مدخـل إلى العقيدة المسيحية

مقدمة

الفصل الأول فى دستور الإيمان.
  دستور الإيمان النيقاوى القسطنطينى
أولاً تلاوة دستور الإيمان جزء لا يتجزأ من القداس الإلهى
ثانيًا دستور الإيمان يؤكد وحـدة الكنيسة
ثالثًا وحدتنا فى الإيمان ملتصقة بالمحبة
رابعًا الالتزام الشخصى " أؤمن"

الفصل الثانى الإيمان بالله الخالق.
1ـ فى الإيمان
تحـديد الإيمان
الإيمان يختلف عـن المعـرفة العـقلية البحتة
أ ـ لأن الله لا يحـويه العـقـل
ب ـ لأن حقيقة الله لا تفـرض ذاتها عـلى الإنسان
ج ـ لأن الإيمان اعـتراف بالوجـود الشخصى لله
الله يكشف ذاته لنا فيجعـل الإيمان ممكنًا
أسئلة
2 ـ الله يكشف نفسه لنا
الله يكشف ذاته لنا من خـلال الخليقة
أ ـ إرتباط كل ما فى الكون بأسباب
ب ـ نظـام الكـون
الجسم الإنسانى
غـرائز الحيوانات
ج ـ عطش الإنسان المطلق
الله يكشف ذاته لنا بالوحى الإلهى
أسئلة
ملحـق (1)
ملحـق(2)
3 ـ الإيمان والحياة
الإستعـدادات الضـرورية لإقتبال كشف الله
الإيمان لا يكتمل إلا بالحياة
أسئلة
4 ـ الإيمان والعـلم
هـل من تناقض بين الإيمان والعـلم؟
أ ـ لأن العلم والإيمان يعـملان عـلى صعـيدين مختلفين
ب ـ لأن معظم بناة العـلم الحـديث كانوا مؤمنين
ج ـ لأن الاختراعـات الحديثة لا تنفى سلطة الله
أسئلة
ملحـق (1)
  ملحـق (2)


الفصل الثالث الخلق والسقوط.
‏1ـ الخـلق والتطـوّر
‏ رواية الخـلق فى سفـر التكـوين ونظـرية التطـوّر‏
مراحـل التطـوّر‏
أ ـ تطـوّر المـادة‏
ب ـ قـفـزة الحـياة‏
ج ـ تطـوّر الحـياة‏
د ـ قـفـزة الفـكر‏
التطـوّر فى تعـليله الأخـير ومعـناه‏
أ ـ التطـوّر لا يعـلّل بمجـرّد الصـدفة‏
ب ـ التطـوّر لا يُعـلّل بفـعـل " الطبيعـة"‏
ج ـ نظـرة إيمانية إلى التطـوّر
أسئلة‏
  ملحـق
2 ـ خـلـق الإنسان
إرتـباط الإنسان بالطبيـعـة المـادية ‏
  الإنسان عـلى صـورة الله ومثـاله‏
تصميم الله فى اتحـاد الرجـل والمـرأة
أ ـ الجنسان متعـادلان ومكـملان أحـدهما للآخـر‏
ب ـ إتحـاد الجنسين يتم بالزواج الذى هـو صـلة عـميقـة وإرتبـاط نهـائى‏
أسئلة‏
3 ـ مقـاصد الله نحـو الإنسان
غـاية خـلق الإنسان‏
  تصميم الله الخـاص بالإنسان‏
أ ـ التنعم بتمام القـوى النفسية‏
ب ـ الخـلود‏
ج ـ السيادة عـلى الطبيعـة‏
د ـ الإنسان كاهـن الكـون‏
دور حـرية الإنسان‏
ملحـق
4 ـ السقـوط
أسئلة
5 ـ نتـائج السقـوط
أ ـ تصـدعـت وحـدة الإنسان مع ذاته‏
ب ـ تصـدعـت الوحـدة بين الإنسان والغـير
ج ـ تصـدعـت الوحـدة بين الإنسان والطبيعـة
أسئلة
‏‏6 ـ صـورة الله فى الإنسان بعـد الخطـيئة‏
أسئلة


الفصل الرابع ألوهـة الابن.
1ـ ألوهـة الابن
أسئلة
2 ـ شهادات من الكتاب المقدّس على ألوهة الابن
أ ـ فقد أطلق الكتاب المقدس على يسوع المسيح الأسماء الإلهية نفسها التى يطلقها على ‏الله‏
ب ـ وقد نسب الكتاب المقدس لابن الله الجوهر الإلهى نفسه‏
ج ـ وقد نسب له أيضًا الوحدة التامة مع الآب‏
د ـ أخـيرًا نسب الكتاب المقدس للابن الصفات والأعمال الإلهية
1 ـ الأزلية
‏2 ـ السلطة التشريعـية
‏3 ـ السلطة عـلى غفران الخطايا‏
‏4 ـ السلطة الإلهية عـلى الحـياة والموت‏
أسئلة‏
ملحق


الفصل الخامس التجسد.
أولاً غـاية التجسد‏
ثانيًا تهيئة التجسد‏
الناموس
الحوادث التاريخية
الأنبياء
ثالثًا التجسّد فى كتابات القديس كيرلس الكبير‏
1 ـ مفهوم كلمة " صار" فى عبارة " والكلمة صار جسدًا"
2ـ ما معنى كلمة" المسيح"؟
3 ـ كيف يجب أن نفهم " عمانوئيل"؟
4 ـ من هو يسوع؟
5 ـ لماذا دعى كلمة الله إنسانًا؟
6 ـ كيف قيل أن الكلمة أخلى أو أفرغ ذاته؟
7 ـ كيف يكون المسيح واحـدًا؟
8 ـ كيف يكون عمانوئيل واحـدًا؟
9 ـ ما هو هذا الاتحاد؟
أمثلة كتابية عن كيفية الاتحاد
أ ـ الجمرة
ب ـ سوسنة الأودية
ج ـ تابوت العـهد
10 ـ الله الكلمة واحد من اثنين لاهوت كامل وناسوت كامل
براهـين كتابية عـلى أن كلمة الله وإن كان قـد صـار إنسانًا إلا أنه ظل إله‏
‏11 ـ المسيح ليس الله لبس جسدًا, وليس كلمة الله الذى حلّ فى ‏إنسان, بل الله الذى تجسّد فعلاً حسب شهادة الكتب
رابعًا دور العـذراء مريم فى التجسد
 

الفصل السادس الفـداء.
1ـ الصلب
‏*بالصليب حطم المسيح حواجز أنانيتنا
‏* بالصليب أخذ المسيح عـلى ذاته خطيئتنا
‏* بالصليب انتصر المسيح عـلى الألم والموت بدخوله فيهما
‏* ملحق‏
2 ـ القـيامة‏
‏* القيامة فيض الحياة الإلهية فى إنسانية يسوع المنفتحة إلى الله بعطاء كامل
‏* القيامة تفجير لمملكة الموت بدخول سيد الحياة فيها‏
‏* ملحق‏
‏3 ـ إشتراكنا فى صليب الرب وقيامته
‏* تمسك الإنسان بأنانيته مخافة من الموت‏
‏* الكلمة المتجسّد الوحـيد الذى استطاع أن يتخـلى عـن تملك ذاته‏
‏* المسيح نائب عـن البشر أجمعـين‏
‏* إرادة الإنسان والخـلاص‏
* التوبة والأعـمال‏
1ـ محبة المسيح لنا‏
2 ـ ثقتنا بانتصار المسيح عـلى الموت‏
‏* الرب يعـين ضعـفنا‏
‏* إقـتبال الأسرار الإلهية‏
‏* التوبة المستمرة‏
4 ـ الفداء ومحبة القريب‏
‏* محبة الفادى لنا تلهم محبتنا للناس‏
‏* إن محبة الفادى لنا تعين نوعية محبيتنا للناس‏
أ ـ مبنية عـلى بذل الذات‏
ب تتجلّى بالمشاركة‏
ج ـ توجه الإرادة والعمل‏
د ـ مجانية, غـير مشروطة
هـ ـ موجهة بصورة خاصة إلى المتألمين‏
‏* من قيامة المسيح نستمد المقدرة عـلى محبة القريب‏
‏* ملحق
5 ـ الصعـود‏
‏*الصعود تتويج لعملية الفداء‏
‏* تلك هى السماء التى صعد إليها يسوع‏
‏* لكن يسوع صعد إلى السماء ليصعد البشرية معه‏
‏* لقد فتح لنا يسوع بصعوده طريق السماء
‏*الصعود لا يعنى إذًا هـروبًا من الأرض وواجباتها‏
‏* ولكن المسيحى يعلم أن تحوّله هو وتحوّل الكون لم يكتملا إلا عند المجئ الثانى فى نهاية الأزمنة
‏*‏ ولكننا ندخل هـذا الكـون المتجـدد منذ الآن‏‏


الفصل السابع الثالوث القـدوس
*ليس الثالوث فلسفة
‏*ما يُنسب للإنسان لا يُنسب لله
‏*الثالوث يتعدى العدد ‏
‏*موقف روحى صوفى ‏
‏*من هو إله المسيحيين؟ ‏
‏*الابن مولود من الآب والروح القدس منبثق من الآب ‏
‏*المعنى الأخير للثالوث ‏
‏*الثالوث متجلى الله ‏


الفصل الثامن الكنيسة.
‏* الروح القدس يحقق الكنيسة جسد المسيح ‏
‏* الكنيسة شركة المؤمنين فى مواهب الروح ‏
‏* الإكليريكى والعلمانى وعضوية شعب الله ‏
‏* مواهب الروح ومعية الكنيسة ‏
‏* شركة المواهب وشركة المائدة ‏
‏* القداسة هى الهدف ‏
‏*معية القديسين‏
‏* شفاعة القديسين ‏
‏* يسوع المسيح الشفيع الوحيد ‏


الفصل التاسع المعـمودية.
* الأسرار فى الكنيسة
* سر المعمودية
1 ـ المعمودية موت وحياة
2 ـ المعمودية فى الديانات
3 ـ المعنى المسيحى للمعمودية
* ملحق معمودية الأطفال
1ـ المسألة
2 ـ معـمودية الأطـفال فى العـصر الرسولى
3 ـ معـمودية الأطـفال فى العـصور الأولى
4 ـ الأساس التاريخى واللاهـوتى لمعـمودية الأطـفال
5 ـ الولادة الطبيعـية من أبوين مسيحـيين دعـوة إلى العـماد

الفصل العاشر المجئ الثانى والحياة الأبدية.
تمهـيد
1 ـ المجئ الثانى للمسيح
أ ـ يسوع نفسه ‏
ب ـ الأحداث التى تشير إلى المجئ الثانى‏
ج ـ اليقظة والسهر‏
د ـ صـلاة يسوع‏
2 ـ نهاية العالم" الأرض الجديدة"‏
أ ـ فى العـهد القـديم‏
ب ـ فى العـهد الجديد‏
ج ـ الأرض الجديدة‏
3 ـ الموت‏
أ ـ فى المزامير وعند الأنبياء‏
ب ـ موت الأبرار فى سفر الحكمة
ج ـ الحياة الأبدية فى العهد الجديد‏
د ـ ماذا عـن الذين لم يعرفوا يسوع أو لم يقبلوه؟‏
هـ ـ صـلاة‏
4 ـ قيامة الموتى والحياة الأبدية
أ ـ فى العهد القديم ‏
ب ـ فى العهد الجديد
5 ـ تجلى الجسد
أ ـ الحوار مع موتوفيلوف
ب ـ مغزى الحادثة
ج ـ الجسد واسطة لتمجيد الله‏
د ـ مجد القـيامة الأخـير
هـ ـ بدء جـيل المستقبل‏
و ـ تجلى العالم
6 ـ الدينونة
أ ـ عدل الله وحكمه‏
ب ـ المسيح هو الديان
ج ـ شرط الدينونة
7 ـ الصلاة من أجل الموتى
‏ صلاة البار وشركة القديسين

حمل هذا الكتاب

عودة للصفحة الرئيسية

الفصل السادس

اَلْفِـدَاء

" ..وصُلِبَ عَـنّا عَـلَى عَهْدِ بِيلاطُس اَلْبُنْطِى وتَأَلّمَ وقُـبِرَ وَقَامَ مِنْ بَيْن الأمْوَاتِ فِى اَلْيَوْمِ اَلثَالِثِ كَمَا هُوَّ فِى اَلْكُتُبِ. وَصَعَدَ إِِلَى اَلسَمَوَاتِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اَلآبِ. وَأَيْضًا يَأْتِى فِى مَجْـدِهِ لِيَدِينَ اَلأحْيَاءَ واَلأمْوَاتِ. اَلْذِى لَيْسَ لِمُلْكِهِ إِنْقِضَاء..."

 

1ـ الصلب

 

إن الفـداء إمـتداد وتكملة لعـمل التجسّد...

هـذا الفـداء الذى بلغ بالصليب قـمته يمكن أن يُنظـر إليه من ثلاث وجهات نظـر:

 

*بالصليب حطم المسيح حواجز أنانيتنا :

بالتجسّد أصبح الله حاضـرًا فى الإنسان ليجـدّده ويشفيه ويشركه فى حـياته الإلهية...

ولكن بقـى أن يُزال الحاجز الذى أقامته الخطيئة فى صميم الإنسان بينه وبين خالقه...

