الخضوع ومشيئة الله

تمهيد

الفصل الأول: تعريف الخضوع

الفصل الثاني: مجالات الخضوع

الفصل الثالث: حتمية الخضوع

الفصل الرابع: دوافع الخضوع

الفصل الخامس: أسلوب الخضوع

الفصل السادس: حدود الخضوع

الفصل السابع: تأمين الخضوع

الفصل الثامن: ثمار الخضوع

الفصل التاسع: خطورة عدم الخضوع

الفصل العاشر: اعتراضات والرد عليها

خاتمة

حمل هذا الكتاب

عودة للصفحة الرئيسية

الفصـل الأول أولاً: تعريف الخضوع



الخضوع هو موقف إيجابـي متـزن بين موقفين متناقضين هما التمرد والخنوع. وسوف نتناول كل موقف من هذه المواقف بالتفصيل فيما يلي: 


أولاً: التمرد


التمرد هو الثورة على السلطة، وعدم قبول أوامرها، وعدم طاعتها. ويصدر التمرد عن قلب متكبر، وذات عنيدة، وإرادة عاصية، ونفس شريرة، كما يقول الكتاب "الشرير إنما يطلب التمرد فيطلق عليه رسول قاسى" (أم11:17) 



ولقد وضح ارميا النبي ما في التمرد من عصيان بقوله "وصار لهذا الشعب قلب عاصٍ ومتمرد. عصوا ومضوا" (أر23:5) 



ويربط الكتاب المقدس بين التمرد والسحر والعرافة وعبادة الأوثان على أنها جميعا من عمل الشيطان فيقول "لأن التمرد كخطية العرافة والعناد كالوثن و الترافيم " (1صم23:15) 

ومن أمثلة التمرد في الكتاب المقدس:



1- شاول الملك:

يذكر الكتاب المقدس قصة التعدي التي سقط فيها شاول الملك بالخروج على ترتيب الله والتعدي على حقوق السلطة المفوضة من قبل الرب فيقول "مكث (شاول) سبعة أيام حسب ميعاد صموئيل ولم يأت صموئيل إلى الجلجال والشعب تفرق عنه. فقال شاول قدموا إليَّ المحرقة وذبائح السلامة. فأصعد المحرقة. وكان لما انتهى من إصعاد المحرقة إذا صموئيل مقبل فخرج شاول للقائه ليباركه فقال صموئيل: ماذا فعلت؟ فقال شاول لأني رأيت أن الشعب قد تفرق عني وأنت لم تأت في أيام الميعاد والفلسطينيون متجمعون في مخماس فقلت الآن ينـزل الفلسطينيون إلى الجلجال ولم أتضرع إلى وجه الرب فتجلدت وأصعدت المحرقة. فقال صموئيل لشاول قد انحمقت لم تحفظ وصية الرب إلهك التي أمرك بها … الآن مملكتك لا تقوم" (1صم8:13ـ14)



ويلاحظ أنه رغم كل هذه المبررات الجبرية التي ذكرها شاول لكن الحكم كان عليه بأنه ارتكب حماقة لأنه تعدى ترتيب الله الذي فوض السلطة لصموئيل النبي الكاهن فقط أن يقدم الذبيحة، ونتيجة لتمرده زالت مملكته.



2- مريم وهارون:

يذكر الكتاب المقدس أيضا قصة تمرد مريم وهرون على موسى "فقالا هل كلم الرب موسى وحده؟ ألم يكلمنا نحن أيضا !!…فحمى غضب الرب عليهما ومضى. فلما ارتفعت السحابة عن الخيمة إذا مريم برصاء كالثلج فالتفت هرون إلي مريم وإذا هي برصاء … فصرخ موسى إلى الرب قائلاً اللهم اشفها فقال الرب لموسى ولو بصق أبوها بصقاً في وجهها أما كانت تخجل سبعة أيام؟ تحجز سبعة أيام خارج المحلة وبعد ذلك ترجع" (عدد1:12ـ15) ويلاحظ عدم تهاون الله مع المتمردين على السلطة التي يعينها.

3- قورح وداثان وأبيرام:

وهذه صورة أخرى من صور التمرد فقد أخذ هؤلاء الثلاثة "يقاومون موسى مع أناس من بنى إسرائيل مائتين وخمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى وهرون وقالوا لهما كفاكما.

إن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفى وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب ... وكلم الرب موسى وهرون قائلا افترزوا من بين هذه الجماعة فإنـي أفنيهم … وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم … فنـزلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية وانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة) (عدد1:16ـ33)



كان هذا تمرد من قورح وداثان وأبيرام ضد ترتيب الله الذي اختار موسى النبي لتتميم هدفه، وهكذا كانت عقوبتهم أي عقوبة تمردهم، إذ فتجت الأرض فمها وابتلعتهم وهم أحياء. ياللهول!! 



