهـات, وهـم المعتبـرون من قِـبَل القـيّمين على الدين معـضوبـًا عليهـم من الله ( خاصـة البرص منهـم )... ** يشـفى المـرضى عـلنـًا يوم السبت...
ولكننا نـراه بآن يرفـض رفـضـًا بـاتـًا الفـكرة الماسيانيـة المنتشرة فى عـهـده ( وهى فكـرة استلام المسيح الحكم بالقـوة باسم الله)... لـذا يَمْتَنِـع عن تسميـة نفسـه" مسيحـًا", مَنْعـًا للالتبـاس, ويُفَـضِّل أن يُسَمِّى نفسه " ابن الإنسان"...
ولمـا رأى أن الحـركة الشعبية إلّتـفـّت حولـه فى الجليـل كانت تـدفعـه إلى تسلّـم السلطـة: [ وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً اِنْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى اَلْجَبَلِ وَحْدَهُ ][ يوحنا 6: 15]... اعتـزل الشعب وركـّز رسالتـه على " القطيـع الصـغير" من تـلاميـذه...
ولكـن ذلك لم يثنـه عـن قـصده وهـو التصـدّى للتسلط الدينى المفسـد لصـورة الله والساحـق للإنسان, لا بـلّ نـراه يقـرّر الابتعـاد عـن الجليـل حيث صـادف تأييـدًا عـارمـًا لرسالتـه ويصـعـد إلى أورشليـم ليواجـه الحكـم الدينى فى عـقـر داره, وهـو فى الطـريق, يجتهـد أن يكسب تلاميـذه لرؤيـاه, رؤيـا الماسيانيـة الحـقّة التى تقـوم على قـوة الحـق لا على قـوة السلاح أو الخـوارق, التى تجتـذب الإنسان ولا تخضـعـه عنـوة... ونـراه يقـاوم بعـنف عـودة تجـربة الحكـم على لسان بطـرس...
إن خيـار يسوع هـذا, خيـار الصمـود حتى النهـاية فى مقـاومة تشويـه الحكم الدينى لله وللإنسان, إنمـا دون اللجـوء إلى وسائـل هـذا الحكم وأساليبه, كان لا بـدّ أن يقـود يسوع إلى المـوت, وفـقـًا للحتميـات النفسيـة والتـاريخية السائـدة آنـذاك... لم يكـن الصليب إذًا, كما سبق وقلنـا, نتيجـة " عـقـد" قائم بين الله ومسيحـه, عـقـد لم تكـن الظـروف التاريخيـة سوى حجّـة لتنفـيذه, بـلّ كان تتـويج المسيرة النبويـة التى سلكهـا يسوع والتى شهـد بهـا حتى الموت لحـقـيقـة الله ولمقـاصده التحـريرية ( الخـلاصية ) حيـال الإنسان... فما يجتـذب وما يحـرّك الرب يسوع ليس هـو الموت, وفـق أى اتفـاق عقـده مع الله, إنمـا هـو الحـق, حتى المـوت... وقـد جـاءت القيـامة تعـلن تأييـد الله لتلك المسيرة ونصـره لهـا عـبر الفـشل الظـاهـرى...
رابعـًا: ما هى علاقة المسيح بخـلاصنـا؟:
قراءة إيمانيـة للصليب
ولكـن معنى مـوت المسيح يتعـدّى هـذا البعـد التاريخـى الذى ذكـرناه... فـقـد أدركت الحمـاعـة المسيحيـة منـذ البدء. على ضـوء تعاليم السيد المسيح وبإلهـام الروح القـدس, أن لموت المسيح بعـدّا خـلاصيـًا شامـلاً يمتـد إلى البشرية جمعـاء وإلى كل فـرد من أفـرادهـا فى كل زمـان ومكـان... فمـا هى طبيعـة هـذا البعـد الخـلاصى؟... وبعبـارة أخـرى: مـا هى عـلاقـة موت المسيح بخـلاص الإنسان؟...
الجـواب الصحيـح أن مـوت المسيح يخـلصنا, لا لكـونه يفـى عـنّا دَيْنـًا تجـاه الله الآب فقـط... بـلّ لكـونه, كتتويـج لحيـاة السيد المسيح كلهـا... يكشف حقـيقـة الله وحقـيقـة الإنسان... ويُـدخِـل الإنسان إلى عـلاقـة صحيحـة محْيِيَـة بربّـه..
هـذا ما يتّضـح لنا إذا تـأملنا فى النقـاط التالية:
1ـ مـأساة الإنسان: الصراع بين لا محـدودية الرغبـة ومحـدودية الوجـود:
يوجـد الإنسان على الأرض ويفتـح عينيـه على المـوجـودات المحيطـة به, فتـوقـظ رغـائبـه وتشدّه إلى هـذه المـوجـودات, فينـدفع نحـوها بمـلء جـوارحه, ناشـدًا فيهـا إرواء غليلـه وإشبـاع جـوعـه إلى الطمـأنينة والسعـادة والانشراح والاكتمـال... ولكنـه يكتشف بخيبـة ومـرارة أن المـوجـودات كلهـا مقصّـرة لا محـالة عـن تحقـيق مـأربه وأنهـا تعـده بالاكتمـال المنشود ولكنهـا لا تفـى بوعـدها...
