الفصل الثاني مفـهوم الجهـاد
الروحي
× من الكتاب المقدس
× من أقـول الآبـاء
× من أقـوال البروتـستانت
الجهاد في المسيحية يختلف عنه في الأديان والفلسفات الأخرى فالجهاد في
غير المسيحية هو حركة تصوفية تعتمد على المجهود البشرى فحسب للقيام ببعض
الأعمال لتعذيب الجسد ظنا منهم أن هذه الأعمال تخلص الجسد من نجاساته
وتطهره من أدناسه، وقد خفي عنهم أن الجسد الفاسد من الداخل لا تفيده مثل
هذه الأعمال. فمثلهم كمثل من يأخذ خنزير ليغير طبعه عن طريق وضعه في مكان
نظيف وتقديم فاخر الأطعمة له وتمرينه على النظافة … ولكن طبيعته الفاسدة
المائلة لقذارة البرك لا زالت فيه من الداخل. فما قيمة كل هذه التدريبات
والتمرينات؟ لا شئ بالمرة. فهو وإن كان قد منع من التمتع برائحة الطين
وقذارة الرمم ... إلا أن قلبه يحلم بها ويعيش في جوها مشتهيا نتانتها …
وإذا أتيحت له الفرصة اندفع بلا وعى ولا تفكير إلى مراغة الحمأة !!!.
قصة الوزير والخنزير:
كان الملك يتنزه مع وزيره فجاءا إلى بركة تتمرغ فيها الخنازير، فقال
الوزير للملك هل يمكن أن تجعل هذا الخنزير لا يتمرغ في الطين؟ فقال الملك
هذا الأمر في منتهى البساطة فالخنزير إذا تعود على النظافة لن يطيق طين
البركة.
أمر الملك أن يحضروا الخنزير إلى القصر وأمر له بأفخر الطعام وأن يلبس
ثيابا ملوكية. ودام الأمر لمدة عام. فأخذ الملك الوزير والخنزير وذهبوا
إلى البركة ليريه كيف أن البيئة النظيفة قد أثرت في الخنزير وبالتالي لن
يقبل النزول إلى البركة. وما أن اقتربوا من البركة حتى نط الخنزير في
الطين متهللا وكأنه وجد حياته من جديد!!
فاغتاظ الملك وأمر الوزير أن يجعل هو هذا الخنزير لا يقبل النزول إلى طين
البركة. وفعلا أخذ الوزير الخنزير وبعد شهر واحد طلب من الملك أن يذهب
معه وأخذا الخنزير معهما وذهبا إلى بركة الطين، و تعجب الملك بشدة عندما
لم يجد الخنزير يندفع إلى الطين فظن أن الوزير قد ربطه وكتفه حتى لا
يستطيع النزول، فحاول عبثا أن يجعل الخنزير يقفز إلى طين البركة، ولكن
الخنزير كان يتراجع بقوة بعيدا عن الطين.
سأل الملك الوزير عما فعله مع الخنزير، فشرح له كيف أنه استدعى طبيبا
مشهورا وأجرى للخنزير عملية تغيير قلبه بقلب حمل وديع، والحمل لا يطيق
الطين.
وشرح الوزير للملك كيف أن المسيح يخلق فينا قلبا نقيا فلا نطيق البقاء في
طين الخطية.
فالجهاد في المسيحية ليس مجرد أعمال بشرية دون نعمة الله. فهو وإن كان
عملا بشريا في ظاهره إلا أنه لا يعتمد على الإنسان في جوهره. وإنما يعتمد
على من قال "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً"(يو5:15).
والجهاد المسيحي ليس بدءاً للحياة الروحية بل هو محافظة على الحياة
الجديدة التي أخذها المؤمن من الله ... وعملية الحفظ هذه لا تعتمد
بجملتها على الإنسان وإنما على قوة الله الحافظة إذ قال بطرس الرسول "
أنتم الذين بقوة الله محروسون" (1بط5:1) وكتب عنه المرنم "هو حافظ نفوس
أتقيائه"(مز10:97). وقال بولس الرسول "أمين هو الرب الذي سيثبتكم ويحفظكم
من الشرير"(2تس3:3).
