الفصـل الثامن ثـمار الخضوع
يقول الكتاب المقدس "إن سمعوا وأطاعوا قضوا أيامهم بالخير وسنيهم
بالنعيم" (أى11:36)
فما هو ذلك الخير وتلك النعم التي تثمر في حياة الطائعين الخاضعين؟ إنها
كثيرة بلا شك، منها:
أولاً: الحرية:
ما أقسى عبودية الفرد لمشيئته الخاصة ورغباته الشخصية!
فكل عبد لهذا النوع من العبودية يريد أن كل ما في محيط دنياه يسير بحسب
هواه! وكم تكون ثورته عندما يجد الأمور لا تسير بحسب ما يريد! فتنقلب
تعزياته إلى مرارة، وسعادته إلى تعاسة، ويتعكر صفو مزاجه، والسبب الكامن
وراء كل هذا هو أنه مازال عبداً لرأيه الخاص.
لذلك فالخضوع يحرر الإنسان من عبوديته لمشيئته، ويصبح لسان حاله في حرية
سعيدة "لتكن لا إرادتـي بل إرادتك" (لو42:22).
كم كان يونان النبي محتاجاً إلى هذه الحرية فقد كانت عبوديته لرأيه سبب
غم مستفيض له كما سجل الكتاب "فغم ذلك يونان غما شديداً فاغتاظ وصلى إلى
الرب وقال آه يأرب أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضى ... فالآن يارب خذ
نفسي مني لأن موتى خير من حياتي" (يون1:4ـ3).
وجيحزى غلام أليشع كان عبداً لمشيئته الخاصة ولم يخضع لرأى سيده إذ قال
في نفسه "هو ذا سيدي قد امتنع عن أن يأخذ من يد نعمان الآرامي هذا ما
أحضره حي هو الرب إني أجرى وراءه وآخذ منه شيئا" وحصل فعلاً على ما أراد
ولكن عبوديته لمشيئته الخاصة أثمرت برصاً لصق به وبنسله إلى الأبد
(2مل20:5ـ27).
ما أحوج الإنسان فعلاً إلى التحرر من عبوديته لآرائه ورغباته ومشيئته.
والله يستخدم مبدأ الخضوع في حياة أبنائه ليحقق فيهم هذه الحرية.
ثانياً: الحكمة:
ما من شك أن الاستهانة بالسلطة حماقة، فالأحمق هو الذي يستهين بالسلطة
كما يقول الكتاب "الأحمق يستهين بتأديب (أي سلطة) أبيه" (أم5:15). أما
الخضوع للسلطة ففيه نمو في الحكمة فقد قال الكتاب عن الرب يسوع "ثم نزل
معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما ... فكان يتقدم في الحكمة
والقامة والنعمة عند الله والناس. (لو51:2ـ52)
فالإنسان الخاضع كما رأينا قد تحرر من عبوديته لرأيه الخاص وبهذا يكون
مستعداً أن يصغي لآراء الآخرين ويتقبل رأي صاحب السلطة بلا صراع داخلي أو
تمزق، فيكتسب خبرات أسمي من خبراته، وتصبح له نظرة للأمور أوسع من نظرته
الشخصية. ولعله من أجل ذلك قال سليمان الحكيم "يأتي الكبرياء فيأتي
الهوان ومع المتواضعين حكمة" (أم2:11) ولقد قال القديس مار أفرام
السرياني: "في الرجل الوديع والمتواضع تستريح روح الحكمة".
ثالثاً: الحماية:
الخضوع للسلطة ليس معناه الاستعباد لصاحب السلطة بل هو الدخول تحت حماية
ومظلة السلطة وهذا ما وضحه معلمنا بولس الرسول عندما أوصي بالخضوع
للمرشدين مشيراً إلي سر ذلك بقوله "أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون
علي نفوسكم كأنهم سوف يعطون حساباً لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنين لأن هذا
غير نافع لكم" (عب17:13).