فلا الطعـام ولا الشراب ولا اللـذات على أنواعهـا, ولا الجـاه ولا النفـوذ ولا المعـرفة ولا الفضيـلة ولا الصـداقة ولا الحب, لا شئ من كل ذلك يستطيـع أن يـروى غـليل الإنسان... فـقـد وردت فى سفـر الأمثـال هـذه المـلاحظـة: [ أَيْضاً فِي اَلضِّحْكِ يَكْتَئِبُ اَلْقَلْبُ وَعَاقِبَةُ اَلْفَرَحِ حُزْنٌ ] [ أمثال 14: 13]... ووردت هـذه العبـارة فى خـدمة الجنـاز:" أى نعيـم فى الدنيـا ثبت ولم يخـالطـه حـزن؟.."... هكـذا يكتشف الإنسان أنـه مهمـا نجـح وتـوفـّق فى مساعيـه, فإنـه فاشل لا محـالة فى تحقـيـق أمـانيه, ذلك لأن ما بوسع المـوجـودات أن تمنحـه إيـاه محـدود حكمـًا, فيمـا أن رغـائب الإنسان لا تُحصـر ولا تُحـدّ... هـذا الفشل الذى تـُمنى به لا محـالة رغـائب الإنسان يبلـغ ذروتـه بالمـوت, ذلك المـوت الذى يـدرك الإنسان وحـده ـ دون سائـر المخـلوقات الحيـة, لأنـه بخـلافهـا متميـز عن الكـون, يعـى الكـون, ويعـى ذاتـه ومصيـره ـ أنـه النهـاية المحتـومة لوجـوده الأرضـى, فيخيّـم من جـراء ذلك على حيـاته كلهـا طيـف ذلك الفشل الجـذرى الذى ينتظـره, ألا وهـو انهيـار كيانـه ومـا يرافـق ذلك من انقـطـاع عـلاقتـه بالمـوجـودات...
2ـ نتيجـة هـذه المأساة: الوضـع الإنسانى " الساقـط":
فمـا سر هـذا التنـاقض المـأساوى الذى يعـانى منـه الإنسان, ذلك الذى عبّـر عنـه الشاعـر " لامـرتين" ببيتين له خالدين:" محـدود بطبيعتـه, لا متنـاهٍ من حيث أمـانيه, الإنسان إله ساقـط يتذكّـر السماوات"...
الـواقـع أن الله قـد زرع فى قلب الإنسان رغبـة لا متنـاهيـة تـوقظهـا الموجـودات دون أن يكـون بوسعهـا إرواؤهـا, قـاصدًا من وراء ذلك أن يتـّخـذ من الموجـودات لغـة يخـاطب بهـا قلب الإنسان ويوجّهـه إليـه ويُشعـره بأنـه هـو وحـده قـادر أن يلبّى الانتظـار الذى تـوقظـه فيـه الموجـودات وأن يحقـق أمـانيه, وبأن تلك الأمـانى إنمـا هى أعظـم مـن الكـون الذى يوقـظهـا لأنهـا تستهـدف فى آخـر المطـاف سيد الكـون وبـارئـه...
فى هـذا المنظـار يصبـح المـوت, على قسوتـه ورهبتـه, ذلك المعبـر الذى ينسلـخ بـه الإنسان عـن الموجـودات ليتسنّى له أن يحقـق اللقـاء التـام والمبـاشر بقـطب وجـوده الحقيـقى, الذى هـو أعـظم من الموجـودات قاطبـة...
ولكـن الإنسان كثيـرًا مـا يسئ فهـم مقصـد الله هـذا, فيتصـوّر أن الله عـدوّ لـه يتعمّـد حجب السعـادة عنـه لتحجيـمه وإذلالـه وتعـذيبه, وأنـه إنمـا يفـعل ذلك ليستأثـر لـذاته بالسعـادة والاقتـدار...
هكـذا تغيـب عـن الإنسان صـورة الإلـه الحقـيـقى وتـُستَـبْـدَل بتلك الصـورة المشوهـة التى يسقطهـا على الألوهـة... فتضـطرب من جـرّاء ذلك عـلاقـة الإنسان بالله, فإمـا يتمـرّد عليـه صـراحة ( وهـو إذ ذاك يتـمرّد بالفـعـل على وهـم مـن صنع خيـاله ) أو أنـه يُـبطـن هـذا التمـرّد مُسَتـّرًا إيـّاه بخضـوع عبـودىّ ذليـل, برضـوخ المغـلوب على أمـره لسلطـة لا منـاص له منهـا, ومُتـّخـذًا من ذلك الإلـه الممسوخ نمـوذجـًا يتمـاهى بـه فى عـلاقتـه بسواه من النـاس...
