اَلثَالوث
القدوس
" ..أؤمن بإله واحد,
الله الآب....وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور
... نعم أؤمن بالروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب..."
إن الكـثيرين من المسيحيين يظـنون أن عـقـيدة
الثالوث هى نظـرية فلسفـية وهى قضية معـقـدة لا يفهمها أحـد، وبالتالى هى موجـودة
ونقـول بها، إلا أنها لا تمت بصـلة إلى الناس وإلى ما
يعـيشون...
ولكن عـندنا القـديس " إغـريغوريوس اللاهـوتى" الذى
يقـول: " الثالوث فـرحى"...
إذًا, وُجِـدَ أناس ليس الثالوث بالنسبة إليهم
شرحـًا فلسفـيًا، ليس تعـليمـًا للأذكـياء ولكنه حـياة تُعـطى للنـاس جميعـًا، وكل
الناس يمكنهم الإشتراك فى حـياة الثالوث...
ليس عـند المسيحيين تعـليم إلا وله عـلاقة بحـياة
البشر الأقـرب إلى معـيشتهم، ليس المسيحيون فـلاسفة وليس ثمة عـنصر فـلسفى فى
دياناتهم، وهم يُجـلّون إيمانهم عـن أن يكون
فـلسفيًـا...
هـذا يعـنى أنه ليس هناك عـنصر أرضى يكـوّن
إيمانهم...
هم يقـولون أن الألف واليـاء فى إيمانهم هـو
الثالوث القـدوس...
وبالتالى، لا مهـرب من أن نواجه هـذا الذى يقـال
عـنه فى المسيحية أن البـداية والنهاية...
يجب القـول، بادئ ذى بدء، تمهـيدًا لبسط العـقـيدة،
أننا إذا تحـدّثنا فى الله فإنما يكـون للكلمات معـانٍ غـير المعـانى
المألوفة...
الله يُتَحّـدث عـنه بتنزيهه عـن
المخـلوق...
الله ليس مثله شئ، ليس مثله
مخـلوق...
فالحـديث عـنه , إذًا, بكلمات ـ طبعـًا لا يستطـيع
الإنسان إلا أن يتكـلّم، وهـذا العـلم الإلهى نقـول عـنه إنه التكـلّم بالإلهـيات ـ
ولكن، حتى إذا تكـلمنا فى أمـور الله فنحـن نضمّـن الكلمات معـانى غـير المعـانى
المعـروفة , لها , طـبعـًا، صـلات بالمعـانى المعـروفة ولكنها غـيرها فى
النهاية...
مثلاً:
إذا قلنا أن هـذا الإنسان واحـد وليس إثنين فليس
بهـذا المعـنى نقـول إن الله واحـد. الله واحـد ولكن ليس تشبيهـًا بأن هـذا من
الناس أو ذاك هـو واحـد. هناك، طبعـًا، شئ من القـرابة بين أن الله واحـد وأن هـذا
من الناس أو ذاك واحـد. ولكنها فـقـط قـرابة. لا نعـنى الشئ نفسه إذا قـلنا واحـد
عـن إنسان وإذا قـلنا واحـد عـن الله. ليس هناك مدلـول واحـد. عـندنا مدلـولات
مخـتلفة. إذا قـلنا أن هـذا الإنسان جـميل، بمعـنى أن ثمة تناسقـًا بين عـينيه
ومنخـريه وفمه وقـامته... إلخ. فليس بهـذا المعـنى نقـول أن الله
جمـيل...
ماذا نعـنى عـندما نقـول أن الله
جـميل؟...
هـذا يفـرض حركة فى القـلب، حركة تطهّـر
كـبيرة...
وندرك فى الصـلاة، فى التـأمل الروحى، أن الله
جـميل...
الله هـو الذى يُتصـل به ويُعـبد وفى النهاية، لا
يُتكـلم عـنه...
ولكن لابـد من
الكـلام...
فنقـول، إذًا، كـلامـًا منزهـًا عـن الكـلام
البشرى...
نقـول عـن الله ما ليس هـو، ولا نقـول عـنه ما
هـو...
نقـول، مثلاً، الله ليس بواحـد، ليس بجـميل وليس
بموجـود، إذا كان الإنسان موجـودًا بمعـنى أن له عـظـامـًا ولحمـًا ونفسـًا...
