مقدمة لسفر مرقس

كتب متى - اليهودي - إنجيله إلى اليهود، ولكن يوحنا مرقس (أعمال 12:12) كتب أساسا إلى الرومان. واسم يوحنا يشير إلى أصله اليهودي، ولكن الاسم اللاتيني مرقس ربما يشير إلى أنه حاصل على الجنسية الرومانية. ولا يعرف شيء عن أبيه. ويرجح أن يوحنا مرقس كتب إنجيله في روما أثناء السجن الأول أو الثاني للرسول بولس (فليمون 24:1؛ 2 تيموثاوس 8:1؛ 11:4). ولذلك، فعلى عكس متى الذي لم يقدم شرحا للعادات اليهودية، فإن مرقس شرح العديد من العادات اليهودية التي قد تكون غير مألوفة لدى القارئ غير اليهودي (مرقس 18:2؛ 3:7-4؛ 12:14؛ 42:15). وقد قدم تعريفا للأسماء الجغرافية الفلسطينية والحياة النباتية (5:1،13؛ 13:11؛ 3:13)، وقيمة العملات اليهودية بالمقابلة مع النقود الرومانية (42:12). وأيضا نظرا لأن الرومان يحبون القوة ولا يهتمون كثيرا بالتعليم، فإن هذا السفر مليء بالأحداث - فهو يصف تفصيليا 20 معجزة على الأقل من معجزات الرب يسوع.

ويسجل مرقس في مناسبات عديدة مشاعر الرب يسوع وردود أفعاله: فنظر حوله إليهم بغضب حزينا على غلاظة قلوبهم (5:3؛ أيضا 34:7؛ 12:8).

والغرض الرئيسي من إنجيل مرقس هو إثبات ألوهية يسوع كابن الإنسان وابن الله ومخلص المؤمنين التائبين. إن يسوع أكثر من مجرد إنسان عظيم، هذا ما نقرأه في افتتاحية الإنجيل: بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله (مرقس 1:1). وقد أثبت مرقس ذلك بأن أظهر السلطان الذي مارسه يسوع على الشياطين وعلى المرض وعلى الموت وعلى العناصر.

وتأتي عبارة ابن الله خمس مرات في هذا الإنجيل (مرقس 1:1؛ 11:3؛ 7:5؛ 61:14؛ 39:15). وقد سجل مرقس كلام الآب عند معمودية الرب وعلى جبل التجلي مشيرا إلى يسوع باللقب ابني الحبيب (مرقس 11:1؛ 7:9).

وقدم مرقس أيضا الرب يسوع كالخادم الكامل والعامل لحساب الله. وتتضح الإرسالية الهامة للرب يسوع كخادم لله في بعض الكلمات مثل " في الحال " و " للوقت " التي تستخدم أكثر من 40 مرة. لأن ابن الإنسان أيضا لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس 45:10).

ولا أحد يهتم بسلسلة نسب خادم، لذلك لم يذكر مرقس شيئا عن نسب يسوع. ولا يوجد ذكر لملائكة تعلن ميلاده، ولا مجوس يبحثون عن الملك، ولا عن حكمته التي أدهشت أساتذة اللاهوت عندما كان في الثانية عشر من عمره. وعلى عكس متى، فإن مرقس لم يسجل الموعظة العظيمة على الجبل ومعظم أمثال الرب يسوع حيث أن الخدام لا يشتهرون بما يقولون ولكن بما يفعلون.

لم يكن مرقس واحدا من الاثني عشر رسولا ولكنه كان شابا مسيحيا يعيش في أورشليم. وأمه مريم كانت أيضا مسيحية، وكانت الكنيسة الأولى تجتمع عادة في بيتها (مرقس 51:14-52؛ أعمال 12:12-13).

وكان برنابا المرسل - وهو لاوي من قبرص - هو خال مرقس (أعمال 36:4؛ كولوسي 10:4). وقد رافق مرقس بولس وبرنابا في رحلتهما المرسلية الأولى ولكنه عاد إلى بيته قبل إتمامها (أعمال 25:12؛ 2:13-5،13). ولذلك رفض بولس صحبة مرقس في رحلته المرسلية الثانية (أعمال 37:15-38). ولكن في وقت لاحق، كتب بولس قائلا: خذ مرقس وأحضره معك لأنه نافع لي للخدمة (2 تيموثاوس 11:4). وقد ذهب مرقس أيضا مع بطرس إلى بابل (1 بطرس 13:5).