هـذه العـلاقـة المشوهـة بالله تـنعكس على مجمـل مواقـف الإنسان من نفسه ومن المـوجـودات, فإذا به, بـدلاً أن يـرى فى الله محـطّ أمـانيه ومحجّـة مسيرته ومعنى وجـوده وغـاية هـذا الوجـود, ينطـوى على ذاتـه محـاولاً محـاولة المستميت أن يكتـفى بمـا يستطيـع أن يجنّبـه من متـع ومسرّات...
وعـوض أن يـرى فى الموجـودات تعابير يخـاطبـه الله بهـا وكشوفـات لله فى حيـاته وإشارات لمـا أعـدّه الله لـه مما يفـوق التصـوّر والوصـف, وأن يتعـامل معهـا بالتـالى باحترام ورأفـة وحنـان ( خاصـة مـع تلك الكائنـات البشرية أمثـاله التى هى صـورة حيّـة لله), فيتـّصل عبرهـا بالله ويـذوق بالتـالى مسبقـًا شيئـًا من طعـم اللقـاء الموعـود, نـراه ينقـضّ عليهـا بشراهـة لا تعـرف حـدًّا, موهمـًا ذاتـه بأنـه, على قـدر مـا يعبّ منهـا, يستطيـع أن يمـلأ فراغـه ويُشبـع جوعـه الكيـانىّ...
وعـوض أن يتـّخـذهـا نوافـذ يطّـل منهـا على الله, يحـوّلهـا إلى مـرايا لا يشاهـد فيهـا إلا صـور نهمـه... يتعـامل مـع الموجـودات كلهـا وكـأنها أشيـاء لا مبـرّر لوجـودها سوى أن تـُستهـلك وتـُمْتلك, يتنـاولهـا كلهـا وكأنهـا وُجـدت فقـط لتمـلأ جـوفـه, ولسان حـاله يقـول: [ فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ ] [ 1 كورونثوس 15: 32 ]... هكـذا يوهِم نفسه أنـه بلـغ الإكتفـاء الذاتى, ويخـدّر جـوعه اللامتناهـى, يختـرع لنفسه ألوهـة زائفـة تقـوم على " النجـاح والمـال والشهـوة" وعلى " اقتنـاص الملـذّات" على أنواعهـا... يتسلّط على مـن كانـوا أضعـف منـه ليخـدع نفـسـه ويتعـامى عـن هـزال كيـانه ويوهـم ذاتـه أنـه مرجـع ذاتـه وسيّد مصيـره...
ولكـن تهـالكـه هـذا على التسلّط والتمـلّك والتنعّـم يرتـدّ عليـه ويؤول بـه إلى عـكس مـا كان يقـصـد... ذلك لأنـه, على قـدر إنغـلاقـه وإنطـوائـه على نـفسه ومقتنيـاته ـ ولو تـوسعت باستمـرار تلك المقـتنيـات كمـا حصـل لغـنى المثـل الإنجيلى الـذى كان ينـوى هـدم إهـراءاتـه وبنـاء أخـرى تستوعب المزيـد مـن الغـلات [ لوقا 12: 16ـ 18] ـ فإنـه لا يفعـل شيئـًا سوى إحكـام أسـره ضمـن جـدران محـدوديتـه الخـانقـة...
وعـلى قـدر استرسـاله فى رؤيـة المـوجـودات من زاويـة نهمـه وحسب, فإنـه يحكـم على نفسه بعـزلة مـريرة قاتلـة... وكلّمـا إزدادت وطـاة هـذه العـزلة, إستمـات المـرء فى السعـى النهـم وراء الأشيـاء علّـه ينجـو مـن وحتدته, ولكنـه يبقـى هـكذا سجين دوّامـة لا رجـاء بالافـلات منهـا, دوّامـة هى " المـوت" عينـه بمعنـاه الروحـى, اختنـاق إنسانيـة الإنسان, ضيـاع الـرغبـة المحـوريـة لـديه بالاكتمـال فى سراب الوهـم, ذلك المـوت الذى تحـدّث عنـه الرب يسوع المسيح بقـوله: [ مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا ] [ لوقا 17: 33]... وأيضـًا: [لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ اَلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ اَلْعَالَمَ كُلَّهُ وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟][ لوقا 9: 25]... لا بـلّ إن المـوت الجسـدى يصبـح, فى هـذا المنظـار, قـدرًا مرعبـًا لأنـه يفقـد أفـقه ورجـاءه... فالإنسان الذى يستميت فى محـاولة الاكتفـاء بذاتـه والتشبث بالمـوجـودات كغـاية لوجـوده, يشعـر بأنـه لـن يبقـى لـه شئ سوى العـدم إذا انتـزع منـه المـوت ذاتـه والموجـودات التى إقتنـاهـا: [ فَقَالَ لَهُ اَللهُ: يَا غَبِيُّ هَذِهِ اَللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ اَلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هَكَذَا اَلَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلَّهِ ] [ لوقا 12: 20, 21]...