إلخ...
أى أننا إذا حـددنا كـيان الإنسان فليس بهـذا
المعـنى الله موجـود...
ولا يمكننا، بمعـنى من المعـانى، أن نتكـلّم عـن
الله مثلما نتكـلّم عـن الإنسان...
صحيح أن الله موجـود أى هـو قائم، ولكن هـل هـو
موجـود مثلما الإنسان موجـود؟...
كـلا...
دائمـًا هـناك كـلا عـندما نتكـلّم عـن
الله...
ليس هـو موجـودًا بنفس الوجـود
الإنسانى...
إذا كان للإنسان جـوهـر، فهـل لله
جوهـر؟...
نقـول فى نشيد الميـلاد: { العـذراء تلد الفائق
الجـوهـر }...
لم نقـل أن له جـوهـرًا ولكن أنه يفـوق
الجـوهـر...
فإذًا، إذا كان الإنسان ذا جـوهـر فالله ليس ذا
جـوهـر...
ما يُنسب للإنسان لا يُنسب
لله...
الله يُنـزّه دائمـًا ويُـرفـّع
ويُعـلى...
بناء عـلى ما تقـدّم...
إذا قـلنا أن الله مثلّـث الأقـانيم، وإذا قـلنا
أنـه واحـد فى الجـوهـر فهـذا ليس معـناه، عـلى الإطـلاق، أنه هـو ثـلاثـة أو أنـه
واحـد...
ليس هـو ثـلاثة بمعـنى
العـدد...
العـدد لا عـلاقـة له
بالله...
لا يستطـيع الإنسان إلا أن يعـدّ
المحسوسات...
الله لا يُعـدّ لإن من عـدَّه فـقـَّد
حَـدّه...
وذلك، عـندما يقـول شهـود يهـوه أو المسلمـون أو
اليهـود، عـندما يقـولون عـنّا أنّ عـندنا ثـلاثة آلهـة, لأننا نقـول: واحـد وثان
وثالث، ( وهم يعـنون بذلك أن عـندنا ثـلاثة آلهـة )...
فالجـواب عـلى ذلك هـو أننا لا نعـدّ الله
ثـلاثة...
ليس هـذا عـدًّا...
أحـدهم اسمه الآب وأحـدهم اسمه الابن وأحـدهم اسمه
الروح القـدس...
إذ أنـه يُجـاب عـلى المسلم واليهـودى وشهـود يهـوه
بأنه إذا كان إلهـك واحـدًا وأنت تعـدّه واحـدًا فهـذا كأنـك تعـدّه ثـلاثة أو
أربعـة أو خمسة عشر...إلخ...
لأنك إذا عـدَدْته واحـدًا معـنى هـذا أنك حـدّدته
بواحـد...
الله لا يُحَـدّ...
فإذًا، واحـد ليس أقـل من
ثـلاثة...
إذا كان ثـلاثة عـددًا فواحـد عـدد
أيضًا...
الله ليس واحـدًا إذا قصـدنا بهـذا أنه ليس
إثنين...
هـو واحـد، هكـذا قـال عـن نفسه بمعـنى لا أعـرفه
عـقـليـًا ولا يمكن أن أعـرفه عـقـليـًا...
ولكن هكـذا كشف هو
نفسه...
وأنـا أستطـيع، بالإتصـال الروحى، بالصـلاة، بخـيرة
القـديسين وخـبرة الجماعـة أن أذوق كيف هـو ثـلاثة, كيف هـو
واحـد...
ولكـن يبقى أن القضـية ليست
إحصـاء...
تلاحظون أننا أرجعـنا الآن إلى موقـف روحى، صـوفى،
إلى موقـف يفـوق كل إدراك عـقـلى، لأننا نحن لا نستوعـب الله ولكنه هـو
يستوعـبنا...
وبالتالى لا مـبرر
للسؤال:
كيف أن الثلاثة واحـد والواحـد
ثـلاثة؟...
لأنه ليس همّى أن أفهمك هـذا ولا يمكنك أن تفـهم
هـذا...
وأكـثر من ذلك لا يمكـنك أن تفهـم, حتى، كيف أن
الله واحـد؟...
ولكن عـقـل الإنسان حسابىّ وهـذا بالنسبة إليه بسيط
أكـثر من أن تجعـله يقـارن بين شيئين فيلتبس عـليه الأمـر وتتعـقـد بساطـته
العـقـلية...