اقرأ مرقس 1 -- 3

يذكر الكتاب المقدس - ولأول مرة - عن أن المسيح صلى بعد معموديته مباشرة. فلقد ظل يسوع في نهر الأردن يصلي... وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة (لوقا 21:3-22). والمرة الثانية التي نراه فيها يصلي هي في قراءة اليوم: وفي الصبح باكرا جدا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك (مرقس 35:1).

في اليوم السابق، وهو سبت، كان في كفرناحوم، وكان يعلم في الهيكل، عندما قاطعه رجل به روح شرير (مرقس 23:1-27). وبعد ذلك شفى حماة بطرس (مرقس 29:1-31)؛ ثم استمرت جموع المرضى تزحمه حتى وقت متأخر من المساء (32:1-34). لقد كان يوما طويلا مليئا بالعمل الشاق. وربما شعرنا أنه كان من الأفضل أن يأخذ ساعة إضافية من النوم بدلا من أن يستيقظ ليصلي.

ومرة أخرى، تحت ضغط شديد من الجموع، نقرأ: أما هو فكان يعتزل في البراري ويصلي (لوقا 16:5). وهذا لا يشير إلى حادثة واحدة بل بالحري إلى عادة مستمرة على مدى أيام عديدة أو ربما أسابيع. ففي الأوقات التي كانت فيها ضغوط الخدمة على أشدها، كان يبدو أنه ينام وقتا أقل ليعطي وقتا أكثر للصلاة.

كان في اليوم السابق قد اختار اثني عشر رجلا ليكونوا قادة للكنيسة، فنقرأ عنه أنه خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة لله (لوقا 12:6). فإذ كان يفكر في العمل الهام الذي ينبغي أن يعمله في اليوم التالي، صلى طوال الليل. ولما كان النهار (لوقا 13:6) دعا تلاميذه واختار منهم الاثني عشر.

كانت الصلاة عادة ملازمة ليسوع طوال حياته على الأرض، فإننا نقرأ هنا: مضى إلى الجبل ليصلي (مرقس 46:6). وأيضا حادثة التجلي حدثت بينما كان يسوع يصلي، عندما تغيرت هيئته قدامهم (مرقس 2:9). وقد لفتت صلاته المستمرة أنظار التلاميذ، فقالوا له: يا رب، علمنا أن نصلي (لوقا 1:11).

إن حاجتنا إلى الصلاة تفوق بكثير حاجة يسوع إليها - فإننا نحتاج إلى أوقات فيها ننفصل عن جميع الأنشطة، بل وعن خدمة الرب، لنكون على انفراد مع الآب. فإذا أردنا خدمتنا أن تكون فعالة، فإننا نحتاج في كثير من الأحيان أن نضحي بالنوم والأشغال والأصدقاء.. يجب تخصيص وقت للصلاة.

لقد أعطانا يسوع العديد من الأمثلة الأخرى عن أهمية وفعالية الصلاة (مرقس 32:14،35-39؛ لوقا 18:9،28؛ 2:10-21؛ 1:11-4؛ 1:18-8؛ 36:21-37؛ 39:22-46؛ يوحنا 41:11؛ 16:14؛ 1:17-26).

وقد ذكر متى أنه بعد ما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفردا ليصلي. ولما صار المساء كان هناك وحده (متى 23:14).

لا يتوقع الرب منا أن نصلي فقط، لكنه يشير إلى الضرورة الملحة للصلاة فيقول: إن الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده (لوقا 2:10).

عندما نهمل الصلاة، فإن مجهوداتنا تصبح أقل فعالية وأكثر عرضة للتعطيل أو التضليل بواسطة خدع الشيطان. أما إذا تتبعنا مثال ربنا يسوع فإننا نخصّص وقتا أكثر للصلاة.

ويطمئننا يوحنا بكلمات الرب نفسه: مهما سألتم من الآب باسمي فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن. إن سألتم شيئا باسمي فإني أفعله (يوحنا 13:14-14).

شواهد مرجعية: مرقس 2:1 (انظر ملاخي 1:3)؛ مرقس 3:1 (انظر إشعياء 3:40).