ذلك هـو " الوضـع الساقـط" الذى يعـانى منـه الإنسان... تلك هـى " خطيئتـه الأصليـة", أى الأساسية, التى تنبـع منهـا سائـر الخطـايا, والتى قال عنهـا الرسول أن : [ لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اَللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا ] [ رومية 6: 23]... إنهـا استعباد الإنسان لقيـود محـدوديتـه, لأن آفـاق تلك المحـدودية قـد غـابت عنـه وتنـاسى أنهـا تطـلّ على دعـوة الله له ورغبتـه بلقـائه وإدخـاله إلى فـرحه الأبـدىّ... فإذا بـه يصبـح أسيرًا لتـلك المحـدوديـة بسبب خـوفـه منهـا ومـن الموت الذى يلخّصهـا ويجسدّهـا... خـوفه مـن تلك المحـدوديـة يحمـله إلى ترسيخهـا وتحـويلهـا إلى سجن لـه, مما يقـوده إلى نمـط عيش أشبته مـا يكـون بالمـوت, مما يعـطى المـوت كل " شوكتـه" فى حياتـه: [ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ ] [ 1 كورونثوس 15: 65 ]... هـذا ما أشارت إليـه رسالـة العبرانيين لمـا ذكـرت: [ وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين 2: 15]...
3ـ نهـج يسوع كان على نقيـض هـذا الوضع " الساقط" وما موت يسوع سوى تتويـج لهـذا النهـج:
فـرادة يسوع أنـه سلك على نقيـض الوضـع " الساقـط" الذى يتخبـّط فيـه الإنسان... لقـد شارك البشر تمامـًا فى مأساتهـم, مأساة التنـاقض بين لا محـدودية الرغبـة ومحـدودية الوجـود, ولكنـه لم يشاركهـم فى الخطيئـة التى تقـودهم أليهـا هـذه المأساة, خطيئـة التقـوقـع على الـذات وإدعـاء إلـوهـة زائفـة يخـدعـون بهـا أنفسهـم ويتعـامـون بآن معـًا عـن محـدوديتهم بهـا لتجـاوز هـذه المحـدودية, ألا وهـو الانفتأح الكـلّى إلى الله...
لقـد كان يسوع, مـن حيث بنـوّته الأزليـة, معـادلاً لله, ولكنـه لم يشأ أن يتـّخـذ من هـذه المأساة ذريعـة ليحيـا إنسانيتـه وكـان بوسعهـا أن تكتـفى بذاتهـا وتتـنكّـر لمحـدوديتهـا وتستغـنى عـن الله... بعـبارة أخـرى, لم يشأ أن يتصـرّف وكـأنه إنسان يملك الألـوهة كمـا يتشبث البخيـل بثروتـه... بهـذا المعنـى كتب الرسول بولس عنـه: [الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اَللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ ] [ فيليبى 2: 6]... هـذه الاكتفـائيـة التى رفضهـا المسيح لم تكن، لتتنـافى مع حقـيـقة الطبيعـة البشرية وحسب, التى اتـّخـذها المسيح كمـا هى لا كمجـرّد صـورة أو مظهـر, بـلّ إنهـا ليست إكتفـائيـة بـلّ تواصـلاً, عـطاءً كلّيـًا وانفتـاحـًا وتقبـّلاً كاملين فى " حركـة الحب الأبـديـة" التى تجمـع أقـانيم الثـالوث...
البنـوّة الأزليـة التى للمسيح, بصـفـتـه " الكلمـة" الـذى كـان منـذ البـدء " نحـو الله" ( تلك هـى الترجمـة الدقيـقة للعبـارة اليونانيـة الواردة فى يوحنّا 1: 1 والتى تـُعَـرّب عـادة " عـند الله" ), أى متجـهًا بكـل كيـانـه إلى الآب, شـاء أن يحيـاها فى الوضـع البشرى الذى اتـّخـذه, انفتـاحـًا كامـلاً إلى الله, فقـرًا كليـًا إليـه, اعتمـادًا عـليـه دون سواه مـن أجـل تحقـيـق معنى حيـاته وأمنيتة وجـوده...
هـذه الثـقة الكاملـة, العـارمة بالله, النابعـة مـن إلفـة حميمة بين يسوع وبين الآب , هـذه الثـقـة التـامة بأن الله وحـده قـادر أن يلبّى عـطش الإنسان المحـورى إلى السعـادة والاكتمـال والخلـود, هى التى أعـطت يسوع القـدرة على رفـض كل الأصنـام التى ينصبهـا البشر فيتعـبدون من خـلالها لـذواتهـم ويتنكّـرون لمحـدوديتهم, وينسون الله الذى هـو وحـده قـادر أن يحـرّرهم من وطـاة هـذه المحـدودية...
