التجسّـد
" ..الذى من أجلنا
نحن البشر ومن أجل خلاصنا, نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن العذراء مريم
وتأنس..."
بالخطيئة كما رأينا, انفصـل الإنسان عـن الله وغـدا
مهمشًا طريحًا غـير قادر أن ينهض نفسه من الهـوة التى سقط فيها...
لم يكن بإمكانه أن يرتفع إلى الله ولذلك فقد شاء
الله فى محـبته أن ينحـدر بنفسه إلى الإنسان ليعـيد الشركة بين الإنسان
وبينه...
إن الله أحـبّ الإنسان " حـبًا جنونيًا" عـلى حـدّ
تعـبير اللاهـوتى " نقـولا كباسيلاس" , حتى أنه وهـو الكائن الأبـدى, الخالق, ذو
السعـادة المطلقة, لم يترك وشأنه ذاك الإنسان الذى رفضه إخـتياريـًا بلّ إنحـدر
إليه ساعـيًا فى طـلبه...
كما سعـى الراعـى الذى تكلّم عـنه الرب يسوع وراء
الخـروف الضال [ لوقا 15: 1ـ
7 ]...
غـير مكتفٍ بالملائكة كما لم يكتف ذل الراعـى
بالتسعة والتسعـين خـورفًا التى لم تضلّ...
بالتجسّد أخـذ الله طـبيعـتنا البشرية المنحطـّة,
الساقطة, واتحـدت مع لاهـوته اتحـادًا فائق الوصف...
ليداوى الله بالتجسّد النزيف الروحى الذى هـو
الخطيئة الأصـلية...
بالتجسّد بث الله حـياته فى الإنسان المريض, ليعـيد
إليه القـوة الروحية التى خارت والجمال الذى تشوّه...
بالتجسد اتحـد الله ذاته بالإنسان لتسرى فى الإنسان
حـياة الله ...
لقـد رأينا ان الإنسان سقط لكونه أراد أن يجعـل
نفسه إلهـًا دون الله, بالاستغـناء عـن الله...
لقـد كان يتوق إلى التألّـه ولكنه ضلّ الطـريق إذ
اعـتقـد أن التألّـه يتم بانتفاخ الأنـا...
فالله لم يخلق الإنسان ليكون له عـبدًا بل شريكًا
فى حياته الإلهية...
ولكن هذه الشركة فى الطبيعة الإلهية لم يكن ممكنًا
بمعـزل عـن الله بلّ كان مشرطًا باتحـاد الإنسان بالله...
لأن من الله, ومن الله وحـده, يستمد الإنسان كل
موهبة وقـوة وحـياة...
خارج الله ليس سوى العـدم والفـراغ
والمـوت...
ولكـن الإنسان استمع على خـداع الشرير فطمع
بالتألّـه دون الله, فلم يبلغ مأربه بل انحطّ من مستواه الإنسانى الأصـيل وأخضع
طبيعـته للمـوت...
لقـد كانت وعـود الشيطان كاذبة, لقـد قال عـنه يسوع
أنه " كَـذَّاب
وَأَبُواَلْكَـذِب " [
يوحنا 8: 44 ], عـندما اعـلن للإنسان أنه بمخالفة الله يصـير
إلهـًا...
تلك الوعـود البراقـة كانت وهمـًا وخـداعـًا ولكن
مل لم يستطع الإنسان أن يحققه عـندما تشامخ حققه له الله عـندما نزل
إليه...
وحتى لا يتششت القارئ فى معنى أن الإنسان تألّه
بالتجسد؟...
هـذا لا يعـنى أننا أصبحـنا آلهة بالطبيعة, فإننا
مازلنا مخلوقات...
ولكن التألّـه يعـنى أن حـياة الله قـد أُعْطيت لنا
فصـرنا مشاركين له فى محبته, فى مجده, فى قـوته, فى فـرحه, فى حكمته, فى قـداسته,
فى خلوده...
لم ولن نبلغ جوهـر أو لاهـوت الله لأنه دائمًا
متعـالٍ لا يمكن الوصول إليه, ولكن القـوى الإلهية أعْطيت لنا وأصبحت فى
متناولنا...
هـذا ما اوضحه بنوع خاص القـديس " غـريغوريوس
بالاماس" وثبتته المجامع الأرثوذكسية...
بهـذا المعنى ينبغى أن نفهم كلمة الرسول
بطـرس:
[ كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ
الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ
لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ
الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ
وَالْفَضِيلَةِ،
اللَّذَيْنِ
بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى
وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا
بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ
مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي
الْعَالَمِ
بِالشَّهْوَةِ.
وَلِهَذَا
عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي
إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ
مَعْرِفَةً،
وَفِي
الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً،
وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي
الصَّبْرِ
تَقْوَى،
وَفِي
التَّقْوَى مَوَدَّةً
أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ
مَحَبَّةً ] [ 2 بطرس 1: 3 ـ 7 ]...
التجسد
إذًا مبادرة محبة مجانية من الله نحو الإنسان الذى ابتعـد عـنه ورفضه بإختـياره:
[
وَقَدْ
أَظْهَرَ اللهُ مَحَبَّتَهُ لَنَا إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الأَوْحَدَ إِلَى
الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. وَفِي هَذَا نَرَى الْمَحَبَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ،
لاَ مَحَبَّتَنَا نَحْنُ لِلهِ، بَلْ مَحَبَّتَهُ هُوَ لَنَا. فَبِدَافِعِ
مَحَبَّتِهِ، أَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا
] [ 1يوحنا
4: 9, 10
]...
ولكن محبّة الله لا تُفـرض فرضـًا..
ولذا كان عـلى الإنسان أن يتقـبّل مبادرة الحب
الإلهى هـذه...
من أجل هـذا اهتم الله بمحة أبوية أن يهيئ البشر
تدريجـيًا إلى إقـتبال التجسد وكان عـمله شبيهًا بعـمل المربّى الحكيم الذى يهيئ
للطفل الظروف المؤاتية كى يرقى مراحل النمو الواحدة تلو الأخرى حتى يصل إلى
البلوغ...
وقـد ظهـرت هـذه التربية الإلهية لحـرية الإنسان
خاصة فى الشعـب الإسرائيلى الذى بقى وحـده بين الشعوب أمينًا لله رغم خطاياه
الكثيرة...
ففيه خاصة هيأ الله البشر إلى إقتبال التجسد حتى
إذا تم يحمل أفراد من هذا الشعـب بشارته إلى العـالم أجمع...
وقـد اتخـذت هـذه التهيئة وجـوهًا مختلفة
منها:
وهو مجموعة شرائع أعـطيت إلى الشعب الإسرائيلى بوحى
من الله...
وقد قال عـنه الرسول بولس:
[ إِذاً قَدْ كَانَ
النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا
إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ
نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ ] [
غـلاطية 3: 24 ]...
والمؤدب كان عـند اليونان عـبدًا موكولاً إليه أن
يصحب الأولاد المؤتمن عـليهم ويسهر عـليهم وياقنهم ميادئ المعـرفة ليتمكنوا فيما
بعـد من استماع دروس يلقيها معلّم شهير...
تلك كانت وظيفة الناموس بالنسبة إلى
اليهود...
فالوصايا العـشر مثلاَ كانت غايتها تهـذيب أخـلاق
الناس كى يُعـَدّوا للدخـول فى ملكوت المحـبة...
أمّا الذبائح التى كان يفـرضها الناموس للتكـفير
عـن الخطايا فقد كانت رمـزًا يشير إلى الذبيحة الحقيقية الواحدة وهى موت يسوع
المسيح عـلى الصليب...
وقد كانت حوادث تاريخ الشعب اليهودى ترمـز إلى
حـوادث الخـلاص وتُعـدّ الشعـب لإقتـبال التجسّد...
فيوسف الذى باعـه أخـوته حسدًا وصار كما قال الكتاب
عـنه " مخلّص العالم" أثناء المجاعة التى حصلت, كان رمـزًا للمسيح الذى أُسْـلِمَ
حسدًا من اليهـود أخوته بالجسد إلى الرومانيين لكى يميتوه صلبًا فصار بالمعـنى
الكامل " مخلّص العالم"...
مطعمـًا الناس ليس خـبزًا ماديًا كما فعـل يوسف بل
الخـبز السماوى الذى هـو جسده...
كذلك خـلاص الشعب الإسرائيلى من عـبودية فـرعـون
عـلى يد موسى ودخـوله فى أرض الميعـاد عـلى يد يشوع الذى هـو اسم يسوع بالذات
ومعـناه " الله يخلّص", كان رمـزًا لخـلاص المؤمنين من عـبودية الشيطان بتجسّد
المسيح وموته وقيامته ودخـولهم إلى ملكوت الله...
كذلك أرسل الله أنبياء إلى شعـبه عـلى مـرّ
الأجـيال لتهيئته لإقـتبال التجسّد...
والنبى كما يدلّ إسمه كانت مهمته أن ينبئ بإرادة
الله أى أن يعـلنها بقـوة داعـيًا البشر إلى تقـويم ما إعـوج من سيرتهم وإلى
الرجـوع إلى الله...
هـؤلاء الأنبياء أعـدّوا الشعـب اليهودى لإقـتبال
التجسّد:
1 ـ لأنهم كانوا يحـرّكون الضمائر النائمة
المتحجّـرة وقـولون جهـرًا للناس أن تتميم الشريعـة فى الظاهـر لا يهم, إنما المهم
تغـيير القلب وإعـطائه لله, وهكـذا يمهـدون طـريق الله الآتى إلى
العـالم...
2 ـ لأنهم كانوا يشيرون, بإلهام إلهى, إلى تجسّد
ابن الله وإلى أعـمال الخـلاص التى سوف يقـوم بها فى أرضنا...
هكـذا تحـدّث النبى أشعـياء الذى عـاش فى القـرن
الثامن قـبل الميلاد عـن البيت الذى يولـد فيه المسيح, فقال أن سيكون من نسل
داود:
[ وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ
جِذْعِ يَسَّى وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ
الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ
الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ ] [ أشعـياء
11: 1, 2 ]...
وأعـلن النبى نفسه أنه يولد من
عـذراء:
[ وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ
اَلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا اَلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ اِبْناً
وَتَدْعُو اِسْمَهُ {عِمَّانُوئِيلَ} ] [ أشعـياء 7:
14 ]...
وتنبّـأ النبى ميخـا الذى عـاش خو أيضًا فى القـرن
الثامن قـبل الميلاد عـن مكان ولادة المخلّص, فقال:
[ أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ
لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا
فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي اَلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ
وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ اَلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ اَلأَزَلِ ] [
ميخا 5: 2 ]...
وتحـدّث أشعـياء عـن رسالة المخلّص
قائلاً:
[ رُوحُ اَلسَّيِّدِ اَلرَّبِّ
عَلَيَّ لأَنَّ اَلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ اَلْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي
لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي اَلْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ
وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ
وَبِيَوْمِ اِنْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ
اَلنَّائِحِينَ ] [ أشعـياء 61: 1, 2 ]...
كذلك أعـلن أشعـياء عـن الآلام التى سوف يتحمّـلها
المخلّص من أجـل خطايا الناس:
[ وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ
مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ
وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ
إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ
أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى اَلذَّبْحِ
وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ ] [ أشعـياء 53: 5 ـ 7 ]...
القديس
كيرلّس الكبير
(
الرد
عـلى من يظنون أن المسيح مجرّد إنسان أخـذ قـوة من الله
)
يقـول القديس كيرلس عـن الهـراطقة إنهم يظنون أن
كلمة " صـار" تعـنى معـنى واحـدًا فقط وهـو التغـيّر والتحـوّل ويؤيـدون شرحهم
ببراهـين من الكتب المـوحى بها...
[ وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً
وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً
نِعْمَةً وَحَقّاً ] [
يوحنا 1: 14 ]...
فقـد قـيل عـن زوجـة لوط:
[ َنَظَرَتِ اِمْرَأَتُهُ مِنْ
وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ! ] [ تكوين 19:
26 ]...
وقيل عـن عـصا موسى:
[ ... فَطَرَحَهَا إِلَى
اَلأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً... ]
[ خروج 4: 3 ]...
ولكن القديس كيرلّس يقـول: إن إفـتراض التغـيّر
لمعـنى كلمة " صـار" لا ينطبق عـلى الله, والإدعـاء بالتغـيّر فى طبيعة الله هـو
جهـل وكفـر...
يقـول الرسول بولس:
[ لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ،
آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ ] [ فيليبى 2:
7 ]...
الكلمة الابن الوحـيد الذى وُلـد من الله الآب الذى
هـو بهـاء مجـده ورسم جوهـره ( أقـومنه ):
[ الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ
مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ
قُدْرَتِهِ، ] [ عبرانيين 1: 3 ]...
هـو الذى صـار جسدًا دون أن يتحوّل إلى
جسد...
إى بلا إمتزاج أو اختلاط أو أى شئ آخـر من هـذا
القبيل بلّ, أخـلى ذاته, وجاء إلى فقرنا, فجعل جسد البشر جسده وبنفس إنسانية
عاقلة...
ولذلك قـيل عـنه أنه وُلِد دون أن يفقد ما
يخصّه...
فولد كإنسان بطريقة معـجزية من
إمـرأة...
ولأنه إصـلاً إله قـيل عـنه أنه:
[ وَإِذْ وُجِدَ فِي
اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ ] [
فيليبى 2: 8 ]...
فالله الذى ظهـر فى شكلنا وصـار فى صـورة عـبد هـو
الرب وهتذا ما نعـنيه أنه صـار جسدًا...
ويؤكّـد القديس كيرلس أن كلمة " صـار" هنا تعـنى أن
الكلمة فعلاً تجسّد, وليس كما يظن البعض من الهـراطقة أن الكلمة قام بأعـمال عـملها
فى الجسد...
إن كلمة " صـار" تحتوى عـلى الحقائق الخاصة
بالتجسّد, وكل ما حـدث له تدبـيرًا عـندما أخـلى ذاته إراديًـا قَـبِلَ الجوع
والتعب...
وكان من المستحيل أن يتعب وهـو كلّى القـدرة ولا
يمكن أن يجوع وهـو طعـام الكلّ وحياتهم لو لم يكن قـد أخـذ جسدًا بشريًا ومن
طـبيعـته أن يجوع ويتعـب...
وكذلك من المستحيل أن يُحصى مع أثمة لو لم يكن قـد
صـار لعـنه لأجـلنا...
وعـندما تأنّس وصـار جسدًا وولـد مثلنا كإنسان من
العذراء القديسة مريـم...
ليس للفظ " المسيح" قـوة تعـريف ولا يوضّح جوهـر شئ
ما, كما أن كلمة " رجـل" أو" حصان" أسماء لا توضّح شيئًا عـن جوهـر حاملها بل تشير
إليهم فقط, واسم " المسيح" يعـلن عـن شئ سوف نفحصه....
فى القـديم حُسب مسرة الله مسح البعـض بالزيت,
وكانت المسحة عـلامة لهم عـلى المملكة...
الأنبياء أيضـًا مُسِحوا روحـيًا بالروح القدس,
ولذلك دعـوا مسحاء...
لأن داود النبى ينشد معـبّرًا عـن الله نفسه
فيقـول:
[ لاَ تَمَسُّوا مُسَحَائِي
وَلاَ تُسِيئُوا إِلَى أَنْبِيَائِي ] [ مزمور 105:
15]...
وحبقـوق النبى يقـول ايضًا:
[ خَرَجْتَ لِخَلاَصِ شَعْبِكَ
لِخَلاَصِ مَسِيحِكَ ] [
حبقـوق 3: 13 ]...
لكن بالنسبة للمسيح مخلّص الكـلّ, فقد مُسح, ليس
بصـورة رمـزية مثل الذين مُسحوا بالزيت, ولم يُمسح لكى ينال نعمة وظيفة النبى, ولا
مُسح مثل الذين اخـتارهم الله لتنفـيذ تدبـيره, أى مثل قـورش الذى ملك عـلى
الفارسين والماديين وقـاد جيشًا ليستولى عـلى أرض البابليين حسبما حـرّكه الله ضابط
الكـلّ ولذلك قـيل عـنه:
[ هَكَذَا يَقُولُ اَلرَّبُّ
لِمَسِيحِهِ لِكُـورَشَ اَلـَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ
أُمَماً وَأَحْـقَاءَ مُلُوكٍ أَحُـلُّ. لأَفـْتَحَ أَمَامَهُ اَلْمِصْرَاعَيْنِ
وَاَلأَبـْوَابُ لاَ تُغْلَقُ ] [
أشعـياء 45: 1 ]...
ولا يجب أن ننسى أن الرجـل " قـورش" كان وثنيـًا
إلا أنه دُعى " مسيحـًا" كما لو كان الأمـر السمائى قـد مسحه ملكـًا, لأنه بسبق
معـرفة الله قـد مال قـوة لقهـر بـلاد البابليين...
إن ما نريد أن نقـوله بخصوص معـنى كلمة " المسيح"
هو ما سيأتى:
بسبب تعـدّى آدم [ لَكِنْ قَدْ مَلَكَ
اَلْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى
مُوسَى وَذَلِكَ عَلَى اَلَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا
عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ اَلَّذِي هُوَ مِثَالُ
اَلآتِي ] [ رومية 5: 14 ]...
وفارق الروح القدس الطبيعـة البشرية التى صارت
مريضة فى كل البشر...
ولكى تعـود الطبيعـة
البشرية من جـديد إلى حـالتها الأولى احـتاجت إلى رحمة الله, لكى تُحسب بموجب رحمة
الله مستحقة الروح القدس...
لذلك صـار الابن الوحـيد كلمة الله
إنسانـًا...
وظهـر للذين عـلى الأرض بجسد من الأرض ولكنه خالى
من الخطيئة...
حتى فيه وحـده تتوج
الطبيعة البشرية بمجـد عـدم الخطيئة, وتغتنى بالروح القدس, وتتجـدّد بالعـودة إلى
الله بالقـداسة...
لأنه هكـذا تصل إلينا النعمة التى بدايتها المسيح
البكـر بيننا....
ولهـذا السبب يعـلّمنا داود النبى المبارك أن
نرتّـل للابن:
[ أَحْبَبْتَ اَلْبِرَّ
وَأَبْغَضْتَ اَلإِثْمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اَللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ
اَلاِبْتِهَاجِ ] [ مزمور 45: 7 ]...
فكـان الابن قـد مُسح كإنسان بمـديح عـدم
الخطـيئة...
وكما قلت أن الطبيعة
البشرية قـد مُجّـدَت فيه وصارت مستحقة للحصـول عـلى الروح القـدس الذى لن يفارقها
كما حـدث فى البـدء, بل صارت مسرّته ( أى الروح القدس ) أن يسكن فينا...
لذلك أيضـًا كُتب أن الروح حـل بسرعـة ( معـنى
حـلول الروح القدس بشكل حمامة أى الطيران السريع عـلامة الشوق ) عـلى المسيح
واستقـرّ عـليه:
[ وَشَهِدَ يُوحَنَّا: إِنِّي
قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ
عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ
بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً
عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. ] [ يوحنا 1: 32 , 33]...
فالمسيح هـو كلمة الله الذى لأجـلنا صـار إنسانًا
مثلنا, وفى صـورة العـبد, ومُسح كإنسان حسب الجسد, ولكنه كإله يمسح بروحه الذين
يؤمنون به...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله الكلمة دُعى " عـمانوئيل" لأنه
[... بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ
إِبْرَاهِيمَ ] [ عـبرانيين 2: 16 ] ....
كلمة أمسك تعنى أنه ليس مجرد اتخاذ الجسد البشرى,
بل أن يُحسب مثل الناس لأنه صـار ضمن الناس...
ومثلنا, [ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي
اللَّحْـمِ وَالـدَّمِ
اشْتَرَكَ هُـوَ
أَيْضـاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَـوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ
سُلْطَـانُ الْمَـوْتِ، أَيْ
إِبْلِيسَ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...
وعـمائيل تعـنى " الله معـنا" أو بالتدقـيق" معنا
الله" حسبما يظهـر من أصـلها العـبرانى, إذ تأتى كلمة " معـنا" قـبل كلمة "
إيـل"...
ونحن نعـترف بأن الكلمة الله هو
معـنا...
دون أن يكـون
محصـورًا فى مكان ما...
لأنه أى مكان لا يوجد فيه الله الذى يملأ كل
الأشياء؟!...
وهو ليس معنا كما لو كان قد جاء لمساعـدتنا مثلما
قـيل ليشوع :
[ لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي
وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى
أَكُونُ مَعَكَ. لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ
أَتْرُكُكَ ] [ يشوع 1: 5 ]...
ولكنه معـنا لأنه
صار مثلنا أى أخـذ طبيعة بشرية دون أن يفقـد طبيعـته الإلهية لأن كلمة الله غـير
متغـيّر بطيعـته...
ولماذا لَمْ يُدْع الله " عـمانوئيل" رغـم أنه قـيل
ليشوع " كما كنت مع موسى سأكون معـك"؟...
ولَمْ يـُدْع الله " عـمانوئيل" رغـم أنه كان مع كل
القديسين والآباء البطاركة؟...
والسبب هـو أن الله الكلمة أصبح معـنا فى الوقت
الذى تحـدّث عـه باروخ هـو أظهـر ذاته عـلى الأرض. وتحـدّث مع الناس, وأسّس كل طرق
التعـليم, وأعـطاه ليعـقوب عـبده ولإسرائيل حبيبه, لأنه هو إلهنا وليس آخـر
سواه:
[ دَعَاهَا فَقَالَتْ نَحْنُ
لَدَيْكَ وَ أَشْرَقَتْ مُتَهَلَّلَةً لِلَّذِي صَنَعَهَا. هَذَا هُوَ إِلَهُنَا وَ
لا يَعْتَبِرْ حِذَاءَه آَخَرٌ. هُوَ وَجَدَ طَرِيْقَ اَلْتَأَدُّبِ بِكَمَالِهِ وَ
جَعَلَهُ لِيَعْقُوبِ عَبْدَهُ وَ لإِسْرَائِيلِ حَبِيبَه. وَ بَعْدَ ذَلِكَ
تَرَاءَى عَلَى الأَرْضِ وَ تَرَدَّدَ بَيْنَ اَلْبَشَرِ ] [ باروخ 3: 35 ـ 38
]...
وكما يليق بطبيعـته الإلهية لم يكن " معـنا"
بالمعـنى الذى تحـدّث عـنه باروخ...
لأن الفـروق بين اللاهـوت والناسوت لا تسمح
بالمقارنة بينهما فما أعظم الفـرق بين الطبيعـتين...
يشرح القديس كيرلس الكبير " عـمانوئيل" عـلى أنه
اسم الله عـندما صـار معـنا بالجسد, لأنه معـنا منذ بداية العـالم ولكنه أصبح معـنا
عـلى نحـو جـديد فريـد, لذلك وضع كـيرلس هـذه العـبارة لكى يدعّـم معـنى " الله
معـنا"...