أفكار من جهة الصلاة: صل لكي تكون لك الحساسية أن تعطي المدح للرب في كل شيء تفعله (مزمور 16:40).

اقرأ مرقس 4 -- 5

أعطى يسوع مثلا عن الزارع الذي خرج ليزرع: وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت طيور السماء وأكلته. وسقط آخر على مكان محجر حيث لم تكن له تربة كثيرة، فنبت حالا إذ لم يكن له عمق أرض. ولكن لما أشرقت الشمس احترق، وإذ لم يكن له أصل جف. وسقط آخر في الشوك، فطلع الشوك وخنقه فلم يعط ثمرا. وسقط آخر في الأرض الجيدة، فأعطى ثمرا يصعد وينمو، فأتى واحد بثلاثين وآخر بستين وآخر بمئة (مرقس 3:4-8). ومرتان يقول الرب يسوع: من له إذنان للسمع فليسمع ... انظروا ما تسمعون. بالكيل الذي به تكيلون [من الفكر والدراسة] يكال لكم [من الفضيلة والمعرفة] ويزاد لكم أيها السامعون (مرقس 9:4،23-24).

هذا المثل يبدو لأول وهلة محبطا حيث أن ثلاثاً بين كل أربعة بذور تضيع هباء، ولكن يسوع يشرح لنا السبب. فالأرض الجيدة تمثل أولئك الذين يقبلون كلمة الله ويدرسونها ونتيجة لذلك يأتي الفهم والإدراك المتزايد بحسب رغبتنا في عمل مشيئته.

وفي إنجيل متى يتبع هذا المثل مثل العدو الذي زرع زواناً وسط الحنطة (متى 24:13-30). والزوان يشبه الحنطة تماما إلى أن ينمو وينضج وعندئذ يتضح من رأس النبات أنه عديم القيمة. وفي هذا المثل يقترح عبيد السيد أن يذهبوا ويجمعوه. ولكن السيد منعهم قائلا: دعوهما ينميان معا إلى الحصاد ... الحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت (30:13،38)، والزوان يمثل أولئك الذين يبدون مؤمنين بالمسيح ويجتمعون مع المؤمنين الحقيقيين.

إن هذا المثل الثاني يبين أن الشخص المزيف، الذي ينقاد بدوافع شريرة ويندمج وسط المؤمنين الحقيقيين، لا يمكن أن يصنع ثمرا روحيا. وفي النهاية، يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار هناك يكون البكاء وصرير الأسنان (مرقس 41:13-42).

والمثل الثالث يصف ملكوت الله أنه مثل حبة خردل متى زرعت في الأرض فهي أصغر جميع البذور التي على الأرض، ولكن متى زرعت تطلع وتصير أكبر جميع البقول وتصنع أغصانا كبيرة حتى تستطيع طيور السماء أن تتآوى تحت ظلها (مرقس 31:4-32). فبالرغم من كثرة الأمور المحبطة التي تحدّ اجتهادنا لتوصيل كلمة الله إلى العالم، فإن الغرض من هذا المثل الثالث هو تدعيم الثقة من جهة ضرورة مجيء ملكوت المسيح.

ولد ملك الملكوت كطفل في مذود صغير.. ومات على الصليب.. ولم يكن له سوى أتباع قليلون.. بعد ذلك اجتمع 120 من المؤمنين في العلية.. وامتلأوا من الروح القدس.. وخلال بضعة أيام كان الآلاف قد حصلوا على الروح القدس واعتمدوا (أعمال 38:2-41). واليوم فإن الملايين قد اعترفوا به مخلصا وربا.. ولا زالت البذرة مستمرة في النمو والتكاثر.. ولا بد أن تنجح نجاحا عظيما.. لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر (إشعياء 9:11).

شواهد مرجعية: مرقس 12:4 (انظر إشعياء 9:6-10).

أفكار من جهة الصلاة: صل واطلب الرب متيقنا من أنه سيجيبك إذا صليت بروح تقية متحررة من الخطية (إشعياء 9:58-11).

