|
مقـــــــــــدمة
سفر نشيد الأناشيد هو سـفر الغَزَل الروحانى المقدس ، الذى فيه يمتدحنا
الله ونمتدحه .. فهو سفر الحب الحقيقى الذى فيه نرى المسيح كعريس سماوى
لكنيسته العروس المجيدة .. كما نرى فيه الرب يسوع عريساً شخصياً لكل نفس
تقبله وترحب به ليدخل ويتعشى معها وهى معه (رؤ 3 : 20) ..
ويقول قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث : [ الروحيون يقرأون هذا السفر
فيزدادون محبة لله .. أما الجسديون فيحتاجون فى قراءته إلى مرشد يفسر لهم
، لئلا يسيئوا فهمه ، ويخرجوا عن معناه السامى إلى معانٍ عالمية .. ]
من أجل هذا وجب علينا أن نتحذر من أن نحبس أفكارنا فى نطاق الجسد
والجسديات ونحن نغوص فى أعماق هذا الحب السماوى المقدس فى هذا السفر ..
بل يجب أن تتحول أنظارنا إلى العريس السماوى الذى قال عنه معلمنا بولس
الرسول : " فإني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد لاقدم عذراء
عفيفة للمسيح " (2كو 11 : 2)
وأكد هوشع النبى نفس المعنى بقوله : " وأخطبك لنفسى إلى الأبد وأخطبك
لنفسى بالعدل والحق والإحسان والمراحم .. أخطبك لنفسى بالأمانة فتعرفين
الرب " (هو 2 : 19 ، 20)
وحين يعزف الرب يسوع ألحانه الشجية على أوتار القلب المتلهف للحب الحقيقى
، فإننا نرى هذا القلب وقد سُبى فى حب من مات لأجله ، وتخرج من جدران
قلبه أنغام الهيام بعشقٍ سماوىٍ مقدسٍ ، ويفيض فمه بأعذب الأنغام فلا يرى
أعذب من نشيد الأناشيد لينطق به .. وهو نشيد الحب الذى يحمل إنعكاسة حب
المسيح الأسمى..
لذا قال القديس يوحنا سابا ( الشيخ الروحانى ) :
[ أولئك الذين أشرقت عليهم بشعاع من حبك .. لم يحتملوا السكنى بين الناس
، بل ألقوا عنهم كل حب جسدانى وتغربوا عن كل شئ فى طلب الحبيب ..
نزعوا كل أفراحهم وذهبوا يلتمسون طريق الحبيب بدموع ، بكوا لما وجدوا
أنفسهم فى الطريق غير مستأهلين لجمال المحبوب .. ساعة أن أدركوا شهوة
الحب حب الوحيد ما صبروا أن يبقوا فى أفراح العالم لحظة ، ولما لم يجدوا
عندهم شيئاً يليق بتقديمه إليك .. قدموا ذواتهم بالحب على مذبحك واسلموا
أجسادهم حتى الموت .. فرحين إذ وجدوا شيئاً يقدمونه إليك ..
آه منك أيها الحبيب .. لقد سلبت منهم كل شئ .. ]
لذا فهذا السفر الجليل يدور حول هذا الحب المتبادل بين المسيح العريس ،
والكنيسة أو النفس البشرية كعروس لهذا العريس السامى .. ولقد سار هذا
الحب فى ثلاث مراحل .. يمكن على أساسها تقسيم هذا السفر إلى ثلاثة أقسام
، هى :
أولاً : لهفـــة الحـب الأول .
ثانياً : رباط الزيجـة الأكــمل .
ثالثاً : عودة إلى الحياة الأفضل .
** أولاً : لهفة الحب الأول :
( نش 1 : 1 إلى 3 : 5 )
ونرى فى هذا الجزء :
1) أشواق العروس الملتهبة وتلهفها للعريس (1 : 1 ـ 8)
2) حضور العريس استجابة لأشواقها (1 : 9 ـ 2 : 7)
3) أغنيات العروس عن ذكريات حبها وامتزاجه بفتنة الربيع وبهجة المراعى ..
(2 : 8 ـ 3 : 5)
** ثانياً : رباط الزيجة الأكمل :
( نش 3 : 6 إلى 5 : 1 )
ونرى فى هذا الجزء وصفاً بديعاً لحفلة العرس ، ومشاعر العروسين فيُصور
لنا :
1) تخت [ موكب ] سليمان محاطاً بالحراس يتقدم نحو أورشليم ، وعلى رأس
الملك تاج ساطع صنعته له أمه ليوم عرسه ، وهذه اللمحة الخاطفة توحى لنا
بعظمة هذا العرس (نش 3 : 6 ـ 11)
2) أناشيد هيام متبادلة بين العريس والعروس (نش 4 : 1 ـ 5 : 1)
** ثالثاً : عودة إلى الحياة الأفضل :
( نش 5 : 2 ـ 8 : 14)
فطالما أن الإنسان حبيس فى هذا الجسد، فهو معرض للأخطار ، وهذا ما حدث
للعروس ، فقد تجمعت سحب الضعف الداكنة لتحجب حرارة شمس المحبة عنها ،
لكنها لم تطق الإنفصال ، فهبت عائدة إلى أحضان عريسها ، وهى هنا تحكى لنا
مرارة البعد عن أحضان العريس السماوى الدافئة ، ثم تعود لتشدو بلحن
الرجوع واستئناف الحياة السعيدة مع عريسها ..