ولذلك يتكلم داود النبى عـن العـلاقة السرّية التى
كانت قـبل التجسّد, وبين الله الكلمة, وبيننا, ويقـول بالـروح:
[ يَا رَبُّ لِمَاذَا تَقِفُ
بَعِيداً؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ اَلضِّيقِ؟ ] [ مزمور 10:
1 ]...
أمّـا الآن فهـو لا يتركـنا, بلّ هـو معـنا عـندما
صار مثلنا دون أن يفـقـد ما له لأنه أمسك بنسل إبراهيم كما قلت, بل أخـذ صـورة
العـبد ورآه البشر كإنسان يمشى عـلى الأرض...
إن عـمانوئيل والمسيح يخصـّان الابن الواحـد
نفسه...
فهـو المسيح لأنه مُسِح مثلنا كبشر, وأخـذ الروح
البشرية لأنه الأول وبداية الجنس البشرى الجـديد...
وبالمثل, هـو نفسه كإله يَمْسَح بالروح القـدس كل
الذين يؤمنون به...
وهو " عـمانوئيل" لأنه صار معـنا عـلى النحـو الذى
شرحـته...
والذى يخـبرنا به أشعـياء النبى:
[ وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ
اَلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا اَلْعَذْرَاءُ
تَحْبَلُ وَتَلِدُ اِبْناً وَتَدْعُو اِسْمَهُ
{عِمَّانُوئِيلَ} ]
[ أشعـياء 7: 14 ]...
لأن العـذراء القديسة مريم حبلت بالروح القدس وولدت
حسب الجسد ابنـًا, عـند ذلك فقط, دُعى المولود " عـمانوئيل" ...
لأن غـير المتجسد أصبح معـنا عـندما
وُلِد...
وقـد حـدث ذلك طبقـًا لما ذكـره
داود:
[ مِنْ صِهْيَوْنَ كَمَالِ
اَلْجَمَالِ اَللهُ أَشْرَقَ. يَأْتِي إِلَهُنَا وَلاَ
يَصْمُتُ. نَارٌ قُدَّامَهُ تَأْكُلُ
وَحَوْلَهُ عَاصِفٌ جِدّاً ] [
مزمور50: 2, 3 ]...
وهو ما أشار إليه أشعـياء:
[ لِذَلِكَ يَعْرِفُ شَعْبِيَ
اِسْمِي. لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ
اَلْيَوْمِ يَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ اَلْمُتَكَلِّمُ . هَئَنَذَا ] [ أشعـياء 52: 6
]...
لأن الكلمة قـبل أن يتجسّد تحـدّث من خـلال
الأنبياء, ولكنه فى مِلء الزمان صار معـنا متجسّدًا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن تتابع تأملنا يلزمنا أن نتحـدّث عـن الواحـد ابن
الله, فالمسيح وعـمانوئيل ويسوع شخص واحـد...
والاسم " يسوع" جاء من الحقيقة:
[ فَسَتَلِدُ ابْناً
وَتَدْعُو اسْمَهُ
يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخَلِّصُ
شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ ] [
متى 1: 22 ]...
لأنه كما أن الاسم " عـمانوئيل" يعـنى أن كلمة الله
بسبب ميلاده من العـذراء صار معـنا...
والمسيح دُعـى كذلك لأنه مُسِحَ مثلنا
كبشر...
هكـذا أيضـًا يسوع, لأنه خَـلّصنا نحن
شعـبه...
وهـذا الاسم يوضّح أنه الله بالحقيقة, ورب
الطبيعـة...
لأنه لا يليق أن تكون الخليقة ملك للإنسان, بل من
اللائق أن نقول أن كل الأشياء هى للابن الوحـيد حتى وهـو فى
الجسد...
وربّما إعـترض البعـض وقال أن شعـب إسرائيل دُعِى
شعـب موسى...
وعـلى هـذا نجيب أن شعـب إسرائيل دُعِى شعـب الله
وهـذا حقيقى...
ولكن عـندما تمرّدوا عـلى الله وصنعـوا العـجل فى
البرية, حُرِموا من كـرامة الانتساب لله, ورفـض أن يدعـوهم شعـبه بلّ تركهم لرعـاية
البشر...
وهـذا لا ينطـبق عـلينا نحن خاصة يسوع,
لأنه الله الذى به خلقت كل
الأشياء...
وعـن هـذا يقـول داود النبى:
[ اعْلَمُوا أَنَّ اَلرَّبَّ
هُوَ اَللهُ. هُوَ صَنَعَنَا وَلَهُ نَحْنُ شَعْبُهُ وَغَنَمُ
مَرْعَاهُ ] [ مزمور 100: 3 ]...
وهـو ( أى المسيح ) يقـول عـنا:
[ وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ
تُؤْمِـنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِـنْ خِـرَافِي كَمَا قُلْتُ لَكُمْـ. خِـرَافِي
تَسْمَعُ صَـوْتِي وَأَنَا أَعْـرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي ] [ يوحنا 10:
26, 27 ]...
وهـو أيضًا أوصى بطـرس الرسول:
[ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا
أَتُحِبُّنِي... اِرْعَ خِرَافِي ]
[ يوحنا 21: 15 ]...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكلمة الذى من الله الآب ( أى المولود من الآب )
دُعِى إنسانـًا رغـم كـونه بالطبيعة الله...
لأنه اشترك فى الدم واللحم مثلنا [ عـبرانيين 2: 14]...
وهـذا جعـل الذين عـلى الأرض قـادرين عـلى
مشاهـدته...
وعـندما حدث ذلك ( أى تجسّد ) لم يفقد شيئًا مما له
( أى ألوهيته )...
وإذ أخـذ طـبيعـة بشرية مثلنا ( أى مثل طـبيعتنا )
لكنها كاملة ( أى بلا خطيئة ), ظـل أيضـًا الله وربّ الكـلّ, لأنه هو هكذا فعـلاً
وبطـبيعته وبالحق مولود من الله الآب رغـم تجسده...
وهـذا ما يرينا إيّاه بوضوح كافٍ الحكيم بولس
عـندما يقـول:
[ الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ
الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ
السَّمَاءِ ] [ 1 كورونثوس 15: 47 ]...
ورغـم أن العـذراء مريم ولدت الهيكـل (
شاع استخـدام كلمة " الهيكل"
للدلالة عـلى ناسوت المسيح فى كل الكتابات المسيحية منذ العـهد الجـديد [
أَجَابَ يَسُوعُ: انْقُضُوا
هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ . فَقَالَ
الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ
أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ , وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ
عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ.] [ راجع يوحنا 2: 19, 20 ]
وهـو تعـبير هام يؤكـد أن ناسوت المسيح هـو مكان حلول الله ) المتّحـد بالكلمة إلا أن عـمانوئيل قـيل عـنه,
وهـذا حق, " من السماء " لأنـه من فـوق, مولـود من جـوهـر الآب...
وإن كان قـد نزل إلينا عـندما صـار إنسانًا, إلا
أنه من فوق...
وعـن هـذا شهد يوحنا:
[ اَلَّذِي يَأْتِي مِـنْ
فَوْقُ هُـوَ فَوْقَ الْجَـمِيعِ وَالَّذِي مِـنَ الأَرْضِ هُـوَ أَرْضِـيٌّ
وَمِـنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ . اَلَّذِي يَأْتِي مِـنَ السَّمَاءِ هُـوَ فَوْقَ
الْجَمِيعِ ] [ يوحنا 3: 31 ]...
والمسيح نفسه قال لشعب اليهود:
[ أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ
أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ أَمَّا أَنَا
فَلَسْتُ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 8: 23
]...
وأيضـًا:
[ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ
إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي
هُوَ فِي السَّمَاءِ ] [
يوحنا 3 : 13 ]...
ولذلك نقـول أن ابن الإنسان نزل من السماء وهـذا
تدبـير الاتحـاد ...
لأن الكلمة وهب لجسده كل صفات مجـده وكل ماهو فائق
وخاص بالله...
( تتكرر كلمة " التدبير" فى هـذه
المقـالة, وهى تعـنى أن هناك أمـورًا معينة قام بها المسيح مثل الجوع والعـطش
والألم ...إلخ, وكل هـذه كانت جـزءًا أساسيًا فى خطة الخـلاص... أو كانت الخطة"
التدبير" هى أن يكون للمسيح كل صفات الناسوت )...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الله الكلمة بطبيعـته كامل من كل الوجـوه, ومن
مِلئه يوزّع عـطاياه للخـلائق...
ونحن نقـول عـنه أنه أفـرغ ذاته دون أن يمسّ هـذا
بطـبيعـته...
لأنه عـندما أفـرغ ذاته لم يتغـيّر إلى طـبيعـة
أخـرى...
ولم يصبح أقـل مما كان عـليه لأنه لم ينقـص
شيئـًا...
هـو غـير متغـيّر مثل المولود منه ( أى الذى ولده
الآب )...
ومثله تمامًا غـير عُـرضة
للأهـواء...
ولكن عـندما صـار جسدًا ( أى إنسانًا ) جعـل فـقـر
الطـبيعة الإنسانية فـقـره...
ولذا قـال:
[ وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى ] [ يوئيل 2: 28
]...
ولقد تمّ هـذا:
أولاً: لأنه صار إنسانًا رغـم أنه ظلّ الله...
ثانيًا: أخـذ صـورة العـبد, وهو بطبيعـته حـر كابن. وفى نفس الوقت هـو
نفسه رب المجـد, ولكنه قيل أنه تمجّـد لأجلنا. هـو نفسه الحـياة, ولكن قـيل عـنه
أنه اُحْيى ( أى أقيم من الأموات ), وأُعـطى سلطانًا عـلى كل شئ, وهو نفسه ملك
الأشياء مع الله الآب. أطاع الآب وتألّم وما إليه...
هـذه الأشياء تخص الطبيعة البشرية, ولكنه جعـلها له
( أى تخصه ) عـندما تجسّد لكى يكمّل التدبير ويبقى كما هـو...
وهـذا ما تقصـده الأسفار المقدّسة بإفـراغ الذات...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكتب بولس الرسول:
[ لأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَا
يُسَمَّى آلِهَةً سِوَاءٌ كَانَ فِي اَلسَّمَاءِ أَوْ عَلَى اَلأَرْضِ كَمَا
يُوجَدُ آلِهَةٌ كَثِيرُونَ وَأَرْبَابٌ كَثِيرُونَ. لَكِنْ لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ:
اَلآبُ اَلَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ اَلأَشْيَاءِ وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ:
يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ اَلَّذِي بِهِ جَمِيعُ اَلأَشْيَاءِ وَنَحْنُ
بِهِ] [ 1 كورونثوس 8: 5, 6 ]...
وأيضًا يقـول يوحنا الرسول عـن الله
الكلمة:
[ كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ
وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ ] [ يوحنا 1:
3 ]...
وجـبرائيل المبارك يعـلن البشارة المفـرحة للعـذراء
القديسة قائلاً:
[ وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ
وَتَلِدِينَ اِبْناً وَتُسَمِّينَهُ
يَسُوعَ ] [ لوقا 1: 31 ]...
فبولس الرسول يعـلن أن كل الأشياء خلقت بيسوع المسيح, والإنجـيلى الإلهى يؤكد قـوة التعـبير نفسه ويبشر أنه هـو
الله خالق كل الأشياء, وهـذا نطق حق ...
وصوت الملاك أيضًا يشير إلى أن يسوع المسيح
ولد حقـًا من العـذراء القديسة...
ونحن لا نقول أن يسوع المسيح كان مجـرّد إنسان, ولا
نعـتقـد بالله الكلمة بدون طبيعـته الإنسانية!!...
بل نقـول أنه واحـد من إثـنين
أى الإله المتجسّد...