هـذا الحاجز هو كما رأينا إنغـلاق الإنسان وإنطـواؤه عـلى نفسه دون الله, هـو عـبادة الأنـا التى حكمت عـلى الإنسان بعـزلة مميتة...

كان ينبغى, إذًا, تحطيم هـذا الحاجز لتتدفق فى الإنسان حـياة الله, لأن الإنسان الممتلئ من ذاته لم يعـد لله مكان فيه...

لذلك عـندما اتخـذ ابن الله طـبيعـة الإنسان, داوى أنانيتها بالانفـتاح الكامل والعطاء الكامل اللذين حققهما فى إنسانيته...

 

فإنه طيلة حـياته عـلي الأرض, لم يرد أن يتمتع بالمجـد الإلهى الذى كان كامنـًا فيه...

فإنه : [ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ ] [ فيليبى 2: 7 ]...

أخـلى ذاته من التمتع بالمجـد الإلهى وقبل طوعـًا بوضع العـبد...

فضّل العـطاء عـلى التمتع, ومع أن كل شئ كان فى متناول يده, أراد أن يبذل لا أن يأخـذ:

[ كَمَا أَنَّ اِبْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ ] [ متى 20: 28 ]...

إنه : [ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ  ] [ رومية 15: 3 ]...

ولكن حـياته كلها كانت قربانـًا لله الآب وللبشر الذين صار أخـًا لهم...

فقـد وُلـد فقـيرًا فى مذود البهائم وتشرّد عـند إضطهاد هـيرودس له, وعاش معـظم حياته عـاملاً مجهولاً:

[ أَلَيْسَ هَذَا هُوَ اَلنَّجَّارَ اِبْنَ مَرْيَمَ ] [ مرقس 6 : 3 ]...

وطاف يبشّر فيما [ لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ ] [ متى 8: 20 ]...

ورفض أن يصنع آية فى السماء ليبهـر بها البشر [ وَجَاءَ إِلَيْهِ اَلْفَرِّيسِيُّونَ وَاَلصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ.... جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ اَلنَّبِيِّ ] [ متى 16: 1, 4 ]...

ولكنه كان يصنع العجائب رأفة بالمعـذبين و [ َأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ اَلسُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ فَشَفَاهُمْ ] [ متى 4 : 23 ]...

وقد احتمل عـدم إيمان الكثيرين, حتى أقاربه الذين كانوا ينعـتونه بالجنون وتلاميذه الذين لم يفهموا رسالته حـق الفهم والذين تركـوه كلهم وفـرّوا حين تسليمه, وباعـه أحـدهم وأنكـره آخـر...

وصـبر عـلى كل إهانات وشتائم وإضطهادات أعـدائه الذين كانوا ينعـتونه [ فَقَالَ اَلْيَهُودُ : أَلَسْنَا نَقُولُ حَـسَناً إِنَّكَ سَامِـرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟ ] [ يوحنا 8: 48 ]...

ولم يرد أن ينتـقم منهم بل إنتهـر يعـقـوب ويوحنا عـندما طـلبا إنـزال نـار من السماء لإحـراق قـرية رفـضت أن تستقـبله:

[ وَحِينَ تَمَّتِ اَلأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: { يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟ } فَالْتَفَتَ وَاِنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: { لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ }. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى ] [ لوقا 9: 51 ـ 59 ]...

وزجـر بطـرس عـندما أراد أن يدافع عـنه بالسيف:

[ رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ اَلسَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ ] [ متى 26: 52 ]...

وصلّى من أجـل قاتليه:

[ يَاأَبَتَاهُ اِغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ ] [ لوقا 23: 34 ]...

وأراد, وهو المعلّم والسيّد, أن يكون وسط تلاميذه كالخادم:

[ لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ اَلَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ اَلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ ] [ لوقا 22: 27 ]...

وأن يغسل أرجلهم:

[ قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَاِبْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ اَلَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا ] [ يوحنا 13: 4, 5 ]...

 

هـذا العـطاء الذى به أراد المسيح أن يستأصل أنانيتنا, بلغ ذروته فى الصليب...

كان فى وسع المسيح أن لا يموت بالنظـر لللاهـوت الكامن فيه...

ولكنه ذهب فى تخليه عـن " الأنـا" إلى أقـصى الحـدود, بـاذلاً ذاتـه للمـوت...

وهكـذا قـدّم حـياته عـلى الصليب قـربان محـبة للآب, وتعـبيرًا عـن تخـلّيه التـام عـن مشيئته الذاتية, كما قال بنفسه فى بستان جسيمانى:

[ يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ.... يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ ] [ متى 26: 39, 42 ]...

وكما ورد فى الرسالة للعـبرانيين:

[ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ ] [ عـبرانيين 10: 5 ـ 7 ]...

 

هكـذا تمـرّد آدم, وأطـاع المسيح...

تكـبّر آدم, فتواضع المسيح...

اكتفـى آدم بذاته, فتخلّى المسيح عـن ذاته:

[ وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ ] [ فيليبى 2: 8 ]...

وهكـذا بموته عـلى الصليب, أعـطى البشرية الـدواء الشافى لـداء الأنانية الذى فـصلها عـن الله...

 

* بالصليب أخذ المسيح عـلى ذاته خطيئتنا :

ومن وجهة نظـر أخـرى, نـرى أن الرب يسوع المسيح, لكى ينقـذنا من الخطـيئة التى أصبحنا نئن تحت وطأتها, شاء أن يأخـذها عـلى نفسه, لا أن يأخـذها هى بـلّ أن يحتمل فى ذاته نتائجها المريعة حـبًا بنا...

إن المحب يود لو أنه يستطـيع أن يأخـذ عـلى نفسه مرض المحبوب ليخلصه من وطـأته...

ولكن ما لا يستطيع أن يفعـله الحب البشرى, استطـاع أن الرب يسوع المسيح أن يتممه إذ أنه, لأجـل محـبته لنا, أخـذ عـلى نفسه مرضنا لينقـذنا منه:

[ لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا0 وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً ‏مَضْرُوباً مِنَ اَلْلَّهِ وَمَذْلُولا ] [ أشعـياء 53: 4 ]... و

[ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا ] [ متى 8: 17 ]...

 

فإنه وهـو البـرئ من كل خطـيئة, أخـذ عـلى نفسه كل الشقاء الذى جـرّته الخطـيئة عـلى الجنس البشرى:

[ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ ‏فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ... وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا0 تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا ‏عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا ] [ أشعـياء 53: 2, 5 ]...

وكـانه مـتروك من الله نفسه:

[ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ ] [ متى 27: 46 ]...

حاصـلاً فى ظلمة وحزن مميتين:

[  نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى اَلْمَوْتِ ] [ متى 26: 38 ]...

 

هكـذا تجسّمت فى المسيح ـ وهو لم يعـرف خطـيئة ـ كل مأساة خطـيئة البشر:

[ كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ ‏جَمِيعِنَا ] [ أشعـياء 53: 6 ]...

وكأنه صـار هـو خطـيئة عـلى حـد تعـبير الرسول بولس:

[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا ] [ 2 كورونثوس 5: 21 ]...

 

وهكـذا فإن يسوع المسيح عـلى الصليب ظهـر لله الآب مجسمًا فى جسده الجـريح, الممزّق, المخـتنق, وفى نفسه المنسحقة, بشاعة كل خطيئة البشر التى أخـذها عـلى نفسه فـصار شفـيعـًا للخطـأة أجمعـين عـندما وحـد ذاته معهم:

[ لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ اَلأَعِزَّاءِ وَمَعَ اَلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ ‏سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ ‏وَشَفَعَ فِي اَلْمُذْنِبِينَ ] [ أشعـياء 53: 12 ]...

ذلك أن الآب لم يعـد ينظـر إلى الخطـأة إلا من خـلال هـذه الصـورة, صـورة ابنه الوحـيد الحبيب المصـلوب الذى جعـل نفسه كواحـد منهم.

وبهـذا المعـنى يتابع الرسول بولس:

[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اَلْلَّهِ فِيهِ ] [2 كورونثوس 5: 21 ]...

أى أن الله تصالح مع البشر الخطـأة وغـفـر خطاياهم وبرّرهم وضمهم إليه من خـلال شخص الابن الوحـيد الحبيب الذى وحّـد ذاته معهم...

 

هكـذا كان الحمل الذى كان يُـذبح فى الهيكـل صباحـًا ومساءً تكفـيرًا عـن خـطايا الشعـب رمـزًا وإشارة إلى المسيح الذى قـال عـنه يوحـنا المعـمدان:

[ هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ اَلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ  ] [ يوحنا 1: 29 ]...

 

* بالصليب انتصر المسيح عـلى الألم والموت بدخوله فيهما :

وهناك أخـيرًا, معـنى ثالث بالغ الأهـمية يتجـلّى فى الصـليب...

لقـد دخـل البشر بالخطـيئة فى مملكة المـوت ( وبلغـة الكتاب والآبـاء تُدعـى " الجحيم" )...

وساد عـليهم الحـزن والألم والضعـف والفـناء...

لقـد أصبحوا كمن اُغـلَّق عـليهم فى سجن مظـلم رهـيب...

لقـد كان بإمكان الله أن يحـرّرهم من الخارج, بكلمة منه فـقـط, بإرادتـه الفائقـة...

ولكن محـبته دفعـته أن يشارك البشر أولاً مصـيرهم لكـى يوحّـد ذاته معهم...

المحـبة تـدفع المحـبّ إلى مشاركة المحـبوب فى آلامـه...

هكـذا محـبة الله للإنسان, كما نعـتها كاباسيلاس, لم تدفعـه إلى إجـتياز الهـوة الفاصلة بين الخالق والمخلوق وحسب ـ وهـذا هو التجسّد ـ بل إلى مشاركته أيضًا فى جـحـيم بؤسه...

 

فالإلـه بتجسّده:

[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا... ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...

شاء أن يصـير شبيهـًا فى كلّ شئ بالبشر الذين إتخـذهم إخـوة له:

[ مِـنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِـي أَنْ يُشْبِهَ إِخْـوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلَّهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ ] [ عـبرانيين 2: 17 ]...

أن يشاركهم أيضًا بكلّ ما تعـرّض له هـذا اللحـم والـدم, من جـرّاء الخطـيئة, من حـزن وضـيـق وآلام ومـوت...

هكـذا إكتـمل التجسّد ودخـل ابن الله إلى صميم الطـبيعـة الإنسانية, مخـتبرًا إيـّاها بكـلّ شقائهـا, حتى يشعـر الإنسان فى حـزنه وبؤسه, فى آلامـه الجسدية والمعـنوية, فى نـزاعـه ومـوته, إنـه محـبوب, وأن الله نفسه شاركه فى ذلك كلّه...

لقـد جعـل الله نفسه طـريح الألم لكى لا يشعـر الإنسان أنه يعـانيه وحـده بلّ برفـقة الإلـه المتجسّد الذى عـاش آلام الإنسان فى نفسه وجسده, بمعـيّة ذاك الذى كُتب عـنه:

[ لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ ] [ عـبرانيين 2: 18 ]...

 

هكـذا دخـل يسوع المسيح, حـبًا بالإنسان, مملكة المـوت التى كان غـريبًا عـنها إطـلاقـًا, ليس فـقـط من حيث إلوهـيته التى هـى ينـبوع الحـياة, بلّ من حيث إنسانيته أيضًا...

فإنسانية يسوع المسيح لم تعـرف الخطـيئة البتـّة ولذلك فقـد كانت بالكـليّه غـريبة عـن مملكة المـوت, ذلك المـوت الذى إنجـرف إليه الإنسان بالخطـيئة...

مملكة المـوت هـى مملكة الشيطـان الذى قـتل الناس بالخطـيئة, ولم يكن للشيطان شئ فى إنسانية يسوع المسيح البريئة من كل عـيب, ولـذا قال يسوع لتـلاميذه قـبل تسليمه بقـليل:

[ لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ ( أى الشيطان الذى تسلّط عـلى العـالم بالخطـيئة ) يَأْتِي ( أى أن يسوع سوف يدخـل بالمـوت إلى مملكته ) وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ ] [ يوحنا 14: 30 ]...

فى تلك المملكة التى كان غـريبًا عـنها بالكلّية, مملكة المـوت والشيطان الذى له [ سُلْطَـان اَلْمَـوْتِ ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...

دخـل يسوع حـبًا بالإنسان سجين ذلك العـالم الرهـيب...

 

ولكن مملكة المـوت لم يكـن بوسعـها أن تضبط سيد الحـياة والقـدّوس الـبرئ من الخطـأ...

لـذا كان دخـول يسوع فـيها مقـدمة لتحطـيمها وتحـرير الإنسان منها...

هكـذا لما شاركـنا الرب فى الآلام والمـوت أعـتـقـنا من المـوت والآلام...

ولمّا أسلم ذاتـه لذلك العـالم الرهـيب الذى أوجـدته الخطـيئة ضـرب قـوى الخطـيئة الكامنة فينا ضـربة قاضـية...

عـندما طـرح نفسه فى ظلمتنا, أضاءها بنوره, وعـندما شاركنا فى موتنا أعـطانا حـياته...

هكـذا تحقـقت نبـؤة أشعـياء التى ردّدها الإنجـيل مطبقـًا إيّاها عـلى يسوع:

[ اَلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ اَلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ ] [ أشعـياء 9 : 2 ]...و

[ الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ  ] [ متى 4: 16 ]...

