تمموا خلاصكم

مقدمة
الباب الأول: إمكانية الارتــداد الروحي
الفصل الأول: خطـر الارتداد
الفصل الثاني: المؤمن والارتداد
الفصل الثالث: أسباب الارتداد
الفصل الرابع: تأديبات الارتداد
الفصل الخامس: علاج الارتداد
الباب الثاني: حتمية الجهاد الروحي
الفصل الأول: ضرورة الجهاد
الفصل الثاني: مفهوم الجهاد
الفصل الثالث: عناصر الجهاد
الفصل الرابع: ميـدان الجهاد
الباب الثالث: ضرورة التدريب الروحي
أولاً: ضرورة التدريبات
ثانياً: مفهـوم التدريبات
ثالثاً: ممارسة التدريبات
رابعاً: مجـال التدريبات
الخاتمة
حمل هذا الكتاب

عودة للصفحة الرئيسية

الفصل الثالث عنـاصر الجـهاد الروحي


أولاً:- العنـصر البشـرى

ثانياً:- العنصــر الإلهـي

ثالثاً:- تضـامن العنصـرين

عرفت يا أخي أن الجهاد في مفهومه السليم هو تضامن العنصر البشرى مع العنصر الإلهي لإتمام الخلاص. والآن نريد أن نوضح مدى نصيب كل من هذين العنصرين في عملية الجهاد:-


أولاً: العنـصر البشـرى



يشترك العنصر البشرى في عملية الجهاد المبارك بالنصيب الآتـي:


( أ ) الإرادة :

ففي الإرادة مجاهدة لرغبات النفس ضد مشتهياتها الرديئة. فعندما تقدم أنت هذا العنصر من جانبك، فالرب يقوم من جانبه بتـثبيت عزيمتك في طريق النعمة، ويميت الرغبات المضادة. من هذا نستطيع أن ندرك السر الكامن خلف سؤال السيد المسيح لكل مريض "أتريد أن تبرأ؟". ذلك لأنه يريد من المريض أن يشترك في عملية الإبراء ولو بالإرادة. فإذا قدم المريض من جانبـه هذه الرغبة أتم السيد له الشفاء.

لهذا يقول القديس مقاريوس: "في الروحيات يجب أن يعمل ويجاهد كل إنسان بإرادته وعزيمته … ولكن إذا لم تدركه نعمة الله من فوق … يـبقى بلا ثمرة في جهاده".

وقد قال قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث: "أمر خلاصك يتوقف إذن على اتفاق إرادتك مع أرادة الله وقبولك للخلاص".

وقال أيضاً "فإرادتك تـتحد مع الروح القدس في خلاص نفسك".

وأيضاً "فالنعمة عبارة عن سلاح يمكنك به أن تحارب لو أردت" (لك يابنى ص90،71،72).

فما قيمة جهادك يا أخي إن كنت لا ترغب في قرارة نفسك أن تترك الخطية؟‍‍ يوجد أناس يصومون ويصلون ويتناولون من الأسرار المقدسة ويزرفون الدموع أمام الله ولكن قلوبهم لا تريد أن تفارق الخطية لأن محبتها قد ملكت عليها. أفيرتضي الرب أن يخلصهم وهم لا يرغبون في ذلك؟

أخشى يا أخي أن يكون هذا وضعك. فإن كنت كذلك وتشعر بمحبة الخطية المتملكة على قلبك تستطيع أن تطلب من الرب فيطفئ هذه المحبة الملتهبة إن أردت.



(ب) الإيمـان :

والإيمان الذي نقصده هنا ليس الإيمان الذي هو ثمرة من ثمار الروح الذي قال عنه الكتاب "أما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام … إيمان …" (غل22:5).

وليس الإيمان الذي هو موهبة من مواهب الروح التي كتب عنها الرسول "لكل واحد يعطي إظهار الروح للمنفعة. فإنه لواحد يعطي بالروح كلام حكمة ... ولآخر إيمان... " (‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍1كو12: 7،9).

ولكن الإيمان المقصود هنا هو الإيمان الخلاصي الذي يتطلبه الرب من الإنسان لينال الخلاص "من آمن واعتمد خلص" (مر16:16).

وقد أوضح الرب يسوع أن هذا الإيمان هو عمل إرادي عندما سأل والد الفتي الذي كان به روح نجس قائلاً "إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شئ مستطاع للمؤمن" (مر23:9). والكتاب يرينا أنه ليس علي الإنسان إلا أن يبدى إشارة الإيمان والرب يثبت هذا الإيمان، يتضح ذلك من كلمات والد هذا الفتي الذي كان به الروح النجس عنـدما قال رداً علي سـؤال المسيح السـابق " أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني" (مر24:9).

فهذا الرجل يبدي إيمانه ثم يطلب من الرب إتمام ذلك فيقول له: "أعن عدم إيماني". ولقد أدهشني تعبير هذا الرجل فهو لا يقول أعن (ضعف إيماني) بل (عدم إيماني) وكان هذا الطلب كافياً لأن يتم الرب إيمان الرجل ويجري المعجزة.

أخي إن إتمام خلاصك يحتاج إلى إشارة الإيمان من جانبك والرب سيثبت هذا الإيمان ويكمله ليتمم خلاصك.

