الخـلق و
السقوط
" ..خـالق السماء
والأرض كل ما يُرى وما لا يُرى..."
يقـول
الكتاب المقدس:
[ فِي اَلْبَدْءِ خَلَقَ
اَللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ]
[ تكـوين 1 : 1 ]...
تلك
عـقـيدة الخـلق
التى
بمـوجبهـا نقـرّ أن كل المـوجـودات قـائمة فى الوجـود
بإرادة
الله وبإرادتـه فقـط, ومُسْتَمِدّة منه وجـودها...
هـذا ما نعـبّر عـنه فى قـانـون الإيمان
بقـولنا:
" أؤمـن بإلـه واحـد, الله الآب, ضـابط الكـلّ, خـالق السماء
والأرض, كل ما يُرى وما لا يُرى"...
عـندما يصف لنـا سفـر التكـوين عـملية الخـلق, فى
فصـله الأول, فإنه يصـوّر لنـا الكائنات وكـأن كـلاّ منهـا أو كـلّ نـوع منها قـد
أوجـده الله بشكله الحـاضـرة مباشرة...
ولكن نظـرة كهـذه تتعـارض مع نظترية التطـوّر التى
يتـفـق عـليها معـظم العـلماء المعـاصرين والتى أصبحـت شبه مؤكـدة بالإستناد إلى
العـديد من البراهـين...
وهـنا ينشأ تساؤل عـند الكـثيرين:
كيف يمكـن التوفـيق بين الوحـى الإلهـى ومعـطـيات
العـلم؟...
للجـواب عـن هـذا السؤال الوجـيه, ينبغـى أن
نتذكّـر, بادئ ذى بـدء:
أن
الكتاب المقـدس كـتاب إيمان لا كـتاب عـلم, هـمّه أن يكشف لـنا عـلاقة الله
بمخـلوقاته, وبنـوع خـاص بالإنسان, لا أن يقـدّم لـنا وصـفـًا عـلميـًا لتـاريخ
الكـون...
لـذا فعـندما يصف سفر التكوين الخلق فى فصـله
الأول, فإن الوحى الألهى ينسكب فيه فى قوالب بشرية, هى التقاليد التى كانت شائعـة
فى المكان والزمان الذى ظهـر فيه هـذا الفصـل...
ولا قـيمة, إذًا, لتلك القـوالب بحـد
ذاتها...
إنما قـيمتها فى المعـانى الروحـية التى تتجـلّى من
خـلالها...
تلك المعـانى التى تلخـّص بأن الكـائنات كـلها
تستمـد من الله الواحـد وجـودها وترتيبها...
هـذا ما فهمـه آباء الكنيسة اليونانيون خمسة عشرة
قـرنـًا قـبل ظهـور النقـد الكـتابى الحـديث...
ففسروا رواية الخـلق فى سفـر التكـوين تفسيرًا
رمـزيًا أكـثر منه حـرفـيًا...
نستنتج مما سبق أن إيماننا بالخـلق ليس رهـنًا
بالقـالب الحضـارى الذى سكب فيه الإعـلان الإلهـى عـن الخـلق فى سفـر
التكـوين...
وأنـه يمكـننا أن نعـبّر عـنه بالقـوالب الفكـرية
التى يتمـيّز بها عـصرنا ومن جملتهـا نظـرية التطـوّر...
هـذا ما سنحـاول أن نبيّـنه, مذكّـرين أولاً
باختصـار بمراحـل التطـوّر كما يصفهـا العـلم الحـديث , ثم متعـرضين لما يقـتضـيه
واقـع التطـوّر من تعـليل أخـير عـلى ضـوء العـقـل والإيمان...
لقـد أثبت العـلم الحـديث أن التطـوّر لم يشمـل
الكـائنات الحـية فحسب...
إنما هـو مـلازم لتـاريخ الكـون
برمـته...
فالكـون الذى ننتمـى إليـه كـون
متطـوّر...
وقـد بـدأ تطـوّره عـلى مستوى الطبيعـة الجـامدة
حتـى أدى على ظهـور الحـياة التى تطـوّرت بدورها حتـى أبرزت ذلك الحـيوان المفكـّر,
الإنسان...
إن النظـرية المـرجحـة اليـوم بين العـلماء تقـول
بأن الكـون, فى حـالته الحـاضرة, قـد بـدأ مـنذ مـدة تـتراوح بين العشرة مليارات
والخمسة عشر مليارًا من السنين...
وأنـه كان فى البـداية مؤلـفـًا من سحب من ذرات
الهـيدروجين ( وهى أبسط الذرات وأخفـها ) تسبح فى الفضـاء...
إنطـلاقـًا من تلك السحب تكونت
الكـواكب...
ونشأت فيها بفـعـل الحـرارة الهـائلة تفاعـلات
نووية حـوّلت ذرات الهيدروجين إلى ذرّات أثقـل من الهيليوم, وهـذه بدورها إلى ذرّات
أثقـل من الكـربون, وهلم جرا...
هكتذا تكـثـفت المادة تـدريجـيًا بظهـور ذرّات
تجمـع عـددًا أكـبر فأكـبر من الجسيمات فى نظـام شبيه بالنظـام الشمسى تدور فيه
الإلكـترونات حـول النـواة المؤلفـة من البروتونات والنيوترونات, إلى أن تكـوّن, فى
قلب الكـواكب, الإثنا وتسعـون نوعـًا من الذرات الموجـودة فى
الطبيعـة...
ولمّا تكونت أرضـنا, منذ حـوالى أربعـة مليارات
ونصف من السنين وانخفضت تدريجـيًا درجـة الحـرارة فيها...
أمكـن للذرّات أن تتفـاعـل لتتكـوّن منها مجمـوعـات
أكـثر كـثافة, ألا وهى الجـزيئات...
ولكـن عـملية تكـثيف المادة لم تقف عـند هـذا
الحـد...
فمنـذ ثلاثة مليارات من السنين عـلى وجـه التقـريب,
بدأت الجـزيئات تتحـوّل, بفـعـل الأشعـة الكـونية, إلى بـُنى تفـوق الجـزيئات
العـادية كـثافة, ألا وهـى الجـزيئات العـضوية التى تؤلف بين الجـزيئات العـادية
فتجمعـها فى وحـدات ضخمـة, معـقـدة الترتيب, كالسكريات والحـوامض الأمينية
والهيوليات PROTIDES, وغـيرها...
**********
تجمعـت تلك الجـزيئات العـضوية فى مياه البحـار
الساخنة. وكان تجمعها هـذا تمهـيدًا لحـث بالغ الأهمية, لا يزال الغـموض يكتنف
ظـروفه إلى الآن, حـدث منذ مليارى عـام عـلى وجه التقـريب, فغـيّر وجه الكـون, ألا
وهـو بروز الخـلية الأولى...
إن حـركة التكثيف المنظم, التى رأيناها تدفع المادة
منذ نشأتها, بلغـت هنا درجة فائقـة..
فالخلية الحـيّة تؤلف بين جزيئات عـديدة ضخمة من
الهيوليات والشحميات والسكريات والفيتامينات وغـيرها, فى وحتدة متماسكة مركـزة أروع
تركـيز, يتناسق فيها حـوالى مليار من الجـزيئات...
ولكـن الأمـر المدهش هـو خاصة فى كـون هـذا
التعـقيد الفائق قـد أدّى إلى ظهـور نمـط جـديد من الوجـود, يختلف نوعـيًا بشكل
جـذرى عـن الجـوامد, ألا وهو الحـياة...
فالخـلية الحـية تتمتع بمـيزات جـديدة
بالكـلية:
فهى تحـوّل إلى موادها الذاتية المـواد التى
تستمدها من الخـارج, وتجـدد باستمرار العـناصر التى تتألف منها مع المحـافظة عـلى
بنيتها, وتنمـو من الداخـل, وتصلّح ذاتها إذا عـطبت, وتتكيّف مع البيئة, وتتكاثر
منتجـة كائنات جـديدة شبيهة بها...
تلك هـى قـفزة الحـياة...
**********
من ذلك العـالم, الصـغير فى حجمه,
الهـائل فى تعـقيده وتركـيزه, انطلقت الحـياة لترقـى سلّمـًا طويلة كان الإنسان
قمتها...
وفى ترقـّيها هـذا, ابعت الحـياة
السير فى الطـريق التى رأينا المـادة تسلكها, ألا وهى طـريق التعـقيد
المـتزايد...
فبعـد الكائنات الحـية الأولى ذات الخـلية
الواحـدة, ظهـرت كائنات تؤلّف بين خـلايا متعـدّدة فى وحـدة منسجمة تعـمل فيها
العـناصر كلها لخـدمة المجموع...
وقـد ازداد التعـقيد بشكل ملحـوظ عـندما أخـذت
مجموعـات من الخـلايا, ضمن الكائن الواحـد, تتخصص للقـيام بوظيفـة معـينة, فتكـونت
الأجهـزة, وعـمل بإنسجام وترابط لصـالح الجسم ككل...
وكان لا بـد من جهاز يربط تلك الوظائف من جهة,
وبينها وبين العـالم الخارجى من جهة أخـرى, فبرز الجهاز العصبى وتطـوّر تدريجـيًا
نحـو تكثيف وتركـيز متزايدين, مما أدى إلى نمو الدماغ كمركز أساسى للجهاز العـصبى,
وإلى سيطـرته التدريجـية عـلى المراكز العـصبية الأخـرى...
وبتطـوّر الجهاز العـصبى عـلى هـذا المنوال نمت
قـدرة الكائنات الحـية عـلى التكيّـف مع بيئتها, وازدادت الغـرائز إتقـانًا وبرز
الذكاء وتزايدت حـدته إلى أن بلغـت أوجها فى أعـلى مراتب القـردة, كالشمبانزى
مثلاً, التى بلغ دماغها درجة ملحوظة من النمو...
ذلك الترقـّى فى سلّم الكائنات الحـية كان يتم, كما
بيّن داروين وأوضح العـلم الحـديث, بواسطة تبديلات كانت تحصـل من وقت إلى آخـر فى
المـيزات الوراثية التى تحملها الخـلايا التناسلية, وهـذا ما يسمّى بـ "
التِغـيارات الإحـيائية" MUTATIONS ,
فتظهـر عـند الحـيوان المنحدر من خـلية من هـذا النوع صفـات
جـديدة...
وقـد تخـدم هـذه الصفات فى الصـراع من أجـل البقـاء
, فيعـمّّر وينقـل صفـاته الجـديدة بالوراثة إلى نسله, فيثبت هـذا فى الوجـود
ويتكاثر...
أو قـد تعـيقه فى هـذا الصـراع, فـيزول هـو أو
نسله, وتزول معـه صفـاته " الإصطـفاء الطبيعى" Natural Selection ...