ولكن هل معنى هذا أن دور المؤمنين في الجهاد سلبي؟ كلا، بل إنه يشترك مع
الله في هذا العمل، فقد كتب يوحنا الرسول قائلا "المولود من الله يحفظ
نفسه"(1يو18:5).
وقال بولس الرسول "كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شئ"(1كو25:9).
فمفهوم الجهاد الحقيقي في المسيحية هو :-
جهاد الروح بالنعمة فيك ومعك ولأجلك إذ قال بولس الرسول "بالروح تميتون
اعمال الجسد"(رو13:8). وقوله أيضا "لأن الله هو العامل فيكم"(فى13:2).
وقد كتب الدكتور موريس تاوضروس المدرس بالاكليريكية في مجلة الكرازة حول
هذه النقطة فقال: "إن المسيحي في جهاده يعتقد بأنه لا يمكن أن يبلغ كماله
الروحي والأخلاقي إلا بمعونة السماء وبعمل النعمة الإلهية فيه. هذه
النعمة الإلهية كفيلة بأن تأخذ بيد الإنسان وتقوده في طريق تحقيق الكمال
الروحي. وكذلك فإن المسيحي في جهاده لا يتعرض للمشاعر الكئيبة الحزينة بل
يتمتع بالتهليل الروحي والفرح القلبي.
(الكرازة السنة الأولى عدد 10 ص 17)
ولكي نزيد هذا المفهوم إيضاحا نضع أمامك هذه الاقتباسات من:
+ الكتاب المقدس
+ وأقوال الآباء
+ وأقوال مشاهير البروتستانت
أولاً: من الكتـاب المقـدس
(1) حرب المديانيـين :
يروى لنا سفر القضاة أن الرب عندما أراد أن ينقذ إسرائيل من يد أعدائهم
المديانيين.(قض14:6).
أخذ جدعون اثنين وثلاثين ألفا من الرجال وذهب لمقاتلة المديانيين. ولكن
الرب قال له "الشعب الذي معك كثير علىَ لأدفع المديانيين بيدهم لئلا
يفتخر على إسرائيل قائلا يدي خلصتني، والآن ناد في آذان الشعب قائلا من
كان خائفا ومرتعداً فليرجع وينصرف… فرجع من الشعب اثنان وعشرون ألفا وبقى
عشرة آلاف!!
وقال الرب لجدعون لم يزل الشعب كثيرا. انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك
هناك … فنزل الشعب إلى الماء. وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من
الماء كما يلغ الكلب فادفعه وحده، وكذا كل من جثا على ركبته. وكان عدد
الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاث مائة رجل …
فقال الرب لجدعون بالثلاث مائة الرجل الذين ولغوا أخلصكم وأوقع
المديانيين بيدك… وكان المديانيون كالجراد في الكثرة!!!."(قض2:7ـ7).
فتأمل يا أخي قول الرب لجدعون "اذهب بقوتك هذه خلص إسرائيل ! فهل قوة
جدعون هذه تخلص إسرائيل من المديانيين الذين كانوا كالجراد في الكثرة.؟!
واغتر جدعون في قوته وظن أنه فعلا بهذه القوة يهزم الأعداء وينال الخلاص،
فجمع أثنين وثلاثين ألفا من الرجال المقاتلين وفاته المسكين أنه "لا
بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود"(زك6:4).
فأراد الرب أن يعلمه عدم الاعتماد على ذاته إذ أنقص العدد إلى ثلاثمائة
مقاتل !! وماذا يكون مثل هذا العدد أمام جيش كالجراد في الكثرة؟! دخل
جدعون الحرب بهذا العدد القليل وأنتصر فعلا على الأعداء … فهل كان النصر
بقوة جدعون؟! كلا ، وإنما بقوة الرب … وهنا يعترضنا سؤال : إن كان النصر
ليس بقوة جدعون بل بقوة الله لماذا يصرُ الله على أن يستخدم قوة جدعون؟
ألم يكن قادر على أن يهزم الأعداء بدون اشتراك جدعون؟
حقيقة كان يستطيع الرب أن يهزم الأعداء بدون اشتراك جدعون نهائيا، بل كان
يستطيع أن يزجرهم قبل أن يصـلوا إلى حدود إسرائيل، وهذا فعلا ما كان
يفعله في بعض الأحيان… ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ النتيجة هي أن الشعب كله
يظل مستهترا ومستهينا بعمل الله!!!
