تمموا خلاصكم

مقدمة
الباب الأول: إمكانية الارتــداد الروحي
الفصل الأول: خطـر الارتداد
الفصل الثاني: المؤمن والارتداد
الفصل الثالث: أسباب الارتداد
الفصل الرابع: تأديبات الارتداد
الفصل الخامس: علاج الارتداد
الباب الثاني: حتمية الجهاد الروحي
الفصل الأول: ضرورة الجهاد
الفصل الثاني: مفهوم الجهاد
الفصل الثالث: عناصر الجهاد
الفصل الرابع: ميـدان الجهاد
الباب الثالث: ضرورة التدريب الروحي
أولاً: ضرورة التدريبات
ثانياً: مفهـوم التدريبات
ثالثاً: ممارسة التدريبات
رابعاً: مجـال التدريبات
الخاتمة
حمل هذا الكتاب

عودة للصفحة الرئيسية

الفصل الرابـع ميـدان الجـهاد



أولاً:- الأعداء الروحيين.
ثانياً:- قوات الأعداء.
ثالثاً:- الأسلحة الروحية.


مقدمـة

إذ نحن في ميدان حرب وجهاد دائم علينا أن نضع خطة شاملة للصمود حتى الظفر. ولكي تكون خطـتنا دقيقة متـينة علينا أن نتعرف على:

+ شخصيات الأعداء

+ ثم على قواتهم

+ وأخيرا نعرف الأسلحة التي نستخدمها فـي الحرب ضدهم لنحرز الغلبة والانتصار.


أولاً: شـخصيات الأعداء


في حرب بورسعيد عام 1956 كان الظن في بادئ الأمر أنها حرب بين إسرائيل ومصر ولكن سرعان ما تكشفت الحقيقة بظهور إنجلترا وفرنسا في ميادين الحرب … ولهذا وضعت خطة حربية حكيمة لمواجه الأعداء الثلاثة مجتمعين.

هكذا الحال يا أخي في الحرب الروحية فلا تظن أنك تحارب عدوا واحدا بل ثلاثة أعداء مجتمعين هم :

1) الجسـد. 2) العـالم. 3) الشـيطان.


(1) الجسـد:

يقول الرسول "إن الجسد يشتهي ضد الروح. والروح ضد الجسد."(غل17:5) والجسد هو الإنسان العتيق الفاسد بنـزعاته القديمة واتجاهاته الشريرة.

ورب معترض يقول : إن جسد الخطيـة قد صلب تماما إذ يقول بولس الرسول "لكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات."(غل24:5). وهذا يعني صلب الإنسان العتيق أيضا إذ يقول الرسول "عالمين هذا أن أنسأننا العتيق قد صلب معه."(رو6:6).

هذا صحيح ولكن بالرغم من هذا نجد أن الإنسان العتيق لا زال حيا وله شهواته كما يقول الرسول: "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت، لكي تطيعوها في شهواته."(رو12:6). فمن هذا يتضح أن جسد الخطية مائت، ولكن الرسول يقول أن لهذا الجسد المائت شهوات يحذرنا منها.

ثم يعود الرسول فيقول "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد لأن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلوا ما لا تريدون."(غل16:5ـ17).

فهذا الجسد (جسد الخطية) يشتهى ضد الروح وينشب بينهما صراع عنيف يرجح المؤمن كفة أحدهما … ولهذا يوصينا الرسول قائلا : "إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون."(رو13:8).

فكيف نوفق إذاً بين قول الكتاب عن (جسد الخطية) أنه صلب، ثم قوله أنه لا زال حياً وله شهواته ومقاومته.

التوفيق يا أخي سهل ميسور لأنه يشمل خطة الخلاص كلها، فإذ نؤمن بشخص المصلوب ونرضى أن نصلب معه يصـدر الحكم فوراً بإعدام الإنسان العتيق، ويقبض عليه ويسجن في زنزانة داخلية ويشدد عليه الرقابة حتى يتم حكم الإعدام الفعلي وذلك يوم أن يأتي الرب على السحاب. وفي الفترة ما بين صدور الحكم وتنفيذه يقوم هذا الجسد بعدة محاولات للإفلات من سجنه وهذه هي شهواته ومقاومته التي يجب أن يحتـرس منها المؤمن.


فأحذر يا أخي من هذا العدو المشاغب. فقد احترس منه سابقاً معلمنا بولس الرسول فقال "أقمع جسدي وأستعبده"(1كو27:9) ولهذا فهو يحذرنا قائلا: "لا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات."(رو14:13).


(2) الـعـالـم:

يقول يعقوب الرسول "محبة العالم عداوة لله"(يع4:4) ويقول يوحنا الحبيب "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم."(1يو15:2)

والمقصود بالعالم هو كل ما فـيه من أشياء تجذبنا للخطية من المغريات، والملذات، والمـال، والمطامع، والأزياء الخليعة، والتسليات الدنسة، … الخ.

فالمؤمن الذي خرج من كورة العالم واستقر قلبه في جو السماء … لا زال جسده في العالم وقد يخدعه العالم ببريقه المزيف محاولاً إرجاعه إلى حياته القديمة … ولكن احذر يا أخي من العودة ثانية إلى قيئك أو إلى طين البركة التي خرجت منها. "فالعالم يمضى وشهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد."(1يو17:2).


(3) الـشــيطـان:

هذا العدو الجبار دائما يقاوم الله ويغرر بشعبه، محاولاً إقصاء المؤمن عن الله بكل وسيلة وأخرى ليحرمه من السعادة والحياة الأبدية والملكوت السماوي والمجد الأسمى.

وقد وضح لنا الكتاب خطورة هذا الخصم العنيد في أقوال كثيرة، فقد قال رب المجد يسوع "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة."(لو31:22).

ومعلمنا بولس الرسول يقول: "إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات."(أف12:6).

ومعلمنا بطرس الرسول يقول "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يـبتلعه هو."(1بط8:5).

فيا أخي المبارك لا تسقط هذا العدو من حسابك لئلا تغفل فيمزقك … احترس من حيله ومن خداعه ومن مكايده وسهامه التي سنوضحها فيما بعد.

والواقع إن خطورة هذا العدو كامنة في أنه يستخدم العالم والجسد في تكتيكات حروبه لإتمام مقاصده … فهو يـثير الجسد (الإنسان العتيق) في المؤمن ليقوم عليه من الداخل وفي نفس الوقت يثير مغريات العالم عليه من الخارج فيوجد المؤمن بين (الكماشة) وهى خطة حربية خطيرة فيصبح المؤمن محصوراً بين ضغطات من الداخل وضغطات من الخارج والشيطان نفسه من فوق في جو السماء لأنه رئيس سلطان الهواء.(أف2:2).

فإذا كان المؤمن بمفرده في المعركة سقط صريعا لا محالة. من هذا يتضح قيمة وجود الله ذاته في أرض المعركة إلى جوار المؤمن ليدافع عنه، "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون."(خر14:14).

ولكي نحرز النصر على قوى الأعداء يجب أن نعرف أسلحتهم حتى نستخدم الأسلحة المضادة لهـا.

ثانياً: قـوات الأعـداء

إن لأعدائنا الروحيين جيوشاً منظمة ذات قوات مسلحة برية وبحرية وجوية.


(1) القوات البرية:

أسلحة إبليس التي يستخدمها ضدنا في هذه الحرب البرية هي :

( أ‎ ) مغريات العالم:

فيوجه إلى عينيك وحواسك هذا السلاح من ملذات وشهوات ليغريك ثانية ليردك إلى أحضانه كما كنت من قبل … فيعيد إلى فكرك حياتك الأولى … ويحاول أن يجذبك عن طريق وسائل التسلية العالمية أو زينة بنات العالم … الخ.

ولقد نجح العدو في إصابة ديماس بهذا السلاح إذ قال عنه بولس الرسول "ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر"(2تى10:4).

فأحذر يا أخي من هذا السهم الملتهب الذي يوجهه إلى قلبك عدو الخير. ولا تعود تنظر إلى العالم ومباهجه فقد خرجت منه فلا تعود تنظر إلى ورائك لئلا تهلك ... لا يتعلق قلبك بأرض مصر لئلا تهلك في برية الجهاد.

ألم يصلب العالم لك وأنت للعالم؟(غل14:6) أي أن العالم لا يعود يؤثـر فيك وأنت لا تـتأثر به لأنك قد مت عنه ومات هو بالنسبة لك.

فأحذر يا أخي لئلا يغريك إبليس ببريق العالم الكاذب فيحيا فيك من جديد.


(ب) مـلـذات الجســد:

هذا هو السلاح البرى الثانـي الذي يحارب النفس كما وضح معلمنا بطرس الرسول إذ قال " أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس."(1بط11:2).

ألم يوجه إبليس طعنة نجلاء بهذا السلاح إلى قلب شـمشـون فأرداه قتيلاً ؟!

أو لم يرشق به قلب داود النبي ففرَّ على وجه الأرض طريداً بعد أن كان ملكا مكرماً ؟!


فاحذر يا أخي من (كمين) ملذات الجسد، فغالبا ما يتخفى إبليس في هجماته بهذا السلاح حتى إذ يطمئن إلى استسلامك فيـباغتك فجأة بهذا الخطر الداهم ويتسلط عليك. لهذا يحذرنا بولس الرسول قائلا "لا تملكن الخطية فـي جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية."(رو12:6ـ13).


( ج ) محبـة المـال:

"فالمال أصل لكل الشرور إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة." (1تى10:6).