وهـكذا بتراكم " التِغـيارات الإحـيائية" نشأت
شيئًا فشيئًا أنواع جـديدة انتظـمت فى هـذا الخط التصـاعـدى الذى سبق وأوجزناه...
**********
إن عـملية نمو الدماغ , التى أصبحت المحـور الأساسى
لحـركة التعـقيد المـتزايد التى يتمـيّز بها التطـوّر, بلغـت ذروتها فى الإنسان
الذى يتألف دماغـه من حـوالى أربعـة عشر مليارًا من الخـلايا ( أربعـة أضعـاف
خـلايا الشمبانزى تقـريبًا ), مترابطـة بعضهـا ببعـض وبخـلايا المـراكز العـصبية
الدنيا, عـلى صـورة شبكة إلكترونية هـائلة التعـقيد...
هكـذا تأمنت الشروط اللازمة لقـفـزة لا تقـل أهمية
عـن تلك التى حقـقتها الحـياة, ألا وهى قـفـزة الفـكر...
تلك القـفـزة التى تمت عـلى مراحل منذ أكـثر من
حـوالى مليون سنة, أوجـدت نمطـًا جـديدًا بالكـلية من الوجـود, وهـو الوجـود
الإنسانى, وجـود كائن يتمـيّز عـن سائر الكائنات الحـية بكـونه, وحـده, يعـى ذاته,
ويعـى الكـون كمتمـيّز عـن ذاته, ولـذا لم يعـد كالحـيوان, أسير أحاسيسه ودوافعـه
الغـريزية, إنما أصبح كائنـًا ذا فكـر وحـرية, يُـدْرك التطـوّر ومكـانه فيه ويأخـذ
عـلى عـاتقـه مسئولية متابعـته بوعـيه وعـمـله الخـلاق...
**********
إن العـلم يثبت واقـع التطـوّر, كما أنه يوضّح
العـوامل التى تفسّر مراحـله المختلفة...
لقـد توصّـل على اكتشاف العـديد من تلك العـوامل ـ
وقـد نوهنا ببعضها ـ وسيتوصّـل بلا شك, بفضل جهـود العـلماء المتضافـرة, إلى إلقـاء
المـزيد من الأضواء عـلى النقاط التى لا يزال يكتنفها الغـموض, فتتوضّح اكـثر
فأكـثر...
ولكـن, إلى جانب التساؤلات التى يترتب عـلى العـلم
أن يحيب عـنها, فهناك تساؤلات من نوع آخـر, لا تدخـل فى نطاق العـلم لأنها تُطـرح
من منظـار يختلف عـن منظـاره...
فعـندما يقـول العـلم بالتطـوّر, يصف خطـًا
تصـاعـديًا, ويظهـر كيف سلكت مادة الكـون هـذا الخط...
ولكنه لا يُبـدى, وليس من شأنه كعـلم أن يُبـدى,
لماذا كان هـناك خط تصـاعـدى؟...
هكـذا يبقـى
الباب مفتوحـًا أمام تساؤلين صـميمين, ألا وهما:
ماهـو
التعليل الأخـير للتطـوّر؟...
هـل للتطـوّر
مُـبَرّر ومعنى؟...
جـواب البعـض عـن السؤال الأول هـو:
أن هـذا التسلسل التصاعـدى مرجعـه الصـدفة
وحـدها...
فبالصـدفة تجمعـت ذرات المادة بتعـقيد مـتزايد,
وبالصـدفة تألّفـت الخـلية الحـيّة, وبالصـدفة تركب الدماغ
الإنسانى...
كل ذلك سلسلة صـدف, تعـاقب أرقام رابحـة فى يانصيب
كـونى يسـيّر دواليبه حظ أعـمى...
ولكن تلك النظـرة الفلسفية, التى يعـود أصـلها على
فلاسفة إغـريقيين قدامى كـ " ديموقريطوس", لا تثبت أمام ما يكشفه العـلم الحـديث
لنا عـن مدى التعـقيد والتنسيق الذى تتصـف به خـلية حـيّة واحـدة, لا بلّ جـزئية
واحـدة من الجـزيئات العـضوية...
لذا نبذها معظم عـلماء اليوم, حتى من يديـن منهم
بالمذهب المادى...
فمثلاً نرى العـالم البيولوجى السوفييتى الكـبير "
أوبـاريـن" يدحض محـاولة تفسير ظهـور خـلية حية واحدة بفعـل الصـدفة
بقـوله:
{ إن
هـذا الإفـتراض شبيه بموقف إمـرئ يخـلط أحـرف طـباعـة تمثّـل ثمانية وعشرين حـرفـًا
أبجـديًا ويحـرّكها, راجـيًا أنها بداعـى الصـدفة سوف تجتمع لتؤلف هـذه أو تلك من
القصائد التى نعـرفها
}...
فإذا كان ظهـور خـلية واحـدة بداعـى الصـدفة أمـرًا
مستحـيلاً, كما يؤكـد عـلم يدين بالمادية, فكيف نفسّر بالأحـرى, بمجـرّد فعـل
الصـدفة, تدرّج الحـياة المتواصـل نحو أشكال أرقى فأرقى...
إذا اعـتبرنا أن هـذا التدرج إنما هـو تتابع صـدف
موفقة, فمن أين للصـدفة هـذا الاستمرار والترتيب فى فعـلها؟...
فكأننا نقـول أن تبديلات طرأت صـدفة عـلى نص مبادئ
الهندسة التى وضعـها أقليدوس, أثناء نسخه من قبل ناسخين متتابعين ينقـل أحدهما عـن
الآخـر, تعـاقبت بشكل متناسق من نسخة إلى نسخة حتى أوجـدت بالتوالى كل اخـتراعات
البشرية فى عـلم الهندسة وأدّت فى النهاية إلى بروز نظـرية
أينشتاين...
هـذا مع العـلم بأن خـلية واحـدة من الخـلايا إنما
هى أكـثر تعـقـيدًا من نظـرية أينشتاين, لأن العـلم البشرى, بكـلّ جـبروته الحـالى,
لم يتوصّـل حتى الآن, إلى إدراك سرّ تركيب واحـدة منها...
**********
إذا كانت نظـرية الصـدفة لا تثبت أمام معـطـيات
العـلم الحـديث, رغـم محاولات " جاك مونو" لإحـيائها فى كتابه " الصـدفة
واالضـرورة", فبماذا يمكن الإستعـاضة عـنها؟...
كـثيرون ممن يدينـون اليوم بالمذهب المادى, يقـولون
بأن التطـوّر تفسره طـبيعة المادة نفسها...
فبنظـرهم كان لابـدّ للمادة, بالنسبة لطبيعـتها, أن
تنتـظم وتتعـقـد أكـثر فأكـثر مجتازة بذلك كل مراحل التطـوّر...
ولكن السؤال الذى لا تجيب هـذه النظـرية عـنه
هـو:
ما هو سر انتظـام المادة؟...
وما هـو سر سيرها نحو إنتظام مـتزايد فى خـط
متواصل, مستمر؟...
من أين للمادة هـذا الانتـظام؟...
المادة مجموعـة من جسيمات ومن طـاقات, إنها كـثرة
وتعـدّد...
فكيف يتاح لهـذه الكـثرة أن تتوحّـد وتنتـظم, وذلك
بشكل مـتزايد, تصـاعـدى؟...
هـل نقـول أنها تنظـم ذاتهـا؟...
ولكن هـذا يفـترض أن المادة ذات, شخـص, يعـلو عـلى
تعـدّد عـناصره ليوحّـد وينسّق بينها...
هـذا ما يضـمره, من حيث لا يـدرون, هـؤلاء الذين
يقولون أن " المادة" أو " الطبيعـة" هى عـلة التطـوّر الأخـيرة...
إنهم بذلك يشخـصون " المادة" أو " الطبيعـة",
ينسبون إليهما كـيانـًا خـرافيـًا, ذات طابع شخصى...
فلنـأخـذ مثـلاً يوضّح ما نحن
بصـدده...
نحن نعـلم أن جسم كل من الكـائنات الحـيّة يتكـوّن
إنطـلاقـًا من خـلية أولى...
لقـد انكبّ عـلم الحـياة الحـديث عـلى درس ذلك
التحـوّل الذى يجعـل من البلوطـة سنديانة ومن خـلية إنسانية واحـدة جسدًا إنسانيًا
مؤلفـًا من حـوالى ستين ألف مليار من الخـلايا, منوعـة وموزّعـة عـلى اجهـزة
وأعـضاء متناسقة بشكل مذهـل...
وقد أوضـح العـلماء التفاعـلات الكيمائية العـديدة
المعـقـدة التى تؤدى تدريجـيًا إلى هـذا التحـوّل, ولكنهم يقـولون أن تلك
التفاعـلات موجّهة, مبرمجة, بفـعـل " تصميم موجّـه" كامن فى نواة الخـلية الأولى,
وعـلى وجـه التخصيص فى جزيئات الـ D.N.A. بفضـل تلك
البرمجـة تتنـاسق التفاعـلات الكيمائية لتـؤول على تكـوين كـائن حىّ يحمـل الصفـات
التى يتمـيّز بها نوعـه...
فبالقـياس إلى ذلك نتساءل:
إذا كانت المادة قد سلكت, فى تاريخها الطـويل, تلك
المسيرة التصاعـدية التى قادتهـا من سحب الهيدروجين الأولى إلى الدماغ الإنسانى,
فقـد تم ذلك بلا شك بتـأثـير عـوامل فيزيائـية وتفاعـلات كيمائـية عـديدة, أوضحها
العـلم وسيوضحها أكـثر فأكـثر...
ولكن يبقـى هـذا السؤال:
ما هـو سر انتظـام تلك العـوامل والتفاعـلات فى خـط
تصـاعـدى؟...
ما هـو سر " برمجـة" المادة فى مسيرتها المتواصـلة
نحـو كائـنات أكـثر فأكـثر تعـقـيدًا؟...
البرمجـة التى بموجـبها يتكـوّن الكـائن الحىّ
والمرتسمة فى نـواة خـليته الأولى قـد أتـته بالوراثة من كـائن حىّ من نوعـه ( أو
كـائنين ) وجـد قـبله...
فمـن أيـن لمـادة الكـون برمجـتها
المذهـلة؟...
إذا كانت المادة هـى الكـائن الوحـيد, المكـتفى
بذاتـه...
فمـن أيـن استمـدّت تصميمها
المـوجّـه؟...
هـل نقـول أنها برمجـت ذاتهـا؟...
إننا عـند ذاك, كما قـلنا سابقـًا, ننسب لتلك
الكـثرة من الجسيمات والطـاقات, كـيانـًا شخـصيـًا...