( راجع ثيؤتوكية الأحد حيث تردد
الكنيسة وتقول: واحد من اثنين, لاهوت قدّوس بغـير فساد مساوٍ للآب وناسوت طاهر
مساوٍ لنا كالتدبـير
)...
هـو نفسه وُلِد إلهـيًا من الآب لأنه الكلمة
وإنسانيًا من إمـرأة كإنسان...
وهـذا لا يعـنى أنه وُلِد مـرة ثانية عـندما قـيل
أنه ولـد حسب الجسد...
فهـو مولود قـبل كل الدهـور...
وكما ذكـرنا قبلاً, كـثيرون قـد دُعـوا مسحاء ولكن
يوجـد واحـد فقط يسوع المسيح الذى به خُلقت كل
الأشياء...
وهـذا لا يعـنى بالمـرة أن إنسانًا صـار خـالق كل
الأشياء...
بلّ يعـنى أن الله الكلمة الذى به خُلِقت كل
الأشياء صـار مثلنا واشترك فى الدم واللحم, ودُعـى إنسانًا دون أن يفقد ماله ( أى
ألوهيته )...
لأنه وإن كان قد صارجسدًا لكنه بالحقيقة خالق
الكلّ...
( راجع التسابيح الكيهكية حيث
نرتل ونقـول: فى حضن أبيه الممجّد. فلنسبحه كإله ونمدحه مع أمه كإنسان ...
الإبصلمودية طبعة 1911 ص 91 . يا ليت الذين يتهموننا بالأوطاخية
يخجلون )...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قـيل عـن الله الكلمة مـرة واحـدة وإلى الأبـد وفى
آخـر الدهـور أنه صار إنسانًا كما يقـول الرسول بولس:
[ فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ
أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ
الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ اِنْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ
الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ
] [ عـبرانيين 9: 26 ]...
وما هـى هـذه الذبيحة؟...
هـى جسده الذى قـدمه كرائحـة بخـور ذكيّـة لله
الآب...
فقد دخل مرة واحدة إلى القدس, ليس بدم ماعـز وتيوس
بل بدمه ذاته:
[ وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ
وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ،
فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً ] [
عـبرانيين 9: 12 ]...
وهكـذا حصل للذين يؤمنون به فـداءً
أبـديًا...
وكـثيرون قبله كانوا قدّيسين ولكن ليس واحد منهم
دُعى " عمانوئيل" . لماذا؟...
لأن الوقت لم يكن قد حان بعـد ليكون هو معـنا أى
يجئ إلى طبيعـتنا عـندما يتجسّد لأنه أسمى من كل المخلوقات...
واحـد إذًا هو " عـمانوئيل" لأنه هـو الابن الوحـيد
الذى صار إنسانًا عـندما وُلد جسديًا من العـذراء القديسة...
لقد قال الله ليشوع " سأكون معك" ( يشوع 1: 5 )
ولكن الله لم يُـدْع فى ذلك الوقت " عمانوئيل"
وكان قـبل ذلك مع موسى ولم يُـدعْ " عـمانوئيل"...
لذلك عـندما نسمع اسم " عـمانوئيل" أى " معنا الله"
الذى اُعْـطِى للابن, فلنعـتقـد بحكمة أنه ليس معنا كما كان فى الأزمنة السابقة مع
القديسين لأنه كان معهم كمعـين فقط...
ولكن هـو معنا لأنه صـار مثلنا دون أن يفـقـد
طبيعـته لأنه الله غـير المتغـيّر...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عـندما نقـول أن كلمة الله اتّحـد بطـبيعـتنا فإن
كيفية هـذا الاتحـاد هى تفـوق فهم البشر...
فهـو اتحـاد لا يوصف وغـير معـروف لأى من الناس سوى
الله وحـده الذى يعـرف كل شئ...
وأى غـرابة فى أن يفـوق اتحـاد اللاهـوت بالناسوت
إدراك أى عـقل؟...
فنحن عـندما نبحث بدقـة عـن أمـورنا ونحـاول إدراك
كنهها نعـترف أنها تفـوق مقـدرة الفهم الذى فينا...
فما هى كيفية اتحـاد نفس الإنسان
بجسده؟...
من يمكنه أن يخـبرنا؟...
ونحن بصعـوبة نفهم وبقـليل نتحـدّث عـن اتحـاد
النفس بالجسد...
ولكن إذا طـُلِبَ منّا أن نحـدّد كيفـية اتحـاد
اللاهـوت بالناسوت وهـو أمـر يفـوق كل فهم بل صعـب جـدًّا, نقـول أنه من اللائق أن
نعـتقـد أن اتّحـاد اللاهـوت بالناسوت فى "عـمانوئيل" هـو مثل اتّحـاد نفس الإنسان
بجسده ـ وهـذا ليس خطأ لأن الحق الذى نتحـدّث عـنه هـنا تعـجز عـن وصفه
كلماتنا...
والنفس تجعـل الأشياء التى للجسد هى لها رغـم أنها
بطـبيعـتها لا تشارك الجسد آلامه المادية الطبيعـية أو الآلام التى تسببها للجسد
الأشياء التى هى خارج الجسد لأن الجسد عـندما يتحـرّك مدفوعـًا نحـو رغـباته
الطبيعـية ( الجسدية ) فإن النفس التى فيه تعـرف هـذه الرغـبات بسبب اتحـاد النفس
بالجسد...
ولكنها ( أى النفس ) لا تشارك الجسد رغـباته, ومع
ذلك تَعْـتبر أن تحقـيق الرغـبة هـو تحقـيق لرغـبتها هى ( أى النفس
)...
فإذا ضُرب الجسد أو جُرح, مثلاً, فإن النفس تحـزن
مع جسدها, ولكن طـبيعـتها لا تتألّم بالآلام المـادية التى تقـع عـلى
الجسد...
ومع هـذا يلزم أن نقـول أن الاتحـاد فى "
عـمانوئيل" هـو أسمى من أن يُشبّـه باتحاد النفس بالجسد...
لأن النفس المتحـدة بجسدها تحـزن مع جسدها وهـذا
حتمى حتى أنها عـندما تقـبل الهـوان تتعـلّم كيف تخضع لطاعـة
الله...
أمّا بخصوص الله الكلمة فإنه من الحماقة أن نقـول
أنه كان يشعـر بلاهـوته بالإهانات...
لأن اللاهـوت لا يشعـر بما نشعـر به نحن
البشر...
وعـندما اتّحـد بجسد له نفس عـاقـلة وتألّم لم
ينفـعـل اللاهـوت بما تألّم به, ولكنه كان يعـرف ما يحـدث له...
وأباد كإله كل ضعـفات الجسد, رغـم أنه جعـلها
ضعـفاته هـو فهى تخصّ جسده...
لذلك بسبب هـذا الاتحاد قـيل عـنه أنه عـطش وتعـب
وتألّم لأجـلنا...
ولعـلّ التفـرقة بين " يعـرف" و" يشعـر" هى من أهم
ما تعـلّم به الكنائس الشرقية الأرثوذكسية عـن آلام الرب يسوع المسيح...
يُعـبّر كيرلس الكـبير هنا عـن التقـوى الشرقية
الأرثوذكسية بكل وضوح أن المتألّم هـو ربنا وليس لاهـوته ورغـم أن الآلام تخصّ جسده
إلا أنها تـُنْسَبْ له كشخص واحـد غـير منقسم وهـو ذات ما صـرّح به القـديس
ديوسقـورس بطـل الرثوذكسية...
ولذا, فإن اتحـاد الكلمة بطـبيعـتنا البشرية يُمكن
عـلى وجه ما أن يُقـارن باتحـاد النفس بالجسد...
لأنه كما أن الجسد من طـبيعـة مختلفة عـن النفس,
ولكن الإنسان واحـد من إثـنين ( النفس والجسد )...
هكـذا المسيح واحـد من الأقـنوم الكامل لله الكلمة
ومن الناسوت الكامل...
والألوهة نفسها والناسوت نفسه فى الواحـد بعـينه
الأقـنوم الواحـد...
وكما قـلت, أن الكلمة يجعـل آلام جسده آلامه هـو,
لأن الجسد هـو جسده وليس جسد أحـد آخـر سواه...
هكـذا, يمنح الكلمة جسده كل ما يخصّ لاهـوته من قـوة, حتى أن جسده قـادر عـلى أن يقـيم المـوتى ويُـبرئ
المـرضى...
اتحـاد اللاهـوت بالناسوت يعـنى أن كل من لمس جسد
الابن الوحـيد بالإيمان يحصل عـلى كل ما يريده من الله ( اللاهـوت ), مثل المـرأة
النازفة الدم التى لمست طرف ثـوبه وبرئت لأن قـوة خـرجت من
المسيح...
ولاحظ أن الرب يؤكّـد حـقيقة الاتحـاد عـندما
قال:
[ فَقَالَ يَسُوعُ: قَدْ
لَمَسَنِي وَاحِدٌ لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ
مِنِّي ] [ لوقا 8: 46 ]...
ولم يقـل من لاهـوتى...
هكـذا شرح القديس كـيرلّس
المعـجـزة...
ويؤكّـد الإنجـيل فى عـدّة مناسبات أن المعـجـزات
كانت تتم بقـوة منه, كما جاء فى :
[ وَاَلْمُعَذَّبُونَ مِنْ
أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. وَكُلُّ اَلْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ
يَلْمِسُوهُ لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ
تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي
اَلْجَمِيعَ ] [ لوقا 6: 18 ]...
فما أبعـد الفـرق بين هـذه النظـرة الإنجـيلية وبين
النصّ المشهـور فى طومس لاون:" الواحـد يشفى المرضى والآخـر
يتألّم"...
أمثلة كتابية عن كيفية
الاتحاد:
وإذ يليق
بنا فى هـذا المجال أن نستخرج تشابيه من الكتب الموحى بها من الله, لكى نوضّح
بعـدة
أمثلة
كـيفية الاتحـاد, لذلك
دعـونا نتكلّم من الكتب حسب طاقتنا:
قال النبى أشعـياء:
[ فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ
مِنَ اَلسَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى
اَلْمَذْبَحِ . وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ
فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ ] [ أشعـياء 6:
6, 7 ]...
ونحن نقتول ان الجمرة المتقـدة هى مثال وصـورة
للكلمة المتجسّد لأنه عـندما يلمس شفاهنا أى عـندما نعـترف بالإيمان به فإنه
ينقـّينا من كل خطـية ويحـرّرنا من اللـوم القتديم الذى ضـدّنا...
ويمكننا أن نـرى أيضًا, الجمـرة مثالاً لكلمة الله
المتّحـد بالطبيعة البشرية دون أن يفـقـد خواصه...
بل حـوّل ما أخـذه ( الطـبيعـة البشرية ) وجعـله
مُتحـدًا به, بلّ بمجـده وبعـمله...
لأن النار عـندما تتصـل بالخشب تستحـوذ عـليه, ولكن
الخشب يظـل خشبًا, فقط يتغـيّر إلى شكل النار وقوتها, بلّ يصبح له صفات النار
وطاقتها ويُعـتبر واحـدًا معها...
هكـذا أيضًا يجب ان يكـون إعـتقادنا فى المسيح, لأن
الله اتّحـد بالإنسانية بطريقة لا يُنطـق بها...
ولكنه أبقى عـلى خواص النـاسوت عـلى النحـو الذى
نعـرفه...
وهـو نفسه لم يفـقـد خـواص اللاهـوت عـندما اتّحـد
بالناسوت, بل جعـله واحـدًا معه, وجعـل خـواص الناسوت خـواصه...
بل هـو نفسه قـام بكلّ أعـمال اللاهـوت فى
الناسوت...