ولكـن، فى حقـيقـة الحـال، عـقـليـًا، الواحـد ليس
أبسط من ثـلاثة...
ويبقـى فهـمـك للواحـد عـلى نفس صعـوبة فهمـك
للثـلاثة...
فإذًا، لا يفتخـرن أحـد عـلينا بأن عـنده ديـانة
عـقـلية...
وهـل فـهم أنّ الله واحـد هـو موقـف
عـقـلى؟...
كل وجـود الله ، فى الأساس، ليس
عـقـليـًا...
العـقـل البشرى لا يفـرض عـليك الوجـود
الإلهـى...
ويرتـاح العـقـل البشرى، كليـًا، إنّ بوجـود الله
أو بعَـدّ وجـوده...
إذ يمكن لهـذا العـقـل أن يصعـد إلى القمـر وأن
يصنع مخـتبرات وصـواريخ سواء كان الله، بالنسبة إليه، موجـودًا أو غـير
موجـود...
ولا يستطـيع العـقـل البشرى، بقـدرته الوحـيدة، إلا
أن يعـدّ...
والفـيزياء الصحيحة والسليمة هى، فى النهـاية،
العـدّ، هى حساب...
كـلّ شئ ليس هـو حسابـًا ليس
عـلمـًا...
كـلّ شئ ليس هـو حسابـًا ليس
معـرفة...
الله ليس حسابـًا لذلك فهـو لا يُعـرَف ولا يستـدلّ
عـليه...
فى سفـر الرؤيا آية تقـول عـن المسيح
أنه:
[ وسيَسجُدُ لَه أَهلُ الأَرضِ
جَميعًا، أُولئِكَ الَّذينَ لم تُكتَبْ أَسْماؤُهم مُنذُ إِنْشاءِ العالَمِ في
سِفرِ الحَياة، سِفرِ الحَمَلِ الذَّبيح ] [ الرؤيا 13:
8 ]...
إذًا، قـبل أن يخـلق الله العالم كان عـنده فى
جـوفه حمل مذبوح وهو الابن الذى أعـدّه لخـلاص
العـالم...
هـذا قـبل أن يُنشأ
العـالم...
هناك، إذًا، عـملية حُب فى داخـل
الثالوث...
الله أعـدّ ابنه ليكشف للعـالم بأنه محـبوب، أى بأن
العـالم هـذا محبوب...
ويحـذرنا الآبـاء، طبعـًا، من أن نتحـدّث فى
الثالوث القـدوس إذا كنـا نريـد أن نتكـلم عـن عـلاقة الله
بالعـالم...
هـذا الحـديث، يقـول الآبـاء، هـو خـارج عـن المبحث
الثالوثى...
ثمة عـلم اسمه " الثيولوجـيا" وهـو
الكـلام عـن الله فى أزليته، بحـد نفسه...
وثمة عـلم اسمه " إيكـونومـيا" وهـو
التـدبير، أى هـو كيف أن الله يريـد أن يدبـر هـذه الدنيا عـن طـريق
الخـلاص...
ويقـول لنا الآباء, أيضًا، أن البحث فى "
الثيولوجـيا" هـو غـير البحث فى الـ " إيكونوميا" أى فى
تدبير الخـلاص...
الإله الواحـد الأحـد لا
يُحبّ...
" الواحـد" تعـنى فى العـربية، واحـدًا بالعـدد، و"
الأحـد" تعـنى الذى ليس بعـده ثانٍ، هـذا فى العـربية...
{ قـل هـو الله أحـد، الله الصمـد، لم يلد ولم يولد
ولم يكن له كفوًا أحـد }...
هـذه آية من سورة " الإخـلاص" وليست
هى، فى الحقيقة، موجهة ضـد المسيحيين...
ليس معـناها أنها تنكـر الابن والروح
القـدس...
إذا أخـذناها نصـًا فقط وليس بمدلولها القـرآنى،
يمكننا أن نقـول، من حيث النص، أن الإله الأحـد أى المنغـلق عـلى نفسه، المحـدود
بأحـديته، هـذا الإله لا يلـد ولا يولـد، أى أنه لا يحب ولا
يُحبّ...