وفي الإيمان يا أخي مجاهدة النفس ضد شكوكها وارتيابها وزعزعة ثقتها ... وعندما يرى الرب ثباتك رغم هذه التيارات التي تقلقك يتقدم هو ليبارك عليك وينتهر رياح الشكوك وتيارات الارتياب. وفي هذا الصدد قال القديس يوحنا (من كرونستادت):-

"الإيمان هو فم الروح كلما انفتح بسخاء كلما انسكبت فيه الينابيع الإلهية. آه ... !! ليت هذا الفم على الدوام مفتوحاً فلا تحبسه شفتا الشك وعدم الإيمان فـتنحبـس عنا كثرة أنعام الله." وقال أيضا: "في شدة إيمـانك الصادق به يصير اتحادك معه. وحينئذ ما تطلبه يكون لك حسب مشيئته سواء كان من أجل خلاصك أنت أو من أجل قريبك..."

فهل تستطيع يا أخي أن تؤمن أن الله قادر أن يعمل فيك لإتمام خلاصك "من ثم يقدر أن يخلص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين يشفع فيهم" (عب7: 25).

هل تستطيع أن تؤمن أن الرب معك في جهادك طول الطريق ضد أعداء النعمة "يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا." (مت23:1).

إن كان لك هذا الإيمان فسوف تغلب العالم "هذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيمـاننا." (1يو4:5).

وإن كان لك هذا الرسوخ في الإيمان تغلب الشيطان "قاوموه راسـخين فـي الإيمان" (1بط8:5).

وإن كان إيمانك ضعيفا لدرجة الانعدام اصرخ قائلا: "يا سيد أعن عدم إيماني." (مر24:9).

وليس مقياس إيمانك الحس والشعور كما قلت سابقا، ولكن هو تصـديق مواعيد الله. فقد وعد الله أنه يقدر أن يخلصـك إلى التمام (عي7: 25) فهل تصدق ذلك وتثق فيه من كل قلبك ... إذن سلم ذاتك له في اتكال تام عليه.


( ج ) الهـروب :

يقول القديس أوغسطينوس : "الهروب من إطاعة الشهوات هو جهاد دائم وصراع يومي ضد الرغبات الغير لائقة."

(N.P. Frs 1st Ser. Vol. V P. 13G)


ففي الهروب مجاهدة للنفس ضد ميولها وانحرافاتها نحو مجال الخطية والإثم. فان قمت بهذا العمل من جانبك فإن الرب من جانبه يميت ميولك الداخلية المنحرفة.

ولهذا حرص القديس باسيليوس أن يقول في القداس الإلهي: "أنعم لنا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم لنهرب إلى التمام في كل أمر رديء للمضاد." ثم يطلب قائلا : والمجرب أبطله واطرده عنا. وانتهر أيضا حركاته المغروسة فيـنا. واقطع عنا الأسباب التي تسوقنا إلى الخطية."(القداس الإلهي).

وفي صلاة الأجبية نقول: " أمت حواسنا الجسمانية أيها المسيح إلهنا ونجنا." فلا بد لك يا أخي أن تهرب من مجالات الخطية لتتم خلاصك... ولكن لا يكون هروبك من هذه المجالات سلبياً فحسب ... بل بعد أن تفرغ القلب من أشواق الخطية لا بد وأن يملأه بالأشواق المقدسة ... بعد أن يفرغ من إبليس لا بد وأن يملأه يسوع ... وإلا عاد هذا الشيطان بعد تجوال في برية لا يجد فيها راحة فيجد قلبك مكنوساً مزيناً فيرجع ومعه سبعة شياطين أشر منه !! (مت12: 45).

لهذا حرص معلمنا بولس الرسول أن يوضح ذلك لتلميذه تيموثاوس بقوله: " أما الشهوات الشبابية فاهرب منها." ولا يكتفي بهذا الوضع بل يحثه على استكمال هذا الأمر بقوله: "واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي." (2تى22:2).

فما هو قيمة الهروب من مجال اللذة الباطلة في الخطية إن لم يتلذذ القلب باللذة الحقة في الرب؟! فإن عملية الهروب لا تكون إلا مجرد حرمان وعذاب ونسك تصوفي ممقوت إن لم تجد النفس لذتها وسعادتها في شخص الرب يسوع المبارك.!!

( د ) التـغصب:

يجب ألا يغيب عن بالك يا أخي حقيقة هامة وهي أن "الجسد يشتهى ضد الروح" (غل5 :17) لهذا لا بد من عدم الاستـسلام لرغبات الجسد ليس في شهوته فحسب بل في طلبه للراحة أيضاً … فبينما الروح نشيط نجد أن الجسد ضعيف (مت26: 41) لهذا فأحيانا تشتاق النفس لمحادثة حبيب الروح وإذ بالجسد في تكاسله يشدك إلى الفراش … أو بسبب مرض يقعدك عن الاتصال … فهل تستسلم إذن لسلطان الجسد؟! هنا الخطورة البالغة على الحياة الروحية بأكملها … من هنا لزم للمؤمن أن يغصب جسده لإتمام مقاصد الروح.

وفي هذا قـال القديسـون:-

* "يقول الناس إذا كنت لا تشعر بميل إلى الصلاة فالأحسن لا تصلى. هذا احتيال وسفسطة جسدانية. لأنك إذا كنت تصلى فقط حينما يكون لك ميل للصلاة، فأنت لن تصلى قط. لأن ميل الجسد الطبيعي هو ضد الصلاة. ومعروف أن "الجسد يشتهي ضد الروح"، "وملكوت الله كل واحد يغتصب نفسه إليه" (لو16:16). فأنت لن تستطيع أن تعمل لخلاص نفسك إذا لم تغتصب ذاتك". (الأب يوحنا من كرونستادت).