ألم يهزم الشيطان يهوذا بهذا السلاح الماضي إذ باع سيده من أجل محبة المال؟ يهوذا الذي سار مع المسيح وتمتع بجماله ورأي معجزاته وأخذ منه سلطانا على الأرواح النجسة وعمل المعجزات. ونادى باسم المسيح … ثم يوجه إليه إبليس هذه الضربة القاضية فتنـتهي حياته على أشر ما يكون!!

أو ليس حنانيا وسفيرة قد أصابهما هذا السهم المميت فأودى بحياتهما؟ … إذ بعد أن آمنا وانضما إلى جماعة الرب لم تزل محبة المال متملكة على قلبيهما فأخفيا جزءاً من ثمن الأرض !!

أخي أخشى عليك من محبة المال إذ أن إبليس يخدعك بهذا السلاح ويموه عليك بحجة أنك تؤمِّن مستقبلك ومستقبل أولادك بما تدخره لهم من أموال … ثم ينقلب الأمر في قلبك إلى شهوة مال تستعبدك فتصير ضمن الأسرى الذين قبض عليهم العدو في هذه المعركة …!

وقد اتخذت محبة المال لونا جديداً في حياة الخدام. فقد تكون أمينا للصندوق أو مسئولا في الكنيسة وتجمع المال للخدمة والمشروعات … وحقيقة أنت لا تجمعه لنفسك فإنك أمين حقا ولكنك عبد لمحبة المال والدليل على ذلك أنك تفرح بتحصيله وتسر بزيادة أرقام الرصيد ... وفي ذات الوقت تحزن إذا رأيت بند المصروفات بدأ يتضخم.

عزيزي، إن سهم محبة المال لا يصيب من يجمعونه لأنفسهم فحسب بل أيضا الأمناء عليه متى تعلقت قلوبهم بحب التحصيل وبغضـة التوزيع !!


( د ) مـحبة الذات:

ذاتك التي صلبت مع المسيح في طريق الخلاص فقلت يوما "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في." (غل20:2). سيأتيك الشيطان ليثير الذات فيك من جديد بعد أن تكون قد قطعت شوطاً في طريق النعمة … فإن كنت متغافلاً نجح في إلقاء بذار الزوان ...

آه يا أخي من سلاح محبة الذات، أليس هو السلاح الذي كاد إبليس أن يطعن به يعقوب ويوحنا عندما ذهبا إلى المسيح يطلبان منه أن يجلس واحد عن يمينه والآخر عن يساره في مجده. (مر37:10) إنها الأنانية الممقوتة سواء في النواحي المادية العالمية أو في النواحي الروحية ... انتبه يا أخي جيدا لئلا ينجح إبليس في القضاء عليك بهذا السلاح.

إن الأربعة البرص الذين كانوا جالسين على باب السامرة أيام أن كانت تحاصرها جيوش الآراميين وصار جوع شديد في السامرة حتى أكل الناس الحمير وزبل الحمام ووصل بهم الأمر إلى أن أكلت الأم ابنها (2مل6) لقد فكر هؤلاء البرص ـ أن يذهبوا إلى معسكر الأعداء فإن أطعموهم نجوا من الموت جوعا، وإن قتلوهم فقد رحموهم من مصارعة الموت البطيء بسـبب الجوع.

وعندما ذهب البرص إلى خيام الأعداء لم يجدوا أحدا من الأعداء لأن الرب قد أرهبهم فتركوا الخيام وفروا … فأكل البرص وشبعوا ثم بدافع الأنانية أخفوا ذهبا وفضة وثيابا … ولكنهم انتبهوا أخيرا لخطة إبليس هذه "فقال بعضهم لبعض لسنا عاملين حسنا. هذا اليوم هو يوم بشارة ونحن ساكتون فإن انتظرنا إلى ضوء الصباح يصادفنا شر. فهلم الآن ندخل ونخبر …" (2مل9:7).

وبهذا نجوا من الموت بسلاح الأنانية. فاحذر يا أخي لئلا تحيي في قلبك محبة الذات القديمة !


(هـ) العـادات القـديمة:

سيحاربك إبليس أيضا بهذه الأسلحة فإن كنت قد تخلصت من الخمر سيحاول أن يغريك بمحبة الكأس ثانية. وإن كنت قد انتصرت على السجائر سيجاهد ضدك ليجذبك إليها ثانية. وإن كنت أيتها السيدة أو الفتاة قد أقلعت عن ثياب الخلاعة والتبهرج سيحاول جاهدا معك ليثنيك عن عزمك …

أخشى عليك يا أخي من أن تخضع لهمسات العدو ظانا أنها من صديق مخلص، وحينئذ سوف يتكشف لك الأمر أخيرا عندما ترى أن الأواخر قد صارت لك أشر من الأوائل (2بط20:2ـ21).

ولكن اعلم أنه إن كانت نفسك متلذذة بالرب فلن تبحث قط عن أي لذة أخرى لأن "النفس الشبعانة تدوس العسل" (أم27: 7).

هذه هي بعض أسلحة القوات البرية الشيطانية ولنستعرض الآن :


(2) القـوات البحريـة:

ففي المعارك البحرية تصوب القذائف إلى البواخر لإغراقها في لجة البحار أو المحيطات فتهوى بمن فيها إلى الأعماق.

وهكذا نرى أن لإبليس قوات بحرية لإغراق سفن حياة المؤمنين في لجة التهلكة مستخدما أسلحة منها:



( أ ) الشــكوك :

يحاول إبليس أن يشككك في وجود الله وفي محبته لك وفي قدرته على خلاصك وفي حقيقة تجديدك وفي رجاء مجيئه المبارك ليأخذك معه .. الخ.

ألم يسقط بطرس نفسه صريعا من إحدى هذه القذائف عندما أمره سيده أن يسير على الماء، ثم ابتدأ يغرق فقال له المسيح رب المجد "يا قليل الأيمان لماذا شككت" (مت31:14) وفي الحال مد يسوع يده وأمسك به!

( ب ) الـخــوف:

يحاول الشيطان أن يخيفك من أخطار الطريق الروحي وبأنك لا تستطيع أن تحتمل السير فيه قاصداً أن يثنى عزيمتك ويعوق سيرك. ويبلغ به الجرأة أن يخيفك من جبروته وأنك سوف لا تقوى عليه!


من يقرأ كتاب (سياحة المسيحي) يستطيع أن يرى مدى اعتماد إبليس على هذا السلاح ليرهب قلب السائر إلى أورشليم السماوية. إذ يذكر يوحنا بنيان مؤلف الكتاب أن المسيحي وهو المؤمن الذي خرج من مدينة الهلاك (أي العالم) إلى مدينة النور (أي أورشليم السماوية) قد صادف في الطريق محاربات عديدة ومخاوف شديدة نذكر منها قصة الأسدين :

ففي الطريق كان عليه أن يدخل في نفق كان الظلام قد خيم عليه فجعل يحدق بنظره في ذلك النفق وهو يمشى فرأى أسدين عند نهاية النفق. فارتاع وكان ذانك الأسدان مقيدين بسلاسل لم يكن يراها. ولذلك غلب عليه الخوف وهمَّ بالرجوع لأنه لم يتصور قدامه سوى الموت … فرآه ملاك فناداه قائلا: يا صاح هل قوتك ضعيفة هكذا. لا تخف من الأسدين فإنهما مقيدان وقد وضعا هنا لأجل امتحان إيمان المؤمنين وإظهار الذين لا إيمان لهم. فاسلك في وسط الطريق من بينهما فلن يصيبك أدنى ضرر. فواصل المسيحي السير في الطريق مرتعدا من صوتهما إذ كانا يزمجران عليه ويزأران لكنهما لم يستطيعا أن يمساه بسوء . ولما تجاوزهما صار يطفر فرحاً.

فيا أخي لا ترتعب من الشيطان فهو مقيد ولا يستطيع أن يمسك إذ يقول يوحنا الحبيب "المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه." (1يو18:5).


(ج) الــقلـق:

وهو سلاح آخر من أسلحة العدو البحرية ليغرقك في لجة الهموم والارتباكات، فيجعلك تفكر في مشاكل المستقبل ومتاعب الحاضر ومآسي الماضي …

وإذا استسلمت إلى هذه الأفكار غرقت سفينتك في محيط القلق والأوهام فاحذر من ذلك وسلم أمورك لليد الأمينة المدبرة.

قال رجل الله المختبر: "الشيطان عندما يدرك أننا متضايقون بسبب شعورنا بأعمالنا الشريرة، يضع في نفسه أن يلقى علينا حملاً إضافياً من الرصاص وهو القلق .. فإن قبلناه يتبع ذلك حتما انجذابنا إلى تحت بسبب الثقل ساقطين في عمق البؤس الذي أنت فيه الآن." (القديس يوحنا ذهبي الفم).


( د ) الحــزن :

وثمة سلاح آخر يصوبه إبليس إلى قلب المؤمن فيفسد عليه حياته، وهو روح الحزن والكآبة.

والحزن وليد الخوف والقلق، وإذا تملك على إنسان عرض حياته لخطر الهلاك.

وقد قال القديس المختبر: "روح الحزن المفسد يظلم النفس ويحرمها من رؤية الله ويمنعها من كل صلاح. هذا الروح الشرير إذا ملك على النفس واستحوذ على الإرادة لا يجعلها تصلى بفرح روحاني ولا يدعها تثابر على قراءة الكتب باجتهاد لئلا تعثر على مفتاح النور فتخرج من فخ الظلمة المخيم عليها".

ويكمل قائلا: "ويصير الإنسان متكاسلاً في كل عمل مبغضا للعبادة والصلاة مسلوب الإرادة من رجاء الخلاص. ويهدم كل ما فيه من اشتياق نحو الحياة الأبدية حتى أنه يقيده بقيود اليأس من رحمة الله.