اقرأ مرقس 6 -- 7

كان الفريسيون هم أكبر فئة دينية في أيامهم وكانوا يؤكدون إيمانهم بالمكتوب. ولكن الرب يسوع كشف رياءهم بقوله: باطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس (مرقس 7:7). وكما أشار يسوع، فإن خطأهم كان أخطر من مجرد جعل تقاليدهم مساوية في أهميتها للكتاب المقدس. قال لهم: رفضتم وصية الله لتحفظوا تقليدكم (مرقس 9:7). بل وأخطر من ذلك: مبطلين كلام الله بتقليدكم الذي تسلمتموه (مرقس 13:7). فإن كلمة الله، على سبيل المثال، توصي بالرحمة، وبمحبة الأعداء، وبتطهير القلب من الشهوات العالمية والطموحات الخاطئة. ولكن الفريسيون كانوا مكتفين بالطقوس الخارجية فقط.

ولا بد أن وقعت كلمات يسوع وقع الصاعقة على القادة الأبرار في عيني أنفسهم عندما قال لهم: ويل لكم أيها ... المراؤون! لأنكم تعشرون ... وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك (متى 23:23).

لا يوجد اليوم فريسيون، ولكن لا زال كثيرون يتجاهلون الحقيقة أن الرب يسوع وضع لأتباعه مستوى للسلوك أرفع بكثير من التطبيق الخارجي للناموس، إذ قال: قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن، وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه (متى 27:5-28).

إننا نخدع أنفسنا إذا اعتقدنا بأنه لا ضرر من الأفكار الخاطئة طالما أنها لا تخرج إلى حيّز التنفيذ. ولكن حتى العهد القديم يخبرنا أنه: كما شعر في نفسه هكذا هو (أمثال 7:23).

إن كل واحد منا مسئول وقادر أن يستأسر كل فكر إلى طاعة المسيح (2 كورنثوس 5:10). وعندما نخضع أنفسنا لإرادة المسيح المعلنة في كلمته عندئذ تصبح حياتنا تعبيرا عمليا ويوميا عن المسيح الساكن فينا.

يعتمد الإيمان - لنوال الخلاص، وأيضاً لنمونا المسيحي - على سماع كلمة الله (رومية 17:10). وهذا يحدث نتيجة لعمل مزدوج للروح القدس. فهو يعطينا روحه القدوس عند التجديد، وهو يقدسنا يوميا وبتزايد عندما نميت بالروح أعمال الجسد [أي الأعمال التي يحثنا بها الجسد] (رومية 13:8).

يهتم الشخص المرائي بالسلوك الخارجي فقط وبالكلام الذي يبدو متدينا أمام الآخرين. أما المسيحي الحقيقي فعنده الرغبة الصادقة في إرضاء الرب. فالمسيحيون الحقيقيون يرفضون الأفكار الشريرة والإغراءات الشهوانية، ويحزنون بسبب الكبرياء أو عدم القناعة. إنهم يبتغون التحرر من قساوة القلب، ولا يرضون بشيء أقل من التقوى الداخلية. فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح (رومية 5:8).

شواهد مرجعية: مرقس 6:7-7 (انظر إشعياء 13:29)؛ مرقس 10:7 (انظر خروج 12:20؛ 17:21؛ لاويين 9:20؛ تثنية 16:5).

أفكار من جهة الصلاة: اطلب من الرب أن تكون رغبتك هي الأمور التي تسره (مزمور 4:37).

اقرأ مرقس 8 -- 9

أثناء الأيام الستة السابقة كان يسوع وتلاميذه في قيصرية فيلبس (قارن مع متى 13:16؛ 1:17). ويؤكد مرقس ذلك قائلا: وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وحدهم، وتغيّرت هيئته قدامهم (مرقس 2:9).

كانت قيصرية فيلبس تقع بالقرب من سفح جبل عال، هو جبل حرمون. ومع أنه جرت العادة على ذكر جبل تابور بالارتباط مع حادثة التجلي، إلا أن هذا الجبل يبلغ ارتفاعه حوالي 1800 قدما فقط ويقع على بعد سفر ثلاثة أيام نحو الجنوب وعلى الجانب الآخر من بحر الجليل. ولكن لم يأت على ذكر أي تغيير في الموقع إلا بعد التجلي، إذ نقرأ: وخرجوا من هناك واجتازوا الجليل ... وجاء إلى كفرناحوم (مرقس 30:9،33).