هـذا ما عـبّرت عـنه الرسالة إلى العـبرانيين:

[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْـمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُـوَ أَيْضاً كَـذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَـيْ يُبِيدَ بِالْمَـوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَـهُ سُلْطَـانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...

 

* ملحق :

1 ـ القديس مكسيموس المعـترف هو أحد كبـار معلـمى الكنيسة, عـاش راهـبًا فى القـرن السابع وفقـد لسانه ويـده دفاعـًا عـن الإيمان المستقيم. قال فى سر الخـلاص:

" لقـد عَـلّق السيد جسده الإنسانى كطعم بصنـارة ألوهيته, كأنه يريد بذلك أن يجـتذب الشيطان. وبالفعل هـذا التنين العـقلى, النهم إلى جسد الإنسان فـغـر فاه حـول هـذا الطعـم, حاسبًا إيّاه, من جـرّاء طـبيعـته الإنسانية, سهل المنال. وهكـذا عـلـق بصنـارة الألوهة. بعـد ذلك أرغـمه جسد الكلمة المقـدّس أن يلفظ كليًا الطـبيعـة الإنسانية التى كان سبق فابتلعـها. وهكـذا فالذى كان قـد أغـوى الإنسان مؤمـلاً إيّاه بالتأليه وابتلعـه عـلى هـذا المنوال, أُجْـتـُذِبَ بدوره بجسد الإنسان ذاته وأُرْغِـم عـلى لفـظ ما كان قـد ابتلعـه. هكـذا تجـلّت القـدرة الإلهية بشكل ساطع: فقـد انتصرت عـلى قـوة الغـالب مستخـدمة بمثابة سلاح ضعـف الطـبيعة المغـلوبة. منذ ذلك الحين أصبح الله الظـافر بطـبيعته الإنسانية وليس الشيطان بوعـده الإنسان بالطـبيعة الإلهية"...

 

2ـ والشاعـر " تشارلز باجى" عـبر عـن احتمال المسيح بالصليب كل لعـنة الخطـيئة, وأحصى مع أثمة، لذلك أصبح للبشر الخطـاة الدالة أن ينادوا الآب " أبانا" من خـلال الابن الوحـيد الذى صـار واحـدًا منهم، قائلاً:

" أبانا الذى فى السموات, لقـد عـلمهم ابنى هـذه الصـلاة...

" أبانا الذى فى السموات, لقـد كان يعـرف ماذا يصنع, فى ذلك اليوم، ابنى الذى كان يحبهم بهـذا المقـدار...

" الذى عـاش بينهم، الذى كان واحـدًا مثلهم...

" الذى كان يسير مثلهم، ويتكلّم مثلهم، ويعـيش مثلهم...

" الذى كان يتألم...

" ابنى الذى أحبهم بهـذا المقـدار، الذى يحبهم أبـديًا فى السماء...

" أبانا الذى فى السموات, تلك الثلاث أو ألأربع كلمات...

" تلك الكلمات التى تسير أمام كـل صـلاة كما تسير يـدا المتوسّـل أمام وجهه...

" كما أن يـدىّ المتوسّـل المضمومتين تتقـدّمان أمام وجهه و دمـوع وجهه...

" هـذا ما أخـبرهم ابنى عـنه، لقـد سلم إليهم ابنى...

" سرّ الدينونة نفسها...

" والآن هكـذا يبدون لى، هكـذا أراهم...

" هكـذا أنا مرغـم أن أراهم...

" كما أن أثتر سفينة جميلة لا يـزال يتسع حتى يتلاشى...

" ولكنه يبدأ برأس، وهو رأس السفينة ذاته...

" هكذا موكب الخطـاة الهـائل لا يـزال يتسع حتى يتلاشى...

" يبدأ برأس هـو رأس السفينة ذاته...

" والسفينة هى ابنى نفسه، حاملاً كل خطتايا العـالم...

" ورأس السفينة هو يـدا ابنى المضمومتان...

" وأمام نظـرة غضـبى وأمام عـدالتى...

" أبانا الذى فى السموات, لقـد اخـترع ذلك...

" لقـد كان معهم، لقـد كان مثلهم، لقد كان واحـدًا منهم...

" أبانا، كمثل رجـل يلقى معـطفـًا كـبيرًا عـلى كتفيه...

" ارتـدى، متجهـًا نحـوى...

" معـطف خطـايا العـالم...."...

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2 ـ القـيامة

القيامة إنفجـار قـوة الفـداء المحيية...

ويمكننا لجـلاء معانيها أن نتأملها من وجهتى النظـر التاليتين:

 

* القيامة فيض الحياة الإلهية فى إنسانية يسوع المنفتحة إلى الله بعطاء كامل :

إن الرب يسوع بالصليب بلغ قمّة التخـلّى عـن إرادته الذاتية وقـدّم ذاته بكلّيته إلى الله الآب...

تقـدمة محـبة كاملة وعطـاء لا تحفظ فيه...

هكـذا أصبحت إنسانية يسوع منفتحـة كل الانفـتاح على الله الآب فى شركة حب كاملة معه, لذا تدفقـت فيها الحياة الإلهية كلها وتحولت بالمجد الإلهى...

لقد كان مجـد الألوهة بالطـبع حالاً فى المسيح منذ تجسّده, إذ لم يـزل إلهـًا بعـد أن إتّخـذ جسدنا, إلا أن هـذا المجـد كان مستترًا, محجـوبًا وراء الطـبيعة البشرية التى إتّخـذها ابن الله بحـدودها وشقائها...

لذا جـاع المسيح وعـطش وبكى وتألّم...

لقد كانت الألـوهة مستقـرة فى قلب كيانه ولكنه كان يبـدو فى الظـاهـر إنسانـًا كبقـية النـاس...

ولكن عـندما اكـتمل عـطاء يسـوع المصلوب إجتاح المجـد الإلهى الكامن فيه والمحتجب وراء طـبيعته الإنسانية هـذا الناسوت كله ومـلأه بقـوة الله وحـياته وجماله...

 

عـند الفجـر تكون الشمس أولاً متخفية وراء الأفـق, يتراءى نورها خفـيفًا, ناعـمًا, لا يُبهـر الأنظـار, ثمّ ينفجـر النهار ويغـمر النور الكون كله ويضفى عـلى الأشياء كلها بهـاءًا ساطعـًا...

هكـذا ألوهـة الرب يسوع المسيح المستمـدّة أزليًا من الله الآب فاضت بالصليب فى ناسوته المنفـتح كليًا إلى الآب, فتمجّـد هـذا الناسوت وانتصـر عـلى المـوت...

 

لقـد كانت حادثة التجـلّى:

[ وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ.

وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ.

وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ.

فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ .

وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ اَلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ اَلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اِسْمَعُوا .

وَلَمَّا سَمِعَ اَلتَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً.

فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا .

فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ ] [ متى 17: 1 ـ 9 و لوقا 9: 28 ـ 36 ]...

مقـدمة وصـورة للقـيامة كما يتّـضح من توصـية يسوع بعـد الحادثة:

[ وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ اَلْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ اِبْنُ اَلإِنْسَانِ مِنَ اَلأَمْوَاتِ ] [ متى 17: 9 ]...

فعـلى جـبل التجـلّى فاض نـور الألـوهة المستقـرّ فى الرب يسوع المسيح, فى جسـده, فتغـيّر منظـره وصـار وجهه مضيئًا كالشمس وثيابه بيضـاء كالثلج, لامعـة كالنور...

وقـد حـدث هـذا التحـوّل عـندما كان موسى وإيليا, اللذان ظهـرا, يتحـدّثان مع يسوع:

[ اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ اَلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ ] [ لوقا9: 31 ]...

لقـد تجـلّى يسوع عـندما كان يتحـدّث عـن موته, وفى ذلك إشارة إلى أن إنسانية يسوع كانت سوف تتمجّـد بالمـوت...

 

تلك العـلاقة الوثيقة بين الصليب وتمجـيد يسوع, قـد أوضحها الكتاب المقـدّس فى مواضع مختلفـة...

ففى إنجيل يوحنا نـرى يسوع يقـول لتلامـيذه قـبل آلامه بفـترة وجـيزة:

[ وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: قَدْ أَتَتِ اَلسَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ اِبْنُ الإِنْسَانِ ] [ يوحنا 12: 23 ]...

وأضـاف موضحـًا كيف يتم التمجـيد:

[ اَلْحَـقَّ اَلْحَـقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَـبَّةُ اَلْحِـنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُـتْ فَهِـيَ تَبْقَى وَحْـدَهَـا. وَلَكِنْ إِنْ مَـاتَتْ تَأْتِي بِثَمَـرٍ كَثِيرٍ] [ يوحنا 12: 24 ]...

تمجـيد يسوع هـذا، إذًا، فى مـوته...

كذلك فى الصـلاة التى تفـوّه بها يسوع قـبل خـروجه مع تلاميذه إلى بستان جسيمانى حيث أسلم ذاته, قـال:

[ أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ اَلسَّاعَةُ. مَجِّدِ اِبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ اِبْنُكَ أَيْضاً ] [ يوحنا 17: 1 ]...

" الساعة" التى أتت هى ساعة الصليب والموت كما يتضح من مكان آخـر:

[ فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ ] [ يوحنا 7: 30 ]...

" أتت الساعة, فمجـد ابنك" يعـنى, إذًا, أن ساعة الموت كانت بالنسبة للرب يسوع المسيح هى ساعة المجـد...

 

الصـليب, إذًا, كان يحمل كلّ طـاقـة القـيامة:

لقـد دخـل يسوع المجـد ( الذى له منذ الأزل وهو فى حضن الآب ) عـندما قـبل بإجـتياز المـوت ولم يبـق بعـد ذلك إلا أن يظهـر هـذا المجـد بقـيامته من بين الأمـوات...

بالصليب, إذًا, تحقـقـت القـيامة, لذلك فقـد كانت آلة العـار هـذه بالنسبة ليسوع عـرش المجـد والظفـر...

لذا, شبهها الرسول بولس بتلك المـركبة التى يقـف عـليها قـادة روما الظافـرون ويدخـلون بها إلى المدينة جارين وراءهم رؤساء الأعـداء مقـيدين...

هكـذا إعـتلى المسيح الصليب كمركبة ظفـر وربط بها الأرواح الشريرة مقـيّدة ذليلة:

[ إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيه] [ كولوسى 2: 14, 15 ]...

ولذلك, تحتفـل الكنيسة الأرثوذكسية بحـزن وخشوع فى فى صـلاة الساعة السادسة من يوم الجمعة العـظيمة بذكـرى الصلب منشدة ذاك النشيد المؤثر:

[ يا مـن فى اليوم السادس وفى الساعة السادسة سُمّرت عـلى الصليب من أجـل الخطـية التى تجَـرّأ عـليها آدم فى الفـردوس.... يا يسوع المسيح إلهـنا الذى سُمّرت عـلى الصليب فى الساعة السادسة وقـتلت الخطية بالخشبة وأحيَيْتَ الميت بموتك, الذى هـو الإنسان الذى خلقته بيديك, الذى مات بالخطية, اقـتل أوجاعـنا بآلامك المشفية المحيية وبالمسامير التى سُمّرت بها... صنعت خـلاصًا فى وسط الأرض أيها المسيح إلهنا عـندما بسطت يديك الطاهـرتين عـلى الصليب, فلهـذا كل الأمم تصرخ قائلة: المجـد لك يارب...]...

مظهـرة هكـذا أنه حينما بلغـت الظلمة أشدّها بمـوت المسيح, انفجـر النور فى صميمها ولم يبق لنا إلا انتظار ظهوره فى صباح الفصح...

كذلك, فى خدمة" جناز المسيح" , التى يُحتفل بها بتذكار دفن المسيح, تنشد مع المراثى ترانيم القيامة...

ويا ليتنا نقـرأ, ونتأمّل فى الإصحاح الثالث من مراثى أرميا النبى...

 

* القيامة تفجير لمملكة الموت بدخول سيد الحياة فيها:

ومن جهة أخرى فقـد رأينا أن الرب يسوع المسيح دخـل فى مملكة الموت ( وبعـبارة أخـرى فى الجحيم ) لكى يشارك الإنسان بؤسه وشقاؤه...

ولكن الموت لم يكن بإمكانه أن يضبط من هـو بلاهـوته سيد الحـياة ومصـدرها...

لذلك فقـد كان دخـول المسيح فى الموت حكمـًا مـبرمـًا عـلى المـوت بالزوال...

والمـوت نتيجـة الخطـيئة, ثمـرتها السامة, لذا تحطيم مملكة الموت يعـنى أيضًا تقـويض سلطة الخطـيئة...

لقـد دخـل الرب يسوع المسيح بموته فى السجن الذى كـنّا مقـيّدين, مستعـبدين, نـئن تحت نـير الشر والبؤس والمـوت, فـدكّ هـذا السجن الرهـيب وحطمه من أساسه...

فـأطـلق المـوت يسوع وأطـلق معـه البشرية جمعـاء التى وحـّد يسوع ذاته بها...

لـذا تنشد الكنيسة معـبّرة عـن الخـلاص بصـورة شعـرية:

" أيها الرب, أيها الرب, أن أبواب المـوت قـد انفتحـت لك من الخـوف, ولما أبصرك بوابو الجحيم ارتعـدوا, لأنك حطمت أبوابه النحاسية وسحقت أقفاله الحـديدية وأنقـذتنا من ظلمـة المـوت وإدلهمامه وقطعت قـيودنا"...