ويخلص إلى هذه الحقيقة فيقول "لذلك وجب أن نسهر ونجاهد ضد روح الحزن المفسد لأنه كما تأكل العته الثوب ويتهرأ، وتأكل الدودة العود الأخضر فيـيبس، هكذا هذا الروح المفسد يضعف النفس ويجعلها جافة لا تقبل كلمة نصيحة أو مشورة من إنسان أو تجيب بكلمة هادئة وديعة. بل يملأها مرارة وضجراً وحسداً. ويشير على النفس أن تفر من الناس لزعمها أنهم سبب قلقها وأتعابها. ولا يترك النفس البائسة لتعرف أن سبب شقاوتها وبلوتها هو ليس من الخارج بل من الداخل. لأنه واضح أن الإنسان لا يتوجع من آخر إلا بسب مرض النفس المختفي في أعماقها. لذلك قال السيد نظف أولا داخل الكأس."

( يوحنا كاسيان).

(هـ) الـضجـر:

ما أخطره سلاح على المؤمن إذا أصيب به ضاقت نفسه من كل شئ ، من الكنيسة ومن البيت من الأصدقاء ومن الأقرباء .. لا يعود يطيق شيئاً لا كلام اللين ولا كلام العنف .. بل يصبح متململاً من كل أمر، من الصلاة ومن الكتاب المقدس، ومن قراءة الكتب الروحية … هذه الحالة قال عنها أيضا ذلك القديس المجاهد : "أما روح الضجر فهو زميل روح الحزن المفسد، وهو متولد منه ويأتي على الإنسان بكسل وتراخى وبغضة للمكان الجالس فيه وحتى الأشخاص الذين يسكن معهم ولكل عمل كان وحتى لقراءة الكتاب المقدس ... وليس من علاج لذلك إلا بتعود الكف عن كلام البطالة والمزاح والمثابرة على الصلاة والعمل ... مع طلب معونة الله."

(القديس يوحنا كاسيان).

( و ) اليـــأس:

ولعل هذا هو أقوى أسلحة الشيطان البحرية وخاصة إذا نجح في إسقاطك في أي خطية أخرى، ففي دوامة الحزن والشعور بالفشل يمد هذا السيف الحاد ليقطع رجاءك في الخلاص. فهو بمثابة الطرقة الثانية على الرأس المصاب للقضاء على الحياة، أو الضربة القاضية بعد صراع طويل على حلبة الإيمان.

فلا تستسلم لليأس يا أخي فالرب قادر أن يقيمك. وما أجمل ما كتبه قديس الله في هذا الصدد: إن كان ـ رجوعك إلى بهائك الروحي السابق ـ يبدو أمراً مستحيلا بالنسبة للبشر لكن كل شئ مستطاع لدى الله فهو: "المقيم المسكين من التراب . الرافع البائس من المزبلة ليجلسه مع أشراف شعبه." (مز7:113ـ8).

إذاً لا تيأس من تغييرك تغييرا كاملاً … إن كان الشيطان لديه هذه القدرة بأن يطرحك أرضا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر، فكم بالأكثر جدا يكون الله قادر أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت ، بل أسعد من ذي قبل." (يوحنا ذهبي الفم). N. & P. Frs. Vol. 1XP.

بعد أن تكلمنا عن الحرب البرية والحرب البحرية نتكلم عن الحرب الجوية.


(3) الـقـوات الجـويـة:

إن أقسى حرب يا أخي يجتازها المؤمن قبالة قوات الشر الروحية هي الحرب الجوية. إذ يرتفع إبليس إلى العلو الشاهق فيجذب أنظارنا معه إلى التعالي وعندئذ يسدد قذيفته الفتاكة التي تودي بحياة المؤمن في لحظة.

لهذا قد سمى الأباء المختبرون هذه الحرب "بحرب العظمة، والقذيفة التي يفجرها العدو هي الكبرياء. ومن هنا يتضح خطورة هذه الحرب أيضا إذ أنها تصيب المتقدمين في الحياة الروحية. وقد قال القديس يوحنا كاسيان في هذا الصدد:

¬ شيطان العظمة روح خبيث لا يصيب إلا البالغين في القامة الروحية ليهدم برج فضائلهم. كل الأوجاع تحارب في البدايات ما خلا هذا الوجع الرديء فهو يصيب في النهاية، لذلك فضرره عظيم وكسرته شديدة.

وزاد الأمر وضوحا بقوله:

¬ شر العظمة إذا ملك على النفس البائسة يكون كالقائد المنتقم عندما يحاصر مدينة شامخة ويظفر بها، فإنه يهدمها ويدك أساساتها !

وقد دلل على ذلك بقصة الملاك الساقط قائلا :

¬ يشهد بذلك الملاك الذي سقط من السماء من علو رئاسته بسبب العظمة! الذي لم يرد أن يسند الخير والقوة التي كانت فيه إلى خالقه بل شاء أن يجعلها لنفسه. وفي ذلك يبكته النبي قائلا: كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟ كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟ وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السماوات أرفع كرسي فوق كواكب الله! أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي! لكنك انحدرت إلى الهاوية، إلى أسفل الجب. (اش12:14ـ15).

ونبي آخر يقول : "لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار؟... أحببت الشر أكثر من الخير... لسانك غاش لذلك يهدمك الله إلى الأبد. ويقلعك من مسكنك ويستأصلك من أرض الأحياء. فيرى الصديقون ويخافون وعليه يضحكون. هذا هو الذي لم يجعل الله له عونا ولكنه وثق بكثرة غناه واعتز بفساده". (مز52: 1ـ7)

إذا فلنحذر من شيطان العظمة وترفعه المهلك الذي يجلب الموت علينا قائلين مع بولس الرسول "لنا هذا الكنز في أوان خزفية ليكون فضل القوة لله لا منا." (2كو7:4). وأيضا "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا" (يو6:15).

في هذه الحرب الجوية يملك إبليس أقوى واخطر سلاح وهو الكبرياء فإذا ما سدده نحو المؤمن أحدث فيه إصابات بالغة في القلب، والراس، واللسان، والنفس، والأعصاب ... فإذا وجدت هذه الظواهر في حياتك كان ذلك دليلا قاطعا على أنك قد أصبت بهذه القذيفة الفتاكة. ولنستعرض الآن إصابات تلك الضربة القاضية:


( أ ) إصـابات القــلب :

فبداية الكبرياء يا أخي هي في القلب من الداخل قبل أن تظهر للآخرين. ونستطيع أن نشبه الكبرياء بمرض السرطان الخبيث إذ يظل مختفيا في مراحله الأولى في الجسم من الداخل حتى إذا ما ظهرت أعراضه في الخارج عسر علاجه.

ومظاهر إصابات القلب بضربة الكبرياء تتضح في:

+ الإعجـاب بالنفـس :

هذه الضربة تلاحق المؤمن المصاب بالكبرياء في كل تصرفاته، في صمته وفي كلامه، في صومه وفي إفطاره، … لهذا قال القديس يوحنا الدَّرَجِي "ويحي … إذا صمت استحوذ العجب عليَّ، وإذا نقضت صومي حتى لا يُعرف تدبيري استولى العجب عليَّ أيضا. إذا لبست ثيابا بهية استحوذ العجب عليَّ، وإذا لبست الحقيرة غمرني العجب أيضا.

متى تكلمت داخلني العجب، ومتى صمت (سكت) انقهرت له أيضا. كلما طرحت عنى هذا المثلث ذا الثلاث شعب تبقى له دائما شعبة منتصبة.!"

وقد ذكر عن نفسه اختبارا في محاربة روح العجب فقال : حدث في جلوسي في مجمع من الناس أن وافاني شيطان العُجْب وجلس بجانبي، فلكز جنبي قائلا: حدِّث الناس عن أعمالك في البرية، فانتهرته مرددا قول داود النبي "فليرجع المفتكرون عليَّ بأفكار ردية."

فانبرى لي عن يساري شيطان الكبرياء قائلا: ما أحسن ما عملت وما أصوبه، لقد صرت عظيما إذ قهرت أمي الخالية من الحياء (يقصد شيطان العُجْب). فأجبته بقول داود "وليرجع بالخزي سريعا جدا القائلين لي حسنا، حسنا."

فلما استخبرت كيف أن شيطان العُجْب هو أم الكبرياء! قيل أن العُجْب هو تذكية النفس وبداية ارتفاعها. أما الكبرياء فهي التي تستلم النفس لترفعها إلى السموات لتهوي بها إلى الأعماق. لهذا قيل: "الويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنا". (القديس يوحنا الدرجى).


+ الانتـفاخ والـتشــامخ :

يوضح الوحي قائلا: "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح". فالتشامخ والانتفاخ هما ذات مرض الكبرياء في بدايته عندما يصيب القلب من الداخل فيظن المنتفخ أنه قد صار كاملا ويبتدئ أن يتشامخ في قلبه على أقرانه فيظن أنه أفضل منهم علما وتقوى.

وقد شَخص الآباء القديسون هذا المرض في أقوال عديدة منها "الذين تقدموا قليلا في معرفـة الصلاة وقوتها، إذا لم يتمسكوا بالاتضاع ينتفخون ويسقطون. فالحية عينها التي أسقطت آدم بعلة الكبرياء قائلة أنك ستصير كاملا كالله، لا زالت توحي بالكبرياء في قلوب بني البشر. وتهمس في قلب الجاهل: لقد صرت كاملا، ها قد ملكت زمام المعرفة، وصرت غنيا، وليست لك حاجة لأحد. طوباك." (القديس مقار الكبير).

"لا يرفض الله إنسانا ما ويكرهه إلا إذا وجد عقله امتلأ بأفكار العظمة والافتراء. فيقع حتما في إحدى مصيبتين إما الزنا أو التجديف. فمن يتعظم بفضيلته حتما يقع في زنى نجس. ومن يتعظم بجودة العقل يقع في التجديف على الأمور الإلهية." (القديس مار اسحق).