مـن هنـا أن نهـج حيـاتـه كلّهـا اتـّصف بالإخـلاص الكامل لله كمـا عبّـرت الرسالة إلى العبرانيين بقـولهـا: [ لِذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ ( المسيح ) إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ ] [ عبرانيين 10: 5 ـ 7]... هـذا الإخـلاص الكامل لله والانفتـاح الكلّى إليـه ونبـذ كل اكتفـاء على الذات يحُـول بين الإنسان وبينـه, عاشه يسوع فى كـل ظـروف حيـاته الأرضيـة ومراحلهـا: أ ـ فقـد رفـض سراب التملـّك الـذى يوهـم المـرء نفـسه بواسطـته أنـه أصبـح مكتـفيـًا بذاتـه, مطمئنـًا, آمنـًا على مصيره, سيـدًا مطلقـًا لحيـاته ( " الغنىّ" , لغـة, هـو من استغنى أى اكتفى بذاتـه )... لـذا نـراه حـرًّا من كل تملّـك, لا وجـود لعـائق يقيـّد انطـلاقـه نحـو الله ومشاركتـه للنـاس: [ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ ] [ متى 8: 20]...
ب ـ رفـض كذلك سراب التسلّـط الـذى, خاصـة إذا إتّـخـذ من الله ذريعـة له, يوهـم الإنسان بأنـه تـغلّب على محـدوديتـه بسؤدده على من هم أضعـف منـه, وبأنـه أصبـح " ظـل الله على الأرض", سيـدًا لمصيره ومُهيمنـًا على مصـائر العبـاد... لقـد رفـض يسوع, كما رأينـا, أن يتـذرّع بالله ليفـرض على النـاس سلطتـه وحكمـه, فيبنى لنفسه إلوهة زائفـة تتستـّر بالله فى الظـاهر ولكنّها تتنـكّر له بالفعـل إذ تتجـاسر على مصـادرته واحتـلال مكـانـه... لـذا نـراه حريصـًا على بث رسالته بقـوة الحـق والاقنـاع وحـدها, عـارى اليدين من كل سطـوة مسلّحـة أو زعـامة جماهيرية أو أساليب سحـرية يفتـن بها الناس...
ج ـ وبسسب إخـلاصـه الكـامل لله, كانت حياتـه متجهـة بكليتهـا, دون تحـفّـظ أو رجعـة, نحـو الآخـرين, فكـان يجـد فى خـدمتهم فرحـة وتحقـيـق ذاتـه... وقـد لخـّص سفر أعمـال الرسل بحـق حيـاة يسوع بقـوله على لسان بطـرس: [ يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ. وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضاً قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. ] [ اعمال 10: 38, 39]... وقـد قال عنـه إنجيـل متى: [ وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ اَلْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ اَلْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي اَلشَّعْبِ ] [ متى 4: 23]... وأيضـًا: [ وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ اَلْمُدُنَ كُلَّهَا وَاَلْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ اَلْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي اَلشَّعْبِ ] [ متى 9: 35]... وأيضـًا: [ وَلَمَّا صَارَ اَلْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ وَجَمِيعَ اَلْمَرْضَى شَفَاهُمْ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا ] [ متى 8: 16, 17]... وكم من مرة ذكـرت الأناجيـل حنانـه الفـاعل على النـاس ورأفتـه بمـآسيهم, مثـلاً: [ وَلَمَّا رَأَى اَلْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا ] [ متى 9: 36]... وأيضـًا: [ فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ ] [ متى 14:14]... و [ وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ: إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى اَلْجَمْعِ لأَنَّ اَلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلا يُخَوِّرُوا فِي اَلطَّرِيقِ ] [ متى 15: 32]... و [ فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ ] [ متى 20: 34]...و [ إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى اَلْجَمْعِ لأَنَّ اَلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ ] [ مرقس 8: 2]... و [ فَلَمَّا رَآهَا اَلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي] [ لوقا 7: 13]...