وأيضًا:" جمع المـلائكة انذهـل متحـيرًا لمشاهـدتهم إياك محسوبًا بين الأمـوات أيها المخلص وساحقـًا قـدرة المـوت ومنهضـًا آدم معك ومعـتقًا إيّانا من الجحيم كافة"...

 

هكـذا تحقـقت بقـيامة المسيح النبوة التى كان قـد تفـوّه بها هوشع النبى:

[ مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ ‏أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ ] [ هوشع 13: 14 ]...

تلك النبوة ردّد الرسول بولس صـداها بعـدما تحقـقت بالمسيح منشدًا بنشوة الظـفـر الذى جعـلنا يسوع مساهمين فيه:

[ وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: { ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ }. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ ] [ 1 كورونثوس 15: 54, 55 ]...

وأضـاف:

[ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلَكِنْ شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ][ 1 كورونثوس 15: 56, 57 ]...

معـلنًا أن إنتصـار المسيح عـلى الموت هـو فى الآن نفسه إبـادة للخطـيئة فـينا, تلك الخطـيئة التى تُنـْتِج المـوت...

 

هكـذا صـار المسيح القائم من بين الأمـوات محـرّر الإنسانية الحقـيقى الأوحـد لأنه لم يكتف بمعـالجة بعـض مظـاهـر مأساة الإنسان لكنه جـابه المـأساة فى أعـماقها وأصـولها وجعـل فـينا طـاقة تجاوزها...

إنه جـابه قـوى المـوت الكامنة فى الإنسان ( أى قـوى التفكك التى مـزّقت الإنسان نفسًا وجسمًا ) ومن ورائها تلك القـوة الرهيبة التى استخدمتها لاستعـباد الإنسان أعـنى بها قـوة الشيطان...

لقـد جـابه يسوع الشيطان فى عـقـر داره, إذا صحّ التعـبير, وضع نفسه بين براثـنه ليحطمه ويخلّص منه البشر...

دخـل إلى مملكته المظـلمة ليقـيّده ويُبطـل قـوته...

وقـد عـلّمْـنا الرب يسوع نفسه هـذه الحقـيقة بمثل عـندما قـال:

[ حِينَمَا يَحْفَظُ اَلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ اَلْكَامِلَ اَلَّذِي اِتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ] [ لوقـا 11: 21. 22 ]...

 

هكـذا انتصـر المسيح عـلى الموت لما إجـتاز ظـلمته, لقـد " وطئ المـوت بالمـوت" كما تنشد الكنيسة...

لقـد فـتح باب النـور والحـياة بيـديه الداميتين..

ولكنه أحـرز هـذا الظـفـر من أجـلنا نحن, ليجعـلنا مساهمين فيه: نحن ظـافـرون إذًا عـلى قـدر إتحـادنا بالمسيح الظـافـر...

نعـم, إننا لا نـزال نخطـئ ونتألّم ونمـوت, ولكن طاقة الحـياة الظـافرة قـد زُرِعَـتْ فى أعـماقـنا...

من يمـرّ عـلى حقـل بعـد أن زُرعـت فيه البـذور يخاله جامدًا, ميتًا, ولطـم الحـياة كامنة فى أعـماقه تتحفـّز للوثـوب وسوف تنتصـب بعـد فـترة تحت السماء سنابل ذهـبية تتماوج فى النـور...

عـندما كان يسوع موضـوعـًا فى القـبر, كان يبـدو ميتـًا كبقـية الموتى ولكن الحـياة كلها كامنة فى هـذا الجسد الساكن, كقـنبلة مؤقتة كان لابـد لها أن تفـجّـر الموت وتدحْـرج حجـر الضـريح...

هكـذا, فالمتحـدون بيسوع يحملون فى أجسادهم المائـتة ونفـوسهم التى لـم تتحـرّر بعـد كليًا مـن ضـعـفها, طاقة قـيامة ربهم التى سوف تحـوّلهم فى اليـوم الأخـير عـلى صـورة السيد الناهض مـن بـين الأمـوات...

[ لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ ] [ 1 كورونثوس 15: 53 ]...

وقـد كتب الرسول يوحـنا بهـذا المعـنى, مظهـرًا كيف أننا فى آن حاصـلون عـلى التجـدّد ومنتظـرون إعـلانه الكـامل فـينا:

[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، نَحْنُ الآنَ أَوْلاَدُ اللهِ. وَلاَ نَعْلَمُ حَتَّى الآنَ مَاذَا سَنَكُونُ، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ، سَنَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ عِنْدَئِذٍ كَمَا هُوَ! ] [ 1 يوحنا 3: 2 ]...

 

بالقـيامة تحقـق الخـلاص الذى شاء الرب أن يتممه بتجسّده وصـلبه...

القـيامة, إذًا, عـلامة نجـاح خطـة الله لإنقـاذ الإنسان...

إنهـا برهـان خـلاصنا...

ولذلك, فهى الركـيزة الأساسية للبشارة المسيحـية...

فقـد كان الرسل قـبل كل شئ شهـودًا لقـيامة الرب يسوع المسيح:

[ فَيَنْبَغِي أَنَّ اَلرِّجَالَ اَلَّذِينَ اِجْتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ اَلزَّمَانِ اَلَّذِي فِيهِ دَخَلَ ‏إِلَيْنَا اَلرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ. مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى اَلْيَوْمِ اَلَّذِي ‏اِرْتَفَعَ فِيهِ عَنَّا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ‏ ] [ أعـمال الرسل 1: 21, 22 ]...

وكتب الرسول بولس إلى أهـل كورونثوس:

[ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ ] [ 1 كورونثوس 15: 14 ]...

القـيامة قلب الإيمان المسيحى والحـياة الروحـية...

إنها أيضـًا محـور الترتيب الطقسى, فـكـل يوم أحـد تذكـار للقـيامة, وكل قـدّاس إلهى هـو إستمرار لهـا, والصـوم الكبـير إستعـداد للفصـح, والفصـح " عـيد الأعـياد وموسم المواسم" كما تسميه الطقـوس, وقلب الكنيسة الأرثوذكسية فيه تنشد الكنيسة متهللة:

 

المسيح قام...بالحقيقة قام...

إخـرستوس أنستى... أليسوس أنستى...

 

* ملحق:

عـظـة للقـدّيس يوحـنا ذهبى الفـم بمناسبة أحـد الفصـح المجـيد:

من كان حسن العـبادة ومحـبًا لله فليتمتع بحسن هـذا الموسم البهيج. من كان عـبدًا شكورًا فليدخـل إلى فـرح ربه مسرورًا. من تعـب صـائمًا فليأخـذ الآن أجـرته دينارًا. من عـمل من الساعـة الأولى فلينـل اليوم حقـه بعـدل. من قـدِم بعـد الساعـة الثالثة فليعـيّد شاكـرًا. من وافى بعـد الساعـة السادسة فلا يشك فإنه لا يسر شيئًا. من تأخّـر إلى الساعة التسعة فليتقـدّم غـير مرتاب. من وصـل الساعـة الحادية عشرة فلا يخف الإبطـاء فإن السيد كـريم جـوّاد, يقـبل الأخـير مثل الأول, ويربـح العـامل من الساعة الحادية عشرة مثل العـامل من الساعة الأولى. يرحـم الأخـير ويرضى الأول. يعـطى ذاك ويهب هـذا. يقـبل الأعـمال ويسر بالنية. يُكـرم الفـعـل ويمدح العـزم. فإدخـلوا إذًا كلكم إلى فـرح ربكم. أيها الأولون والأخـيرون خـذوا أجـوركم. أيها الأغـنياء والفقراء أطـربوا معـًا فـرحين...

أمسكتم أو توانيتم أكـرموا هـذا النهـار. صمتم أو لم تصوموا أفـرحوا اليوم. المائدة مـلآنة فتمتعـوا كلكم. العـجل سمين وافٍ فلا يخـرجن أحـدًا جائعـًا. تمتعـوا كلكم بوليمة الإيمان. تمتعـوا كلكم بوليمة الصـلاح. لا ينوحـنّ أحـد عَـن فـقـر فإن المملكة العامة قـد ظهـرت. لا يندمنّ أحـد عـلى إثم فإن الصفح قـد بزغ من القـبر. لا يخف أحـد المـوت فإن موت المخلص قـد حـرّرنا. فإنه قـد أخـمد الموت حـين قبض الموت عـليه, وسبى الجحيم بنزوله إليه. مرمره لما ذاق جسده. هـذا ما سبق أشعـياء ونادى قائلاً: تمرمر لما إلتقاك أسفـل. تمرمر لأنه بطل. تمرمر لأنه هُـزئ به. تمرمر لأنه قـد أميت. تمرمر لأنه قـد أبيد. تمرمر لأنه قـد رُبط...

تناول جسدًا فصـادف إلهـًا...

تناول أرضًا فألفـاها سماءًا...

تناول ما نظـر, فسقط من حيث لم ينظـر...

أين شوكتك يامـوت؟...

أين غـلبتك ياهـاوية؟...

قـام المسيح وأنت صـُرعـت...

قـام المسيح والشياطين تساقطت...

قـام المسيح والملائكة جـذلوا...

قـام المسيح والحـياة انبعـثت...

قـام المسيح ولا أحـد ميت فى القـبر...

قـام المسيح من الأمـوات فصـار باكـورة الراقـدين...

فلـه كلّ المجـد والعـزّة إلى دهـر الداهـرين. آمـين...

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3 ـ إشتراكنا فى صليب الرب وقيامته

   

* تمسك الإنسان بأنانيته مخافة من الموت:

إن ما فعـله الرب بإجـتيازه الموت الذى قـاده إلى القـيامة، إنما فعـله من أجـلنا...

ذلك أن الإنسان كان عـليه، كى يُخلّص من شقائه وتفكـكه،أن يقـبل بالتخلّى للأنـا، فيلاقى الله من جـديد وينعـم بحـياته...

ولكن الإنسان الساقط لم يعـد قـادرًا عـلى هـذا التخلّى لأن فى ممارسته شعـورًا بالإنسلاخ والفـراغ وضـياع الذات...

وبعـبارة أخـرى، إذا شاء الإنسان أن يعـرض عـن إتخـاذ الأنـا محـورًا لكـل شئ، شعـر وكـانه يمـوت، كأن حـياته تفلت منه...

لـذا يتمسّك الإنسان بأنـانيته مخـافة من المـوت...

ولكنه بذلك يبقى بعـيدًا عـن الله، ينبـوع الحـياة، وبالتـالى يبقى أسير المـوت ( بمعـناه العام، أى بمعـنى التفكـك الكـيانى الذى ليس الموت الجسدى سوى مظهـر من مظاهـره )...

إذًا, الإنسان يبقـى أسير الموت بداعـى خـوفه من الموت...

تلك هى المفارقة الكـبرى التى هى فى صميم مأساة الإنسان والتى يمكن لكـلّ واحـد منـّا أن يختبرها...

 

فلنتساءل:

لمـاذا نخطـئ، فنجعـل حاجـزًا بين الله وبيننا؟...

الجـواب العـميق عـن هـذا السؤال هـو أننا نخطـئ مخافـة من الموت...

لمـاذا يسرق الإنسان؟...

لأنه مثـلاً يخـاف من الحـرمان، والحـرمان نوع من المـوت...

لماذا الكـذب؟...

لأنه مثلاً يخاف من العـقـاب، والعـقـاب نـوع من المـوت...

لمـاذا يـزنى؟...

لأنـه فى كـثير من الأحـيان يخـاف من العـزلة، والعـزلة نـوع من المـوت...

لمـاذا يتـباهى؟...

لأنه يخـاف أن لا يعـجب به الناس، أن يهمـلوه، وإهـمال الناس له نوع من المـوت...

مجمـل الكـلام أننا نستعـبد أنفـسنا للخطـيئة، وبالتالى للمـوت، الذى هـو عـلى حـدّ تعـبير الرسول بولس:

[ أَجْـرُ اَلْخَطِـيْئَةِ  ] [ رومية 6: 32 ]...

لأن الخطـيئة تفـصـل عـن الله مصـدر الحـياة، بسبب خـوفـنا من المـوت...

هـذا ما عـبّر عـنه الكتاب المقـدّس فى الرسالة إلى العـبرانيين بقـوله:

[ وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عـبرانيين 2: 15 ]...

 

ولنا نموذج لـذلك فى عـلاقتنا البشرية...

كل إنسان يحـلم بأن يعـيش صـداقة كاملة أو حـبًا كامـلاً، لأن قـلبه يتـوق إلى شركة إنسانية كهـذه يروى بها عـطشه إلى حـياة كامـلة...

ولكن الصـداقة الكاملة والحب الكامل أمـران يسعـى إليهما الإنسان دون أن يتمكّن من إدراكهما كـليًا...

إنه فى أحسن الإحـتمالات يقـترب من تحقيقهما ولكنه، حتى فى هذه الحال، يُبقـى عـلى شئ كـثير من العـطش والعـزلة...

إن إتحـاده بمن يحب لا يمكن أن يكـون كامـلاً...

لمـاذا؟...

لأن إتحـاد الإنسان بمن يحـبه لا يتم إلا إذا قـبل الإنسان بأن لا يكـون أنـاه محـورًا لوجـوده، بأن يتخـلّى عـن تمـلّك ذاته، بعـبارة أخـرى إذا قـبل الإنسان بأن يمـر بخـبرة المـوت...