إننا ننسب إليها فكـرًا يفـوق الفـكر الإنسانى بما
لا يقاس, لأنه لم " يخـترع" الحـياة وحسب, تلك الحـياة التى لم تستطع العـبقـرية
البشرية و تقـليدها إلى الآن, بل أوجـد الفكـر الإنسانى أيضـًا...
إننا خـلافـًا لكـلّ منطـق...
ننسب لها القـدرة عـلى التحـوّل, بحـد ذاتها, من
الأقـل إلى الأكـثر, ناقـلة ذاتها بذاتها من نظـام إلى نظـام أرقـى وحسب, بل من
صعـيد وجـود إلى صعـيد وجـود آخـر مخـتلف عـنه بالكـلية, أى من مادة جامـدة إلى
مادة حـيّة ثم إلى مادة مفكّـرة...
وبعـبارة أخـرى نجعـل من المـادة شخـصـًا إلهـيًا
يخـلق ذاتـه باستمرار...
ولكن مادة مؤلهـة كهـذه لم تعـد المادة التى
يعـرفها عـلماء الفـزياء والكـيمياء ويسخـّرونها لخـدمة الإنسان...
تلك المجمـوعـة الغـاشمة من الجسيمات والطـاقـات
التى يسميها العـلم " مـادة"...
إنهـا صنم جـديد أقـيم عـوض الله...
**********
هـذا النقـد الموجز للمذاهب المادية فى تعليل
التطور يمهد لنظـرتنا الإيمانية إليه...
فالمؤمن لا يتعـبّد لصـدفة أو مادة تنسب إليهما
صفات الخـالق...
ولكنه ينسب الفـكر الخـلاق الذى يتجـلّى عـمـله فى
تطـوّر المادة إلى كائن متعـالٍ عـن المادة...
كائن يمكنه وحتده أن يوجّـه تلك الكـثرة من
الجسيمات والقوى العـمياء فى الخـط التصـاعـدى الذى سارت بموجـبه...
كائن يملك الحـياة, كـلّ الحـياة...
ولذا, استطاع أن يبث الحـياة فى
الكـون...
ويملك الفـكر, كل الفـكر...
ولذا, استطاع أن يشعـله فى الأرض بظهـور
الإنسان...
إن ذلك الموقف الإيمانى, وإن كان, تحـديدًا, يفـوق
معـطـيات العـقـل والعـلم, إلا أنه منسجم كـليًا, كما يتضـح مما سبق, مع متطـلبات
المنطـق ومع المفهـوم العـلمى للمادة...
ولكن فعل الله هذا فى المادة يجب أن يُـفهم عـلى
حقـيقـته...
ليس هـو, كما يتصـوّر العـديد من المؤمنين وغـير
المؤمنين, فعـلاً يُضـاف إلى نواميس الطبيعـة ليكمـل نقـصها...
هـذا التصـوّر يتنكّـر بآن واحـد لتعـالى الله
ولحضـوره فى صميم الكـون...
لذا, فمن الخطـا أن نتصـوّر تصميمـًا مضافـًا من
الخـارج إلى العـناصر الطـبيعـية لتوجيهها وتقـويم مسيرتها, كما يوجّـه السائق
سيارته...
فالله يعـمـل, لا إلى جانب نواميس الكـون, بل من
خـلالها, لأنها منه ومنه وحـده تستمد, فى كل لحظـة, وجـودها
وانتظـامها...
بهـذا المعـنى, الخـلق عـملية مستمرة, كما أشار
الرب بقـوله:
[ أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى
الآنَ وَأَنَا
أَعْمَلُ ] [ يوحنا 5: 17 ]...
والتطـوّر هـو المظهـر الحسّى لاستمـرار
الخـلق...
الله, فى الطبيعـة, معلن ومحتجب
بآن...
للعـلم أن يفتش إلى ما لانهاية عـن تفسير
التطـوّر...
إنه لن يكتشف الله كما أنه لن يصطـدم به, لأنه,
بموجب منظـاره الخـاص, لن يكتشف سوى النواميس الطـبيعـية التى يعـمـل الله من
خـلالها...
ولكن, كلما اتضح لنا, بفـضل الاكتشافات العـلمية,
الانتظام الرائع الذى يتجـلّى فى مسيرة التطـوّر المذهـلة, كلما انكشف لنا, من
خـلاله, حضـور وفعـل ذاك الذى يغـمـر مجـده وبهاؤه الكائنات...
تلك النظـرة الإيمانية هى أيضـًا التى تستطيع أن
تكشف لنا إن للتطـوّر مـبررًا ومعـنى...
فلو كان التطـوّر ولـيد الصـدفة وحـدها, لكان ظهـور
الكائنات كلها, ومنها الإنسان, ظهـورًا عـبثيـًا ABSURDE ,
عـلى سبيل الاتفـاق الأعـمـى, لا تـبرير له ولا هـدف...
وكـذلك لو كان التطـوّر ولـيد نواميس مادية غـاشمة
وحسب, ولكان مسيرة لا غـاية لها, قـدرًا أعـمى توجـد بموجبـه المادة زهـرتها
الفضلى, الفـكر البشرى, وتسحقهـا, عـلى التـوالى, بموجب " ضـرورة فولاذية" أشار
إليها أنجـلز...
ولكن هـل يعـقـل أن تكـون تلك المسيرة المذهـلة
التى قادت الكـون من ذرات الهـيدروجين الأولى إلى الإنسان وفكـره وحضـارته, مسيرة
لا هـدف لها ولا مـبرر؟...
إذ تكشف لنا أن ذاك الذى هـو تعـليل التطـوّر
الأخـير يعـطيه أيضـًا هـدفه وغـايته, وأن تلك الغـاية هـى أن تـبرز من جسم الكـون
كائنـات بوسعها أن تشترك فى حـياة الله وفـرحة الأبديـين...
هـذا ما حـدسه فيلسوف شهـير معـاصر قـاده تأمـله
العـميق فى تطـوّر الكـون وفى تاريخ الإنسان إلى عـتبة الإيمان, " هـنرى برجسون" ,
عـندما قال:
{ إن الكـون آلة لصنـع الألهـة }..
هـذا ما يقودنا إلى الحـديث عـن خـلق
الإنسان...
**********
1ـ
إقـرأ الإصحـاح الأول من سفـر التكـوين, ماهـى التساؤلات التى تطـرحـها رواية
الخـلـق هـذه عـلى فكـر معـاصر؟ ...
2 ـ ما هـى
معـلومـاتك عـن التطـوّر ومـراحـله وعـوامـله؟...
3 ـ هـل المنظـار
العـلمى كاف لتعـليل التطـوّر تعـليلاً نهائيـًا, صـمـيميًأ؟...
4 ـ ما رأيك
بالصـدفة كتعـليل أخـير للتطـوّر؟...
5 ـ هـل يكـفى, فى
تعـليل التطـوّر, أن نعـزوه إلى طـبيعـة المـادة؟...
6 ـ ما هـى النظـرة
الإيمانية إلى التطـوّر؟ هـل تتعارض مع النظـرة العـلمية؟...
7 ـ ما هـو معـنى
التطـوّر فى هـذا المنظـار الإيمانى؟...
1 ـ فى كـتابه الرائع " كيف تطـرح اليوم قضية وجـود
الله؟" يستعـرض " كـلود تريمونـتان" أستاذ فلسفة العـلوم فى جامعـة السوربون,
المذاهب المادية فى تعـليل التطـوّر, ويفـنّـدها بقـوة ووضـوح, و مما
يقـوله:
{ إذا ... قلت أن المادة تنظـم ذاتها, فإننى أجعـل
من المادة فاعـلاً لفـعـل نظم. المادة, والحـالة هـذه, لا ينظمها آخـر: إنها تنظـم
ذاتها...
{ ولكـن فلنتساءل أولاً: ما هى المادة؟ إنها تعـدّد
عـناصر, ذرات, حبات طاقة...
{ القـول بأن المادة تنظم ذاتها, بإمكانياتها
الذاتية, هـو إستعـارة شعـرية جـريئة. ولكن ما وراء هـذه الإستعارة؟ ليست المادة
شخصـًا لتكـون فاعـلاً لفـعـل يُصـرّف مع ضمـير الفـاعـل.
{ ليست واحـدًا من الأشخاص لتكـون قادرة عـلى
تنظـيم ذاتها.
{ المادة تعـدّد... فكيف لها أن تنظم ذاتها؟ لكى
يكـون هـذا الاكـتفاء, هـذا التنظـيم الذاتى ممكنـًا, يفـترض فى المادة أن تكـون
ذاتًـا, أن يكـون بإمكانها أن تعـلو عـلى ذلك التعـدّد الذى مـنه تتكـوّن, لكـى
تنظم ذاتها. لكى يتم دمج هـذا التعـدّد الذى منه تتكـون, لكى تنظم ذاتها. لكى يتم
دمج هـذا التعـدّد من العـناصر فى تأليف يُفـترض وجـود قـدرة تفـوق تعـدّد العـناصر
هـذا, يفـترض وجـود شئ غـير هـذا التعـدّد...
{ ... المادة لا تكفى بحـد ذاتها لتعـليل إنتظـامها
الـذاتى ...
وبعـد أن يذكـر المؤلف رأى ماركس بأن الكائنـات فى
الطـبيعـة تنشئ ذاتها, يعـلّق عـلى هـذا الرأى بقـوله:
{ هـذا بالضبط ما يحتاج إلى إثـبات. ما يحتاج إلى
إثـبات, هو أن العـبارة نفسها لها معـنى. لأننا إذا نسبْـنا إلى المادة القـدرة
عـلى تنظـيم ذاتها بصـورة جـزيئات, ثم جـزيئات ضخمة, ثم أجسام أحـادية الخـلية, ثم
أجسام متعـدّدة الخـلايا أكـثر فأكـثر تعـقيـدًا, فهـذا يعـنى أننا نسبْـنا إلى
المادة ذكـاء وعـبقـرية يفـوقان كل ذكـاء الإنسانية المفكّـرة, طالما أننا,
بعـلمنا, لم نزل بعـيدين عـن إدراك كيف تمّ, وكيف لا يـزال يتمّ فى هـذه اللحظـة
بعـينها, تنظـيم المادة الذى يكـوّن الأجسام الحـية والمفكـّرة...