+ السـبح البـاطـل:

هو رغبة كامنة في القلب من الداخل تشتهى المدح من الناس. وتتكون هذه الرغبة نتيجة العجب بالنفس والانتفاخ والتشامخ. هذا المرض الداخلي له أطوار مختلفة تبدأ بالارتياح عند سماع المدح ثم يتطور إلى مرحلة أخرى وهي انتظار كلمات المدح عقب كل عمل أو خدمة أو عظة. والمرحلة التالية هي أنه يحزن ويكتئب إذا لم يسمع كلمات المدح والإعجاب. والمرحلة التي تتبع ذلك هي أنه يسعى إلى طلب المدح بوسائل متعددة كأن يفتح مواضيعاً تقود الغير إلى امتداحه ... الخ.

ولخطورة هذا المرض قال عنه القديسون: "السبح الباطل مصيبة مخفية يندس في كل عمل صالح وفي كل فضيلة ليفسدها… فهو ينتظر المجاهد حتى ينمو قليلا في الفضيلة فيأتي ويفسده… ويجعله شغوفا بأن يكشف كل مقتناه الروحي." (القديس يوحنا الدرجى).

ولهذا فالسبح الباطل يمثل نقطة تحول كبيرة في أعراض مرض الكبرياء فبعد أن كان مستترا في القلب طول المراحل السابقة نراه يبدأ في الظهور إذ أنه يجعل صاحبه شغوفا بأن يكشف كل مقتناه الروحي.

( ب ) إصـابات الـرأس:

ونقصد بإصابات الرأس عندما يغزو مرض الكبرياء رأس المؤمن. عندما تصيب هذه الضربة الشيطانية رأسه ليرتفع على الآخرين. ومظهر هذه الضربة يتضح فيما يلي :

¨ حـب الرئاسـة:

وقد نشأت من تفكير المتكبر في نفسه أنه أفضل الناس وأقدرهم وأغزرهم علما. ولهذا فقد امتلأت رأسه بأنه أحق الجميع بالقيادة والرئاسة عليهم. "الرجل المتعظم القلب يرتاح أن يترأس على غيره. ليت الرب يرحمنا من هذا الداء ومن سقطاته المُـرَة." (القديس يوحنا الدرجى).

¨ حـب التـعلـيم:

لا أقول حب الخدمة بل حب التعليم، فالمتكبر لا يخدم الناس بل يخدم نفسه. فهو يشتاق إلى التعليم لا ليقود النفوس إلى يسوع المخلص، وإنما يشتهى التعليم من أجل الشهرة بإظهار العلم والكفاءة، ولمثل هذا المنتفخ كتب يعقوب الرسول قائلا: "لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم." (يع1:3).

¨ الكـرامــة:

ومن ضربات الرأس الاعتزاز بالكرامة، وطلب التقدير والاحترام من الناس بناء على اقتناعه الداخلي بتفوقه عليهم وسموِّه عنهم. فصريع الكبرياء مائت بالكرامة كما وضح الآباء : "الكرامة والكبرياء كانتا في البدء علة سقوط آدم بواسطة الحية. ولا زالت إلى الآن تستعمل الحية وسيلتها وهى مختبئة في القلوب لتطرح وتهلك جنس المسيحيين بعلة الكرامة واحترام النفس. لذلك اتخذ المسيح صورة عبد وغلب الشيطان بالتواضع ليعلمنا النصرة." (القديس مقاريوس الكبير).

( ج ) إصـابات اللسـان:

إن مرض الكبرياء المستقر في القلب يظهر طفحه على اللسان لأنه "من فضلة القلب يتكلم الفم."(مت 34:12).

ومظاهر تطرق هذه الضربة إلى اللسان يتضح في الآتي:-

¨ الافـتـخــار :

وهو السماح للسان أن يعبر عن كبرياء القلب الداخلي. ولذلك كتب القديس يعقوب الرسول قائلا: "هكذا اللسان أيضا هو عضو صغير ويفتخر متعاظما."(يع5:3).

والمفتخر يكشف عن فضائله بغية ربح المجد من الناس. ولكن اسمع يا أخي قول القديس مار اسحق السرياني: "اعلم أن كل أمر يفتخر به الإنسان يسمح الله بتغييره ليتواضع."

¨ الادعـاء :

هو مرحلة متطورة من الافتخار. فبينما الافتخار هو التكبر بالأعمال التي يقوم بها المفتخر، فالادعاء هو أن ينسب المدعى لنفسه فضائل ليست فيه وأعمالا لم يقم بها. عن مثل هؤلاء كتب القديس بولس الرسول قائلا: "متعاظمين مدعين"(رو30:1) موضحا بهذا أن علة الادعاء هي التعاظم والكبرياء.

¨ الـريــاء:

والمدعى يصير بالضرورة مرائيا … فهو لا يظهر على حقيقته بل يخفى خطاياه وعيوبه عن الناس في حين أن قلبه لازال متعلقا بها. هذا هو ما كتب عنه بولس الرسول قائلا: "لهم صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتــها"(2تى5:3).

والسيد المسيح قد صب الويلات على الكتبة والفريسيين الذين أتقنوا فن الرياء قائلا: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافا ودعارة … ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهى من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم من خارج تظهرون للناس أبرارا ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثما."(مت25:23ـ28).

¨ الانتـقاد والإدانـة:

يصاب لسان المتكبر أيضا بهذا المرض إذ يحاول بالانتقاد والإدانة أن يهدم الآخرين ليبنى نفسه على أنقاضهم. وأن يزيح الجميع من المسرح ليظهر هو. لذلك فهو يشوه أعمال الآخرين وينقص من قيمتها، وينسب إليهم أخطاء ويظهر ضعفاتهم ويبالغ في نقائصهم حتى يظهر بذلك بره وقوته وكماله.

ألم تسمع يا أخي قول بولس الرسول "من أنت الذي تدين عبد غيرك. هو لمولاه يثبت أو يسقط."(رو4:14).

يحسن يا أخي أن تحول الانتقاد إلى صلاة من أجل من تنتقده وصلاة أيضا من أجل نفسك ليحميك الرب من خطية الإدانة.


( د ) إصـابات نفسـية:

إن من لحقته ضربة الكبرياء أصيب بعلل نفسية كثيرة منها:-


¨ الحســد والغيـرة :

فالمتكبر يحسد كل من أخذ نعمة أو موهبة أفضل منه … وبالتالي تتحرك في قلبه الغيرة من نحوه.

ويضرب لنا الكتاب المقدس مثلاً واضحاً عن الحسد. إذ تملك الكبرياء قلب جماعة قورح فحسدوا موسى وهارون وقالوا لهما: "كفاكما أن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان علي جماعة الـرب."(عدد3:16).

ألا تعرف يا أخي ماذا كانت نهاية تلك الجماعة؟ يوضح الكتاب أن الأرض انشقت وابتلعتهم.(عدد31:16ـ32).

فالحسد حقيقة موجودة ولكن ضرره لا يصيب المحسود بل يصيب الحاسد نفسه.



¨ الحقـد والبغـضة:

هذه هي المرحلة التالية للحسد والغيرة، إذ انه عندما يتمكنا من قلب المتكبر يتحولا إلى حقد وبغضة.

ويوضح لنـا الكتاب المقدس هذه الحقيقـة في أماكن متعددة، فأخوة يوسف حسدوه ثم غاروا منه وتحول ذلك إلى حقد ثم بغضة.(تك4:37ـ5).

وأيضا يذكر الكتاب عن عيسـو إذ حسد أخيه يعقوب لأنه أخذ البركة من أبيه كما سبق أن اخذ البكورية، وتحول الحسد إلى غيرة والغيرة إلى حقد والحقد إلى بغضة.(تك41:72).

واسمع يا أخي ما قاله القديس اكليمندس تلميذ بطرس الرسول عن الحسد: [كذا ترون أيها الأخوة كيف قاد الحسد والحقد إلى قتل الأخ لأنه مكتوب "وحدث إذ كانا في الحقل أن قايين قام علي هابيل وقتله."(تك3:4ـ8).

ومن أجل الحسد أيضا هرب أبينا يعقوب من وجه عيسو أخيه. وبالحسد اضطهد يوسف إلى الموت ثم أُخذ في عبودية. ونتيجة الحسد هرب موسى من وجه فرعون ملك مصر عندما سمع هذه الكلمات من أخيه العبراني: "من أقامك قاضيا علينا".ونتيجة الحسد أُفرزت مريم خارج المحلة، وهبط داثان وأبيرام أحياء إلى الهاوية عندما قاما بالثورة ضد خادم الله موسى. وبسبب الحسد أضُطهد داود لا من الأعداء فحسب بل أيضا من شاول ملك إسرائيل.]

(القديس اكليمندس).

(هـ) إصـابات عصبـية:

والكبرياء إذ يصيب الإنسان يربكه نفسيا وعصبيا وهاك مظاهر الإصابات العصبية التي تنتاب المتكبر:

§ الغضب وعدم الاحتمال :

إن السر الدفين وراء الغضب وعدم الاحتمال هو الكبرياء.

فالمتكبر معتز برأيه ويثور عندما يُعارض …

والمتكبر معتز بكرامته ويثور متى جُرحت …

والمتكبر مرائي ويثور إذا ما انكشفت حقيقته…

وربما يتستر المتكبر وراء منطوق هذه الآية ويتذرع بها "اغضبوا ولا تخـطئوا" (أف4:26).