نرى هـذا الأساس الأبائى للعـبارة المشهورة فى
الاعـتراف الأخـير قـبل التناول حيث يقـول الكاهن القبطى:" وجعـله واحـدًا مع
لاهـوته بغـير اخـتلاط ولا إمـتزاج ولا تغـيير" وهى تعـبّر عـن إيمان
سليم...
قـدّم لنا نشيد الأناشيد ربنا يسوع المسيح
قائلاً:
[ أَنَا نَرْجِسُ شَارُونَ
( وَرْدَة اَلْسِفُوحِ .. الترجمة
السبعينية) سَوْسَنَةُ
اَلأَوْدِيَةِ ] [ نشيد الأناشيد 2: 1 ]...
وفى السوسنة الرائحـة غـير المجسّمة ( غـير ظاهـرة
للعـين ) ولكنها لا توجـد خارج السوسنة...
ولذلك فالسوسنة واحـدة من اثـنين ( الرائحة وجسم
السوسنة )...
وغـياب رائحـة السوسنة لا يجعـلها
سوسنة...
وكذلك غـياب جسم السوسنة لا يفسر وجـود رائحـة
السوسنة, لأن فى جسم السوسنة رائحتها...
هكـذا أيضـًا يجب أن يكـون اعـتقادنا فى ألوهـية
المسيح الذى يُعـَطـّر العـالم برائحـته الذكـيّة ومجـده الذى يفـوق مجـد
الأرضـيات...
ولكى يُعَـطـّر العـالم كله استخـدم اللاهـوت
الطبيعة البشرية...
لأنه عـندما أراد أن يُعـلن عـن ذاته من خـلال
الجسد جـعـل فـيه كـلّ ما يخصّ اللاهـوت...
لذلك من الصـواب أن نعـتقـد أن الذى بطـبيعـته غـير
جسمانى اتّحـد بجسده وأصبح الاتحـاد مثل السوسنة لأن الرائحـة العـطرة وجسم السوسنة
هما واحـد ويسميان السوسنة...
أى
أن الجسد الذى أخـذه, له نفس عـاقلة, وأصبح جسد اللاهـوت غـير المجسم,
وإذا
فُصِل أيهما عـن الآخـر فإنـنا بالفـصل نلغى يقينًا ونهائيًا تدبـير
المسيح...
إن خيمة الاجتماع التى أراد الله أن تُقـام فى
الـبرية ترمـز على "عـمانوئيل" فى أشياء كـثيرة...
الله إله الكـلّ قال لموسى:
[ فَيَصْـنَعُونَ تَابُوتاً
مِـنْ خَـشَبِ اَلسَّنْطِ طُـولُهُ ذِرَاعَتانِ وَنِصْـفٌ وَعَـرْضُهُ ذِرَاعٌ
وَنِصْـفٌ وَاِرْتِفَاعُـهُ ذِرَاعٌ وَنِصْـفٌ. وَتُغَـشِّيهِ بِذَهَبٍ نَقِيٍّ.
مِـنْ دَاخِـلٍ وَمِـنْ خَـارِجٍ تُغَـشِّيهِ. وَتَصْـنَعُ عَـلَيْهِ إِكْـلِيلاً
مِـنْ ذَهَـبٍ حَـوَالَيْهِ ] [
خروج 25: 10 , 11 ]...
الخشب الذى لا يُسوّس هـو رمـز للجسد الذى لم يفسد,
لأن الرز لا يُسوّس...
أمّا الذهب وهـو يفـوق كل الأشياء فهـو يشير إلى
جـوهـر اللاهـوت الفائق...
لكن لاحظ كيف غُـطـّى التابوت كلّه بالذهب النقى من
الداخـل والخـارج, لأن الله الكلمة اتّحـد بجسد مقدّس وهو مايشير إليه تغـطية
التابوت بالذهب من الخارج...
والنفس العاقلة التى فى جسده هى نفسه, وهذا مايشير
غليه تغشية التابوت من الداخـل...
وهكـذا لم يحـدث تشويش
للطـبيعـتين...
لأن الذهب الذى غُـطّى به الخشب ظـلّ كما هـو
ذهـبًا...
أمّا الخشب فقد صار غـنيًا بمجتد اللاهـوت, ولكنه
لم يفقد خصائصه كخشب...
وببراهـين كـثيرة يمكننا أن نتأكّد من أن التابوت
يرمـز للمسيح لأنه كان يخـرج أمام بنى غسرائيل وكان هـذا سبب عـزاء لهم, وهكـذا قال
المسيح فى موضع معـين:
[ لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ.
أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ
كَثِيرَةٌ وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ
لَكُمْ مَكَاناً وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً
وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً
وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ ] [ يوحنا 14: 1ـ4
]...
تفسير خيمة الإجتماع عـلى هـذا النحـو موجـود عـند
الآباء قـبل القديس كـيرلّس, وبالذات إيروناوس وهيبوليتوس...
ومن يقـرأ نصّ القديس كـيرلّس يشعـر عـلى الفـور
أنه كان يأخـذ من كلمات ثيـؤتوكـية الأحـد حيث ترتـّل كنيستنا: " التابوت المصفّح بالذهب من كلّ ناحية المصنوع من خشب
لا يسوّس سبق ان يدلّـنا عـلى الله الكلمة الذى صـار إنسانًا بغـير
افـتراق..."...
وشرعـية تفسير الآباء قائمة عـلى حقيقة أساسية أن
كل ما هـو متّـصل بظهـور الله فى العـهد القـديم قـد تحقـق بشكل أفضل وأكمل فى
العـهد الجـديد عـندما إتحـد وحـلّ فى الهيكل الحقيقى أى الطـبيعـة
البشرية...
ولاحظ أن ثيـؤتوكية الأحـد تتحـدّث عـن التجسّد ثم
عـن العـذراء لأن كلّ ما يخصّ العـذراء مرتبط بالتجسّد...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله الكلمة صار إنسانًا..
وهو ليس إنسانـًا تشرّف بصلة
اللاهـوت...
كما أنه ليس إنسانـًا حصل عـلى مساواة كـرامة
وسلطان الله الكلمة حسب زعـم البعض...
فى هـذه الفقرة يفرّق القديس كـيرلّس بين
هـرطـقـتين وهما النسطورية التى إدّعـت أن المسيح حصل عـلى مجـرّد صـلة باللاهـوت,
والأريوسية التى إدّعـت أن الابن فى الجسد مخـلوق رُفع بمنحـة إلهـية من الآب إلى
كـرامة اللاهـوت...
ويمكن لأى إنسان يريد أن يتحاشى السقوط فى هـرطقـة
أن يتذكّـر دائمـًا ان ربنا يسوع المسيح ليس إنسانـًا تألّه ولا إلهـًا فقط بل هـو
واحـد من اثنـين : لاهـوت وناسوت...
يقول الرسول بولس:
[ وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ
هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي
الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي
الرُّوحِ، تَرَاءَى
لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي
الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي
الْمَجْدِ ] [ 1تيموثاوس 3: 16
]...
وهـذا حقيقى لأن الله الكلمة ظهـر فى الجسد,
وتـبرّر فى الروح, لأننا لم نر فيه أى خضوع لضعـفاتنا رغـم أنه لأجلنا صـار
إنسانـًا إلا أنه بلا خطيئة...
وشاهـدته المـلائكة فهم لم يجهلوا مـيلاده حسب
الجسد...
وكُـرّز به للأمم كإله صـار
إنسانًا...
وهـذا ما برهـنه الرسول بولس:
[ لِذَلِكَ اذْكُرُوا
أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي
الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ
غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً
مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ،
أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ
الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ
لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ ] [ أفسس 2: 11, 12
]...
فالأمم إذ كانوا بلا إله فى العالم عـندما كانوا
بدون المسيح...
ولكن عـندما آمنـوا بالمسيح أنه هـو بالحقيقة
وبالطبيعة الله, إعـترف هـو بهم بدوره كمعـترفين بالإيمان...
وهـو ( أى المسيح ) رُفع بمجـد ( أى بمجد إلهى )
لأن داود ينشد:
[ ارْتَفِعِ اَللهُمَّ عَلَى
اَلسَّمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ اَلأَرْضِ مَجْدُكَ ] [ مزمور 67: 5
]...
لأنه بالحقيقة صعـد بالجسد وليس باللاهـوت وحـده,
لن الله تجسّد ولذلك يجب أن يُقال عـنه أنه صعـد أيضًا...
إن
الإيمان الأرثوذكسى (
الصحيح )
هو:
أننا
نؤمن بالرب الذى ظهـر فى شكل العـبد والذى صـار مثلنا بالحقيقة بطبيعة بشرية ولكنه
ظلّ الله...
لأن
الله الكلمة عـندما أخـذ جسدًا لم يفقد خواصه الإلهية بلّ ظلّ فى نفس الوقت هو الله
المتجسّد...
وإذا قال أحـد: أى ضـرر يحـدث إذا اعـتقدنا أن
إنسانـًا مثلنا قـد حصل عـلى الألوهة وليس الله هو الذى تجسّد؟...
سوف نجيب بأنه يوجـد ألف دليل ضـد هـذا الرأى, وكلّ
هـذه الأدلّة تؤكـّد لنا أنه عـلينا أن نجاهـد بثبات ضـد هـذا الرأى وأن
نرفضه...
وقبل أى شئ آخـر فلندرس التدبـير الخاص بالتجسد
ونفحص حالتنا جـيدًا...
يقـول فى ذلك القـدّيس كـيرلّس:
لقـد تعـرّضت البشرية للخطـر وهـوت إلى أدنى حالات
المـرض أى اللعـنة والموت...
وزيادة عـلى ذلك تدنّست بقـذارة الخطيئة وضلّت
وصـارت فى الظـلام حتى أنها لم تعـرفه وهـو الله الحقيقى وعـبدت المخلوقات دون
الخالق...
فكيف كان من الممكن أن تتحـرّر من فساد مثل
هـذا؟...
هـل بأن تعـطى لهـا الألوهـة؟...
كيف وهى لا تعـرف عـلى وجه الإطـلاق ما هى كـرامة
وسموّ الألوهـة؟...
ألم تكن البشرية مقـيّدة بعـدم المعـرفة وفى ظـلام,
بلّ ومدنّسة بلطخـة الخطيئة؟...
فكيف كان من الممكن أن ترتفع إلىالطـبيعة الكلّية
النقـاء, وتحصل عـلى المجـد الذى لا يستطيع أحـد أن يحصل عـليه إلا إذا وُهب
له؟...
دعـونا نفـترض أنه بالمعـرفة مثلاً أو بالتعـليم
يمكن الحصول عـلى الألوهة, فمن ذا الذى سيعـلّمها عتن المجـد
الإلهـى؟...
لأنهم كيف يؤمنوا إن لم يسمعـوا؟...
[ فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ
يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ ] [
رومية 10: 14 ]...
ولذلك فإنه غـير ممكن لأى من الناس ان يرتقى إلى
مجـد الألوهة ولكن من اللائق بلّ من المعـقول أن نعـتقد أن الله الكلمة الذى به
خُلقت كل الأشياء اشتهى أن يُخلّص ما قـد هلك....
فـنزل إلينا ونـزل إلى ما دون مستواه حتى يرفع
الطـبيعة البشرية إلى ما هو فـوق مستواها...
أى ترتفع إلى أمجـاد اللاهـوت بسبب الاتحـاد
به...
يلخّص القديس كـيرلّس فى هـذه السطور جـوهـر لاهـوت
مدرسة الإسكندرية ونظـرتها العـميقة للخـلاص فهـو:
أولاً: عـودة إلى الاتحـاد بالله بعـد أن إغـتربنا عـنه بالخطيئة,
وقتد أصبح من الممكن أن نعـود لله عـندما اتّحـد اللاهـوت بالناسوت فى ربنا يسوع
المسيح...