{ ولكننى أتساءل مـرة أخـرى: ماذا يعـنى فكـر
المادة؟ المادة كـثرة, إنها مجموعة. ما هـو إذًا ذلك الفكـر الذى تتحـلّى به جمهـرة
من الذرّات وحـبات الطـاقة.... عـبثـًا أتـامل وأدرس الذرات والجسيمات التى تتحـدّث
عـنها الفـزياء الحـديثة. إننى لا أتوصّـل إلى رؤيـة ما يسمح لى بأن أنسب إليهـا
فكـرًا قـادرًا عـلى الإشراف عـلى تنظـيمهـا. لكى تنتظـم مجمـوعـة من العـناصر,
ينبغـى أن يوجـد مبـدأ واحـد يعـلو عـلى تعـدّد العـناصر هـذا ويجمعـه فى وحـدة
مؤلـفة فى تنظـيم مركـز. ولكننى لا أرى, فى المـادة التى تحـدثنا عـنها الفـزياء
الحـديثة. أى شئ يسمح لى بأن أنسب إلى الذرات شخصية خفـية وقـدرات كهـذه
}...
2 ـ إن أحـد مشاهـير اللاهـوتيين الكاثوليك
المعـاصـرين, ألا وهو الأب شونانبرج الهولندى, يوضح مضمون عـقيدة الخـلق, إذ يقـول
فى كتابه" عـالم الله فى صـيرورة":
{ الله لم يخـلق وحسب, بل إنه مستمر بلا إنقطاع فى
الخـلق. إذا كان قد ارتاح فى اليوم السابع, فراحته أيضـًا هى, حسب كلمـة يسوع,
عـمـل مستمر: [ أَبِى يَعْـمَل حَتّى
اَلآَنْ ] [ يوحنا 5: 17 ]. إن الفصل الأول من سفر التكوين يعـطينا رواية أخـاذة عـن
عـمل الله " فى البدء". ولكن نصوصـًا أخـرى تظهـر لنا الله عـامـلاً دون إنقـطاع.
هـذا هـو شأن المزمور 104 والفصول 38 إلى 40 من سفر أيوب. طالما العـالم يدوم, فهو
محمـول بكلمة قـدرته. كل كائن وكل عـمـل فى الكون, طالما هما موجـودان, مسببان منه.
ليس الله مهندسًا متقاعـدًا, إنه ذاك الذى منه وفيه نحـيا ونتحـرّك ونوجـد ( أعمال
الرسل 17: 28 ).
{ ... عندما أشار الله إلى أعـماله فى الطـبيعـة,
مريدًا أن يبـرّر أمام أيـوب عـمـل عـنايته, فإنه ألحّ عـلى الأعـمال الحاضرة بقـدر
ما ألحّ عـلى العـمـل الذى قام به " فى البـدء". لـذا فنحـن لسنا بمضطـرين بأن
نأخـذ هـذه العـبارة المستمدة من تكوين 1:1 بمعناها الحصـرى. إنها تعـنى أن عـمـل
الله الخـلاق يشكل أساس كـلّ شئ, وليس أن هـذا العـمـل قـد توقـف
}...
{ إن الخـلق يجعـل بالحقيقة بين الله والمخـلوقات
عـلاقة عـمودية تبقـى عـلى كل العـلاقات الأفـقـية القائمة فى داخـل الكـون, أو
بالأحـرى تشملها وتعـطـيها بأن توجـد. الله يخـلق عـالمًا يتطـوّر, إن عـمـله
الخـلاق لا ينحصـر فى بداية العـالم بل يمتد حتى ملء إكتماله: الله يحقـق فى كل
لحظـة هذا الكون ككـون متطـوّر}...
{ الله عـامل أبـدًا. إنه بالضبط من يعـطى للعـالم
بشكل دائم حقـيقـته, حقـيقـة فى نمو متواصـل }...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يروى لنا الكتاب المقدس عـمـلية خـلق الإنسان فى
الفصـلين الأول والثانى من سفر التكـوين...
هـذا النص يحـوى حقائق عـقـائدية مغـلّقـة فى صـور
رمـزية, وشعـرية, وإذا تمعـنّـا فى النص يمكننا إبراز المعـانى
الآتية:
يقول لنـا
الكتاب المقـدّس أن الله أوجـد الإنسان من تراب...
وهـذا ما تشير إليه كلمة " آدم" ومعـناها: المأخـوذ
من " أداما" أى الأرض...
فالإنسان مرتبط إذًا بكـيانه بتلك الطـبيعـة
المادية التى هـى أيضـًا خليقـة الله...
وبالفـعـل نـرى أن جسم الإنسان مكّـون من العـناصر
نفسها التى تتكـوّن منها الطـبيعة المادية, فالمـواد الكيمائية الرئيسية العشر التى
يتألف منها جسده وأهمها الكربون والهيدروجين والأكسيجين والأزوت هى من مقـومات
الكـون المادى, ذلك لأن الإنسان خـرج من هـذا الكـون بفـعـل الله...
أمّـا كيفـية هـذا الخـروج فيعـبّر عـنها الكتاب
المقـدّس بصـورة رمـزية شعـرية...
إذ يقـول بأن الله جـبل طـينـًا ونفـخ فـيه نسمة
حـياة...
فالله يشبه إذًا هـان فخـارى يجـبل وينفخ , مع أننا
نعـلم من الكتاب المقـدّس نفسه أن الله روح لا يـدان له إذًا, ور
فمّ...
لـذا لا يمك،ننا أن نـاخـذ النصّ الكـتابى هـذا
بمعـناه الحـرفى بلّ أن نـدرك المعـنى العـقائدى الكـامن وراء هـذه الصـور
الشعـرية...
ألا وهـو ان الله هـو عـلة بـروز الإنسان من جسم
هـذا الكـون...
كمـا أنـه عـلة بـروز الكـون نفسه إلى حـيّز
الوجـود...
ولا يصـف لـنا الكتاب المقـدّس كيفـية بروز الإنسان
من جسم الكـون وصـفـًا عـلمـيًا لأنه ليس كـتاب عـلم ( فالله أعـطى الإنسان العـقـل
ليبنى به العـلم ) بلّ كـتاب عـقـيدة دينيـة...
ولكـن هـذه العـقـيدة لا تصـطـدم مع معطـيات
العـلم...
فالعـلم يعـتقـد فى أيامـنا أن الإنسان ولـيد
تطـوّر طـويل برزت فـيه الحـياة إنطـلاقـًا من المـادة الجـامدة رغـم البـون الشاسع
والهـائل بينهما, ثم إجـتازت خـلال نحـو مليارين من السنين شوطـًا طـويلاً إرتقـت
فـيه, من أبسط الأشكال إلى أسماهـا تركـيبـًا وإتقـانًا حتى بلغـت أوجها فى
الإنسان...
هـذه المعـطيات العـلمية لا تتعـارض مع
إيماننا...
ففى النظـرية القـديمة التى بموجبها خـرج الإنسان
مباشرة من الطبيعـة المادية أو فى النظـرية الحـديثة التى بموجبها لا يخـرج الإنسان
من الكـون إلا من خـلال تطـوّر طـويل, يبقـى الله فى نظـر المؤمن عـلة وجـود
الإنسان...
لا شئ يمنع أن يكـون الله قد استخدم التطـور وسيلة
لإبـراز الإنسان من الطبيعـة المادية...
والمؤمن يـرى فى التطـوّر البديع الذى يقـول به
العـلم الحـديث مظهـرًا من مظاهـر حكمـة الله أصـل التطـوّر وموجهه
وغـايته...
يـروى لنـا الكـتاب المقـدّس أن الله لم يخـلق
الإنسان إلا بعـد أن خـلق وأوجـد الكـائنات الجـامدة والحـية
كلّهـا...
فكـان خـلق الإنسان آخـر أعـمال الخـليـقـة وكـان
الأرض كـلها هُـيّأت لوجـود الإنسان...
وتقـول نظـرية التطـوّر الحـديثة بأن الإنسان هـو
قمـة التطـوّر...
هـنا يلتقـى العـلم الحـديث بالنظـرة الكـتابية إلى
الإنسان كـتتويج الطـبيـعة وقمّـتها...
ويُعـطى الكـتاب شرحـًا لمكـانة الإنسان الرفـيعـة
هـذه إذ يقـول بأن الله خـلقه عـلى صـورته ومـثاله...
يقـول لـنا
الكـتاب المقـدّس:
[ نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى
صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا ] [
تكوين 1: 26 ]...
هـذا يعـنى أن الله قـد خـصّ الإنسان وحـده بمـيزة
لم يُنعـم بهـا عـلى آيـة من المخـلوقـات الأخـرى...
وهـى أنـه جـعـل شبهـًا بين ذلك المخـلوق وبين
الخـالق...
فجـعـل فى الإنسان عـقـلاً وإرادة وحـرية
وإبـداعـًا وحـبًا كـلها صـفات شبيهـة بالصـفات الموجـودة فـيه...
هكـذا يظهـر لنـا أن هـذا الإنسان هـو, من ناحية,
جـزء من هـذه الطبيعـة التى أخـذ منها, وهـو من ناحية أخـرى, متسامٍ بما لا يقاس
عـلى هـذه الطبيعة لأنه يحـوى فى ذاته صـورة الله خـالق الطبيعـة الجـامدة
والحـية:
[ وَقَالَ اللهُ: نَعْمَلُ
الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ
اَلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ اَلسَّمَاءِ وَعَلَى اَلْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ
اَلأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ اَلدَّبَّابَاتِ اَلَّتِي تَدِبُّ عَلَى
اَلأَرْضِ ] [ تكـوين 1 : 26 ]...
فسلطـة الإنسان عـلى الكـائنات مرتبطـة إذًا كما
يظهـر من هـذا النصّ بكـونه عـلى صـورة الله الخـالق...
وبعــبارة أخـرى, إذا كان الإنسان ـ وهو جـزء من
الطبيعـة ـ قـادرًا عـلى إدراك أسرارها وتسخـير قـواها لخـدمته, فإنما يعـود ذلك
إلى صـورة الله الكـامنة فيه...
وقـد كـان عـلى الإنسان أن يمارس سلطـته بالعـمـل
الذى هـو, عـلى صـورة ما, تكمـيل للخـلق لأنه يجعـل الطبيعـة أكـثر ترتيبـصا
وجمالاً وإنتاجـًا:
[ وَأَخَذَ اَلرَّبُّ
اَلإِلَهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا
وَيَحْفَظَهَا...] [ تكـوين 2: 15 ]...
عـلاقـة الجنسين يرسمها الكـتاب المقدّس بشكل
شعـرى, فـيروى لنـا أنه لم يكـن لآدم بين المخـلوقـات شبيه:
[ وَقَالَ اَلرَّبُّ
اَلإِلَهُ: لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً
نَظِيرَهُ ] [ تكـوين 2: 18 ]...
لذلك ألقـى عـليه سباتـًا عـميقـًا وأخـذ ضلعـًا من
أضـلاعـه وكـوّن منه المـرأة الأولى التى دعـيت حـوّاء ( أى أم الحـياة
)...