لهذا فالرب كان يثير عليهم الأعداء ليوقظهم إذ يضايقونهم فينتبهون
ويصرخون إليه ... وكان يصر على اشتراكهم في الحرب ودفع العدو حتى لا
يستهينوا بعمل الله في تواكل وكسل ... ومن الجانب الآخر كان يطالبهم
بالاتكال عليه وطلب معونته، وكان يتدخل هو بقوته معهم لأنهم لا يقدرون
على العدو فعلاً.
فسياسة الله هي أن يشترك مع الإنسان لإنقاذه من أعدائه ولهذا قال
"يحاربونك ولا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك"(إر19:1).
ولاحظ يا أخي قوله "أنا معك" أي ليس أنى أنقذك بدونك. لهذا قال القديس
أوغسطينوس "الله الذي خلقك بدونك لا يمكن أن يخلصك بدونك".
وما أجمل ما صوره زكريا النبي قائلا "لأن رب الجنود قد تعهد قطيعه بيت
يهوذا وجعلهم كفرس جلاله في القتال. منه الزاوية، منه الوتد، منه قوس
القتال ... ويكونون كالجبابرة ... ويحاربون لأن الرب معهم."(زك3:10ـ5).
لعلك من هذا قد فهمت يا أخي ضرورة تضامن قوة الرب القادرة على الخلاص مع
قوتك العاجزة لإنقاذك من أعدائك الروحيين.
(2) حرب عماليـق :
هذا مثال آخر قد ضربه قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث لتوضيح تضامن عمل
النعمة مع عمل المؤمن في الجهاد الروحي فقال : كان يشوع بن نون يقود جيش
شعب الله ويحارب، وفي نفس الوقت كان موسى النبي يقف على الجبل رافعا يديه
بالصلاة حتى النصرة. فهل انتصر شعب الله عن طريق جيش يشوع أم عن طريق
صلاة موسى؟ يخطئ من يخص واحدة فقط من الاثنتين. لان يشوع وحده مهما حارب
بدون صلاة موسى _ أي بدون معونة الله _ لا يمكن أن ينتصر.
وصلاة موسى وحدها ليس معناها تشجيع شعب الله أن يتراخى ويتكاسل ويهرب من
أمام العدو، ويقول تكفي صلاة موسى .
الجهاد والصلاة كانا سائرين سويا. هذا يجاهد في الحرب وذاك يصلى. الجهاد
والنعمة متلازمان. (كتاب "لك يابنى" ص70).
(3) إقـامة لعـازر :
ولنا في معجزة إقامة لعازر من الموت شاهد آخر على تضامن عمل النعمة مع
الإنسان في إتمام مقاصد الله.
فيسوع المسيح الذي له السلطان والقدرة على إقامة لعازر من الموت أما كان
يستطيع أن يزيح الحجر عن فم القبر؟! بلا شك كان يستطيع أن يفعل ذلك
بمنتهى السهولة … ولكنه يريد أن يشترك الإنسان معه لإتمام مقاصده، فقال
للواقفين "ارفعوا الحجر … فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعا ورفع يسوع
عينيه إلى فوق وقال أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي… ثم صرخ بصوت عظيم
لعازر هلم خارجا. فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف
بمنديل. فقال لهم يسوع حلوه ودعوه يذهب."(يو38:11ـ44).
وثمة ملاحظة أخرى تلفت النظر … أما كان يستطيع يسوع الذي أخرج لعازر من
القبر أن يحله من الأربطة؟! كما حدث معه هو في قيامته إذ عندما "قام بطرس
وركض إلى القبر فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها."(لو12:24). وبلا أدنى
شك كان يسوع يقدر أن يفعل ذلك، ولكنها سياسته الإلهية إذ أنه يريد أن
يلمس الناس بأنفسهم قوة عمله عندما يشتركون معه في العمل.
بل نستطيع أن نقول أن الله يطالب البشر بأن يشتركوا معه فيعملوا ما في
مقدورهم، .أما ما يعجزون عنه فالرب يفعله.
وهذا هو الحال في الجهاد الروحي فالمؤمن يقوم بالعمل الذي يستطيعه في
حدود إمكانياته البشرية معتمدا على قوة الله في إتمام ما يعجز هو أن
يفعله.