* "لا تتبع راحة الجسد ولكن صلي. وصلي بجد واهتمام حتى ولو كنت طول النهار تكد وتتعب. لا تكن مهملاً في الصلاة المقدسة ... (لا أصعد على سرير فراش ولا أعطى لعيني نوما أو لأجفاني نعاساً ولا راحة لصدغي إلى أن أجد موضعاً للرب). (مز131).

(القديس مار اسحق السرياني)

* "حينما نصلي يجب أن نغصب ذواتنا كل لحظة لننطق كل كلمة بصحو وشدة من شعور القلب. وعندما نهمل الصلاة تصبح بلا شك ضرباً من الرياء والغش وتخلو من روح العبادة والتقوى". (الأب يوحنا من كرونستادت)

* "إن من يتلو صلواته بتسرع وهو مغلوب من كسله ونعاس جسده، دون أن يتفهم معاني الكلمات في قلبه، ويتحسس روحها بمشاعره ووجدانه، لا يخدم الله البته بل يرضى نفسه ويسكت ضميره. هذه ليست صلاة لكنها ضرب من الكذب ومخاتلة الله. "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا".(يو24:4). فمهما كان جسدك ضعيفا متكاسلا. ومهما كانت تيارات النعاس شديدة وقد سرت في جسدك كله وأخذت ترضى أعضاءه عضوا بعد الآخر. هنا وقت الشهادة، قم انفض غبار الكسل وانزع نوم الغفلة، وجاهد نفسك حتى تغلبها ولا تشفق عليها. ومن أجل حبك لله ارفض ذاتك واجحدها وتقدم للصلاة بقلب شجاع ونفس حارة.

(الأب يوحنا من كرونستادت).

* مهما كان الجسد متعبا من عمل النهار فالصلاة لا تزيده تعبا بل على العكس فإن الصلاة سوف تنعش روحك وجسدك أيضا. (أحد آباء البرية)

* ثم إن التغصب يا أخي ضروري للمؤمن المبتدئ الذي تمتع بنعمة التغيير والتجديد ... فهو محتاج لأن يغصب نفسه على الصلاة حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من كيانـه.

* في بدء حياة العبادة تكون الصلاة أمرا ثقيلا على الجسد والعقل. وإن تركا لذاتـيهما لما تقدمنا للصلاة قط. لذلك وجب أن نغصب ذواتنا حتى تصير الصلاة جزءا هاما من حياتنا لا نستطيع أن نهمله أو نستـغني عنه. (أحد شيوخ البرية).

* كل ما تغصب نفسك عليه في البدايـة سوف يكون سـهلا هيـنا في النهاية. (أحد الآباء).

* والجهاد في الصلاة عموما عمل مقدس يستمطر فيض النعمة الإلهية ذات البركات الغنية. فبولس الرسول يضع لنا هذا المبدأ بقوله " أطلب إليكم أيها الاخوة ... أن تجاهدوا معي في الصلوات..."(رو3:15).

ويحكى لنا الكتاب قصة صراع في الصلاة كان بطلها يعقوب إسرائيل "بقـى يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، لما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال اطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني… فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل. لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وباركه هناك"(تك24:32ـ29).

ويعلق هوشع النبي على قصة صراع يعقوب هذه بقوله: "بقوته جاهد مع الله … بكى واسترحمه"(هو3:12).

فالصراع يا أخي في الصلاة معناه دموع منسكبة، أنات وتنهدات، زفرات وصرخات، طلبات وتضرعات. هذا ما صوره معلمنا بولس الرسول عن صراع رب المجد نفسه يسوع في بستان جسثيماني قائلا: "الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تـقواه"(عب7:5).


ألا تريد أن تـتمثل بسيدك فتجاهد في صراع مع الله ألا تريد أن تتشبه برجال الله القديسين لكي يـتمم الرب خلاصك "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" (فى12:2).؟

ولكن اعلم يا أخي أن الصلاة في حد ذاتها كلا شئ إنما هي مجرد قنطرة العبور إلى شاطئ الروح حيث تلتقي النفس بمن تحبه وهناك تعانقه في شوق وهيام !!!

بانسياب تيار الحرارة الروحية الحلو الدافئ في القلب. وفي شغف الفرح بل إن التغصب يا أخي هو من ألزم الأمور في معالجة الفتور الذي يعتري المؤمن أحيانا وقد قيل في هذا الصدد:-

* [ أحيانا تفتقد النفس حركة روحانية حادة تتذوق فيها الله بحرارة وتشتعل بحب الأشياء الإلهية. ثم تعود تفقدها فتجدها قد بردت وجفت منك لأن التشويش الحادث من خلطة الناس قد أصابك في موضع ما. أو لأنك تكون قد فضلت بعض الأعمال الجسدية وقدمتها على خدمتك الروحية. إلا أنه على أي حال فالدموع وقرع الرأس على الأرض أثناء الصلاة وانسحاق النفس تسرع مرة أخرى بانسياب تيار الحرارة الروحية الحلو الدافئ في القلب، وفي شغف الفرح الروحي الممدوح يطير القلب وراء الله هاتـفا: "عطشت نفسي إلى الله الحي القوى . متي أجئ وانظر إلى وجه الله"(مز 42).