وأتى بهـا إلى آدم, فقـال آدم:
[ هَذِهِ اَلآنَ عَظْمٌ مِنْ
عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى اِمْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ
اِمْرِءٍ أُخِذَتْ ] [
تكـوين 2 : 23 ]...
ويضيف الكتاب المقدّس:
[ لِذَلِكَ يَتْرُكُ
اَلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً
وَاحِداً ] [ تكـوين 2: 24 ]...
ومن هـنا تتضح النظـرة الكـتابية إلى عـلاقـة
الجنسين التى يمكن تلخـيصها فيما يلى:
إنهما متعـادلان فى الطبيعـة إذ يقـول آدم أن
المـرأة عظم من عظامه ولحم من لحمه...
أى أنها من طبيعـته...
ولكنهما مكمـلان أحـدهما للآخـر إذ يصّـور لـنا
الكـتاب ذلك رمـزيـًا بقـوله إنهما جـزءان من جسد واحـد مشيرًا إلى أن أحـدهما لا
يكتمـل دون الآخـر...
فمـيل كلّ من الجنسين إلى الآخـر كإلى مكمـله إنما
هـو إذًا من إرادة الله...
**********
ويرسم لنـا الكـتاب المقـدّس أيضـًا تصميم الله فى
اتحـاد الجنسين...
فيقـول لنـا أن كلاً من الرجـل والمـرأة يكتمـلان
باتحـادهما معـًا فى الزواج الذى به :
[ إِذاً لَيْسَا بَعْدُ
اِثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِد ] [
متى 19: 6 ]...
وعـبارة " جسدًا واحـدًا" تعـنى بلغـة الكـتاب "
كـيانـًا إنسانيـًا واحـدًا"
وهـذا يعـنى أولاً أن الزواج حسب مقـاصد الله رباط
عـميق يجمع شخصين جسدًا وروحـصا فيؤلّـف منهما كـيانـًا واحـدًا...
كما أنه يعـنى أن الاتحـاد الزوجـى نهـائى لا
ينفـصـم لأن " الجسد الواحـد" لا يمكـنه أن يتجـزّا فيما بعـد...
لذلك عـندما عـلّم الرب يسوع عـن الزواج استشهـد
بهـذا النصّ الكـتابى وأضاف إليه:
[ فَالَّذِي جَمَعَهُ اَللَّهُ
لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ ] [
متى 19: 6 ]...
هكـذا فالله الذى قـد أوجـد الحب بين الرجـل
والمـرأة قـد " وضـع لمـيل القـلب رباط لا ينفـك" كما تقـول طقـوس سرّ
الزواج...
هـذا " الربـاط الذى لا ينفـك" يفـترضه الحب
الحقيقى لأن الشهـوة تطلب الاستمتاع بالآخـر إلى أن تمـلّ منه...
أمّـا الحب الأصـيل فـيتـوق إلى عـطـاء متـبادل
نهـائى...
الشهـوة تطـلب التمتع العـابر يجسد
الآخـر...
أمّـا الحب الحقيقى فـيرغـب فى اتحـاد الشخصين فى
كـيان واحـد...
الحب الحقيقى المكـرّس بالـزواج حسب إرادة الله لا
يلـغى الشهـوة ولكـنه يلطـفها ويهـذبها بالحـنان وإنعـطاف القـلب, ويسخـّر قـوتها
لبنـاء اتحـاد متـين بـين الزوجـين كمـا أن صـناعـة الإنسان تستخـدم قـوة المـياه
الغـاشمـة المدمـرة لتـوليد الكهـرباء ومنفـعـة البشر...
**********
إقـرأ سفـر
التكـوين: الإصحاحين الأول والثـانى...
1 ـ إلى ماذا تشير
كلمـة الكـتاب بأن الله خـلق آدم من تـراب؟...
2 ـ هـل تصطـدم
نظـرية التطـوّر الحـديثة مع إيماننا بأن الله عـلة وجـود الإنسان؟...
3 ـ يقـول لنا
الكـتاب المقدس أن الله خلق الإنسان بعـد أن خـلق سائر الكائنات الجامدة والحية.
وتقـول نظرية التطورأن الإنسان هو النقطة التى وصل إليها التطور فى آخر مراحله. كيف
تظهر لنا إذًا, خـلال هاتين النظـرتين, مكانة الإنسان فى الخليقة؟...
4 ـ كيف يفسّر
الكـتاب المقدس هـذ المكانة؟...
5 ـ ماذا يعـنى قـول
الكـتاب أن الله خلق الإنسان عـلى صـورته ومـثاله؟...
6 ـ هـا أعـطى الله
الإنسان سلطـانـًا عـلى الطبيعـة؟...
7 ـ ما هى العـلاقة
بين صـورة الله فى الإنسان وبين السلطان الذى مُنحـه عـلى الطبيعـة؟...
8 ـ كيف يُظهـر
الكـتاب المقـدس نوعـية العـلاقات بين الجنسين؟...
كيف يظهر انهما
متعـادلان فى الطبيعـة" [ أنظر تكوين 2: 23 ]...
كيف يظهر أنهما
مكملان أحـدهما للآخـر؟...
كيف يظهـر أن
اتحـادهما يجب أن يكـون صلة عـميقة وإرتباطـًا نهـائيًا؟ [ أنظر تكوين 2: 24, متى
19:
6 ]...
كيف يمـيّز هـذا
الارتباط النهائى وهـذه الصلة العـميقة الحب عـن الشهـوة؟...
هـل يلغـى الحب
الحقيقى الشهـوة أم أنه يلطفها ويوجهها؟...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حـياة الله فـرح دائم لا حـدّ له...
ولكـن " الله محـبّة" ولذلك شاء أن يوجـد كائـنات
يقـيم معها عـلاقة حب فيشركها بحـياته وفـرحه...
فأوجـد هكـذا البشر ليكـونوا أحـباء له متمتعـين
بخـيراته, مساهـمين فى سعـادته...
هـذا هـو مجـد الله, أن يحـيا الإنسان ويسعـد: "
مجـد الله هـو حـياة الإنسان" كما يقـول القـدّيس " إيروناوس" ( وهو أحـد آباء
الكنيسة عـاش فى القـرن الثـانى وكان أسقفـًا عـلى مدينة لـيون حيث استشهد
)...
يخـبرنا الكـتاب المقـدّس أن الله وضع آدم وحـواء
فى حـديقـة جميلة كـانا يتمتعـان فيها يثمـار شهـية...
وهـذا يرمـز إلى أن الله أعّـد للإنسان سعـادة
قـصـوى هى إشتراك فى سعـادته تعـالى...
أمّـا مصـدرهـذه السعـادة فهـو اتحـاد الإنسان مع
الله...
هـذا الاتحـاد الذى يعـبّر عـنه الكـتاب المقـدّس
بالألفـة التى يظهـرها بين الله وآدم إذ يروى لـنا أن الله أتى بالحيوانات لآدم حتى
يسميها بأسمائها:
[ وَجَبَلَ اَلرَّبُّ
اَلإِلَهُ مِنَ اَلأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ اَلْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ
اَلسَّمَاءِ فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا وَكُلُّ مَا
دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اِسْمُهَا ] [ تكوين
2: 19 ]...
وأنه أتـاه بإمـرأة لتكـون لرفيقـة له :
[ وَبَنَى اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ
اَلضِّلْعَ اَلَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ اِمْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى
آدَمَ ] [ تكوين 2: 22 ]...إلخ....
وقـد كـان هـذا الاتحـاد بالله حـريًا أن يمتع
الإنسان بالخـيرات التالية:
التنعّـم بتمام القـوى النفسية من عـقـل نـيّر
وإرادة قـوية توّاقـة إلى الخـير ونيّـة طاهـرة ومحـبة دون
أنانية...
**********
لم يكـن الإنسان خـالدًا بطـبيعـته ولكن إتحـاده
بالله كان حـريًا بأن يهـبه الخـلود يإشراكـه فى خـلود الله نفسه...
لذلك قـال الكـتاب أن الله جـعـل :
[ شَجَرَةَ اَلْحَيَاةِ فِي
وَسَطِ اَلْجَنَّةِ ]ٍ [
تكوين 2: 9 ]...
حتـى إذا أكـل الإنسان منها [ َيَحْيَا إِلَى
اَلأَبَدِ ] [ تكوين 3: 22 ]...
وهـذا يعـنى رمـزيـًا أن الخـلود نعـمة وهـبها الله
للإنسان وأن هـذه النعـمة كانت مرتبطـة بسكنى الإنسان فى جـنّـة عـدن أى فى كـنـف
الله, فى الاتحـاد مع الله...
**********
وقـد كانت الطـبيعـة مهيـأة لتخضـع للإنسان بالنظـر
للصـورة الإلهـية الكـامنة فيه, فـلا تثـور عـليه ولا تضـره ولا تسبب له مشقات
ونكـبات...
هـذا مانـرى أثـرًا له فى سيرة بعض الرهـبان
القـديسين الذين كانت تخضع لهم الحـيوانات المفـترسة لأن الصـورة الإلهـية كانت قـد
تجـددت فى نفوسهم...
وهـذا ما يرينا الإنجـيل إيّـاه فى شخص يسوع الذى
كان يحمل فى إنسانيته الصـورة الإلهـية كاملة, فيقـول الإنجيـلى
مرقس:
[ وَكَانَ هُنَاكَ فِي
اَلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ... وَكَانَ مَعَ اَلْوُحُوشِ...
] [ مرقس 1: 13
]...
**********
ومقابل خضوع الطـبيعـة هـذا للإنسان, كان عـلى
الإنسان أن يكـون كاهن الكـون...
ذلك أن الإنسان بطـبيعـته صـورة مصغـرة عـن الكـون,
ففيه تلتقى عـناصر المادة ووظائف الحـياة وغـرائزها بصـورة الله التى تطبعـها وتسمو
بها...
وهكـذا, فالإنسان بطـبيعـته نقـطة لقـاء بين الله
والكـون ولذا كان عـليه أن يكـوّن صـلة بينهما:
فالله بواسطـته يكمّل عـمـل الخـلق فى الطبيعـة كما
رأينا سابقـًا...
والطـبيعـة بدورهـا تسبّح الله من
خـلاله...
لأن كل تمجـيد يرفعـه الإنسان لله بالقـول والعـمـل
إنما يرفـعـه باسم هـذا الكـون الذى هـو صـورة مصـغـرة عـنه...
وكـان الطـبيعـة قـد وجـدت فى الإنسان عـقـلاً
تسبّح به خـالقها...
هكـذا, كان عـلى الإنسان أن يـديـر الخـليقة باسم
الله وأن يرفع إلى الله تسبيح الطـبيعـة...