ثانيًا: أن الذى يحقق عـودتنا لله فى المسيح هو الروح
القـدس...
ثالثًا: أن الخـلاص هـو إلتصـاق بالمسيح فى المعـمودية التى هى دفن
وقيامة معـه وفى شركة جسده فى الإفخـارستيا وفى فهم أسراره فى الكلمة الإلهية, أو
بالموت مثله فى حالات الشهداء والنساك, وكل هـذا مؤسس عـلى حقيقة أساسية وهى صحّة
الاعـتقاد بمجئ الله إلينا فى الجسد وباتحـاده بهـذا الجسد...
لذلك كان ارتفـاع الطبيعة البشرية إلى فـوق بسبب
التجسّد مقـبولاً ومعـقولاً عـن أن ترتفع الطبيعة البشرية على أمجـاد اللاهـوت بدون
التجسّد, وأن تنال عـدم التغـيّر الخاص بالله دون أن يـنزل الله
إليها...
ومن اللائق أن ينزل غـير الفاسد إلى الطبيعة
المستعـبدة للفساد حتى يحـرّرها من الفساد...
وكان من اللائق أن الذى لم يعـرف خطيئة يصبح مثل
الذين تحت الخطيئة ليُبطـل الخطيئة...
ففى النـور تصبح الظلمة بلا عـمل...
وحيث يوجـد عـدم الفساد يهـرب
الفساد...
لأن الذى لم يعـرف خطـيئة ( أى الله ) جعـل الذى
تحت الخطيئة ( الجسد ) خاصًا به حتى تصـير الخطيئة إلى عـدم...
وعـلى الرغـم من انه قـيل عـن يسوع أنه
كان:
[ وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ
يَتَقَدَّمُ فِي اَلْحِكْمَةِ وَاَلْقَامَةِ وَاَلنِّعْمَةِ عِنْدَ اَللهِ
وَاَلنَّاسِ ] [ لوقا 2: 52 ]...
فإن هـذا يخص التـدبير...
لأن كلمة الله سمح لبشريته أن تنمو حسب خواصها وحسب
قوانينها وعـاداتها...
ولكنه أراد شيئًا فشيئًا أن يعـطى مجـد ألوهيته إلى
جسده كلما تقـدّم فى العـمر حتى لا يكـون مرعـبًا للناس إذا بـدر منه عـدم الاحتياج
المطلق لأى شئ...
ولعـلّ هذا المبدأ اللاهـوتى الهام, هـو ما يمـيّز
الأناجـيل الأربعـة عـن غـيرها من الأناجـيل المـزوّرة التى تنسب للمسيح فى طفـولته
معـجـزات وخـوارق غـير عـادية...
ولذلك يجب أن نفـرّق بين أتحـاد اللاهـوت والناسوت
الذى حـدث فى اللحظة التى تكون فيها الجسد, وبين ظهـور المجـد
الإلهى...
فالاتحاد حدث دون انفصـال لكن ظهـور المجد الإلهى
كان يحدث عـلى فـترات وفى مناسبات مثل السير عـلى الماء أو
التجلّى...
ومع هـذا تكلّموا عـنه:
[ فَتَعَجَّبَ اَلْيَهُودُ
قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ اَلْكُتُبَ وَهُوَ لَمْ
يَتَعَلَّمْ؟ ] [ يوحنا 7: 15 ]...
فالنمو يحـدث للجسد, كما أن التقـدّم فى النعـمة
والحكمة يتـلاءم مع مقاييس الطبيعة البشرية...
وهنا يلزمنا أن نؤكّـد أن الله الكلمة المـولود من
الآب هـو نفسه كلّى الكمال لا ينـقـصه النمو أو الحكمة أو
النعـمة...
بلّ أنه يُعْـطى للمخـلوقات الحكمة والنعمة وكلّ ما
هـو صـالح...
وعـلى الرغـم أنه قـيل عـن يسوع أنه تألّم فإن
الآلام هى أيضًا خاصة بالتـدبير...
هى آلامه هـو, وهـذا صحيح تمامًا لأنه تألّم فى
الجسد الذى يخصّه هـو...
ولكنه كإله لا يتألّم أى لا تقـبل طبيعـته الألم
حتى عـندما تجـرّأ صـالبوه وعـذبوه بقسوة...
عـندما صار الابن الوحـيد مثلنا ـ لأنه دُعى فى
الأسفار التى أوحى بها الله بـ " ابن البشر", وهـذا حسب التدبير ـ إلا أننا نعـترف
لأنه بطبيعـته الله...
يقـول الله لموسى
النبى شارحًا الأسرار الإلهية:
[ وَتَصْنَعُ غِطَاءً مِنْ
ذَهَبٍ نَقِيٍّ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ وَعَرْضُهُ ذِرَاعُ وَنِصْفٌ
وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى
طَرَفَيِ اَلْغِطَاءِ. فَاصْنَعْ كَرُوباً وَاحِداً عَلَى اَلطَّرَفِ مِنْ هُنَا
وَكَرُوباً آخَرَ عَلَى اَلطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ. مِنَ اَلْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ
اَلْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ. وَيَكُونُ اَلْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ
أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى اَلْغِطَاءِ
وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى اَلآخَرِ. نَحْوَ اَلْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا
اَلْكَرُوبَيْنِ ] [ خروج 25: 17 ـ 20 ]...
هـذا رمـز صحيح يدلّ عـلى أن الله الكلمة الذى
تأنّس إلا أنه ظلّ الله, وعـندما صـار مثلنا من أجل التدبير لم يفقد مجـده
وعـظمته...
وعـمانوئيل صار لنا كفارة بالإيمان:
[ الَّذِي قَدَّمَهُ اَللهُ
كَفَّارَةً
بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ
بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ اَلصَّفْحِ عَنِ اَلْخَطَايَا اَلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ
اَللهِ ] [ رومية 3: 25 ]...
وهـذا يبرهـنه يوحنا أيضًا:
[ يَاأَوْلاَدِي الصِّغَارَ،
أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذِهِ الأُمُورَ لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَلكِنْ، إِنْ أَخْطَأَ
أَحَدُكُمْ، فَلَنَا عِنْدَ الآبِ شَفِيعٌ هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ
الْبَارُّ. فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لِخَطَايَانَا، لاَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ،
بَلْ
لِخَطَايَا الْعَالَمِ كُلِّهِ ] [
1 يوحنا 2: 1, 2 ]...
وعـلينا أن ننظـر إلى الكـروبين واقفين باسطين
أجنحتهما عـلى كرسى الرحمة, وهما يتطلعـان إلى كرسى الرحمة وفى نفس الوقت يثبتان
أعـينهما عـلى إرادة ربهما. وحشد الأرواح السمائية يثبتون عـيونهم عـلى إرادة الله
الكلمة الذى تأنس إلا انه ظل الله, وكلهم لا يشبع من النظـر إلى
الله...
هـذا المنظـر الأرضى ( فى خيمة الاجتماع ) يذكـرنا
بالمنظـر السمائى الذى رآه أشعـياء النبى عـندما رأى الابن جالسًا عـلى عـرش عـالس
والسارافيم يخـدمونه كالله:
[ فِي سَنَةِ وَفَاةِ
عُزِّيَّا اَلْمَلِكِ رَأَيْتُ اَلسَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ
وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ اَلْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ
فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِإثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ
وَبِإثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبِإثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ:
قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ اَلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ
اَلأَرْضِ ] [ أشعـياء 6: 1 ـ 3 ]...
2ـ
الحـيّة النحـاسية:
وموسى النبى قـد أقيم فى القـديم لكى يحـرّر شعـبه
من ظلم المصـريين ولكن كان من الضـرورى أولاً أن يتعـلّم الذين كانوا تحت نـير
العـبودية أن الله تصالح معهم...
لذلك أمـر الله موسى أن يُجـرى معـجـزات, لأن
المعـجزة فى بعـض الأوقات تساعـدنا عـلى الإيمان, لذلك يقـول موسى لله ضابط
الكلّ:
[ فَأَجَابَ مُوسَى: وَلَكِنْ
هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي بَلْ يَقُولُونَ لَمْ
يَظْهَرْ لَكَ اَلرَّبُّ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: مَا هَذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ:
عَصاً. فَقَالَ: اطْرَحْهَا إِلَى الأَرْضِ. فَطَرَحَهَا إِلَى اَلأَرْضِ
فَصَارَتْ حَيَّةً فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ اَلرَّبُّ لِمُوسَى: مُدَّ
يَدَكَ وَأَمْسِكْ بِذَنَبِهَا ( فَمَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ فَصَارَتْ عَصاً
فِي يَدِهِ). لِكَيْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ اَلرَّبُّ إِلَهُ
آبَائِهِمْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ
يَعْقُوبَ ] [ خروج 4: 1 ـ 5 ]...
لنتأمّـل هذا, أن الله بالطبيعـة وبالحق هو
عصا الآب لأن العصا هى عـلامة المملكة...
لأن الآب فى الابن له سلطان عـلى الكلّ, وفى هذا
يقول داود:
[ كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ
إِلَى دَهْرِ اَلدُّهُورِ. قَضِيبُ اِسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ ] [ مزمور 45: 6
]...
ولكنه ( أى الآب ) طرحها أو جعلها عـلى الأرض فى
طبيعـة بشرية, عـند ذلك اتخـذت ( العـصا ) شبه الناس الخطاة, وأصبح واضحـًا أن
العـصا التى صارت حـيّة ترمـز إلى شرّ الطـبيعة البشرية, لأن الحـيّة عـلامة عـلى
الشر...
ولكى نتأكّد من هـذا التفسير أن صـواب, نجـد أن
ربنا يسوع المسيح نفسه يقـول عـن رمـوز التـدبير بالجسد أنه مثل الحـيّة النحاسية
التى رفعـها موسى لكى تشفى من عـضات الحـيات, لأنه يقـول:
[ وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى
الْحَـيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِـي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ
لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ
الأَبَدِيَّةُ ] [ يوحنا 3: 14, 15 ]...
والحـيّة التى صُنعـت من نحاس كانت سبب خـلاص الذين
كانوا فى خطـر, لأنهم عـندما نظـروا غليها خلِصـوا...
هكـذا ربنا يسوع المسيح للذين ينظـرونه وهـو فى شبه
الناس الخطاة ـ لأنه صـار إنسانـًا ـ ولكن لا يجهل أحـد أنه الله الذى يقيم والذى
يمنح الحياة والقـوة للهـرب من العـضات الأليمة والسامة ( إى القـوات الشيطانية
التى تحاربنا )...
3 ـ عصـا
موسى ابتلعت عـصى السحرة:
ويمضى القـدّيس كـيرلّس فيقـول:
هناك وجه رمـزى آخـر وهو ( عـصا ) موسى إبتلعـت (
عصى ) السحرة التى ألقيت عـلى الأرض...
لأن ( العـصا ) بعـد أن طـُرحت عـلى الأرض وصـارت
حـية لم تظـلّ حـيّة بلّ رجعـت إلى ما كانت عـليه...
كذلك ( عـصا ) الآب ( أى الابن ) الذى فيه يسود
الآب عـلى الكلّ صار فى شبهنا ـ كما قلت من قـبل ـ إلا أنه بعـد أن أكمل التـدبير
عـاد إلى السماء, فهـو فى يـد الآب قضيب البر والملك [ قَضِيبُ اِسْتِقَامَةٍ
قَضِيبُ مُلْكِكَ ] [ مزمور 45: 6 ]...
وهو يجلس عـن يمين الآب فى مجـده, وله عـرش الآب
وهو فى الجسد...