ولكن اعلم يا أخي أن هذه الآية تتكلم عن الغضب المقدس الذي لا يعرفه المتكبر. فهذا الغضب هو من أجل حق الله لا من أجل الكرامة. هو غضب مقدس له شروطه التي لا يفهمها إلا من قدم ذاته على مذبح التكريس وصلبها على صليب الجلجثة وانسكب فيه روح المحبة في علية صهيون.

أما المتكبر فلا يعرف سوى الغضب البشرى الذي قال الكتاب عنه "غضب الإنسان لا يصنع بر الله.(يع20:1).



§ القــتـل :

ولعل هذا هو نهاية المطاف بالمتكبر. فإذ قد أصيب بتلك القذيفة الفتاكة، توالت الإصابات عليه حتى انطبق عليه تشخيص أشعياء النبي "كل الرأس مريض وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت" (أش5:1ـ6).

فبداية الكبرياء إعجاب بالنفس ونهايته قتل للأنفس وكل ما بين النهايتين انفجارات متتابعة لتصل إلى تلك النهاية المحزنة.



فقايين كان معجبا بتقدمته وإذ رُفضت من قبل الرب بينما ذبيحة أخيه قد قبلت نراه يحسد أخاه ويحتد عليه وانتهى به الأمر إلى قتله.(تك4: 3ـ11)

وعيسو يصل به الأمر إلى الشروع في قتل أخيه يعقوب.(تك27: 41).

وأخوة يوسف يتآمرون على قتله.(تك37: 18ـ24).

وشاول الملك إذ يحسد داود ويغير منه يطارده لكي يقتله.(1صم18: 10)

وهامان يدبر مكائد ويرسم خططا لقتل مردخاى.(إس3: 6).

والكهنة وروساء الكهنة بدافع من الغيرة والحسد يثيرون اليهود ويحرضون الرومان على صلب السيد المسيح.(مت27).



وأنت أيها الأخ الحبيب هل أنت معجب بنفسك، حاسد لأخيك تدبر المكائد وتحيك المؤامرات وترسم الخطط لقتله وإن لم يتم لك ذلك عمليا فهل أنت تتمنى موته من كل قلبك ليختفي من مسرح الحياة لتنفرد أنت بالمجد والكرامة؟.



سؤال يفرض نفسه:

ربما مع قراءة هذه الأمراض تسأل: وما هو العلاج؟

لك حق يا أخي فالعلاج هو أهم ما في الموضوع. فهيا بنا لنرى أسلحة محاربتنا.


ثالثا: أسـلحـة محـاربـتنا

لقد استعرضنا معا قوات إبليس المعاند والآن لنستعرض أسلحة محاربتنا المضادة حتى نتعرف عليها فنستخدمها في حروبنا الروحية لكي نغلب وننتصر.

واعلم يا أخي أن أسلحة محاربتنا ليست ضعيفة وإنما هي في غاية القوة إذ يقول معلمنا بولس الرسول "أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون" (2كو4:10).

واليك تلك الأسلحة عساك تتسلح بها :-



( 1 ) سـلاحنا البـرى [ سيف الروح ]

فإذ يتعرض بولس الرسول للأسلحة الروحية نراه يقول : "وسيف الروح الذي هو كلمة الله."(اف17:6).

فالسيد المسيح في حروبه على الجبل في البرية قد استخدم هذا السلاح الماضي الذي سدده إلى قلب إبليس ففر من أمامه هاربا. ففي التجارب الثلاث نرى السيد المسيح يرد على إبليس قائلا: "مكتوب … "

وهكذا الأمر معك يا أخي عندما يحاربك إبليس بشهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة من مغريات عالمية وملذات جسدية ومحبة المال والذات امسك بسيف الروح الذي هو كلمة الله واطعن به إبليس فلا يستطيع أن يثبت أمامك.

وإذ اختبر معلمنا يعقوب الرسول قوة هذا السلاح نراه يوصى المؤمنين قائلا: "اقبلوا بوداعه الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص نفوسكم"(يع21:1).

وبولس الرسول يقول لتلميذه تيموثاوس "إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص."(2تى15:3).

فهل أنت متمسك بكلمة الله؟ هل تذكر يا أخي قول الرب: "لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم عل قلبك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشى في الطريق وحين تنام وحين تقوم. واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك."(تث6:6ـ8).

آه يا أخي لقد أصبحت قراءتك للكتاب المقدس مجرد واجب ثـقيل تؤديه بمنتهى السرعة وبكل ضيق لهذا أنت لا تستفيد منها شيئا. ضع في قلبك أن تقرأ الكتاب المقدس لتتسلح به متخذا من آياته ذخيرة حية تطلقها على العدو متى هاجمك. فهي قادرة أن تخلصك (يع21:1).

ولكن اعلم يا أخي أن مجرد ترديد كلمة الله لا يقدر أن يخلصك وإنما مفعول الكلمة هو في أن تخضع فكرك وتستأسره للمسيح. لهذا فبولس الرسول عندما قال "أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون."(2كو4:10)، أكمل قائلا: "هادمين ظنونا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستاسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2كو5:10).

فليست العبرة بترديد الآيات بينما الفكر مستعبد للشهوات وإنما يجب أن تستأسر الآيات الفكر للمسيح. ولهذا أيضا قال بولس الرسول "أما نحن فلنا فكر المسيح"(1كو16:2).



( 2 ) سـلاحنا البحـري [غواصة الإيمان]

لعلك تذكر يا مبارك أسلحة الشيطان البحرية التي بها يريد أن يقطع رجاءنا، إذ يجرنا في دوامة الشكوك والخوف والقلق والحزن والضجر واليأس.

ولكن شكرا لله الذي لم يتركنا فريسة لمخاوفه، بل أعطانا سلاحا مضادا يستطيع أن يخرجنا من تلك اللجج بسلام ذلك السلاح هو "غواصة الإيمان" فبطرس الرسول يشير إلى ذلك السلاح قائلا: "قاوموه راسخين في الإيمـان"(بط9:5).

وبطرس الرسول لم يكتب ذلك عبثا، بل كتبه عن اختبار شخصي، فهو لم ينسى دوامة الشك التي أُخذ فيها وكاد أن يغرق لولا صراخه قائلا يا رب نجني. فأسرع يسوع وأنقذه ممسكا بيده ثم وضح له سبب سقوطه في هذه الدوامة قائلا: "يا قليل الإيمان لماذا شككت؟"(مت3014ـ31).

وأركان الإيمان في حرب اليأس ترتكز حول:-



( أ ) الثقة في صدق كلام الله ومواعيده:

فيسوع نفسه قال "السـماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يـزول"(مت35:24).

وقال أيضا "زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس."(لو71:16).

فهل تثق أن الله صادق في مواعيده؟ اسمع ماذا يقول نحميا النبي "وقطعت معه (مع إبراهيم) العهد … وقد أنجزت وعدك لأنك صادق."(نح8:9). ومواعيد الله لنا عديدة بخصوص عنايته بنا ومحافظته علينا أضع منها أمامك ما يلي :-

* قول بطرس الرسول في معالجته لموضوع الإيمان، إذ قبل أن يقول "قاوموه راسخين في الإيمان"(1بط9:5). سبق فقال "ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم"(بط7:5).

* وفي نفس الإصحاح يعالج موضوع حفظ الله لنا فيقول: "وإله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي … هو يكملكم ويثبتكم ويقويكم ويمـكنكم."(1بط10:5).

* وقد سبق وأوضح في نفس الرسـالة ذات المعنى فقال: "أنتم الذين بقوة الله محروسون"(1بط5:1).

* ثم ألا تعلم يا أخي أن موضوع حفظك قد كلف به المسيح أباه عندما قال له "أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك"(يو11:17).

* ثم يقول له "حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك … أما الآن فأنى آتى إليك … لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشـرير."(يو12:17ـ15).

وحتى لا تظن يا أخي أنك خارج عن دائرة المحفوظين بيد الله القوية أكمل السيد المسيح صلاته الشفاعية قائلا: لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، (أي التلاميذ) بل أيضا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم" (يو20:17). فماذا تريد يا أخي بعد ذلك؟!!

* أو لم تسمع قط هذا الوعد "من يقبل إلى لا أخرجه خارجا"(يو37:6). تمسك إذن بمواعيد الله في ثقة وقاوم إبليس راسخا في الإيمان.



( ب ) الثقة في معية الله:

فالله معك في كل الظروف، في الظلام كما في النور، في الضيق كما في الفرج، في الحزن كما في الفرح، في البحر كما في البر، لأن اسمه "عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا"(مت32:1).

وإن كان الله معنا فمن علينا ؟! (رو31:8).

واسمع المرنم إذ يقول "إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا لأنك معي"(مز4:23).

فقل إذن مع المرنم "جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني لكي لا أتزعزع"(مز 8:16).

وأصغ إلى صوته المطمئن "لا تخف لأني معك"(تك24:26). فلماذا تخاف يا أخي وتضطرب والرب معك؟! أليس خوفك ناتج من عدم ثقتك في معية الرب لك؟! إذ تظن أنك تسير في الحياة بمفردك وتقابل الضيقات والتجارب بمفردك وقد نسيت وعده القائل "معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده وأريه خـلاصي"(مز15:19).

ليتك يا أخي تثق تماما في وجود الله معك وسكناه في داخلك لأنه مكتوب "أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم"(1كو16:3).

وأمامك يا أخي العزيز أضع أنشودة الإيمان والسلام التي عزفها المرنم منشدا: [لأنه ينجيك من فخ الصياد، ومن الوبأ الخطر بخوافيه يظلك، وتحت أجنحته تحتمي لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من وبأ يسلك في الدجى. ولا من هلاك يفسد في الظهيرة يسقط عن جانبك ألف. وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب لا يلاقيك شر. ولا تدنوا ضربة من خيمتك عل الأسد والصل تطأ، الشبل والثعبان تدوس. لأنه تعلق بي أنجيه. أرفعه لأنه عرف اسمى. يدعوني فاستجيب له. معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده من طول الأيام أشبعه. وأريه خلاصي.] (مز3:91ـ16).



