الفصـل التاسع خطورة عدم
الخضوع
إن نتائج عدم الخضوع مريرة للغاية بل مهلكة للنفس المتمردة، وهذه بعض تلك
النتائج الخطيرة:
أولاً: الرؤية المغلوطة:
من الثابت حقاً أن روح التمرد وعدم الخضوع لا تستطيع أن ترى الأمور على
حقيقتها، وقد تقلب الحقائق والأوضاع متعمدة حتى تبرر لنفسها الثورة، وحتى
تحمل غيرها على العصيان.
ونجد في الكتاب المقدس مثلاً واضحاً عن ذلك في تمرد قورح ودوثان وأبيرام
الذين في ثورتهم ضد موسى رأوا الحقائق (موروبة) أي منحرفة، وإليك بعض تلك
الانحرافات أو المغالطات:
1- فقد نسوا أن أرض مصر بالنسبة لهم كانت أرض عبودية حيث السخرة، وأن
طعامهم فيها كان القثاء والكرات والبصل والتوم (عدد5:11) ولكنهم في
ثورتهم وتمردهم صارت رؤيتهم موروبة فقالوا لموسى "أقليل أنك أصعدنا من
أرض تفيض لبنا وعسلاً" (عدد13:16) فهل كانت أرض مصر لهم أرض لبن وعسل
حقا؟!
2- وبعين التمرد هذه لم يروا أن موسى قد أخرجهم ليحررهم من العبودية
ويطلقهم إلى أرض كنعان، وإنما بالرؤية الموروبة رأوا حقيقة مغلوطة فقالوا
لموسى "إنك أصعدتنا حتى تترأس علينا ترأساً" (عدد13:16) فهل كانت هذه
دوافع موسى حقاً؟ هذا الرجل الذي حاول أن يعتذر للرب مراراً عن هذه
المسئولية! ولكن هكذا روح التمرد لا ترى الأمور على حقيقتها.
3- والعجيب أنهم يتهمون موسى النبى القديس بأنه يغش الشعب كله ويضحك
عليهم فيقولون له "هل تقلع أعين هؤلاء القوم" (عدد14:16)
يالخطورة التمرد، فالإنسان في ثورته تختل موازينه، وتتعوج أحكامه ويرى
الحقائق مقلوبة، ويسقط في الإدانة. وإلى جوار ذلك هناك:
ثانياً: الحصاد المرير:
ما أصدق قول معلمنا بولس الرسول "إن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا"
(غل7:6) فمن يعامل السلطات التي فوقه بروح التمرد والعصيان، فلن يجنى من
الذين يقودهم سوى هذا الحصاد المرير من التمرد أيضا والعصيان، "لأنه
بالكيل الذي تكيلون يكال لكم ويزاد لكم" (مر24:4)
فكما عامل يعقوب أباه اسحق بالخداع والكذب هكذا عامله أبناؤه بنفس
الطريقة إذ كذبوا عليه قائلين عن يوسف أن وحشاً افترسه. وجنى يعقوب ثمار
ما زرع، وتجرَّع من نفس الكيل الذي كال به لأبيه. (تك37:27)
ولهذا نستطيع أن ندرك ما في قول قائد المائة من حكمة عندما قال: "أنا
أيضا إنسان مرتب تحت سلطان لي جند تحت يدى. وأقول لهذا اذهب فيذهب ولآخر
ائت فيأتي ولعبدي افعل هذا فيفعل" (لو8:7)
والحكمة في هذا الكلام هي أن قائد المائة يوضح أمرين:
1- أنه هو نفسه تحت سلطان أي أنه خاضع للسلطان الذي فوقه لقائد الألف
مثلا، أما هو فقائد مائة فقط.
2- والأمر الثاني هو أنه يوضح أن له سلطان على الجنود الذين تحت يده.
والواقع أن سلطة قائد المائة على الجنود الذين تحت يده مستمدة من خضوعه
هو نفسه إلى السلطة التي فوقه. فلو تمرد قائد المائة على السلطة التي
فوقه لحدث حتما تمرد عليه من الجنود الذين تحته.