ولكـن الإنسان فى وضعـه الساقـط، وأن قـبل جـزئيًا بتلك الخـبرة، لا يستطـيع أن يقـبلها كـليًا وفى الصميم...

أنه يخـاف المـوت ولـذا يبقى أسير العـزلة وبالتالى أسير المـوت...

 

* الكلمة المتجسّد الوحـيد الذى استطاع أن يتخـلى عـن تملك ذاته:

يسوع المسيح وحـده تمم بناسوته ما لم يكـن بوسع أى إنسان أن يتممه...

الإنسان يسوع المسيح استطـاع وحـده أن يتخـلّى بالحقـيقة عـن تملّـك ذاته، وبعـبارة أخـرى استطـاع وحـده أن يقـبل المـوت بالكـلية وفى الصميم...

ولـذا, استطـاع وحـده أن يـلج بإنسانيته إلى مجـد الله...

لقـد كان رئيس الكهنة عـند اليهـود يدخـل مـرة فى السنة إلى قـدس الأقـداس ( الذى كان يمثل السماء ) حامـلاً دم الذبائـح...

الرسالة إلى العـبرانيين تقـول لنـا أن ذلك كان رمـزًا للمسيح الذى كان فى الآن نفسه الكاهن والذبيحـة، وقـد دخـل بدمه المسفـوك إلى مجـد الله:

[ وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً ] [ عـبرانيين 9: 11, 12 ]...

هـذا الدخـول إلى مجـد الله إنما ظهـر بالقـيامة...

 

* المسيح نائب عـن البشر أجمعـين:

ولكـن يسوع المسيح قـد أتمّ هـذا العـطاء الكامل لا من أجـل نفسه بلّ بالنيابة عـن البشر أجمعـين...

عـندما قـبل المـوت كـليًا إنما قـبله كممثل عـن البشر الذين لا يستطيعـون هـم قـبوله...

هـذا ما عـبّر عـنه الرسول بولس بقـوله:

[ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا ] [ 2 كورونثوس 5: 14 ]...

عـطاؤنا ناقـص لا يمكن أن نبلغ به إلى الله، إنه مشوب بالأنانية المستحكمة فـينا بسبب خـوفنا من المـوت...

ولكننا نستطيع أن نلج إلى الله من خـلال عـطاء يسوع المسيح الكامل...

يسوع، بما أنه قـربان كامل لله، يشفع بضعـفنا وعـجـزنا ويقـرّبنا من الله، كأننا طـيور مكسورة الأجنحة يحملها نسر قـوى ويحـلّق بها إلى أقصى الفضـاء:

[ لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ ] [ عـبرانين 7: 25 ]...

بذبيحة الرب يسوع إذًا، تلك الذبيحة التى تبلغ وحـدها السماوات، ننـال القـيامة التى هى تـدفـق الحـياة الإلهـية فى كـياننا المتفكـك، المـائت...

 

* إرادة الإنسان والخـلاص:

ولكـن الفـداء لا يفـعـل فـينا بشكل سحـرى...

الله لا يُخلّص الإنسان بالاستقـلال عـن إرادة الإنسان لأنه يحـترم حـريته...

لـذا لا ينـال القـيامة من يرفـض الإشتراك فى صـليب المسيح، أى من لا يقـبل أن يدخـل فى طـريق المـوت عـن الذات سلكها يسوع حتى النهـاية...

لقـد علّمنا الرب صـراحة أنه لا يسعـنا الإشتراك معه فى الحـياة الإلهـية ( أى فى قـيامته ) إن لم نسلك فى أثـره طـريق المـوت:

[ إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا ] [ متى 16: 24, 25 ]...

وقـد عـلّمنا الرسول بولس أن إشتراكنا فى الصليب ضـرورى إذا شئنـا أن نكـون منتمـين إلى المسيح وبالتـالى أبناء القـيامة:

[ وَلَكِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا اَلْجَسَدَ ( أى الخطـيئة، أى عـبادة الذات ) مَعَ اَلأَهْوَاءِ وَاَلشَّهَوَاتِ ] [ غـلاطية 5: 24 ]...

و [ فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ اَلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ ] [ رومية 6: 8 ]...

و [ حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا ] [ 2 كورونثوس 4: 10 ]...

و [ لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ اَلأَمْوَاتِ ] [ فيليبى 3: 10, 11 ]...

 

* التوبة والأعـمال:

إننا فى وضعـنا الساقط لا نستطيع بالطـبع أن نقـدّم ذواتنا بالكـلية، ولكـن المطلوب منا أن نجـتهد فى هـذا السبيل...

أن ننـوى بصـدق السير فى طـريق نكـران الـذات وراء المعـلم...

تلك هـى التـوبة فى الأساس...

إنهـا سير فى طـريق إسـلام الذات لله...

وهـذا السير يدوم الحـياة كلها لأن عـطاءنا يبقى ناقصـًا ما حيينا...

لـذا فالكنيسة ليست كنيسة الصـديقين بلّ كنيسة التائبين أى العـائدين من عـبادة ذواتهم إلى عـبادة ربهم...

ولنا فى هـذا السير دافعـان يشددان عـزمنا:

 

1ـ محبة المسيح لنا:

لقـد تجلّت محـبة المسيح لنا بشكل باهـر فى بذله ذاته من أجـلنا...

وقـد قـال هـو عـن نفسه:

[ لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ ] [ يوحنا 15: 13 ]...

وأيضـًا:

[ أَمَّـا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِـي الصَّـالِحُ وَأَعْـرِفُ خَـاصَّتِي وَخَـاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْـرِفُنِي وَأَنَا أَعْـرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَـعُ نَفْسِي عَنِ اَلْخِرَافِ ] [ يوحنا 10: 14, 15 ]...

هـذا الحب المبذول يثـير حـبنا ويدفـعنا إلى أن نحـيا فيما بعـد لا لـذواتنا بل للـذى مات عـنّا حـبًا...

بهـذا المعـنى كتب بولس الرسول:

[ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ اَلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَام ] [ 2 كورونثوس 5: 14, 15 ]...

وفى مكان آخـر كتب:

[ مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي ] [ غـلاطية 2: 20 ]...

أى أننى أسلّم ذاتى ( هـذا هـو المعـنى العـميق للإيمان ) لذلك الذى أسلَم ذاته لأجـلى...

هكـذا فالحب الذى تثـيره فـينا محـبة المسيح المبذولـة لنـا حـتى المـوت يساعـدنا عـلى التغـلّب عـلى الخـوف من المـوت, ذلك الخـوف الذى يحـول دون تقـدمة ذواتنا...

هـذا ما تنشده الكنيسة عـن الشهـداء:

{ لأن المحبة قـد غـلبت الطـبيعة ( أى مخافة الموت المتأصـلة فى طبيعـتنا ) وجعـلت العاشق أن يتّحـد بواسطة الموت بالمعشوق } ( خـدمة عـيد القـديس جورجـيوس )...

 

  ثقـتنا بانتصار المسيح عـلى الموت:

ومن جهة أخـرى فإن حـدّة الخـوف من المـوت تخـف فـينا لمعـرفتنا أن المسيح قهـره بمـروره فـيه...

فيما كان يتحـدّث عـن قـيامة السيد، هتف الرسول بولس بلهجة الانتصـار:

[ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ ] [ 1 كورونثوس 15: 55 ]...

ونحـن إذا شئنا التخـلّى عـن أنـانيتنا ومـررنا من جـراء ذلك فى خـبرة المـوت يهـدأ جـزعـنا لعـلمنا أننا لسنا نجتـاز هـذه الخـبرة وحـدنا، بل بمعـيّة ذاك الذى إجـتاز المـوت قـبلنا وقهـره:

[ أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ اَلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ] [ مزمور 23: 4 ]...

 

* الرب يعـين ضعـفنا:

إننا نتمـرّس، إذًا، عـلى تقـدمة ذواتنا مدفـوعـين بالحب الذى تـثيره فـينا محـبّة الرب لنا وبثقـتنا بانتصـاره عـلى المـوت...

ولكن الرب أيضًا يعـين ضعـفـنا...

ذلك أننا إذا قـبلنا أن نشترك فى صلـيبه، فإن تقـدمتنا هـذه، وإن كانت لا تـزال ناقـصة، مشوبة بالأنانية, تبلـغ إلى الله محمـولة عـلى أجنحـة تقـدمته هـو، كما رأينا...

وبعـبارة أخـرى فإن قـبولنا الإشتراك فى صـليب المسيح يجعـلنا مشتركين فى قـيامته أيضًا، أى فى الحـياة الإلهـية التى إحـتاجت إنسانيته المقـرّبة إلى الله...

وإذا تدفـقـت الحـياة الإلهـية فـينا، أصـبحـنا أكـثر قـدرة عـلى المحـبّة والعـطاء...

تلك هى النعـمة الإلهـية التى تجـدّدنا باستمـرار بفـعـل صـليب الرب وقـيامته...

 

* إقـتبال الأسرار الإلهية:

هـذا ما يجـرى خاصة عـند إقـتبالنا الأسرار الإلهـية...

فعـند إقـامة سر الشكر مثلاً، فى القـدّاس الإلهى، يأتى المؤمنون إلى الله بتوبتـهم ( أى بعـزمهم عـلى إسلام ذواتهم لله ) ولكن هـذه التقـدمة لا تبلغ إلى الله إلا لكـونها تندمج فى التقـدمة الكاملة الوحـيدة، تقـدمة المسيح المصـلوب التى يشكّل كل قـداس إمـتدادًا لها...

إستحـالة الخـبز والخمـر ( اللذين يمثلان تقـدمة البشر ) إلى جسد ودم المسيح معـناها أن المسيح إتخـذ توبـة البشر الناقصـة ودمجهـا بتقـدمته هـو ليوصلها إلى الآب...

هكـذا يبلغ المؤمنون بالمسيح إلى الله وينالون بتناول القـرابين الحـياة الإلهية فيصـيرون مشاركى القـيامة التى تجـدّدهم وتؤهلهم لأن يكـونوا بدورهم قـرابين...

 

* التوبة المستمرة:

هكـذا بالتـوبة التى هى عـملية تستمـر العـمر كلّه ـ لأن طاعـتنا لله ناقصـة ما حيينا ـ وبالأسرار، نشترك أكـثر فأكـثر فـينا عـلى حـدّ تعـبير الرسول، أى نصبح أكـر فأكـثر مساهمين فى انفـتاحه التـام للآب وفى تدفّـق الحـياة الإلهـية فـيه...

وهكـذا شيئًا فشيئًا نصـبح عـلى حـد تعـبير الرسول:

[ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً اِحْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ اَلْخَطِيَّةِ وَلَكِنْ أَحْيَاءً لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا ] [ رومية 6: 11 ]...

وشيئًا فشيئًا نستطيع أن نتبنـى قـول الرسول:

[ لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي ] [ غـلاطية 2: 19, 20 ]...

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

4 ـ الفداء ومحبة القريب

   

* محبة الفادى لنا تلهم محبتنا للناس:

محـبة الفـادى التى تجلّت فى بـذله ذاتـه عـنّا هى بمثابة النـار التى لا بـدّ أن تُلْـهب ما حـولها...

إنها حَـرِيّـة بأن تُضـرم فـينا بدورنـا نـار المحـبة...

لقـد قـال الرب بهـذا المعـنى:

[ جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى اَلأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اِضْطَرَمَتْ؟ ] [ لوقا 12: 49 ]...

الحب يستدعـى الحب...

لقـد بيّـن عـلم النفس الحـديث أن الطفـل يستمد من محبة والديه له المقـدرة عـلى أن يحب بدوره النـاس، وبعـبارة أخـرى إن حب والديه له يوقـظـه إلى الحب، يفجّـر فـيه طاقـة الحبّ...

هكـذا المحـبة الفائقـة التى أبـداها الرب نحـونا تنتزعـنا من إكـتفـائيـتنا لتـلقى بنا بدورنا فى مجازفة الحب...

هـذا الجـواب الحى عـلى محـبّة السيّد يتّخـذ ، كما رأينا، شكل الحب لشخصه، ولكنه يتّخـذ أيضًا شكل محـبّة البشر...

ذلك لأنـه لا يسعـنا، إذا كـنّا مؤمنـين، إلا أن نـرى فى كل إنسان، أيًّـا كان:

[ فَيَهْلِكَ بِسَبَبِ عِلْمِكَ اَلأَخُ اَلضَّعِيفُ اَلَّذِي مَاتَ اَلْمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ ] [ 1كورونثوس 8: 11 ]...

عـند ذاك يصبح كل إنسان، فى نظـرنا، ذا قـيمة لا تقـدّر، قـيمة الدم الإلهـى الذى سكب من أجـله...

 

* إن محبة الفادى لنا تعين نوعية محبيتنا للناس:

محـبّة الفـادى لا تُـلْهِم محـبـتنا للنـاس وحَسْب، ولكنها أيضـًا تعـين نوعـيتها...

ذلك أنـه ينبغـى لنـا أن نحبّ النـاس بالمحـبّة التى أحـبهم بها المسيح...

تلك هى وصـية السيد فى خطابه الوداعـى:

[ هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ ] [ يوحنا 15: 12 ]...