كل من تذوق حلاوة هذه الخمر ثم فقدها وحرم منها يعرف جيدا أي عذاب وصلت إليه خسارته التي خسرها بسبب انحلاله.] (القديس مار اسحق السرياني)

إن كان التغصب ضروريا لمناهضة رغبات الجسد، ومهماً بالنسبة للمؤمن المبتدئ في صلاته فهو ضروري أيضا لممارسة الفضائل المسيحية التي هي ثمار الروح.

فإذ يحل الروح القدس في المؤمن يغرس فيه بذار الفضائل الروحية التي ذكرها بولس الرسول "أما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف."(غل22:5).

وهذه البذار التي غرست تحتاج إلى سقى دائم من سحائب النعمة الهاطلة مع دموع الصلاة المنسكبة ... وإلى جانب ذلك تحتاج إلى تنقية التربة القلبية باقتلاع ما فيها من شوائب تحول دون نمو هذه البذار ... لهذا وجب غصب النفس على أن تتيح الفرصة للبذار أن تثمر ... وهذا ما سماه الرسول (ضبط النفس) فقال: "كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شئ."(1كو25:9).

ومتى نمت هذه البذار وأثمرت لا يحتاج المؤمن فيما بعد إلى تغصب أو إرغام كما وضح رجال الله المختبرون في أقوالهم:-

* [ الإنسان الذي يرغب أن يأتي إلى الرب… كل ما يغصب نفسه لأجله ويعمله وهو متألم بقلب نافر غير راضى سوف يأتي عليه يوم يعمله برضى وقبول.] (القديس مقاريوس الكبير).

* [حينما يرى الرب نية الإنسان واجتهاده، وكيف يغصب ذاته لذكره وعبادته، وكيف يرغم قلبه سواء رضى أو لا يرضى إلى عمل الخير والتواضع والوداعة والصدق، وكيف هو يـبذل كل ما في وسعه يتحنن الرب عليه ويظهر له رحمته، ويخلصه من أعدائه، ومن سلطان الخطية، ويملأه من الروح القدس وحينئذ يتمم وصايا الرب دون تغصب وإجتهاد. لأن الرب الساكن فيه هو يكون العامل فيه. وبذلك يثمر ثمار الروح بطهارة.] (القديس مقاريوس الكبير).

* [حينما يغصب الإنسان نفسه هكذا إلى كل الفضائل، ويلح في طلب وسؤال كل ما هو صالح لخلاص نفسه، ويثبت سؤاله بأعماله وجهاداته فإن الرب يعطيه روحه ليعمل به. ويكمل كل صلاح. وبدون عناء وتغصب يعمل الفضائل التي كان يتممها قبلا بكل جهد وتغصب. وتحل عليه الحكمة الروحانية ومعرفة الحق وتصير كطبيعة له لأن الله يكون ساكنا فيه.] (القديس مقاريوس الكبير).

وبالجملة يا أخي فإن التغصب أمر لازم في جميع الاتجاهات الروحية حتى لا نرضى الجسد في رغباته ضد الروح.

* [ إن أمر غصب النفس على العمل هو أمر هام جدا في الأمور الدنيوية والروحية أيضا : للصلاة، لقراءة الإنجيل والكتب الروحية النافعة، حضور الخدمات الإلهية في الكنيسة، للتعليم، للوعظ، لخدمة الكلمة. لا تطع الجسد الكسول الغاش لأنه مملوء خطية "فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شئ صالح."(رو18:7). والجسد يشتهى أن يرتاح على الدوام غير مكترث بالهلاك الأبدي الذي يكون عوض راحته القليلة الزائلة. "ملكوت الله يغصب والغاصبون يختطفونه."(مت12:11)]. (القديس مار إسحق السرياني).


(هـ) الصـوم :

فالصوم يا أخي هو جهاد ضد الذات لإماتـتها ، ليس ضد شهوة البطن فحسب بل ضد كل رغبات الجسد الذي هو مسكن الذات وستارها. وفي حرمان الجسد من شهواته انطلاق للروح ليتمم مشتهياته "لأن الروح يشتهى ضد الجسد والجسد ضد الروح."(غل13:5).

فعدم سماحك للجسد أن يكمل شهوته هو إعلان رضاك للسلوك بالروح "أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد"(غل16:5).

* كل جهاد ضد الخطية وشهواتها يجب أن يـبتدئ بالصوم خصوصا إذا كان الجهاد بسبب خطية داخلية. (القديس مار أسحق السرياني).

* إذا ابتدأت بالصوم في جهادك الروحي فقد أظهرت بغضتك للخطية وصرت قريبا من النصرة. (القديس مار اسحق السرياني).

ومن اجل هذا قال داود النبي " أذللت بصوم نفسي."(مز13:35).

وقال أيضا " أبكيت بصوم نفسي."(مز10:69). ولا يفهم من هذا أن الصوم هو مجرد إذلال للنفس وتعذيب للجسد وإنما هو :-

حرمان من الطعام الأرضي للتمتع بمن السـماء غذاء الروح.

حرمـان من خـبز الأرض للشـبع بـخبز الحيـاة يسـوع.

تفـريغ للنفـس مما يمـلأ البطن استـعدادا للملء بالـروح.

إشارة خضـوع الجسد لقيادة الـروح فـي انسحاق وخشـوع.

ضبـط لكل غرائز الجسـد لوضعها تحت سـيطرة الـروح.

إذلال للجســـد حتـى يـنـتـعـــش الــــروح.