د ـ هـذا الإخـلاص الكـلّى, الواحـد الذى لا يتجـزّأ, لله وللبشر " عيـاله", الذى عاشه يسوع, جعـله يلتـزم دون أى تحفـّظ أو تهـرّب قضية تحـرير الناس من طغـيان الحكم الدينى الذى كان يسحقـهم... لـذا تصـدّى بجـرأة فـائقـة لممثلى هـذا الحكم, مـن رؤساء كهنـة وكتبـة وفريسيين, وفضـح سوء رعـايتهم لمن أؤتمنـوا عليهـم وتحميلهـم للنـاس أحمـلاً ثقـيلة بغيـة ترسيخ سطـوتهم ونفـوذهم وإشبـاع شهـوتهم إلى التسلّط والمجـد البـاطل, ونـادى بالقـول والفعـل أن الله يريـد رحمـة لا ذبيـحة, وأعـلن بالممـارسة أن الشريعـة, التى كان يستمتد منهـا الرؤساء نفـوذهم, وُجـدت فى الأصـل مـن أجـل الإنسان وليس الإنسان من أجـل الشريعـة... وفى تـلك المـواجهـة القـاسية لرؤساء شعبـه, لم يشأ يسوع أن يضـع ثقـتـه فى زعـامـة يمنحهـا له البشر أو فى قـوة مسلّحـة يجـابـه بهـا خصـومه, بـلّ وضـع ثقـتـه كلهـا بالله وحـده وذهب إلى أعـدائه فى عقـر دارهـم أورشليم, يواجههم بسـلاح الله وحـده الذى هـو سلاح الحـق... وقـد كان عـارفـًا أنـه سائـر إلى الموت, ولكنـه تـقبـّل المـوت, لا حبـًا فى المـوت بـلّ كتعبيـر أسمى عـن ثقتـه بالله, وإعـراضـه عـن كل وسيلـة للمقـاومـة مـن أجـل أن تُحـجب حقـيقـة الله, ويـقيـنه بأن الله قـادر على إنقـاذه حتى ولـو اجتـاز جحيـم المـوت, ولسان حـاله يردّد مع كاتب المـزمـور 23: [ أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ اَلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ] [ مزمور 23 : 4]...
هـ ـ هـذه الثقـة الكـاملة بالله هى التى سمحت ليسوع أن ينتصـر على التجـربة الأخيرة التى راودتـه فى بستـان حسثيمانى ( وقد كانت بالفعـل تكـرارًا لتلك التى راودتـه فى بـدء حياته التبشيرية ), ألا وهى أن يطـلب من الله أن يتـدخّل فى مصيره فيعطيـه منـاعة إلهيـة ضـد مكائد خصـومه ويجعـله فـوق نواميس الطبيعـة والتاريخ التى كانت تحتّم موته, وبعبـارة أخـرى أن تمنحـه ألوهـة زائفـة تحجب حقـيـقة الله كإلـه مختـلف عـن رغائب الإنسان, وحقـيـقة الإنسان ككـائن محـدود لا يكتمـل إلا بالله... فكـان الصـراع النفسى والـروحى العنيف والعـرق المتصبب كقطـرات الدم وهتـاف يسوع: [ ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ ] [ متى 26: 39]... عبـر هـذا الصـراع ترسّخ يسوع فى النهـج الـذى بقـى أمينـًا له طيلـة حيـاته, رغـم التجـارب التى واجهها, ألا وهـو خـط التعـرّى الكـامل أمـام الله والتسليم الكـلّى إليـه والانتظـار منـه, ومنـه وحـده, تحقـيـق رغبـة الإنسان فى الاكتمـال والخـلود, إنمـا بطـريقـة تفـوق كل تصـوّرات البشر... لقـد كـان صـراع جسثيمانى محطـة حـاسمة فى تحقـيـق المسيح لبنـوّته الأزليـة عبـر البشريـة الترابيـة المـائتة التى إتخـذّها... وقـد قالت الرسالة إلى العبرانيين بهـذا الشأن: [ مَعَ كَوْنِهِ اِبْناً تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ ] [ عبرانيين 5: 8]...
و ـ وقـد بلغت هـذه المسيرة تمـامهـا وذروتهـا على الصليب... فقـد اختبـر يسوع, فى ساعات الظلمـة تلك, أكثـر ممـا فى أى وقت مضى, اختبـر فى جسـده الـذى كان يعـانى سكـرات مـوت رهيب وفى نفسـه المكتنفـة بمشاعـر العـزلة والفشل, تمـايز الله الجـذرى عـن تصـورات البشر وأمـانيهم, وقـد تّرجـم ذلك بشعـور مـرير بالتخـلّى الإلهـى: [إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ ] [ متى 27: 46 ]... ولكنـه, وبسبب من ذلك, اختبـر أيضـًا, أكثـر مما فى أى وقت مضى, التسليم الكـلّى إلى هـذا الإلـه الآخـر, الذى من حيث هـو آخـر هو وحـده الإله الحقـيـقى المتميـز عن تخيـلات البشر, واختبـر الثقـة التـامة بـأن هـذا الإلـه وحـده قـادرأن يحقـق ملء رغـبة الإنسان بالطـريقـة التى يعـرفهـا ويشاؤهـا هـو... مـن هنـا تلك الصيحـة الأخيرة التى أطـلقهـا المصـلوب قبـل أن يلفـظ الروح, أطـلقهـا " بصـوت عظيـم" كمـا يقـول الإنجيلى لوقـا, وكـانـه يلخّص ويتوّج مسيرة حياتـه كلّهـا وتوجههـا المخـالف لمجمـل وضعنـا " الساقط", النـازع إلى اكتفـاء وهمىّ: [ وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: { يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي }. وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ اَلرُّوحَ ] [ لوقا 23: 46]...