(جـ) الثقة في قبول الرب لك رغم سقطاتك:

فبطرس الرسول يقول "لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة"(2بط9:3).

وحزقيال النبي يقول "وأنت يا ابن آدم كلم بيت إسرائيل وقل: أنتم تتكلمون هكذا قائلين. إن معاصينا وخطايانا علينا وبها نحن فانون فكيف نحيا؟ قل لهم حي أنا يقول السيد الرب إني لا أسر بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا"(حز10:33ـ11).

فحزقيال النبي هنا يوضح بجلاء قلب الله الرحيم الذي يتغاضى عن سقطاتنا ولا يسر بإهلاكنا بل برجوعنا إليه لنحيا.

ولهذا كتب يوحنا الحبيب قائلا: "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا"(1يو1:2ـ2).

فكثيرون يا أخي يخطئون إذ يظنون أن الحياة مع الله هي حياة العصمة. كلا يا أخي فمهما بلغ المؤمن من درجات في القداسة هو معرض للسقوط وربما يسقط فعلا. فو إن كان القصد من حياتنا مع الله أن لا تخطئ ولكن طالما نحن في سجن هذا الجسد الترابي فنحن معرضون للسقطات بحكم ضعفنا البشرى … فإن سقطنا لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار إذ قدم دمه كفارة لخطايانا.

لهذا لا تيأس يا أخي إن أُخذت في سقطة ولكن اصرخ مع النبي قائلا: "لا تشمتي بي يا عدوتي إذا سقطت أقوم"(مى8:7).

واسمع يا أخي قول القديس مار افرام السرياني: [ليتني التصق بالله لأنه متعطف على البشر، واقبل إلى طريق الخلاص. وأتوكل على من خلقني فما أيأس من خلاصي لأنه جزيل التحنن فائق في صلاحه. إن كان العدو جرحني فأنت يارب تشفي جراحاتي برأفتك، وتنتشلني من يديه لئلا يجعلني مأكلاً للنار والدود.]

وإليك أيضاً قول يوحنا ذهبي الفم: [إن كان الشيطان لديه هذه المقدرة أن يطرحك أرضا من العلو الشامخ والفضيلة السامية إلى أبعد حدود الشر. فكم بالأكثر جدا يكون الله قادرا أن يرفعك إلى الثقة السابقة ولا يجعلك فقط كما كنت بل أسعد من ذي قبل. لا تيأس ولا تطرح الرجاء الحسن ولا تسقط فيما يسقط فيه الملحدون. فإنه ليست كثرة الخطايا هي التي تودي إلى اليأس بل عدم تقوى النفس. الشرير يستخدم كل الحيل ليزرع فينا فكر اليأس. فإن نجح في ذلك فلن يحتاج بعد إلى جهاد أو تعب في صراعه ضدنا، مادمنا منطرحين وساقطين وغير راغبين في المقاومة ... فمن يقدر أن يتخلص من هذه السلسلة، ويستعيد قوته، ولا يكف عن المقاومة ضد الشيطان حتى آخر نسمة، حتى ولو سقط مرات كثيرة بلا عدد، مثل هذا يقوم ويضرب عدوه.

أما من كان في عبودية أفكار اليأس ... فكيف يقدر أن يغلب وهو لا يقاوم بل يهرب أمام عدوه ؟! N. &P. FRS, Series 2. Vol. 11 P



وإليك هذه القصة من بستان الرهبان ليثبت إيمانك فتطرد شيطان اليأس من أمامك: قيل عن أخ كان ساكنا في دير أنه من شدة القتال كان يسقط في خطية الزنا مرارا كثيرة. وكان هذا الأخ يجاهد ويثابر في إيمان وصبر لكي يسترد ثوب طهارته ولا يكف عن الطلبة والدعاء قائلا: "يارب أنت ترى شدة حالي وحزني فانشلني يارب إن شئت أنا أم لم أشأ، لأني مثل الطين اشتاق وأحب الخطية. وأنت أيها الإله القوى امنعني عن النجاسة، لأنك إن كنت ترحم القدسيين فقط فليس هذا بعجيب، وإن كنت إنما تخلص الأطهار فقط فما الحاجة، لأن أولئك مستحقون.

ولكن فيَ أنا الغير مستحق يا سيدي أرى عجب رحمتك لأني إليك أسلمت نفسي."

هذا ما كان يردده كل يوم سواء أخطأ أو لم يخطئ ... وإذ كان يصلى ذات يوم ضجر منه الشيطان! شيطان اليأس! وغُلب من حسن رجائه ظهر له وجها لوجه وهو واقف يصلى وقال له : أما تخزى أن تقف بين يدي الله وتذكر اسمه بفمك النجس؟ فقال له هذا الأخ: ألست أنت تضرب مرزبة (عصا) وأنا أيضا أضرب مرزبة؟ أنت توقعني في الخطية، وأنا أطلب من الله الرحوم أن يتحنن على، سوف أصارعك هكذا حتى يدركني الموت ولن أقطع رجائي من الهي، ولن أكف عن الاستعداد لك. وسننظر من يغلب أنت أم رحمة الله.

فقال له الشيطان: من الآن لا أعود إلى قتالك لئلا يكون لك إكليل من الرجاء ... وانتصر الإيمان والرجاء وتبدد اليأس وتمتع هذا الأخ ببهجة الخلاص

فلا تيأس يا أخي مهما سقطت بل قم فتخلص، فما أعجب ما كتبه يوحنا ذهبي الفم قائلا: "السقوط في ذاته ليس بالأمر الخطير، بل يكمن الخطر في البقاء منطرحا بعد السقوط، وعدم القيام مرة أخرى"



(3) سـلاحنا الجـوى: [حلـة الإتضاع]

إن رجال الفضاء الذين يقذف بهم إلى العـلو الشاهق في منطقة انعدام الوزن لابد لهم وأن يلبسوا حلة فضاء معينة تـقيهم من أخطار ذلك الجو.

وهكذا في حياتنا الروحية عندما يقذفنا إبليس فكرياً إلى طبقات الكبرياء العليا علينا أن نلبس حلة الاتضاع هذه هي الإماتة وصلب الذات. فلقد سبق وارتداها بولس الرسول إذ قال "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فـي."(غل20:2).

ويتضح لنا من قول بولس الرسول أن الاتضاع ليس هو مجرد إماتة الذات وصلبها فحسب بل هو أسمى من ذلك. إذ أن إماتة الذات وصلبها ليس إلا وسيلة لنصل إلى الاتضاع الحقيقي وهو حياة المسيح فينا. فإماتة الذات بدون حياة المسيح فينا ليس باتضاع وإنما هو ضرب من الانتحار، وهيهات أن يتم بذلك الإتضاع، والحقيقة أنها محاولات فاشلة لا تؤدى إلا إلى العلل والأمراض النفسية وانحراف الشخصية.

وإليك يا مبارك مفهوم الاتضاع فهو :-



( أ ) إلغاء إرادة الذات لتحل إرادة الآب فينا:

فيسوع الذي قال لنا " تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب."(مت11: 29). نراه في مشهد الاتضاع متجليا في بستان جثماني قبيل صلبه قائلا: "ليكن لا ما أريده أنا بل ما تريد أنت."(مز36:14).

فيسوع المتضع يلغي إرادة ذاته ويحل إرادة الآب عوضا عنها. هكذا أيها الحبيب إذ نتعلم من يسوع الاتضاع يجب أن يكون لنا فكر المسيح. " أما نحن فلنا فكر المسيح."(1كو16:2) فنلغي إرادتنا تماما ولنتصرف بإرادة الآب، كما كان يفعل يسوع فقد قال "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني، إن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئا بل أقيمه في اليوم الأخير.(يو38:6ـ39).

وقد علق على هذا القول القديس أغسطينوس قائلا: "هذا هو سر الاتضاع، فبينما الكبرياء هو عمل مشيئة الذات، فالاتضاع هو عمل مشـيئة الآب."

N. P. FRS 1 St Series vol. 7 p. 100.



( ب ) إخفاء الذات ليظهر المسيح فينا:

فالاتضاع الحقيقي يا أخي هو إخفاء الذات وإظهار شخص يسوع في حياتنا.



U المعمدان كمثال:

تطلع إلى يوحنا المعمدان الذي كان محترما من الجميع، عندما سئل. من أنت؟ يقول الكتاب انه اعترف ولم ينكر وأقر: "إني لست أنا المسيح" ثم أردف قائلا: "في وسطكم قائم هو الذي يأتي بعدى الذي صار قدامى الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه " ثم أشار إلى المسيح قائلا: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو29:21).



لم يكتف يوحنا المعمدان بأن يخفى ذاتـه وينكرها، وإنما جوهر الاتضاع في يوحنا المعمدان هو إظهار شخص يسوع رافع خطية العالم. لهذا نراه في عبارات الاتضاع يعقد المقارنة بين حقارة ذاته وبين رفعة شخص المسيح فيقول: "في وسطكم قائم هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي" (يو27:1) فيوحنا يضع نفسه في المؤخرة ويقدم على ذاته شخص المسيح.



* ثم يعود فيقول "الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه"(يو27:1) مظهرا كرامة المسيح ومركزه السامي حتى أنه غير مستحق أن يحل سيور حذائه.