ثانيا: من أقـول الآبـاء
(1) مثل الفـلاح والزرع:
ضرب الأنبا مقاريوس الكبير هذا المثل فقال : "يحرث الفلاح الأرض ثم
ينـتظر الندى والأمطار من فوق. فإذا لم يأت الماء من فوق يصير الكرم بلا
ثمر ويصبح الكرام بلا مكسب من فلاحته.
هكذا أيضا في الروحيات يجب أن يعمل ويجاهد كل إنسان بإرادة وعزيمة لأن
الله يطالب كل إنسان بكده واجتهاده وعمل يديه، ولكن إذا لم تدركه نعمة
الله من فوق، ويشرف عليه جوده وتحننه يبقى بلا ثمرة من جهاده.
وقال أيضا : "يحرث الفلاح ويجتهد ويضع بذارة في الأرض ثم يقف منـتظرا
المطر من فوق، فإذا لم تظهر السحب وتهب الرياح والعواصف يصير جهاد الفلاح
وعمله بلا فائدة. وتبقى البذور عارية لطيور السماء لتـلـتقطها".
ويكمل قائلا: "هكذا الإنسان المتكل على عمله، الذي لا ينظر إلى فوق بل
يكتفي بعمل يديه، فمهما كان جهاده وصلاته وتقشفه وبعده عن الماديات
ومحبته للأخوة الغرباء فإنه لا يأخذ ثمار جهاده وحبه إذ لم يشرق عليه غنى
الله وعمل النعمة ويهب عليه الروح القدس ويتساقط عليه ندى رحمة الله.
إن ما كتبه القديس مقاريوس هو من أجمل التشبيهات لإظهار تضامن عمل النعمة
بالروح القدس مع عمل الإنسان الشخصي من أجل إتمام خلاصه.
فعلى الفلاح أن يقوم بحرث الأرض وبذر البذور. ولكن هل مجرد هذا العمل
يأتي بالثمار؟! كلا فلا بد من توفر العنصر الإلهي العامل في الثمار وهو
حيوية البذرة نفسها داخليا، وتوفر مياه الري الذي يعتمد على سقوط الأمطار
… فلا بد من اشتراك العاملين.
هكذا حياتك الروحية فلا بد أن تحرث الأرض (تفحص نفسك جيدا وتفتح قلبك
بمشيئة راضية) ثم تبذر بذار النعمة (أي كلمة الله) وتخبئها في قلبك ...
وهناك في داخل تربة قلبك يثمر الخلاص إذ في بذار الكلمة حيوية داخلية،
وفي رذاذ النعمة سقى للتربة والكلمة فـتنمو حياتك الروحية.
(2) الأخ وأختـه:
وهذا مثل آخر من بستان الرهبان يلقى ضوءاً على مفهوم الجهاد وتضامن
النعمة مع العمل البشرى فيه.
قال شيخ "كان إنسان في قرية له أخت جميلة ... وكان أخوها يخاف أن يرسلها
وحدها ... فقام وأمسك بيدها ومضى ... وكان يدخل ويخرج وهو ماسك يديها …
وهكذا كثيرون كانوا ينظرون إلى الصبية ويشتهونها من اجل جمالها، ولم
يتمكنوا أن ينالوا منها شيئا لأن أخاها كان ماسكا بيدها ... هكذا النفس
ما دامت ذاكرة اسم ربنا يسوع المسيح الذي صار لها أخا بالتدبير، فانه
يكون في كل وقت ماسكا يدها ... وأن أراد أعداؤها غير المنظورين خداعها،
فإنهم لا يستطيعون أن يفعلوا بها شيئا لأن أخاها ماسكا بيدها، إن هي
تمسكت في كل وقت بربنا يسوع المسيح المخلص ولم ترخه.
أرايت يا حبيبي أن التمسك بهذا المخلص الصالح الذي هو ربنا يسوع المسيح
هو خلاص عظيم، وحصن منيع، وسلاح لا ينغلب، وخاتم خلاص النفس."
(بستان الرهبان).
(3) التغصب في بدء الحيـاة الروحيـة:
* كل ما تغصب نفسك عليه في البداية سوف يكون سهلاً هيناً عليك في
النهاية. وكلما تعبت في الجهاد اكثر كلما تحنن الرب عليك اكثر.