والكتاب يزخر بالأمثلة على هذه الحقيقة "إن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد
أيضا" فمنها ما ذكره الكتاب عن يربعام الذي تمرد على سليمان الملك كما
يقول الكتاب "رفع يده على الملك" (1مل26:11) وبعد أن انشقت المملكة كان
يربعام هذا أول ملك على الأسباط ثائراً ضد رحبعام ابن سليمان (1مل12)
واستقرت مملكة يربعام المتمرد ولكن ماذا حدث؟ بدأ يجني الحصاد المرير فقد
قام متمرد من المملكة يدعى بعشا بن أخيا ضد ابن يربعام الذي ملك عوضا عن
أبيه وقتله ويصف الكتاب صورة هذا التمرد بقوله "وفتن عليه بعشا بن أخيا
.. وأماته .. ولما ملك ضرب كل بيت يربعام. لم يبق نسمة ليربعام حتى
أفناهم" (1مل27:15ـ29) وما حدث من بعشا هذا ضد يربعام، جنا ثمره المرير
عندما قام عبده زمرى بحركة تمرد مماثلة وقتل ابن بعشا وملك عوضا عنه ويصف
الكتاب حركة التمرد هذه بقوله "فدخل زمري وضربه فقتله وملك عوضاً عنه.
وعند تملكه وجلوسه على كرسيه ضرب كل بيت بعشا. لم يبق له بائلا بحائط (أي
كلب)" (1مل10:16ـ11)
وما حدث من زمرى ضد بعشا. جنا ثمره المرير عندما قام أحد المتمردين عليه
وهو رئيس جيشه ويدعى عمري وحاصره حتى اضطر زمرى إلى الانتحار حرقاً كما
سجل الكتاب "ولما رأى زمري أن المدينة قد أخذت دخل إلى قصر بيت الملك
وأحرق على نفسه بيت الملك بالنار فمات" (1مل18:16)
ويعوزنا الوقت لو استطردنا في سرد أحداث التمرد كثمار مريرة لبذار مرة
تأكيداً لهذه الحقيقة البديهية "إن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا"
(غل7:6). وعلاوة على ذلك هناك نتيجة أخرى لعدم الخضوع هي:
ثالثا: التعرض للأخطار:
ضرب رب المجد يسوع مثلاً يوضح الأخطار التي يتعرض لها الابن المتمرد على
أبيه عندما يخرج من تحت مظلته، وهذا المثل هو المعروف بمثل الابن الضال
الذي أخذ حقه في الميراث وذهب إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف
فلما أنفق كل شئ حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج. فمضى والتصق
بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير. وكان يشتهى أن
يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يعطيه أحد. فرجع إلى
نفسه وقال ... أنا هنا أهلك جوعاً. (لو11:15ـ17)
تأمل الأخطار التي تعرض لها:
1- تعرض للجوع الشديد.
2- الاحتياج.
3- اضطر إلى عمل غير شريف وهو رعى الخنازير النجسة بحسب الناموس.
4- التمزق إذ كان يشتهى طعام الخنازير فلم يعطه أحد.
5- الهلاك.
وهذا هو حال كل من يخرج من تحت مظلة السلطة التي عينها الله، فيتعرض
المتمرد إلى جوع داخلي شديد واحتياج إلى غذاء روحي ليشبع، وقد يضطره ذلك
إلى القيام بأعمال غير مقدسة، ويفضي به الأمر إلى التمزق النفسي، وقد
يعرضه إلى التهلكة ما لم يرجع إلى نفسه ويعود إلى مظلة السلطة فيحيا.
وثمة ثمرة أخرى لعدم الخضوع هي:
رابعا: مقاومة الله للتمرد:
يقول معلمنا بطرس الرسول "كذلك أيها الأحداث اخضعوا للشيوخ وتسربلوا
بالتواضع. لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة.
فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه. ملقين كل همكم عليه
لأنه هو يعتني بكم" (1بط5:5ـ7)
ففي هذه الأعداد يوصى معلمنا بطرس الرسول الشباب بالخضوع للشيوخ (القسوس)
موضحاً أن هذا الخضوع يصدر عن الاتضاع وعن الثقة في الرب وإلقاء الهم
عليه لأنه يعتني بالإنسان الخاضع في حين أنه يقاوم الإنسان المستكبر.