فلمدة ستة أيام كانوا مجاورين للسلطة الرومانية والديانات الوثنية. ورقم 6 يشير إلى الإنسان ومجهوداته. واليوم التالي، كان هو اليوم السابع، أي عدد الكمال، إشارة إلى المسيح المتجلي بكل مجده، في حضور موسى وإيليا. وكان إيليا قد صعد إلى السماء في مركبة (2 ملوك 11:2) دون أن يذوق الموت، أما موسى فمع أنه مات إلا أن جسده ظل تحت رعاية خاصة من ميخائيل رئيس الملائكة (يهوذا 9:1).

وقد أرشد الروح القدس متى أن يكتب قائلا: وأضاء وجهه كالشمس (متى 2:17)؛ أما لوقا فقد ألهمه الروح أن يقول: صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضا لامعا (لوقا 29:9)، أي أنه أشرق بمجد ألوهيته الذي ليس له مثيل.

ويبدو أن الهدف من هذه الحادثة اللحظية هو الاحتفال بذكرى آلام المسيح - موته وقيامته - وتكريم المسيا، مخلص العالم الموعود به، وذلك لأنهما تكلما عن خروجه [أي رحيله] الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم (لوقا 31:9). وما أنسب أن ينضم هذان الرجلان إلى يسوع الذي قال: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل (متى 17:5).

فلقد كان أمام الرسل الثلاثة الرجلان العظيمان اللذان يمثلان الناموس والأنبياء. لقد كان موسى وإيليا من أعظم رجال الله، ولكن يسوع كان هو المكمل للناموس والأنبياء. إن المسيح، بحكم كماله المنزه عن الخطية كابن الله المولود من العذراء، يفوق بما لا يقاس أتقى الرجال في التاريخ. وهكذا فإن جميع القادة يتضاءلون عندما يصبح يسوع ربا على حياتنا.

ولا زال الصوت من السماء يقول: هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا (مرقس 7:9). وقد أخطأ بطرس حين اقترح بأن يصنعوا ثلاث مظال واحدة لموسى وواحدة لإيليا وواحدة ليسوع. وهكذا فإن أناسا كثيرين يقعون في خطأ مشابه ويضيعون على أنفسهم أفضل ما أعده الرب لهم وذلك بإعطاء أهمية كبيرة للوعاظ المشهورين والكتب والشرائط الرائجة بدلا من أن يطلبوا المسيح من خلال كلمته. ومهما كان الناس نافعين وأتقياء إلا أنهم لا يستطيعون أن يحلوا محل القراءة الشخصية لما قاله الله في الكتاب المقدس - الذي هو المصدر الوحيد للحياة الروحية والنمو الروحي!

في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله (يوحنا 1:1).

شواهد مرجعية: مرقس 18:8 (انظر حزقيال 2:12)؛ مرقس 44:9،46،48 (انظر إشعياء 24:66).

أفكار من جهة الصلاة: صل أن تكون قراراتك دائما من أجل إرضاء الرب (مزمور 24:73).

اقرأ مرقس 10 -- 11

في يوم الاثنين السابق للصلب، وهو اليوم التالي لدخوله منتصرا إلى أورشليم، دخل يسوع إلى ساحة الهيكل وابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، ولم يدع أحدا يجتاز الهيكل بمتاع [إذ كانوا يتخذون من ساحة الهيكل طريقا مختصرا للمرور] (مرقس 15:11-16).

فاغتاظ رؤساء الكهنة وأرسلوا وفدا ممثلا للفئات الثلاث في السنهدريم - رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ. فاقتحموا الحديث،إذ كان يسوع يعلم، وطلبوا منه أن يفسر سلوكه: بأي سلطان تفعل هذا ومن أعطاك هذا السلطان؟ (متى 23:21). كانوا يشيرون إلى دخوله الانتصاري وقبوله لهتافات الشعب القائلين أوصنا وتسبيحهم له كالمسيا. فلقد سمح لنفسه أن يتقبل التحية الجهارية بصفته المسيح ابن داود. وقد أعطى نفسه أيضا السلطة العليا على الهيكل إذ طرد الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل. فبأي سلطان كان يسلبهم حقهم في السماح للصيارفة بممارسة عملهم وللتجار أن يعرضوا بضائعهم في رواق الأمم؟ لقد كان يعطل مصالحهم!