(قول لأحد الآباء القديسين).
* حينما يرى الرب نية الإنسان واجتهاده، وكيف يغصب ذاته لذكره وعبادته،
وكيف يرغم قلبه سواء رضى أو لم يرض إلى عمل الخير والتواضع والوداعة
والصدقة، وكيف هو يبذل كل ما في وسعه، يتحنن الرب عليه ويظهر له رحمته
ويخلصه من أعدائه ومن سلطان الخطية ويملاه من الروح القدس وحينـئذ يتمم
وصايا الرب دون تغصب وإجهاد لأن الرب الساكن فيه هو يكون العامل فيه
وبذلك يثمر ثمار الروح بطهارة. (القديس مقاريوس الكبير).
* حينما يغصب الإنسان نفسه هكذا إلى كل الفضائل، ويلح في طلب وسؤال كل ما
هو صالح لخلاص نفسه. ويثبت سؤاله بأعماله وجهاده. فإن الرب يعطيه روحه
ليعمل به. ويكمل كل صلاح. وبدون عناء وتغصب يعمل الفضائل التـي كان
يتممها قبلا بكل جهد وتغصب. وتحل عليه الحكمة الروحانية ومعرفة الحق
وتصير كطبيعة له لأن الله يكون ساكنا فيه. (القديس مقاريوس الكبير).
* بقدر ما يشقى الإنسان ويجاهد ويغصب نفسه من أجل الله. هكذا معون إلهية
ترسل إليه وتحيط به وتسهل عليه جهاده وتصلح الطريق قدامه.
(القديس مار اسحق).
* في بدء حياة العبادة يكون الصلاة أمراً ثقيلاً على الجسد والعقل، وإن
تركا لذاتهما لما تقدمنا للصلاة قط. لذلك وجب أن نغصب ذواتنا حتـى تصير
الصلاة جزءا هاماً من حياتنا لا نستطيع أن نهمله أو نستغني عنه. (حياة
الصلاة الأرثوذكسية ص389).
لعلك قد رأيت يا أخي كيف أن الجهاد البشرى يعمل مع النعمة من اجل حياة
أفضل ... فاذكر يا أخي يا من لك حياة متقدمة الآن تلمس فيها عمل الواضح
بانسيابية لذيذة أنك في بدء حياتك الروحية كنت تغصب نفسك على الصلاة
والالتصاق بالرب ... وعندما مس الرب عينيك فانفتحت نسيت تلك الأيام
الأولى! في حين أن الرب ما أنعم عليك بما أنت فيه إلا عندما رأى اشتياقات
قلبك وقرعاتك المـتوالية على باب نعمته ففتحه لك …
(4) تضـامن النعمـة مع الإنسـان:
*لا تعتمد على جهادك وحده كأنه يوصلك إلى ثمار الحياة الروحية. لأن نعمة
الله إذا لم تحل على الإنسان وتبارك جهاده يظل عقيماً بلا ثمرة كتقدمه
قايـين!
فالجهاد يؤهلنا فقط للملكوت. والنعمة تقودنا إلى هناك. والجهاد لا يخلصنا
من الخطية قط بل يجلب علينا رحمة الله. (حياة الصلاة الأرثوذكسية).
* الرب يعمل مع الإنسان في ارض النفس. أما الأشواك التي يـبذرها الشرير
فهي تنمو، ولكن حينما تكثر النعمة تذوبها وتلفحها شمس البر.
(القديس مقاريوس الكبير).
* لأن إرادة الله أن لا تكون النعمة وحدها هي العاملة فينا وبنا، بل نكون
مشتركين بنصيبنا في الأعمال الصالحة. لاحظ مثلا كيف كان سلوك السيد مع
تلاميذه: وضع عليهم وصايا ليـتمموها ليتم بذلك عمل النعمة. فعمل العجائب
كان عليه هو، أما الوصية التي كان عليهم أن يـتمموها لتـتم المعجزات فهي
عدم الاهتمام بشيء. وفـتح بيوت الناس أمام وجوههم كان من عمل النعمة
العليا، ولكن عدم حمل شئ اكثر من الحاجة كان من عمل إنكارهم لذواتهم.