4ـ القيامـة أتت تصـديقـًا لمنهـج يسوع, وكشفت حقـيقـة الله والإنسان:
وقـد تقبّـل الله تقـدمة ابنـه وتلقـّاه فى المجـد وحـقـق رغبتـه الإنسانيـة فى الاكتمـال والخـلود... تقبـّله, لا بسبب الألـم والمـوت ( كمـا لو كان ألـم الإنسان ومـوته يلـذّان لـه ), بـلّ بسبب الإخـلاص والتسليم اللـذين بلـغـا ذروتهمـا عبـر الألـم والمـوت...
وقـد كانت قيـامـة يسوع العـلامة الدامغـة لهـذا التقبـّل الإلهـى لـه... وكانت التـأكيـد الثـابت على أن نهجـه إنمـا هـو النهـج الصحيـح الـذى يحـرّر الإنسان مـن دوامـة وضعـه " الساقـط" ويقـوده إلى الحيـاة والاكتمـال اللـذين يتـوق إليهمـا بمـلء جـوارحـه...
وقـد أتت القيـامة تعـلن بوضـح حقـيـقة الله وحقـيـقة الإنسان, هـاتين الحقـيـقـتين اللتين بقـى يسوع أمينـًا على الشهـادة لهمـا بحيـاته ومـوته... فقـد تبيّن بالقيـامة: أ ـ أن الله ليس عـدو الإنسان, وأنـه, إن كـان يوقـظ فيـه رغـبة لا تستطيـع مـوجـودات الكـون أن تحـقـقها, فإن ذلك ليس بقصـد العبث بالإنسان ( خـلافـًا لاعـتقـاد سارتر بأن " الإنسان شهـوة لا جـدوى منهـا"), بـلّ لأنـه أعـدّ له نصيبـًا أفـضل وهـو أن يتـّحـد بخـالقـه وخـالق المـوجـودات قاطبـة ويشاركـه فرحـه الأبـدى...
ب ـ إن الإنسان ابن لله لا عبـد لـه يتلاعب بـه الله كمـا يشاء, وأنـه لا يحـقـق ذاتـه ويبلـغ غـاية رغبتـه اللامتنـاهيـة إذا إنكـفأ على ذاتـه ونصـّبهـا إلوهـة زائفـة يتـنكّـر بهـا لمحـدوديتـه, بـلّ إذا عـاش بنـوّتـه الإلهيـة انـفتـاحـًا إلى الله أبيـه وتسليمـًا إليه وتجـاوزًا للنفس نحـوه ورأفـة وحنـانـًا بخلائـقـه...
5ـ القيـامة وخـلاصنـا:
هـكذا تُـوّج يسوع بالقيـامة: [ لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ ] [ عبرانيين 2: 10]... يحـرّرنـا مـن أوهـامنا القاتلـة ويكشف لنـا حـقـيـقة الله وحـقـيـقة ذواتنـا ويرشـدنا إلى طـريق الحيـاة... ولكـن هـذا الارشاد ليس مجـرّد عمـلية ذهنيـة أو قنـاعـة فكـرية, إنـه تحـوّل كيـانىّ تتممـه القيـامـة فينـا إنطـلاقـًا من معمـوديتنـا التى, من خـلال عمـل حسّىّ يكتنفـه روح الله القـدوس, تـزرع فينـا طـاقـة المشاركـة فى قيـامـة الرب يسوع المسيح: [ وَبِهِ أيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ. مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أقِمْتُمْ أيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. وَإِذْ كُنْتُمْ أمْوَاتاً فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا، إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ. فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فِي أكْلٍ أوْ شُرْبٍ، أوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أوْ هِلاَلٍ أوْ سَبْتٍ، الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ] [ كولوسى 2: 11ـ 17]... تلك الطـاقـة التى يبقـى عليهـا أن تتحـوّل إلى فعـل محيى عبـر جهـاد الإيمـان الـذى يمتـدّ طيلـة حياتنـا...
أ ـ فالقيـامة تنـقـل المسيح إلى داخـلنا: [ مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي ] [ غلاطية 2: 20]... ذلك أن المسيح الممجّـد بالقيـامـة لـم يعـد محصـورًا ضمـن حـدود الزمـان والمكـان بـلّ أصبـح مالئـًا الكـلّ يصـوّره الروح القـدس فى كـلّ واحـد منـّا: [ لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ ] [ غلاطية 3: 27]... ومـن لبس المسيح فقـد لبس الإنسانيـة الجـديـدة التى تجـلّت فيـه, وصـارت لـه نظـرة المسيح إلى الحيـاة, إلى الله والإنسان, تلك النظـرة التى تُحـرّرنـا مـن أوهـامنـا المـميتـة...