كان العابدون قادمين إلى أورشليم من مسافة بعيدة، وحيث أنهم كانوا تحت السلطة الرومانية، فلم يكن لديهم سوى العملة الرومانية. وكان ينبغي أن يستبدلوا النقود التي لديهم بالعملة اليهودية مقابل نسبة إضافية معينة حيث أنه لا ينبغي تقديم نقود وثنية في خزانة الهيكل. ومن أجل "راحة" الناس القادمين من مختلف الأماكن، سمح الكهنة ببيع الحيوانات اللازمة من أجل الذبائح وأيضا الدقيق والبخور والملح وسائر الأشياء المطلوبة لعيد الفصح وعيد الفطير.

ولكن يسوع لم ينخدع بجشعهم، ومرة أخرى اقتبس من العهد القديم بصفته المرجع الذي يتصرف على أساسه، فقال: أليس مكتوبا بيتي بيت صلاة يدعى لجميع الأمم؟ وأنتم جعلتموه مغارة لصوص (مرقس 17:11؛ إشعياء 7:56؛ إرميا 11:7). لقد أتى السيد بغتة إلى هيكله، طبقا للنبوة، ليطهره (ملاخي 1:3-3).

لقد أصبح من الواضح أن الرؤساء الدينيين كانوا يتجاهلون عمدا الأدلة النبوية العديدة المتحققة، وأيضا المعجزات التي كانت تحدث في الهيكل. لقد أعماهم تعصبهم وكبرياؤهم ونفوذهم ومركزهم، ولذلك كان اهتمامهم الأول هو حماية مصالحهم المادية. إن هذه الحادثة تعلمنا درسا بأن كل من يقف إلى جانب الحق كما فعل المسيح عندما طهر الهيكل لا بد أن يتعرض للمقاومة.

يوجد احتياج اليوم إلى تطهير الهيكل، إلى شخص يقوم ويصنع سوطا من حبال ويطرد به التقاليد والأساليب العالمية المنتشرة في وسط الخدمة المسيحية. واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في برغامس: هذا يقوله الذي له السيف الماضي ذو الحدين: ... أن عندك هناك قوما متمسكين بتعليم بلعام.. أن يلقي معثرة.. ويزنوا.. فتب، وإلا فإني.. أحاربهم بسيف فمي (رؤيا 12:2-16؛ أيضا عدد 1:25-2؛ 16:31).

شواهد مرجعية: مرقس 6:10 (انظر تكوين 27:1؛ 2:5)؛ مرقس 7:10-8 (انظر تكوين 24:2)؛ مرقس 19:10 (انظر خروج 12:20-16؛ تثنية 16:5-20)؛ مرقس 9:11 (انظر مزمور 26:118)؛ مرقس 17:11 (انظر إشعياء 7:56؛ إرميا 11:7).

أفكار من جهة الصلاة: صل إلى الرب على الدوام إلى أن تحصل على إجابة (لوقا 1:18،7-8).

اقرأ مرقس 12 -- 13

إن العلاقة التي كانت لإسرائيل مع الله الواحد الحقيقي، فصلتهم عن جميع شعوب الأرض لكي تضمن لهم أن يكونوا شعبا مزدهرا وناجحا وقويا لو أنهم ظلوا أمناء لله. وهذا الحق المجيد موضح في أهم خطاب لموسى: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد (تثنية 4:6). فلقد دُعي شعب إسرائيل ليس ليعلن هذا الحق للعالم الوثني فقط، بل أيضا لكي يدين الآلهة الغريبة التي في العالم ويدمر مراكز عبادتها.

وكلمة Elohenu تعني إلهنا. وجمعها هو Eluhim. فهذا هو إذن الإعلان المقدس المطلوب من إسرائيل أن ينادي به: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا (في صيغة الجمع)، رب واحد. والكلمة العبرية "رب واحد" تتضمن إعلانا صريحا بأن الرب هو جمع في واحد. فكلمة "واحد" echad تعبّر عن وحدة مجموعة. فهي لا تعني الوحدة المطلقة بل الوحدة المركبة، على سبيل المثال "عنقود واحد من العنب" أو "أسرة واحدة". فالكلمة العبرية "واحد" التي تعني الوحدة المطلقة هي yacheed وهذه الكلمة لا تستخدم أبدا للتعبير عن الله مع أنها تستخدم في الكتاب المقدس للتعبير عن معان أخرى.