ومنحهم السلام والشفاء للناس كان من عمل النعمة، أما السؤال عن المحتاج
وعدم الدخول قبل فحص من هو المستحق كان من الأوامر التي عليهم أن
يـتمموها. كان عليهم أن يحتملوا الطرد والإهانة ولا ييأسوا البتة،
وخلاصهم ومعونتهم السريعة في حينها كان على من أرسلهم. (يوحنا ذهبي
الفم).
إن في هذه الأقوال إيضاح تام لمفهوم الجهاد في تضامن واشتراك من الإنسان
مع النعمة الإلهية.
(5) الجهـاد محافظـة على روح النعمـة :
قولنا سابقا أن الجهاد المسيحي من جانب المؤمن ليس شيئا في ذاته وإنما هو
محافظه على النعمة التي من الرب وهذا يوضحه الآباء بقولهم:
* بالأيمان ينال الإنسان نعمة، ويكون أهلاً لدخول الملكوت. إلا أنه من
الناحية الأخرى عليه أن يحافظ على روح النعمة ويكون موفقا له في كل
أعماله.
فلا يأتـي عملاً ردياً أو يهمل عملاً من أعمال الله. فإذا داوم على ذلك
ولم يحزن الروح داخله بعمل يوافقه، يمكن عمليا من الدخول إلى ملكوت
السماوات. (القديس مقاريوس الكبير).
(6) والجهـاد تـسليم النفـس لعمل النعمـة:
"في البدء يكون افتقاد النعمة قليلا مع أن لها القوة لتغسل وتكمل الإنسان
في ساعة وذلك لكي تختبر غرض وميل الإنسان، هل هو محتفظ بحبه نحو الله
تماما ؟ وهل تخلت نفسه عن شهوة الشر ؟ وهل اسلم نفسه حقيقة لعمل النعمة ؟
فإذا ما استطاعت النفس أن تستجيب لمطامع النعمة وتمتد معها في طريق
القداسة والبر فإن النعمة تـتأصل في النفس وتمتد جذورها حتى الأعماق
وترتـقى بالنفس قليلاً، قليلاً فـي توافق وسهولة حتى تصير كلها في أحضان
النعمة السماوية."
(القديس مقاريوس الكبير).
ثالثا: من أقـوال مشـاهير البروتـستانت
هذه بعض مشاهير البروتستانت موضحة مفهوم الجهاد رغم أفكار أغلبيتهم لذلك:
(1) ف. ب. ماير :
قال " الله يدخل قلبك لكي يجاهد معك ضد جرثومة الخطية الطفيلية. (وضرب
لذلك مثلا قائلا) روت لي سيدة فاضلة أن ابنها جاءها يوما من المدرسة
مصابا بحمى قرمزية. لقد أتاها في سيارة ملفوفا بالبطاطين. وإذ دخل البيت
استقبلته قائلة: يا ابني لقد أعدَّت أمك غرفة في الدور العلوي لك ولها.
وسوف تجلس أمك بجوار سريرك، ولا تتركك إلا بعد أن تشفى، وسوف تساعدك في
الكفاح ضد الحمى...
هكذا حبست نفسها معه في حجرة نومه. هل تظن أن محبتها له نقصت لأنه قضى
وقتاً طويلاً في عملية الشفاء؟
أيها العزيز، يا من تشقى بالخطية التي قبلتها في قلبك، إن الله يكره
الخطية. لكنه يحبك. لقد عرف كل شئ عنها قبل أن يختارك. ولذلك فإنه سوف لا
يدهش … وسوف لا تقل محبته لك. لكن كلما ازدادت خطاياك، وكلما ازددت ضعفاً
…ازداد جهاد الله في قلبك ضد الخطية".(حياة الذات ص 70).
وقال أيضاً : "عندما يعمل الله في الداخل ينبغي أن تتمم هذا بخوف
ورعـدة".(حياة الذات ص 77).
(2) د. ل. مودى :
قال : " إن الحياة المسيحية هي حياة جهاد وحرب ... وعندما يعمل الله مع
الإنسان لا بد وأن ينتصر. فنحن عاملون مع الله. (وضرب لذلك مثلا قائلا):
إذا أخذت طاحونة ووضعتها فوق مستوى النهر بأربعين قدماً فهل تستطيع قوة
مهما كانت تجعل هذا النهر يشغل تلك الطاحونة؟ ولكن عندما نخفضها أربعين
قدماً ألا تشتعل في الحال؟ هكذا يجب أن نضع في أذهاننا أنه إن أردنا أن
نغلب العالم فلا بد وأن نعمل مع الله" (The Overcoming Life D.L. Moody
P.7).