* ثم فرَق بين معموديته التمهيدية ومعمودية المسيح الأصلية عندما قال "أنا أعمدكم بماء التوبة. ولكن الذي يأتي بعدى هو أقوى منى ... هو سيعمدكم بالروح القدس ونار" (مت11:3).

وما أعجب قوله يا أخي "هو أقوى منى" مظهرا بهذا ضعفه ومشيرا إلى قوة المسيح، وإلى قوة معموديته.



* وعندما أتى إليه تلاميذه قائلين "يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت شهدت له هو يعمد والجميع يأتون إليه" أجاب يوحنا وقال "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئا إن لم يكن قد أعطى من السماء. أنتم أنفسكم تشهدون لي أنى قلت لست أنا المسيح بل إني مرسل أمامه.

من له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس. إذا فرحى هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأنى أنا انقص" (يو26:3ـ30).



ولعلك تلاحظ يا أخي كيف أوضح أنه مجرد صديق العريس وأشار إلى المسيح على أنه هو العريس ثم ختم حديثه بشعار الاتضاع الذهبي "ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا انقص".

بولس الرسول كمثل آخر:

وتأمل أيضا يا أخي في قول بولس الرسول موضحا مفهوم الاتضاع "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في"(غل20:2). فبين بهذا أن صلب الذات هو عنصر الاتضاع السلبي وحياة المسيح في الإنسان هو عنصر الاتضاع الإيجابي.

لهذا يقول أيضا "حاملين في الجسد في كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا. لأننا نحن الأحياء نسلم دائما للموت من أجل يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا المائت"(2كو10:4ـ11).

هذه هي صورة دقيقة لمفهوم الاتضاع فإماتة الجسد وسيلة لكي تظهر حياة يسوع في هذا الجسد المائت.

وتتضح هذه السمة في خدمة بولس الرسول أيضا إذ يقول: "فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع رباً ولكن بأنفسنا عبيدا."(2كو5:4) فشعار الخدمة هو إظهار شخص يسوع المسيح لتتعلق به النفوس وتحبه وتعبده أما الخادم فيتوارى خلف الصليب ويختفي في ظلاله ثم يقف من بعيد متهللا فرحا كصديق العريس الذي تسلم العروس.

فهل يا أخي المبارك تخفى ذاتك لكي تظهر حياة يسوع فيك وفي خدمتك؟

ومن هذا نستطيع أن نخرج بنظرية واضحة للاتضاع وهى: أن الاتضاع ليس مجرد إخفاء الذات عن الناس فهذا هو العنصر السلبي في الاتضاع، وإنما هو إظهار شخص المسيح أمام الجميع وهذا هو العنصر الإيجابي في الاتضاع.

بطرس الرسول كمثال ثالث:

تأمل موقف بطرس ويوحنا بعد معجزة شفاء الرجل الأعرج من بطن أمه عند باب الهيكل الذي يقال له الجميل.(أع12:3ـ16) ماذا قال بطرس عندما رأى التفاف الشعب حولهما في اندهاش وتعجب؟! قال ما بالكم تتعجبون من هذا؟ ولماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟

إن إله إبراهيم واسحق ويعقوب إله آبائنا مجد فتاه يسوع … وبالإيمان باسمه شدد اسمه هذا الذي تنظرونه. فبطرس الرسول يحول أنظار الشعب إلى شخص يسوع المسيح، وهذا هو الاتضاع.

فليس معنى الاتضاع أن يهرب بطرس من إجراء المعجزة متمتما بعض عبارات عدم الاستحقاق! لا يعتبر هذا أتضاع وإنما هو تخاذل وإنكار للمسيح وعدم تكامل المحبة للآخرين.

خلاصــة:

فليس الاتضاع يا أخي خفض الرأس وتنكيسها في تذلل.. فربما تنجح في هذا ولكن قلبك من الداخل لا زال منتصبا متشامخا. وليس الاتضاع عينين ذابلتين ووجها مكمدا مقطبا… بينما عينا قلبك مفتوحتان بانتفاخ وشهوة… وليس الاتضاع تمتمات شفاه ضامرة في صوت خافت بينما بالقلب من الداخل صيحات العجب والسبح الباطل.

+ الاتضاع يا مبارك هو عملية ختان للقلب بالروح، واقتناع داخلي بأنني في ذاتي لا شئ بل أحقر من تراب الأرض، لأن التراب لم يخطئ إلى الله أما أنا فقد عوجت المستقيم أمامه.

+ الاتضاع هو تمجيد نعمة الله التي تنازلت لتسكن في آنية خزفية مدنسة، كما يقول معلمنا بولس الرسول "أنا الذي لست أهلا أن أدعى رسولا لأني اضطهدت كنيسة الله، ولكن بنعمة الله أنا ما أنا ونعمتة المعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت اكثر من جميعهم ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1كو9:15ـ11).

فبولس الرسول يكشف عن اقتناعه القلبي أنه ليس أهلا ليدعى رسولا، ويؤيد اقتناعه هذا بالدليل إذ يقول: "لأني اضطهدت كنيسة الله" فلم يكن كلامه إدعاء أو تظاهرا أو تصنعا، بل إتضاعا حقيقيا نتج عن اقتناع قلبي. فهو وإن كان قد أظهر الجانب السلبي في الاتضاع يكمل حديثه بإظهار الجانب الإيجابي فيه فيشير إلى عمل نعمة المسيح فيه قائلا "أنا ما أنا ونعمته المعطاة لي لم تـكن باطلة" (1كو15: 10) ثم يردف قائلا "أنا تعبت اكثر من جميعهم" وحتى لا يلتبس الأمر على أحد فيظن أن بولس أبتدأ يفـتخر في كبرياء، يكمل حديثه قائلا "لا أنا بل نعمة الله المعطاة لي"

من هذا يا أخي يتضح أن للاتضاع شـقين:
الشـق الأول سـلبي : موت وإخفاء.

الشـق الثاني إيجابي : حياة وإظهار.

فهو مـوت للذات وإخفائها، كما أنه حيـاة المسيح وإظهاره في حياتنا. ختاما نضع أمامك هاتين المعادلتـين:-

منطق المتكبـر هو: أنـا لا المسيـح

منطق المتضع هو: لا أنا بل المسيح

(جـ) تجريد الذات وإرجاع الفضل لعمل الروح فينا:

فمعلمنا بولس الرسول كان أولى الناس بأن يفتخر بعمله وخدمته وثماره المتكاثرة في بلاد أسيا وأوربا، ولكننا نراه يجرد نفسه من كل هذه الإعمال ويقول "من يفتخر فليفتخر بالرب"(1كو31:1).

لماذا لا تفتخر أيها الرسول بأعمالك هذه العظيمة؟ يقول لأنه "ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئا كأنه من أنفسنا بل كفايتنا من الله الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد جديد"(2كو5:3ـ6).

ثم يعود فيقول في أوفر إيضاح "لنا هذا الكنز في أوان خزفية ليكون فضل القوة لله لا منا"(2كو7:4).

ما أجمل هذا التجريد للنفس من أعمالها، إذ ينظر إلى ذاته كآنية طينية ترابية لا فضل لها وإنما الفضل يرجع إلى قوة الله العاملة فيه. فالاتضاع يا أخي هو تجريد الذات من الأعمال التي تقوم بها. فما أنت في الواقع إلا آلة في يد الروح القدس لتنفيذ مقاصده. فكل ما صار للنفس وكل ما تعمله النفس هو نتيجة عمل الروح القدس فيها وبها.

وإليـك ما يجب أن تتجرد منه النفس لتعيد الفضل لعمل الروح القدس:-

القداسـة والفضيـلة:

فإن كنت تمارس حياة القداسة وتسير في طريق الفضيلة فلا تظن أن هذه القداسـة وهذه الفضيلة قـد حصلت عليها بمجهوداتك البشرية. ولكن اعلم أن هذه كلها هى نتيجة عمل الروح القدس فيك بالنعمة التي قال عنها الكتاب "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (أف8:2ـ9).

وعاد فقال "لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تى5:3).

ويوضح أيضا الرسول أن القداسة التي بدأتها ليست من عملك وإنما هي من عمل الله نفسه فيك فيقول "اله السلام نفسه يقدسكم بالتمام" (تس23:5).

وحزقيال النبي يظهر لنا أيضا أن حياة الطهارة التي تعيشها هي من عمل الله أيضا فيك فيقول "أخلصهم من كل مساكنهم التي فيها أخطأوا وأطهرهم فيكونون لي شعبا وأنا أكون لهم إلها." (حز23:37).

ولهذا يقول القديس باسيليوس في قداسه {وصيرنا أطهارا بروحك القدوس.

وقال القديس مار اسحق السرياني:

[اعلم أن قيامك في العفة والفضيلة ليس هو من حرصك ولا من فضيلتك بل أن النعمة حاملة إياك على راحة يدها لئلا تتحرك فتزل]

فعندما يأتيك فكر كبرياء بالقداسة والفضيلة، قل كيف أفتخر بهذا كأنني أنا الذي فعلته، أعلمي يا نفسي أن هذا هو من عمل نعمة الله المتفاضلة. أما أنت يا نفسي فلا فضل لك في ذلك.

واحذري يا نفسي أن تظني أنك شيء في ذاتك لئلا تتخلى عنك النعمة فتعرفي مقدار ذاتك.

فقد قال القديس مار اسحق السرياني:

[لا تعتمد على قوتك لئلا تترك لضعف طبيعتك فتعرف ضعفك من سقطتك. واعلم أن كل أمر يفتخر به الإنسان يسمح الله تعالى بتغييره ليتواضع].