وهذا يكشف كذب جميع الذين يرفضون ألوهية يسوع المسيح - خالق جميع الأشياء (يوحنا 1:1-2؛ تيطس 13:2؛ كولوسي 16:1-17). وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يساعدنا على فهم الثالوث - الله الآب، الله الابن، الله الروح القدس. لذلك استطاع يسوع أن يقول: من رآني فقد رأى الآب (يوحنا 9:14-11،20؛ 18:5،23؛ 45:12).

عندما سأله أحد الكتبة عن ما هي الوصية العظمى، اقتبس يسوع هذه الأقوال: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى (مرقس 29:12-30). وقوله اسمع يا إسرائيل يشير إلى أن إجابة يسوع لم تكن موجهة فقط إلى هذا الشخص، ولكن إلى جميع الذين يفتشون عن الحق في كلمة الله (إشعياء 2:55). وقد مدح يسوع هذا الرجل على إجابته بأن: محبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل والنفس ومن كل القدرة ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح (مرقس 33:12). لقد كان هذا الكاتب يعرف أن الطباع والسلوك لها أهمية قصوى.

يوجد ميل لإعطاء الاهتمام الأكبر للسلوك الخارجي، مثل "خدمات العبادة"، والأنشطة الدينية، مع إهمال أثقل الناموس [أي أهم الوصايا] - الحق والرحمة الإيمان (متى 23:23) - أي أن يكون الإنسان لطيفا وصبورا ومحبا. والرب يذكرنا أن المحبة هي تكميل الناموس. فإن أول كل الوصايا تتلخص في كلمة واحدة هي: المحبة. وإذا قلنا أننا نحب الرب فهذا معناه أننا نعبده حقا بكل كياننا خاضعين لكلمته. والمحبة تعبر عن نفسها بطرق عملية. فإذا كانت محبتنا للرب حقيقية، فإنها ستظهر في لغتنا وتصرفاتنا مع الذين نتعامل معهم، وسنقوم مثله بمساعدة الآخرين.

بسبب مقامنا السامي في المسيح فإن لنا امتيازات أكثر بكثير من تلك التي كانت لإسرائيل الأرضي: وهو أن نعرف إله إسرائيل الواحد ظاهرا في الجسد، ملكنا الذي سيأتي سريعا والذي قال: أنا والآب واحد ... الآب في وأنا فيه (يوحنا 30:10،38).

شواهد مرجعية: مرقس 1:12 (انظر إشعياء 2:5)؛مرقس 10:12-11 (انظر مزمور 22:118-23)؛ مرقس 19:12 (انظر تثنية 5:25)؛ مرقس 26:12 (انظر خروج 3:3-6)؛ مرقس 29:12 (انظر تثنية 4:6)؛ مرقس 30:12 (انظر تثنية 5:6)؛ مرقس 31:12 (انظر لاويين 18:19)؛ مرقس 32:12 (انظر تثنية 35:4)؛ مرقس 33:12 (انظر تثنية 5:6)؛ مرقس 36:12 (انظر مزمور 1:110)؛ مرقس 14:13 (انظر دانيال 27:9؛ 31:11؛ 11:12)؛ مرقس 24:13 (انظر إشعياء 10:13)؛ مرقس 26:13 (انظر دانيال 13:7)؛ مرقس 27:13 (انظر تثنية 4:30؛ زكريا 6:2).

أفكار من جهة الصلاة: اطلب من الرب أن يرحمك وأن يغفر لك خطاياك (مزمور 6:25-7).

اقرأ مرقس 14 -- 16

كان قد مر شهر على إقامة يسوع للعازر من الأموات وبسبب هذه المعجزة كان السنهدريم قد قرر أن يقتل يسوع (يوحنا 53:11). ولكن شعبية يسوع حالت دون القبض عليه لأنه كان محاطا بعدد كبير من المعجبين (لوقا 2:22؛ مرقس 37:12).