ولعل مودى قد رمز إلى الإنسان بالطاحونة وإلى الروح القدس بالنهر، فكما
أن الطاحونة لا يمكن تشغيلها إن لم توضع في النهر، هكذا الإنسان لا يمكن
أن يغلب إلا بقوة الروح القدس.
وقال أيضا: "يسوع هو رئيس الخلاص كالقائد المدرب والمرشد المختبر يقود
النفس والروح ضد أعدائها الروحيـين، يقودها إلى الغلبة فيعظم انـتصارها
في كل حروبها ضد العالم والجسد والشيطان." (حياة القداسة ص27).
كما قال أيضاً "البعض يسيئون الفهم فيقولون ما دام الله قوتنا فليست هناك
أهمية لمقاومة الخطية وسنعتمد على هذه القوة. وبذلك يستمرون في الخطية
ويلقون كل التبعية على الله. إن أولئك لم يفهموا بعد معنى قوة المسيح،
فلو أدركوها لما استمروا تحت الخطية لأن معنى قبول قوة المسيح يتطلب
كراهية الخطية ومحاولة التخلص منها إلى أن تدركهم قوة المسيح المخلصة."
(حياة القداسة ص 68).
(3) روبـرت بويـد :
إن الله لا يقدر أن يعمل لنا شيئا نقدر نحن أن نتممه لأنه لم يقصد
بالصلاة تشجيع التهاون. عندما نطلب غلبة على الخطية يجب أن نراقب وأن
نتحفظ وإلا كانت صلاتنا مهزلة من المهازل، يجب أن نتعاون مع الرب في أمر
نمونا في النعمة. (الكلمات الأولى للمؤمنين الأحداث ص15).
(4) بـلى جراهـام :
قال " فحربنا إذن حرب روحية لا تستطيع أن نخوضها ضد أعدائنا الأقوياء
بأسلحتنا الجسدية الضعيفة. ولكن عندنا أدوات طيعة في يد الروح القدس
وندعه يقاتل عنا فسوف نحرز النصر الكامل." (سلام مع الله ص 181).
وقال أيضاً "تعلم كيف تقاوم التجربة. إن التجربة ليست خطية وإنما
الاستسلام لها خطية. وإحدى طرق مقاومة التجربة أن تجابه الشيطان بآية من
الكتاب المقدس كما فعل الرب يسوع ... دع يسوع يحارب عنك بالروح القدس."
(سلام مع الله ص 194).
من كل ما تقدم يا أخي ترى أن مفهوم الجهاد الروحي السليم هو أن يقدم
الإنسان ما في إمكانياته البشرية، ليس معتمداً عليها في الخلاص، وإنما هي
إشارة الموافقة من جانبه والاستعداد التام لعمل النعمة فيه لإتمام خلاصه
وإلا باءت كل مجهوداته بالفشل وأصبحت عديمة الفائدة وبلا قيمة.
وهذا ما وضحه نيافة الأنبا شنوده بقوله :
+ "جاهد ولا تعتمد على ذراعك البشرية بل معتمداً على نعمة الله ومعونة
وفعل الروح القدس".
+ وقال أيضا:"الحقيقة أن الجهاد يصبح ذراعا بشريا لو أعتمد الشخص على
ذاته فقط. لو كان يعتبر أنه بمجرد جهاده فقط يخلص نقف أمام الآية القائلة
"لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً."(يو5:15).
+ وأضاف قائلا: "إن الحرب بدون سلاح لا تصلح. وهذا ليس معناه أن الحرب لا
قيمة لها. بل معناه أننا عندما نحارب بدون سلاح أي بدون نعمة الله
ومعونته فإننا لا ننتصر".
+ وقال أيضا: "جاهد إذن واعتمد على الله في جهادك والله سوف ينصرك".
[ كتاب لك يا بنيّ ص78،80]
فليتك يا أخي تدرك هذا وليعطيك الرب فهما حتى لا تعود تؤدى أعمالا بشرية
بدون معونة النعمة ظانا أنها توصلك للملكوت.
|