4 ـ يد موسى
البرصـاء:
قال الرب لموسى :
[ ثُمَّ قَالَ لَهُ اَلرَّبُّ
أَيْضاً: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ ثُمَّ
أَخْرَجَهَا وَإِذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ اَلثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: رُدَّ
يَدَكَ إِلَى عُبِّكَ ( فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ
عُبِّهِ وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ) ] [ خروج 4: 6,
7 ]...
اليد ـ يد الله الآب ـ فى الأسفار الإلهية هى
الابن لأن هـذا النصّ يشير إليه:
[ وَيَدِي أَسَّسَتِ اَلأَرْضَ
وَيَمِينِي نَشَرَتِ اَلسَّمَاوَاتِ. أَنَا أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ
مَعاً ] [ أشعـياء 48: 13 ]...
وداود الإلهى ينشد قائلاً:
[ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ
صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا ] [ مزمور 33 : 6
]...
وعـندما كانت يـد موسى مختبأة فى حضنه لم تكن
برصاء, ولكن عـندما أخـرجت صـارت برصـاء...
وبعـد فـترة أدخلها مـرة أخـرى ثم أخـرجها ولم تعـد
برصـاء بل قـيل:
[ وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ
مِثْلَ جَسَدِهِ ] [ خروج 4: 7 ]...
لذلك عـندما كان الله الكلمة فى حضن الاب كان يشرق
ببهاء الألوهة, ولكن عـندما صار كما لو كان خارجـًا بسبب التجسّد ـ أو لأنه صـار
إنسانـًا فى شبه جسد الخطية
[ ... فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ
اِبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ اَلْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ اَلْخَطِيَّةِ دَانَ
اَلْخَطِيَّةَ فِي اَلْجَسَد ] [
رومية 8 : 3 ]... و
[ لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ
بَيْنَ اَلأَعِزَّاءِ وَمَعَ اَلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ
سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ
كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي اَلْمُذْنِبِينَ ] [ أشعـياء 53:
12 ]...
لأن الرسول بولس يقـول:
[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ
يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اَلْلَّهِ
فِيهِ ] [ 2 كورونثوس 5: 21
]...
وهـذا ما أعـتقـد أن البرص أشار إليه لأن الأبرص
حسب الناموس كان نجسًا...
ولكنه عـندما عـاد إلى حضن الآب , لأنه صعـد على
هـناك بعـد قيامته من الأمـوات ـ صار مثل يد موسى التى أدخلت فى حضنه وصارت
طاهرة...
هكـذا سوف يأتى سوف ياتى ربنا يسوع المسيح فى الوقت
المحدد ببهاء مجد الألوهة رغـم أنه لم يخلع شبهنا...
لأن بولس المبارك يقـول ايضًا عـن
المسيح:
[ هَكَذَا اَلْمَسِيحُ
أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ،
سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ
يَنْتَظِرُونَهُ] [ عـبرانيين 9: 28 ]...
لذلك عـندما تدعـو الأسفار الإلهـية المسيح يسوع فى
مناسبات متعـدّدة, لا يظـن أحـد أنه مجـرّد إنسان بلّ لنعـتقـد أنه يسوع المسيح
كلمة الله الحقيقى الذى من الله الآب حتى وإن صار إنسانًا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذين بلا دنس يؤمنون بالمسيح, ويتفقون معـنا,
يعـلمون أن الكلمة هـو من الله الآب...
وأنه نزل إلى فقرنا وصار فى صورة
العـبد...
والجسد الذى أخـذه وولد من العذراء هو
جسده...
بل أنه لم يولد فقط بل صار مثلنا ودُعى ابن
الإنسان...
فهو بالحقيقة الله حسب الروح ولكنه هو نفسه إنسان
حسب الجسد...
من أجـل هـذا يوجّه الرسول بولس خطابه إلى اليهود
قائلاً:
[ اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ
الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ
قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ
الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ -
الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً
لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ
الْعَالَمِينَ ] [ عـبرانيين 1: 1, 2 ]...
كيف تكلّم الله الآب فى الأيام الأخـيرة فى
ابنه؟...
قديمًا تكلّم فى الناموس فى
الابن...
ولذلك قال الابن أن كلماته أُعْـطيت قديمًا لموسى
الحكيم:
[ لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ
لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ
الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ
لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ
السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ
يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ
الْكُلُّ.. اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ
تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ. ] [ متى 5: 17,
18, متى 24: 35 ]...
وكذلك يشهـد النبى أشعـياء:
[ أنَا اَلْمُتَكَلِّمُ أَنَا
آَتٍ ] [ أشعياء 52: 6 السبعينية ]...
وعـندما تجسّد تكلّم الآب معـنا فيه كما قال بولس :
[ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ
الأَخِيرَةِ ] ...
ولكى لا يعـوق أى شئ إيماننا بأنه هو هو قبل الدهور
الله الابن أضاف الرسول عـلى الفـور: [ الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ
الْعَالَمِينَ ]...
ثم عـاد وأكّـد: [ الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ
مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ ] [
عـبرانيين 1: 3 ]...
بالحقيقة صار إنسانًا ذاك الذى به الله خلق
العالمين...
ولذلك لكى يكون اعـتقادنا سليمًا عـلينا أن نؤمن
أنه صـار إنسانًا وليس كما يفترض البعـض أن الله سكن فيه...
ولو كان هـذا صحيحًا ـ أى أن الله سكن فى إنسان ـ
الا يصبح ما يقوله يوحنا الإنجيلى : [ اَلْكَلِمَة صَارَ
جَسَدًا ] [ يوحنا 1: 14 ] بلا فائدة؟...
لأن ماهى الحاجة إلى هذا
التصريح؟...
وكيف يقال أن الله تجسّد غلا إذا كان فعلاً قد صار
جسدًا أى صار مثلنا؟...
إن قـوة التجسّد تظهـر فى أنه صار مثلنا لكنه ظلّ
فوقنا بلّ فوق كلّ الخليقة...
وسوف أبرهن بأمثلة كثيرة عـلى صـدق ما ذكـرته وهو
ان الابن الوحيد صار إنسانًا وهو الله حتى وهو فى الجسد, ولم يسكن فى إنسان ثم جعل
هذا الإنسان لابسًا اللاهوت مثل البشر الذين أنعم عـليهم بشركة الطبيعة
الإلهية...
1 ـ يقـول الله عـن البشر:
[ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي
يَقُولُ اَلرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا
عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ اَلَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ
أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ حِينَ نَقَضُوا
عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ اَلرَّبُّ. بَلْ هَذَا هُوَ اَلْعَهْدُ اَلَّذِي
أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ اَلأَيَّامِ يَقُولُ
اَلرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً ] [ أرميا 33 :
31 ـ 33 ]... و
[ إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ
وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي
شَعْباً ] [ 2 كورونثوس 6: 16 ] ...
ويقـول الرب يسوع المسيح نفسه:
[ إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ
يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ
مَنْزِلاً.... هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ
سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ
وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي
] [ يوحنا 14: 23 و رؤيا 3:
20 ]...
وكذلك ايضًا دعـينا هياكل الله:
[ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اَللهِ
اَلْحَيّ ] [ 2كورونثوس 6: 16 ]...
ويقـول ايضًا:
[ أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ
أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ اَلْقُدُسِ اَلَّذِي فِيكُمُ اَلَّذِي
لَكُمْ مِنَ اَللهِ وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ ] [ 1 كورونثوس
6: 19 ]...
فإذا قالوا أنه دُعى عـمانوئيل بمعـنى أنه مثلنا
نحن البشر قد سكن الله فيه...
فليعـترفوا عـلانية أنهم عـندما يشاهدوننا نحن
والملائكة فى السماء وعـلى الأرض نعـبده يخجلون من هـذه الفـكرة...
ويخجلون بالحرىّ لأنهم يجهلون قـصد الأسفار
المقدسة...
كما أنه لايوجد عـندهم الإيمان الذى سلّمه إلينا
الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدّامًا للكلمة [ لوقا 1: 2
]...
وإذا قالوا أنه الله وانه يمجّد كإله لأن كلمة الله
الآب سكن فيه ( أى فى يسوع المسيح ) وأنه يُمجّد عـلى هذا النحو وليس عـلى أساس أنه
الله الذى صار جسدًا فليسمعوا منا هذا:
" لا
يكفى لمن يسكن الله فيه أن تجعـله هذه السكنى إلهًا يُعـبد, لأن الله يسكن فى
الملائكة وفينا نحن بالروح القدس ... ومع هذا, فالذين أخـذوا الروح القدس لا يكفيهم
هذا لكى يصبحوا بالحقيقة آلهة {
تُعـدّ هذه الفقرة من أهم ما تركه الآباء لنا عـن الفرق الأساسى بين المسيح وبين
المؤمنين, من حيث مشاركة الطبيعة الإلهية, ولم يكتب أحـد قبل كيرلس الاسكندرى بهذا
الوضوح فى هذه النقطة },
لذلك ليس لهذا السبب بالذات قـيل أن عـمانوئيل هو الله, ونحن لا نعـبده لأن الكلمة
حلّ فيه كما يحلّ فى إنسان, وإنما نعـبده لأنه الله الذى صار جسدًا أى إنسانًا وظل
فى نفس الوقت الله الذى يُعـبد "...
2 ـ عـدما يتحدّث بولس الرسول عـن المسيح
يقـول:
[ الَّذِي فِي أَجْيَالٍ
أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو اَلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ
لِرُسُلِهِ اَلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ ] [ أفسس 3 : 5 ]... و
[ السِّرِّ
الْمَكْتُومِ مُنْذُ
الدُّهُورِ وَمُنْذُ
الأَجْيَالِ، لَكِنَّهُ
الآنَ قَدْ أظْهِرَ
لِقِدِّيسِيهِ، الَّذِينَ ارَادَ اللهُ
أنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ
غِنَى مَجْدِ هَذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ،
الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ
فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ. الَّذِي نُنَادِي
بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ إنْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ
كُلَّ إنْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ،
لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إنْسَانٍ كَامِلاً فِي
الْمَسِيحِ
يَسُوعَ] [ كولوسى 1: 26 ـ 28 ]...
فإذا كان المسيح إنسانًا لبس اللاهـوت وليس الله
بالحقيقة...
فكيف يصبح هـو نفسه " غـنى مجـد السرّ" الى يُبشر
به الأمم؟...
أو كيف يمكن أن يُقـال أن الرسول بشر بالله
بالمـرة؟...
3 ـ [ فَإِنِّي ارِيدُ
أنْ تَعْلَمُوا أيُّ جِهَادٍ لِي
لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ الَّذِينَ فِي
لاَوُدِكِيَّةَ، وَجَمِيعِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا
وَجْهِي فِي الْجَسَدِ، لِكَيْ تَتَعَزَّى
قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي الْمَحَبَّةِ لِكُلِّ غِنَى
يَقِينِ الْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ
سِرِّ اللهِ الآبِ
وَالْمَسِيحِ ] [ كولوسى 1: 1, 2 ]...
وها هو يسمّى سرّ الله, سرّ المسيح ويتمنى لمن يكتب
إليهم أن يكون عـندهم " يقين الفهم" لمعـرفته...
فما هى حاجة الذين يريدون أن يعـرفوا سرّ المسيح
إذا كان الله قـد حـلّ فى إنسان؟...
لكنهم يحتاجون إلى " غـنى يقين الفهم" لكى يعـرفوا
أن الله الكلمة تجسّد...
4 ـ [ لأَنَّهُ مِنْ قِبَلِكُمْ
قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ، لَيْسَ فِي
مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ فَقَطْ، بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَيْضاً قَدْ ذَاعَ
إِيمَانُكُمْ بِاللهِ، حَتَّى لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ أَنْ نَتَكَلَّمَ
شَيْئاً] [ 1 تسالونيكى 1: 8 ]...