كان الوقت هو مساء السبت قبل الأحد الذي حدث فيه الدخول الانتصاري إلى أورشليم (يوحنا 2:12،12). وكان سمعان، وهو أبرص سبق أن شفاه يسوع، يعيش في بيت عنيا، وكان قد دعا يسوع وتلاميذه إلى بيته لتناول العشاء (مرقس 3:14). وبينما كانوا متكئين لتناول الطعام، سكبت مريم قارورة طيب على رأس يسوع (يوحنا 1:12-8؛ متى 6:26-13). وكان هذا الطيب الغالي من الناردين الخالص ويقدر ثمنه بثلاث مائة دينار - أي ما يقرب من أجر العامل في سنة كاملة (متى 2:20). فاغتاظ يهوذا قائلا: لماذا كان تلف الطيب هذا؟ (مرقس 4:4؛ أيضا يوحنا 4:12-5).

من الواضح أن التقدمة كانت كبيرة، حيث أننا نقرأ أن الأختين كانتا تعملان في بيتهما وأن مرثا كانت تخدم أثناء هذا العشاء (يوحنا 2:12؛ لوقا 40:10). فبالطبع كان كل فلس له قيمته عندهما. ومع ذلك فلقد سكبت مريم كنزها على رأس يسوع. ولكن في نظر يهوذا، كان العمل الذي قامت به مريم إتلافا عظيما، بل إن بعض التلاميذ اتفقوا معه أيضا في هذا الرأي. فالكتاب يقول أنهم أيضا اغتاظوا (متى 8:26-9). ولكن ما هو "الإتلاف"؟

الإتلاف يعني، من بين معان أخرى، إعطاء أكثر من المطلوب. فإذا كانت سلعة تباع بدولار، ولكني دفعت فيها عشرة دولارات، فهذا إتلاف للمال. وإذا كان عمل ما يمكن إكماله في يوم واحد، ولكن اليد العاملة قضت فيه خمسة أيام، فإن هذا إتلاف للوقت والمال.

ولو كان هذا الطيب قد بيع بثلاث مائة دينار، لكان يهوذا هو المستفيد الوحيد لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده (يوحنا 6:12). ففي نظر يهوذا الذي لم يختبر أبدا سيادة الرب يسوع، كل ما يسكب على الرب هو إتلاف. وهذا هو موقف العالم الرافض للمسيح من جهة أي خدمة أو تقدمة تقدم ليسوع. ولكن يجب أن نعرف أيضا أننا لا نعتبر أننا قد قدمنا للرب ما يليق به حقا إذا كانت الخدمة التي نقوم بها لا تكلفنا شيئا.

وحيث أن يهوذا هو الذي تكلم علنا ضد تقدمة المحبة التي قدمتها مريم، فلقد وجه يسوع إليه الكلام حين قال: اتركوها، لماذا تزعجونها؟ قد عملت بي عملا حسنا (مرقس 6:14).

فامتلأ يهوذا بالمرارة بسبب ضياع فرصة بيع الطيب والاستيلاء على ثمنه بالإضافة إلى التوبيخ الشديد من الرب يسوع له والإكرام العظيم الذي منحه لمريم، فقام في الحال ومضى إلى رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم (مرقس 10:14؛ أيضا لوقا 3:22)، قائلا: ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم؟ (متى 15:26). لقد توضّح سبب بقاء يهوذا بين الاثني عشر وهو: "ما الذي يمكنه أن يجتنيه لنفسه؟"

وقد ظن رؤساء الكهنة أنهم يجب أن يؤجلوا خطتهم للتخلص من يسوع حتى بعد عيد الفصح. ولكن العرض الذي قدمه لهم يهوذا، وهم في وسط حيرتهم، أتاح لهم فرصة التعجيل بقتله. ولما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة (مرقس 11:14). ويضيف متى قائلا أن الثمن كان ثلاثين من الفضة (متى 3:27).

هذا كله كان قد سبق وتنبأ به النبي القائل: قلت لهم ... أعطوني أجرتي ... فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة (زكريا 12:11).

شواهد مرجعية: مرقس 27:14 (انظر زكريا 7:13)؛مرقس 62:14 (انظر مزمور 1:110؛ دانيال 13:7)؛ مرقس 24:15 (انظر مزمور 18:22)؛ مرقس 28:15 (انظر إشعياء 12:53)؛ مرقس 29:15 (انظر مزمور 7:22-8)؛ مرقس 34:15 (انظر مزمور 1:22)؛ مرقس 19:16 (انظر مزمور 1:110).

أفكار من جهة الصلاة: صل إلى الرب بشفاه صادقة (مزمور 1:17).

 

عودة للفهرس