إذلال لذلك الوحش الرابض في القفص الصدري بتفريغ معلفه الكائن بالتجويف المعوي. وإخضاعه لسلطان الروح. ثم أنه بالصوم أيضا إعلان لضعفك البشرى ومسكنـتك أمام الرب حتى يتحنن ويشفق عليك فيمد يد المعونة لنجدتك. هذا ما يوضحه يوئيل النبي قائلا "الآن يقول الرب أرجعوا إليَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. مزقوا قلوبكم لا ثيابكم. قدسوا صوماً نادوا باعتكاف … فيغار الرب لأرضه ويرق لشعبه ويجيب الرب ويقول لشعبه: لا أجعلكم عاراً بين الأمم والشمالي أبعده عنكم واطرده إلـى أرض ناشفة ومقفرة"(يؤ12:2ـ20).

فـتأمل يا أخي في قوله: "يرق لشعبه … والشمالي أبعده" ما أرق قلب الله إذ ينظر إلى شعبه الصائم النائح فـيرق له ويـبعد عنه الشمالي (أي العدو الآتي من الشمال)



هكذا الأمر معك يا أخي فصومك في حد ذاته بلا قيمة وإنما هو وسيلة لتسترق بها قلب الله فيمد يده ويبعد الشمالي (أي إبـليس) بعيـداً عنك.

فليتك تكون قد فهمت الآن معني الصوم فهو العنصر البشري في الجهاد إذ تقدمه في انسـحاق وتذلل فيكمل الرب عمله إذ يـبعد عنك الشمالـي.

وعلاوة على ذلك فإن الصوم هو عملية تمهيد وتهيئة القلب لقبول نعم مباركة من لدن الرب فقد قيل :-

* موسى صام أربعين يوماً ثم صعد على الجبل وتكلم مع الرب كما يتكلم الرجل مع صاحبه. وأخذ من الرب لوحي الوصايا المكتوبة بـإصبع الله، ودانيال صار في الرؤيا بعد ما صام واحداً وعشرين يوماً، والفتية الثلاثة لم تؤذهم نار الأتون المحمى بسبب صومهم وصلاتهم. (القديس باسيليوس الكبير).

فلا يكون صومك مجرد فريضة تؤديها في مناسباتها ولا واجب ثقيل تـتململ وتضايق منه ولا عادة تـتبعها دون الاستفادة منها … بل ليتك يا مبارك عندما تصوم تضع في قلبك كل هذه المعانـي الروحية للصوم … ثم في نهاية اليوم تحاسب نفسك عن البركات التـي نلتها في أثناء فترة صومك.



( و ) السـهر:

"اصحوا واسـهروا لأن إبليـس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يـبتلعه هو."(بط8:5). فالسـهر يا أخي هو أحد جوانب العنصر البشرى في الجهاد الروحي . وليس معنى السهر هو عدم النوم في الليل فقد يكون المؤمن نائما بينما قلبه مستيقظ . " أنا نائمة وقلـبي مستيقظ."(نش2:5).

وإنما مفهوم السهر هو اليقظة الروحية الدائمة كما يتضح مما يلـي:- "لسنا فـي حاجة إلى شئ قدر حاجتنا إلى القلب اليقظ المجاهد."(الأنبا ألمتنيح بيمن).

والسهـر يا أخي يشـتمل علـى :-


* الانـتباه والصحو:

فبولس الرسول يقول : "لا ننم إذن كالباقـين بل نسهر ونصح"(1تس6:5). فالسهر دائما يرتبط بالصحو كما يوضح أيضا معلمنا بطرس الرسول بقوله: "اصحوا واسهروا…"(1بط8:5).

ولهذا كتب الآباء فـي صلاة نصف الليل : "نـبـه عقولنا وأيقظ قلوبنا من نوم الغفلة."(تحليل الكهنة). والمقصود من الانتباه والصحو هو الحذر والاحـتراس من حيل إبليس وخداعه ولذلك يقول بطرس الرسول: "اصحوا واسهروا لان إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يـبتلعه هو."(بط8:5).

فإذ نحن فـي ميدان حرب دائمة مع قوات الشر الروحية لهذا يجب أن نكون متيقظين ومنتبهين على الدوام لئلا يغافلنا العدو ويقتحم حصوننا فيهلكنا.

فكن حذراً يا أخي واحـترس من حيل إبليـس وتجاربه لهذا يحذرنا رب المجد قائلاً: "اسهروا وصلوا لـئلا تدخلوا فـي تجربة."(مر38:14).

* التـحـفـظ:

يقول يوحنا الرائي "طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشى عريانا فيروا عورته."(رؤ15:16).

فكما أن الحارس الساهر يقوم بحفظ ما يحرسه من التبديد، هكذا المؤمن الساهر يحفظ ثوب النعمة الذي اكـتسى به وستر خزي عورته حتى لا يغافله إبلـيس ويجرده من ثيابه فيمشى عريـاناً.

وكما أن الحارس الساهر لا يخشى فقط من اللصوص النهابين، بل وأيضا يتحفظ من حقد الأعداء المخربين إذ قد يغافـله أحدهم ويلقى بجمرة نار على ما يحرسـه فيحترق، أو يلقى بـبعض المواد الضارة فيـفسده.

هكذا المؤمن الساهر يتحفظ من أعدائه الروحيـين، الذين يريدون إفساد قلبه بأفكار الشـر والدنس أو حرقه بنـار الغـيرة غـير المقدسة والغضب الذي لا يصنع مرضاة الله ... الخ.