معني ذلك أن صاحب السلطة هو المسئول عن الإنسان الخاضع له مسئول عنه أمام
الله، ومسئول عن تصرفاته أمام انتقادات الناس فيدافع عنه وعن تصرفاته
لأنه لم يعملها إلا بمشورته وبتوجيهه وفقاً لحكمة الإرشاد. وبهذا يعيش
المؤمن الخاضع في مأمن من الأخطار التي قد تعوق خدمته.
قال قديس: "إن الذي يجلس في طاعة أب روحاني لهو أكثر جرأة وأقل خطر من
ذاك الذي يجلس منفرداً في الوحدة والسكون" (بستان الرهبان ص179).
رابعاً: السلام:
إن الخضوع للسلطة حتى وإن أوقعت تأديبا معينا على الشخص فلابد وأن يثمر
أخيرا سلاماً، كما قال معلمنا بولس الرسول "أي ابن لا يؤدبه أبوه ...
ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطى
الذين يتدربون به ثمر بر للسلام) (عب7:12ـ11) ليس فقط سلاماً مع الظروف
المحيطة بل هو بالأكثر سلام مع النفس ومع الضمير. حتى وإن لم يتوفر
السلام مع الظروف الخارجية يستطيع بالسلام الداخلي أن يتحمل قسوة تلك
الظروف ومتاعبها.
خامساً: الزينة المقدسة:
إن الخضوع هو زينة النفس المؤمنة، هذا ما وضحه معلمنا بطرس الرسول بقوله
"فإنه هكذا كانت قديما النساء القديسات أيضا المتوكلات على الله يزين
أنفسهن خاضعات لرجالهن" (1بط5:3) فقد لا يتوفر لإمرأة جمال جسدي، وحتى إن
توفر فهو ليس بشيء كما قال الكتاب "الحسن غش والجمال باطل. أما المرأة
المتقية الرب فهي تمدح" (أم30:31) ولكن روحها المتواضعة الخاضعة تضفي
عليها جمالاً روحانياً خاصاً.
وكل نفس تتحلى بالتواضع والخضوع تتزين بالبهاء الذي لا يدانيه شئ، فقد
قال القديس باخوميوس "إن شئت أن تنظر منظراً بهياً يفيدك بالحق فإني أدلك
عليه وهو: إذا رأيت إنساناً متواضع القلب طاهراً فهذا أعظم من سائر
المناظر، لأنك بواسطته تشاهد الله الذي لا يرى. فعن أفضل من هذا المنظر
لا تسأل" (بستان الرهبان ص310)
الخضوع ليس فقط هو زينة النفس بل أنه أيضا زينة تعليم مخلصنا الله كما
يقول معلمنا بولس الرسول "عظ العبيد أن يخضعوا لسادتهم ويرضوهم في كل شئ
... لكي يزينوا تعليم مخلصنا الله في كل شئ" (تى9:2ـ10).
سادساً: جزاء الميراث:
لقد قال معلمنا بولس الرسول "أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب
الجسد لا بخدمة العين كمن يرضى الناس بل ببساطة القلب خائفين الرب.
عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث لأنكم تخدمون الرب المسيح
(كو22:3ـ24)
إنها مجازاة الخضوع، فقد يفقد الإنسان الخاضع بسبب خضوعه امتيازات كثيرة
هنا في الأرض، ولكن الكتاب يطمئن المؤمن بتعويضات فائقة بجزاء الميراث.
ما من شك أن المؤمن الذي يمارس الحياة المسيحية بمبدأ حمل الصليب وتفضيل
مصلحة الآخرين على مصلحته لا بد وأن يدفع في سبيل ذلك ثمناً غالياً
وضريبة عالية، ولكنه من المؤكد أنه سيختبر في أعماقه قوة ومجد هذا
الميراث المقدس الذي يهبه له السيد المسيح في هذه الحياة عربونا لميراث
المجد.
هذه هي بعض ثمار الخضوع التي يتمتع بها المؤمن في هذه الحياة وفي الدهر
الآتي.
|