هـذا يعـنى أنـه ينبغـى أن تكـون لمحـبتنا للنـاس الصفـات التالية:

 

أ ـ مبنية عـلى بذل الذات:

يُكْـثر النـاس من استعـمال كلمـة " أحـبّ"، ولكنها هيهات أن يكـون الحب الذى يتحـدّثون عـنه فى كـثير من الأحـيان هـو الحـب الأصـيل الذى عـاشه السيّد...

" أحب التفـاح" يعـنى أننى أتلف التفـاح من أجـل لـذتى...

" أحبّ" إنسانـًا يعـنى فى كـثير من الأحـيان، إذا شئت أن أواجه حقيقتى، أننى أريـد تسخـيره وإستغـلاله لشهـوتى أو مصلحتى...

أمّا المسيح فقد أحـبّنا من أجـل أنفسنا وعـوض أن يُسَخّـرنا له سَخّـرَ نفسه لأجـلنا...

لقـد إعـتبر أن لـنا من الأهمية ما يُبرّر سفـك دمه الإلهى عـنّا...

فأتـاح لنـا هكـذا أن نكتشف المحـبّة الحقـة التى تقـوم عـلى العـطاء...

ولـذا نـرى الرسل يحـثونا عـلى إقـتفـاء آثتار السيّد فى محـبتنا للناس، فقـد قال الرسول يوحنا:

[ وَمِقِيَاسُ الْمَحَبَّةِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَسِيحُ إِذْ بَذَلَ حَـيَاتَهُ لأَجْـلِنَا. فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً أَنْ نَبْذُلَ حَـيَاتَنَا لأَجْلِ إِخْوَتِنَا ] [ 1 يوحنا 3: 16 ]...

"  أَنْ نَبْذُلَ حَـيَاتَنَا " يسوع لم يعـطِ فقـط أشياء مما له, إنما أعـطى ذاته للنـاس، طـيلة حـياته أولاً، التى كانت مسخّـرة لخـدمتهم، ثم فى تقـدمته الكـبرى عـلى الصليب...

ما يُطـلب منّـا أن لا نكتفـى نحـن أيضًا بإعـطاء بعـض الوقت أو المـال للغـير، بلّ أن يكـون الغـير شغـلنا الشاغـل وموضـوع إهـتمامنا الدائم...

المطـلوب أن لا نعـود نحن مركـز إهـتمام ذواتنا بلّ أن يصـبح الغـير هم مركـز الإهـتمام، كما كتب الرسول بولس:

[ فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ اَلضُّعَفَاءِ وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ اَلْبُنْيَانِ. لأَنَّ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ ] [ رومية 15: 1 ـ 3 ]... 

 

ب ـ تتجلّى بالمشاركة:

المسيح إذ أحـبنا شاركنا حـياتنا وآلامـنا وموتنا...

ومحـبتنا نحـن أيضًا يجب أن تتحـلّى بالمشاركة...

قـد يكـون فى الشـفقة ترفّـع عـن الغـير، ولذا فقـد تجـرح النـاس وتضيف إلى آلامهم ألمـًا جـديدًا ومـرارة...

لذلك أوصى الكتاب:

[ فَرَحاً مَعَ اَلْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ اَلْبَاكِينَ ] [ رومية 12: 15 ]...

وأيضًا:

[ اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي الْجَسَدِ ] [ عـبرانيين 13: 3 ]...

وقـد عـاش الرسول بولس المحـبّة إلى حـدّ المشاركة الصميمة فى المـآسى التى أحسّها:

[ مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟ ] [ 2 كورونثوس 11: 29 ]...

 

ج ـ توجه الإرادة والعمل:

ولكـن هـذه المشاركة لا قـيمة لها إن لم تتعـدّ صـعـيد العاطفـة...

فقـد نـريح ضمـيرنا بشكل رخيص مكـتفـين بأن " نشعـر" مع الناس...

ولكن مشاعـرنا لا تهم الله كـثيرًا...

أن ما يهـمه إرادتنـا...

المسيح لن يتلـهَّ بتعـابير غـنائية عـن المحـبة وإنما عـاشها فى عـرق وجهـاد وفى النهـاية بتسلم ذاتـه للمـوت...

لـذا, فليس المهـم أن " أحسّ" نحـو الناس بانعـطاف, إنما المهم أن أوجّـه إرادتى بالفـعـل نحـو خـدمتهم...

هـذا ما عـلّمنا إيّـاه الرسول يوحنا بقـوله:

[ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ الصِّغَارُ، لاَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُنَا مُجَرَّدَ ادِّعَاءٍ بِالْكَلاَمِ وَاللِّسَانِ، بَلْ تَكُونَ مَحَبَّةً عَمَلِيَّةً حَقَّةً ] [ 1 يوحنا 3: 18 ]...

 

د ـ مجانية, غـير مشروطة:

لقـد كان الله هـو البادئ بالمحـبّة، إذ أن الإله المتجسّد بذل نفسه عـنّا بغـض النظـر عـن عـدائنا له، عـن رفضـنا إيّـاه...

لقـد أحـبنا مجـانـًا، دون قـيد أو شرط، لا لسبب آخـر سوى حـبّه المجـانى...

هـذا ما حـدّثنا عـنه الرسول بولس بقـوله:

[ لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ اَلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. ] [ رومية 5: 6 ـ 8 ]...

وبالمعـنى نفسه كتب الرسول يوحـنّا:

[ وَفِي هَذَا نَرَى الْمَحَبَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لاَ مَحَبَّتَنَا نَحْنُ لِلهِ، بَلْ مَحَبَّتَهُ هُوَ لَنَا. فَبِدَافِعِ مَحَبَّتِهِ، أَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا ] [ 1 يوحنا 4: 10 ]...

هكـذا يجب أن تكـون محـبتنا للناس مجـانية كمحـبة يسوع لنـا...

يجب أن نحـبهم مهما كانت صـفاتهم، مهما كان إنسجامهم أو عـدم إنسجامهم معـنا، مهما كانت عـلاقاتهم بنا وتصـرّفـاتهم نحـونا:

[ وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ.

وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى اَلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا.

وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ اَلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ اَلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ اَلْمِثْلَ.

بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي اَلْعَلِيِّ فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ اَلشَّاكِرِينَ وَاَلأَشْرَارِ ] [ لوقـا 6: 32 ـ 35 ]...

 

المسيحى هـو دومـًا البادئ بالمحـبة كما ان المسيح هـو المـبادر بالحب نحـونا...

لقـد كـنّا غـرباء عـنه، ضائعـين فى متاهـات عـبادة الذات، ولكـنه أتى إلينا ـ ولا يزال يأتى ـ فجعـلنا قـريبين إذ غـمـرنا بحـبّه المـبذول...

هكـذا عـلّمنا من هـو القـريب...

لقـد كان اليهـود يعـتقـدون أن القـريب، الذى تتوجّب عـليهم محـبّته، هـو من كان يشاركهم فى الجنس والدين..

وذات يوم سأل أحـد معلّمى النامـوس يسوع قائلاً : من هو قـريبى؟...

فلم يجبه مـباشرة بلّ روى له مثـل السامـرى الصـالح:

[ إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذَلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضاً إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَلَكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ  فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَاعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. فَأَيُّ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟  فَقَالَ: الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَاصْنَعْ هَكَذَا] [ لوقا 10: 25 ـ 37 ]...

هـنا فجّـر يسوع وصـية المحـبة التى كانت فى العـهد القـديم، إذ أعـطانا أبعـادًا شاسعـة وجعـلها تتخطـّى كلّ الحـدود...

عـلمنا أن القـريب ليس من هـو قـريبى، أى من تربطنى به روابط اللحم والدم، روابط العـاطفـة أو المصلحة، روابط الرأى الواحـد، والمجتمع الواحـد...

إنّمـا قـريبى هـو من أصـير أنـا قـريبًا منه بمحـبتى له...

القـريب هـو من أقـترب أنـا منه بالمحـبّة...

إننى أصـبح قـريبـًا لكـل إنسان ـ ويصبح كـل إنسان قـريبى ـ إذا أحـببته، ولو لم يكـن بين هـذا الإنسان وبينى أى رابط بشرى...

أكـثر من ذلك, إذا كان إنسان ما عـدوّى، فمحـبتى غـير المشروطة له تجعـله قـريبـًا، كما أن المسيح صـار قـريبًا لى، وقـد كنت عـدوّه، إذ بـذل نفسه عـنّى...

 

هـ ـ موجهة بصورة خاصة إلى المتألمين:

تلك المحـبّة للقـريب يجب أن تشمل بنوع خاص البشر المتـألمين، الذين هم بحاجة خاصة إليها...

إن كـنّا نحب المسيح فـلنا أن نـرى فى كلّ معـذبى الأرض وجهه الدامـى المكلّـل بالشوك وجسده الممزّق وكـرامته المـداسة من الناس ونفسه الحـزينة حتى الموت...

ذلك أن الرب نفسه جعـل تلك المطابقـة بين المـتألمين وبينه، فـأقـام وحـدة بينه وبين الجـائعـين والعـطاش والعـراة والغـرباء والمـرضى والمسجـونين:

[ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ ] [ متى 25: 35, 36 ]...

هـذا ما سوف يقـوله الرب للأبـرار فى اليـوم الأخـير، مضـيفـًا:

[  فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ ] [ متى 25: 40 ]...

والصغـار هـؤلاء هم البؤساء والضعـفاء الذين هم بنـوع خاص أخـوة يسوع إذ لم يشارك الرب البشر أمجـادهم وغـناهم بلّ إرتضى أن يشاركهم بؤسهم وفـقـرهم...

المـألمون إمـتداد للمسيح المـتألم...

ولذلك كـان أحـد الآبـاء الروحـيين يقـول:

{ إن شئتم أن تلمسوا اليـوم جـراح المسيح كما لمسها تـوما، فما عـليكم إلا أن تحتـكّوا بإنسان بـائس}...

 

لـذا, فموقـفنـا من البائسين لا يمكن أن يكـون بحـال من الأحـوال موقف التـرفـّع والتفضـّل، إنما هـو موقـف إحـترام عـميق لهـؤلاء الذين ، وإن لم يـدروا، وإن جـدّفـوا، هم فى بشاعـة بؤسهم صـورة لذاك الذى إرتضى أن يصبح:

[ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ ‏فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ اَلنَّاسِ رَجُلُ ‏أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ اَلْحُزْنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ ] [ أشعـياء 53: 2, 3 ]...

 

يُـروى عـن القـديس يوحـنا الذى كان بطـريركـًا للإسكندرية أوئل القـرن السابع ودُعـى " يوحـنا الرحـوم"، أنـه عـندما استلم مسئوليته البطـريركـية طـلب من أعـوانه أن يضعـوا له لائحـة بأسماء " سادته"...

وعـندما سألوه مستغـربين من عـسى يكـون هـؤلاء السادة؟...

أجـابهم بأنهم فـقـراء الإسكندرية...

هـذا هـو الموقف المسيحى الأصـيل...

 

ولكـن محـبّة البؤساء والمحـرومين لا يمكن أن تتخـذ طـابع العـمـل الفـردى وحسب، لأنها عـندئذ تكـون ناقصـة...

محـبتنا المسيحية للبائسين تدعـونا لرفض كـلّ ما يكـرّس يؤسهم وحـرمانهم فى الأنظمة الإقـتصـادية والسياسية والإجـتماعـية...

تلك المحـبة تدعـونا للنضـال من اجـل إقـامة مجتمـع يـؤمن لمعـذّبى الأرض العـدالة وشروط حـياة كـريمة...

هـذا ما فهمه عـدد متكـاثر من المسحيين فى عـصـرنا الذين فى كـلّ أقطـار المعـمورة يناضـلون من أجـل العـدالة وكـرامة الإنسان، مدفـوعـين لا بإعـتبارات إنسانية وحسب بل بقـناعـتهم بأن كل ظلم يلحـق بالإنسان إنما هـو طعـنة للمسيح فى الصميم... كل ما لم تفـعـلوه بأحـد إخـوتى هـؤلاء الصغـار فبى لم تفـعـلوا...

أمـام الدمـاء النازفـة من جـراح محـرومى الدنـيا، لا يسع المسيحيين إلا أن يتذكّـروا عـبارة باسكال الشهـيرة:

{ المسيح فى نـزاع إلى منتهى الدهـر، فكيف يسعـنا أن ننام؟ }...

 

* من قيامة المسيح نستمد المقدرة عـلى محبة القريب:

ولكن محبة القـريب، كما حددناها، تلك المحبة غـير المشروطة التى تتجه إلى الآخـر من أجـل ذاتـه وتبذل ذاتها من أجـله، تلك المحبة لا تنسجم مع متطـلبات " الإنسان العـتيق" فينا، ذلك اِلإنسان الساقـط، أسير الأنـا، الذى يَعْـتبر ذاته مركزًا للكـون ولا ينظـر إلى الآخـر إلا كوسيلة لإشباع شهـوته أو حاجـز دون بلوغ مأربه...

 

المحبة المسيحية تفـرض أن نتخـلّق بأخلاق الله وهذا لا يتم لنا إلا باشتراكنا بقيامة المسيح التى بها نصبح مساهمين فى حياة الله وبالتالى فى أخلاق الله...

المحبة المسيحية ثمـرة القـيامة التى نشترك بها كما رأينا بالتوبة وبالأسرار...