لهذا كتب سليمان الحكيم قائلا "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة"(أم23:4).

ويحذرنا هذا القديس المختبر فـي ساعات غفلتنا وتوانينا لئلا يأتـي العدو خلسة وبغـيرة حادة يرمى بذار الزوان. "وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانا فـي وسط الحنطة." (مت25:13). (الأب يوحنا من كرونستادت).


*التسـلح:

الجندي الساهر لا بد وأن يكون متسلحاً إذ ما قيمة سهره إن كان أعزلاً من كل سلاح ؟!

هكذا المؤمن الساهر لا بد وأن يكون متسلحاً بالأسلحة الروحية ليكون مستعدا للدفاع عن نفسه متى هجم عليه الأعداء.

ولهذا كتب بولس الرسول قائلا "لنسهر ونصح لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هـي رجاء الخلاص." (1تس6:5ـ8).

ونراه في أكثر تـفصيل يستعرض الأسلحة الروحية التي يجب أن يتسلح بها كل مؤمن ساهر مجاهد ضد قوى إبلـيس المعاند فيقول: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكائد إبليـس … فإن مصارعتـنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة هذا العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات. من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا فـي اليوم الشرير وبعد أن تتمموا كل شئ أن تـثبتوا. فاثـبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق. ولابسين درع البر. وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام. حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله."(أف10:6ـ16).



فالسلاح يا أخي هو سلاح الله قد أعده لك ووهبك إياه، فقط عليك أن تـتسلح به فهل أنت لابس منطقة الحق أى الأمانة والإخلاص؟ وهل أنت متدرع بـبر المسيح أم بـبرك الذاتي؟ وهل تسعى في صنع السلام حقا أم أنك متكاسل متـغافل؟ وهل أنت حامل ترس الإيمان والثـقة في مواعيد الرب أم أنت مزعزع الإيمان فاقد الثقة مرتاب متشكك؟ وهل كللت رأسك بخوذة الخلاص والغلبة أم تنكسها فـي مذلة الهزيمة والانكسار؟ وهل أنت شاهر سيف الروح الذي هو كلمة الله؟ أم أنك متوان في التسلح بالكلمة متكاسل في دراستها واستخدامها في حروبك الروحية؟.

* الاتـصـال :

من لوازم السـهر فـي الجهاد والحرب ضرورة الاتصال. فالجنود فـي موقع المعركة لا بد وأن يزوُدوا بالأجهزة اللاسلكية ليكونوا على اتصال دائم بالقيادة إما لأخذ التعليمات أو طلب النجدة والمدد إذا لزم الأمر.

هكذا المؤمن الساهر المجاهد لا بد وأن يكون على اتصال دائم بالقائد الأعلى السماوي ليأخذ منه التعليمات والتوجهات، وليطلب منه المعونة والنجدة فـي حينها.

لهذا نرى أن بولس الرسل بعدما وضح أنواع الأسلحة الروحية مؤكدا ضرورة التسلح بها نجده يلحق ذلك بهذا الـتـنـبـيه الجوهري "مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت فـي الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة."(أف18:6).

وقال أيضا رب المجد يسوع "اسهروا إذا وتضرعوا فـي كل حين لكي تحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون."(لو36:21).

فكيف تهمل هذا العنصر؟ عليك أن تـتصل بقائد حياتك الظـافر ليوجهك إلى طريق الغلبة؟! لا تستسلم لكسل الجسد ونوم الغفلـة لئلا تسقط!


* التـشدد والتـقوية :

من المعلوم أن الشخص النائم يكون في حالة استرخاء كامل فإذا ما باغته العدو في هذه الحالة قضى عليه بسهولة إذ لا قوة له للمقاومة، فـي حين أن المتيقظ الساهر يكون متشدداً فينازل العدو بكل قوته.

هكذا الحال مع المؤمن فعندما يكون غافلاً ونائما يكون ضعيفاً واهن القوى فمتى باغته أعداؤه الروحيون وهو في حالته هذه تمكنوا من القضاء عليه!.

ولكن إذا ما كان ساهراً متيقظاً ففي لحظات يستجمع قواه ويتشدد ويستطيع أن ينازل العدو ويقهره بقوة المسيح. من أجل هذا نرى الروح ينبه ملاك كنيسة ساردس المتغافل قائلا "كن ساهرا وشدد ما بقى الذي هو عتيد أن يموت"(رؤ2:3).

فليتك يا أخي تتشدد وتتقوى ساهراً على حياتك الروحية حتى لا يغافلك العدو ويهلكك وأنت نائم لهذا اسمع قول بولس الرسول: "اسهروا … تقووا"(1كو13:16).


* الترقـب والاسـتعداد :

فالعروس لا تنام طالما عريسها بعيداً إذ أن قلبها يظل منشغلا بيوم مجيئه ترقبه بكل لهفة بل ترسل إليه رسائل تتعجله المجيء … وإذا كان مجيء عريسها هو لكي يأخذها حتى تقيم معه في موطنه نراها قد جهزت كل شئ لتكون على استعداد للرحيل معه في أية لحظة.

هكذا المؤمن الذي هو عروس المسيح كما يوضح معلمنا بولس الرسول بقوله "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح."(2كو2:11). نراه ساهرا متيقظا يترقب مجيء العريس الذي وعد قائلاً " أنا أمضى لأعد لكم مكانا. وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتي وآخذكم إلى حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً." (يو2:14ـ3).