4- ديوتريفوس : 

يذكر يوحنا الحبيب رسول المحبة قصة تمرد ديوتريفوس هذا قائلا "كتبت إلى الكنيسة ولكن ديوتريفوس الذي يحب أن يكون الأول بينهم لا يقبلنا. من أجل ذلك إذا جئت فسأذكره بأعماله التي يعملها هاذرا علينا بأقوال خبيثة وإذ هو غير مكتف بهذه لا يقبل الاخوة ويمنع أيضا الذين يريدون، ويطردهم من الكنيسة. أيها الحبيب (الشيخ غايس) لا تتمثل بالشر بل بالخير لأن من يصنع الخير هو من الله ومن يصنـع الشر فلم يبصر الله" (3يو11:9) 



والملاحظ أن القديس يوحنا بكل ما عرف عنه من رقة ومحبة نراه صارماً حازماً في تعبيراته شديداً في مواجهة تمرد هذا الرجل. 



هذه بعض صور التمرد التي أوردها الكتاب المقدس ويتضح منها روح الثورة على السلطة في عناد وعصيان وتكبر. إنه تطرف يساري معارض، وهناك تطرف على النقيض، تطرف يمـينى مريض هو الخنوع. 



ثانياً: الخنوع



نركز حديثنا عن الخنوع في نقاط بارزة:



1ـ مفهوم الخنوع: 

الخنوع هو الامتـثال والاستسلام في مذلة لاستجداء رضى الناس وخاصة أصحاب السلطة بأية وسيلة ولو على حساب المبادئ والقيم ووصايا الرب.



ولعل موقف لوط من أهل سدوم كان موقف الخنوع، فقد أحاطوا بالبيت وقالوا له "أين الرجلان (الملاكان) اللذان دخلا إليك الليلة. أخرجهما إلينا لنعرفهما (أي ليفعلا الشر بهما)، فخرج إليهم لوط إلى الباب واغلق الباب وراءه وقال لا تفعلوا شراً يا اخوتي. هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلاً أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم" (تك5:19ـ8) فقد حاول لوط أن يرضى أهل سدوم بأي وسيلة على حساب المبادئ والقيم بتعريض ابنتيه للرذيلة. إنه موقف الخنوع.

2- دوافع الخنوع: 

والوقع أن الخنوع يصدر عن نفسية مريضة كئيبة يائسة، فاقدة الثقة محصورة في موقف الضعف يرجفها الخوف فلا تملك إلا الخنوع والاستسلام مثلما حدث من بنهدد ملك آرام بعد هزيمته أمام آخاب ملك إسرائيل، فهرب ودخل المدينة من مخدع إلى مخدع. وعمل بنصيحة مشيريه فلبس المسوح وشد حبالاً على رأسه وأرسل إلى ملك إسرائيل وقال له "إني أرد المدن التي أخذها أبى من أبيك، وتجعل لنفسك أسواق في دمشق فقطع له عهداً وأطلقه" (1مل30:20ـ34) كان هذا العهد من منطلق الخنوع لا الخضوع بدليل أنه بعد سنوات ثلاث اكتشف آخاب أن ملك آرام لم يفِ بعهده وأنه لم يعطه راموت جلعاد فقامت الحرب بينهما من جديد. (1مل1:22ـ40)



3- أسلوب الخنوع: 

فالخنوع قد يكون له مظهر الخضوع ولكن ليس له جوهره من صدق وأمانة وإخلاص. ولعل قصة حنانيا وسفيرة كانت أيضاً خنوعاً لا خضوعاً وانكشف كذبـهما وعدم صدقهما (أع1:5ـ10) وكما أن الخنوع قد يكون نوعاً من أنواع معاقبة الإنسان لنفسه، نراه في بعض الأحيان الأخرى أسلوب من الأساليب التي يجيدها الضعفاء لتحقيق الذات بتملق الأقوياء والصعود علي أكتافهم كما يفعل نبات العليق الضعيف في تسلقه لشجرة الأرز العملاق. ولعل صدقيا بن كنعنة كبير الأنبياء الكذبة مثل واضح للتملق حفاظاً علي مركزه في بلاط آخاب الملك فـتنبأ له كذباً بالانتصار، وعندما جاء نبي الله ميخا وتنبأ بهزيمة الملك، تقدم صدقيا وضربه علي فكه وقال "من أين عبر روح الرب مني ليكلمك" (1مل24:22) إنه الخنوع بتملق الأقوياء لتحقيق الذات.


ثالثاً: الخضوع


أما الخضوع السليم فهو:

1- موقف إيجابي متزن بين التمرد والخنوع.

2-الخضوع هو تصرف روحاني يرى الله في المشهد بينك وبين السلطة، أما التمرد والخنوع فهما تصرفات بشرية مع السلطة في حد ذاتها دون اعتبار لمشيئة الله. 

3-الخضوع هو تسليم لمن يقضى بعدل (بط23:2) بصفته المسئول عن مصير المؤمن، أما التمرد فهو محاولة بشرية ممتلئة بالحقد والمرارة والعنف لتتخلص من السلطة التي تلعب بمصيرك. في حين أن الخنوع هو استسلام يائس مع محاولات بشرية للتملق وتبرير المواقف لأولئك الذين يلعبون بمصيره حتى يشفقوا عليه. 