" الإنسان العـتيق"، وهـو فى كل منا كامن ما حيينا، لا قـدرة له عـلى المحبة المسيحية لأنه بعـيد عـن الله، فى تفكـك ومـوت...

الحـياة الإلهية إذا تدفـقت فى كياننا تكـوّن فـينا إنسانـًا جـديدًا، مستعـيدًا صـورة خـالقـه، وتجعـلنا بالتالى قـادرين عـلى محـبة القـريب...

لـذا, كتب الرسول يوحنا إلى المسيحيين قائلاً لهم أن المحبة التى تجمع بينهم هى برهان خروجهم من الموت إلى الحياة، أى برهان مساهمتهم فى قيامة المسيح:

[ إِنَّ مَحَبَّتَنَا لإِخْوَتِنَا تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّنَا انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. فَالَّذِي لاَ يُحِبُّ إِخْوَتَهُ، فَهُوَ بَاقٍ فِي الْمَوْتِ ] [ 1 يوحنا 3 : 14 ]...

وقـد كتب الرسول نفسه أيضًا:

[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً: لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَصْدُرُ مِنَ اللهِ. إِذَنْ، كُلُّ مَنْ يُحِبُّ، يَكُونُ مَوْلُوداً مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ ( بالمعنى الكتابى: أى متحد بالله ) . أَمَّا مَنْ لاَ يُحِبُّ، فَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّفْ بِاللهِ قَطُّ لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ! ] [ 1 يوحنا 4: 7, 8 ]...

لـذا, تربـط الكنيسة بين القـيامة ومحـبة الناس فتنشد فى خـدمة الفصح:

{ اليوم يوم القـيامة ... فلنقـل يا إخـوة ونصفح لمبغـضينا عـن كل شئ فى القـيامة }، وكـانها تذكّـرنا بذلك أن إشتراكنا فى القـيامة ينبوع محـبتنا للآخـرين...

 

ولكن إذا كانت محـبة الإخـوّة ثمـرة إشتراكـنا فى القـيامة، فمن جهة أخـرى، التمـرّس عـليها والجهـاد من أجـل إكتسابها هو مظهـر أساسى لذلك المجهـود، مجهـود التـوبة، الذى به، كما رأينا، نقـبل الإشتراك بصليب الرب فنصبح مشتركين فى قيامته...

إن إجهـاد تسليم ذواتنا للرب لا ينفصم عـن الجهـاد فى سبيل محـبة القـريب:

[ وَنَحْنُ أَنْفُسُنَا اخْتَبَرْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي خَصَّنَا اللهُ بِهَا، وَوَضَعْنَا ثِقَتَنَا فِيهَا. إِنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي اللهِ، وَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ ] [ 1 يوحنا 4: 16 ]...

مجمـل الكـلام أن محـبة القـريب هى ثمـرة القـيامة وطريق القـيامة فى آن...

 

إن الاعـتراف بالآخـر شخصـًا مستقـلاً عـن أهـوائنا ومصالحـنا، مهمـًا بحـد ذاته، بعـبارة أخـرى، الإعـتراف به عـلى أنه آخـر وليس مجـرّد إمـتداد لشخصى، هـذا الإعـتراف الذى تفـرضه المحـبة المسيحية، " جحيم" بالفعـل لـ " الإنسان العـتيق" فىّ، إنسان الشهـوة، أسير عـبادة الذات...

إنه إنسلاخ وموت...

ولكن من قـبل أن يجـتاز هـذا المـوت يشترك فى صليب المسيح ويبلغ إلى الله من خـلال إنفـتاحه للآخـر فتتحـقق " السماء" فى قـلبه...

 

*ملحق:

1 ـ كان يوحنا ذهبى الفـم، بطريرك القسطنطينية ( الذى جرّد البطريركية من كل مظاهر الترف وعاش فيها فقيرًا وتوفى سنة 407 فى المنفى لتوبيخه الملوك ) يخاطب بجرأة أغـنياء عصـره، معـلنًا إن إهمالهم للمساكين فى سبيل ترفهم هو إهمال للمسيح نفسه، ومن أقـواله:

{ لقـد أعـطاكم الله سقفـًا دون المطـر لا لترصّـعوه ذهـبصا فى حين أن الفقير يموت جوعـًا. وأعـطاكم ملابس لتتستروا لا لتزكشوها بترف فى حين أن المسيح العارى يموت بردًا. أعـطاكم منزلاً  لا لتسكنوه وحـدكم بل لتستقـبلوا فيه الآخـرين، والأرض لا لتـددوا مواردها عـلى الجـوارى والراقـصات والممثلين وعـازفى المزمار والقـيثارة ولكن لتسعـفوا الجـياع والعـطاش...} ...

{ ماذا ينفع تزيين مائدة المسيح بأوان ذهبية إذا كان هو نفسه سموت جوعـًا؟. فأشبعـه أولاً حينما يكون جائعـًا. وتنظـر فيما بعـد فى أمـر تجميل مائدته بالنوافـل ... }...

{ فـلا تزين الكنائس إن كان ذلك لإهمال أخـيك فى الشدّة، هـذا الهيكل أكـثر جـلالاً من ذاك }...

{ بينما كلبك متخم, يهلك المسيح جوعـًا }...

إنك تحترم هذا المذبح حينما ينزل إليه جسم المسيح ولكنك تهمل وتبقى غـير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذى هو جسم المسيح}...

 

2 ـ ويقـول فرانسوا مورياك ـ الحائز عـلى جائزة نوبل فى الأدب ـ فى محاضرة أمام ثلاثة آلاف شخص بمناسبة أسبوع المفكـرين الكاثوليك، عـنوانها: " الإقـتداء بجـلادى المسيح":

{ أيًا كانت مبرراتنا وأعـذارنا، أقـول أنه، بعـد تسعة عشر قـرنًا من المسيحية، لا يظهـر المسيح أبـدًا, لجـلادى اليوم، فى المعـذّب، لا ينكشف الوجه المقدّس أبـدًا فى وجه العـربى الذى يهوى عـليه مفـوض الشرطة بقبضـته ( وذلك فى نضال المغاربة لنوال استقلالهم عام 1954 وتعـذيبهم من الشرطة الفرنسية ) ألا تجـدون غـريبًا أن يفكّـروا أبدًا بإلههم المقـيد بالعـمود والمسلّم إلى الجـند, أن لا يسمعـوا، من خـلال صـراخ ضمائرهم وأنينها صـوته المعـبود يقـول: " بى تفعـلونه". ذلك الصـوت الذى سيدوّى يومًا، ولن يكون عـند ذاك متوسلاً, وسيصـرخ بنا كلنا نحن الذى قبلنا وربما لأيدنا هذه الأشياء: " كنت هتذا الشاب المحب لوطنه والمحارب من أجـل ملكه، كنت هذا الأخ الذى كنت تريد أن ترغمه عـلى خيانة أخـيه...". كيف لا تعـطى هذه النعـمة أبدًا لأحـد هؤلاء الجـلادين المعـمّدين؟ كيف لا يلقى جنود الفـرقة أحـيانًا سوط الجلد ليركعـوا عـند أقـدام ذاك الذى يجـلدونه؟ }...

 

3 ـ ويقـول " ألـبير لحـام" فى محاضرة عـن " العـدالة السياسية فى المسيحية" التى نشرت بمجلة " محاضرات الندوة" بتاريخ 11/12/1966 ، ص 44:

قلب المسيحية هو الإيمان بأن ابن الله إتخـذ فى ذاته آلامنا طـوعـًا ليحـررنا من الآلام. ليست المسيحية، إذًا، كما يقول البعـض، ديانة تدعـو إلى الخـنوع أمام الألم والظلم...

ليست المسيحية ديانة الألم...

إنما هى ديانة الفـداء...

لا قـيمة للألم فى نظـرنا إلا إذا اقـتُبل, كما اقـتبله المسيح, محـبة بالله وبالآخـرين...

المسيحى, إذا أراد أن يسير فى طريق سيده، لا بـدّ له أن يكـون مستعـدًا لإحـتمال الألم والموت من أجـل تحـرير المتألمين والمظلومين والمستعـبدين، لا بـدّ أن يناضل حتى الدم من أجـل العـدالة...

هـذا ما أوضحه الأستاذ " ألبير لحام" فى محاضرة ألقـاها فى الندوة اللبنانية ضمن سلسلة محاضرات " العـدالة فى المسيحية والإسلام". وفيما يلى مقطع منها:

{ فى وسط الجناح المخصص للمسيحية فى متحف الإلحـاد فى مدينة لينيجراد يقـوم تمثال كـبير للسيد المسيح يرزح تحت وطأة صليب ثقـيل. هـذا التمثال، يقـول لك الدليل، هو رمـز المسيحية التى تدعـو الناس إلى حمل الصليب والرضوخ للظلم والقـبول بالألم والإستسلام للطغـيان بانتظـار حـياة الآخـرة. هـذا التعـريف الكاريكاتورى للمسيحية، كم يذكرنى بقـول الرسول بولس:

[ فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ] [ 1 كورونثوس 1: 18 ]...

فالصليب ليس عـنوان الذل والخمـول والإستسلام...

بل عـنوان المحـبة الإلهية الفـادية...

والتضامن المطلق مع جميع الناس...

والمشاركة التامة للرازحين تحت الظلم والطغـيان...

والمجازفة الجـريئة حتى الموت لتحـريرهم جميعـًا...

لأنه، كما تقـول الرسالة إلى العـبرانيين:

[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين 2: 14, 15 ]...

فإذا كان المسيحى يلتزم قـضية العـدالة السياسية فى مجتمعه، فلأنه يسير فى خطى ذلك الذى إلـتزم بؤسنا وشقاءنا إذ لبس طـبيعـتنا وخاض معـنا، كواحد منا، معـركة المـوت والحـياة، وفتح لنا بصليبه طـريق النصـر والرجـاء وهـو القائـل:

[ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ ] [ يوحنا 10: 10 ]...

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

5  ـ الصعـود

    

* الصعود تتويج لعملية الفداء:

فالمجـد الإلهى، كما رأينا، إجتاح إنسانية يسوع لما أسلمت بإرادتها ذاتها بالكـلية عـلى الصليب...

هـذا المجـد الإلهى نفسه الـذى أقـام يسوع من بين الأمـوات كان كفـيلاً بأن يصعـده إلى السماء، أى بأن يهـب لإنسانيته الإشتراك التام بالحـياة الإلهـية وبالسيادة الإلهـية عـلى جميع الكائنات...

هكـذا دخـلت طـبيعة يسوع الإنسانية، عـندما بلغـت الكمال بالصليب، فى ذلك المجـد الإلهـى الذى كانت طـبيعـته الإلهية تتمتع به منذ الأزل...

هـذا ما أشار إليه الرب عـندما خاطـب الآب قـبيل ذهابه إلى الآلام قـائلاً له:

[ وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ اَلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 17 : 5 ]...

هكـذا كان إنحـدار المسيح بإخـتياره إلى دركـات المـوت طـريقـًا لبلوغـه ذروة المجـد...

هـذا ما أشار إليه الرسول بولس عـندما كتب:

[ اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ اَلَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ اَلسَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ اَلْكُلَّ ] [ أفسس 4: 10 ]...

عـندما إبتعـد ابن الله بتواضعـه الفـائـق، إلى أبعـد حـدّ عـن أصـله الإلهى، عـند ذاك، وبفـعـل هـذا التواضـع بالـذات، عـاد بجسده إلى ذلك الأصـل الإلهى...

هـذا ما انشده الرسول فى رسالته إلى أهـل فيليبى:

[ الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اَللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اَللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اِسْماً فَوْقَ كُلِّ اِسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي اَلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى اَلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ اَلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اَللهِ اَلآبِ ] [ فيليبى 2: 6 ـ 11 ]...

 

* تلك هى السماء التى صعد إليها يسوع:

تلك هى السماء التى صعـد إليها يسوع والذى كان إرتقـاؤه فى الفضاء أمـام التـلاميذ صـورة ورمـزًا لهـا...

إن عـددًا من المؤمنين يخـلطـون بين السماء المادية و" سماء" الله...

يعـتقـدون أن الله كائن يقـبع فى أجـواء الفضاء العـليا...

ويشاركهم عـدد من غـير المؤمنين هتذا التفكـير...

هكـذا صـرّح رائـد الفضاء " تيتوف" أن الله غـير موجـود لأنه لم يجـده أثـناء رحـلته الفضـائية...

هـذا تصـوّر صـبيانى لا يلـيق بالعـقـل الإنسانى ولا بطـبيعة الله...

فالله ليس قـابعـًا فى أجـواء الفضـاء الخـارجى العـليا، إنه كائن لا يحـدّه مكان وهـو حـاضـر بمعـرفته وقـدرته وحـبه وعـنايته فى كل مكان...

إنما الإنسان لكـونه كائنـًا حسيًا ومحـدودًا، لا يستطـيع أن يعـبّر عـن الله إلا بصـورة حسية، ناقـصة...

 السماء المادية تعـلو عـن الارض، لذلك إتّخَـذَت فى كل الأديان صـورة  عـن تعـالى الله...

عـبارة " سماء" نفسها مستقـاة من " سما" التى تعـنى " عـلا"...

السماء المادية رمـز إذًا لتعـالى الله...