هـذا هـو الدور الذى رسمه الله له ككـاهن للكـون
لأن الكـاهن هـو تحـديدًا ذلك الكـائن الذى هـو صـلة بـين الخـالق
والمخـلوق...
**********
هـذا التصميم الذى رسمته المحـبّة الإلهـية لإسعـاد
الإنسان, لم يشأ الله أن يفـرضه عـليه...
ذلك لأن الله خـلق الإنسان حـرًا عـلى صـورته,
وبهـذه الحـرية تقـوم كـرامة الإنسان...
لو كـان الله فـرض تصميمه عـلى الإنسان فـرضـًا كما
فـرض الغـرائز عـلى الحـيوانات والنواميس الطـبيعـية عـلى المادة, لكـان الإنسان
آلة دقـيقة, بديعـة, متقـنة وما كان إنسانـًا, أى كائنـًا عـلى صـورة الله
متمـيّزًا بتلك الصـورة عـن الطـبيعـة كـلّها...
لقـد احـترم الله حـرية الإنسان لأنها شرط
كـرامته...
ولأن المحـبّة الحـقة تحـرم حـرية المحـبوب والله
هـو المحـبّة المطـلقـة التى تتضـاءل أمامها كلّ محـبة بشرية...
الحبّ لا يُفـرض فـرضـًا...
وإلا لم يعـد حـبـًا بلّ عـبودية والله لم يـرد
عـبيدًا بل أبنـاء...
الحـبّ يقـدَّم, والكـائن الذى يقـدَِم إليه يقـبله
أو يرفـضه...
هكـذا عـرض الله عـلى الإنسان حـبّه وانتظـر منـه
الجـواب...
فكـان عـلى الإنسان أن يجـيب بمـلء إخـتياره عـلى
الحـبّ بالحـبّ أو الرفـض...
هـذه مغـامرة الحـبّ الكـبرى أن الله جـعـل نفسه
نوعـًا ما مقـيّدًا بالإنسان, جـعـل تحقـيق تصميمه رهـن حـرية الإنسان, رضى بأن
يكون نجـاح أو فشل هـذا التصميم الإلهى متـوقـفـًا, إلى حـدّ ما, عـلى موقف
الإنسان...
لاهـوت الله يتجـلّى لنـا فى هـذا الاحـترام
الحـبّى المذهـل لحـرية الإنسان...
فى هـذا التخـلّى المذهـل عـن سلطـته المطـلقـة
عـلى الإنسان مخـلوقه...
لذلك كـتب الكـاتب الهـندى طاغـور: " إننى أعـبد
الله لأنه يـترك لى حـرية إنكـار وجـوده"...
أى أن لاهـوته يتجـلّى لى فى هـذا الاحـترام
المذهـل لحـريتى...
كان عـلى الإنسان إذًا أن يتخـذ موقـفـًا من
الله...
أن يقـول لله نعم أو لا...
لقـد خـلق الإنسان مشابهـًا لله ولكـن كان عـليه أن
يحقـق هـذا الشبه بجهـد متـواصـل وتحـرك مستمر نحـو الله...
كمـا أن الطـفـل يحـقـق بنمـوه صـورة الرجـل
الكامنـة فيه...
كان متوقـفـًا عـليه أن ينمّى بلا انقطـاع صـورة
الله فيه...
أو أن يحـاول تعـطيلها وإزالتها من
كـيانه...
تلك هـى تجـربة الحـرية التى عـنها نشأت مأساة
الإنسان...
" شارل باجى" كاتب فرنسى اهـتدى من الإلحـاد إلى
الإيمان المسيحى وقتل سنة 1914 عـلى إحـدى جبهات الحـرب العـالمية الأولى بعـد أن
خلّـف أثـرًا شعـريًا خادًا نقـتطـف منه المقطـع التالى الذى يعـطى فيه الشاعـر
الكـلام لله متحـدثـًا عـن حـرية الإنسان:
{ لأننى أنـا حـر, يقـول الله, وقـد خَـلَقـْت
الإنسان عـلى صـورتى ومثـالى..
هـذا هـو سرّ, هـذه هـى قـيمة...
كـلّ حـرّية...
إن حـرّية هـذا المخـلوق لهـى إنعـكاس فى
العـالم...
لحـرية الخـالق. لذلك نعـلق عـليها أهمية
خاصة...
إن خـلاصًا غـير حـرّ, غـير صـادر عـن رجـل حـر
ليست له قـيمة فى عـينى, فأى طائل له؟...
أى معـنى له؟...
أيّـة أهمية تكـون لخـلاص كهـذا؟...
غـبطة عـبيد, خـلاص عـبيد, غـبطة مستعـبدة, كيف
تريدون أن تهمنى؟ هـل يحب أحـد أن يكـون محـبوبًا من عـبيد؟...
إن كانت القضـية قضـية إعـطاء البرهـان عـن قدرتـى
وحسب, فقـدرتى ليست بحـاجة إلى هـؤلاء العـبيد, إنها معـروفة كفـاية, معـلوم كفـاية
أننى الكلّى الاقـتدار...
قـدرتى تسطع كـفاية فى كل مادة وفى كل
حـدث...
قـدرتى تسطع كـفاية فى رمال البحـر ونجـوم
السماء...
لا إعـتراض عـليها, إنها معـروفة, إنها تسطع كـفاية
فى الخـليقـة الجـامدة...
ولكن فى خـليقتى الحـية, يقـول الله, أردت أفضـل من
ذلك, أردت أكـثر من ذلك...
أفضـل من ذلك بما لا يقاس. أكـثر من ذلك بما لا
يقاس. لأننى أردت تلك الحـرية...
خلقـت تلك الحـرية عـينها...
من عـرف نفسه مـرة واحـدة محـبوبًا بحـرية, لا
يوجـد فيما بعـد الخضـوع طعـمًا...
من عـرف نفسه محـبوبًا من أناس أحـرار, لا يجـد
فيما بعـد معـنى لسجـدات العـبيد...
......
خضـوع العـبيد كلهم لا يساوى نظـرة جميلة واحـدة
لرجـل حـرّ...
أو الأحـرى خضـوع العـبيد كلهم تشمـئز له نفسى
وأننى أهب كل شئ مقابل نظـرة جميلة واحـدة لرجـل حـرّ...
مقابل طاعـة جميلة واحـدة وحب جميل واحـد وإخـلاص
جميل واحـد صادر عـن رجـل حـرّ...
فى سبيل هـذه الحـرية, فى سبيل هـذه المجـانية ضحيت
بكـلّ شئ يقـول الله, فى سبيل ميلى بأن يحبنى رجـال أحـرار...
من أجـل أن أنـال هـذه الحـرية, هـذه المجـانية,
ضحيت بكلّ شئ...
من أجـل أن أخـلق هـذه الحـرية, هـذه
المجانية...
من أجـل أن أطـلق هـذه الحـرية وهـذه المجانية
}...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلّـنا فيما سبق أنه كان من الطـبيعـى عـلى الإنسان
أن يشترك فى الحـوار الذى ابتـدأه الله معـه عـندما خـلقه عـلى صـورته ومـثاله
تعـالى...
هـذا الحـوار كـان ضـروريًا حتى تتـأصّـل صـورة
الله فى الإنسان وتجـعـل منه أيقـونة تشع منها الحضرة الإلهية التى تضفى عـلى
الخـليقة دفء المحـبة...
لذا كان يحـتاج هـذا المخـلوق الجـديد عـيشًا
متواصـلاً فى محـبة الله حتى يتلقـّن منه كيفية القـيام بمهمته السامية ألا وهى أن
يكـون وكـيل الله عـلى هـذه الأرض ناقـلاً إرادته تعـالى فى كـلّ مجـالات الحـياة
ممـدًا فى الزمان والمكان بزرة الفـردوس التى صنعـتها يد الله...
وأهمية معـاشرة الإنسان لله تظهـر لـنا جـليًا من
خـلال خـبرة نعيشها يومـيًا...
كلّـنا يعـلم أن المـولود الجـديد يشبه والديه
ولكـنه ليس مثلهما أو بعـبارة أخـرى إنه عـلى صـورتهما ولكـنه لا يماثلهما بعـد
الكـلية...
عـلى الأبوين أن يحتضـناه ويربّـياه ويدخـلاه
يومـًا بعـد يوم فى سرّ الكـيان الإنسانى حتى يصبح يومـًا ما هـو أيضـًا مثلهما
يفكّـر وينطـق وينتج ويعـمل فى بنيان عـالم أفضل لأخـوته...
أمّا الولد فعـليه أن ينصاع إلى تعـاليم الوالدين
المحـبّة إذ ان إنسانيتنا لا تُـكتسب بادئ ذى بـدء بالقـراءة والتحـليل الذهنـى
ولكن بمعـاشرة أناس آخـرين...
وحقيقة ما أوردناه تظهـر ساطعـة فى المثـل
الآتى:
أولاد صغـار تاهـوا فى مجـاهل إحـدى الغـابات
وعـاشوا فيها فى صحـبة الحـيوانات ومعاشرتها...
هـؤلاء الأولاد نجـدهم بعـد مـدّة يكتسبون عـادات
الحيـوانات التى يعـايشون, فيصـوّتون كما تصـوّت ويسيرون عـلى شاكلتها حتى أنه
يمكنك تعـريفهم بأنهم حيوانات فى أثـواب بشر أو هم بشر بدون
إنسانية...
هـذه الإنسانية المفقودة لا يستعـيدها هـؤلاء
الصغـار إلا بعـد معـاشرة طـويلة للبشر وتدريب طـويل وشاق فى جـو "
إنسانى"...
هكـذا ـ وبقـدر ما ينجح التشبيه بين شؤون
المخـلوقات والأمـور الإلهـية ـ عـلّمنا آباء الكنيسة القديسون أن الإنسان خـلق
عـلى صـورة الله ولكن كان عـليه أن يتتلمـذ فى حضـرة الله حـتى يتمـثـّل به إذ أن
معـاشرة البـارى تعـالى اليومية فـقـط قـادرة أن تجـعـل من الإنسان كـائـنًا
إلهـيًا...
غـير أن هـذا يعـنى, كما قلنا أعـلاه, أن ينصـاع
الإنسان إلى أقـوال الله المربية بحيث يتعـلّم منه تعـالى أن الخـير الأعـظم هـو
الله نفسه كما نقـرأ فى المـزامير ولدى الأنبياء وأن الشر الحقيقى هـو غـيابه عـن
شئون الإنسان...
هـذه الحقيقة العـميقة يصـوّرها لـنا الكتاب
المقدّس بشكل رمـزى ـ كما جـرت العـادة فى تلك العصـور من تاريخ الإنسان ـ فى قـوله
أن الله طلب من الإنسان ألا يأكل من ثمـار شجـرة معـرفة الخـير
والشر...