وها هو الرسول يذكر أن إيمانهم هو إيمان الله,
بينما يقـول المسيح:
[ اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ
لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ] [ يوحنا 6:
47 ]...
كما ان الكلمة التى يبشر بها الرسول هى كلمة الرب
أى المسيح...
5 ـ [ فَإِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ
أَيُّهَا الإِخْوَةُ تَعَبَنَا
وَكَدَّنَا، إِذْ كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ اللهِ، وَنَحْنُ عَامِلُونَ
لَيْلاً وَنَهَاراً كَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ. أَنْتُمْ شُهُودٌ،
وَاللهُ، كَيْفَ بِطَهَارَةٍ وَبِبِرٍّ وَبِلاَ لَوْمٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ أَنْتُمُ
الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا
تَعْلَمُونَ كَيْفَ كُنَّا نَعِظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَالأَبِ لأَوْلاَدِهِ،
وَنُشَجِّعُكُمْ، وَنُشْهِدُكُمْ لِكَيْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلَّهِ
الَّذِي دَعَاكُمْ إِلَى
مَلَكُوتِهِ وَمَجْدِهِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَحْنُ أَيْضاً نَشْكُرُ اللهَ بِلاَ
انْقِطَاعٍ، لأَنَّكُمْ إِذْ
تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ، قَبِلْتُمُوهَا لاَ
كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ،
الَّتِي تَعْمَلُ أَيْضاً
فِيكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ. ] [ 1تسالونيكى 2: 9 ـ 13 ]...
ألا يقـول الرسول صـراحة أن كلمة المسيح هى إنجـيل
الله وأنها كلمة الله أيضًا؟...
6 ـ [ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ
نِعْمَةُ اَللهِ اَلْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ اَلنَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ
نُنْكِرَ اَلْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ اَلْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ
وَاَلْبِرِّ وَاَلتَّقْوَى فِي اَلْعَالَمِ اَلْحَاضِرِ، مُنْتَظِرِينَ اَلرَّجَاءَ
اَلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اَللهِ اَلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ
اَلْمَسِيحِ] [ تيطس 2: 11 ـ 13 ]...
هنا جهـرًا يوصف الرب يسوع بأنه " الله
العـظيم"...
ذلك الذى ننتظـر مجـيئه المجـيد فنصـلّى بحـرارة
ونعـيش بالتقـوى وبدون عـيب...
ولو كان المسيح إنسانًا لبس اللاهـوت فكيف يُسمّى "
الله العـظيم"؟...
وكيف يكون رجاؤنا فيه مباركـًا؟...
والنبى أرميا يقـول:
[ مَلْعُونٌ
اَلرَّجُلُ اَلَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى اَلإِنْسَانِ وَيَجْعَلُ اَلْبَشَرَ ذِرَاعَهُ
وَعَنِ اَلرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ ] [ إرميا 17: 5
]...
ولو كان المسيح قـد لبس اللاهـوت فهـذا لا يجعـله
إلهـًا...
وقياسًا عـلى ذلك لو دعـونا كل من حلّ فيهم الله
آلهـة, فماذا يمنعنا من عـبادتهم؟...
لكن الرسول بولس يسمّى المسيح: الله العـظيم, وأن
مجيئه مبارك, بولس أيضًا قال لليهـود عـن عـمانوئيل:
[ الَّذِينَ هُمْ
إِسْرَائِيلِيُّونَ وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ
وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ
وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ .
وَلَهُمُ الآبَاءُ وَمِنْهُمُ
الْمَسِيحُ حَسَبَ
الْجَسَدِ الْكَائِنُ عَلَى
الْكُلِّ إِلَهاً مُبَارَكاً
إِلَى الأَبَدِ.
آمِينَ. ] [ رومية 9: 4, 5 ]...
ولقـد كـرّز بولس بإعـلان إلهى ... وهـذا واضح إذ
يقـول هو نفسه:
[ ُمّن بَعْدَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً
مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ
عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ
بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ
سَعَيْتُ بَاطِلاً. ] [
غـلاطية 2: 1, 2 ]...
ونحن نعلم أن بولس بشّر بالمسيح للأمم كـإله, وفى
كلّ مكان كان يتحـدّث عـن سر المسيح مسميًا إيّاه بالسرّ العـظيم الإلهى واستمر فى
كرازته بعـد أن عرضها عـلى المعـتبيرين من القديسين عـندما صعـد إلى أورشليم بموجب
الوحى الإلهى, فكانت توافق التعليم الرسولى...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلنا أن
الله صمّم فى محـبته أن ينحـدر على الإنسان ليخلّصه...
إلا أنه ـ وهو يحـترم حـرية الإنسان ـ كان منتظـرًا
أن يريد الإنسان خـلاصه, ان يشاء إقـتبال الإله المنحـدر إليه...
ولـذا فقـد هـيّأ الله الإنسانية تدريجـيًا إلى
إقـتبال الخـلاص...
وقـد أدّت هـذه التهـيئة إلى العـذراء
مريم...
فمريم هى زهـرة العـهد القـديم وثمـرة عـناية الله
بشعـبه وتربـيته له عـلى مـرّ الأجـيال...
فـفى مريم بلغـت قـداسة العـهد القـديم ذروتها فى
الإيمان والتواضـع والطاعـة لله...
لذلك فى شخص مريم استطاعـت البشرية أن تقـول "
نعـم" لله وأن تتقـبله مخلّصـًا لها, هـذا ما تمّ عـندما أجابت مريم
المـلاك:
[ هُوَذَا أَنَا أَمَةُ
الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي
كَقَوْلِكَ ] [ لوقا 1: 38 ]...
عـندئذ, تمّ تجسّد ابن الله لأن البشرية " سمحت" له
بشخص مريم أن يأتى إليها ويخلّصها...
لذلك كتب اللاهـوتى " نقـولا كباسيلاس" : {
إن التجسّد لم يكن فعـل الآب وقـدرته
وروحـه فحسب, ولكنه أيضًا فعـل إرادة العـذراء وإيمانها. فبـدون قـبول الكـلية
النقـاوة, وبـدون مساهمة إيمانها, لكان تحقيق هـذا المقصـد متعـذرًا...}...
هكـذا كانت مريم ذلك :
[ ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلَى
طَرِيقِ بَابِ اَلْمَقْدِسِ اَلْخَارِجِيِّ اَلْمُتَّجِهِ لِلْمَشْرِقِ وَهُوَ
مُغْلَقٌ. فَقَالَ لِيَ اَلرَّبُّ: هَذَا اَلْبَابُ يَكُونُ مُغْلَقاً, لاَ
يُفْتَحُ وَلاَ يَدْخُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ, لأَنَّ اَلرَّبَّ إِلَهَ
إِسْرَائِيلَ دَخَلَ مِنْهُ فَيَكُونُ مُغْلَقاً ] [ حزقـيال 44:
1, 2 ]...
ففى مريم تمّ أولاً الاتحـاد بين الله
والإنسان...
إذ أن ابن الله اتحـد ذاته بجسد إتخـذه من جسد
مريم...
لذلك تدعـو الكنيسة العـذراء " والـدة الإله" لأنها
ولـدت الإله المتجسّد...
وبذلك تـُرَدّد ما قـالته أليصـابات بوحى الروح
القـدس عـندما زارتها نسيبتها العـذراء مريم إذ:
[ فَلَمَّا سَمِعَتْ
أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي
بَطْنِهَا وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ
مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ
وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ
وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ
أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ ] [
لوقا 1 : 41 ـ 43 ]...
وتعـتقد الكنيسة أن مـنزلة العـذراء تفـوق
المـلائكة إذ قـد أُهّـلَتْ أن تحمل فى ذاتها ابن الله المتجسد فتصـير هكـذا
هيكـلاً حـيًا للإلـه الذى: { لا تجسر
طغمات الملائكة أن تنظـر إليه }
لذلك تخاطبها الكنيسة منشدة: { يامن هى أكـرم من الشاروبيم وأرفـع مجـدًا بغـير
قياس من السارافيم
}...
وأيضًا: { لأنه صنع مستودعـك عـرشًا وجعـل بطنك أرحب من السماوات
}...
وهكـذا فتكـريم الكنيسة الأرثوذكسية للعـذراء مريم
يعـود خاصة للدور الذى لعـبته فى التجسّد...
لـذا, فالاسم الذى تطلقـه عـليها باستمرار هـو إسم
" والـدة
الإلـه"...
ولذلك, أيضـًا عـندما تمدحها تمدح بنوع خاص ذلك
الدور الذى شاء الله أن يسنده إليها فى مقاصـده...
وللسبب عـينه لا تمثـّل الأيقـونات الأرثوذكسية
أبدًا العـذراء وحـدها, بلّ تمثلها دومـًا حاملة ابنها وإلهها...
فمجـد والدة الإله مستمد من ذاك الذى شاء أن يُولد
منها...
والعـذراء نفسها فى حـياتها الأرضية لم تشأ أن
تُـبرز شخصيتها بل كانت دائمـًا متخـفية وراء ابنها والتعـليم الوحـيد الذى نقـله
إلينا الإنجـيل عـن لسان العـذراء إنما هـو وصيتها للبشر بأن يطيعـوا
ابنها:
[ قَالَتْ أُمُّهُ
لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ ] [ يوحنا 2:
5 ]...
وتعـتقـد الكنيسة أن العـذراء بما انها صـارت أمـًا
للإلـه المتجسّد, فـقـد أصبحت أيضًا أمًّـا لكـلّ الذين صـار ذاك الإلـه أخـًا لهم
بالتجسّد:
[ لأَنَّ الْمُقَدِّسَ
وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ
مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ
يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً.... فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ
وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ
أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا ] [
عـبرانيين 2: 11, 14 ]...
وبنـوعٍ خاص امـًا للذين أصبحـوا بإيمانهم تلامـذة
أحـباء له...
فعـندما كان يسوع عـلى الصليب خاطب مريم قائلاً عـن
التلميذ الحبيب:
[ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ
أُمَّهُ وَاَلتِّلْمِيذَ اَلَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً قَالَ لأُمِّهِ:
{ يَا اِمْرَأَةُ هُوَذَا اِبْنُكِ }. ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ:
{ هُوَذَا أُمُّكَ }. وَمِنْ تِلْكَ اَلسَّاعَةِ أَخَذَهَا
اَلتِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ ]
[ يوحنا 19: 26, 27 ]...
فهـذه العـبارات يصح إطـلاقها عـلى كل تلميذ حبيب
ليسوع أى كل مؤمن به...
فى عـرس قانا الجليل تحسست مريم لحاجة أهل البيت
وضمت شعـورها بهذه الحاجة إلى شعـور ابنها قائلة له:
[ وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ
قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: { لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ}. قَالَ لَهَا
يَسُوعُ: { مَالِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي
بَعْدُ}] [ يوحنا 2: 3, 4 ]...
هكـذا تتحسس مريم لحاجتنا وشفاعـها هى أن تضم حنوها
عـلينا إلى حـنو ابنها...
وهـذه الشفاعـة قـوية كما يظهـر من حادثة عـر قانا
الجليل...
وكما تشهد الكنيسة: { ليس أحـد يسارع محاضـرصا إليك ويمضى خازيًا من قبلك أيتها
البتول النقية أم الإله
}...
ولكن النعمة التى تطلبها لنا العـذراء بنوع خاص هى
أن يتصـوّر ابنها فينا حتى نحمله نحن فى كياننا كما حملته هى ونتحـد به كما اتحـدت
به هى...