هـذا ما عـبّر عـنه أشعـياء النبى عـندما كتب:

[‏ لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ اَلرَّبُّ. لأَنَّهُ ‏كَمَا عَلَتِ اَلسَّمَاوَاتُ عَنِ اَلأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ ‏وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ  ] [ أشعـياء 55 : 8, 9 ]...

صعـود المسيح إلى السماء يعـنى، إذًا، إشتراك إنسانيته فى تعـالى الله، فى حـياة الله، فى مجـد الله، فى سيادة الله...

 

* لكن يسوع صعد إلى السماء ليصعد البشرية معه:

نزعـة الإنسان العـميقة هى أن يبلغ إلى السماء, أى إلى الإشتراك فى الحـياة الإلهـية...

هـذا المعـنى العـميق لحـنينه إلى القـدرة والمعـرفة والعـدالة والحـبّ والسعـادة والخـلود...

ولكنه يطمع أن يبلغ السماء بفـعـله الذاتى...

فأتباع الديانات الوثنية كانوا ولا يزالون يعـتقـدون أن الإنسان يستطيع أن يبلغ إلى عـالـم الإلوهـة بواسطة طـقـوس يقـيمها أو تقـشفات ينصـرف إليها...

كذلك نـرى الكـثيرين من البشر فى عـالمنا الحـديث يحلمـون بتـأليه الإنسانية بوسائل بشرية بحـتة كالإخـتراعـات العـلمية والأنظمة الإجتماعـية...

تجـاه تلك المواقف تعـلن المسيحية أن الإنسان لا يستطـيع بفـعـله الذاتى أن يتخلّص من حـدوده ويبلغ إلى التـأليه، إنه لا يسعـه بمجـرّد مبادرته الذاتية أن يتحـرّر جـذريـًا من الشقاء والخطـيئة والعـزلة والمـوت...

السماء لا تقـتحـم إقـحـامـًا إنما تنحـدر إلينا هـبة مجـانية...

لم يكن بإستطـاعـة الإنسان أن يبلغ إلى الله لو لم ينحـدر الله إلى الإنسان ليرفعـه إليه...

هـذا ما عـبّر عـنه الرب يسوع عـندما قـال لنيقـوديموس:

[ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ ] [ يوحنا 3: 13 ]...

 

طريق السماء أى الحـياة الإلهـية بما تتضمنه من إنتصـار نهـائى عـلى الخطـيئة والشقـاء والعـزلة والمـوت، إنما فـتحـه لنا المسيح عـندما عـاد بالجسد إلى مجـده الذى كان له منذ الأزل...

بصعـوده دشّن صعـودنا نحن...

هـذا معـنى صـلاته إلى الآب قـبل الآلام:

[ أَيُّهَا اَلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي اَلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قََبْلَ إِِنْشَاءِ اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 17: 24 ]...

بصعـود الرب يسوع المسيح بـدأ تأليهنا نحن:

[ اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ ] [ أفسس 2: 4 ـ 6 ]...

 

* لقد فتح لنا يسوع بصعوده طريق السماء:

أى طـريق الإشتراك فى الحـياة الإلـهية...

بقى عـلينا أن نسلك هـذه الطـريق...

ولكن طريقـنـا لا يمكن أن تكـون غـير طـريق يسوع...

وطـريق يسوع إلى القـيامة ثم إلى الصعـود كانت طـريق الإنسلاخ المعـطاء...

طـريق نكـران الذات فى إتجـاه محب إلى الله والناس...

لـذا من أراد الإشتراك فى الصعـود وجب عـليه أن ينسلخ، بجهـاد هـو عـملية الحـياة كلها، عـن التمتع الأنانى بخـيرات الدنيا، كى يتجه، مع المسيح وبمؤازرة نعمـته، إلى فـوق، أى إلى تلك الشركة مع الله التى أعـدّت لنا...

هـذا ما علمنا إياه الرسول بولس عـندما كتب إلى أهل كولوسى:

[ فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى اَلأَرْضِ، لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ اَلْمَسِيحِ فِي اَللهِ] [ كولوسى 3: 1 ـ 3 ]...

 

* الصعود لا يعنى إذًا هـروبًا من الأرض وواجباتها:

ولكن عـبارة الرسول: [ اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى اَلأَرْضِ ] لا تعـنى ، كما يعـتقـد البعـض، أنه ينبغـى للمسيحيين أن يهملوا الأرض، أن يتركـوها وشأنها...

هـذا التفسير بالطـبع مرفـوض لأنه ينافى محـبة القـريب التى بدونها، كما رأينا، لا يمكننا أن نقـترب من الله...

محـبة الإخـوة تفـرض أن نهـتم بشئونهم ليس الروحـية وحسب بل الأرضـية أيضًا ( كما أشبع المسيح الجـياع وشفى المرضى )، أن نعـالج إذًا من أجلهم شئون الدنـيا ( بالعـمل والعـلم والنضـال الإجتماعـى مثلاً )...

عـبارة الرسول تعـنى إذًا أن نعـرض عـن التمتع الأنانى، النهم بخـيرات الأرض...

من إنشغـل بهـذا التمتع تغـرّب عـن الله وعـن الآخـرين لأنه غـارق فى شهـوته...

أما المسيحى الذى يكافح أنانية الشهوة فإنه بمشاركته صـليب الرب، يساهم فى صـعوده، وإذ ينال هكـذا الحـياة الإلهية لا يصبح غـريبًا عـن الناس وهمومهم بل قـريبًا منهم كل القـرب بتلك المحـبة التى فيه، المستمدة من محـبة الله لخـلائقـه...

 

الصعـود لا يعـنى إذًا هـروبـًا من الأرض وواجباتها ومشاكلها وآلامها...

هـذا الهـروب، أيًا كانت مـبرراته، يدل بالعـكس عـلى أننا لم نصعـد بعـد، عـلى أننا لا نـزال أسرى " الإنسان العـتيق" فينا يـؤلّه راحـته وطمأنينته...

الصعـود هـو بالعكس إلتزام كلّى لكـلّ قضايا الإنسان فى الأرض...

إنه حضـور كله حب وبـذل...

ذلك أن السماء، كما سبق فقـلنا، ليست فـوق الغـيوم ولكنها، فى صميم كياننا، إشتراك، منذ الآن، فى حـياة الله...

لقـد قـال الرب يسوع:

[ وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ ] [ لوقا: 17: 21 ]...

وملكـوت الله هـو الحـياة الإلهية، هـو بعـبارة أخـرى السماء...

إذًا, المسيحى الحقـيقى يصعـد إلى السماء دون أن يترك الأرض، إنه يعـيش عـلى الأرض سماويًا أى مشتركـًا فى حـياة الله إلى أن تكتمـل فيه فى اليوم الأخـير...

هـذا ما عـبّر عـنه الرب يسوع عـندما قـال عـن تـلاميذه، مخـاطـبًا الآب:

[ وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي اَلْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي اَلْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ اَلْقُدُّوسُ اِحْفَظْهُمْ فِي اِسْمِكَ. اِلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ.

أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ وَاَلْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ اَلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ اَلْعَالَمِ

لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ اَلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ اَلشِّرِّيرِ ] [ يوحنا 17: 11, 14, 15 ]...

المؤمن المشترك فى صعـود ربـه يتخـلّق بأخـلاق الله:

[ اَلدِّيَانَةُ اَلطَّاهِرَةُ اَلنَّقِيَّةُ عِنْدَ اَللَّهِ اَلآبِ هِيَ هَذِهِ: اِفْتِقَادُ اَلْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ اَلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ اَلْعَالَمِ ] [ يعـقوب 1: 27 ]...

ولكن الحـياة الإلهية الكامنة فيه هى فى جوهـرها حبّ وعـطاء، لذلك لا يسعـها إلا أن تنسكب وتنبت فيما حـولها، ناشرة فى الأرض عـدلاً وسلامـًا وفـرحـًا وإخـاء...

هكـذا يُشـعّ الملكـوت من المؤمنين ليحـوّل الأرض كما تُخـمّـر خمـيرة صـغـيرة العـجين كله:

[  يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ ] [ متى 13: 33 ]...

بهـذا المعـنى دعـا الرب يسوع المؤمنين به :

[ مِلْحَ اَلأرْضِ ] [ متى 5: 13 ]...

الملح يختلف عـن الطعـام ولكنه يختلط بالطعـام إخـتلاطـًا صميميًا ليطعـمه كله...

هكـذا يحمـل المـؤمن فى ذاته حـياة الله التى تفـق العـالم ولكنه يبثـها فى كل مرافـق الوجـود الأرضى، فى الحـياة العـائلية والمهنية والإجتماعـية والسياسية...

حـبّه للنـاس وإشتيـاقه إلى رؤيـة الملكـوت قـد تحـقق تمـامـًا يدفعـانه إلى رسم صـورته فى الكـون...

لذلك، لا يسعـه إلا أن يجـاهد من أجـل كـل حـق وخـير الأرض، من أجـل العـدل والسلام والإخـاء بين البشر، من أجـل كـرامة كـلّ إنسان ونمـو شخصـيته، من أجـل تقهـقـر الشقـاء والألم والمـرض والمـوت...

 

* ولكن المسيحى يعلم أن تحوّله هو وتحوّل الكون لم يكتملا إلا عند المجئ الثانى فى نهاية الأزمنة:

بصعـود المسيح ألقى نـور الله فى صميم الدنيا وبـدأت الأرض تتحـوّل إلى سماء، ولكن فى نهاية الأزمنة :

[ وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ ] [ 2 بطرس 1: 19 ]...

ويجـدّد الكـون :

[ وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ ] [ 1 كورونثوس 15: 28 ]...

صعـود الرب إذًا مقـدمة لمجـيئه الثـانى الظـافـر كما يتضح من الحـادثة نفسها:

[ اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ ‏وَيُعَلِّمُ بِهِ. إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ ‏الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ. اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ ‏بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ ‏الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ ‏يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا { مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي‏‏، لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ ‏بَعْدَ هَذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ}. أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ: { يَا رَبُّ هَلْ فِي ‏هَذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟ } فَقَالَ لَهُمْ: { لَيْسَ لَكُمْ أَنْ ‏تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ. لَكِنَّكُمْ ‏سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي ‏أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ }. وَلَمَّا ‏قَالَ هَذَا اِرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا ‏كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ ‏بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ. وَقَالاَ: { أَيُّهَا اَلرِّجَالُ اَلْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ ‏تَنْظُرُونَ إِلَى اَلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا اَلَّذِي اِرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى اَلسَّمَاءِ ‏سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى اَلسَّمَاءِ} ] [ أعمال الرسل 1: 1 ـ 11 ]...

لـذا ينتظـر المؤمن هـذا الكـون الجـديد:

[ وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ ] [ 2 بطرس 3: 13 ]...

هـذا الكـون الذى وصفـه يوحـنا الرسول فى سفـر الرؤيا قـائلاً:

[ وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ اَلْمَدِينَةَ اَلْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ اَلْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اَللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا.

وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ اَلسَّمَاءِ قَائِلاً: " هُوَذَا مَسْكَنُ اَللهِ مَعَ اَلنَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاَللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ.وَسَيَمْسَحُ اَللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَاَلْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ اَلأُمُورَ اَلأُولَى قَدْ مَضَتْ".

وَقَالَ اَلْجَالِسُ عَلَى اَلْعَرْشِ: "هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً ". وَقَالَ لِيَ: " اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ اَلأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ " ] [ رؤيا 21 : 2 ـ 5 ]...

تلك الأرض المتجـدّدة التـى أصـبحت سماء حضـور الله الكـامل فـيها هـى موطـننا الحقـيقى...

بهـذا المعـنى ورد فى الرسالة إلى العـبرانيين:

[  لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ ] [ عـبرانيين 13: 14 ]...

وفى الرسالة إلى أهـل فيليبى:

[ فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ، اَلَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ اَلرَّبُّ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اِسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ ] [ فيليبى 3 : 20, 21 ]...

 

* ولكننا ندخل هـذا الكـون المتجـدد منذ الآن:

بهـذا المعـنى قـال الرب يسوع:

[ وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ ] [ يوحنا 4: 23 ]...

التجـديد سيكتمل فى اليوم الأخـير ولكنه منذ الآن قـد بـدأ...

ينبغـى أن ندخـل فيه منذ الآن حتى يتحقـق فينا كامـلاً عـند مجئ الرب الثـانى...

المسيحى لا ينتظر مجئ يوم الرب وحسب ولكنه:

[ مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ السَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَاَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ.

وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ.

لِذَلِكَ أَيُّهَا اَلأَحِبَّاءُ، إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ هَذِهِ، اِجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ.

وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا اَلْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ اَلْحِكْمَةِ اَلْمُعْطَاةِ لَهُ ] [ 2بطرس 3: 12 ـ 15 ]...

أى أنه يبـدأ بتحقـيقه، بنعـمة الرب، فيه وحـوله، مستنزلاً عـلى الأرض بعـض أيام السماء...

وفى جهاده، المـرير أحـيانًا، من أجـل الحـق والخـير والفـرح فى الأرض، يشعـر بثقـة لا تعـادلها ثقـة لأنه يعـلم أن جهـوده لن تضـيع وأن الشر والمـوت سيقـهـران نهـائيًا بنعـمة الإله الذى تجسّد وصـلب وقـام وصعـد إلى السماء ليحـرر الإنسان من الخطيئة...