ليس كذلك الخضوع، فمنطلق الخضوع هو أن مصير المؤمن ليس متروكا لأهواء الناس يلعبون به. بل هو محفوظ في يد القدير كما قال معلمنا بولس الرسول لهذا السبب أحتمل هذه الأمور أيضا لكنني لست اخجل لأنـني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم. (2تى3:1)



4- إن من أروع الأمثلة على الخضوع بلا خنوع أو تمرد هو مثل ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح في موقفه أمام رؤساء الكهنة وبيلاطس البنطي. فما كان هناك أي أثر للتمرد (وحاشا للسيد المسيح له المجد من ذلك) وإلا لكان قد أعلن الحرب وحرض التلاميذ على الثورة لكي يخلص نفسه، بل على العكس نراه في البستان يقول لبطرس الذي استل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه: "رد سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون. أتظن أنى لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبـى فيقدم لي أكثر من أثنـى عشر جيشاً من الملائكة" (مت52:26ـ53) 

وموقف الرب يسوع المسيح لم يكن فيه شيئاً من الخنوع (وحاشا لرب المجد من ذلك) وإلا لحاول أن يستعطف العسكر وبيلاطس ويبرر موقفه وتصرفاته حتى يعفوا عنه، ولكن الرب يسوع المسيح له المجد كان قد قضى الليل كله في صلاة وخضوع مطلق لمشيئة الآب قائلاً (ولكن لا لتكن إرادتـي بل إرادتك) (لو42:22) 

فما كان بيلاطس والكهنة والعسكر في نظره سوى آلات في يد الآب يتمم بها مشيئته لأنه "سلم لمن يقضى بعدل" (1بط23:2)

هذه هي أروع الأمثلة عن الخضوع بلا خنوع أو تمرد.

5- ولنا أيضا في قدوة معلمنا بولس الرسول الذي سار على منهج سيده مثلا آخر للخضوع بلا خنوع أو تمرد. ففي تعاملاته مع السلطات لم يتصرف قط بتمرد وإلا كنا نلمس روح المرارة في كتاباته عن السلطات ولكنه علمنا عن الخضوع لها على أنها مرتبة من الله (رو1:13ـ8) 



وكذلك لم يكن خانعاً وإلا كان قد حاول استعطافهم ليطلقوه، ولكننا نراه يتكلم أمام فيلكس عن الأيمان بالمسيح بكل ثـقة (أع24:24ـ25) ويحتج أمام أغريباس بكل حكمة ومحبة (أع1:26ـ32) فلم يكن معلمنا بولس الرسول في خضوعه ممسوح الشخصية أي إنسان بلا شخصية بل كان ينظر إلى نفسه في المسيح يسوع بنظرة إيجابية عالما قيمة هذه النفس عند الرب لذلك يقول "لهذا السبب أحتمل هذه الأمور أيضا لكنني لست اخجل لأنـي عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم" (2تى12:1)



6- والواقع أن السلطات البشرية كالآلات (كالملزم والمطرقة والأزميل) في يد فنان ماهر ليكسر بها الماس ويصقله، أو لينحت بها تمثال المرمر ليكون على صورة السيد المسيح. فالمؤمن في خضوعه للسلطات التي يستخدمها الله لخيره وصقله وتشكيله ينمو في التشبه بالسيد المسيح له المجد. وما أجمل تعبـير المرنم "أدخلتنا إلى الشبكة جعلت ضغطاً على متوننا. ركبت أناساً على رؤوسنا. دخلنا في النار والماء ثم أخرجتنا إلى الخصب" (مز11:16).

لعلك من كل ما سبق تستطيع أن تدرك معني الخضوع والفرق بينه وبين التمرد والخنوع.


من أقوال الآباء القديسين

عن مفهوم الخضوع



يقول القديس غريغوريوس السينائي:

[لا يوجد صعود إلى المساكن الإلهية بواسطة السلم القصير للفضائل أقصر من إخضاع الانفعالات الخمسة المعادية للطاعة وهى: 

التمرد، المجادلات، وإرضاء الذات، وتبرير النفس، وغرور الذات المؤذي. 



هذه هي أطراف وأعضاء الشيطان المهلك الذي يلتهم المؤمنين الزائفين ويلقى بهم إلى هوة الثعبان. العصيان هو فم الجحيم، والمحاجاة لسانه المشحوذ كالسيف، وإرضاء الذات أسنانه الحادة، وتبرير النفس زوره (حلقه)، والغرور المؤذي الذي يطرح الإنسان إلى جهنم هو جوفه الذي يبتلع كل شئ. 



ولكن هذا الذي عن طريق الطاعة يقهر الأول، وبضربة واحدة يقضي على الباقي، وبخطوة واحدة يصل إلى السماء، هذه هي المعجزة غير المرئية التي تجل عن الوصف المعد لنا من إلهنا إله الرحمة الذي أعطانا إمكانية الوصول المباشر إلى السماء بواسطة فضيلة واحدة أو بالحري وصية مفردة، تماما كما أننا بواسطة خطية مفردة نزلنا ولا نزال ننـزل إلى الجحيم]. (القديس غريغوريوس السينائى) [كتابات من الفيلوكاليا عن صلاة القلب – ترجمة ميخائيل توفيق – ص 74].