وقد أوصى قائلاً "اسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم … لذلك كونوا أنتم أيضا مستعدين لأنه فـي ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان."(مت42:24).

فهل يا أخي أنت ساهر ومترقب ذلك اليوم؟ وهل أنت مستعد للرحيل؟ أخشى أن تكون كإحدى العذارى الجاهلات اللائى نمنَ ولم يكنَّ مستعدات للقاء العريس …! فعندما جاء العريس دخلت المستعدات معه وأغلق الباب أما الجاهلات غير المستعدات فقد حرمن من الدخول … ولهذا ينبهنا المسيح قائلاً "اسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان." (مت13:25).

وأيضا ينبهنا فيقول "لتكن أحقاءكم ممنطقة وسرجكم موقدة وأنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت. طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين." (لو35:12ـ37).


( ز ) الصـبر والمثـابرة:

يقول رب المجد "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص." (مت22:10). ففي الصبر جهاد ضد القلق، وفيه مثابرة ضد الملل. والصبر والمثابرة يدخلان ضمن العنصر البشرى الذي تقدمه في جهادك وإذ يرى الرب فيك هذه المشاعر وهذا الاحتمال يكافئك حتما بالخلاص لأن من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص." ولهذا يقول ميخا النبي "ولكنني أرقب الرب . أصبر لإله خلاصي. لا تشمتي بي يا عدوتي. إذا سقطت أقوم … سأنظر بره."(مي7:7ـ9).

فما أجمل الصبر لإله خلاصك … وما أجمل المثابرة رغم السقطات إذ ستستحق أن تنظر بر الله، إذ يبررك من كل خطية برش دمه المطهر من كل إثم. أو ليس هذا ما دعي بولس الرسول أن يقول "إن كنا نصبر فسنملك أيضا معه."(2تى12:2).

وهوذا القديس باسيليوس الكبير يوضح أهمية الصبر والمثابرة بقوله "تأمل صبر القديسين: إبراهيم أبونا دعاه الله وهو صبى ونقله من أرض الكلدانيين إلى فلسطين، ووعده قائلاً إنـي أعطيك هذه الأرض ولزرعك من بعدك. ثم تأنى الله على إبراهيم جداً حتى شاخ وكلت قوته. وما عاد له قدرة على إنجاب الأولاد، ولا سارة امرأته أيضا. ولكن ما تزعزع إيمانه وثقته بالله. فلا ينبغي أن نمل في صلاتنا حتى ولو طالت بنا السنون."

وقال أيضاً : "لعلك تقول قد سألت مرارا كثيرة ولم تأخذ شيئاً. أقول لك حقا سألت، لكن ربما سألت شيئا حقيراً! أو سألت بغير إيمان! أو بأفكار منحلة وأنت مرتاب. أو أن الذي سألته غير نافع لك أو ربما لم تدم طويلاً في سؤالك فلم تأخذ لتهاونك لأن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص!"

ثم يكمل قائلاً: " فلا يصغر قلبك (أي لا تيأس) يا ابني إذا لم تنل مسألتك (أي طلبتك) فإنه لو علم ربنا الصالح أنك لا تتلف النعمة إذا أعطاك إياها لمنحك إياها سريعاً وبدون جهاد لأنه ما يسر بأتعابنا وشقائنا."

فهل أنت كثير القلق والإضطراب سريع الملل في حياتك الروحية؟ أصبر يا أخي لتتمم خلاصك. وأحذر من الملل الذي يفقدك كل ما نلته … واثبت في الرب بالإيمان لترى بره … واسمع قول القديس اغريغوريوس الكبـير: "اسأل الرب بمثابرة وثقة عن كل شئ يعود لخلاصك ولتقدمك في الصلاح والعبادة وأنت لن تخيب من نواله."


ثانيا: العنصــر الإلهـي



لقد عرفت يا أخي مدى نصيب العنصر البشرى في الجهاد الروحي. ولكن في الحقيقة أن كل هذا العمل البشرى يصبح بلا قيمة على الإطلاق إن اعتمدت عليه مجرداً من الشق الثاني للجهاد القانوني ألا وهو: العنصر الإلهي .

فإذا اقتصر عمل المجاهد على العنصر البشرى السابق ذكره مهملا فاعلية العنصر الإلهي فقد انحرف عن الطريق رغم أنه سائر فيه ولذلك حذرنا سليمان الحكيم قائلا: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طريق الموت " (أم12:14).

فمتى اتكل الإنسان على تلك الوسائل وحدها، فإنه بذلك يكون قد ألغي رسالة المسيح وعمل الروح القدس، ويكون تجسد وصلب السيد المسيح بلا سبب، ويكون انسكاب الروح القدس ومجيئه إلى العالم هو بلا داع.

ثم إن من يتكل على مجرد تأدية تلك الوسائل فقط فذلك يؤدي إلى الكبرياء والسبح الباطل لأنه آنئذ سيشعر بأن ما أحرزه من انتصارات (مؤقتة) إنما هو راجع إلى قوة إرادته وصلابة عزيمته وعظمة قدرته… وهو في الواقع مخدوع ومسكين لأن السيد المسيح قد سبق فقال "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً." (يو5:15) فكيف إذن لهذا المسكين أن يتوهم أنه بمجهوداته الشخصية قد خلص من ذنب وسلطان الخطية.