فكـان قـصد الله إدخـال الإنسان تدريجـيًا فى سرّ
الألوهـة وذلك من خـلال تربيته اليومية عـلى أصـول الحـياة
الفـردوسية...
وكأى تدريب آخـر تتطـلّب التربية الإلهـية معـاشرة
متواصـلة وتفـترض طـاعـة...
أمّـا الإنسان فقـد فضّـل الإستغـناء عـن محـبّة
الله وإحـتضـانه له...
أراد أن يغـتصب الألوهـة إغـتصـابًا معـتقـدًا أنّ
معـرفة الخـير والشر هـى التى تجعـله إلهـًا , بيـد أن الألوهة تؤمّـن له معـرفة
الخـير والشر...
أراد أن يتخـلّص مما كـان يعـتقـده وطـاة الله
عـليه...
لم يفـقه الإنسان أنّ سرّ الحـياة الحقيقية هـو فى
الكلمـة الإلهـية عـلى حـدّ قـول الرب يسوع:
[ قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ.
كلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ ] [
يوحنا 17: 17 ]...
و [ وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ
وَالْحَقُّ
يُحَرِّرُكُمْ ] [
يوحنا 8 : 32 ]...
وكانت الكارثة...
انقطـع الإنسان بإرادته عـن جـوار الله وتـاه فى
جـو لا يناسب أصـله...
فأصبح منساقـًا إلى نواميس غـريبة
عـنه...
وكما أن الولد التائـه فى الأدغـال بين الحـيوانات
يعـتقـد أن دنيـاه التى ترعـرع فيها هـى دنيـاه الأصـلية...
هكـذا اعـتقـد الإنسان عـلى مـرّ الأيـام أن جـوّه
الجـديد هـو الأصـيل, فإعـتاد عـليه وأصبح قطعـة منه...
هكـذا أصبح الإنسان يعـتقـد أن الخطـيئة عـصـر
أساسى فى حـياته...
وترعـرعـت الأجـيال السالفـة فى هـذا الجـوّ
المضـطرب المتسمم وتنشـقـت عـبيره ثم ما لبثت أن نفـثت سمومها فى من
تـلاها...
صـلتنا بخطـيئة الأنسان الأول ليست إذًا صـلة
وراثـة كالتى تتعـلّق بشكل الأنف ولون الشعـر ولكن صـلة جـو يتـرعـرع فيه الإنسان
ويتغـربل كـيانه وتبنى ذاتـه...
فمـنذ نشأتـنا فى جـو الخطـيئة هـذا ونحن
خطـاة...
وهـذا يعـبّر عـنه بأن الموت أصبح مهيمـنًا فى
حـياتنا يعـدها يومـًا بعـد يوم, وإذا ماحاولنا التغـلّب عـليه بإبعـاده عـنّا أو
إبتعـادنا عـنه, جابهنا فى ثياب الضجـر والمرض...
هـذا ما عـبّر عـنه الرسول بولس فى
قـوله:
[ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِـدٍ دَخَـلَتِ الْخَـطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ
وَبِالْخَـطِيَّةِ الْمَـوْتُ وَهَكَذَا اِجْـتَازَ اَلْمَـوْتُ إِلَـى جَمِيعِ
اَلنَّاسِ إِذْ أَخْـطَأَ اَلْجَمِيعُ ] [ رومية 5 :
12 ]...
خطـيئة الإنسان الأول وضعـت الإنسانية فى حـلقـة
مفـرّغـة...
إذ بغـياب الله عـن جـوّنا الذى اخـترنا , أصبح
للموت سلطـانـًا فى حـياتنا...
وعـدم قـدرة الإنسان بدون الله عـلى التخـلّص من
هـذا الكابوس يجعـله ييأس ويعـود إلى مزيـد من التلطـخ فى
الخطـيئة...
وكالعـصفـور الذى لا مفـرّ له من قفصه يعـوّد نفسه
عـلى العـيش فيه مقنعـًا ذاته بجمال قضبانه الحـديدية...
وكالمغـلوب الهـزيل الذى يقـبل أولاً مجـبرًا ثم
يقـتنع بلطف المستعـبد...
هكـذا يحـول الإنسان إقـناع نفسه بحـلاوة الخطـيئة
تحت ضغـط حـتمية المـوت الذى ولدته...
ويُجـبر نفسه عـلى التناسى إلى أن ينسى أم المشكلة
الوحـيدة هـى إرادته فى أن يغـيب الله عـن عـالمه...
إقـرأ الفصـل الثالث
من سفـر التكـوين ومثل الابن الضال [ لوقا 15: 11 ـ 32 ]...
1 ـ كيف كانت تجـربة
الإنسان نتيجة لحريته؟...
2 ـ من هو الكائن
الذى أذكى هـذه التجـربة فى الإنسان؟ ولمـاذا؟...
3 ـ كيف يتضح من
الكـتاب المقدس أن الحـية المذكـورة فى الفصل الثالث من سفر التكوين تشير إلى هذا
الكائن؟ [ أنظر حكمة سليمان 2: 24, يوحنا 8 : 44 , رؤيا 12: 9 ]...
4 ـ ما هى نوعـية
خطـيئة الإنسان الأول؟... كيف تدحض الرأى الشائع الذى يقـول به عـامة الناس
أن تلك الخطـيئة كانت زواج آدم وحواء؟.. [ راجع تكوين 1: 27, 28]... ألا يُظهـر نصّ
الكـتاب نوعـية هـذه الخطـيئة؟ [ أنظر تكوين 3: 1 ـ 5 ]...
5 ـ ألا تلقى قصة
الابن الشاطر ( الابن الضال ) ضوءًا عـلى نوعـية هـذه الخطـيئة؟ ألم يكن الابن
الشاطر عـائشًا فى بحبوحة وتنعـّم فى كنف محـبة أبيه, فلماذا شاء الانفصال عـنه
إذًا؟...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رفـض الإنسان لله أوصـله إلى حـالة غـريبة عـن
أصـله...
بإبتعـاده عـن الله أبيه, لم يعـد الإنسان يمـيّز
فى البشر الآخـرين أخـوة له أبناء للآب الواحد...
إذ أن الأخـوّة تُحـدّد بالنسبة إلى البنوة تجـاه
الآب الواحـد...
وقـد تصـدّعـت أيضـًا, صـلة الإنسان بالطـبيعـة من
حوله إذ أنه لم يعـد يـرى فيها مـذياعـًا لمجـد الله ومخـبرًا لأعـمال يديه, بل
وسيلة لإرواء غـليل أنانيته...
هـذه مأساة الإنسان التى نشأت عـن غـياب الله عـنه
وإذا شئـنا أن نلخّص المـاساة هـذه بكلمة يمكننا أن نقـول أنها مأساة
التفكك...
وحـدة الإنسان مع الله, أى اتحاده به, كانت أساسًا
لوحـدته مع ذاته, ولوحـدته مع الآخـر, ولوحـدته مع الكـون...
فلمّا فـصم الإنسان وحـدته مع الله تصـدّعـت وحـدته
مع ذاته ووحـدته مع الغـير ووحـدته مع الكـون وساد التفكّـك فى تلك المجالات
الثلاثة:
بإنفصـال الإنسان عـن الله حصل تفكّـك فى شخصـه أى
أن الإنسجام بطُـل فى كـيانه:
ـ فالأهـواء ثارت عـلى العـقـل عـوض أن تكـون
خاضعـة له, موجهة منه, لذلك أظلم عـقل الإنسان إذ أصبح فى كـثير من الأحـيان
مسخـّرًا لا للسعـى إلى الحقـيقة بلّ لخـدمة الشهـوات. هكـذا, انتشرت الآراء
والمعـتقـدات الباطـلة بين البشر وأخـذ الإنسان ينظـر إلى الأشياء لا كما هى بل كما
تصـوِّرها له أهـواؤه. وأصبح وهو الكائن العاقل يؤلّـه المال والقـوة والجـاه
والنفـوذ ويتعـبّد لأناس مثا=له من زعـماء وغـيرهم وأصبح يسخّر العـلم نفسه
للدمار...
ـ كذلك ثـارت الغـرائز عـلى الإرادة التى كانت
وظيفتها فى الأساس أن تسيّر هـذه الغـرايز وفـقـًا لصـالح الإنسان الحقيقى. فأصبحت
هـذه الغـرايز تشدّ الإنسان إليها خـلافـًا لحـاجاته الأساسية ( فالسكّير مثلاً
يسعى إلى إرضاء شهوته دون أن يقيم وزنـًا لصحته أو كرامته أو مستقبله أو حياته
العائلية ), فضعـفت الإرادة وأصبحت لا تقاوم الشر إلا بصعـوبة ولا تُردع إلا بجهد
جموح الشهوات...
ـ كذلك طـرأ التفكّـك عـلى عـلاقة الإنسان بجسده,
فأصبح للجسد إستقـلاله وأخـذ يحاول فـرض شهـواته عـلى الإنسان وكأنه غـريب عـنه.
وهـذا ما عـبّر عـنه الكـتاب المقـدّس بقـوله عـن آدم وحـواء:
[ فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا
وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا
لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ ] [
تكوين 3 : 7 ]...
وهـذا يعـنى أنهما بـدءا يحسّان بجسدهما وكـأنه
كـائن مستقـلّ فيهما يطـالب بإشباع شهـواته بينهما كان فيما مضى مع الشخص كلّه فى
حـركة واحـدة إلى الله. هكـذا أصبحت الشهوة مستقلّة عـن الحب عـوض أن تكـون مسخّرة
له...
ـ ومن نتائج التفكّـك فى الكـيان الإنسانى الأمـراض
التى أصبح الإنسان عـرضة لها والتى هى إخـتلال فى نظـام الجسم البشرى, وأخـيرًا
الموت الذى هـو إنحـلال لكـيان الإنسان. لقـد كانت نعمـة الله تكتنف الإنسان
وتحفـظه من الأمـراض والموت, أمّا وقـد رفـض هـذه النعـمة وتعـرّى منها فلم يعـد من
شئ يحفظه من الإنحـلال الذى تؤول إليه طـبيعـه إذا تُركت وشأنها. هـذا ما عـبّر
عـنه الكـتاب المقـدّس بقـوله أن آدم أُبعـد عـن شجـرة الحـياة التى كانت
تجعـله خـالدًا:
[ وَقَالَ اَلرَّبُّ
اَلإِلَهُ: هُوَذَا اَلإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفاً اَلْخَيْرَ
وَاَلشَّرَّ. وَاَلآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ
اَلْحَيَاةِ أَيْضاً وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى اَلأَبَدِ ] [ تكوين 3 : 22
]...