يا لروعة هذه العلاقة المجيدة التى ترفعنا من مزبلة الخطية لتمتعنا
بالخطبة السماوية الروحانية لملك الملوك ورب الأرباب !!!
الإصحاحان الثانى والثالث من سفر النشيد
فى هذين الإصحاحين تتركز الحياة الروحية بأكملها ، فبينما يركز الإصحاح
الثانى على عمل النعمة ، نجد أن الإصحاح الثالث يركز على الجهاد .. كذلك
فى الإصحاح الثانى نرى الله وهو يبحث عن النفس ، بينما فى الإصحاح الثالث
نرى النفس البشرية وهى تبحث عن الله ...
ونجد بحـث الله عن النفس البشرية واضحاً فى قوله : " قومى يا حبيبتى يا
جميلتى وتعالى .. " (نش 2 : 10) ، بينما نجد بحث النفس البشرية عن الله
فى قولها : " فـى الليل على فراشى طلبت من تحبه نفسى .. " (نش 3 : 1)
ومن خلال جناحى الجهاد والنعمة ، ترتفع الحياة الروحية إلى السماويات ،
وتسمو محلقةً فى أجواء الحب السماوى العفيف ..
وبينما يتحارب أصحاب الأفكار المتطرفة بين طرف يؤمن أن أساس الحياة
الروحية هو الجهاد فى أعمال بر الإنسان ، يقف طرفٌ آخر متنازعاً مركزاً
على عمل نعمة الله ظناً منه أنه بها وحدها ينال خلاص الله له وغفرانه
لخطاياه ... وبين هـذا وذاك تقــف كنيسـتنا القبطية الأرثوذكسية المجيدة
وترى الأمر بفكرها الكتابى المستنير ، بنظرة متوازنة حكيمة أصيلة ، فترى
الخلاص بكليهما معاً : النعمة والجهاد .. إنه الإيمان العامل ..
فالنعمة هى عطية الله المجانية للإنسان ، كما قال معلمنا بولس الرسول : "
بالنعمة أنتم مخلصون .. بالإيمان ، وذلك ليس منكم ، هو عطية الله .. "
(أف 2 : 8) ، والإنسان يحصل على النعمة من خلال أسرار الكنيسة التى هى
قنوات مقدسة تجرى من خلالها نعمة الله للمؤمن ..
أما الجهاد فهو بذل الجهد والعمل من جانب الإنسان تجاوباً مع عمل نعمة
الله لخلاص نفسه .. كما قال الرسول بولس لتلميذه الأسقف تيموثاوس : "
جاهد جهاد الإيمان الحسن وامسك بالحياة الأبدية التى إليها دُعيت .. "
(1تى 6 : 12)
والتوافق بين الجهاد والنعمة واضح فى مواضع عديدة من كلمة الله ، منها :
1) الانتصار على عماليق : فوقوف موسى النبى على رأس التلة رافعاً يديه
ممسكاً بعصا الله التى هى مواعيده، هذا يمثل النعمة ، أما موقف يشوع فى
الحرب المقدسة يمثل جهاد الإنسان فى مواجهة الشيطان والخطية (خر 17) ،
لذا لا بد من اتحاد النعمة والجهاد للانتصار ..
2) الانتصار على جليات : فالنعمة واضحة فى قول داود لجليات العملاق : "
أنا آتى إليك باسم رب الجنود .. هذا اليوم يحبسك الرب فى يدى فأقتلك .. "
، كذلك نرى الجهاد واضحاً فى أنه أمسك بالحصى وألقى بها على جبهة جليات
..(1صم 17)
3) إقامة لعازر : فالجهاد واضح فى رفع الحجر عن القبر ، والنعمة واضحة فى
إقامة الرب للميت ، فلا يمكن أن يقوم الميت ما لم نرفع نحن الحجر (يو 11)
.. فلا بد إذن من التحام عمل نعمة الله مع عمل الإنسان فى جهاده حتى يكمل
العمل الروحى فى خلاص نفس الإنسان وانتصاره على الخطية وعلى الشيطان
والموت ..
وفى هـذا الصـدد يقول القديس مار اسـحق السـريانى : [ بقدر ما يشقى
الإنسان ويجاهد ويغصب نفسه من أجل الله ، بقدر ما تأتى إليه معونة الله
وتحيط به وتسهل عليه جهاده وتصلح الطريق أمامه .. ]
من الرب نسأل أن يمتعنا ببركة دراسة هذا السفر دراسة عملية تطبيقية، حتى
نتمتع بعريس النفس الغالى الرب يسوع المسيح ونحن فى غربة وبرية هذا
العالم ببركة صلوات أمنا القديسة والدة الإله العذراء مريم ، وسائر
آبائنا القديسين ، وبركة صلوات خليفة القديس مار مرقس الرسولى البابا
المعظم الأنبا شنوده الثالث .. أدام الرب حياته .. آمين .
عريس نفسى الغالى الرب يسوع المسيح ، أشكرك لأجل هذا السفر السماوى ..
اسمح وأفـتح عيـنى لأرى عجـائب من شريعتك ، فيتلامس قلبى مع هذا الحب
السماوى ويلتهب بحب من مات لأجلى ..
اسمح أن تدفعنى نعمتك فى طريق الجهاد الروحى ، فأتمتع بنعمتك التى تأتى
بها إلىَّ من خلال وسائط نعمتك فى الكنيسة المقدسة فينجذب قلبى لقلبك
بالحب فأتبعك عريساً لنفسى إلى أن ألقاك .. آمين ...
|
|