ولكن اعلم يا أخي أن ما قلناه عن نصيب العنصر البشرى فـي الجهاد الروحي إنما هو بمثابة إشارة الموافقة من جانبك لعمل العنصر الإلهي فيك ومعك ولأجلك. وبهذا يصبح جهادك قانونيا.



أن العنصر الإلهي الفعال في عملية الخلاص من سلطان الخطية، والذي لابد للمؤمن أن يتيح له فرصة التدخل في جهاده لإتمام خلاصه هو الروح القدس أي روح المسيح. ويمكن أن نوضح فاعليته في المؤمن فيما يلي:


( أ ) الروح القدس يـحــرر:

فالروح القدس هو القوة المحررة من سلطان الخطية، فهو الذي يختن القلب أي يزيل ويقطع حواسه وميوله المنحرفة. يوضح بولس الرسول هذا الموضوع بقوله: "ختان القلب بالروح"(رو29:2).



وإذ تتم عملية ختان القلب بالروح هذه يستطيع المجاهد أن يقول مع بولس الرسول "ناموس روح الحياة فـي المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت."(رو2:8).



ألا تعلم يا أخي سر هزيمتك المتوالية؟ إن السر كامن في أنك تقوم بعدة محاولات شخصية دون أن تتقدم وتطلب انسكاب الروح في قلبك ليقوم بختانه وإماتة حواسه الجسدية !


ليتك الآن تطلب في ثقة وإيمان سكيب الروح فيك، وصل هذه الطلبة التي تعلمنا إياها الكنيسة "هلم تفضل وحل فينا وطهرنا من كل دنس أيها الصالح وخلص نفوسنا."

(ب) الروح القدس يـقـوى:

في أثناء رحلة الحياة عبر وادى الغربة والآلام قد يصاب المؤمن بالضعف والتراخي من كثرة مواجهاته مع عدو الخير الجائل كاسد زائر ملتمسا من يبتلعه.(1بط8:5).



والرب نفسه يعرف الجانب البشرى إزاء قوات الشر الروحية في السماويات ويقول على لسان بولس الرسول "إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة هذا العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات."(أف12:6).



ولهذا فإن الرب لم يتركنا نحارب بمفردنا بل قد أيدنا بروح القوة " لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تـتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن"(أف16:3).


وقد وعد الرب المؤمنين بهذه القوة التي تسند ضعفاتهم بقوله "ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم." (أع8:1).


ولهذا يصيح الرسول صيحة النصر والغلبة قائلا "لأن الله لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة." (2تى7:1).


ففي جهادك يا أخي تحتاج أن تتأيد بروح القوة هذا فهو يقوى عزيمتك الخائرة، وهو يحول فشلك إلى نصرة، وضعفك إلى قوة "وكذلك الروح أيضا يعين ضعفاتنا."(رو26:8).

ليتك يا أخي تختبر فعلاُ وعمليا في حياتك قوة الروح القدس !


(جـ) الروح القدس يـشــفع:

" لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها."(رو26:8).

إن سر النصر في الحرب الروحية هو وجود الله مع المجاهد، ولكن إذا دخل المجاهد المعركة بمفرده كان لقمة سائغة للعدو الشرير.


وحيث أن الإنسان ليس خبيراً بهذه الحروب الروحية فلا يعرف ما يجب أن يصلى لأجله كما ينبغي، لهذا فالروح الساكن في قلبه يشفع فيه ويعين ضعفاته "وكذلك الروح يعين ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها."(رو26:8).


فيا أخي يا من لك كل هذه الامتيازات لماذا لا تستفيد بها؟ ولماذا تترك نفسك فريسة في يد أعدائك؟ أو ليس مكتوبا " قد هلك شعبي من عدم المعرفة."(هو6:4). لذلك كتب الحكيم قائلا: "بالمعرفة ينجو الصديقون."(أم9:11). وقال أيضاً "ذو المعرفة متشدد القوة." (أم5:24).


فليعطك الرب أن تعرف هذه الامتيازات ويفتح قلبك لتدرك فاعليتها في حياتك فتطالب بها وتختبر حياة الغلبة بالروح القدس.


ثالثاً: تضـامن العنصـرين

مما سبق قد تأكد لك أنه لا بد من تضامن العنصر البشرى مع العنصر الإلهي لإتمام خلاصك، ولتوضيح اندماج هذين العنصرين نضع أمامك هذه الصورة العملية:

1- فبالإرادة تسلم ذاتك لقيادة الروح القدس ليتمم خلاصك.

2- وبالأيمان تثق في قوة الروح القدس لاتمام خلاصك.

3- وبالهروب تلجأ إلى أحضان الروح القدس فيحميك ويتمم خلاصك.

4- وبالتغصب تنهض الروح القدس الساكن فيك فيتمم خلاصك.

5- وبالصوم تستعطف الروح القدس فيعمل لاتمام خلاصك.

6- وبالسهر تـتسلح بأسلحة الروح التي بها يتم خلاصك.

7- وبالصبر والمثابرة تثبت في الروح القدس الذي يتمم خلاصك.

فليتك يا أخي تبدأ من الآن في حياة الجهاد القانوني فلا تهمل الواحد وتترك الأخر … أي لا تعتمد على مجهوداتك البشرية تاركا فاعلية الروح القدس روح المسيح الذي بدونه لا تستطيع أن تفعل شيئاً. وأيضا لا تتواكل على عمل الروح القدس مهملاً نصيبك في الجهاد إذ لا بد أن تتمم خلاصك بخوف ورعدة.(فى12:2).