عـندما يكـون الواحـد واحـدًا فقـط وغـير قـادر أن
يصـير إثنين وأن يحـاور شخصـًا أمامه فهـو ليس
منفـتحـًا...
حـتى الراهب الساكن فى صومعـته هـو فى حـوار مع
المؤمنين الذين ليسوا معـه فى صـومعـته، ذلك أنه يصـلّى من أجـلهم ويصـلون من
أجـله...
لا يوجـد إنسان طالع من
صخـر...
كلّ إنسان يحاور حـتى
يوجـد...
قـبل أن يحـاور ليس هـو
موجـودًا...
الله موجـود لأنه يحاور، لأنه غـير منغـلق عـلى
نفسه، لأنه فـاتح نفسه...
هـذا الإله الفاتح نفسه للحـديث، لحـديث حبّ ـ ولا
حـديث غـير هـذا ـ هـذا الإله هـو الآب وهـو مصـدر الوجـود الإلهى، أى مصـدر
اللاهـوت، مصـدر الألوهـة...
قـبل أن يكـون العـالم وبالإستقـلال عـن العـالم
الله قـائم...
كان يمكن للعـالم ألا
يكـون...
العـالم موجـود عـرضًا ويمكن أن يُفـنى، يقـول
العـلماء أنه سيُفـنى...
الله موجـود بصـرف النظـر عـن العـالم، عـن وجـود
العـالم وزواله...
هـذا
الإله الموجـود، القـائم فى نفسه والمنفتح من نفسه أيضًا،
هـذا
الإله الذى لا بـدء له ولا نهاية ولكنه بـدء كل شئ ونهاية كل
شئ،
هـذا
الإله، قـبل أن يَخْـلق وبالإستقـلال عـن الخـلق،
جـاء منه
الابن، فـاض منه الابن ـ الكلمة,
وفاض منه،
أى من الآب، أيضـًا الروح القـدس...
والكلمات التى تُستعـمل فى التراث المسيحى، فى هـذا
الشأن،
هى أن الآب غـير مولود وغـير منبثق ـ هـذه صـفـته
الخـاصة به والتى تمـيزه عـن الابن والروح ـ
والابن مولود من الآب،
والروح القـدس منبثق من
الآب...
هـاتان الكلمتان ـ مولود ومنبثق ـ موجـودتان فى
الكـتاب المقـدّس...
نحن نعـرف أن الابن مولود من الآب وقـرأنـا أن
الروح القـدس منبثـق من الآب...
ماهـو الفـرق بين المولود
والمنبثق؟...
هـذا ما لا نعـرفه...
هـذا النشوء:
نشوء الابن عـن الآب ونشوء الروح القـدس عـن الآب،
هـو نشوء أزلى، أى بـلا زمـان، قـبل الزمـان, لأن الزمان
مخـلوق...
قـبل الزمان وبـدونه، بدون إنفـعـال, بدون مخـاض
وبدون أزمـة, صـدر الابن عـن الآب وصـدر الروح القـدس عـن
الآب...
هـذا بدون بَعْـدية، أى أن الواحـد لا يأتى بعـد
الثانى فى الزمن...
من هـذا القـبيل فإن هـذا لا يُشَـبّـَه،
إطـلاقـًا، بالولادة الجسدية لأن الأب الجسدى هو قـبل ابنه، فبينهما إذًا
بَـعْـدية...
ليس من بَعـْدية بين الآب
والابن...
فالواحـد ليس قـبل الثانى فى
الزمـن...
ولكـن، إذا صحّ التعـبير، يمكننا أن نقـول أن الآب
هـو قـبل الابن ليس بالزمـان ولكن بالنطـق، أى بالتسلسل، بتسلسل غـير
زمنى...
الآب قـبل الابن بالنطـق لا بالزمن أى أن الواحـد
يجئ من الثانى...
ولكن نعـود فنقـول، أنه مذ كان الآب فى الأزل، كان
ابنه معـه وكان روحـه معـه...
فإذًا، ليس بينهم إنفـصـال ولا فجـوة ولا بُعـد
ولكن، فى نفس الوقت، الواحـد ليس الآخـر...
الآب ليس الابن، والابن ليس الروح القـدس، والروح
القـدس ليس الآب , ولكنهم الكـل فى جـوهـر واحـد...