أى أنه فـقـد نعـمة الخـلود بابتعـاده عـن الله
مصـدرها. وبهـذا المعـنى قال الله لآدم:
[ بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ
خُبْزاً حَتَّى تَعُودَ إِلَى اَلأَرْضِ اَلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ
تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ
] [ تكوين 3: 19 ]...
**********
ولكن هـذا التفكّـك الذى ساد فى كـيان الإنسان
الشخصى تعـدّاه إلى العـلاقة بين الإنسان والإنسان...
ذلك أن الإنسان بإنفصـاله عـن الله انفصـل أيضـًا
عـن أخـيه الإنسان...
فالله وحـده يوحّـد عـميقـًا بين
البشر...
ولذا, فالخطـيئة بأبعـادها الإنسان عـن الله تبعـده
عـن قـريبه...
هـذا التفكّـك بدأ فـورًا بعـد السقـوط عـندما سأل
الله آدم عـن مخالفـته فأجـابه:
[ الْمَرْأَةُ اَلَّتِي
جَعَلْتَهَا مَعِـي هِـيَ أَعْـطَتْنِي مِـنَ اًلشَّجَرَةِ
فَأَكَلْتُ ] [ تكوين 3 : 12 ]...
وهكـذا ألقـى المسئولية عـلى إمـراته فـاصـلاً
مصـيره عـن مصـيرها, بينما كانا قـد خُلقـا " ليكـونا جسدًا واحـدًا" أى كـيانًا
واحـدًا...
هكـذا بالخطـيئة تسرّب الإنقسام إلى
البشرية...
فأصبحت الأنانية تفصـل حتى بين الإنسان وأقـرب
الناس إليه, وتشوّه الحب عـلى أنواعـه بإرادة التسلّط عـلى الآخـر وامتلاكه كأنه
مجـرّد شئ او متعـة دون مراعـاة لحـرّيته وكـرامته ومصلحته
وسعـادته...
وقـاد ذلك إلى تنافـر بين الأخ وأخـيه, وبين الأب
وابنه , وبين الزوج وزوجته...
ولذا يروى لنا الكـاب المقـدّس كيف أن السقوط تلاه
قـتل قايين لأخـيه هابيل...
وانفجـرت الأحـقـاد بين البشر وحسد بعـضهم بعـضًا,
وتجـبّر بعـضهم عـلى بعض, واستعـبد بعـضهم بعـضًا, وتطاحـنوا فى حـروب أهـلية
وخارجـية...
**********
أخـيرًا كان من عـواقب السقوط أن بطـل هـذا
الانسجام الذى خـلقـه وأعـدّه الله بين الإنسان والطـبيعـة...
هـذه الطـبيعـة التى كانت معـدّة لتخضـع للإنسان
الحـامل فى ذاتـه صـورة الخـالق, تمـرّدت عـليه حين تشوّهت صـورة الله
فيه...
[ وَقَالَ لآدَمَ: لأَنَّكَ
سَمِعْتَ لِقَوْلِ إِمْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ اَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي
أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا مَلْعُونَةٌ اَلأَرْضُ بِسَبَبِكَ.
بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكاً وَحَسَكاً
تُنْبِتُ لَكَ وَتَأْكُلُ عُشْبَ اَلْحَقْلِ ] [ تكوين 3:
17, 18 ]...
وهكـذا لم يعـد الإنسان فى مـأمن من حتمية نواميس
الكـون بلّ صار إلى حـدّ بعـيد ضحـية هـذه النواميس, فأصبحت مصـدر متاعـب وكـوارث
ونكـبات للإنسان وأخـذت الحـيوانات تؤذيه والجـراثيم تفـتك به...
**********
إقـرأ الفصـل الثالث
من سفـر التكـوين...
1 ـ كيف يظهـر
انفصال الإنسان عـن الله [ تكوين 3: 8 ]...
2 ـ ألا يشبه إنفصال
الإنسان عـن الله إنفصال غـصن عـن شجرته ؟ كيف ذلك؟ وما هى النتائج المنتظرة
لإنفصال كهذا؟...
3 ـ هل بقى الإنسان
محافظًا عـلى موهبة الخـلود بعـد سقطته؟ [ تكوين 3: 19, 22 ]...
4 ـ كيف ظهر التفكك
بين الإنسان وجسده بعـد السقوط؟ [ تكوين 3 : 7 ]...
5 ـ ألم يكن
طـبيعـيًا أن توجد الخطيئة تفككًا بين الإنسان والإنسان؟ لماذا؟ كيف يظهر ذلك فى
تكوين 3: 12 و 4: 8, 9 ؟ وكيف يظهر فى عـلاقات البشر بعضهم ببعـض وحتى أقرب الناس
إليهم؟...
6 ـ ألم يكن من
الطـبيعى أن توجد الخطيئة تصدعًا فى الوحدة التى أعـدها الله بين الإنسان والطبيعة؟
لماذا؟ كيف يظهر هذا التصدع فى تكوين 3 : 17, 18؟ وما هى نتائجه بالنسبة
للإنسان؟...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن السؤال القائم فى كل هذا هو:
كيف يعـرف الإنسان أن الحـالة التى هـو عـليها الآن
ليست وضعـه الأصـيل؟...
كيف يستطيع المـرء أن يقـدر مدى سقوطه بدون معـرفة
ما كان عـليه قبل السقوط؟...
للإجابة عـن هذا السؤال سنعـود إلى المـثل الذى
اتخـذناه منطـلقـًا لنا فى بدء هذا الفصل...
فالولد الذى عاش بين الحـيوانات منذ طفـولته لم
يفـقـه الكارثـة التى ألمّـت به إلا عـندما إلتقـى أخـوة له فى الإنسانية وفهم أن
صـلته الأصـلية هى مع البشر وليس مع الحـيوانات...
هـذا يعـنى أن معـرفته الحقيقية لا تنتج عـن
مقـارنة بين حالته الحاضـرة وفـردوس مفـقـود وليد تخيلاته, ولكنها نتيجة لقـائه مع
أناس يحملون له فى كـيانهم صـورة عـن ذلك الفـردوس إذ أن الإنسانية التى أضـاعـها
جـوّ معـين وليست كلمـات مقـولة أو أحـرف مسطورة...
هكـذا نحن لم نفهم معـنى الخطـيئة إلا بعـدما
تعـرّفنا عـلى أخـينا الكـبير كما يسميه الرسول بولس:
[ ... لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ
صُورَةَ اِبْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ
كَثِيرِينَ ] رومية 8: 29 ]...
فلقـاؤنا مع هـذا الأخ الأكـبر, يسوع المسيح, الذى
حافظ عـلى صـورة الله فيه أيقظنا عـلى الحقيقة مذكّـرًا إيّانا بأن الإنسانية
الحقـة تكمن فى صـلتنا الوثيقـة بالله...
إذًا مـرور يسوع الناصـرى فى بلادنا منذ ما يقارب
الألفى عـام طبع فى أذهان وقلوب البشر وجه رجـل يشبهنا ولكننا لا نماثله إذ أن
الجـو الذى كان يتنشقه لم يكن من هـذا العـالم بالرغم من حضوره فيه
فى كل هذا ما يبعـث إلى التفاؤل...
فبالرغـم من جوّنا المتسمم الفتاك كان بوسعـنا أن
نتعـرّف إلى يسوع وأن نعـرف أنه فى نهاية المطاف يحمـل فى شخصه عـالمنا
الأصـيل...
وإذا ان هذا مستطاعـًا فلأن صـورة الله التى فيه
نادت صورة تشبهها فينا...
هذا يعنى أنه كما الولد الضائع فى الأدغـال يحمل فى
خـلاياه بالرغـم من حيوانيته سمات جذور الإنسانية, هكـذا نحن ما زلنا فى أحقر
أوضاعـنا نحمل صـورة الله فى كـياننا, إنما نحن فـقـد أبطلناها عـن العـمل يحصـرها
فى زاوية عـمة...
ولكن كما أن الله قـد أشعّ النور من الظلام هكذا
ابنه فى لقـائه معـنا أطلق الصـورة الخفـية فينا من الظلمة التى ألجأناها إليها إلى
مكانها الأصـيل فى قلبنا وذهننا...
غـير أن لقـاءنا مع يسوع عـلّمنا أيضـًا شيئـًا
آخـر مهمـًا للغـاية وهـو أن تحقيق صـورة الله كاملة فينا يكمن فى إتضـاعـنا
المستمر إذ أن الله متضع أصـلاً...
هـذا ما يقـوله لنا الرسول بولس فى كلماته
الجميلة:
[ فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا
اَلْفِكْرُ اَلَّذِي فِي اَلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً:
الَّذِي إِذْ
كَانَ فِي صُورَةِ اَللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً
لِلَّهِ.
لَكِنَّهُ
أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ
اَلنَّاسِ.
وَإِذْ وُجِدَ
فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ
اَلصَّلِيبِ ] [ فيليبى 2: 5 ـ 8 ]...
هـذا هـو سرّ التجسّد الذى فـيه تمّ لـنا لقـاء
أفضـل من الذى كان يوم الخـلق...
1 ـ كيف يمكننا
القول أن الخطيئة شوّهت صورة الله فى الإنسان؟ لقد كانت هذه الصورة تظهر فى الإنسان
بعقله وإرادته وميله إلى الصلاح واستعـداده للعطاء وخلوده وسيادته على الكون فكيف
تشوه كل ذلك فى الإنسان؟...
2 ـ هل اُمحت صورة
الله فى الإنسان أم بقيت فيه؟ ألا يختبر كل منا فى ذاته إزدواجية بين العظمة
والحقارة؟
[ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ
لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ اَلإِرَادَةَ
حَاضِرَةٌ عِنْدِي وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ اَلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ.
لأَنِّي لَسْتُ
أَفْعَلُ اَلصَّالِحَ اَلَّذِي أُرِيدُهُ بَلِ اَلشَّرَّ اَلَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ
فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.
فَإِنْ كُنْتُ مَا
لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا بَلِ
اَلْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ
] [ رومية 7: 18 ـ 20
]..
كيف يمكننا أن نفسر
هذه الإزدواجية فى ضوء تعـليم الله؟...
3 ـ هل بطلت محبة
الله للإنسان بعـد سقوطه؟
كيف تجلّت هذه
المحبة [ وَصَنَعَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ
لآدَمَ وَاِمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا ] [ تكوين 3: 21 ]؟
لقـد ترك الإنسان
وحده خارج الجنة لأن حريته هكـذا شاءت ولكن ألم يكن الله مزمعـًا أن يفتقده؟ ما هى
الصـورة الفائقة للعـقل التى اتخـذها هـا الإفتقاد؟...
|