كيف يقاوم الله الإنسان المتمرد؟
يقاومه بأن يطلق عليه رسولاً قاسياً كما يقول الكتاب "الشرير إنما يطلب
التمرد فيطلق عليه رسول قاس" (أم11:17)
ربما يكون الرسول القاسي هو الاضطراب الداخلي وعدم السلام (أما الأشرار
فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأة وطينا. ليس
سلام قال إلهي للأشرار.) (اش20:57ـ21)
وربما يكون هذا الرسول القاسي هو الفشل في الخدمة إذ يضيع الهدف وتنطمس
الرؤية وتنقلب الموازين فعوض أن يجمع نراه يفرق وعوض أن يضم للكنيسة
نفوساً نراه يطردهم منها كما حدث مع ديوتريفوس المتمرد الذي تحدث عنه
يوحنا الحبيب قائلاً "ولكن ديوتريفوس الذي يحب أن يكون الأول بينهم لا
يقبلنا.. ولا يقبل الاخوة ويمنع أيضا الذين يريدون ويطردهم من الكنيسة.)
(3يو10:9)
نعم أن الله ضد المتمردين على قدر ما هو مع الخاضعين المتواضعين
(1بط5:5ـ7). ومن الثمار المريرة لعدم الخضوع:
خامساً: الدينونة:
في صدد حديث معلمنا بولس الرسول عن الخضوع للسلطة وضح بكل صراحة خطورة
التمرد لأنه يودي إلى الدينونة بقوله "من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله
والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة" (رو2:13) وقد حاول البعض أن يخفف من
وقع كلمة دينونة مدعين أنها لا تشير إلى الدينونة الأبدية، بل إلى
العقوبة التي ينالها المقاوم من السلطة فقط. والواقع الذي شهد له
المفسرون أن معلمنا بولس الرسول كان يقصد الدينونة الأبدية كما توضح
الكلمة في أصلها اليوناني، وكما هو واضح من سياق الكلام إذ يقول "إن من
يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله... " ومن ذا الذي يقاوم ترتيب الله
ويتهاون معه الله؟ إن المؤمن الحقيقي هو الإنسان الذي يخضع لترتيب الله
ولإرادة الله. ولكن متى خرج هذا الإنسان عن ترتيب الله وقاوم الله فإنه
يحكم على نفسه أنه مستحق الدينونة! وهذا ما قرره معلمنا بولس عندما أكمل
الآية قائلاً "والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة Condemnation " (رو
2:13).
ما أخطر التمرد وعدم الخضوع، وما أشدّ ثماره مرارة.
من أقول الآباء القديسين
عن خطورة عدم الخضوع
1ـ القديس غريغوريوس السينائى [الطاعة من أجل التواضع جديرة بكل فضيلة.
أما غير المطيعين سواء كانوا بسطاء أم مثقفين فلا يعلمهم أحد هذا النظام
خشية أن يقعوا في الباطل. لأن هؤلاء الذين هم قانون لأنفسهم (أي بدون
مرشد) لا يقدرون أن يتحاشوا الغرور الذي دائماً يتبعه الباطل كما يقول
مار اسحق] (كتابات من الفيلوكاليا عن صلاة القلب ـ ص101)
2ـ القديس سمعان اللاهوتي [أي إنسان لا يظهر رغبة في أن يصل نفسه بآخر
القديسين (في زمانه،كمرشد روحي) بكل محبة واتضاع بالنسبة إلي عدم الثقة
به، لن يتصل أبداً بالقديسين السابقين، ولن يسمح له بالتعاقب معهم، حتى
لو يظن أنه يمتلك كل الإيمان الممكن والمحبة لله ولجميع القديسين وهو سوف
يطرد من بينهم كواحد رفض أن يأخذ في اتضاع مكانه المعد له من الله منذ
قبل الأزمان ورفض أن يصل نفسه بآخر قديس (في زمانه) كما دبر الله]
(كتابات من الفيلوكاليا عن صلاة القلب ـ ص159).
|