هنـاك تمايز ـ وهنا يمكن أن تكـون كل
الكلمات ثقيلة جـدًا ـ بينهم، تمايز بلا أفضـلية...
التمايز يعـنى فى اللغـة العـربية، أن الواحـد غـير
الثانى...
الآب لا يمكن أن يكـون الابن، ولا الابن الروح
القـدس’ ولا الروح القـدس الآب، العـلاقة بينهم عـلاقة
الصـدور...
الابن صـدر عـن الآب والروح القـدس صـدر عـن الآب،
الابن بالولادة والروح بالانبثاق وما يجمعـهم هـو الجـوهـر
الواحـد...
الذى يجمع الأقـانيم الثـلاثة هـو الجـوهـر الواحـد
أو الطبيعـة الواحـدة...
أى أن كل ما بينهم مشترك ما عـدا صفات تخص
الأقـنومية...
كـل ما
بينهم مشترك ماعـدا الصـفات الأقـنومية...
الجلسة
واحـدة أى الملوكية واحـدة أو الربوبية واحـدة، أو باللغـة الإسلامية، الحاكمية
واحـدة ...
والخـالقـية واحـدة
أى أن الثـلاثة اشتركـوا فى خـلق العـالم...
كـل هـذه
العـبارات تأتى تحت كلمـة الربوبية...
الربوبية،
الازلية، الأبدية، الرحمـة، المحـبّة... إلخ، كل الصفـات مشتركة ما عـدا الصفـات الخاصـة بكـل
منهم...
أى أن
الصـفة الخـاصة بالآب هى الأبوة، أى هـو غـير مولود وغـير منبثق، وهـذه هى صـفة
الأقـنومية للآب...
والصـفـة
الأقـنومية للابن هى المولودية، أى أنه مولود...
والصـفة
الأقـنومية للروح القـدس هى الإنبثـاق، اى أنه منبثق...
فإذًا، كل
ما بينهم مشترك عـدا الصـفات الأقـنومية...
وهـذه
قـاعـدة أساسية فى اللاهـوت المسيحى...
لذلك تـرون فى الإنجـيل أحـاديث وأن هـذه الأحـاديث
تـدور، تارة، عـلى الابن مولود من الآب وإذًا، هـو خاضع للآب وعـائد إليه ـ هـذا فى
موضـوع التجسّد ـ وتارة تدور هـذه الأحـاديث عـلى التساوى
بينهما...
ثمة أحـاديث، إذًا، تـدلّ عـلى التساوى بين الآب
والابن...
وثمة أحـاديث أخـرى تدلّ عـلى أن الابن مولود من
الآب وبالتالى عـلى أنه تابع من حيث أنه ليس هو المصـدر ولكنه آت من المصـدر بدون
زمان...
هـو تابع ليس لأنه عـبد للآب بل بمعـنى انه متصل
بالتبعـية...
الابن والروح القتدس متصلان بالتبعـية مع الآب بلا
زمان، بلا تفـريق، بلا فجـوة وبلا بُعـد...
ولكن
هناك ثانٍ وثالث مقابل الأول وهـو الآب الذى يبقى مصـدرًا
للاهـوت...
عـلينا، إذًا، أن نستوعـب فى نفسنا المؤمنة، وفى
نفس الوقت، أن بين الأقانيم الثـلاثة تساويًا، ولذا، فثمة أحـاديث تدور حـول
التساوى...
وأن بينهم تستسلاً أو إرتباطـًا أو صـلة ولذا،
أيضًا، ثمة أحاـديث عـن الصـلة...
من أجـل ذلك مردودة هى هذه
الدعـاوى:
كيف يتكلم عـن الآب أنه أهم من الابن أو أعـلى منه
وأن المسيح يظهـر نفسه بأنه خاضع؟....
المسيح خاضع لأنه تابع، لأنه ابن، والمسيح خـاضع
أيضـًا، فيما بعـد، فى الإنجـيل، لأنه تألم، لأنه إنسان، ولكن ليس فقط لأنه إنسان،
بل أيضـًا، لأنه ابن وسيكون الله الآب الكـل فى الكـل، وفى الآخـر سيخضع المسيح
للآب لأنه، أى المسيح، يأتى بالإنسانية جمعـاء إلى الله
الآب...
ولكن، بصـرف النظـر عـن المخـلوق وبصـرف النظـر عـن
الفـداء، فالمسيح متجه إلى الآب لأنه مولود منه...