ب ـ ثـمّ أن مساهمتنـا فى قيـامـة المسيح ( المعمـوديـة ) تـنـقل إلينـا, فيمـا لا نـزال فى جسـدنـا التـرابىّ ووضعـنـا المـأساوى, طـاقـة الحيـاة التى انتصـرت فى المسيح القـائـم مـن بين الأمـوات, فنختـبر فى ذواتنـا تبـاشير تلك الحيـاة الظـافـرة, قـوة وفـرحـًا وتجـدّدًا فى كياننـا, ونشعـر مـع الرسول بولس أنـه: [ فَإِذْ لَنَا رُوحُ الإِيمَانِ عَيْنُهُ، حَسَبَ الْمَكْتُوبِ { آمَنْتُ لِذَلِكَ تَكَلَّمْتُ } ـ نَحْنُ أَيْضاً نُؤْمِنُ وَلِذَلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضاً. عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ. لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ النِّعْمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ. لِذَلِكَ لاَ نَفْشَلُ. بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً. لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ ] [ 2 كورونثوس 4: 13ـ 18]... هـذه الثـقـة التى تنشأ فينـا إن كنّـا فـعـلاً قيـميين, والنـابـعة من خبرتنـا المعـاشة لقـوة الحيـاة الجـديدة فينـا ولتصـدّيهـا الفـعّـال لقـوى المـوت العـاملـة فى كياننـا, هـذه الثـقـة تسلّحنتا ضتد الخـوف مـن المـوت وتعـطينـا القـدرة على عـدم الانـقيتاد إلى هـذا الخـوف وإلى مـا يؤول إليـه مـن إنطـواء وتـقـوقـع خانـقين...
هكـذا يتحـقـق فينـا مـا تـقـوله الرسالة إلى العبرانيين من أن المسيح شاركنـا فى الـدم واللحـم ليعـتـق بموتـه الذين ظـلـّوا طوال حياتهم فى العبودية: [ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين 2: 14, 15]... هكـذا تتحـرّر رغـبتنـا من عـقـالاتها, وعـوض أن تضيـع فى سراب الأهـام القـاتلة, تنطـلق فى رحـاب الله الذى يستطيـع وحـده أن يلبّى انتظـارهـا اللامتنـاهى...
الخلاصـة:
هكـذا فليس عـقـابـًا أنـزلـه الله بابنـه البـرئ انتـقـامـًا من خطـايـا البشر... إنمـا الفـداء عـمليـة قـامت بهـا المحبّـة الإلهيـة لتصحيـح المسيـرة الإنسانية التى ضـلّت الطـريق فـأدارت الوجـه لله, وتنـكّرت لحـقـيقـة الإنسان بـآن, وضـاعت فى متـاهـات الأوهـام وسلكت سلوكـًا انتحـاريـًا... لـم يكـن الفـداء عبـارة عـن ذبيحـة ضحيـة بريئـة يستـرضى بهـا البشر إلهـًا صـار عـدوًّا لهـم... بـلّ أن الله, الـذى لـم يكـن بالحـقـيقـة عـدوًا للنـاس فى أى وقت مـن الأوقـات, شاء أن ينحـدر إليهـم فى شخـص ابنـه المتجسّد يسوع المسيح لكـى يصـالحهـم بنفسـه بعـد أن اعـتبـروه زورًا وبهتـانـًا عـدوًا لهـم, ويكشف لهـم, مـن خـلال ذاك الـذى أصبـح أخـًا لهـم, الله المتجسد يسوع المسيح,الإله الكامل والإنسان الكامل, حقـيـقة الله وحقـيـقة الإنسان, ويجعـل من مسيرة يسوع الأرضيـة, مـن حياتـه ومـوته المتوجين بالقـيامـة, طـريقـًا لهـم يسلكونـه ليتحـرّروا مـن عـداوتهـم لأنفسهم ويستـعـيدوا أصـالتهـم السليبـة ويجـدوا السبيـل إليـه, سبيـل السعـادة التى أعـدّها لهـم منـذ إنشاء العـالم...
مختصـر الكـلام أن الفـداء ليس مـقـايضـة حـقـوقيـة, إنمـا هـومحبّـة مجّـانية كـله, ومنسجـم بالتـالى كلّيـًا مـع طبيـعـة الله كمـا كُشفـت لنـا بيسوع المسيح الذى يمتلك تمام الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية ويمثّل الرباط الكامل بين الله والإنسان... وهو التوحيد الحى للإثنين فى شخصه...وهكذا فى شخصه يتحقق العهد كله ... فإن الصلة بين الله والإنسان على يد الكلمة المتجسد , هى صلة جوهرية ونهائية وغير قابلة للتخطى من أحد... فإن المسيح ليس حامل رسالة , بل هو الله وهو الكلمة الناطقة والحية التى تكلم قلوب البشر... |