ويقول يوحنا ذهبي الفم:

[لننظر إلى أنفسنا آخر الكل، ولو كنا قد بلغنا قمة الفضيلة عينها. فبينما الكبرياء يُسقط غير المحترسين من السماء، فالاتضاع يرفع الحذرين من هاوية الآثام ... فإن شيدت بناء شامخاً كالصدقات والصلوات والأصوام وجميع الفضائل، فما لم يكن الاتضاع أساس هذا البناء فعبثا كان تشييده وعاجلا يكون سقوطه كالبيت المبني على الرمل].

N. & P. Frs. 1 St Ser. Vol. 9 P. 148.

ومن عوامل هدم فكر الكبرياء هو أن تذكر ماضيك قبلما عملت فيك النعمة لتعرف من أنت. ستجد نفسك على حقيقتها دنسه وحقيرة، وعندئذ تتضع نفسك.

يحكي أن أحد الملوك العظماء كان يحتفظ في حجرة صغيرة إلى جوار أريكة عرشه ببعض آلات صيد السمك وهى شبكة وسلة وجلباب قذر. وقد اعتاد هذا الملك أنه في صباح كل يوم يلقى نظرة على هذه الآلات ويشتم رائحتها قبل أن يصل إلى كرسي عرشه.

وعندما سُئل عن سبب ذلك قال: إنني أواظب على هذا العمل يوميا حتى لا تنسيني أبهة الملك حالتي الأولى فأتكبر.

فهكذا يا أخي ليتك كل صباح تتذكر حالتك وتذكر أنك كنت إنسانا خاطئا منذ ولادتك من بطن أمك، وقد قضيت سنينك وأيامك في الشرور والآثام.

فبولس الرسول ما نسي قط بعد أن اجتاز السماء الثالثة - أقول ما نسي قط حياته الأولى، فكان دائماً يردد تلك المقولة: " أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله." (1كو9:15).

ويعود فيقول "أنا الذي كنت قبلاً مجدفاً ومضطهداً ومفتريا. ولكنني رحمت لأني فعلت في جهل في عدم إيمان. وتفاضلت نعمة ربنا جداً مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع ... (الذي) جاء إلي العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا."(1تى13:1ـ15). هل رأيت إذن سر أتضاع بولس الرسول. إنه لا زال يذكر ماضيه المشين حتى لا يفتخر فيسقط، ثم يوضح في أجلى بيان تفاضل نعمة المسيح حتى خلص الخطاة الذين هو أولهم.


العلم والمعرفة:

عندما يحاول إبليس أن يسقطك في فخ الكبرياء والتشامخ بالعلم والمعرفة مستغلاً فهمك للكتب واستنارتك الروحية فإن لم تفرز حيلته الخادعة وتميز مقاصده الخبيثة سقطت في قبضته المهلكة.


أخي: إن ضربة الكبرياء بالعلم والمعرفة قد أطاحت بالكثيرين أمثال آريوس المهرطق ومقدونيوس المبتدع وغيرهما ...


أما أنت فلكي تنجو من هذا السهم القاتل لابد أن تعرف:- أن ما تعرفه وما قد وصلت إليه من فهم لا يرجع الفضل فيه إلي ذكائك الشخصي وإنما إلي كشف الروح لك. فكم من جهال حكَمهم الروح، وها صيادو السمك يفتنون المسكونة فقد "اختار الله جهال العالم ليخزى بهم الحكماء."(1كو27:1) وتأمل قول ربنا يسوع "أتكلم بهذا كما علمني أبي"(يو28:8) فيسوع نفسه الذي قيل فيه "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم"(كو3:2).

إذ قد ارتدى حلة الاتضاع ينسب كل هذا العلم إلي الآب يقوله:

"أتكلم بهذا كما علمني أبي" فما أعجب اتضاعك يا إلهي !! ثم تأمل أيضاً قول المرنم " أنا بليد ولا أعرف. صرت كبهيم عنـدك"(مز22:73) هذا ما قاله المرنم الممتلئ بروح الحكمة والفهم. فماذا تقول أنت؟ هل صرت أحكم من هذا المرنم؟ وهب أنك تعرف الكثير. أفلا تعلم أن هذه المعرفة وهذا العلم هو من عمل الروح وكشفه. وإليك الدليل:-


· لأن الروح القدس يعلمكم.(لو12:12)

· وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم.(يو26:14)

· أما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلي أن يعلمكم

أحد بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ وهي حق وليست كذبـا. (1يو27:2)

وإليك أيضاً قول الكتاب عن دانيال والثلاث فتيه بخصوص حكمتهم:-

· أما هؤلاء الفتيان الأربعة فأعطاهم الله معرفة وعقلا في كل كتابة وحكمة.

(دا17:1)

وهو ذا يوحنا الحبيب يظهر أن هذه البصيرة قد كشفها لنا ابن الله نفسه بقوله:-

· نعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق (1يو20:5)

أفبعد كل هذا تظن يا أخي أنك فهيم وحكيم من ذاتك؟ اذكر قول بولس الرسول "لا يخدعن أحد نفسه. إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيماً. لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله"(1كو18:3ـ19).

ويعقوب الرسول يحذرنا قائلاً "لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا"(يع1:3).


أفتظن يا مبارك أنك تعرف كل المعرفة؟ ثق يا أخي أن ما تعرفه الآن ما هو إلا حياة ضحلة علي شاطئ نهر السباحة الذي لا يعبر.(خر5:47).


وهذا ما قاله بولس الرسول عن نفسه إذ اكتشف هذه الحقيقة "الآن أعرف بعض المعرفة"(1كو12:13).

من الذي يقول هذا الكلام؟ بولس الرسول الذي اختطف إلي السماء الثالثة ورأى ما لم تره عين، وعرف ما لا يصوغ للفم أن ينطق به!!

لهذا فهو يقرر هذه الحقيقة ويضع هذه القاعدة الخالدة:-

"إن كان أحد يظن أنه يعرف شيئاً فإنه لم يعرف شيئاً بعد كما يجب أن يعـرف."(1كو2:8).

فليعطك الرب نعمة اتضاع الفكر لتعرف أنك لا تعرف شيئاً من أعماق حكمة الله، وأن ما عرفته إنما هو كشف بسيط من محيط علم الله اللانهائي قد قصد الروح القدس أن يطلعك عليه فلا تفتخر بل قف شاكراً الله الذي وهبك هذه النعم.


v المواهب والإعلانات:

هذا ميدان آخر يشتد فيه القتال وتستعر فيه نيران الحرب.

فيا صاحب المواهب اعلم أن ما عندك هو مجرد عطية من الله إذ يقول بولس الرسول في صدد الحديث عن المواهب "لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة. فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة. ولآخر كلام علم ..ولآخر إيمان .. ولآخر مواهب شفاء .. ولآخر عمل قوات ولآخر نبوة ولآخر تميز أرواح. ولآخر أنواع ألسنة. ولآخر ترجمة ألسنة. ولكن هذه كلها يعملها الروح القدس بعينه قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء."(1كو7:12ـ11).


فعلام يفتخر من وهب إحدى هذه المواهب؟ والموهبة لا تعتمد على جدارته بل على مشيئة الروح في استحقاقات المسيح.

أما من يفـتخر بالموهبـة يحذره القديس مار اسحق قائلا: {اعلم أن كل أمر يفتخر به الإنسان يسمح الله بتغييره ليتواضع}.


هذا بخصوص المواهب وهكذا الأمر نفسه بخصوص الإعلانات. فلربما كشف لك الرب لترى بعين الإيمان ما تعجز عن رؤيته بالعيان. فهذا العمل هو نعمة من الله الذي ارتضى أن يكشف لك عن جانب من أسراره.

أفيقودك هذا إلى الافتخار؟ والأمر لم يكن يعتمد على برك أو صلاحك أو مجهوداتك وإنما على عطية الله المجانية.


لهذا فأحيانا يسمح الله بشوكة في الجسد لتصنع توازنا مع فرط الإعلانات خشية على حياة الإنسان، فيقول بولس الرسول رجل الإعلانات: "لئلا ارتفع من فرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتـفع."(2كو7:12).

( د ) الاتضاع هو انحلال من الكل للارتباط بالواحد:

سبق أن وضحنا أن الاتضاع هو:

( أ ) إلغاء إرادة الذات لتحل إرادة الآب فينا.

(ب) إختفاء الذات ليظهر المسيح فينا.

(ج) تجريد الذات وإرجاع الفضل لعمل الروح فينا.

والآن نناقش هذا المفهوم وهو أن الاتضاع هو الانحلال من الكل للارتباط بالواحد.

¬ انحلال من الذات (فأحيا لا أنا).(غل20:2).

وانحلال من الناس "مجدا من العالم لست اقبل" (يو5: 41).

وقال بولس الرسول أيضا "لو كنت بعد أرضي الناس لم اكن عبداً للمسـيح" (غل10:1).

وانحلال من المال، ومن المراكز العالمية، ومن الرئاسات وحب المتكآت، انحلال من مجد العالم ليتحد الإنسان مع المسيح في سرية مقدسة، وفطامة النفس من أباطيل العالم لتشبع بدسم الرب وعشرته الطيبة.

"كالتفاح بين شجر الوعر حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي."(نش3:2).

من هذا قد رأيت يا أخي القارئ ميدان الجهاد الروحي وتعرفت على أعدائك الروحيين، وضرورة وقوفك في ميدان الحرب "فجاهد جهاد الإيمان الحسن وتمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت."(1تى12:6).

وليتك تحمل جميع سلاح الله الكامل لكي تقدر أن تثبت أمام حيل إبليس.

وإن أصابك سهم الأعداء فلا تيأس لأن الرب يضمد جراحاتك ويقف معك في المعركة "إن كان الرب معنا فمن علينـا"(رو8: 31).

ولابد نـنتصر "لأنه يعظم انتصارنا بالذي احبنـا"(رو37:8).