لماذا كل هـذه " الكركبة" ، هـذه " الشغـلة"
لماذا؟...
فقط لأن الله هكـذا
قال...
وما قاله صحيح...
ولكن ما المعـنى الأخـير
للثـالوث؟...
المعـنى الأخـير للثالوث هـو أن الله
محـبّة...
أى، هـذا الإله الأول، كما تسميه الطـقـوس
الأرثوذكسية، وهـو الآب، الأول فى النـطـق وليس الأول فى
الزمن...
الأول من حيث أنه
المصدر...
هـذا الإله الأول، لكـونه محـبّة، صـدر عـنه ابنه
وروحـه صـدور حـبّ...
صـدورًا لا زمـنيًا، ولكنه صـدورًا حـبيًـا كما
يقـول القـديس مكسموس المعـترف...
الله الآب يحب بهـذا المقـدار أنه صـدر عـنه هـذا
الإثنان الابن والروح...
وهـذا يعـنى أن الابن هـو الآب مسكوبًا كليًا فى
الأقـنوم الثانى...
الابن معـناه جوهـر الآب، طبعـًا، وليس أقـنوم الآب
وفـرد الآب كفـرد، أى معـناه جـوهـر الآب، طـبيعـة الآب وحـياة
الآب...
وبكلمة عـصـرية، حـياة الآب التى فيه إنسكبت كليًا
فى الابن...
فإذًا، يمكننا القـول أن الآب نفسه مُضحّى بالابن
وكذلك إنسكبت كليًا فى أقـنوم ثالث، وهـو الروح القـدس، حتى تكتمل دورة
المحـبّة...
قال متصـوف أرثوذكسى التفكـير وهو H. de Saint-Victor :
{ الآب يحبّ الابن،
هكـذا أن الروح القـدس انبثق من الآب حتى يكون الابن محـبًا للروح القـدس وحتى يكون
الابن محـبوبًا من الروح القـدس }.
من هنا أنه فى التجسد، الله يأتى ليكـلّم
الناس...
يقـول " نيقولا كاسيلاس" أن الله هو الخطيب وهو كمن
يخطب بنتًا فيأتى ويخطب ودها. المسيح خطيب للجنس
البشرى...
جاء ليبذل الحب للناس حتى يذعـن الناس لهـذا الحب.
المسيح أحبّ، فى النهاية، لكى يدرب الإنسانية، حـتى يفـتح قلبها عـلى الله. المسيح
هكـذا فـعـل لأنه مفـوض. وهو مفـوض أن يفعـل هـذا لأنه هـو هكـذا، لأن من طبيعـته
أن يحب. الأمـور كلها مضبوطة بشكل أن من لا يقـبل الثالوث لا يقـبل
المحـبة...
وبالتالى، الثـالوث القـدوس هـو المتجـلّى وهـو
التعـليم الكامل والسليم عـن الله فى حـياته والذى هـو وحـده الأساس والضابط لكل
شئ...
من هنا ترون أن الثالوث ليس فذلكـة عـقـلية وليس
هـو أن الآباء أرادوا أن يتسلّوا لأنهم درسوا الفلسفة اليونانية فركـبوا الأمـور
هكـذا...
القضية ليست أننا فلاسفة أذكـياء ونرتب الأمـور
هكـذا...
كلا...
ذلك أن هـذه القـضية، قـضية الثالوث، وصلنا إليها
أو هى كشفت لنا، فى النهاية، عـلى الصـليب...
الحمل الذبيح قـبل إنشاء العـالم والذى رأيناه
مذبوحـًا، فى وقت ما، عـلى تلة من تلال أورشليم، هـذا الحمل كشف لنا أن هـذه
العـملية التى هى موته وحـبه، عـملية لا تفهم ولا تدرك إلا لأنها عـملية تامة منذ
الأزل...
الله، منذ الأزل، أحب الجنس البشرى وأرسل
الابن...
الله حين ظهـر إلى الوجـود ـ وهـو مجـرد تعـبير ـ
أى قـبل الوجـود، سرمديًا، ظهـر إلهـًا محـبًا، محـاورًا نفسه ويحـرّك الحب فى نفسه
حتـى يستطـيع أن يكشفه للنـاس، جوهـرًا، بهـذا المعـنى..
|